البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٢

أحمد بن محمد بن عجيبة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٢

المؤلف:

أحمد بن محمد بن عجيبة


المحقق: أحمد عبدالله القرشي رسلان
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣٩

قلت : (ماذا) إن كانت استفهامية علقت (انظروا) عن العمل ، وإن كانت موصولة فمفعول به ، و (ما تغنى الآيات) : يحتمل الاستفهام فى محل نصب بتغنى ، أو النفي. «ثم ننجى» معطوف على محذوف دل عليه : (إلا مثل أيام) أي : فكانت عادتنا معهم أن نهلك المكذبين ، ثم ننجى رسلنا ومن آمن معهم. و «كذلك» مصدر معمول لننجى ، و (حقا) اعتراض بينهما ، وهو مصدر لفعل محذوف ، أي : مثل ذلك الإنجاء ننجى المؤمنين يحق ذلك حقا ، وعلى هذا يوقف على : (الذين آمنوا) ، ثم يبتدأ بقوله : (كذلك حقّا ..) إلخ. وقيل : خبر عن (الذين آمنوا) أي : والذين آمنوا مثلهم فى الإنجاء ، وهو ضعيف.

يقول الحق جل جلاله : (قُلِ) للمشركين الذين طلبوا منك الآية : (انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الآيات والعبر ، وعجائب الصنع ليدلكم على وحدانية الله تعالى ، وكمال قدرته ، ثم بيّن أن الآيات لا تفيد من سبق عليه الشقاء ، فقال : (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) فى علم الله وحكمه ، ثم هددهم بالهلاك فقال : (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ) أي : مثل وقائعهم ونزول العذاب بهم ؛ إذ لا يستحقون غيره ، فهو من قولهم : أيام العرب ، لوقائعها.

(قُلْ) لهم : (فَانْتَظِرُوا) هلاككم (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) لذلك ، أو فانتظروا هلاكى إنى معكم من المنتظرين هلاككم ، (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا) أي : عادتنا أن ننجى رسلنا (وَالَّذِينَ آمَنُوا) معهم من ذلك الهلاك ، (كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) من أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين نهلك المجرمين ؛ حقّا واجبا علينا كما هى عادتنا مع من تحبب إلينا بالإيمان والطاعة.

الإشارة : أمر الحق ـ جل جلاله ـ أهل النظر والاستبصار بأن ينظروا ماذا فى السموات والأرض من الأسرار والأنوار ، أمرهم أن يشاهدوا أسرار الذات وأنوار الصفات ، دون الوقوف مع الأجرام الحسّيات ، أمرهم أن ينظروا المعاني خلف رقة الأوانى ، لا أن يقفوا مع الأوانى ، وإليه أشار ابن الفارض فى خمريته ، حيث قال :

ولطف الأوانى ـ فى الحقيقة ـ تابع

للطف المعاني ، والمعاني بها تسمو

فالأكوان كلها أوانى حاملة للطف المعاني ، وأصل الأوانى معانى ، تحسست وتكثفت فمن لطّف الأوانى وذوّبها بفكرته رجعت معانى ، واتصلت المعاني بالمعاني ، وغابت حينئذ الأوانى ، ولا يعرف هذا إلا من صحب أهل المعاني ، وهم أهل الفناء والبقاء ، ومن لم يصحبهم فحسبه الوقوف مع الأجرام الحسية ، ويستعمل فكرة التصديق والإيمان ، وهى عبادة التفكر والاعتبار والأولى فكرة أهل الشهود والاستبصار ، وفى أمثالهم قال الشاعر :

هم الرّجال وغبن أن يقال لمن

لم يتّصف بمعاني وصفهم رجل

وقد ذكر فى الحكم هذه الإشارة فقال : «أباح لك أن تنظر ما فى المكوّنات ، وما أباح لك أن تقف مع ذوات المكونات ، (قل انظروا ماذا فى السموات) فتح لك باب الأفهام ، ولم يقل : انظروا السموات ؛ لئلا يدلك على وجود الأجرام».

٥٠١

ومن سبق له فى العلم القديم الخذلان لا يخرج عن دائرة الأكوان ، فلا يؤمن بوجود أهل الشهود والعيان ، فما ينتظر مثل هذا إلا ما نزل بأمثاله ، من هجوم الحمام قبل خروجه من سجن الأجرام ، فإنه لا ينجو من سجن الأكوان إلا من صحب أهل العرفان ، الذين أفضوا إلى فضاء الشهود والعيان ، وقليل ما هم.

ثم أمر نبيه بالتبرء من الشرك وأهله ، فقال :

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧))

قلت : (وأن أقم) : عطف على (أن أكون) وإن كان بصيغة الأمر ؛ لأنّ الغرض وصل «أن» بما يتضمن معنى المصدر ليدل معه عليه ، وصيغ الأفعال كلها كذلك ، سواء الخبر منها والطلب ، والمعنى : وأمرت بالإيمان والاستقامة.

يقول الحق جل جلاله : (قُلْ) يا محمد لأهل مكة أو لجميع الناس : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي) ؛ بأن شككتم فى صحته حتى عبدتم غير الله ، (فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) فهذا خلاصة دينى اعتقادا وعملا ، فاعرضوها على العقل السليم ، وانظروا فيها بعين الإنصاف ، لتعلموا صحتها ، وهو أنى لا أعبد ما تخلقونه وتعبدونه ، ولكن أعبد خالقكم ، الذي هو يوجدكم ويتوفاكم. وإنما خص التوفى بالذكر لأنه أليق بالتهديد ، انظر البيضاوي. (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) بالله وحده ، الذي دل عليه العقل ونطق به الوحى.

(وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) ؛ مائلا عن الأديان الفاسدة ، أي : أمرت بالاستقامة بذاتى كلها فى الدين والتوغل فيه ، بأداء الفرائض والانتهاء عن القبائح ، أو : أن أقيم وجهى فى الصلاة باستقبال القبلة. وقيل لى : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) بالله فى شىء ، (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ) بنفسه ولا بدعوته ، (فَإِنْ فَعَلْتَ) ودعوته (فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ) ، وهو تنفير وتحذير للغير من الميل اليه.

ثم بيّن من يستحق العبادة والدعاء ، وهو الله تعالى فقال : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ) أي : يصيبك (بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ) : لا رافع له (إِلَّا هُوَ) أي : الله ، (وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ) : لا دافع (لِفَضْلِهِ) الذي أرادك به.

٥٠٢

قال البيضاوي : ولعله ذكر الإرادة مع الخير ، والمس مع الضر ، مع تلازم الأمرين للتنبيه على أن الخير مراد بالذات ، وأن الضر إنما مسهم لا بالقصد الأول ، ووضع الفضل موضع الضمير للدلالة على أنه متفضل بما يريد بهم من الخير لا لاستحقاق لهم عليه ، ولم يستثن لأن مراد الله لا يمكن رده. ه.

(يُصِيبُ بِهِ) بذلك الخير (مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) ، فتعرّضوا لخيره بالتضرع والسؤال ، ولا يمنعكم من ذلك ما اقترفتم من العصيان والزلل ، فإنه غفور رحيم.

الإشارة : ينبغى لمن تمسك بطريق الخصوص ، وانقطع بكليته إلى مولاه ، أن يقول لمن خالفه فى ذلك : إن كنتم فى شك من دينى ـ من طريقى ـ فلا أعبد ما تعبدون من دون الله ، من متابعة الهوى والحرص على الدنيا ، ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم ، وأمرت أن أكون من المؤمنين ، وأن أقيم وجهى للدين حنيفا مائلا عن دينكم ودنياكم ، كما قال القائل :

تركت للناس دنياهم ودينهم

شغلا بذكرك يا دينى ودنيائى

وقال آخر :

تركت للنّاس ما تهوى نفوسهم

من حبّ دنيا ومن عزّ ومن جاه

كذاك ترك المقامات هنا وهنا

والقصد غيبتنا عمّا سوى الله.

(وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ) ، وهو ما سوى الله ، فليس بيد أحد ضر ولا نفع ، ولا جلب ولا دفع ، قال فى الحكم : «لا ترفعنّ إلى غيره حاجة هو موردها عليك ، فكيف يرفع إلى غيره ما كان هو له واضعا؟! من لا يستطيع أن يرفع حاجته عن نفسه ؛ فكيف يستطيع أن يكون لها عن غيره رافعا؟!».

قال بعضهم : من اعتمد على غير الله فهو فى غرور ؛ لأن الغرور ما لا يدوم ، ولا يدوم شىء سواه ، وهو الدائم القديم ، لم يزل ولا يزال ، وعطاؤه وفضله دائمان ، فلا تعتمد إلا على من يدوم عليك منه الفضل والعطاء ، فى كل نفس وحين وأوان وزمان. ه.

وقال وهب بن منبّه : أوحى الله إلى داود عليه‌السلام : يا داود أما وعزتى وجلالى وعظمتى لا ينتصر بي عبد من عبادى دون خلقى ، أعلم ذلك من نيته فتكيده السموات السبع ومن فيهن ، والأرضون السبع ومن فيهن ، إلا جعلت له منهن فرجا ومخرجا ، أما وعزتى وجلالى لا يعتصم عبد من عبادى بمخلوق ، دونى ، أعلم ذلك من نيته إلا قطعت أسباب السموات من يده ، وأسخطت الأرض من تحته ولا أبالى فى أي واد هلك. ه.

وقال بعضهم : قرأت فى بعض الكتب : أن الله عزوجل يقول : [وعزتى وجلالى ، وجودى وكرمى ، وارتفاعي فوق عرشى فى علو مكانى ، لأقطعن آمال كل مؤمّل لغيرى بالإياس ، ولأكسونه ثوب المذلة بين

٥٠٣

الناس ، ولأنحينّه من قربى ، ولأقطعنه من وصلي ، أيؤمّل غيرى فى النوائب ، والشدائد بيدي ، وأنا الحي ، ويرجى غيرى ويقرع بالفكر باب غيرى ، وبيدي مفاتح الأبواب ، وهى مغلقة وبابى مفتوح لمن دعانى ، ومن ذا الذي أملنى لنائبة فقطعت به دونها؟ ومن ذا الذي رجانى بعظيم جرمه فقطعت رجاءه منى؟ ومن ذا الذي قرع بابى فلم أفتح له؟ جعلت آمال خلقى بينى وبينهم متصلة ، فقطعت بغيري ، وجعلت رجاءهم مدخورا لهم عندى ؛ فلم يرضوا بحفظي ، وملأت سمواتى بمن لا يملون تسبيحى من ملائكتى ، وأمرتهم ألا يغلقوا الأبواب بينى وبين عبادى ، فلم يثقوا بقولي ، ألم يعلم من طرقته نائبة من نوائبى أنه لا يملك كشفها أحد غيرى؟ فما لى أراه بآماله معرضا عنى؟ ومالى أراه لاهيا إلى سواى ، أعطيته بجودي ما لم يسألنى ، ثم انتزعته منه فلم يسألنى رده ، وسأل غيرى ، أفتراني أبدا بالعطية قبل المسألة ثم أسأل فلا أجيب سائلى؟ أبخيل أنا فيبخلنى خلقى؟ أليس الدنيا والآخرة لى؟ أوليس الفضل والرحمة بيدي؟ أوليس الجود والكرم لى؟ أوليس أنا محل الآمال؟ فمن ذا الذي يقطعها دونى؟ وما عسى أن يؤمّل المؤملون لو قلت لأهل سمواتى وأهل أرضى : أمّلونى ، ثم أعطيت كل واحد منهم من الفكر مثل ما أعطيت الجميع ، ما انتقص ذلك من ملكى عضو ذرّة ، وكيف ينقص ملك كامل أنا فيه؟. فيا بؤس القانطين من رحمتى ، ويا بؤس من عصانى ولم يراقبنى ، وثب على محارمى ولم يستح منّى.] ه.

ثم أزاح عذرهم بإرسال النذير ، فقال :

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (١٠٩))

يقول الحق جل جلاله : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) الرسول أو القرآن ، (فَمَنِ اهْتَدى) بالإيمان والمتابعة (فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) ؛ لأن نفعه لها ، (وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) ؛ لأن وبال الضلال عليها ، (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) أي : موكل عليكم ، فأقهركم على الإيمان ، وإنما أنا بشير ونذير. وهو منسوخ بآية السيف. (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ) بالامتثال والتبليغ ، (وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ) بينك وبين عدوك ، بالأمر بالقتال ثم بالنصر والعز ، (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) إذ لا يمكن الخطأ فى حكمه ، لاطلاعه على السرائر كاطلاعه على الظواهر.

٥٠٤

الإشارة : يا أيها الناس قد جاءكم من يعرفكم بالحق من ربكم ، فمن اهتدى بمعرفته واتباعه نفع نفسه ، حيث أخرجها من غم الحجاب ، وشفاها من سقم الشك والارتياب ، ومن ضل عن معرفته فوباله عليه ، حيث ترك نفسه فى أودية الخواطر تجول ، وحرمها من الله حقيقة الوصول. ويقال للعارف إذا أعرض الخلق عنه ، ولم ينفع فيهم تذكيره ووعظه : اتبع ما يوحى إليك من وحي الإلهام ، فإنه حق فى حق الخصوص ؛ إذ لا يتجلى فى قلوبهم إلا ما هو حق ، حيث تطهرت من خواطر الخلق. واصبر حتى يحكم الله بإرسال ريح الهداية ، وهو خير الحاكمين. وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.

٥٠٥
٥٠٦

سورة هود

مكية إلا قوله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) ؛ نزلت فى نبهان التمار بالمدينة ، وهى مائة وثلاث وعشرون آية. ووجه المناسبة لما قبلها : قوله تعالى : (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ) (١) ؛ وهو كتاب أحكمت آياته.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. الر).

قال فى القوت ، فى تفسير (الر) : هذه ثلاثة أسماء : (الله ، لطيف ، رحيم). وقيل : هى حرف من اسم الرحمن. قلت : أو مختصرة من الرسول ؛ خطابا للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ويمكن أن يشير بالحروف للعوالم الثلاثة ؛ فالألف لوحدة الجبروت ، واللام لتدفق أنوار الملكوت ، والراء لسريان إمداد الرحموت فى سائر الموجودات ، وأعظمها وعنصرها : نزول الكتاب العزيز. ولذلك بدأ بذكره ، فقال :

(الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤) أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٥))

قلت : (كتاب) : خبر ، أي : هذا كتاب. و (أحكمت) : صفة. و (من لدن) : خبر ثان ، أو خبر «كتاب» إن جعل مبتدأ ، أو صفة له ، إن كان خبرا. و (ألّا تعبدوا) : «أن» : مفسرة ، أو مصدرية فى موضع مفعول لأجله ، أو بدل من الآيات ، أو مستأنف. و (أن استغفروا) : عطف عليه. و (حين) : متعلق بمحذوف ، أي : ألا إنهم يثنونها حين يستغشون ... إلخ. و (يعلم) : استئناف لبيان النقض عليهم.

يقول الحق جل جلاله : أيها الرسول المصطفى ، هذا الذي تقرؤه (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) ؛ أتقنت ، ونظمت نظما محكما ، لا يعتريه خلل من جهة اللفظ ولا المعنى ، أو أحكمت من النسخ بشريعة أخرى ، أو أحكمت

__________________

(١) من الآية : ١٠٩ من سورة يونس.

٥٠٧

بالحجج والبراهين ، أو جعلت حكيمة ؛ لأنها مشتملة على أمهات الحكم العملية. (ثُمَّ فُصِّلَتْ) ؛ بينت لاشتمالها على بيان العقائد والأحكام والمواعظ والأخبار. أو فصلت سورة سورة ؛ ليسهل حفظها ، وفصلت بالإنزال نجما نجما ، فى أزمنة مختلفة. أو فصل فيها ولخص ما يحتاج إليه من الأحكام. و (ثم) : للتفاوت فى الحكم ؛ لأن الأحكام صفة ذاتية ، والتفصيل إنما هو بحسب من يفصل له. نزل ذلك الكتاب (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) ، ولذلك كان محكما مفصلا بالغا فى ذلك الغاية ؛ لأن الحكيم الخبير لا يخفى عليه ما يخل بنظم الكلام.

قائلا ذلك الكتاب : ألا تعبدوا معه غيره. وقال فى القوت : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) يعنى : بالتوحيد ، (ثُمَّ فُصِّلَتْ) أي : بالوعد والوعيد. ثم قال : (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ) أي : بالإحكام للأحكام ، (خَبِيرٍ) بالتفصيل للحلال والحرام. (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) ؛ هذا هو التوحيد الذي أحكمه. (إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ) بالعذاب ، (وَبَشِيرٌ) بالثواب لمن آمن به. هذا هو الوعد والوعيد. قال البيضاوي : (إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ) أي : من الله ، (نذير وبشير) بالعقاب على الشرك والثواب على التوحيد. (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) : عطف على «ألا تعبدوا» ، (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) ؛ ثم توصلوا إلى مطلبكم بالتوبة ؛ فإن المعرض عن طريق الحق لا بد له من رجوع. وقيل : استغفروا من الشرك ، ثم توبوا إليه بالطاعة ، ويجوز أن يكون «ثم» : للتفاوت بين الأمرين. ه.

قال ابن جزى : (استغفروا ربكم) مما تقدم من الشرك والمعاصي ، ثم ارجعوا إليه بالطاعة والاستقامة. ه. وقال الواحدي : (استغفروا ربكم) من ذنوبكم السابقة ، (ثم توبوا إليه) من المستأنفة متى وقعت. ه. (يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً) ؛ يحييكم حياة طيبة بالأرزاق والنعم والخيرات ، فتعيشوا فى أمن ودعة. (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) ؛ تمام أجلكم ، فلا يستأصلكم بالعذاب ، أو يمتعكم بالرجاء فيه والرضا بقضائه ؛ لأن الكافر قد يمتع بالأرزاق فى الدنيا ؛ استدراجا ، (وَيُؤْتِ) فى الآخرة (كُلَّ ذِي فَضْلٍ) ؛ عمل صالحا ، (فَضْلَهُ) أي : جزاء فضله ، فيوفى ثواب عمله ، أو يعطى كل ذى فضل فى دينه جزاء فضله فى الدنيا والآخرة. وهو وعد للمؤمن التائب بخير الدارين.

(وَإِنْ تَوَلَّوْا) أي : وإن تتولوا عما أمرتكم به ، (فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) ؛ يوم القيامة ، أو يوم الشدة بالقحط والجوع ، وقد نزل بهم حتى أكلوا الجيف. أو يوم بدر (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) أي : رجوعكم فى ذلك اليوم الكبير ، أو بالموت ، (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ؛ فيقدر على بعثهم وعذابهم أشد العذاب. وكأنه تقرير لكبر اليوم.

(أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) ؛ يلوونها عن الحق وينحرفون عنه ، أو يعطفونها على الكفر وعداوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو يولون ظهورهم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لئلا يروه من شدة البغض والعداوة ، (لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) أي : من الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أو : من الله بسرهم ، فلا يطلع رسوله والمؤمنين عليه. قيل : إنها نزلت فى طائفة من المشركين ، قالوا : إن أرخينا ستورنا ، واستغشينا ثيابنا ، وطوينا صدورنا على عداوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيف يعلم ذلك؟

٥٠٨

والحاصل : إن الإثناء إن كان عن الحق ـ فالضمير فى : (منه) ، يعود على الله ، وإن كان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فالضمير يعود عليه ؛ وفى البخاري عن ابن عباس : (أنها نزلت فيمن كان يستحى أن يتخلّى أو يجامع فيفضى إلى السماء).

وقوله : (أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ) : يحتمل أن يكون عند النوم ، فيكون الإثناء عن الحق ، أو عن الله ، أو عند مواجهة الرسول ، فيكون الإثناء عن رؤيته ـ عليه الصلاة السلام ، أو عن سماع القرآن. قال تعالى : (يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ) فى قلوبهم ، (وَما يُعْلِنُونَ) بأفواههم ، ـ فقد استوى فى علمه سرهم وعلانيتهم ، فكيف يخفى عليه أمرهم واستخفاؤهم منه؟ (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي : بالأسرار صاحبة الصدور ، أو بحقائق الصدور وما احتوت عليه.

الإشارة : يقول الحق جل جلاله : هذا كتاب أحكمت آياته بالتعريف بالذات ، ثم فصلت ببيان الصفات ، أو : أحكمت بتبيين الحقائق ، ثم فصلت بتبيين الشرائع. أو : أحكمت ببيان ما يتعلق بعالم الأرواح من التعريف ، ثم فصلت ببيان ما يتعلق بعالم الأشباح من التكليف ، أو : أحكمت ببيان أسرار الملكوت ، ثم فصلت ببيان أحكام الملك. ثم بيّن ما يتعلق بالذات فقال : (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) ، وبيّن ما يتعلق بالصفات من التفصيل فقال : (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه) ، أو : بيّن ما يتعلق بالحقائق ، ثم ما يتعلق بالشرائع ، وهكذا. فإن جمعتم بين الحقائق والشرائع يمتعكم متاعا حسنا ؛ بشهود ذاته ، والتنزه فى أنوار صفاته ، إلى أجل مسمى ، وهو : النزول فى مقعد صدق عند مليك مقتدر ، ويؤت كل ذى فضل من المعرفة جزاء فضله من الشهود ، فمن تولى عن هذا خاف من عذاب يوم كبير ، وهو : غم الحجاب ، والتخلف عن الأحباب. ثم عاتب أهل الشهود حيث تركوا مقام المشاهدة وتنزلوا إلى مقام المراقبة ، بقوله : (ألا إنهم يثنون صدورهم ...) الآية.

ثم بيّن كمال علمه تكميلا لقوله : (يعلم ما يسرون وما يعلنون) ، فقال :

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦))

يقول الحق جل جلاله : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ) أي : كل ما يدب عليها ؛ عاقلا أو غيره ، (إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) ؛ غذاؤها ومعاشها ؛ لتكفله إياه بذلك ؛ تفضلا وإحسانا. وإنما أتى بعلى التي تقتضى الوجوب ؛ تحقيقا لوصوله ، وتهييجا على التوكل وقطع الوساوس فيه ، (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها) ؛ أماكنها فى الحياة والممات ، أو الأصلاب والأرحام. أو : مستقرها فى الأرض بعد وجودها ، ومستودعها : موادها قبل إيجادها. أو بالعكس : مستقرها : موادها فى العلم قبل الظهور ، ومستودعها : إقامتها فى الدنيا بعد الوجود. (كُلٌ) واحد من الدواب على اختلاف أجناسها وأصنافها (فِي كِتابٍ مُبِينٍ) ؛ مذكور فى اللوح المحفوظ ، أو فى العلم القديم المبين للأشياء ، قال البيضاوي : وكأنه أريد بالآية كونه عالما بالمعلومات كلها ، وبما بعدها بيان كونه قادرا على الممكنات بأسرها ، تقريرا للتوحيد ولما سبق من الوعد والوعيد. ه.

٥٠٩

الإشارة : هم الرزق ، وخوف الخلق ، من أمراض القلوب ، ولا ينقطعان عن العبد حتى يكاشف بعلم الغيوب وهو التوحيد الخاص ؛ أعنى : الرسوخ فى الشهود والعيان. وإنما يضر العبد ما كان ساكنا ، وأما الخواطر التي تلمع وتذهب ، فلا تضر ؛ لأن الإنسان خلق ضعيفا.

واعلم أن الرزق على قسمين : رزق الأرواح ، ورزق الأشباح. فرزق الأرواح معنوى ، وهو : قوت الروح من المعرفة وعلم اليقين. ورزق الأشباح حسى ، وهو : الطعام والشراب. وقد تكفل الله بالأمرين معا ، وأمر بالتسبب فيهما ، قياما برسم الحكمة. فالتكفل حقيقة ، والتسبب شريعة ، فالعامة اشتغلوا بالتسبب فى الرزق الحسى والبحث عنه ، ولم يعبأوا بالرزق المعنوي ، ولا عرفوه ؛ من شدة إعراضهم عنه ، مع أنهم لو فقدوا الرزق المعنوي لماتت أرواحهم. والخاصة اشتغلوا بالتسبب فى الرزق المعنوي والبحث عنه ، ولم يعبأوا بالرزق الحسى من شدة إعراضهم عنه ، مع أنهم لو فقدوا الرزق الحسى لهلكت أشباحهم. وخاصة الخاصة يتسببون فى الرزق الحسى والمعنوي ، وليس هم مع إرادتهم فى واحد منهما ، وإنما هم أبدا مع إرادة مولاهم راتعين أبدا ، حيث دفعتهم إرادة سيدهم فى الحسى أو فى المعنوي من غير تبرم ولا التفات لغيره ، كما قال القائل (١).

أراني كالآلات وهو محركى

أنا قلم ، والاقتدار أصابع

العامة قد حجبوا عن الله بإرادتهم للرزق الحسى ، حيث صار الرزق الحسى هو حظ النفوس. صاروا مع حظ نفوسهم لا غير ، والخاصة وجدوا الله فى طلبهم للرزق المعنوي ، لأنه حق الله ، لا حظ للنفس فيه ، لأجل ذلك لمّا كانوا لله كان الله لهم. وخاصة الخاصة ليس هم مع إرادتهم فى شىء ، بل هم بالله فى الأحوال كلها لا بنفوسهم. قد انمحت إرادتهم فى إرادة الله ، فصارت إرادتهم إرادة الله ، وفعلهم فعله. وهذا المقام يقال له : التمكين بالتلوين. ه. قاله شيخ شيوخنا سيدى على الجمل العمراني رضى الله عنه فى كتابه ، نفعنا الله بهم جميعا.

قوله تعالى : (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها) أي : يعلم مستقرها فى العلم ، ومستودعها فى العمل ، أو مستقرها فى الحال ، ومستودعها فى المقام ، أو مستقرها فى الفناء ، ومستودعها فى البقاء ، أو مستقرها فى التلوين ومستودعها فى التمكين ، أو مستقرها فى عالم الأشباح ، ومستودعها فى عالم الأرواح. وأنشدوا :

كلّ شىء سمعته أو تراه

فهو للقبضتين يشير

ضع قميصى عن العيون ترى ما

غاب عنك فقد أتاك البشير

__________________

(١) وهو الشيخ عبد الكريم الجيلي ، فى العينية.

٥١٠

فالمراد بالقبضتين : الحس والمعنى ، وإن كانا فى الأصل قبضة واحدة ، لكن لما تجلت بالضدين سمّاها قبضتين. فالحس رداء للمعانى. وسماه هنا قميصا ؛ لأنه يستر كالرداء ، فإذا رفع القميص عن عيون البصيرة رأت ما غاب عنها من أنوار الملكوت وأسرار الجبروت ، وهذا معنى قوله : ضع قميصى عن العيون. إلخ ... ورفع حجاب المعنى عن البصيرة هو بشير الولاية وعنوانها. والله تعالى أعلم.

ولما بيّن كمال علمه ذكر كمال قدرته ، فقال :

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧))

يقول الحق جل جلاله : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) وما بينهما وما فيهما (فِي) مقدار (سِتَّةِ أَيَّامٍ) من أيام الدنيا ، أو خلق العالم العلوي والسفلى فى مقدار ذلك. وجمع السموات دون الأرض ؛ لاختلاف العلويات بالأصل والذات دون السفليات. (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) قيل : لم يكن بينهما حائل ، وكان موضوعا على متن الماء. واستدل به على إمكان الخلاء ، وعلى أن الماء أول حادث بعد العرش من أجرام هذا العالم. وقيل : كان الماء على متن الريح. والله أعلم بذلك. قاله البيضاوي.

قلت : الخلاء هو الفضاء الخارج عن دائرة الأكوان. وهو عند المتكلمين من جملة الممكنات ، ووجه الاستدلال من الآية على إمكانه : أن العرش والماء لما كانا محصورين لزم أن يكون ما خرج عنهما خلاء ، وكل ما سوى الله فهو ممكن. وعند الصوفية : هو أسرار الذات الأزلية الجبروتية ، كما أن الأكوان هى أنوار الصفات الملكوتية ، ولا شىء معه ، (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ). ونقل بعض أهل التاريخ : أن الله تعالى خلق بعد العرش ياقوتة صفراء ، ذكروا من عظمتها وسعتها ، ثم نظر إليها ، فذابت من هيبته ، فصارت ماء ، فكان العرش مرتفعا فوقها ، ثم اضطرب ذلك الماء ، فعلته زبدة ، خلق منها الأرض ، ثم ارتفع من الماء دخان خلق منه السموات (١). ه.

خلق ذلك (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) أي : ليختبركم اختبارا تقوم به الحجة عليكم ، (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) بالزهد فى هذا العالم الفاني ، وتعلق ألهمه بالعالم الباقي قال البيضاوي : أي : يعاملكم معاملة المبتلى لأحوالكم ، كيف تعملون؟ فإن جملة ذلك أسباب ومواد لوجودكم ومعاشكم ، وما تحتاج إليه أعمالكم ، ودلائل

__________________

(١) كلام أهل التاريخ لا برهان عليه ، والأصح : أن يرجع فى هذا ـ إن أمكن معرفته ـ إلى علماء الطبيعة .. وإلا فإن الله تعالى يقول : (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ..) الآية ٥١ من سورة الكهف.

٥١١

وأمارات تستدلون بها وتستنبطون منها. ثم قال : فالمراد بالعمل ما يعم عمل القلب والجوارح. ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله وأسرع فى طاعة الله.» والمعنى : أكمل علما وعملا. ه.

قال المحشى : ويتجه كون المعنى : أيكم أكثر شكرا لله على تمهيد تلك المنافع والمصالح. والشكر يشمل الطاعات القلبية والبدنية. ويحتمل أنه كآية : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (١). وأن بقاء الدنيا وخلقها إنما هو للتكليف ، فإذا لم يبق فى الأرض من يعبد الله انقضت الدنيا ، وجاءت الساعة ، كما تقتضيه الأحاديث الصحاح (٢) والمتبادر ما قدمناه ، وحاصله : أنه خلق الأشياء من أجل ابن آدم ، ولتدله على خالقه فيجنى بها ثمار معرفته تعالى ، ويعترف بشكره ، وإفراد عبادته. وقد جاء. «خلقت الأشياء من أجلك وخلقتك من أجلى».

قلت : فيكون المعنى : هو الذي أظهر الوجود من عرشه إلى فرشه ، ليختبركم أيكم أحسن عملا بالاشتغال بالله ، والعكوف فى حضرته دون الوقوف مع ظاهر الكون ، والاشتغال بحسه ، مع كونه خلق من أجله. ثم قال : وقوله تعالى : (وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ ...) الآيه ، هو : تنبيه على أن إنكار الكفار للبعث بعد إقرارهم بأن الله تعالى خالق العالم ، الذي هو أعظم من البعث ، تناقض منهم ؛ لأن إقرارهم بقدرته على الأكبر ، ثم إنكارهم لما هو أيسر تناقض ه أي : ولئن ذكرت لهم البعث بعد الموت لقالوا ما هذا إلا سحر ظاهر. أي : ما البعث أو القول به ، أو القرآن المتضمن لذكره إلا كالسحر فى الخديعة أو البطلان. وقرأ حمزة ساحر أي : القائل بهذا. والله تعالى أعلم.

الإشارة : فى صحيح البخاري قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كان الله ولا شىء معه ، وكان عرشه على الماء» الحديث. فأخبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الحق جل جلاله كان فى أزله لا شىء معه ، ثم أظهر الأشياء من نوره بنوره لنوره ، فهو الآن على ما كان عليه. وعن أبى رزين : قلنا : يا رسول الله! أين كان ربّنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال : «كان فى عماء ما فوقه هواء ، وما تحته هواء ، وخلق عرشه على الماء» (٣) والعماء هو : الخفاء ، قال تعالى : (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ) (٤) ، أي : خفيت. ويقال للسحاب عماء ؛ لأنه يخفى ما فيه ، وقال الششترى : فى المقاليد (٥) : كان فى عمى ، ما فوقه هواء وما تحته هواء. هى الوحدة المصمتة الصّمدية ، البحر الطامس (٦) الذي هو الأزل والأبد ، فلم يكن موجود غير الوجود الذي هو هو. ه.

__________________

(١) الآية ٥٦ من سورة الذاريات.

(٢) ومنها قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تقوم الساعة حتى لا يقال فى الأرض : الله الله». أخرجه مسلم (كتاب الإيمان ، باب ذهاب الإيمان آخر الزمان).

(٣) أخرجه الترمذي فى سننه ، (كتاب تفسير القرآن ، باب : ومن سورة هود) ، وحسنه. وأخرجه ابن ماجه (المقدمة ، باب فيما أنكرت الجهمية). قلت : وهذا من حديث الصفات. نؤمن به ونكل علمه إلى الله تعالى.

(٤) من الآية : ٦٦ من سورة القصص.

(٥) اسمه كاملا : المقاليد الوجودية فى أسرار الصوفية.

(٦) يقال : طريق طامس ، أي : بعيد لا مسلك فيه.

٥١٢

والحاصل : أن الحق جل جلاله كان فى سابق أزله ذاتا مقدسة ، لطيفة خفية عن العقول ، نورانيه متصفة بصفات الكمال ، ليس معها رسوم ولا أشكال ، ثم أظهر الحق تعالى قبضة من نوره حسية معنوية ؛ إذ لا ظهور للمعنى إلا بالحس ، فقال لها : كونى محمدا ، فمن جهة حسها محصورة ، ومن جهة معناها لا نهاية لها ، متصلة ببحر المعاني الأزلى ، الذي برزت منه ، وما نسبتها من ذلك البحر من جهة حسها إلا كخردلة فى الهواء. وقد أشار ابن الفارض إلى وصف هذه الخمرة الأزلية ـ وهو تفسير للعماء المذكور قبل ـ فقال :

صفاء ولا ماء ، ولطف ولا هوا

ونور ولا نار ، وروح ولا جسم

تقدّم كلّ الكائنات حديثها

قديما ولا شكل هناك ، ولا رسم

وقامت بها الأشياء ثمّ لحكمة

بها احتجبت عن كلّ من لا له فهم

فالأشكال والرسوم متفرعة من تلك القبضة المحمدية ، والقبضة متدفقة من بحر الجبروت الذي لا نهاية له ، فهى منه حقيقة ، وما ظهر تحديدها إلا من جهة حسها. فهى كثلجة فى بحر ، ماؤها الباطني متصل فى البحر ، وظاهرها محدود محصور. فالأشكال كلها غريقة فى بحر الجبروت ، ولذلك قال صاحب العينية (١) :

هو العرش والكرسىّ والمنظر البهي

هو السّدرة التي إليها المراجع

وقال أيضا :

هو الموجد الأشياء وهو وجودها

وعين ذوات الكلّ وهو الجوامع

فأوصافه والاسم والأثر الذي

هو الكون عين الذّات والله جامع

فالأكوان ثابتة بإثباته ، ممحوة بأحدية ذاته ، فالحق تعالى كما كان لا شىء معه ، فهو الآن كما كان. إذ التغير فى حقه تعالى محال ، ولا يعلم هذه الأسرار إلا من صحب أهل الأسرار ، وحسب من لم يصحبهم التسليم. كما رمزوا وأشاروا إليه :

وإن لم تر الهلال فسلّم

لأناس رأوه بالأبصار

وقوله تعالى : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) أي : ليظهر منكم من يقف مع الأكوان ، ومن ينفذ إلى شهود المكون. وهو الذي حسن عمله ، وارتفعت همته. ولئن قلت أيها العامي : إنكم تحيون بالمعرفة من بعد موت قلوبكم بالجهل والغفلة إن صحبتمونى ، ليقولن أهل الإنكار : إن هذا إلا سحر مبين.

__________________

(١) غفر الله له. ولو لا الأمانة العلمية لحذفت هذه الأبيات.

٥١٣

ثم خوفهم بالعذاب الذي استعجلوه ، فقال :

(وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨))

قلت : (يوم) : معمول لخبر ليس ، وهو دليل جواز تقديمه إن كان ظرفا.

يقول الحق جل جلاله : (وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ) الموعود فى الدنيا ، أو فى الآخرة ، (إِلى أُمَّةٍ) أي : أوقات معدودة قلائل ، (لَيَقُولُنَ) ؛ استهزاء : (ما يَحْبِسُهُ)؟ أي : ما يمنعه من الوقوع الآن؟ (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ) وينزل بهم كيوم بدر ، أو يوم القيامة (لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) ليس مدفوعا عنهم حين ينزل بهم ، (وَحاقَ) ؛ نزل وأحاط (بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) ، وضع الماضي موضع الاستقبال ؛ تحقيقا للوقوع ، ومبالغة فى التهديد.

الإشارة : إمهال العاصي ليس بإهمال له ؛ فإن الله تعالى يمهل ولا يهمل. فإمهاله إما استدراج ، أو انتظار لتوبته ، فليبادر العبد بالتوبة قبل الفوات ، وبالعمل الصالح قبل الممات. فما أبعد ما فات ، وما أقرب ما هو آت ، وبالله التوفيق.

ومما وقع به الاختبار : الوقوف مع النعم دون شهود المنعم ، كما أبان ذلك بقوله :

(وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١))

قلت : (ولئن) : شرط وقسم ، ذكر جواب القسم ، واستغنى به عن جواب الشرط.

يقول الحق جل جلاله : (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً) أي : أعطيناه نعمة يجد لذتها. (ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ) أي : سلبنا تلك النعمة منه (إِنَّهُ لَيَؤُسٌ) ؛ قنوط ، حيث قلّ رجاؤه من فضل الله ؛ لقلة صبره ، وعدم ثقته بربه ، (كَفُورٌ) : مبالغ فى كفران ما سلف له من النعم ، كأنه لم ير نعمة قط. (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ) ؛ كصحة بعد سقم ، وغنى بعد فقر ، أو علم بعد جهل ، (لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ). أي : المصائب التي مستثنى ، (عَنِّي) ، ونسى مقام الشكر. (إِنَّهُ لَفَرِحٌ) أي : بطر متعزز بها ، (فَخُورٌ) على الناس ، متكبر بها ، مشغول بذلك عن شكرها ، والقيام بحقها. قال البيضاوي : وفى لفظ الإذاقة والمس تنبيه على أن ما يجده الإنسان فى الدنيا من النعم

٥١٤

والمحن كالأنموذج لما يجده فى الآخرة ، وأنه يقع فى الكفر والبطر بأدنى شىء ؛ لأن الذوق : إدراك المطعم ، والمس مبدأ الوصول إليه. ه.

(إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) على الضراء ؛ إيمانا بالله ، واستسلاما لقضائه ، (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) شكرا لآلائه ، سابقها ولا حقها ، (أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) لذنوبهم ، (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) أقله الجنة ، وغايته النظرة. والاستثناء من الإنسان ؛ لأن المراد به الجنس. ومن حمله على الكافر ـ لسبق ذكرهم ـ جعله منقطعا. والله تعالى أعلم.

الإشارة : ينبغى للعبد أن يكون شاكرا للنعم ، صابرا عند النقم ، واقفا مع المنعم دون النعم. إن ذهبت من يده نعمة رجى رجوعها ، وإن أصابته نقمة انتظر انصرافها. والحاصل : أنه يكون عبد الله فى جميع الحالات.

حكى أن سيدنا موسى عليه‌السلام قال : يا رب دلنى على عمل إذا عملته رضيت عنى. قال : إنك لا تطيق ذلك ، فخر موسى ساجدا متضرعا ، فقال : يا ابن عمران ؛ إن رضاى فى رضائك بقضائي. ه. وقال ابن عباس ـ رضى الله عنه ـ أول شىء كتبه الله فى اللوح المحفوظ : أنا الله لا إله إلا أنا ، محمد رسولى ، فمن استسلم لقضائى ، وصبر على بلائي ، وشكر نعمائى ، كتبته صديقا ، وبعثته مع الصديقين ، ومن لم يستسلم لقضائى ، ولم يصبر على بلائي ، ولم يشكر نعمائى ، فليتخذ ربا سوائى. ه. وروى عن ابن مسعود رضى الله عنه أنه قال : ثلاث من رزقهن رزق خير الدنيا والآخرة : الرضا بالقضاء ، والصبر على الأذى ، والدعاء فى الرخاء. ه.

من جملة الأذى : التكذيب والإنكار ، كما أبان ذلك بقوله تعالى لنبيه ـ عليه الصلاة والسلام ـ :

(فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤))

يقول الحق جل جلاله لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ) ، فلا تبلغه وهو ما فيه تشديد على المشركين ، مخافة ردهم واستهزائهم به. ولا يلزم من توقع الشيء وقوعه. فالعصمة مانعة من ذلك. فالرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ لم يترك شيئا من الوحي إلا بلغه ، ولكن الحق تعالى شجعه وحرضه على التبليغ فى المستقبل. ولو قوبل بالإنكار.

٥١٥

ثم قال له : (وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) ؛ أي : ولعله يعرض لك فى بعض الأحيان ضيق فى صدرك ، فلا تتلوه عليهم مخافة (أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ) ينفقه للاستتباع كالملوك ، أو يستغنى به عن طلب المعاش ، (أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) يشهد له ، والقصد تسليته صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قولهم ، حتى يبلغ الرسالة ولا يبالى بهم. وإنما قال : (ضائِقٌ) ؛ ليدل على اتساع صدره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقلة ضيقه فى الحال. (إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ) ليس عليك إلا الإنذار بما أوحى إليك ، ولا عليك ، ردوا أو اقترحوا ، فلا يضيق صدرك بذلك. (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) فتوكل عليه ، فإنه عالم بحالهم ومجازيهم على أقوالهم وأفعالهم.

(أَمْ) ؛ بل (يَقُولُونَ افْتَراهُ) أي : ما يوحى إليه ، (قُلْ) لهم : (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ) فى البيان وحسن النظم. تحداهم أولا بعشر سور ، فلما عجزوا سهل الأمر عليهم وتحداهم بسورة. وتوحيد المثل باعتبار كل واحد. (مُفْتَرَياتٍ) ؛ مختلقات من عند أنفسكم ، إن صح أنى اختلقته من عند نفسى ؛ فإنكم عرب فصحاء مثلى. (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) للمعاونة على المعارضة ، (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أنه مفترى. (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) ؛ فإن عجزوا عن الإتيان ، (فَاعْلَمُوا) أيها الرسول والمؤمنون (أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) ؛ بإذنه ، أو بما لا يعلمه إلا الله من الغيوب. والمعنى : دوموا على إيمانكم ، وزيدوا يقينا فيه.

قال البيضاوي : وجمع الضمير ؛ إما لتعظيم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو لأن المؤمنين كانوا يتحدونهم ، فكان أمر الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ متناولا لهم من حيث إنه يجب اتباعه عليهم فى كل أمر إلا ما خصه الدليل. أو للتنبيه على أن التحدي مما يوجب رسوخ إيمانهم وقوة يقينهم. ولذلك رتب عليه قوله : (فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) ؛ ملتبسا بما لا يعلمه إلا الله ، لأنه العالم والقادر بما لا يعلم ولا يقدر عليه غيره. (وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ؛ لظهور عجز آلهتهم. (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)؟ ثابتون على الإسلام ، راسخون مخلصون فيه ، إذا تحقق عندكم إعجازه مطلقا.

ويجوز أن يكون الكل خطابا للمشركين ، والضمير فى (يَسْتَجِيبُوا) لمن استطعتم ، أي : فإن لم يستجيبوا لكم ، أي : من استعنتم به على المعارضة لعجزهم ، وقد عرفتم من أنفسكم القصور عن المعارضة ، (فَاعْلَمُوا) أنه نظم لا يعلمه إلا الله وأنه منزل من عنده ، وأن ما دعاكم إليه من التوحيد حق ، فهل أنتم داخلون فى الإسلام بعد قيام الحجة القاطعة؟ وفى مثل هذا الاستفهام إيجاب بليغ ؛ لما فيه من معنى الطلب ، والتنبيه على قيام الموجب ، وزوال العذر. ه. وقال فى الوجيز : فإن لم يستجيبوا لكم ؛ من تدعون إلى المعاونة ، ولا تهيأ لكم المعارضة ، فقد قامت عليكم الحجة ، (فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) أي : أنزل والله عالم بإنزاله ، وعالم أنه من عنده ، (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)؟ استفهام ، معناه الأمر ، كقوله : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (١). ه.

__________________

(١) من الآية ٩١ من سورة المائدة.

٥١٦

الإشارة : ينبغى لأهل الوعظ والتذكير أن يعمموا الناس فى التذكير ، ولا يفرقوا بين أهل الصدق ، وأهل التنكير. بل ينصحوا العباد كلهم ، ولا يتركوا تذكيرهم ، مخافة الرد عليهم ، ولا تضيق صدورهم بما يسمعون منهم ، اقتداء بنبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد قال لقمان لابنه حين أمره بالتذكير : (وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (١) ، فإن طلبوا من المذكر الدليل فليقل : إنما أنا نذير ، والله على كل شيىء وكيل. فإن قالوا : هذا الذي تذكر كلنا نعرفه ، فليقل : فأتوا بسورة من مثله ، أو بعشر سور من مثله. والله تعالى أعلم.

ولا ينفع الوعظ والإنذار إن كانت همته كلها مصروفة للدنيا ، كما قال تعالى :

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٦))

قلت : «ما صنعوا فيها» : الضمير يعود على الدنيا ، والظرف يتعلق بصنعوا. أو يعود على الآخرة ، ويتعلق الظرف بحبط ، أي : حبط فى الآخرة ما صنعوا من الأعمال فى الدنيا.

يقول الحق جل جلاله : (مَنْ كانَ يُرِيدُ) بعمله (الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها) ، فكان إحسانه وبره رياء وسمعة ، (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها) أي : نوصل إليهم جزاء أعمالهم فى الدنيا ، من الصحة والرئاسة ، وسعة الأرزاق ، وينالون ما قصدوا من حمد الناس ، وإحسانهم وبرهم ، (وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ) لا ينقصون شيئا من أجورهم ، فيحتمل : أن تكون الآية نزلت فى أهل الرياء من المؤمنين الذين يراؤون بأعمالهم ؛ كما ورد فى حديث الغازي والغنى القارئ المرائين ، وأنهم أول من تسعر بهم جهنم. ويحتمل أن تكون نزلت فى الكفار ، وهو أليق بقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ) ؛ لأنهم استوفوا ما تقتضيه صور أعمالهم الحسنة ، وبقيت لهم أوزار العزائم السيئة. (وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها) أي : فى الدنيا ، فكل ما صنعوا فى الدنيا من الإحسان حبط يوم القيامة ؛ لأنهم لم يريدوا به وجه الله. والعمدة فى انتظار ثواب الأعمال هو الإخلاص ، (وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) ؛ لأنه لم تتوفر فيه شروط الصحة التي من جملتها الإخلاص.

الإشارة : فى الحديث : «من كانت الدّنيا همّه : فرّق الله عليه أمره ، وجعل فقره بين عينيه ، ولم يأته من الدّنيا إلا ما قسم له. ومن كانت الآخرة نيته : جمع الله عليه أمره ، وجعل غناه فى قلبه ، وأتته الدّنيا وهى صاغرة» (٢).

__________________

(١) الآية : ١٧ من سورة لقمان.

(٢) أخرجه الترمذي فى [صفة القيامة ، باب ٣٠] من حديث أنس بن مالك. ؛ وابن ماجه : [الزهد ، باب الهمّ بالدنيا] من حديث زيد بن ثابت.

٥١٧

قلت : ومن كان الله همه كفاه هم الدارين. فطالب الدنيا أسير ، وطالب الآخرة أجير ، وطالب الحق أمير. فارفع همتك أيها العبد عن الدار الفانية ، وعلق قلبك بالدار الباقية ، ثم ارفعها إلى شهود الذات العالية ، ولا تكن ممن قصر همته على هذه الدار فتكن ممن ليس له فى الآخرة إلا النار. وحصّن أعمالك بالإخلاص ، وإياك وملاحظة الناس ؛ فتبوأ بالخيبة والإفلاس ، وبالله التوفيق.

ثم ذكر ضد من تقدم ، فقال :

(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١٧))

قلت : (أفمن كان) : مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي : كمن كان يريد الدنيا وزينتها.

يقول الحق جل جلاله : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ) ، طريقة واضحة (مِنْ رَبِّهِ) وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون ، كمن ليس كذلك ، ممن همه الدنيا؟! والمراد بالبينة : ما أدرك صحته العقل والذوق ، أي : على برهان واضح من ربه ، وهو الدليل العقلي ؛ والأمر الجلى. أو برهان من الله يدله على الحق والصواب فيما يأتيه ويذره ، (وَيَتْلُوهُ) ؛ ويتبع ذلك البرهان ـ الذي هو دليل العقل ، (شاهِدٌ مِنْهُ) أي : من الله يشهد بصحته ، وهو : القرآن ، لأنه مصباح البصيرة والقلب ؛ فهو يشهد بصحة ما أدركه العقل من البرهان.

(وَمِنْ قَبْلِهِ) أي : من قبل القرآن ، (كِتابُ مُوسى) يعنى : التوراة ، فإنها أيضا متلوة شاهدة بما عليه الرسول ومن تبعه من البينة الواضحة. أو البينة : القرآن ، والشاهد : جبريل عليه‌السلام ، أو علىّ ـ كرم الله وجهه ـ ، أو الإنجيل. وهو حسن ، لقوله : (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى) ؛ فإن التوراة قبل الإنجيل. قال ابن عطية : وهنا اعتراض ؛ وهو أن الضمير فى «قبله» عائد على القرآن ، فلم لم يذكر الإنجيل ـ وهو قبله ـ بينه وبين كتاب موسى؟ فالانفصال عنه : أنه خصّ التوراة بالذكر ؛ لأن الملّتين متفقتان على أنها (١) من عند الله ، والإنجيل قد خالف فيها. فكان الاستشهاد بما تقوم به الحجة على الكتابين أولى. وهذا كقول الجن : (إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى) (٢). وقول النجاشي : «إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة». ه. وإذا فسرنا الشاهد بالإنجيل سقط الاعتراض.

__________________

(١) فى ابن عطية : مجتمعتان أنهما.

(٢) من الآية ٣٠ من سورة الأحقاف.

٥١٨

ثم وصف التوراة بقوله : (إِماماً). أي : مؤتما به فى الدين ، لأجله ، (وَرَحْمَةً) على المنزل عليهم. (أُولئِكَ) أي : من كان على بينة من ربه ، (يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي : بالقرآن ، (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ) : كأهل مكة ، ومن تحزب منهم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) يدخلها لا محالة ، (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ) ؛ شك (مِنْهُ) أي : من ذلك الموعد ، أو القرآن ، (إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) الثابت وقوعه ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) ؛ لقلة نظرهم ، وإخلال فكرتهم.

الإشارة : لا يكون العبد على بينة من ربه حتى يتحقق فيه أمران ، أولهما : التوبة النصوح ، والثاني : الزهد التام. فإذا تحقق فيه الأمران كان على بينة من ربه. وهى درجات ؛ أولها : بينة ناشئة عن صحيح النظر والاعتبار ، وهى لقوم نظروا فى الحجج والبراهين العقلية والدلائل السمعية ، فأدركوا وجود الحق من طريق الإيمان بالغيب ، وهم : أهل الدليل والبرهان. وثانيها : بينة ناشئة عن الرياضات والمجاهدات والاعتزال فى الخلوات ، فخرقت لهم العوائد الحسيات فرأوا كرامات وخوارق عادات ، فأدركوا وجود الحق على وجه التحقيق والبيان ، مع رقة الحجاب والوقوف بالباب. وهم : العبّاد ، والزهاد ، والصالحون من أهل الجد والاجتهاد. وثالثها : بينة ناشئة عن الذوق والوجدان ، والمكاشفة والعيان ، وهى لقوم دخلوا فى تربية المشايخ ، فتأدبوا وتهذبوا ، وشربوا خمرة غيبتهم عن حسهم ورسمهم ؛ فغابوا عن الأكوان بشهود المكون. فهم يستدلون بالله على غيره. قدّسوا الحق أن يحتاج الى دليل ، وهؤلاء هم الأفراد وخواص العباد ، وإليهم أشار الشاعر بقوله :

الطّرق شتّى وطريق الحقّ مقفرة

والسّالكون طريق الحقّ أفراد

لا يعرفون ولا تدرى مسالكهم

فهم على مهل يمشون قصّاد

والنّاس فى غفلة عمّا يراد بهم

فجّلهم عن سبيل الحق رقّاد

وقال فى القوت : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) أي : من شهد مقام الله ـ عزوجل ـ بالبيان ، فقام له بشهادة الإيقان ، فليس هذا كمن زين له سوء عمله ، واتبع هواه ، فآثره على طاعة مولاه. بل هذا قائم بشهادته ، متبع لشهيده ، مستقيم على محبة معبوده. ه. وقال الورتجبي : تقدير الآية على وجه الاستفهام : أفمن كان على بينة من ربه ؛ كمن هو فى الضلالة والجهالة؟ أفمن كان على معرفة من ربه ، وولاية وسلامة وكرامة ، وكل عارف إذا شاهد الحق سبحانه بقلبه وروحه ، وعقله وسره ، فأدرك فيض أنوار جماله ، وقربه ، يؤثر ذلك فى هيكله حتى يبرز من وجهه نور الله الساطع ، ويراه كل صاحب نظر ، قال تعالى : (وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) ، والبينة : بصيرة المعرفة ، والشاهد : بروز نور المشاهدة منه. وأيضا : البينة : كلام المعرفة. والشاهد : الكتاب والسنة. ثم قال عن الجنيد : البينة : حقيقة يؤيدها ظاهر العلم. ه.

٥١٩

والحاصل : أن البينة أمر باطني ، وهى : المعرفة ، إما بالبرهان ، أو بالعيان ، والشاهد الذي يتلو هو العلم الظاهر ، فيتفق ما أدركه العقل أو الذوق مع ما أفاده النقل ، فتتفق الحقيقة مع الشريعة. كلّ فى محله ، الباطن منور بالحقائق ، والظاهر مؤيد بالشرائع. وهذا غاية المطلوب والمرغوب. رزقنا الله من ذلك الحظ الأوفر بمنّه وكرمه.

ثم ذكر وعيد من كذب بها فقال :

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (١٩) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢١) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٣) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٤))

قلت : (مثلا) : تمييز.

يقول الحق جل جلاله : (وَمَنْ أَظْلَمُ) أي : لا أحد أظلم (مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) ؛ بأن أسند إليه مالم يقله ، وكذب بما أنزله ، أو نسب لله ما لا يليق بجلاله. (أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ) يوم القيامة ، بأن يحبسوا فى الموقف ، وتعرض عليهم أعمالهم على رؤوس الأشهاد ، (وَيَقُولُ الْأَشْهادُ) من الملائكة والنبيين ، أو كل من شهد الموقف : (هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) وهو تهويل عظيم لما يحيق بهم حينئذ ، لظلمهم بالكذب على الله ، ورد الناس عن طريق الله.

(الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) ؛ عن دينه ، (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) ؛ يصفونها بالانحراف عن الحق والصواب. أو يبغون أهلها أن يعوجوا عنها بالردة والكفر ، أو يطلبون اعوجاجها بالطعن فيها. (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) أي : والحال أنهم كافرون بالبعث. وتكرير الضمير ؛ لتأكيد كفرهم واختصاصهم به.

٥٢٠