البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٢

أحمد بن محمد بن عجيبة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٢

المؤلف:

أحمد بن محمد بن عجيبة


المحقق: أحمد عبدالله القرشي رسلان
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣٩

ثم بيّن ما حرم عليهم ليقفوا عنده ، فقال :

(قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥))

يقول الحق جل جلاله : (قُلْ) لهم : (لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَ) فى القرآن أو مطلق الوحى ، (مُحَرَّماً) أي : طعاما محرما ، (عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ) ، أو يطعم منه غيره ، (إِلَّا أَنْ يَكُونَ) الطعام (مَيْتَةً) ، وفى قراءة بالتاء ؛ لتأنيث الخبر ، (أَوْ) يكون (دَماً مَسْفُوحاً) أي : مصبوبا كدم المنحر ، (أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ) أي : خبيث ، قيل : إنه يورث عدم الغيرة بالخاصية (أَوْ) يكون (فِسْقاً) ، من صفته : (أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) أي : ذبح لغير الله ، وذكر عليه اسم الصنم ، وإنما سمى فسقا ؛ لتوغله فى الفسق.

والآية تقتضى حصر المحرمات ، فيما ذكر ، وقد جاء فى السنة تحريم أشياء لم تذكر هنا ، كلحوم الحمر الإنسية والكلاب ، وغيرها ، فذهب قوم إلى أن السنة نسخت هذا الحصر. وذهب آخرون إلى أن الآية وردت على سبب ، فلا تقتضى الحصر ، وذهب آخرون إلى أن ما عدا ما ذكر : مكروه.

وقال البيضاوي : والآية محكمة ؛ لأنها تدل على أنه لم يجد فيما أوحى إليه إلى تلك الغاية محرما غير هذه ، ولا ينافى ورود التحريم فى شىء آخر ، فلا يصح الاستدلال بها على نسخ الكتاب بخبر الواحد ، ولا على حل الأشياء غيرها ، إلا مع الاستصحاب (١). ه.

ثم استثنى المضطر ، فقال : (فَمَنِ اضْطُرَّ) إلى تناول شىء من ذلك ، (غَيْرَ باغٍ) على مضطر مثله ، (وَلا عادٍ) أي : متجاوز قدر الضرورة ، (فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لا يؤاخذه.

الإشارة : الأحوال كلها تتقوت منها الروح ، إلا ما كان غير مباح فى الشرع ، فلا سير فيه ، والمراد بالأحوال : خرق عوائدها ، بكل ما يثقل عليها ، وأما ما كان محرما فى الشرع فلا بركة فى تناوله ؛ لأنه رجس ، وأجازه بعض الصوفية محتجا بقضية لص الحمام ، وفيه مقال ، فمن اضطر إلى تناوله ، لغلبة حال عليه ، غير قاصد لمخالفة الشرع ، فإن الله غفور رحيم ، وعليه حمل بعضهم قصة لص الحمّام (٢). والله تعالى أعلم.

__________________

(١) الاستصحاب ـ اصطلاحا : هو الحكم بثبوت أمر فى الزمن الثاني ، بناء على ثبوته فى الزمان الأول. (التعريفات / ٤٤).

(٢) راجع قصة لص الحمّام فى التعليق على إشارة الآية ٢٦٧ من سورة البقرة.

١٨١

ثم ذكر ما حرّم على بنى إسرائيل ، فقال :

(وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (١٤٦))

قلت : الحوايا هى الأمعاء ، أي : المصارين التي فيها البعر ، وتسمى المباعر ، جمع حوية ، فعيلة ، فوزنها على هذا : فعائل ، فصنع بها ما صنع بهراوا ، وقيل : جمع حاوية ، فوزنها : فواعل ، كقوارب ، وهو عطف على ما فى قوله : (إِلَّا ما حَمَلَتْ).

يقول الحق جل جلاله : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) ؛ ما له أصبع ، كالإبل والأوز والنعام ، وغيرها من الحيوان ، الذي هو غير منفرج الأصابع وله ظفر ، وقيل : كل ذى مخلب وحافر ، وسمى الحافر ظفرا ؛ مجازا (وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما) كالثروب وشحوم الكلى ، (إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما) أي : إلا ما علق من الشحم بظهور البقر والغنم ، فهو حلال عليهم ، لكنهم اليوم لا يأكلونه ، حدثنى شيخى الفقيه الجنوى أنه سأل بعض أحبارهم : هل هو حرام فى كتابكم؟ فقال له : لا ، لكنهم قاسوه سدا للذريعة. ه. فلما شددوا شدد الله عليهم ، (أَوِ الْحَوايا) أي : ما احتوت عليه الأمعاء والحشوة مما يتحوى فى البطن من الشحوم ، فهو حلال عليهم (أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) فى جميع الجسد ، فإنه حلال عليهم ، لكنهم شددوا فحرموا الجميع عقوبة من الله (ذلِكَ) التحريم جزاء (جَزَيْناهُمْ) به بسبب بغيهم ، أي : ظلمهم ، (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) فيما أخبرنا به من التحريم ، وفى ذلك تعريض بكذب من حرّم غير ما حرم الله.

الإشارة : يؤخذ من الآية أن الذنوب والمعاصي تضيق على العبد لذائذ متعته ، وتقتر عليه طيب رزق بشريته ، وتضيق عليه أيضا حلاوة المعاملة فى قلبه ، ولذة الشهود فى روحه وسره ، لقوله تعالى : (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ) ، وقال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) (١) ، وقال فى شأن القلب : (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) (٢) ، أي : نورا يفرق بين الحق والباطل ، وقال تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) (٣) أي : علما لدنيا ، فالمعصية كلها تبعد العبد من الحضرة ، إن لم يتب ، والطاعة كلها تقرب من الحضرة. والتنعم إنما هو على قدر القرب ، ونقصانه على قدر البعد. والله تعالى أعلم.

__________________

(١) الآية ٩٦ من سورة الأعراف

(٢) الآية ٢٩ من سورة الأنفال.

(٣) من الآية ٢٨٢ من سورة البقرة.

١٨٢

ولمّا كانت المعصية توجب تعجيل العقوبة أخبر تعالى عن سعة حلمه ، فقال :

(فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١٤٧))

يقول الحق جل جلاله : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ) يا محمد ، (فَقُلْ) لهم : (رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ) يمهلكم على التكذيب ، فلا تغتروا بإمهاله ؛ فإنه يمهل ولا يهمل. ولذلك أعقبه بقوله : (وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) حين ينزل بهم ، أو ذو رحمة واسعة على المطيعين ، وذو بأس شديد على المجرمين ، فأقام مقامه : (وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) ، لتضمنه التنبيه على إنزال البأس عليهم ، مع الدلالة على أنه لازب لا يمكن رده. قاله البيضاوي. وفى ابن عطية : ولكن لا تغتروا بسعة رحمته ، فإن له بأسا لا يرد عن القوم المجرمين. ه.

الإشارة : يؤخذ من تقديم الرحمة الواسعة على البأس الشديد أن جانب الرجاء أقوى من جانب الخوف ؛ لأن حسن الظن بالله مطلوب من العبد على كل حال ، لأن الرجاء وحسن الظن يستوجبان محبة العبد وإيحاشه إلى سيده بخلاف الخوف ، وهذا مذهب الصوفية : أن تغليب الرجاء هو الأفضل فى كل وقت ، ومذهب الفقهاء أن حال الصحة ينبغى تغليب الخوف لينزجر عن العصيان ، وحال المرض يغلب الرجاء ؛ إذ لا ينفع حينئذ ، فالصوفية يرون أن العبد معزول عن الفعل ، فليس له قدرة على فعل ولا ترك. وإنما ينظر ما تفعل به القدرة ، فهو كحال المستشرف على الموت. والفقهاء يرون أن العبد له كسب واختيار. والله تعالى أعلم.

ولا ينفع الاحتجاج بالقدر على كلا المذهبين ، كما قال تعالى :

(سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١٥٠))

قلت : (هلم) : اسم فعل ، وهو عند البصريين بسيط ، وعند الكوفيين مركب. انظر البيضاوي.

يقول الحق جل جلاله : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) فى الاحتجاج لأنفسهم : (لَوْ شاءَ اللهُ) عدم شركنا (ما أَشْرَكْنا وَلا) أشرك (آباؤُنا ، وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ) من البحائر وغيرها ، فلو لم نكن على حق مرضى عند الله ما أمهلنا ولا تركنا عليه ؛ فإمهاله لنا وتركه لنا على ما نحن فيه دليل على أنه أراده منا.

١٨٣

والجواب عن شبهتهم : أنه خلاف ما أنزل الله على جميع رسله ، والحق تعالى لم يتركهم على ذلك ، بل بعث لهم الرسل يكلفهم بالخروج عنه ، والإرادة خلاف التكليف ، وأيضا : قولهم هذا لم يصدر منهم على وجه الاعتذار ؛ وإنما صدر منهم على وجه المخاصمة والاحتجاج. ولا يصح الاحتجاج بالقدر. والحاصل أنهم تمسكوا بالحقيقة ورفضوا الشريعة ، وهو كفر وزندقة ، إذ لا بد من الجمع بين الحقيقة فى الباطن ، والتمسك بما جاءت به الرسل من الشريعة فى الظاهر ، وإلّا فهو على باطل.

ولذلك ردّ الله تعالى عليهم بقوله : (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الرسل ، فتمسكوا بالحقيقة الظلمانية ، (حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا) أي : عذابنا الذي أنزلناه عليهم بتكذيبهم (قُلْ) لهم : (هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ) يدل على أن الله أمركم بالشرك ، وتحريم ما أحل ، وأنه رضى ذلك لكم ، (فَتُخْرِجُوهُ) أي : فتظهروه (لَنا) ، بل (إِنْ تَتَّبِعُونَ) فى ذلك (إِلَّا الظَّنَ) ولا تحقيق عندكم ، (وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) ؛ تكذبون على الله تعالى ، وفيه دليل على أن الظن لا يكفى فى العقائد.

(قُلْ) لهم : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ) على عباده ، (الْبالِغَةُ) ، حيث بعث الرسل مبشرين ومنذرين ، وأمروا بتوحيد الله وطاعته ، فكل من خالفهم قامت الحجة عليه ، هذا باعتبار التشريع الظاهر ، وأما باعتبار باطن الحقيقة ، فالأمور كلها بيد الله ؛ يضل من يشاء بعدله ، ويهدى من يشاء بفضله ، (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) ولكن شاء هداية قوم وضلال آخرين ، (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (١) فقول المشركين : (فَلَوْ شاءَ) الله ... إلخ ، حق فى نفسه ، لكنهم لم يعذروا ؛ لإهمالهم الشريعة.

(قُلْ هَلُمَ) أي : أحضروا ، (شُهَداءَكُمُ) أي : كبراءكم وأئمتكم ، (الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا) ، استحضرهم ليلزمهم الحجة ، ويظهر بانقطاعهم ضلالهم ، وألّا متمسك لهم فى ذلك. ثم قال لنبيه ـ عليه الصلاة والسلام ـ : (فَإِنْ شَهِدُوا) بشىء من ذلك ، (فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) أي : لا تصدقهم وبيّن لهم فساده ؛ (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) ، والأصل أن يقول : ولا تتبع أهواءهم ، فوضع الظاهر موضع المضمر ، للدلالة على أن مكذب الآية متبع للهوى لا غير ، وأن متبع الحق لا يكون إلا مصدقا لها. (وَ) تتبع أيضا (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) ؛ كعبدة الأوثان ، (وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) ؛ يجعلون له عديلا ومثيلا.

الإشارة : اعلم أن الحق جل جلاله كلف عباده فى هذه الدار ، بالقيام بوظيفتين : الشريعة والحقيقة ، الشريعة محلها الظواهر ، والحقيقة محلها البواطن ، الشريعة تقتضى التكليف ، والحقيقة تقتضى التعريف ، الشريعة شهود الحكمة ، والحقيقة شهود القدرة. وجعل الشريعة رداء الحقيقة ولباسا لها ، ثم جعل سبحانه فى القلب عينين ، وتسمى

__________________

(١) الآية ٢٣ من سورة الأنبياء.

١٨٤

البصيرة ، إحداهما تنظر للحكمة فتقوم بالشرائع ، والأخرى تنظر للقدرة فتقوم بالحقائق. فقوم فتحوا عين الحقيقة وأعملوا عين الشريعة ، وهم أهل الكفر والزندقة ، ولذلك قالوا : (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا) ، وقوم فتحوا عين الشريعة وأهملوا عين الحقيقة ، وهم عوام المسلمين من أهل اليمين ، فلذلك طال خصمهم للمقادير الأزلية مع إقرارهم بها ، فإن أنكروها فقد عميت بصيرتهم.

وقوم أحبهم الله ، ففتح لهم عين الحقيقة ، فأسندوا الأفعال كلها إلى الله ولم يروا معه سواه ، فتأدبوا فى الباطن مع الأشياء كلها ، وفتح لهم عين الشريعة فقاموا بوظائف العبودية على المنهاج الشرعي ، وهم الأولياء العارفون بالله ، فمن تمسك بالحقائق العلمية دون الشرائع كان زنديقا ، ومن تمسك بالشرائع دون الحقائق كان فاسقا ، ومن تمسك بهما كان صدّيقا ، فمن رام التمسك بالشرائع ، ولم تسعفه الأقدار ، فإن كان عن سكر وجذب فهو معذور ، وإن كان عن كسل فهو مخذول ، وإن كان عن إنكار لها فهو مطرود معدود من حزب الشيطان ، والعياذ بالله.

ثم بيّن لهم ما حرم عليهم ، فقال :

(قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣))

قلت : (تعالوا) : أمر من التعالي ، وأصله : أن يقوله من كان فى علو لمن كان فى سفل ، فاتسع فيه بالتعميم فى كل أمر بالقدوم ، و (ألّا تشركوا) : فيه تأويلات ؛ أحدها : أن تكون مفسرة لا موضع لها ، و (لا) : ناهية جزمت الفعل ، أو تكون مصدرية فى موضع رفع ، أي : الأمر ألّا تشركوا ، و (لا) : نافية حينئذ ، أو بدل من «ما» و (لا) : زائدة ، أو على حذف الإغراء ، أي : عليكم ألا تشركوا.

قال ابن جزى : والأحسن أن يكون ضمّن (حَرَّمَ) معنى وصّى ، وتكون «أن» مصدرية ، و «لا» نافية ، ولا تفسد المعنى ؛ لأن الوصية فى المعنى تكون بتحريم وتحليل وبوجوب وندب ، ويدل على هذا قوله بعد ذلك :

١٨٥

(ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ) ولا ينكر أن يريد بالتحريم ـ الوصية ؛ لأن العرب قد تذكر اللفظ الخاص ، وتريد به العموم ، كما تذكر اللفظ العام وتريد به الخصوص ، فتقدير الكلام على هذا : قل تعالوا أتل ما وصاكم به ربكم ، ثم أبدل منه ، على وجه التفسير والبيان ، فقال : ألّا تشركوا ، ووصاكم بالإحسان بالوالدين ، وهكذا .. فجمعت الوصية ترك الإشراك وفعل الإحسان بالوالدين ، وما بعد ذلك. انظر بقية كلامه.

وإنما قال الحق سبحانه : (من إملاق) ، وقدّم الكاف فى قوله (نرزقكم) ، وفى الإسراء قال : (خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) (١) ، وأخر الكاف ؛ لأن ما هنا نزل فى فقراء العرب ، فكان الإملاق نازلا بهم وحاصلا لديهم ، فلذلك قال : (مِنْ إِمْلاقٍ) ، وقدم الخطاب لأنه أهم. وفى الإسراء نزلت فى أغنيائهم ، فكانوا يقتلون خوفا من لحوق الفقر ، لذلك قال : (خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) ، وقدم الغيبة فقال : (نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ) ؛ حين نخلقهم وإياكم.

يقول الحق جل جلاله : (قُلْ) لهم : (تَعالَوْا) أي : هلموا ، (أَتْلُ) أي : أقرأ (ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) ، واجتمعت عليه الشرائع قبلكم ، ولم ينسخ قط فى ملة من الملل ، بل وصى به جميع الملل ، هو (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) بل توحدوه وتعبدوه وحده ، (وَ) أن تحسنوا (بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) ، ولا تسيئوا إليهما ؛ لأن من أساء إليهما لم يحسن إليهما. (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ) أي : من أجل الفقر الحاصل بكم ، وكانت العرب تقتل أولادها خوفا من الفقر فنزلت فيهم ، فلا يفهم منه إباحة قتلهم لغيره ، (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) ، فلا تهتموا بأمرهم حتى تقتلوهم.

(وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ) ؛ كبار الذنوب (ما ظَهَرَ مِنْها) للناس (وَما بَطَنَ) فى خلوة ، أو : ما ظهر منها على الجوارح ، وما بطن فى القلوب من العيوب ، (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) ؛ كالقود ، وقتل المرتد ، ورجم المحصن. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يحلّ دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : زنى بعد إحصان ، وكفر بعد إيمان ، وقتل نفس بغير نفس» (٢). (ذلِكُمْ) المتقدم ، (وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ، فتتدبرون فيما ينفعكم وما يضركم (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي) بالخصلة التي (هِيَ أَحْسَنُ) ؛ كحفظه وتثميره. والنهى عن القرب : يعم وجوه التصرف ، وفيه سد الذريعة ؛ لأنه إذا نهى عن القرب كان الأكل أولى ، (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) وهو البلوغ مع الرشد ، بحيث يعرف مصالح نفسه ويأمن عليه التبذير ، فيدفع له ، (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ) ؛ بالعدل والتوفية ، (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) ؛ إلا ما يسعها ولا يعسر عليها ، ولمّا أمر بالقسط فى الكيل والوزن ، وقد علم أن القسط الذي لا زيادة فيه ولا نقصان مما يجرى فيه الحرج ـ أمر بالوسع فى ذلك وعفا عما سواه.

__________________

(١) الآية ٣١ من سورة الأسراء.

(٢) أخرجه البخاري فى (الديات ، باب قول الله تعالى : «أن النفس بالنفس») ومسلم فى (القسامة ، باب ما يباح به دم المسلم). عن ابن مسعود. رضى الله عنه.

١٨٦

(وَإِذا قُلْتُمْ) فى حكومة ونحوها ، (فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ) المقول له فى شهادة أو حكومة (ذا قُرْبى) ؛ فيجب العدل فى ذلك ، (وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا) أي : ما عهد إليكم من ملازمة العدل وتأدية أحكام الشرع ، أو ماعاهدتم مع عباده ، (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ؛ تتعظون به.

(وَأَنَّ هذا) أي : ما تقدم فى السورة كلها ، (صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) ؛ لأن السورة بأسرها إنما هى فى إثبات التوحيد ، والنبوة ، وبيان الشريعة ، (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) ؛ الأديان المختلفة والطرق التابعة للهوى ، فإن مقتضى الحجة واحد ، ومقتضى الهوى متعدد ؛ لاختلاف الطبائع والعادات ، ولذلك تفرقت. والمراد بالطرق : اليهودية والنصرانية وغيرهما من الأديان الباطلة ، ويدخل فيه البدع والأهواء ، وفى الحديث أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خط خطا ، ثم قال : «هذا سبيل الله» ، ثم خط خطوطا عن يمينه وشماله ، ثم قال : «هذه سبل ، وعلى كلّ سبيل منها شيطان يدعو إليها» (١). (ذلِكُمْ) الاتباع (وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) الضلال والتفرق عن الحق. وبالله التوفيق.

الإشارة : قد وصى الحق ـ جل جلاله ـ على التخلص من الشرك ، جليه وخفيه ، ولا يكون إلا بتحقيق الإخلاص والتوحيد الخاص. وهو مطلب الصوفية ، وبالإحسان بالوالدين الروحانيين والبشريين ، أي : والد الأرواح ـ وهو الشيخ المربى ـ ووالد الأشباح ، ولا بد للمريد من طاعتهما ، إلّا أنه يقدم طاعة الشيخ ، كما تقدم عن الجنيد فى (سورة النساء).

ووصى بعدم قتل الأولاد ، وهم المواهب والعلوم بإهمال القلب فى الغفلة ، وعدم قرب الفواحش : الظاهرة الحسية ، والباطنية القلبية ؛ كالحسد ، والكبر ، وحب الجاه والدنيا ، وسائر العيوب. وعدم قتل النفس بالانهماك فى الهوى والغفلة حتى تموت بالجهل عن المعرفة. وعدم قرب مال اليتيم ، وهو الذي ليس له شيخ ، فإن الغالب عليه عدم المسامحة ، وسيأتى عند قوله تعالى : (قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) (٢) ، إشارة لها أرق من هذه ، وعلى التوفية فى الأمور كلها ؛ لأن الصوفي من أهل الصفاء والوفاء ، وعلى الصدق فى الأقوال والأفعال والأحوال. وعلى الوفاء بالعهد ، وأعظمها عهد الشيوخ المربين ، وعلى اتباع طريق السلوك الموصلة للحضرة وهى ما عينه الشيوخ للمريدين ، فلا يتعدى نظرهم ولو لحظة. وبالله التوفيق.

ولما ذكر ما وصى به هذه الأمة ، ذكر ما وصى به بنى إسرائيل ، فقال :

(ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤))

__________________

(١) أخرجه أحمد فى المسند ١ / ٤٣٥.

(٢) من الآية ١٤٣ من سورة الأعراف.

١٨٧

قلت : (ثم) : هنا للترتيب الإخبارى ، وقال ابن جزى : هذه الوصية قديمة لكل أمة على لسان نبيها ، فصح الترتيب. وقال البيضاوي : (أو) : للتفاوت فى الرتبة ، كأنه قيل : ذلكم وصاكم به قديما وحديثا ، ثم أعظم من ذلك : أنا آتينا موسى الكتاب ... إلخ. وهو عطف على (وصاكم) ، و (تماما ، وتفصيلا) : حالان ، أو علتان ، أو مصدران.

يقول الحق جل جلاله : (ثُمَ) نخبرك أنا (آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) ؛ التوراة ، (تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) القيام به من بنى إسرائيل ، ويدل عليه قراءة : (أحسنوا) ، أي : تماما للنعمة على العاملين به ، أو تماما على موسى الذي أحسن القيام به ، أي : آتيناه الكتاب تفضلا وإتماما للنعمة ؛ جزاء على ما أحسن من طاعة ربه وتبليغ رسالته ، ففاعل أحسن : ضمير موسى. أو : (تَماماً) أي : إكمالا على ما أحسن الله به إلى عباده ، فالفاعل على هذا : ضمير الله تعالى ، (وَتَفْصِيلاً) أي : تبيينا (لِكُلِّ شَيْءٍ) يحتاجون إليه فى الدين. (وَهُدىً) أي : هداية للظواهر ، (وَرَحْمَةً) للقلوب ، (لَعَلَّهُمْ) أي : بنى إسرائيل ، (بِلِقاءِ رَبِّهِمْ) للجزاء ، (يُؤْمِنُونَ) إيمانا صحيحا ، وهو اللقاء بالأجسام والأرواح ، والنعيم أو العذاب للأشباح. والله تعالى أعلم.

الإشارة : كل من أحسن عبادة ربه فى الظاهر ، وحقق عبوديته فى الباطن ، أتم الله عليه نعمته بشهود ذاته وأنوار صفاته ، ووهب له علوما لدنية تفصل له ما أشكل ، يكون له هداية لزيادة الترقي ، ورحمة يتهيأ بها قلبه لوحى الإلهام والتلقي. وبالله التوفيق.

ثم ذكر فضل كتابه العزيز ، فقال :

(وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧))

قلت : (أن تقولوا) : مفعول له ، أي : كراهة أن تقولوا.

يقول الحق جل جلاله : (وَهذا) القرآن (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) كثير النفع (فَاتَّبِعُوهُ) فى الأصول والفروع ، (وَاتَّقُوا) الشرك والمعاصي ، (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ببركة اتباعه ؛ فتحيا به قلوبكم ، وتنتعش به

١٨٨

أرواحكم ، وإنما أنزلناه ؛ كراهة (أَنْ تَقُولُوا) يوم القيامة فى الحجة : (إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا) ؛ اليهود والنصارى ، وإنما خصهما بالذكر لشهرتهما دون الكتب السماوية ، (وَإِنْ كُنَّا) وإنه ، أي : الأمر والشأن ، كنا (عَنْ دِراسَتِهِمْ) أي : قراءتهم (لَغافِلِينَ) أي : كنا غافلين عن قراءة أهل الكتاب ، لا ندرى ما هى ولا نعرف مثلها ، أو لم ندرس مثل دراستهم ، ولم نعرف ما درسوا من الكتب ، فلا حجة علينا ، فقد قامت الحجة عليكم بنزول القرآن.

(أَوْ) كراهة أن (تَقُولُوا) أيضا : (لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ) كما أنزل إليهم ، (لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) لحدة أذهاننا وثقابة أفهامنا ، ولذلك تلقفنا فنونا من العلم ، كالقصص والأشعار والخطب والأنساب ، مع كوننا أميين ، قال تعالى لهم : (فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) وهو القرآن ؛ حجة واضحة تعرفونها ؛ (وَهُدىً وَرَحْمَةٌ) لمن تدبره وعمل به ، (فَمَنْ أَظْلَمُ) أي : لا أحد أظلم (مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ) بعد أن عرف صحتها ، (وَصَدَفَ) ؛ أعرض (عَنْها ، سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ) ؛ ألمه وقبحه ، (بِما كانُوا يَصْدِفُونَ) أي : يعرضون ويصدون عنها.

الإشارة : جعل الله رحمة القلوب وحياة الأرواح فى شيئين : فى التمسك بالقرآن العظيم وتدبر معانيه ، واتباع أوامره واجتناب نواهيه ، وفى التحصن بالتقوى جهد استطاعته ، فبقدر ما يتحقق بهذين الأمرين تقوى حياة قلبه وروحه وسره ، حتى يتصل بالحياة السرمدية ، وبقدر ما يخل بهما يحصل له موت قلبه وروحه ، والإنسان إنما فضل وشرف بحياة قلبه وروحه ، لا بحياة جسمه ، ولا حجة له أن يقول : كنت مريضا ولم أجد من يعالجنى ، ففى كل زمان رجال تقوم الحجة بهم على عباد الله ، فيقال لهم : قد جاءكم بينة من ربكم ، وهو الولي العارف ، وهدى ورحمة لأهل عصره ، لمن تمسك به وصحبه ، وأما من أعرض عنه بعد معرفته فلا أحد أظلم منه ، (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها ...) الآية.

ثم هددّ أهل الإعراض ، فقال :

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨))

يقول الحق جل جلاله : (هَلْ يَنْظُرُونَ) أي : ما ينتظر أهل مكة (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) لقبض أرواحهم ، أو بالعذاب ، لأجل كفرهم ، وهم لم يكونوا ينتظرون ذلك ، ولكن لما كان يلحقهم لحوق المنتظر شبهوا بالمنتظرين ، (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) أي : أمره بالعذاب ، (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) يعنى : أشراط الساعة.

١٨٩

وعن حذيفة والبراء بن عازب : كنا نتذاكر الساعة ، إذ أشرق علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : ما تذاكرون؟ قلنا : نتذاكر الساعة ، فقال : «إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات : الدجال ودابة الأرض ، وخسفا بالمشرق ، وخسفا بالمغرب ، وخسفا بجزيرة العرب ، والدخان ، وطلوع الشمس من مغربها ، ويأجوج ومأجوج ، ونزول عيسى ، ونارا تخرج من عدن» (١).

(يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) ، وهو طلوع الشمس من مغربها ، كما فى حديث الصحيحين (٢) ، قال الأقليشى : وذلك أن الله تعالى ، إذا أراد طلوعها من مغربها ، حبسها ليلة تحت العرش ، فكلما سجدت واستأذنت لم يجر لها جواب ، حتى يحبسها مقدار ثلاث ليال ، فيأتيها جبريل عليه‌السلام فيقول : إن الرب تعالى يأمرك أن ترجعى إلى مغربك فتطلعى منه ، وأنه لا ضوء لك عندنا ولا نور ، فتبكى عند ذلك بكاء يسمعها أهل السبع سموات ، ومن دونها ، وأهل سرادقات العرش وحملته من فوقها ، فيبكون لبكائها مما يخالطهم من خوف الموت ، وخوف يوم القيامة ، قال : فيبيت الناس ينتظرون طلوعها من المشرق ، فتطلع الشمس والقمر خلف أقفيتهم من المغرب ، أسودين مكدّرين ، كالقارتين ، ولا ضوء للشمس ولا نور للقمر ، فيتصايح أهل الدنيا ، وتذهل الأمهات عن أولادها ، والأحبة عن ثمرة قلوبها ، فتشتغل كل نفس بنفسها ، ولا ينفع التوحيد حينئذ. ه.

وهو معنى قوله تعالى : (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها) ؛ كالمحتضر إذا صار الأمر عيانا ، وإنما ينفع الإيمان بالغيب ، وقد فات يومئذ ، فلا ينفع الإيمان نفسا (لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ) ، ولا تنفع التوبة من المعاصي وترك الواجبات حينئذ ؛ لقوله : (أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) أي : لا ينفع نفسا مؤمنة لم تكن كسبت خيرا قبل ذلك اليوم ، حيث كانت فرطت فيه قبل ، وينفع اكتسابه بعد.

والحاصل : أن طلوع الشمس من مغربها يغلق بعده باب التوبة ؛ فلا يقبل الإيمان من كافر ، ولا التوبة من عاص ، وأما الإيمان المجرد عن العمل ، إذا كان حاصلا قبل ذلك اليوم ، فإنه ينفع على مذهب أهل السنة ، وكذلك العاصي بالبعض ينفعه بعض الذي كان يعمله ، كالزانى مثلا ، إذا كان يصلى ، فتنفعه صلاته ويعاقب على العصيان ، وهكذا ، والمنفي قبوله : إنما هو الخير المتروك قبل ذلك اليوم ، فلا ينفع استدراكه بعد.

ثم قال تعالى : (قُلِ انْتَظِرُوا) إتيان أحد الثلاثة ؛ الملائكة بعذابكم ، أو أمر الله تعالى بإهلاككم ، أو بعض آياته ، (إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) ذلك ، لنا الفوز وعليكم الويل.

الإشارة : ما ينتظر الغافلون والمنهمكون فى اللذات والشهوات والإعراض عن الله إلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم فجأة ، فيموتون على الغفلة ، فتنزل بهم الحسرة والندم ، وقد زلت القدم بهم ، أو يأتى أمر الله بطردهم والطبع على قلوبهم ، فلا ينفعهم وعظ ولا تذكير ، أو يأتى بعض آيات ربك ؛ مصيبة أو داهية تثقل قلوبهم عن

__________________

(١) أخرجه بنحوه مسلم فى (الفتن ، باب فى الأمارات التي تكون قبل الساعة).

(٢) عن أبي هريرة رضى الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها ، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعين ...» الحديث بطوله أخرجه البخاري فى (تفسير سورة الأنعام) ومسلم فى (الإيمان ، باب : إتيان الزمن الذي لا يقبل الله فيه الإيمان).

١٩٠

التوجه إلى الله ، وجوارحهم عن طاعة الله. فالغافل والعاصي بين هذه الثلاثة ، إن لم يقلع ويتب. والله تعالى أعلم.

ثم أمرهم بالإعراض عن أهل الإعراض ، فقال :

(إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩))

يقول الحق جل جلاله : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) ؛ فآمنوا بالبعض وكفروا بالبعض ، وهم اليهود والنصارى ، وقيل : أهل الأهواء والبدع ، فيكون إخبارا بغيب ، وفى الحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق أمتى على ثلاث وسبعين فرقة ، كلها فى النار إلا واحدة. قيل : يا رسول الله ، وما تلك الواحدة؟ قال : «من كان على ما أنا عليه وأصحابى».

وقرىء : «فارقوا ، أي : تركوا دينهم ، (وَكانُوا شِيَعاً) ؛ جمع شيعة ، أي : فرقّا متشيعة ، كل فرقة تتشيع لمذهبها وتتشيع إمامها ، أي : تنتسب إليه. (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) أي : أنت برىء منهم ، فلست فى شىء من السؤال عنهم وعن تصرفهم ، أو عن عقابهم ، وقيل : هو نهى عن التعرض لهم ؛ فيكون منسوخا بآية السيف ، (إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ) يتولى جزاءهم ، (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) من التفرق فيعاقبهم عليه.

الإشارة : الافتراق المذموم ، إنما هو فى الأصول ؛ كالتوحيد وسائر العقائد ، فقد افترقت المعتزلة وأهل السنة فى مسائل منه ، فخرج من المعتزلة اثنان وسبعون فرقة ، وأهل السنة هى الفرقة الناجية ، وأما الاختلاف فى الفروع فلا بأس به ، بل هو رحمة لقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «خلاف أمتى رحمة» ، كاختلاف القراء فى الروايات ، واختلاف الصوفية فى كيفية التربية ، فكل ذلك رحمة وتوسعه على الأمة المحمدية ، إذ كل من أخذ بمذهب منها فهو سالم ، مالم يتبع الرخص. وقال بعضهم : ما دامت الصوفية بخير ما افترقوا ، فإذا اصطلحوا فلا خير فيهم. ومعنى ذلك : إنما هو فى التناصح والإرشاد والنهى بعضهم لبعض عما لا يليق فى طريق السير ، فإذا سكت بعضهم عن بعض ؛ مداهنة وحياء فلا خير فيهم ، وأما قلوبهم فلا بد أن تكون متفقة متوددة ، لا بغض فيها ولا تحاسد ، وإلا لم يكونوا صوفية. والله تعالى أعلم.

ثم رغّب فى الخير قبل فوات إبانه ، فقال :

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦٠))

١٩١

يقول الحق جل جلاله : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) قولية أو فعلية أو قلبية ، (فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) من الحسنات ، فضلا من الله ، وهذا أقل ما وعد من الأضعاف ، وقد جاء الوعد بسبعين وسبعمائة ، وبغير حساب ، ولذلك قيل : المراد بالعشر : الكثرة دون العدد ، (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) ؛ قضية للعدل ، (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بنفس الثواب وزيادة العقاب.

الإشارة : إنما تضاعف أعمال الجوارح وما كان من قبل النيات ، وأما أعمال القلوب فأجرها بغير حساب ، قال تعالى : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) (١) ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تفكر ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة». وقال الشاعر :

كلّ وقت من حبيبى

قدره كألف حجّه

وقد تقدم هذا فى سورة البقرة (٢).

ثم إن تضعيف الحسنات إنما يكون لمن تمسك بالدين القيم ، وهو الذي أشار إليه بقوله :

(قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١))

قلت : (دينا) : بدل من محل «صراط» ؛ لأن الأصل : هدانى صراطا مستقيما دينا قيما ، و (قيّما) : فيعل من القيام ، فهو أبلغ من مستقيم ، ومن قرأ بكسر القاف : فهو مصدر وصف به ؛ للمبالغة ، و (ملة إبراهيم) : عطف بيان لدين ، و (حنيفا) : حال من إبراهيم.

يقول الحق جل جلاله : (قُلْ) لهم : (إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) بالوحى والإرشاد إلى ما نصب من الحجج والآيات ، (دِيناً قِيَماً) ؛ مستقيما يوصل من تمسك به إلى جوار الكريم ، فى حضرة النعيم ، وهو (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) أي : دينه ، حال كونه (حَنِيفاً) : مائلا عما سوى الله ، (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ، وهو تعريض لقريش ، الذين يزعمون أنهم على دينه ، وقد أشركوا بالله عبادة الأوثان.

الإشارة : قد أخذ الصوفية من هذا الدين القيم ، الذي هدى الله إليه نبيه ـ عليه الصلاة والسلام ـ خلاصته ولبابه ، فأخذوا من عقائد التوحيد : الشهود والعيان على طريق الذوق والوجدان ؛ ولم يقنعوا بالدليل والبرهان ، وأخذوا من الصلاة : صلاة القلوب ، فهم على صلاتهم دائمون مع صلاة الجوارح ، على نعت قوله : (الَّذِينَ هُمْ

__________________

(١) الآية ١٠ من سورة الزمر.

(٢) راجع إشارة الآية ١٩٧ من سورة البقرة.

١٩٢

فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) (١) وأخذوا من الزكاة : زكاة نفوسهم بالرياضة والتأديب وإضافة الكل إليه. (العبد وما كسب لسيده) ، مع أداء الزكاة الشرعية لمن وجبت عليه. وكان الشيخ أبو العباس السبتي رضى الله عنه يعطى تسعة أعشار زرعه ، ويمسك العشر لنفسه.

وأخذوا من الصيام : صيام الجوارح كلها ، مع صيام القلب عن شهود السّوى. وأخذوا من الحج : حج القلوب إلى حضرة علام الغيوب ، فالكعبة تشتاق إليهم وتطوف بهم ، كما تقدم فى آل عمران. ومن الجهاد : الجهاد الأكبر ، وهو جهاد النفوس ، وهكذا مراسم الشريعة كلها عندهم صافية خالصة من الشوائب ، بخلاف غيرهم ، فلم يأخذ منها إلا قشرها الظاهر وعمل الأشباح ، فهى صور قائمة لا روح فيها ؛ لعدم الإخلاص والحضور فيها. والله تعالى أعلم.

ثم بيّن مقام الإخلاص ، فقال :

(قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤))

قلت : (ربّا) : حال من (غير).

يقول الحق جل جلاله : (قُلْ) لهم يا محمد : (إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي) أي : عبادتى كلها ، وقرباتى أو حجى ، (وَمَحْيايَ وَمَماتِي) أي : وعملى فى حياتى ، وعند موتى من الإيمان والطاعة ، أو الحياة والممات أنفسهما ، (لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ، لا شَرِيكَ لَهُ) أي : هى خالصة لله لا أشرك فيها غيره ، (وَبِذلِكَ) أي : بذلك القول والإخلاص ، أمرنى ربى ، (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) ؛ لأن إسلام كل نبى متقدم على إسلام أمته

(قُلْ) لهم : (أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا) فأشرك مع الله ، (وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) ؛ لأن كل شىء مربوب لا يصلح للربوبية. وهو جواب عن دعائهم له إلى عبادة آلهتهم. (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) من شرك أو غيره (إِلَّا عَلَيْها) وزره ، فلا ينفعنى ضمانكم وكفالتكم من عقاب ربى ، وهو رد على الكفار حيث قالوا له : اعبد آلهتنا ونحن نتكفل لك بكل تباعة تتوقعها فى دنياك وأخراك ، ثم أوضح ذلك بقوله : (وَلا تَزِرُ) أي : تحمل نفس (وازِرَةٌ) أي : آثمة (وِزْرَ) نفس (أُخْرى) أي : لا يحمل أحد ذنوب أحد ، (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ) بالبعث والحساب ، (فَيُنَبِّئُكُمْ) ، أي : يخبركم (بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) من أمر الدين ؛ فيبين الرشد من الغى ، والمحق من المبطل.

الإشارة : الإخلاص سر من أسرار الله ، يودعه قلب من أحب من عباده ، وهو إخلاص العبودية لله وحده ، ولا يتحقق ذلك للعبد إلا بعد تحرره من رق الهوى وخروجه من سجن وجود نفسه ، وهذا شىء عزيز. ولذلك قيل

__________________

(١) الآية ٢ من سورة المؤمنون.

١٩٣

وقال الشيخ أبو طالب المكي رضى الله عنه : الإخلاص عند المخلصين : إخراج الخلق من معاملة الخالق ، وأول الخلق : النفس ، والإخلاص عند المحبين : ألا يعمل عملا لأجل النفس ، وألّا يدخل عليه مطالعة العوض ، أو تشوف إلى حظ طبع ، والإخلاص عند الموحدين : خروج الخلق من النظر إليهم ، أي : لا يرون مع الله غيره فى الأفعال ، وترك السكون إليهم ، والاستراحة إليهم فى الأحوال. ه.

وبالإخلاص تتفاوت الدرجات ، كما أبان ذلك بقوله :

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥))

يقول الحق جل جلاله : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) أي : يخلف بعضكم بعضا ، أو خلفاء الله فى أرضه ؛ تتصرفون فيها بإذنه على أن الخطاب عام ، أو خلفاء الأمم السابقة ، على أن الخطاب للمسلمين ، (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) فى الشرف والغناء والقوة والجاه ، وفى العلوم والأعمال والأحوال والإخلاص والمعارف ، وغير ذلك مما يقع به التفاضل بين العباد ، (لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) أي : ليختبر شكركم على ما أعطاكم ، وأعمالكم فيما مكنكم فيه من الخلافة.

(إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ) لمن كفر نعمه ، إما فى الدنيا لمن عجل أخذه ؛ لأن كل آت قريب ، (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن شكر نعمه وآمن وعمل بطاعته ، جمع بين التخويف والترجية ليكون العبد بينهما. وبالله التوفيق.

الإشارة : من شرف هذا الآدمي أن جعله خليفة عنه ، فى ملكه ، يتصرف فيه بنيابته عنه ، ثم إن هذا التصرف يتفاوت على قدر الهمم ، فبقدر ما ترتفع الهمة عن هذا العالم يقع للروح التصرف فى هذا الوجود ، فالعوام إنما يتصرفون فيما ملّكهم الله من الأملاك الحسية. والخواص يتصرفون بالهمة فى الوجود بأسره ، وخواص الخواص يتصرفون بالله ، أمرهم بأمر الله ، إن قالوا لشىء : كن ـ يكون بإذن الله ، مع إرادة الله وسابق علمه وقدره ، وإلا فالهمم لا تخرق أسوار الأقدار ، والحاصل : أن من بقي مع الأكوان شهودا وافتقارا ، كان محبوسا معها ، ومن كان مع المكون كانت الأكوان معه ، يتصرف فيها بإذن الله ، خليفة عنه فيها ، وهم متفاوتون فى ذلك كما تقدم.

وقال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) أي : خلفاء عنه تتصرفون فى الوجود بأسره بأرواحكم ، وأنتم فى الأرض بأشباحكم ، (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) ؛ من أقطاب وأوتاد ونجباء ونقباء وغير ذلك ، مما هو مذكور فى محله. خرطنا الله فى سلكهم ومنحنا ما منحهم ، بمنّه وكرمه ، وبسيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حبيبه ونبيه. آمين ـ والحمد لله رب العالمين.

١٩٤

سورة الأعراف

هى مكية إلا ثمانى آيات ، من قوله تعالى : (وَسْئَلْهُمْ) إلى قوله تعالى : (وَإِذْ نَتَقْنَا) ، وقيل : إلى قوله : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ). وآياتها : مائتان وخمس. قاله البيضاوي. ومضمنها : الحث على اتباع ما أنزله على نبيه من التوحيد والأحكام ، والتحذير من مخالفته ومتابعة الشيطان ، وذكر وبال من تبعه من القرون الماضية ، وما لحقهم من الهلاك فى الدنيا والعذاب فى الآخرة ، تتميما لقوله : (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (١).

وافتتح السورة بالرموز التي بينه وبين حبيبه ، فقال :

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ المص (١))

إما أن تكون مختصرة من المصطفى ، على عادة العشاق ؛ يرمزون إلى ذكر بعض حروف المحبوب ، اتقاء الرقباء ، أي : يا أيها المصطفى المختار لرسالتنا ؛ هذا كتاب أنزل إليك ، وإما أن تشير إلى العوالم الثلاثة : الجبروت والملكوت والملك. وزاد هنا الصاد ، إشارة إلى صدقه فيما يخبر به من علم الغيوب ، ولذلك ذكر هنا جملة من القصص والأخبار.

وقال الورتجبي : كان الله ـ تبارك وتعالى ـ إذا أراد أن يتكلم مع نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقصص الأنبياء ، وما جرى عليهم فى الدهور والأعصار ، وشأنه معهم فى الأسرار والحقائق والشرائع ، وأراد أن يخصه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشريعته ، وما يكون من طريقته الخاصة إلى حضرته ، ويخبره بما كان وما يكون ، أشار إلى هذه الأشياء بحروف التهجي ، وأعلمه سر ذلك بخفي الإشارة ولطيف الخطاب ، وعلم تعالى أنه عليه الصلاة والسلام يعرف بتلك الإشارة مراده من علم سابق ، ونبأ صادق ، وعلم تعالى أن عموم أمته لا تعرف تلك الإشارة ، فعبّر عنها بسورة طويلة من القرآن ؛ ليعرفوا مراده سبحانه من خطابه ، وخواص أمته ربما تطلع على سر بعضها ، كالصحابة والتابعين والمتقدمين من العلماء والأولياء ، كأنّ حروف المقطعات رموز ومعانى سور القرآن ، لا يعرف تلك الرموز إلا الربانيون والأحبار من الصديقين. ه.

__________________

(١) من الآية ١٦٥ من سورة الأنعام.

١٩٥

ثم ذكر حكمة إنزال الكتاب ، فقال :

(كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢))

قلت : (كتاب) : خبر ، أي : هذا كتاب ، و (أنزل) : صفته ، والحرج : الضيق ، و (لتنذر) : متعلق بأنزل ، أو بلا يكن ، لأنه إذا أيقن أنه من عند الله جسر على الإنذار ، وكذا إذا لم يخفهم ، و (ذكرى) : يحتمل النصب بإضمار فعل ، أي : لتنذر ولتذكر ذكرى ، والجر عطف على (لتنذر) ، أي : للإنذار والتذكير ، والرفع عطف على (كتاب).

يقول الحق جل جلاله : هذا (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) من ربك ، (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) أي : ضيق وثقل من أجل تبليغه لمن يكذب به ، مخافة أن تكذّب فيه ، أو مخافة أن تقصر على القيام بتبليغه ، أو بحقوقه ، وتوجيه النهى إلى الحرج للمبالغة ، كقولك : لا أرينك هاهنا ، كأنه قال : فلا يحرج صدرك منه ، وإنما أنزلناه إليك لتنذر به من بلغه ، (وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) أي : وتذكيرا وموعظة للمؤمنين ؛ لأنهم هم المنتفعون بمواعظه.

الإشارة : تذكير أهل الإنكار ووعظهم يحتاج إلى سياسة كبيرة وحلم كبير وصبر عظيم ، لا يطيقه إلا الأكابر من أهل العلم بالله ؛ كالأنبياء والصديقين ، لسعة معرفتهم ، واتساع صدورهم لحمل الجفاء وتحمل الأذى ، ونهيه تعالى لنبيه ـ عليه الصلاة والسلام ـ عن ضيق صدره : تشريع لورثته من بعده ؛ الداعون إلى الله ـ عزوجل وإلّا فهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحر واسع ، لا تكدره الدّلاء ، كما قال البوصيرى.

فهو البحر والأنام إضاء (١) والله تعالى أعلم.

ثم حضّ على الإتباع ، فقال :

(اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٣))

قلت : (قليلا) : صفة لمصدر ، أو زمان محذوف ، أي : تتذكرون تذكرا قليلا ، أو زمانا قليلا ، والعامل فيه : تذكرون ، و (ما) : زائدة لتأكيد القلة.

__________________

(١) الإضاءة : جمع إضاءة ، وهى : الغدران ـ جمع غدير. قلت : وهذا شطر بيت ، أوله : لا تقس بالنبيّ فى الفضل خلقا.

١٩٦

يقول الحق جل جلاله : (اتَّبِعُوا) أيها الناس (ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) من أحكام القرآن والسنة ؛ إذ كله وحي يوحى ، (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) (١) ، (وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ) أي : الله ، (أَوْلِياءَ) من الجن والإنس يضلونكم عن دينه ، أو : ولا تتبعوا من دون ما أنزل إليكم أولياء ، تتبعونهم فيما يأمرونكم به وينهونكم ، وتتركون ما أنزل إليكم من ربكم ، (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) : تتعظون حيث تتركون دين الله وتتبعون غيره ، بعد كمال إنذاره ووضوح تذكاره ، وذلك لانطماس البصيرة وعمى القلوب ، والعياذ بالله.

الإشارة : اتباع الحبيب فى أمره ونهيه يدل على صحة دعوى المحبة ، ومخالفته يدل على بطلانها.

تعصى الإله وأنت تظهر حبّه

هذا محال فى القياس بديع

لو كان حبّك صادقا لأطعته

إنّ المحب لمن يحبّ مطيع (٢)

وجمع المحبة فى محبوب واحد يدل على كمالها ، وتفرق المحبة يدل على ضعفها ، ولذلك قال الشاعر :

كانت لقلبى أهواء مفرقة

فاستجمعت مذ رأتك العين أهوائى

فلا تجتمع المحبة فى محبوب واحد إلا بعد كمال معرفة المحبوب ، وشهود أنوار جماله وكمال أسراره. والله تعالى أعلم.

ثم ذكر وبال من لم يتبع ، فقال :

(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٥) فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (٧))

قلت : (كم) : خبرية ، مفعول (أهلكنا) ، وهو على حذف الإرادة ، أي : فى الحال أردنا إهلاكها ، و (بياتا أو هم قائلون) : حالان ، أي : بائتين أو قائلين ، وأغنى الضمير فى (هم) عن واو الحال.

__________________

(١) الآية ٥ من سورة النجم.

(٢) البيتان لعبد الله بن المبارك.

١٩٧

يقول الحق جل جلاله : كثيرا من القرى (أَهْلَكْناها) لما عصت أمرنا ، وخالفت ما جاءت به رسلنا ، (فَجاءَها بَأْسُنا) أي : عذابنا (بَياتاً) أي : ليلا ، كقوم لوط ؛ قلبت مدينتهم ، عاليها سافلها ، وأرسلت عليهم الحجارة بالسّحر ، (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) نصف النهار ، كقوم شعيب ، نزلت عليهم نار فأحرقتهم ، وهو عذاب يوم الظلة ، وإنما خص الوقتين ؛ لأنهما وقت دعة واستراحة ، فيكون مجيىء العذاب فيهما أفظع.

(فَما كانَ دَعْواهُمْ) أي : دعاؤهم واستغاثتهم حين جاءهم بأسنا ، (إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) أي : إلا اعترافهم بظلمهم فيما كانوا عليه وبطلانه ، تحسرا ، أو : ما كان دعاؤهم إلا قولهم : (.. يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ ، فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ) (١) : ميتين ، فإذا أحييناهم وبعثناهم من قبورهم ، فو الله (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ) عن قبول الرسالة وإجابة الرسل ، (وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) عما أجيبوا به ، والمراد بهذا السؤال : توبيخ الكفرة وتقريعهم ، وأما قوله تعالى : (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) (٢) فالمنفى : سؤال استعلام ؛ لأن الله أحاط بهم علما ، أو الأول فى موقف الحساب ، وهذا عند حصول العقاب.

(فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ) أي : على الرسل والأمم ، فنقص على الرسل ما قوبلوا به من تصديق أو تكذيب ، وعلى الأمم ما قابلوا به الرسل من تعظيم أو إنكار ، أو فلنقص على الرسل ما علمنا من قومهم حين يقولون : (لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) (٣). نقص ذلك عليهم (بِعِلْمٍ) وتحقيق ؛ لاطلاعنا على أحوالهم ، وإحاطة علمنا بسرهم وعلانتيهم. (وَما كُنَّا غائِبِينَ) عنهم ، فيخفى علينا شىء من أحوالهم ، بل كنا حاضرين لديهم ، محيطين بسرهم وعلانيتهم.

الإشارة : ما أهلك الله قوما وعذبهم إلا بتضييع الشرائع أو إنكار الحقائق ، فمن قام بهما معا كان مصحوبا بالسلامة ، موصوفا بالكرامة فى الدارين ، ومن ضيعهما أو أحدهما لحقه الوبال فى الدارين ، فإذا لحقه إهلاك لم يسعه إلا الإقرار بالظلم والتقصير ، حيث فاته الحزم والتشمير ، فإذا ندم لم ينفعه الندم ، حيث زلت به القدم ، فالبدار البدار إلى التوبة والانكسار ، والتمسك بشريعة النبي المختار ، والتحقق بمعرفة الواحد القهار ، وصحبة الصالحين الأبرار ، والعارفين الكبار ، قبل أن تصير إلى قبرك فتجده إما روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النار.

وكما أن الحق تعالى يسأل الرسل عما أجيبوا به ، يسأل خلفاءهم ـ وهم الأولياء والعارفون ـ عما إذا قوبلوا من تعظيم أو إنكار ، فيرفع من عظمهم فى أعلى عليين ، ويحط من أنكرهم فى محل أهل اليمين. وبالله التوفيق.

__________________

(١) الآيتان ١٤ ـ ١٥ من سورة الأنبياء.

(٢) الآية ٧٨ من سورة القصص.

(٣) من الآية ١٠٩ من سورة المائدة.

١٩٨

ثم ذكر مقادير الأعمال ووزنها ، فقال :

(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (٩))

قلت : (الوزن) : مبتدأ ، و (يومئذ) : خبره ، و (الحق) : صفته ، أي : الوزن العدل حاصل يومئذ.

يقول الحق جل جلاله : (وَالْوَزْنُ) أي : وزن الأعمال ، على نعت الحق والعدل ، حاصل يوم القيامة ، حين يسأل الرسل والمرسل إليهم. والجمهور على أن صحائف الأعمال توزن بميزان له لسان وكفتان ، ينظر إليه الخلائق ؛ إظهارا للمعدلة وقطعا للمعذرة ، كما يسألهم عن أعمالهم ، فتعترف بها ألسنتهم ، وتشهد بها جوارحهم ، ويؤيده ما روى : «أن الرجل يؤتى به إلى الميزان ، فينشر عليه تسعة وتسعون سجلا ، كلّ سجلّ مد البصر ، فتخرج له بطاقة فيها كلمة الشهادة ، فتوضع السّجلّات فى كفة ، والبطاقة فى كفة ، فتثقل البطاقة ، وتطيش السّجلّات» (١).

وقيل : توزن الأشخاص ؛ لما روى عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إنّه ليأتى العظيم السّمين يوم القيامة لا يزن عند الله تعالى جناح بعوضة» (٢). والتحقيق : أن المراد به الإهانة والتصغير ، وأنه لا يساوى عند الله شيئا ؛ لاتباعه الهوى.

ثم فصل فى الأعمال فقال : (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) أي : حسناته ، أو الميزان الذي يوزن به حسناته ، وجمعه باعتبار اختلاف الموزونات وتعدد الوزن ، فعلى الأول هو جمع موزون ، وعلى الثاني جمع ميزان ، فمن رجحت حسناته (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بالنجاة والثواب الدائم ، (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) بتضييع الفطرة السليمة التي فطروا عليها ، واقتراف ما عرضها للهلاك ، (بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) حيث بدلوا التصديق بها بالتكذيب ، والعمل فيها بالتفريط. نسأل الله تعالى الحفظ.

الإشارة : العمل الذي يثقل على النفس كله ثقيل فى الميزان ؛ لأنه لا يثقل عليها إلا ما كان حقا ، والعمل الذي يخف على النفس كله خفيف ؛ لأنه فيه نوع من الهوى ؛ إذ لا يخف عليها إلا ما لها فيه حظ وهوى. وفى الحكم :

__________________

(١) أخرجه بنحوه الإمام أحمد فى المسند ٢ / ٢١٣ والترمذي فى (الإيمان ، باب فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله) وابن ماجه فى (الزهد ، باب ما يرجى من رحمة الله يوم القيامة) وصححه الحاكم ١ / ٦ ، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.

(٢) أخرجه البخاري فى (تفسير سورة الكهف ، باب : «أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم ..») ومسلم فى (صفات المنافقين وأحكامهم ، باب صفة القيامة ..) من حديث أبى هريرة.

١٩٩

«إذا التبس عليك أمران ، فانظر أثقلهما على النفس فاتبعه ؛ فإنه لا يثقل عليها إلا ما كان حقا». وقال أبو بكر الصديق رضى الله عنه : والله ما ثقل ميزان عبد إلا باتباعه الحق ، وما خف إلا باتباعه الهوى. قال تعالى : (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ). ه. بمعناه ، ذكره فى القوت. وهذا فى غير النفس المطمئنة ، وأما هى فلا يثقل عليها شىء ، وقد يثقل عليها الباطل ، ويخف عليها الحق ، لكمال رياضتها. والله تبارك وتعالى أعلم.

ثم ذكّرهم بالنعم ، فقال :

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (١٠))

يقول الحق جل جلاله : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ) ؛ تتصرفون فيها بالبناء والسكن ، وبالغرس والحرث والزرع ، وغير ذلك من أنواع التصرفات ، (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) : أسبابا تعيشون بها ؛ كالتجارة وسائر الحرف ، (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) على هذه النعم ، فتقابلون المنعم بالكفر والعصيان ، فأنتم جديرون بسلبها عنكم ، وإبدالها بالنقم ، لو لا فضله ورحمته.

الإشارة : نعمة التمكين فى الأرض متحققة فى أهل التجريد ، المنقطعين إلى الله تعالى ، فهم يذهبون فى الأرض حيث شاءوا ، ومائدتهم ممدودة يأكلون منها حيث شاءوا ، فهم متمكنون من أمر دينهم ؛ لقلة عوائدهم ، ومن أمر دنياهم ؛ لأنها قائمة بالله ، تجرى عليهم أرزاقهم من حيث لا يحتسبون ، تخدمهم ولا يخدمونها ؛ «يا دنياى اخدمي من خدمنى ، وأتعبى من خدمك». فمن قصّر منهم فى الشكر توجه إليه العتاب بقوله : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ) إلى قوله : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) ، ومن تحقق شكره قيل له : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) (١). والله تعالى أعلم.

ولما ذكر نعمة الإمداد أتبعه بنعمة الإيجاد ، فقال :

(وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣)

__________________

(١) الآيتان : ٥ ـ ٦ من سورة القصص.

٢٠٠