تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٣

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي

تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠

ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١)

قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٧٤) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٧٥))

البيان : أي قد انتهى الى حدوده. وقصر عن الوصول اليها. ووقف دونها لا يبلغها. (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا : أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ) وهذه كانت العقدة التي يقف أمامها الذين كفروا دائما. يقولون هذا وتقف هذه الصورة المادية بينهم وبين تصور الحياة الاخرى. وينسون أنهم خلقوا أول مرة. ولم يكونوا من قبل شيئا. ولا يدري أحدهم أين كانت الخلايا والذرات التي تكونت منها هيا كلهم الاولى. فهل عجب أن يكونوا كذلك في المرة الاخرة. ولكنهم لا يفقهون : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ).

وهنا يلمس قلوبهم بتوجيهها الى مصارع الذين كذبوا قبلهم بالوعيد. ويسميهم المجرمين. وفي هذا التوجيه توسيع لآفاق تفكيرهم. فالجيل من البشر ليس مقطوعا من شجرة البشرية. وهو محكوم بالسنن المتحكمة فيها. وما حدث للمجرمين من قبل ، يحدث للمجرمين من بعد فان السنن لا تحيد ولا تحابي. والسير في الارض يطلع النفوس على مثل هذا وأحوال ما فيها من عبر وعظة. وفيها تفتيح لنوافذ القلوب. (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ). وهذا النصّ يصوّر حساسيّة قلب الرسول ص وآله. وحزنه على مصير قومه الذي يعلمه جيدا. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) وهو يمهلهم ولا يهمهلم. مع علمه بما تكنه صدورهم والحساب سيجري على كل شيء أعلن أم اخفي (وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ). ويجول الفكر في السماء والارض فما فيهما من حركة ولا سكون الا مقيدة بعلم الخبير.

٥٢١

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١) وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (٨٢) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (٨٥))

البيان : لقد اختلف النصارى في المسيح (ع). فقالت جماعة أن المسيح هو أنسان محض كبقية البشر. وقالت جماعة : انه الاب والابن وروح القدس. ان هي الا امور مختلفة أعلن الله بها نفسه للناس. فالله بزعمهم من أقانيم ثلاثة : الاب. والابن. وروح القدس. والابن هو عيسى. فانحدر الله الذي هو الاب. في صورة روح القدس. وتجسد في مريم انسانا. وولد منها في صورة يسوع. وجماعة قالت : ان الابن ليس أزليا. كالاب. بل هو مخلوق من قبل العالم. ولذلك هو دون الاب. وخاضع له.

وجماعة انكروا كون روح القدس أقنوما. وقرر مجمع نيقية سنة (٣٢٥) ميلادية. ومجمع القسطنطينية سنة (٣٨١) بان الابن. وروح القدس مساويان للاب في وحدة اللاهوت وان الابن قد ولد منذ الأزل من الأب. وان الروح القدس منبثق من الأب.

وقرر مجمع طليطلة سنة (٥٨٩) : بان روح القدس منبثق من الابن أيضا. فاختلفت الكنيسة الشرقية. والكنيسة الغربية عند هذه النقطة وقفت وظلتا مختلفتين.

فجاء القرآن المجيد يقول كلمة الفصل بين هؤلاء جميعا وقال عن المسيح (ع) :

٥٢٢

(انه كلمه الله ألقاها الى مريم وروح منه وانه بشر : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) ...

(إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ. مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) وكان هذا فصل الخطاب ولكن حب الرياسة والدنيا منع أهله الاذعان الى الحق والعدل حين بان لهم.

واختلفوا في مسألة صلبه مثل هذا الاختلاف. فمنهم من قال :انه صلب حتى مات ودفن. ثم قام من قبره بعد ثلاثة ايام. وارتفع الى السماء.

ومنهم من قال : ان يهوذا أحد حوارييه الذي خانه ودل عليه القى عليه شبح المسيح وصلب.

ومنهم من قال : ألقى شبهه على الحواري سيمون وأخذ به. وقد قص القرآن المجيد الخبر اليقين. فقال : / (ما صلبوه وما قتلوه ولكن شبه لهم) وقال عزوجل : (يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ) وكانت كلمة الفصل في هذا الاختلاف لو أنصف أهله. ولكن خدعتهم الدنيا بزخارفها.

ومن قبل حرّف اليهود التوراة. وعدلوا تشريعاتها الالهية حتى توافق أهواءهم وأغراضهم. ثم جاء القرآن المجيد يثبت الاصل الذي أنزله الله عزوجل : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ ، وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ. وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ. وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ. وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ)

وحدثهم حديث الصدق عن تاريخهم وأنبيائهم. مجردا من الاساطير الكثيرة التي اختلفت رواياتهم بها. مطهرا للكتب الالهية من الاقذار التي ألصقها بها الاشرار. ولكن الدنيا خداعة غرارة. وهذا القرآن المجيد المهيمن على الكتب كلها يحكم بينهم فيما اختلفوا فيه

٥٢٣

(وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (هدى) يقيهم من الاختلاف والضلال. ويوحد المنهج. ويعين الطريق المستقيم. (وَرَحْمَةٌ) ينشلهم من الشك والحيرة. والتخبط بين النظريات الفاسدة. ويصلهم بخالقهم العظيم ليحميهم من كل خوف. ويكفلهم من كل حاجة. ويعافيهم من كل بلاء وداء. حتى يعيشوا في سلام وأمان. (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ ...)

عن امير المؤمنين (ع) في حديث بعد أن ذكر الدجال ومن يقتله قال : ألا ان بعد ذلك الطامة الكبرى قال : خروج دابة الارض من عند الصفا. معها خاتم سليمان. وعصا موسى (ع) تضع الخاتم على وجه كل مؤمن فينطبع : هذا مؤمن حقا. وتضع العصا على وجه كل كافر فيكتب هذا كافر حقا. حتى أن المؤمن لينادي : الويل لك يا كافر. وان الكافر ينادي : طوبى لك يا مؤمن. وددت اني كنت مثلك. فأفوز فوزا عظيما.

ثم ترفع الدابة رأسها من بين الخافقين باذن الله جل جلاله. وذلك بعد طوع الشمس من مغربها. فعند ذلك ترفع التوبة. فلا تقبل توبة ولا عمل يرفع. (لا ينفع نفسا ايمانها لم تكن آمنت من قبل (أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً). ثم لا تسألوني عما يكون بعد هذا. فانه الي عهد حبيبي رسول الله ص وآله. ان لا اخبر به غير عتري ...) الحديث.

(يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ)

عن الائمة الاطهار (ع) : ان الله تعالى سيعيد عند قيام المهدي قوما ممن تقدم موتهم من أوليائه وشيعته. ليفوزوا بثواب نصرته ومعونته. ويبتهجوا بظهور دولته. ويعيد أيضا قوما من أعدائه.

٥٢٤

لينتقم منهم. وينالوا بعض ما يستحقونه من العقاب في القتل على يدي شيعته. والذل والخزي مما يشاهدون من علو كلمته. ولا يشك عاقل أن هذا مقدور لله عزوجل. وقد فعل في أمم سالفة. ونطق القرآن بذلك في عدة مواضع. مثل قصة عزير وعزة. والذين خرجوا من ديارهم حذر الموت فأماتهم الله ثم أحياهم. وقد ورد عن النبي ص وآله انه قال : سيكون في امتي كل ما كان في بني اسرائيل. حذو النعل بالنعل. والقذة بالقذة. حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتموه) الحديث.

(أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦) وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (٨٧) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (٨٨) مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠) إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٣))

البيان : مشهد الليل الساكن. ومشهد النهار المبصر. خليقان يوقظان في الانسان وجدانا دينيا. يجنح الى الاتصال بالله. الذي يقلب الليل والنهار. وهما آيتان كونيتان لمن استعدت نفسه للايمان.

ومن آيتي الليل والنهار في الارض. الحياة الآمنة المكفولة في ظل هذا النظام الالهي. الحق العدل. (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ...) الصور البوق ينفخ فيه ـ اسرافيل (ع) ـ وهذه هي نفخة الفزع الذي يشمل كل من في السموات والارض الا من شاء الله (وَتَرَى الْجِبالَ

٥٢٥

تَحْسَبُها جامِدَةً. وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ) يتجلّى صنع الله واتقانه في كل شيء في هذا الوجود. فلا فلتة. ولا صدفة. ولا ثغرة. ولا فطور.

ولا نقص ولا تفاوت ولا نسيان. بل كل شيء بتدبر واتقان. فلا يعثر على خلة في خلق الله تعالى.

(إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ) وهذا يوم الحساب قدره الله عزوجل الذي اتقن كل شيء. وجاء به ليؤدي دوره في سنة الخلق عن حكمة وتدبير. وليحقق التناسق بين العمل والجزاء.

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) والامن من هذا الفزع هو وحده جزاء. وما بعده فضل من الله.

(وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) وهو مشهد وهم يكبون في النار. على وجوههم.

(إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ) وهم كانوا يدينون بحرمة البلدة والبيت الحرام.

(وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) فالقرآن هو كتاب هذه الدعوة. ودستورها ووسيلتها كذلك. وقد أمر أن يجاهد به الكفار. وفيه وحده الكفاية والوقاية. وفيه غذاء للبصائر والالباب. وفيه ما يزلزل القلوب الحاسة يهزها هزا. ويخرجها من كل سهو وغفلة. وسكون وجمود.

(فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ. وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ : إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ).

وفي هذا تتمثل فردية التبعة في ميزان الله العزيز الحكيم. فيما يختص بالهدى والضلال. وفي فردية التبعة تتمثل كرامة هذا الانسان.

٥٢٦

التي يضمنها الاسلام. فلا يساق سوق الاغنام الى الايمان. وانما تنجذب القلوب والبصائر الى الايمان والاذعان من قوة الدليل والبرهان وتلزمه بالعمل النافع المفيد. وترك المضر المخسر. وفق منهج الخالق العظيم الحق العدل. الذي يخاطب الفطرة في أعماقها. وفق ناموسها المتسق مع منهج القرآن المجيد.

(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها) وصدق الله العظيم. وصدق رسوله الصادق الامين. ففي كل يوم يرى عباده بعض آياته في الانفس والآفاق. ويكشف لهم عن بعض اسرار هذا الكون الحافل بالاسرار الذي هو في أحسن تكوين (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) وهكذا يلقى اليهم في الختام هذا الايقاع الاخير. في هذا التعبير المفلوف اللطيف. المخيف. ثم يدعهم يختارون ما يشاؤون اما الطاعة واما العصيان. اما الرحمة واما العذاب. اما الجنة ونعيمها الخالد. واما النار وعذابها الذي لا يطاق وليس له أمد ولا منتهى. والخيار بأيديهم واليهم ماداموا في قيد الحياة. فاذا انقطع الامل اغلق باب التوبة وانتهى الامر.

ـ ٢٨ ـ سورة القصص آياتها (٨٨) ثمان وثمانون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (٦))

٥٢٧

البيان (طا. سين. ميم) (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) تبدأ السورة بهذه الاحرف للتنبيه الى انه من مثلها تتألف آيات الكتاب المبين. البعيدة الرتبة. المتباعدة المدى بالقياس لما يتألف عادة من هذه الاحرف. في لغة البشر الفانين. (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) فهذا الكتاب المبين ليس اذن من عمل البشر. وهم لا يستطيعونه. انما هو الوحي الذي يتلوه الله على عبده. ويبدو فيه اعجاز صنعته. كما يبدو فيه طابع الحق المميز لهذه الصنعة في الكبير والصغير. (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ).

فالى القوم المؤمنين يوجه هذا الكتاب. يربّيهم به وينشئهم ويرسم لهم المنهاج. ويشقّ لهم الطريق وهذا القصص المتلو في السورة. مقصود به اولئك المؤمنين. وهم به ينتفعون.

والحلقات المعروضة من القصة هنا هي حلقة مولد موسى (ع) أحاط بهذا المولد من ظروف قاسية. وقد جاءت الحلقة الاولى في خمسة مشاهد. والحلقة الثانية في تسعة مشاهد. والحلقة الثالثة في أربعة مشاهد. وبين الحلقة والحلقة فجوة كبيرة. وبين كل مشهد ومشهد يسدل الستار ويرفع المنظر.

(إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً) هكذا يرسم المسرح الذي فيه تجري الحوادث. وتنكشف اليد التي تجربها. ولا يعرف على وجه التحديد من هو فرعون. الذي تجري حوادثه.

فالتحديد التاريخي ليس هدفا من أهداف القصة القرآنية. ويكفي أن نعلم ان هذا كان بعد زمان يوسف (ع) الذي استقدم أباه واخوته ـ وأبوه يعقوب بن ابراهيم (ع) (هو اسرائيل) وهؤلاء كانوا من ذريته. وقد تكاثروا في مصر وأصبحوا شعبا كبيرا.

٥٢٨

وتكبر فرعون وتجبر على بني اسرائيل لان لهم عقيدة تخالف عقيدة فرعون. فهم يدينون بدين جدهم ابراهيم (ع) ومهما يكن قد وقع في عقيدتهم من فساد وانحراف. فقد بقي لهم أصل الاعتقاد بآله واحد أحد.

وكذلك أحس فرعون أن هناك خطرا على عرشه. من وجود هذه الطائفة في مصر. ولم يكن يستطيع أن يطردهم منها وهم جماعة كبيرة أصبحت تعد مئات الالوف. فابتكر عندئذ طريقة للقضاء على الخطر الذي يتوقعه من هذه الطائفة التي لا تعبده ولا تعتقد بألوهيته فبعد اضطهادهم وتعذيبهم. بدأ بتذبيح الذكور من أطفالهم عند ولادتهم. واستبقاء الاناث. كي لا يتكاثروا وبعد أن علم أن مولودا سيولد منهم ويكون هلاكه على يده.

وقد وكل بكل حاملة من نسائهم قوابل من الاقباط ـ عشيرة فرعون ـ تذبح الذكور عند ولادتهم. (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) فهؤلاء المستضعفون الذين يتصرف فرعون في شأنهم. هؤلاء المستضعفون يريد الله أن يمن عليهم وأن يورثهم الارض المباركة. التي أعطاهم اياها. لقد ولد موسى في ظل تلك الاوضاع القاسية التي رسمها قبل البدء في القصة. ولد والخطر محدق به.

وها هي أمه حائرة به. خائفة عليه. تخشى أن يصل خبره الى الجلادين. وترجف على عنقه السكين. ها هي ذي بطفلها الصغير في قلب المخافة. عاجزة عن حمايته. عاجزة عن اخفائه.

هنا تتدخل يد القدرة القاهرة. فتتصل بالام الوجلة القلقة المذعورة. وتهدىء روعتها وتبشرها.

٥٢٩

(وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ. فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ. وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي) (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ).

يا لها من قدرة لا تقهر ولا تغلب. فلا خوف على حياته ولا حزن على بعده (وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ). يا لها من كفالة. ويا لها من ضمانة. ويا لها من بشارة. وينزل هذا الايحاء على القلب الواجف المرعوب.(فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ) أهذا هو الامن ـ حسب ظاهر الامر ـ أهذا هو الضمان. أهذه هي البشارة ـ

وهل كانت المسكينة تخشى عليه الا من آل فرعون. وهل كانت تخاف الا أن يقع في أيدي آل فرعون. نعم كل ذلك كان. ولكنها القدرة الالهية ، التي تتحدى كل مخلوق مهما كان شكله وامكانه. حتى لو كان فرعون وهامان وجنودهما الذين يتتبعون الذكور. من مواليد بني اسرائيل لئلا يولد موسى الذين اخبر المنجمون ان هلاك فرعون يكون على يده.

ولكن الارادة الالهية ، قد أجبرت فرعون نفسه أن يربي موسى ويحافظ على حياته من كل ما يؤذيه. وان يكرم امه ويترجاها في رضاع موسى وحضانته. مع الشكر الجزيل. فها هي يد القدرة تلقي في أيديهم عدوهم بلا تعب وتجبرهم بتربيته وحضانته فاعتبروا يا أولي الالباب.

(وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧)

فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠))

٥٣٠

البيان : (وقالت أمرأة فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه) لقد اقتحمت به يد القدرة على فرعون في قلب امرأته. بعد أن اقتحمت به عليه حصنه. لقد حمته بالمحبة. لا بالسلاح. حمته بالحب في قلب امرأة. وهان فرعون على الله ان يحمي منه الطفل الضعيف بغير هذا الستار الشفيف. (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) وهو الذي تخبىء لهم الاقدار من ورائه الهلاك والدمار. (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) فيا للقدرة القادرة التي تتحداهم وتسخر منهم. وهم لا يشعرون. (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً ..) لقد سمعت الايحاء وألقت بطفلها الى الماء. ولكن أين هو ياترى وماذا فعلت به الامواج. كيف طلبت له السلامة في هذه المخافة وكادت أن تهتف كالمجنونة (لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها) ، ولم تسكت ام موسى عن البحث والمحاولة (وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ) اتبعي أثره. واعرفي خبره ان كان حيا. أو أكلته دواب البحر او وحوش البر. أو أين مقره ومرساه.

(وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣)

وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥))

البيان : ذهبت أخته تقصي أثره في حذر وخفية. وتتلمس خبره في الطريق والاسواق. فاذا بها تعرف أين ساقته القدرة التي ترعاه. وبصرت به عن بعد في أيدي خدم فرعون. (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ).

٥٣١

ان القدرة التي ترعاه. وتدبر امره. وينتهي المشهد الرابع فنجدنا أمام المشهد الاخير في هذه الحلقة. وقد عاد الطفل الغائب لأمه الملهوفة. وقد صاغت يد القدرة الحلقة الاولى من تدبيرها العجيب. (فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ. وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ). (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) وبلوغ الاشد اكتمال القوى الجسمية. والعقل والحكمة (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ).

وقد كان أحدهما قبطيا ـ يقال أنه من حاشية فرعون. والاخر اسرائيليا. فاستغاث الاسرائيلي بموسى (ع) (فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ ..) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ.)

لقد انتهت المعركة الاولى بالقضاء على القبطي. وندم موسى (ع) على فعلته. وتوجه الى ربه. ومر يوم وأصبح في المدينة خائفا من انكشاف أمره. يترقب الافتضاح والأذى. (خائِفاً يَتَرَقَّبُ) (فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ) (قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ)

(وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى) انها يد القدرة تسفر في اللحظة المطلوبة. لتتم مشيئتها. (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ). ومرة أخرى تلمح الواضحة في الشخصية الانفعالية.

(قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩) وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠))

٥٣٢

(فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥))

البيان : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى ...) فانتدبت يد القدرة الالهية واحد من آل فرعون وهو المؤمن الذي كان يكتم ايمانه ، فجاء في اهتمام واسراع ليبلغه ما تآمروا على قتله قبل وصولهم اليه.(فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ ...) ومرة أخرى تلمح الدعوة الالهية التي تكفلت بحماية نبيها موسى (ع) من كل من يكيده ولو كانوا أهل الارض والسماء. (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ ..) فريدا وحيدا مطاردا في الطريق الصحراوية في اتجاه مدين. في جنوب الشام وشمال الحجاز. بلا زاد ولا استعداد (عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي) وكان بينه وبين مدين مسافة ثلاثة أيام.

(وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ ...) لقد انتهى به السفر وهو يقتات من نبات الارض وماء الغدران فراشه الارض. وصل وهو مجهول مجهود. واذا هو يطلع على مشهد لا تستريح اليه نفوس الاحرار بفطرتها الاولى. وجد الرعاة الرجال يوردون أنعامهم لتشرب من الماء. ووجد هناك امرأتين تمنعان غنمهما عن ورود الماء. وكان الاولى عند ذوي المروءة والفطرة السليمة. ان تسقى المرأتان وقبل الرجال.

ولم يقعد موسى الهارب المطارد ليستريح. وهو يشهد هذا المنظر المخالف لكل معروف وغيرة. (قالَ ما خَطْبُكُما) (قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى

٥٣٣

يُصْدِرَ الرِّعاءُ ..) فأطلعناه على سبب انزوائهما لغنمهما انه الضعف فهما امرأتان وهؤلاء رعاة رجال. وأبوهما شيخ كبير.

وهنا ثارت نخوة الاحرار في ضمير موسى (ع) مهما به من تعب وعناء. فتقدم لاقرار الامر في نصابه. تقدم ليسقي للمرأتين اولا. كما ينبغي أن يفعل أهل الغيرة والشهامة. وان كان غريبا ولا سند له ولا ظهير. ولكن هذا كله لا يقعد به عن تلبية دواعي النجدة والمعروف المغروز به. (فَسَقى لَهُما) هذا مما يشهد بنبل هذه النفس البشرية لو تركت نظيفة كما أوجدها خالقها العظيم. (ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ) مما يشير الى أن الاوان كان أوان قيظ وحر شديد. ولم يزل متعب مجهد (فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) انه يأوى الى ظل زائل. ويتوسل بظل لا يزول وركن من دخله كان من الآمنين. من كل ما يخافه ويخشاه مكفول من كل ما يلزمه ويحتاج اليه.

وما نكاد نستغرق مع موسى (ع) في مشهد المناجاة ، حتى يعجل المناجي بالفرج القريب كأنما السماء تسارع فتستجيب للقلب الضارع الغريب (فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ).

يا فرج الله ويا رحمة الله الحنان. (تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ) مشية الفتاة الطاهرة الفاضلة العفيفة. حين تلقى الرجال (عَلَى اسْتِحْياءٍ) في غير تبذل ولا تبرج ولا اغواء. جاءت لتنهي اليه دعوة والدها الشيخ.(إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا) فمع الحياء والعفاف والابانة البليغة. فالفتاة الطاهرة تستحي بفطرتها عند لقاء الرجال. والحديث معهم ولا تتكلم الا بمقدار الضرورة. (فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ) فقد كان موسى في حاجة الى الامن كما كان في حاجة الى الطعام والراحة. لذلك قال له الشيخ ـ لما عرف أمره ـ (لا تَخَفْ نَجَوْتَ) فلا سلطان لهم على مدين ولا يصلون اليك.

٥٣٤

ثم نسمع في المشهد صوت الانوثة المستقيمة السليمة. (قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ).

(قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٢٨) فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠))

البيان : انها واختها تعانيان من رعي الغنم. ومن مزاحمة الرعاة العناء الشديد ...

وموسى (ع) شاب غريب طريد. وهو في الوقت ذاته قوي أمين. فقد رأت من قوته في رفع الحجر عن فم البئر ما يعجز عن رفعه عدد من الرجال. وقد رأت من امانته انه أبى ان يمشي وراءها خشيت ان ينظر الى شخصها أو ينكشف شيء من جسمها فامرها ان تمشي هي وراءه وتشير اليه الى الطريق الموصلة الى أهلها. وهذه امانة الاحرار والاشراف الكبار. فالأمين على العرض بهذه المثابة فهو أمين على دون ذلك. وكل شيء عند العرض زهيد رخيص.

واستجاب الشيخ لاقتراح ابنته ـ بعد أن شرحت له ما رأت من قوته وامانته ـ في طريقها (قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ ..) بهذه البساطة والصراحة عرض الرجل احدى ابنتيه من غير تحديد ـ لعله كان يشعر انها محددة. وهي التي شرحت له قضية موسى بعد رجوعها من الماء. وهي التي ذهبت وراء موسى تستدعيه. وهي التي اقترحت على والدها ان يستأجره فمن خلال هذه الامارات كأنها تعينت هي المقصودة بالذات. وهي الاكبر سنا

٥٣٥

ولقد كان الآباء يعرضون بناتهم على الرجال على عهد رسول الله ص وآله. بل قد تعرض النساء أنفسهن على النبي ص وآله. وكان يتم كل ذلك بصراحة وبساطة. بخلاف عصرنا الميشوم (قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ) ان مواضع العقد وشروط التعاقد لا مجال للغموض فيه ولا حياء. ويقر موسى (ع) العرض ويبرم العقد (وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ).

وتمضي السنوات ـ والظاهر انها العشر ـ (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ ...) لقد نقلت يد القدرة الالهية خطى موسى (ع) خطوة خطوة. منذ أن كان رضيعا في المهد حتى هذه الحلقة. فقد ألقت به في اليم ليلتقطه آل فرعون. وألقت عليه المحبة في قلب فرعون وزوجته وأرسلت اليه الرجل المؤمن لينصحه بالخروج حذرا من فرعون وقومه. وصاحبته في الطريق الصحراوي من مصر الى مدين ثلاثة أيام وهو وحيدا على غير زاد. وجمعته بالشيخ شعيب (ع) ثم الان يعود بعد ما قضى الاجل مع الشيخ. وسار بأهله وساقته الى جانب الطور. انها اليد التي تنقل خطاه كلها لعلها قادته هذه المرة بالليل المظلم. وقد ضل الطريق. كما يبدو وشاهد النار (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ ...) وتلقى موسى النداء المباشر تلقاه وحيدا في ذلك الوادي العميق في ذلك الليل المظلم. تلقاه يتجاوب به الكون من حوله. وتمتلىء به السموات والارضون. وسجل ضمير الوجود ذلك النداء العلوي. وبوركت البقعة التي وجد فيها النداء. وتميز الوادي الذي كرمه النداء. ووقف موسى في أكرم موقف يلقاه انسان واستطرد النداء.

(وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٣٢)

٥٣٦

قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (٣٥))

البيان : فألقى موسى (ع) عصاه اطاعة لأمر مولاه. ولكن ماذا جرى. انها لم تعد عصا. بل انقلبت حية تسعى وتتحرك بخفة وسرعة وهي حية كبيرة. (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً) انها المفاجأة لتي لم تكن بحسبانه. ولم يفكر في العودة اليها بل تركها وولى مدبرا واذا النداء (يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) ان الخوف والامن قد يتعاقبان سريعا على نفس الانسان بدون اختيار اذا حصلت أسبابهما فجأة. وكيف لا يأمن من أيقن أن المخاطب له والمتكفل بذلك هو من بيده أزمة الامور. واذا قال للشيء كن فيكون مهما كان شكله وطبيعته (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) ولبى الطاعة موسى (ع) وادخل يده في فتحة ثوبه فاذا هي بيضاء لامعة مشعة من غير مرض ولا برص. وحصلت المفاجأة الثانية من غير احتمال انها اشارة الى اشراق الحق ووضوح الاية ونصاعة الدليل. وأدركت موسى طبيعته البشرية فاذا هو يرتجف من رهبة الموقف وخوارق ما شاهد. ومرة اخرى تدركه العناية الالهية (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) وكأنما يده جناح يقبضه على صدره. والتعبير يرسم ما شاهد وما رأى من الايتين الخارقتين. وقد ارتجف لهما فؤاده. والان اتضح له ما وراء ذلك والان استعد لان يتلقى التكليف الذي كان خالقه يعده له من طفوليته. ليتلقاه في هذا الحين (فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ ...) اذن فهي الرسالة الالهية تلقى على عاتق ابن عمران الذي وجد لأجل حملها والقيام بعبئها.

٥٣٧

وهذا هو الوعد الذي تلقته ام موسى حين امرت ان تلقاه في اليم يأخذه عدوه فيربيه رغم أنفه ويبذل في تربيته المال الجزيل من خزانته لأمه وهو الذي بذل فرعون قتل عشرين الف طفل حتى لا يولد من اخبر المنجمون أن زوال حياته تكون على يده. وهل لأمر الله مرد. وهنا يتذكر موسى (ع) انه قتل منهم نفسا. وانه خرج من بينهم طريدا. وانهم تآمروا على قتله. (قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) يقولها لا ليعتذر ولا ليتقاعس. ولا لينكس. بل ليحتاط لدعوته في نجاحها. وليزداد معرفة من خالقه في كيفية التصرف معهم. (وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي ..) فأراد تقوية دعوته بأخيه ويمكنه القيام بعده بتتميم الدعوة أن أصابه ما يمنعه من ذلك. أو أذا حصل له القتل منهم. (قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ ..) لقد استجاب ربه رجاءه فهما معا يذهبان الى فرعون مزودان بقوة لا تغلب ولا تقهر (وهي قوة الخالق العظيم) وزادهما عزوجل : بأن الغلبة لهما على فرعون وملئه (بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) فالقدرة الالهية تتجلى سافرة على مسرح الحوادث. وتؤدي دورها مكشوفا. هنا الايمان يظهر والثقة تبرز آثارها. (فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً ..) وكأنما هي ذات القولة التي يقولها المشركون لنبينا محمد ص وآله في مكة المكرمة. (ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً) فهي سلاح الطغاة في كل زمان ومكان عند مكافحة الحق والعدل لطغيانهم وضلالهم واستبدادهم على الضعفاء. (وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ. وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ). وهو رد مؤدب مهذب يلمح فيه ولا يصرح. وفي الوقت ذاته مليىء بالثقة الى عاقبة المواجهة وان الغلبة ستكون للحق على الباطل وللهدى على الضلال وللاصلاح على الفساد.

٥٣٨

(فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي

فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (٣٨) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (٤١) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢))

البيان : (فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً).

انها كلمة فاجر ماكر. يتلقاها الملأ بالاقرار والتسليم. وهم يرونة بشرا مثلهم كان معدوما ثم وجد ثم سيموت كبقية المخلوقات. ولكنها الاهواء والاغراض والتلاعب والمكر والخداع لاغواء العوام والبسطاء (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ..) (فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ) (هكذا في اختصار حاسم صدر اخذ شديد ونبذ في اليم الهائل. ذلك اليم الذي القي فيه ولد ام موسى الرضيع. فكان مأمنا وهو الذي اهلك فيه آخذه فرعون فكان له مهلكا. فالأمن صدر بحراسة الله تعالى لموسى (ع) والمهلك صدر من الله تعالى لفرعون وملأه (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) فهي عاقبة مشهودة معروضة لكل من له سمع وبصر. وفيها يد القدرة تعصف بالطغاة والمتجبرين في مثل لمح البصر (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) فهي الهزيمة في الدنيا وهي الهزيمة في الآخرة جزاء البغي والطغيان (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ) انما هي اللعنة في هذه الارض. والعذاب الشديد في الآخرة و (أَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً ...) ولفظة (المقبوحين) ترسم بذاتها صورة القبح والفضيحة. مقابل الاستكبار في الارض بغير الحق. والعدوان على

٥٣٩

عباد الله واستعبادهم. فهل يكون ما أصاب فرعون عظة لسواه لئلا يصيبهم ما أصابه اذا هم سلكوا مسلكه وساروا على خطه. فالويل لمن أعماهم حب المال والجاه عن هذه العظة.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦) وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٩) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠))

البيان : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ. مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى. بَصائِرَ لِلنَّاسِ ..) هذا نصيب موسى (ع) وهو نصيب عظيم. وقصة فرعون وما فعله به : بصائر للاولى الابصار وأولى البصائر (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) ويعتبرون ويرون كيف تدخلت يد القدرة الالهية. فنصرت الضعيف المظلوم. وأهلكت العاتي الجبار. بأسرع ما يكون فاعتبروا يا أولي الالباب. (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ) وهو الجانب الغربي من الطور الذي جعله الله ميقاتا مع موسى (ع) بعد أجل محدد .. ثلاثين ليلة. وأتمها بعشر. فكانت أربعين ليلة ..

وفي الميقات قضي الى موسى الامر في الالواح لتكون شريعته. في بني اسرائيل (وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً) (وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ

٥٤٠