تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٣

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي

تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠

من منا لم يذق الطعوم المختلفات في نبت البقلة في البقة الواحدة ، فكم منا التفت هذه اللفتة التي وجه القرآن اليها العقول والقلوب ، انه بمثل هذا يبقى القرآن جديدا مدى الابد لانه يجدد الاحاسيس البشرية بالمناظر والمشاهد في الكون والنفس ، وهي لا تنفد ولا يستقصيها انسان مهما عمر في الزمان. ولا تستقصيها البشرية في اجلها الموعود.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ومرة ثالثة نقف أمام التقابلات الفنية في اللوحة :

(والنخيل صنوان وغير صنوان والطعام مختلفات والزرع والنخيل والاعناب)

تلك الجولة الهائلة في آفاق الكون الفسيحة ، يعود منها السياق ليعجب من قوم ، هذه الآيات كلها في الافاق لا توقظ قلوبهم ، ولا تنبه عقولهم. ولا يلوح لهم من ورائها تدبير المدبر وقدرة الخالق العظيم. كأن عقولهم مغلولة. وكأن قلوبهم مقيدة. فلا تنطلق للتأمل في تلك الآيات.

وقد صدق الله العظيم حيث يقول : (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ـ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها. وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) عن الله تعالى وآياته

(وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٥) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (٧))

البيان : والذي خلق هذا الكون الضخم ودبره على هذا النحو ،

٢٢١

قادر على اعادة هذه الاجسام في بعث جديد كما قال عزوجل : (وَقالُوا : أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً).

(قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا. قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ).

هؤلاء القوم الذين يعجبون من أن يبعثهم الله خلقا جديدا ، وعجبهم هذا هو العجب. وهؤلاء هم الذين يستعجلونك ان تأتيهم بعذاب الله. بدلا من أن يطلبوا هدايته ويرجوا رحمته.

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) (وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ) فهم في غفلة حتى عن مصائر اسلافهم من بني البشر. وقد كان فيها مثل لمن يعتبر : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ .. وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ)

والله تعالى يقدم المغفرة على العقاب ، في مقابل تعجيل هؤلاء للعذاب على الهداية والرحمة. ليبدو الفارق الضخم الهائل بين الخير الذي يريده الله عزوجل لعباده ، والشر الذي يريده العباد لانفسهم ، ومن ورائه يظهر انطماس البصيرة وعمى القلب والانتكاس الذي يستحق درك النار :

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ. إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ)

انهم يطلبون خارقة ، والخوارق ليست من عمل الرسول ولا من اختصاصه ، انما يبعث بها الله معه ان شاء ذلك حين يرى بحكمته انها لازمة. (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ) محذر ومبصر. شأنك شأن كل رسول قبلك.

فقد بعث قبلك الرسل (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ).

(اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (٨) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (٩) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (١٠) لَهُ مُعَقِّباتٌ

٢٢٢

مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (١١))

البيان : يقف الحسّ مشدوها يرتعش تحت وقع هذه اللمسات العميقة في التصور وتحت ايقاع هذه النغمات العجيبة في التعبير ، يقف مشدوها وهو يقفو مسارب علم الله تعالى ومواقعه. وهو يتتبع الحمل المكنون في الارحام ، والسر المكنون في الصدور ، والحركة الخفية في جنح الليل. وكل مستخف وكل سارب وكل هامس وكل هاجر. وكل أولئك مكشوف تحت المجهر الكاشف ، يتتبعه شعاع من علم الله عزوجل : وتتعقبه حفظة تحصي خواطره ونواياه الا انها الرهبة الخاشعة التي لا تملك النفس معها الا ان تلجأ الى الله العزيز. فتطمئن في حماه. وان المؤمن بالله العظيم ، ليعلم أن علم الله يشمل كل شيء. ولكن وقع هذه القضية الكلية في الحس لا يقاس الى وقع مفرداتها كما يعرض السياق بعضها في هذا التصوير العجيب.

وأية قضية تجريدية ، وأية حقيقة كلية في هذا المجال من قوله عزوجل :

و (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ ، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ)

حين يذهب الخيال يتتبع كل انثى في هذا الكون ، المترامي الاطراف ، كل انثى .. كل انثى في الوبر والمدر. في البدو والحضر ، في البيوت والكهوف والمسارب والغابات ، ويتصور علم الله مطلا على كل حمل في أرحام هذه الاناث ، وعلى كل قطرة من دم تغيض او تزداد في تلك الارحام.

٢٢٣

واين أية قضية تجريدية ، واية حقيقة كلية في هذا المجال من قوله عزوجل :

(سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ. وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ. لَهُ مُعَقِّباتٌ)

حين يذهب الخيال يتتبع كل هامس وكل هاجر ، وكل مستخف وكل سارب في هذا الكون الهائل. ويتصور علم الله يتعقب كل فرد من بين يديه ومن خلفه ويقيد عليه كل شاردة وواردة اناء الليل واطراف النهار. انها القدرة الالهية الغير محدودة او مقيدة بحدود او قيود.

ان اللمسات الاولى في افاق الكون الهائل ليست بأضخم ولا اعمق من هذه اللمسات الاخيرة في أغوار النفس والغيب ومجاهيل السرائر ، وان هذه لكفء لتلك في مجال التقابل والتناظر. (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ). ولفظة (الْكَبِيرُ) ولفظة (الْمُتَعالِ) كلتاهما تلقى بيانها في الحس. ولكن يصعب تصوير ذلك البيان بألفاظ اخرى. انه ما من خلق حادث الا وفيه نقص : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ). فهو يتعقبهم بالحفظة من أمره لمراقبة ما يحدثونه من تغيير بانفسهم وأحوالهم فيرتب عليه الله تصرفه بهم فانه لا يغير نعمة او بؤسى ولا يغير عزا أو ذلة ، ولا يغير أمن أو خوف ، ولا يغير مكانة أو مهانة .. الا أن يغير الناس ، من مشاعرهم وأعمالهم وواقع حياتهم ، فيغير الله ما بهم وفق ما صارت اليه نفوسهم وأعمالهم.

وانها لحقيقة تلقى على البشرية ، وان تنفذ فيهم سنته بناء على تعرضهم لهذه السنة. والنص صريح في هذا لا يحتمل التأويل. وهو يحمل كذلك ـ الى جانب التبعة ـ دليل التكريم لهذا المخلوق الذي اقتضت مشيئة الله ، ان يكون هو بعمله أداة التنفيذ لمشيئة الله تعالى فيه.

٢٢٤

(وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ ، وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ)

حين يذهب الخيال يتتبع كل هامس وكل جاهر. يبرز السياق في هذا الجانب دون الجانب الاخر ، لانه في معرض الذين يستعجلون بالسيئة قبل الحسنة. وقد قدم لهم هناك الحسنة والمغفرة على العذاب ليبرز غفلتهم. وهنا يبرز السوء وحده لانذارهم حيث لا يرد عذابه اذا استحقوه بما فعلوا وصمموا على العصيان في أنفسهم بدون تغيير فلا ناصر لهم ولا واق.

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (١٣) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (١٤) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (١٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (١٦) أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ (١٧) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٨))

البيان : هو الله الذي يريكم هذه الظاهرة الكونية ، فهي ناشئة من طبيعة الكون التي خلقها هو على هذا النحو الخاص ، وجعل لها خصائصها وظواهرها. ومنها البرق الذي يريكم اياه وفق ناموسه. فتخافونه لانه بذاته يهزّ الاعصاب. ولانه قد يتحول الى صاعقة ، ولانه قد يكون نذيرا يسير مدمرا كما علمتكم تجاربكم. وتطمعون في الخير من ورائه. فقد يعقبه المطر المدرار المحيي المميت :

(لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ، وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ) والمشهد هنا تستجاب. انها دعوة الله ناطقة جاهدة ، فدعوة

٢٢٥

واحدة هي الحق. وهي التي تحقق وهي التي تستجاب ، انها دعوة الله والتوجه اليه والاعتماد عليه وطلب عونه ورحمته وهداه وما عداها باطل وما عداها ضائع وما عداها هباء. ألا ترون حال الداعين لغيره من الشركاء (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ). وفي الوقت الذي يتخذ هؤلاء الخائبون الهة من دون الله ويتوجهون اليهم بالرجاء والدعاء ، اذ كل من في الكون يعنو لله. وكلهم محكومون بارادته. مسيرون وفق ناموسه. المؤمن منهم يخضع طاعة وايمانا. وغير المؤمن يخضع أخذا وارغاما.

(أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا).

بالفعل الفارق بين الحق والباطل واضح ، وضوح الفارق بين الاعمى والبصير ، وبين الظلمات والنور. فالعمى وحده هو الذي يصدهم عن رؤية الحق الواضح الجاهر. الذي يحس بأثره كل من في السموات والارض أترى هؤلاء الذين اتخذوهم أولياء من دون الله. هل خلقوا مخلوقات كالتي خلقها الله عزوجل. فتشابهت على القوم هذه المخلوقات وتلك. فلم يدركوا التمييز بين الخلقين أم الله العلي العظيم هو الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا (قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ).

فهي الوحدانية في الخلق. وهي الوحدانية في القهر ـ أقصى درجات القوة والقدرة ـ فأين القلب الذي يصمد لهذا الهول. الا أن يكون قد طمست عليه الاجرامات فأعمته وأفقدته التمييز بين الخبيث والطيب : (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى). والذين لم يستجيبوا لهم سوء الدار) ويتقابل الذين يستجيبون مع الذين لم يستجيبوا وتتقابل الحسنى مع سوء الحساب والعذاب ومع جهنم وبئس المهاد. والى الله عزوجل مرجع العباد (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها).

٢٢٦

(أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤))

البيان : ان المقابل لمن يعلم انما أنزل اليك من ربك الحق ليس هو من لا يعلم هذا. انما المقابل هو الاعمى. وهو أسلوب رائع في لمس القلوب وتجسيم الفارق. وهو الحق في الوقت ذاته لا مبالغة فيه ولا زيادة ولا تحريف. فالعمى وحده هو الذي ينشىء من ارتكاب الجرائم والفساد. بهذه الحقيقة الكبرى الواضحة التي لا تخفى الا على أعمى ، والناس ازاء هذه الحقيقة الكبيرة صنفان : مبصرون فهم يعلمون. وعمي فهم لا يعلمون. والعمى هنا عمى البصيرة وانطماس المدارك واستغلاق القلوب. وانطفاء قبس المعرفة في الارواح وانفصالها عن مصدر الاشعاع. (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) الذين لهم عقول وقلوب مدركة تذكر بالحق فتتذكر وتنتبه الى دلائله فتتفكر وهذه صفات أولي الالباب.

اولئك (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ. وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) (وعهد الله مطلق يشمل كل عهد ، وميثاق الله مطلق يشمل كل ميثاق ، والعهد الاكبر بعد النبوة (الامامة) التي تقوم عليها كافة العهود. والميثاق الاكبر الذي تتجمع عليه المواثيق كلها هو ميثاق الوفاء بمقتضيات هذه الامامة بعد النبي ص وآله ، الى ابن عمه علي بن ابي طالب (ع).

وعهد الايمان بالامامة بعد كل نبي هو قديم من لدن آدم حتى خاتمهم محمد ص وآله. وهو الميثاق المأخوذ على الذرية في عالم الذر.

٢٢٧

ثم تترتب على العهد الالهي والميثاق الرباني كل العهود والمواثيق مع البشر سواء مع الرسول أو مع الامام (ع) أو مع الناس. فالذي يرعى العهد الاول يرعى سائر العهود للتلازم بينهم جميعا.

(وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ).

هكذا في اجمال فكل ما أمر الله به ان يوصل يصلونه. أي انها الطاعة الكاملة. والاستقامة الواصلة والسير على الشريعة الكاملة ، ووفق الناموس بلا انحراف ولا التواء. لهذا ترك التفصيل ..

(وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) فهي خشية لله عزوجل ومخافة عقابه ، الذي يسوء في يوم لقائه. وهم أولو الالباب الذين يتدبرون الحساب قبل الوصول اليه (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) والصبر مراتب واقسام. وأعلاه صبر التسليم لقضاء الله والاستسلام لمشيئته والرضى بقسمه (وَأَقامُوا الصَّلاةَ ، وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً) (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) وكل ذلك داخل في الوفاء بعهد الله وميثاقه. وداخل فيما أمر الله به ان يوصل.

وهم يقابلون السيئة بالحسنة في التعاملات اليومية لا في دين الله ، ولكن في معاملة الناس. (أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) في تلك الجنات يأتلف شملهم مع الصالحين من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ).

فهو مهر جان حافل باللقاء والسّلام والاكرام ، والترحاب (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ).

(وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥)

اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ

٢٢٨

الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (٢٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩))

البيان : انهم ينقضون عهد الله المأخوذ على الفطرة البشرية ، فمتى نقض العهد الاول فكل عهد قائم عليه منقوض من الاساس. والذي لا يرعى عهد الله فبالاولى ان لا يرعى عهد سواه من المخلوقات ، أولئك هم المبعدون المطرودون ولهم اللعنة ولهم سوء الدار.

(وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ) : ومتاع الدنيا مع كونه زائل وفان فانه مشوّه بالكدورات والمصائب والمتاعب التي تتضاخم بمقدار ما ينال المرء من هذه الدنيا الفانية : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا : لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ).

ان الرد على طلبهم آية خارقة. ان الايات ليست هي التي تقود الناس الى الايمان قهرا وجبرا مع العناد واتباع الاهواء ، واتباع الجرائم والفساد في الارض وظلم المخلوقات :

(الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ) : تطمئن باحساسها بالصلة بالله والانس بجواره والامن مع طاعته وفي حماه ، وكفالته.

وليس على وجه الارض أشقى ممن يحرمون هذه الطمأنينة في جنب الله وطاعته. ليس أشقى ممن ينطلق في هذه الارض مبتور الصلة بما حوله في الكون ، لانه انفصم عن العروة الوثقى التي تربطه بعناية الله عزوجل. ليس أشقى ممن يسير في الارض لا يدري لم جاء ولم يذهب. وما سيكون عاقبة مسيره. ليس أشقى في الحياة ممن يشق طريقه شاردا في ظلمات الهوى وعبودية الشهوات الحيوانية ، وحده بلا ناصر ولا معين.

٢٢٩

ان هناك ومضات في الحياة لا يصمد لها بشر الا ان يكون مرتكنا الى الله العلي العظيم. مطمئنا الى كفايته وحمايته. فمهما تراكمت حوله الاهوال فهو في أمن وأمان واطمئنان ففي الحياة لحظات تعصف لا يصمد لها الا المطمئنون بعناية الله وحراسته.

(كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (٣٠) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً

أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٣١))

البيان : العجب انهم يكفرون بالرحمن العظيم الذي تطمئن القلوب بذكره واستشعار رحمته.

ولقد صنع هذا القرآن المجيد في النفوس التي تلقته منفتحة ، وتكيفت به اكثر من تسيير الجبال ، لقد صنع في هذه النفوس خوارق أضخم آثارا في أقدار الحياة ، فكم غيّر الاسلام والمسلمون من وجه الارض ومن عليها. الى جانب ما غيّروا من وجه التاريخ الخالد.

وان طبيعة هذا القرآن ذاتها. طبيعته في دعوته وفي تعبيره وموضوعه وأدائه ، ان طبيعة هذا القرآن لتحتوي على قوة خارقة نافذة ، يحسها كل من له ذوق وبصر وادراك.

وهو تاريخ الامم والاجيال. ولقد أحيى ما هو احمد من الموتى : (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) فاذا كان قوم بعد هذا القرآن لم تتحرك قلوبهم ، فما أجدر بالمؤمنين الذين يحاولون تحريكها ان ييأسوا من القوم وان يدعوا الامر لله وحده (فلو شاء لهدى الناس) بالقوة والقهر. ولكن لم يرد هذا بل أراد ان يبين ويبرهن ويظهر الادلة والحقائق ويترك للناس

٢٣٠

ما يختارونه لانفسهم من خير أو شر. (وطاعة) وعصيان. وفي النهاية : أو جنّة او نار مع الخلود :

و (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ)

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٣٢) أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٣٤) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (٣٥))

البيان : الله رقيب على كل نفس يعلم كل حركة تتحركها. وكل لفظة تلفظها وكل شيء تضمره في داخلها. والله عالم بما كسبت في السر والعانية : (هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ). فلتتصور كل نفس ان عليها حارسا قائما عليها مشرفا مراقبا بحسابها بما كسبت. فأية نفس لا ترتعد لهذه الصورة. وهي في ذاتها حق ومع التعبير كله (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) (بل زين للذين كفروا مكرهم وصدّوا عن سبيل الله) : فالمسألة اذن ان هؤلاء كفروا وستروا ادلة الايمان عنهم وستروا نفوسهم عن دلائل الهدى. فحقت عليهم سنة الله عزوجل.

والنهاية الطبيعية لهذه القلوب المنتكسة هي العذاب (لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا). فهو الرعب والقلق وتأنيب الضمير لهم : (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) فلا شافع ولا دافع ولا محامي يحميهم من بأس الله حين ينزل بهم (وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ). أما المتقون فقد وقوا أنفسهم بالايمان الصحيح والعمل الصالح. فهم في مأمن من كل شقاء وعناء وولهم فوق أمن الدنيا ، أمن العذاب من النار. ولهم فوق نعيم

٢٣١

الدنيا ، نعيم الجنة الخالد لا ينفد (تلك عقبى للذين اتقوا. وعقبى الكافرين النار) هذه هي نهاية المسير للطرفين.

(وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨) يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩) وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠))

البيان : ان الفريق الصادق من أهل الكتاب في الاستمساك بدينه ، يجد في هذا القرآن مصداق القواعد الاساسية في عقيدة التوحيد. كما يجد الاعتراف بالديانات التي سبقته وكتبها. ودرسها مع الاكبار والتقدير. وتصور الاصرة الواحدة التي تربط المؤمنين بالله جميعا. فمن ثم يفرحون ويؤمنون. والتعبير بالفرح هنا حقيقة نفسية في القلوب وهو فرح اللقاء مع الحق وزيادة اليقين بصحة ما لديهم ومؤازرة الكتاب الجديد. (وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) الاحزاب من أهل الكتاب والمشركين ، ولم يذكر هذا البعض الذين ينكرونه لان الغرض ذكر هذا المقدار. (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ ، يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) ان عند الله تعالى كتابين : كتاب المحو والاثبات ، والكتاب المحفوظ الذي لا يتغير ولا يتبدل لانه الصورة النهاية للاشياء التي تستقر عليها من ارادة الله تعالى او من افعال العباد واختيارهم الاخير من خير أو شر. (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) وفي هذا التوجيه الحاسم ما فيه من بيان طبيعة الدعوة ان الدعاة الى الله تعالى ليس عليهم الا ان يؤدوا تكاليف الدعوة في كل مراحلها.

٢٣٢

وليس لهم أن يبلغوا الا ما يشاؤه الله. كما انه ليس لهم أن يستعجلوا خطوات الحركة. ولا ان يشعروا بالفشل والخيبة. اذا رأوا قدر الله يبطىء بهم عن الغلب الظاهر والتمكين في الارض ، فالامر يرجع الى الله وحكمته البالغة. ولا معقب لحكمه. ولا بد له من النفاذ.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً. قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ)

عن الباقر (ع) انه قال : ايانا عنى ، وعليّ أولنا وافضلنا وخيرنا بعد النبي ص وآله.

وسأل رجل علي بن ابي طالب (ع) عن أفضل منقبة له. فقرأ الآية. (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ).

وقال (ع) : ايانا عنى بمن عنده ام الكتاب.

وسئل الصادق (ع) عن الذي عنده علم من الكتاب أعلم ، ام الذي عنده علم الكتاب. فقال (ع) : ما كان الذي عنده علم من الكتاب عند الذي عنده علم الكتاب الا بقدر ما تأخذ البعوضة بجناحها من ماء البحر.

وعن أمير المؤمنين (ع) انه قال : الا ان العلم الذي هبط به آدم (ع) من السماء الى الارض وجميع ما فضل به النبيون الى خاتم النبيين في عترة خاتم النبيين (ع).

وعنه (ع) : (علم الكتاب والله كله عندنا ولذا كان (ع) المتفرد بقول لم يقله سواه (سلوني قبل أن تفقدوني ، فاني والله لبطرق السماء اعلم مني بطرق الارض. ولو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا. والله لو لا آية في كتاب الله لأخبرتكم بما يكون الى يوم القيامة وهي قوله تعالى (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ).

٢٣٣

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤١) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّٰرُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَٰبِ (٤٣))

ـ ١٤ ـ سورة ابراهيم. عدد آياتها خمس وخمسون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٢) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٣) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤))

البيان : (ألف. لام. را. (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ) لغاية (ما أنزلناه الا بالحق) (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) لتخرج هذه البشرية من ظلمات الوهم والخرافة. وظلمات الاوضاع والتقاليد وظلمات الحيرة في تيه الارباب المتفرقة. وفي اضطراب التصورات والقيم المزيفة والموازين الفاسدة ، لتخرج البشرية من هذه الظلمات كلها الى النور الذي يكشف هذه الظلمات بأجمعها ويسحق هذا الفساد بأجمعه ، يكشفها في عالم الضمير وفي دنيا التفكير.

والايمان بالله نور يشرق في القلب ، فيشرق به هذا الكيان البشري المشتمل على نفخة من روح الله العظيم. فاذا ما خلا من اشراق هذه النفخة. واذا ما طمست فيه هذه الاشراقة استحال طينة معتمة ، بل أصبح جيفة تننة من لحم ودم.

فالانسان قوامه تلك الاشراقة ، التي تنتفض فيه من روح الله العظيم ، يرقرقها الايمان ويجلوها الاخلاص والعمل الصالح.

والايمان بالله تعالى نور تشرق به النفس المطمئنة ، فترى الطريق

٢٣٤

السوي المستقيم وتنمحي أمامها جميع الطرق والاسباب سوى هذه الطريق النيرة ، المشعّة بالامان لا يشوبها غبش ولا يحجبها ضباب. ومتى رأت الطريق سارت على هدى لا تتعثر ولا تضطرب ولا تتردد ولا تحتار ولا يدنو منها حيرة ولا قلق.

والايمان بالله عزوجل ، نور تشرق به الحياة ، فاذا الناس كلهم عباد متساوون تربطهم آصرة واحدة هي الاخوة في الله. وتتمحص دينونتهم له دون سواه. فلا ينقسمون الى عبيد وطغاة ، فاذا هم في سلام مع هذا الكون وما فيه ومن فيه.

والايمان بالله نور. نور العدل ونور الحرية ونور المعرفة ، ونور الانس بجوار الله والاطمئنان الى عدله وعفوه ورحمته وحكمته في السراء والضراء. ذلك الاطمئنان الذي يستتبع الصبر في الضراء ، والشكر في السراء ، على نور من ادراك الحكمة في البلاء.

والايمان بالله وحده آلها وربا. منهج حياة كامل. لا مجرد عقيدة تعمر الضمير وتسكب فيه النور. منهج حياة يقوم على قاعدة العبودية لله وحده. والاستعلاء على عبودية العبيد.

(لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ .. إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) ..

فالصراط هي ذاك النور ، المشرق بالنفس المطمئنة ، فلا تخطىء في خطساها وتصورها : (وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ).

فحب الدنيا يصطدم مع الايمان الصحيح ، ويتعارض مع الاستقامة على الصراط المستقيم وليس الامر كذلك حين يحب الانسان الاخرة لانه عندئذ تصلح آخرته ودنياه معا. فلا يقع في التعارض. ان الذين يوجهون قلوبهم للاخرة. لا يخسرون متاع الحياة الدنيا.

٢٣٥

فصلاح الاخرة في الاسلام يقتضي صلاح هذه الدنيا ، والايمان بالله يقتضي حسن الخلافة في الارض. وحسن الخلافة في الارض هو استعمارها والتمتع بطيباتها. انه لا تعطيل للحياة في الاسلام انتظارا للاخرة. ولكن تعمير للحياة بالحق والعدل والاستقامة ابتغاء رضوان الله. وتمهيدا للاخرة .. هذا هو الاسلام المنحصر فيه سعادة الانسان.

فاما الذين يستحبون الحياة الدنيا على الاخرة ، فلا يملكون ان يصلوا الى غاياتهم من الاستئثار بخيرات الارض. ومن الكسب الحرام ، ومن استغلال الناس وغشّهم واستعبادهم ولا يملكون أن يصلوا الى غاياتهم هذه في نور الايمان بالله. وفي ظل الاستقامة على هداه.

ومن ثم يصدون عن سبيل الله ، يصدون أنفسهم ويصدون الناس ، ويبغونها عوجا ، لا استقامة فيها ولا عدالة. وحين يفلحون في صد أنفسهم ، وصد غيرهم عن سبيل الله. وحين يتخلصون من استقامة سبيله وعدالتها. فعندئذ فقط يملكون ان يظلموا وان يطغوا وان يغشوا وان يخدعوا. وان يغروا الناس بالفساد. فيتم لهم الحصول على ما يبغونه من الاستئثار بالخيرات التي خلقها الله اكراما لعباده الصالحين. واختبارا للمعاندين والمنحرفين.

ان منهج الايمان ضمانة للحياة وللاحياء. (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ)

وهذه نعمة شاملة للبشر في كل رسالة ، لكي يتمكن الرسول من اخراج الناس من الظلمات الى النور مباشرة ، ويكونوا هم حجة على سواهم من الامم التي تتلقى الايمان عنهم بالواسطة.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ

٢٣٦

سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (٧))

البيان : التعبير يوحد بين صيغة الامر الصادر لموسى والصادر لمحمد ص وآله ، تمشيا مع نسق الاداء : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) .. (وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ).

بلاء الامتحان الصبر والعزم على الاخلاص في العمل. واستمرار العزم على الاخلاص. والاستعداد للوقوف في وجه الظلم والطغيان والا فما هو صبار شكور ذلك الاستسلام.

ويمضي موسى (ع) في البيان لقومه ، بعد ما ذكرهم بايامه ووجههم الى الغاية والنجاة (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ. وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ)

ان شكر النعمة دليل على استقامة المقاييس في النفس البشرية ، فالخير يشكر لان الشكر هو جزاؤه الطبيعي في الفطرة المستقيمة ، هذه واحدة.

والاخرى ان النفس التي تشكر الله على نعمته ، تراقبه في التصرف بهذه النعمة بلا بطر ويرضى الناس عنها وعن صاحبها ، فيكونون له عونا ، ويصلح روابط المجتمع فتنمو فيه الثروات في أمان. الى آخر أسباب الطبيعة الظاهرة لنا في الحياة. وان كان وعد الله بذاته يكفي لاطمئنان المؤمن. فهو حق واقع لانه وعده الصادق الذي لا خلف فيه.

والكفر بنعمة الله قد يكون بعدم شكرها. او بانكار ان الله واهبها ونسبتها الى العلم والخبرة والكد الشخصي والسعي. كأن هذه الطاقات ليست نعمة من نعم الله عزوجل.

وقد يكون كفر النعمة بسوء استخدامها وصرفها بالبطر والتكبر على

٢٣٧

الناس والتبذير. والعذاب المهدد به كافر النعمة قد يكون عاجلا كما هو آجلا. فيمحق الله النعمة بالكفران ويحولها الى سواه ويحيجه اليه عكس ما كان الناس محتاجين اليه. فكفر بالنعمة فحرمها وحولها الى غيره. وفي الاخرة سيكون العذاب الشديد.

(وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ).

انما صلاح الحياة يتحقق بالشكر. ونفوس الناس تزكوا بالاتجاه الى الله. وتستقيم بشكر النعمة وتطمئن الى الاتصال بالمنعم فلا تخشى نفاد النعمة وذهابها. فالمنعم موجود والنعمة تزكوا باداء الشكر (ان الله لا يغيّر نعمة أنعمها على قوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم).

(وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠))

البيان : (وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ. وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ).

ولما كان الذي يدعوهم اليه رسلهم هو الاعتقاد بألوهية الله وحده ، وربوبيته للبشر بلا شريك من عباده. فان الشك في هذه الحقيقة الناطقة التي تدركها الفطرة. وتدل عليها آيات الله المبثوثة في ظاهر الكون. المتجلية في صفحاته. يبدوا مستنكرا قبيحا في نظر هؤلاء. وقد استنكر الرسل هذا الشك :

٢٣٨

(قالَتْ رُسُلُهُمْ : أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ).

أفي الله شك والسموات والارض تنطقان للفطرة بان الله ابدعهما وأنشأهما انشاء.

قالت رسلهم هذا القول ، لان السموات والارض آيتان هائلتان بارزتان. فمجرد الاشارة اليهما يكفي ويرد الشارد الى الرشد سريعا. ولم يزيدوا على الاشارة شيئا لانها وحدها تكفي.

(قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا ، تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا).

وبدلا من ان يعتز البشر باختيار الله الواحد منهم ليحمل رسالته ويهديهم بها وينالوا السعادة. فانهم لجهالتهم ينكرون هذا الاختيار ، ويجعلونه ريبة في الرسل المختارين. ويعللون دعوة رسلهم لهم بانها رغبة في تحويلهم عما كان يعبد آباؤهم. ولا يفكرون بين ما يعبد آباؤهم وبين الدعوة التي يدعوهم اليها رسلهم. ويستعملون عقولهم في الفارق الهائل بين المقامين :

(وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ) وقد هدانا سبيلنا) : انها كلمة المطمئن الى موقفه وطريقه المالىء يديه من وليه وناصره. المؤمن بان الله الذي يهدي السبيل لا بد ان ينصره وان يعينه وما ذا يهمّه حتى ولو لم يتم في الحياة الدنيا نصره فان العاقبة للمتقين. وذلك هو الفوز العظيم.

والقلب الذي يحسّ ان يد الله سبحانه تقود خطاه وتهديه السبيل هو قلب موصول بالله عزوجل. لا يخطىء الشعور بوجوده سبحانه وألوهيته القاهرة المسيطرة. وهو شعور لا مجال معه للتردد في المضي في الطريق ايا كانت العقبات في الطريق. وأيا كانت قوة الطاغوت. التي

٢٣٩

تتربص في الطريق. ومن ثم هذا الربط في رد الرسل (ع) بين شعورهم بهداية الله لهم وبين توكلهم عليه في مواجهة الشدائد مهما كان شكلها وحجمها.

وهذه الحقيقة ـ حقيقة الارتباط في قلب المؤمن بين شعوره بهداية الله ، وبين بديهة التوكل عليه ـ لا تستشعرها الا القلوب التي تزاول لها الحركة فعلا في مواجهة طاغوت الجاهلية في كل عصر ومكان. والتي تستشعر في أعماقها يد الله سبحانه وهي تفتح لها كوى النور فتبصر الآفاق المشرقة وتستروح نسيم الايمان الصحيح والمعرفة الحقة. وتحس الانس والقربى.

وحينئذ لا تحفل بما يتوعدها به طواغيت الارض بأجمعها. (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا) (لنصبرن ، ولا نتزحزح ولا نضعف ولا نتراجع ولا نشك ونفرط ولا نحيد مهما تراكمت الامور. (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) : وهنا يسفر الطغيان عن وجهه. لانه يحس بهزيمته امام انتصار العقيدة. فيسفر بالقوة المتجبرة (ولنخرجنكم من أرضنا (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا).

هنا تتجلى حقيقة المعركة وطبيعتها بين الاسلام والجاهلية ، ان الجاهلية لا ترضى من الاسلام والايمان ان يكون له كيان مستقل عنها. ولا تطيق ان يكون له وجود خارجي. وهي لا تسالم الاسلام. والاسلام لا يمكنه أن يرى الظلم والعدوان والفساد ويسكت عن كفاحه.

(فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ. وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ. ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ).

ولا بد أن ندرك أن تدخل القوة الكبرى للفصل بين الرسل والقوم انما يكون دائما بعد مفاصلة الرسل لقومهم. وبعد أن يرفض المسلمون

٢٤٠