تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٣

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي

تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠

البيان : قل : يا ايها الناس جميعا ، وان كان الذين يتلقون الخطاب اذ ذاك هم مشركي قريش ان كنتم في شك من ان ديني الذي أدعوكم اليه هو الحق. فان هذا لا يحولني عن يقيني ، ولا يجعلني أعبد آلهتكم التي تعبدونها من دون الله التي لا تضر ولا تنفع :

(ولكن أعبد الذي يتوفاكم) : أعبد الله الذي يملك آجالكم وأعماركم. وابراز هذه الصفة لله هنا له قيمته وله دلالته. فهو تذكير لهم بقهر الله فوقهم وانتهاء آجالهم اليه ، فهو أولى بالعبادة من تلك الالهة التي لا تحيي ولا تميت.

(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ، وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ)

فالضر نتيجة لازمة لسنة الله الجارية حين يتعرض الانسان لاسبابه ، والخير كذلك .. فان يمسسك الله بضر عن طريق جريان سنته فلن يكشفه عنك انسان. انما يكشف باتباع سننه وترك الاسباب المؤدية الى الضر ان كانت معلومة ، أو الالتجاء الى الله ليهديك الى تركها ان كانت مجهولة ، وان اراد بك الخير فهو ثمرة لعملك الصالح. فلن يرد هذا الفضل عنك احد لانه محتوم. فالفضل يصيب من عباده من يتصلون بأسبابه وفق مشيئته ، والسوء يصيب من يتصل بأسبابه وفق مشيئته. والسوء يصيب من يتصل بأسبابه ، وفق القصاص الذي يستحقه فاعله. (فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ، وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها).

١٦١

ـ ١١ ـ سورة هود ـ عدد آياتها ـ مائة وثلاث وعشرون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

(الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤))

البيان : انها جملة الحقائق الاعتقادية الاساسية : اثبات الوحي والرسالة. اثبات أن العبودية لله وحده بلا شريك. اثبات جزاء الله في الدنيا والاخرة لمن يهتدي بهداه. ويتبع منهجه في الحياة. اثبات جزاء الله في الاخرة للمكذبين وعود الجميع الى الله. اثبات قدرته المطلقة ، وسلطانه غير المحدود. (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ).

وهذا الكتاب المؤلف من مثل هذه الحروف هو الذي يكذبون به ، وهم عن شيء من مثله عاجزون. هذا الكتاب احكمت آياته ، ثم جاءت قوية البناء ، وكل ايماءة وكل اشارة ذات هدف معلوم متناسقة لا اختلاف بينها ولا تضارب ، ومنسقة ذات نظام واحد. ثم فصلت فهي مقسمة وفق اغراضها ، مبوبة وفق موضوعاتها ، وكل منها له حيز بمقدار ما يقتضيه.

اما من أحكمها ، ومن فصّلها على هذا النحو الدقيق ، فهو الله سبحان الحكيم الخبير.

(أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) فهو توحيد الدينونة والعبودية والاتباع والطاعة. (انني لكم نذير وبشير).

فتوحيد الله وحده ، هو مفرق الطريق ـ بين من يعبد الخالق ، ومن يعبد المخلوق ، وبين من يحكم بما أنزل الله ، وبين من يحكم بالطاغوت ، وما يمكن أن يتحرر البشر من الذل والخوف والقلق ويستحقوا الكرامة

١٦٢

الحقيقية التي أكرمهم بها الله. الا حين يتفرد الله سبحانه بالربوبية والحاكمية.

وما كان الخلاف على مدار التاريخ بين الجاهلية والاسلام ولا كانت المعركة بين الحق والباطل على ألوهية الكون ، وتصريف أموره في عالم الاسباب والنواميس الكونية ، انما كان الخلاف ، وكانت المعركة على من يكون هو رب الناس الذي يحكمهم بشرعه ويصرفهم بأمره ويدينهم بطاعته.

لقد كان الطواغيت المجرمون في الارض يغتصبون هذا الحق ويزاولونه في حياة الناس ويذلونهم بهذا الاغتصاب ، ويجعلونهم عبيدا لهم من دون الله. وكانت الرسالات والرسل والدعوات الاسلامية. تجاهد دائما لانتزاع هذا السلطان المغتصب من أيدي الطواغيت ، ورده الى صاحبه الشرعي .. الله سبحانه.

والله سبحانه غني عن العالمين ، لا ينقص في ملكه شيئا عصيان العصاة. ولا طغيان الطغاة. ولا يزيد في ملكه شيئا طاعة الطائعين ، وعبادة العابدين. ولكن البشر هم الفقراء اليه والى جوده وكرمه ، والله سبحانه يريد العزة والكرامة لعباده ، ولكن البشر ـ هم أنفسهم ـ الذين يذلون ويصغرون ويسفلون حين يدينون لغير الله من عباده ، وهم الذين يعزون ويكرمون ويستعلون حين يدينون لله وحده ، ويتحررون من العبودية للعبيد ، ولما كان الله سبحانه يريد لعباده العزة والكرامة والاستعلاء ، فقد أرسل رسله ليردّوا الناس الى عبادة الله وحده ، وليخرجهم من عبادة العبيد. (والله غني عن العالمين).

ان البشرية لا تبلغ مستوى الكرامة التي يريدها الله للانسان الا بان يعزم البشر أن يدينوا لله وحده. وان يخلعوا من رقابهم نير الدينونة لغير الله. ذلك النير المذل لكرامة الانسان. وهذا ما يقرره مطلع

١٦٣

السورة : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ)

وهذا هو معنى العبادة كما يعرفه العرب في لغتهم التي نزل بها كتاب الله الكريم ، والاقرار بالرسالة اساس للتصديق بهذه القضايا التي جاءت الرسالة لتقريرها. وكل شك في ان هذا من عند الله. كفيل بتحطيم احترامها الملزم في عالم الضمير ، والذين يظنون انها من عند محمد ص وآله مهما قروا بعظمة محمد ـ لا يمكن أن تنال من نفوسهم الاحترام الملزم الذي يتحرجون معه أن يفلتوا منه.

ان الشعور بان هذه العقيدة من عند الله هو الذي يطارد ضمائر العصاة حتى يتوبوا في النهاية الى الله عزوجل. وهو الذي يمسك بضمائر الطائعين فلا تتلجلج ولا تتردد ولا تحيد.

كما ان الاقرار بالرسالة هو الذي يجعل هناك ضابطا لما يريده الله من البشر كي يتلقوا كل ما يتعلق بالدينونة لله من مصدر واحد هو هذا المصدر. وكي لا يقوم كل طاغوت مفتر يقول للناس قولا ، ويشرع للناس شرعا. ثم يزعم انه شرع الله وأمره بينما هو يفتريه من عنده.

(وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) : هو عذاب يوم القيامة ، لا عذاب يوم بدر وأحد (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) وان كان المرجع الى الله في الدنيا والاخرة. وفي كل حالة ، ولكن جرى التعبير القرآني على أن المرجع هو الرجعة بعد الحياة الدنيا : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وهذه كذلك تقوى هذا المعنى لان التلويح بالقدرة على كل شيء مناسب للبعث الذي كانوا يوعدون.

(أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٥) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦) وَهُوَ

١٦٤

الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨))

البيان : الآيتان الاوليتان تستحضران مشهدا فريدا ترجف له القلوب حين تتدبره وتتصوره ويالها من رهبة غامرة ، وروعة باهرة ، حين يتصور القلب البشري حضور الله سبحانه ، واحاطة علمه وقهره. بينما اولئك العبيد الضعاف يحاولون الاستخفاء منه وهم يواجهون آياته يتلوها رسوله ص وآله : (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ ... إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)

ولعل نص الاية انما يصور حالة واقعة كانت تصدر من المنافقين ، والرسول ص وآله يسمعهم كلام الله عزوجل. فيثنون صدورهم ، ويطأطئون رؤوسهم استخفافا من الله عزوجل والله اعلم بما هو اخفى وليست أغطيتهم بساتر دون علمه. ولكن الانسان يحس عادة في مثل هذه الخلوة انه وحيد لا يراه احد. لكن التعبير يلمس وجدانه ويوقظه ويهزه هزة عميقة. الى هذه الحقيقة التي قد يسهو عنها فيخيل اليه أن ليس هناك من عين تراه (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) عليم بالاسرار المصاحبة للصدور التي لا تفارقها. والتي تلزمها كما يلزم الصاحب صاحبه :

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها ، وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها)

هذه صورة أخرى من صور العلم الشامل المرهوب ، هذه الدواب وكل ما تحرك على الارض فهو دابة. من انسان وحيوان

١٦٥

وزاحفة وطائرة ، وعند الله علمها وعليه رزقها ، ويعلم اين مستقرها ،

انها صورة مفصّلة للعلم الالهي في حالة تعلقه بالمخلوقات ، يرتجف لها كيان الانسان حين يحاول تصورها بخياله الانساني فلا يطيق.

وهي الصورة اللائقة بحكمة الله ورحمته في خلق الكون على الصورة التي خلقه بها وخلق هذه المخلوقات بالاستعدادات والمقدرات التي أوتيها وبخاصة الانسان ، الذي استخلفه في أرضه وأمنه على ملكه وأسجد له ملائكته ...

وهاتان الآيتان هما بدء تعريف الانسان بربه الحق الذي عليهم أن يدينوا له وحده ، فهو العالم المحيط علمه بكل خلقه. وهو الرازق الذي لا يترك أحدا من رزقه. وهذه المعرفة ضرورية. لعقد الصلة بين البشر وخالقهم ، ولتعبيد البشر للخالق الرازق العليم المحيط.

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) : أما كيف كان الماء فهذا يرجع لعلمه عزوجل وتدبيره :

(وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ)

فما أعجب هذا القول من أهل الهوى والتضليل ، وما أغربه من استنكار لا يسنده دليل ولا برهان.

(وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ. أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ).

لقد كانت القرون الاولى تهلك بعذاب عاجل من عند الله يستأصلها بعد ان يأتيهم رسلهم بالخوارق التي يطلبونها ثم يمضون بالتكذيب لما انزل الله من الرسائل والشرائع. وكانت موقتة وخاصة باهل جيل او بقوم

اما الرسالة المحمدية فقد كانت خاتمة الرسلات ولجميع الاجيال

١٦٦

والاقوام. وكانت هي بنفسها المعجزة الخالدة لكل العصور والاجيال. فهي قابلة للبقاء. قابلة لان تتدبرها اجيال واجيال وتؤمن بها أجيال وأجيال. ومن ثم اقتضت الحكمة الا تؤخذ هذه الامة بعذاب عاجل. وان لا يقع عليها العذاب كما كان الحال في الامم السابقة. (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) ان عذاب الله عزوجل لا تستعجله نفس مؤمنة. واذا ما ابطأ فلحكمة ورحمة .. وفي فترة التأجيل التي صرف الله العذاب فيها عن مشركي قريش. كم آمن منهم من رجال ونساء. وكم ولد لكفارهم من ذرية نشأت فيما بعد على الاسلام. وهذه وتلك بعض الحكم الالهية والرأفة في خلقه. ولكن البشر القاصرين العجولين لا يعلمون.

(وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١))

انها صورة صادقة لهذا الانسان العجول القاصر. الذي يعيش في لحظته الحاضرة. ويطغى عليه ما يلابسه. فلا يتذكر ما مضى ولا يفكر فيما يلي. فهو يؤوس من الخير كفور بالنعمة ، بمجرد ان تنتزع منه .. مع انها كانت على هبة من الله له. وهو فرح بطر بمجرد ان يجاوز المحنة والشدة الى الرخاء (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) صبروا على الشدة. شاكرين للنعمة. على حد سواء في ظنهم الحسن بخالقهم الكريم. (أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ).

(فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤))

البيان : لعل هنا تحمل معنى الاستفهام وهو ليس استفهاما حقيقيا

١٦٧

انما يتلبس به ان المتوقع من النفس البشرية ان تضيق صدرا بهذا الجهل وبهذا التعنت. وبهذه الاقتراحات السخيفة التي تكشف عن بعد كامل عن ادراك طبيعة الرسالة ووظيفتها. فهل سيضيق صدرك ـ يا محمد ـ وهل سيحملك هذا الضيق على ان تترك بعض ما انزل اليك. فلا تبلغه لهم. كي لا يقابلوك بما اعتادوا عليه. (إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ) : فواجبك كله ان ننذرهم. (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ). قال المفسرون كان التحدي من الله لهذا البشر المعاند المتكبر على الترتيب بالقرآن كله أول مرة. ثم تنزل الى الاتيان بعشر سور. ثم تنزل الى سورة من مثله. فاحجموا صاغرين عاجزين. (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) : أي ادعوا شركاءكم وفصحاءكم. وبلغاءكم وشعراءكم وجنكم وأنسكم. وأتوا بعشر سور فقط مفتريات ان كنتم صادقين في ان هذا القرآن مفترى من دون الله. (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ). فهو وحده القادر على ان ينزله. وعلم الله وحده هو الكفيل بان المخلوقات كلها عاجزة عن الاتيان بمثله. او بعشر سور أو بسورة من مثله. وبعد هذا التحد من الخالق العظيم. والعجز من المخلوقين يأتيهم التقبيح والتوبيخ : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) بعد هذا التحدي واظهار عجزهم ودلالته التي لا سبيل الى مواجهتها بغير التسليم. ولكنهم ظلموا بعدها وهم يكابرون.

لقد كان الحق واضحا ولكنهم كانوا يخافون على ما يتمتعون به في هذه الحياة الدنيا من منافع وسلطان. وتعبيد الناس. لهذا يعقب السياق بما يناسب حالهم فيقول عزوجل :

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٦))

١٦٨

البيان : أن للجهد في هذه الدنيا ثمرة. سواء تطلع صاحبه الى أفق اعلى أو توجه به الى منافعه القريبة وقدره المحدود. فمن كان يعمل في الدنيا لنيل الدنيا وزينتها فعمله لها. وحدها لا يتعداها. ولكن ليس له في الآخرة من نصيب الا النار لأنه ليس بعد خسران الجنة الا النار. فكل من عمل للدنيا انتهى امره الى الشقاء الدائم والعذاب الخالد.

(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (١٩) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢١) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٣) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٤))

البيان! ان طول هذه الحملة. وتنوع الاشارات فيها وتنوع اللفتات والايقاعات. ان هذا كله شيء بما كانت تواجهه القلة المؤمنة. في تلك الفترة الحرجة من تاريخ الدعوة. ان القرآن المجيد لا يتذوقه الا من يخوض مثل هذه المعركة. ويواجه مثل تلك المواقف (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ).

ـ عن أمير المؤمنين (ع) انه قال : ما من رجل من قريش الا وقد نزل فيه آية أو آيتان من كتاب الله فقال رجل من القوم فما نزل فيك يا أمير المؤمنين فقال (ع) : اما تقرء الآية التي في سورة هود. (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) (محمد ص وآله بينة من ربه.

١٦٩

وانا الشاهد). ثم يعرض مواقف الذين يؤمنون بهذا القرآن. والذين يكفرون به من الاحزاب. وما ينتظر هؤلاء. من الجزاء في الآخرة فيقول عزوجل : (والذين يؤمنون بما معه من الحق) (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ .. فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ).

ان الجاهلية التي تعترف بوجود الله سبحانه. او لا تعترف. ولكنها تقيم للناس أربابا في الارض يحكمونهم بغير ما انزل الله. ويشرعون لهم باهوائهم واغراضهم ما يشتهون فويل لهم مما يكتبون. (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً).

ان الافتراء في ذاته جريمة نكراء. وظلم للحقيقة. ولمن يفتري عليه الكذب (أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) والظالم هو كل من تعد حدود الله التي حذر الله تعالى تجاوزها (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها) (أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) : وهي خسارة فادحة. فالذي يخسر نفسه لا يفيد غيره ابدا. (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ ..)

الاخبات الطمأنينة والاستقرار والثقة والتسليم. وهي صورة حال المؤمن مع ربه وركونه اليه. واطمئنانه لكل ما يأتي به. وهدوء نفسه وسكون قلبه. وأمنه واستقراره ورضاه. (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً). صورة حية تتجسم فيها حالة الفريقين. والفريق الاول كالاعمى لا يرى. وكالاصم لا يسمع. والذي يعطل حواسه باجرامه واختياره فما يرجى منه بعد ذلك. (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) فالقضية في وضعها هذا لا تحتاج الى اكثر من التذكير. فهي بديهية لا تقتضي التفكير العميق. مقررة فلا تحتاج الى اكثر من توجه النظر والتذكير اليسير حتى تتجلى الحقائق على واقعها.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ

١٧٠

ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (٢٧)

قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (٢٨) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩)

وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣٠) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١))

البيان : انها تكاد تكون الالفاظ ذاتها التي ارسل بها محمد ص وآله. والتي تضمنها الكتاب الذي أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير. ان التعبير القرآني يحيى المشهد فكأنما هو واقعة حاضرة لا حكاية عما سلف. وكأنما هو يقول لهم الآن ونحن نشهد ونسمع. هذا من جهة. ومن جهة أخرى انه يلخص وظيفة الرسالة كلها ويترجمها الى حقيقة واحدة (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) وهو اقوى في تحديد هدف الرسالة وابراز في وجدان السامعين (أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) فهذا هو قوام الرسالة. وقوام الانذار : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ).

فيتم الابلاغ ويتم الانذار في هذه الكلمات القصار. (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ). ذلك رد اهل التكبر والضلال. وهو يكاد يكون ما رد به قريش على رسوله محمد ص وآله تماما (ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا) الشبهات ذاتها. والاتهامات ذاتها والكبرياء ذاتها. انها الشبهة التي وقرت في نفوس جهال البشر. وشبهة أخرى .. فلم لا يكون من بين هؤلاء الجبابرة والكبراء. (فلو لا انزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم).

(وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ) : وهم يسخّرن

١٧١

الفقراء : اراذل الناس (وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) : يدمجون الداعي بمن تبعوه من الاراذل. فلو كان ما معكم خيرا وصوابا لأهتدينا اليه) ولم تسبقونا انتم اليه. (بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ). وهي التهمة الأخيرة يقذفون بها في وجه الرسول ص وآله. ويتلقى نوح الاتهام فيقول (ع) : (يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ).

نداء ملأوه سماحة ومودة. ونسبتهم اليه. وهكذا يتلطف نوح في توجيه انظارهم ولمس وجدانهم واثارة حساسيتهم لادراك القيم الخفية. والخصائص التي قد يغفلون عنها في امر الرسالة والاختيار لها. ويبصرهم بان الأمر ليس موكولا الى الظواهر السطحية. التي يقيسون بها. وفي الوقت ذاته يقرر لهم المبدأ العظيم. مبدأ الاختيار في العقيدة والاقتناع بالنظر والتدبر. لا بالقهر والاستعلاء. (يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً).

ان الذين يدعونهم اراذل قد دعوتهم فآمنوا وليس عند الناس الا ان يؤمنوا بخالقهم العظيم. (وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا) ونفهم من هذا الرد انهم طلبوا طردهم حتى يفكروا في الايمان به. لأنهم يستنكفون ان يجتمعوا مع الفقراء من تجبرهم فلذا يقول (ع) : (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) انكم تجهلون القيم الحقيقية التي يقدر بها الناس في ميزان الله وتجهلون ان مرد الناس كلهم الى الله تعالى (وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ).

فهناك الله رب العالمين اذا اراد انزال العقوبة بعبد من عبيده فلا يقدر احد على حمايته منه.

(قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (٣٥))

١٧٢

البيان : اما نوح (ع) فلا يخرجه هذا التكذيب والتحدي عن صمت النبي الكريم ولا يقعده عن بيان الحق لهم. وارشادهم الى الحقيقة التي عنها غافلون. فقال لهم : ليس علي الا البلاغ المبين اما العذاب فمرده الى الله تعالى وهو الذي يدبر الامر كله.

فاذا كانت سنة الله تقتضي ان تهلكوا بغوايتكم فان هذه السنة. ستمضي فيكم. مهما بذلت لكم من النصح لا يرد قضاء الله عنكم الا اذا أطعتموني وأمنتم كما يريد خالقكم حتى يعفو عنكم فانتم دائما في قبضته وهو المدبر المقدر لأمركم. ولا مفر من لقائه وحسابه وجزائه (إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).

(وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (٣٨) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٩))

البيان : فالقلوب القابلة للايمان قد آمنت. اما البقية فليس فيها استعداد ولا اتجاه. (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ) والتعبير هو الذي يعطي المشهد حيويته وجدته. فهو يصنع الفلك والجماعات من قومه يمرون فيسخرون. يسخرون من الرجل الذي كان يقول لهم : انه رسول ويدعوهم ويجادلهم فيطيل جدالهم. ثم اذا هو ينقلب نجارا يصنع مركبا في البر. انهم يسخرون لانهم لا يرون الا ظاهر الامر. ولا يعلمون ما وراءه وما سيحل بهم من الدمار.

(حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (٤٠) وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ

١٧٣

ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (٤٢) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣))

البيان : وفي مدلول هذا الفوران من الماء. بدء أمر الله لنفاد ما وعد وفارت الارض بالماء. وهطل الماء من السماء (قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) كأن نظام العملية كان يقتضي ان يؤمر نوح بمراحلها واحدة واحدة في حينها. فقد أمر اولا بصنع الفلك فصنعه. ولم يذكر لنا السياق الغرض من صنعه. ولم يذكر انه اطلع نوحا على هذا الغرض لذلك. (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ) أمر بالمرحلة الثانية : (قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) (وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها.) وهذا تعبير عن تسليمها للمشيئة في جريانها فهي في رعاية خالقها وحماه. وما ذا يملك البشر من أمر الفلك في اللجة الطاغية والطوفان (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ) : ان الهول هنا هولان. هول في الطبيعة الصامتة وهول في النفس البشرية يلتقيان (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ) وفي هذه اللحظة الرهيبة الحاسمة يبصر نوح فاذا احد اولاده في معزل عنهم ويروح يهتف بالولد الشارد (يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا) (وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) واننا بعد آلاف السنين. لنمسك انفسنا ـ ونحن نتابع السياق ـ والهول يأخذنا كأننا نشهد المشهد امامنا. وهي تجري بهم في موج كالجبال (وَقُضِيَ الْأَمْرُ)

(وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤))

البيان : ويوجه الخطاب الى الارض والسماء. بصيغة العاقل. فتستجيب كلتاهما للأمر الفاصل فتبلع الارض وتكف السماء. فابتلعته الارض في جوفها وغار من سطحها (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) ورست السفينة على الجودي. (وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) انها جملة مختصرة حاسمة معبرة

١٧٤

عن جوها أعمق تعبير. بعدا لقوم كذبوا نبيهم وعصوا خالقهم. فكانت عاقبة أمرهم خسرا فقد ذهبوا كأن لم يكونوا من قبل واضحى خبرهم عبرة لاولي الالباب الذين ينتفعون بالعبرة والعظة.

(وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٤٦) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٤٧) قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٨) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (٤٩))

البيان : قال نوح (ع) : رب ان ابني من أهلي. وقد وعدتني بنجاة أهلي ـ وان وعدك الحق وانت احكم الحاكمين. فلا تقضي الا عن حكمة وعدل. وتدبير.

وجاءه الرد بالحقيقة التي غفل عنها ـ الاهل ـ عند الله وفي دينه وميزانه المستقيم ـ ليست القرابة بالانساب والدم. وانما هي قرابة العقيدة والعمل الصالح. وهذا الولد لم يكن من الصالحين. اذن فليس من أهله. فلذا جاء الرد الحاسم وفيما يشبه التقريع والتهديد : (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) : انها الحقيقة الكبيرة في الربط بين المؤمنين الاخيار. (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) : اني اعظك خشية ان تسلك مسلك الجاهلين. فوعد الله تعالى كان في نجاة من يستحق النجاة. ولا محاباة عند الخالق بين عبيده فالميزة بينهم التقوى لا غير فعير المتقين يستحقون الهلاك والدمار مهما كانوا والمتقون يستحقون النجاة مهما كانوا ولا قيمة لكل صلة عند الخالق غير صلة التقوى المنحصر قبول العمل بها لا غير. وادركت رحمة الله تعالى نوحا عند استغفاره مما صدر منه ما ليس له به حق. (يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا) وكانت

١٧٥

خاتمة المطاف : النجاة والبشرى له ولمن آمن معه والتهديد لمن ينحرف عن طاعته : (وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) كأنذار للناجين (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ .. ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ) : وهنا الاعجاز الخالد في القرآن انه يخبر عما وقع في العصور ويحكم بخفاء ما أخبره عن العالم بأمره حتى يبرهن لهم ان هذا القرآن وما اخبر به عن الامم السالفة من عند الله لا غير لانه لا يوجد من يعرف ذلك ولو كان ذلك في العصر من يعرف بما أخبر لتوجه الى الرد عليه بأسرع ما يكون لأنه تحدى وتعجيز لجميع من في الوجود. ويستحيل ان يسكت الاعداء لو كان عندهم علم بذلك. فهذا الاخبار غيب من عالم الغيب. وانما هو وحي من لدن حكيم خبير. ومما يثبت ما وقع من هلاك قوم نوح (ع) انه لم يكن في الدنيا بشر سوى هؤلاء الذين كذبوا نبيهم وعتوا وتجبروا فاستحقوا العذاب والدمار بعد الانذار والاعذار.

ـ ان قوم نوح (ع) هم الذين كذبوا بالحق لما جاءهم. واستمروا على طغيانهم حتى اهلكهم الله ولذلك يقال عن نوح (آدم الثاني) لأن البشر بعد الطوفان انحصر بذريته من بنات وبنين وازواجهن وزوجاتهم وما يتولد منهم وكانوا بأجمعهم مؤمنين صالحين لكن خلف من بعدهم خلف اضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فاصابهم ما يستحقون كما فعل بأشياع الاقدمين.

ان العقيدة تمثل أعلى خصائص (الانسان) التي تفرقه وتميزه عن عالم البهائم والحيوانات لانها تتعلق بالعنصر الزائد عن الحيوانية. وهو عنصر الروحانيات الذي به صار هذا المخلوق انسانا وتفضل به على سائر المخلوقات حتى المملائكة المقربين والدليل المحسوس على ذلك سجود الملائكة لاول بشر اوجده الخالق العظيم. ويستحيل في ميزان العدل.

١٧٦

ان يسجد الفاضل للمفضول والعالي للداني ولذا استحق هذا المخلوق البشري بما أهله الله تعالى ان يخلق لأجله الكون وما حواه ويسخره لخدمته ومعونته ولكن ليستعين بذلك على طاعة خالقه لا على عصيانه. ولأجل ان يكتسب به الكمال الانساني. لا التسافل الحيواني فانتبهوا يا اولى الالباب لعلكم تتقون.

ـ ولقد تفرد الاسلام بمنهجه الرباني في ابراز اخص خصائص الانسان وتنميتها. واعلائها في بناء المجتمع الانساني. وما يزال متفردا والذين يعدلون عنه الى سواه من منهاج المخلوقات الناقصة. هم اعداء (الانسان) حقا. وهم الذين لا يريدون لهذا الانسان ان يتفرد في هذا الكون بخصائصه العليا كما فطره الله. ولا يريدون لمجتمعه ان ينتفع بأقصى كفايات اجناسه.

وما كان الاسلام ليخلص الناس من عبادة الاصنام الحجرية والارباب الاسطورية. ثم يرضى لهم بعد ذلك اصنام الجنسيات والقوميات والاوطان. وما اشبه ذلك من التوافه في تميزهم. لذلك فقد قسم الاسلام المجتمع البشري بكامله الى قسم مسلم مؤمن بخالقه ومذعن لأرادته وقسم كافر ومعاند لخالقه ونبي زمانه. وهم الطواغيت في كل زمان ومكان مخالفين للحق والعدل.

وحسبنا عبرة وعظة من قلة اتباع الحق والعدل في كل زمان قصة نبي الله نوح (ع). ان حفنة من المسلمين من اتباع نوح (ع) تذكر بعض الروايات انهم اثنا عشر شخصا. هم كانوا حصيلة دعوة نوح في الف سنة الا خمسين عاما كما يقرر المصدر الوحيد المستيقن الصحيح في هذا الشأن ..

ان هذه الحفنة ـ وهي ثمرة ذلك العمر الطويل والجهد الهائل ـ قد

١٧٧

استحقت ان يغير الله لها المألوف من ظواهر هذا الكون. وان يجري ذلك الطوفان الذي يغمر كل شيء ويدمره وكل حي في المعمور وقتها من الارض. وان يجعل هذه الحفنة وحدها هي وارثة للارض بعد ذلك وبذرة العمران فيها والاستخلاف من جديد ـ وهذا امر خطير ـ.

ان طلائع البعث الاسلامي التي تواجه الجاهلية الشاملة في الارض كلها. والتي تعاني الغربة في هذه الجاهلية والوحشة. كما تعاني الاذى والمطاردة والتعذيب والتنكيل. ان هذه الطلائع تنبغي ان تقف طويلا امام هذا الامر الخطير وامام دلالته التي تستحق منه سبحانه ان يدمر الجاهلية وأرضها وعمرانها كما يستحق منه سبحانه ان يكلأ هذه البذرة وبرعاها حتى تسلم وتنجو وترث الارض وتعمرها على الحق والعدل وتقوى الله العظيم.

(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (٥٠) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (٥١) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢)

قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (٦٠))

البيان : كان نبي الله هود (ع) من عشيرة عاد. وتبرز هذه

١٧٨

الآصرة هنا لأن من شأنها ان تقوم الثقة والتعاطف والتناصح بين الاخ واخوته. وليبدو موقف القوم من اخيهم ونبيهم شاذا ومستقبحا .. فالدعوة تبدأ والرسول وقومه من امة واحدة. ثم تنتهي بالافتراق وتصبح امتين مختلفتين من القوم الواحد. امة مسلمة. وامة كافرة مشركة.

ويبادر هود ليوضح لقومه انها دعوة خالصة ونصيحة ممحضة. فليس له من ورائها هدف وما يطلب على النصح والهداية اجرا. انما اجره على الذي خلقه فهو به كفيل (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) : لقد بلغ بهم الانحراف في نفوسهم والتضليل منهم الى توجه هذه التهمة الى هود. ويتبرأ هو من آلهتهم وما يعبدون من دون الله. (فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ). (إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) انها انتفاضة التبرءة مما يعبدون وهو يشهد الله ربه على براءته من قومه الضالين وابدى الانفصال عنهم واعتزالهم.

وذلك كله مع عزة الايمان واستعلائه. ومع ثقة الايمان واطمئنانه ان الانسان ليدهش لرجل فرد يواجه قوما غلاظا شدادا حمقى .. يبلغ بهم الجهل ان يعتقدوا ان هذه الاصنام تسييء وتضر. ان الانسان ليدهش لرجل فرد يقتحم هذا الاقتحام على قوم غلاظ. ولكن الدهشة تزول عندما يتدبر العوامل والاسباب .. انه الايمان والثقة بالله العظيم. الذي اذا قال للشيء كن فيكون. فاذا وعد عبده بالنصر حقيقة اصبح النصر محققا فلا يخالجه خوف ولا رعب. ان هذه الحقيقة التي يجدها صاحب الدعوة في نفسه لا تدع في قلبه مجالا للشك ولا مجال للتردد عن المضي في طريقه. انها حقيقة الالوهية كما تتجلّى في قلوب الصفوة المؤمننة. ابدا. وعند هذا الحد من التحدي بقوة الله وابراز هذه القوة في صورتها القاهرة (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ) (إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ)

١٧٩

يحفظ دينه واولياءه. وشرائعه. من الاذى والضياع. وينتقم منكم فلا تفلتون من سطوته. وينتهي الجدل والكلام ليحق الوعد والانذار.

(وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) (مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) ووصف العذاب بانه غليظ. ومع القوم الغلاظ العتاة.

والآن وقد هلكت عاد يشار الى مصرعها وتشيع باللعنة والطرد.

(وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ) الا بعدا لعاد قوم هود لقد هلكت عاد لأنهم اتبعوا امر كل جبار عنيد هلكوا مشيعين باللعنة في الدنيا وفي الآخرة.

(الا بعدا لعاد قوم هود) بهذا التحديد والايضاح والتوكيد ختمت الجولة مع القوم الظالمين.

لقد وقف نبي الله هود (ع) هذه الوقفة الباهرة لانه يجد حقيقة ربه في نفسه فيوقن ان اؤلئك الجبارين العتاة انما هم من الدواب. ان اصحاب الدعوة الى الله تعالى لا بد ان يجدوا حقيقة ربهم في نفوسهم على هذا النحو حتى يمكنهم ان يقفوا بايمانهم امام قوى الجاهلية في كل زمان ومكان.

(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (٦١)

قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣) وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (٦٤) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (٦٥) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦) وَأَخَذَ الَّذِينَ

١٨٠