تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٣

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي

تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠

أَيْدِيهِمْ ...) كذلك كانوا يقولون لو يأتهم رسول لاتبعوه ولكنهم حين جاءهم الحق مع الرسول لم يتبعوه (قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) وهكذا أعرضوا ولم يذعنوا للحق. وانتحلوا الاباطيل. ولم يكونوا صادقين في قولهم هذا (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) وقد كان في الجزيرة يهود وكان معهم التوراة. فلم يؤمن لهم العرب ولم يصدقوا بما في أيديهم من التوراة. (قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ) اذن فعنادهم لم يكن مستندا الى خفاء الحق. ولا الى ضعف البيان والبرهان (قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى ...) وهذه نهاية الانصاف واتمام الحجة (فان لم يستجيبوا فاعلم أنهم يتبعون أهواءهم) ان الحق في هذا القرآن لبين. وان الحجة لواضحة. الا ان الهوى هو الذي يصد عن الحق المبين. والمسألة دائرة بين أمرين لا ثالث لهما : اما اخلاص للحق واتباعه ونبذ الهوى. وعندئذ لا بد من الايمان والتسليم للحق الواضح. واما مماراة في الحق واتباع الهوى. فهو التكذيب والشقاق ولا حجة من غموض في العقيدة. ولا ضعف في الحجة والبرهان كما يدعي كذبا اتباع الهوى والشهوات (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ) (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً)

ان هذا النص ليقطع الطريق على المعتذرين بانهم لم يفهموا عن هذا القرآن ولم يحيطوا علما بهذا الدين. فما هو الا بشير ونذير لقوم يوقنون (وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ).

(وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (٥٥))

٥٤١

البيان : قال سعيد بن جبير : نزلت هذه الآيات في سبعين من القسيسين. بعثهم النجاشي فلما قدموا على النبي ص وآله قرأ عليهم (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) حتى ختمها فجعلوا يبكون واسلموا فنزلت فيهم هذه الآية (الذين آتيناهم الكتاب ..) (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ ..) الصبر على الاسلام الخالص. ومغالبة الهوى والشهوات وهو الجهاد الاكبر). (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ ..) وكل كلام ليس لله فهو لغو للشيطان وصاحبه خاسر. وهذا الهذر الذي يقتل الوقت الثمين من حياة اهل الايمان. الذي يسئل عنه كل انسان. والقلوب المؤمنة تنفر من اللغو كما ينفر الصحيح من الاجرب (وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) انها صورة وضيئة للنفس الحية المطمئنة الى صحة عقيدتها وعملها .. فهي تفيض بالترفع عن اللغو.

(إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٠))

البيان : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ..) قد تدعي العامة ان هذه الآية نزلت بابي طالب سلام الله عليه والصحيح خلاف ذلك وانما رؤوا ذلك كذبا وزورا ليحطوا من كرامة أمير المؤمنين (ع) وذلك في زمن معاوية لعنه الله.

وقد روى عن النبي ص وآله انه قال نزل علي جبرائيل (ع) فقال يا محمد ان الله يقرؤك السّلام ويقول لك : اني قد حرمت النار. على صلب أنزلك. وبطن حملك. وحجر كفلك. فالصلب ابيه. والبطن امه

٥٤٢

آمنة. والحجر عمه ابو طالب (ع) وفاطمة بنت اسد ام امير المؤمنين (ع) وقد روى أن أمير المؤمنين (ع) كان ذات يوم جالسا بالرحبة والناس مجتمعون فقام اليه رجل فقال يا أمير المؤمنين انك بالمكان الذي انزلك الله به. وابوك يعذب بالنار.

فقال (ع) له : فضّ الله فاك. والذي بعث محمدا بالحق لو شفع أبي في كل مذنب على وجه الارض. لشفعه الله تعالى فيهم. ان أبي بعذب بالنار. وأبنه قسيم الجنة والنار.

ثم قال (ع) : والذي بعث محمدا بالحق ان نور أبي طالب يوم القيامة ليطفىء انوار الخلق الا خمسة انوار (محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين) والتسعة المعصومين من ولد الحسين (ع) لأن نور ابي طالب من نورهم الذي خلقه الله عزوجل من قبل ان يخلق آدم بالفي عام) انتهى (وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا). فهم لا ينكرون انه الهدى ولكنهم يخافون ان يتخطفهم الناس وهم ينسون الله عزوجل وينسون أنه وحده الحافظ والمعطي والمانع وأن قوى الأرض كلها لا تملك ان تتخطفهم وهم في حمى الله وحصنه الذي من دخله كان من الامنين من كل ما يخافه ويخشاه وان قوى الارض كلها لا تملك ان تنصرهم اذا خذلهم الله واراد التنكيل بهم. وانما يدخل الخوف لقلوبهم لفراغها من الايمان الصحيح. والآثار من اقوى الادلة على مؤثراتها ولو ملىء القلب بالايمان استحال بعد ان يدخله خوف او يدنو منه لاستحالة دخول الهواء لاناء قد ملىء بالماء. ولو خالطهم الايمان لتبدلت نظرتهم للقوى. ولأختلف تقديرهم للأمور. ولعلموا ان الأمن لا يكون الا في جوار الله القوي العزيز. وان هذا الهدى موصول بالقوة التي لا تقهر ولا تغلب. وان أتباع هدى الله معناه الاصلاح مع ناموس الكون وقواه والاستعانة بها وتسخيرها في الحياة. فالله عزوجل هو الخالق لهذا الكون ومدبره وفق

٥٤٣

الناموس الذي ارتضاه له. والذي يتبع هدى الله يصبح مسخرا له كل ما في هذا الكون باذن الله.

ان هدى الله تعالى منهج حياة صحيحة. وحياة واقعية في هذه الارض. وحين يتحقق هذا المنهج تكون له السيادة الارضية الى جانب السعادة الاخروية وميزته انه لا انفصال فيه بين طريق الدنيا وطريق الاخرة. ولا يقضي الغاء هذه الحياة الدنيا أو تعطيلها. ليحقق أهداف الحياة الآخرة. وانما هو يربطهما معا برباط واحد. صلاح القلب وصلاح المجتمع. وصلاح الحياة في هذه الارض. ومن ثم يكون الطريق الى الاخرة. فالدنيا مزرعة الاخرة. وعمارة جنة هذه الارض وسيادتها وسيلة الى عمارة جنة الاخرة. والخلود فيها. وشرط اتباع هدى الله تعالى. والتوجه اليه بالعمل والتطلع الى رضاه.

وما حدث قط في تاريخ البشرية ان استقامت جماعة على هدى الله الا منحها الله تعالى القوة والمنعة والسيادة في نهاية المطاف. بعد اعدادها لحمل هذه الامانة امانة الخلافة في الارض وتصريف الحياة.

وان الكثيرين ليتوجلون من اتباع شريعة الله والسير على هداه يتوجلون من عداوة أعداء الله ومكرهم. يشفقون من تألب الخصوم عليهم. ويشفقون من المضايقات الاقتصادية وغير الاقتصادية. وان هي الا أوهام. كأوهام قريش يوم قالت لرسول الله ص وآله (إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) فلما انبعث الهدى سيطرت على مشارق الارض ومغاربها. في ربع قرن أو أقل من ذلك. وقد رد الله عليهم في وقتها بما كذب هذا العذر الموهوم (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا ..)

فما بالهم يخافون أن يتخطفهم الناس لو اتبعوا هدى الله ـ الذي هو مأمن الخائفين ـ والله هو الذي مكن لهم الامن في بيته الحرام.

٥٤٤

منذ أبيهم ابراهيم (ع) أفمن آمنهم وهم عصاة له يدعهم اذا أطاعوه. وآمنوا برسوله واتبعوا ما أنزله عليه من نور يهديهم في الظلمات والفلوات. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) لا يعلمون أين يكون الامن. واين يكون الخوف. ولا يعلمون أن مرد الامر كله الى الله عزوجل. فاما اذا أرادوا ان يتقوا المهالك والمخاوف حقا. وان يأمنوا التخطف حقا. فها هي ذي عند الخالق العظيم والقويّ القدير الذي اذا قال للشيء كن فيكون. (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها. فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ ...) ان بطر النعمة وعدم الشكر عليها هو سبب هلاك القرى. وقد أوتوا من نعمة الله ذلك الحرم الامن. فليحذروا اذن ان يبطروا وألا يشكروا. فيحل بهم الهلاك والدمار. كما حل بمن تقدمهم الذين يرون مساكنهم خاوية خالية. (لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ).

على أن الله عزوجل لم يهلك تلك القرى التي بطرت معيشتها. الا بعد أعذار وانذار وارسال رسل اليهم. لاتمام الحجة عليهم (ولئلا يقولوا (لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً ...) (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ) (فِي أُمِّها رَسُولاً) وحكمة ارسال الرسول في أم القرى ـ أي كبراها أو عاصمتها ـ ان تكون مركزا تبلغ منه الرسالة الى الاطراف. فلا تبقى حجة ولا عذر فيها لأحد.

وقد أرسل النبي ص وآله في مكة أم القرى العربية. فهو ينذرهم عاقبة المكذبين قبلهم بعد ما جاءهم النذير. (وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) وهذه هي رأفة الخالق العظيم بخلقه.

(وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها. وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ).

وها هو التقويم الاخير لا ما يخشون فواته من متاع الحياة الدنيا. والا ما يتفاخر به الجاهلون.

٥٤٥

(أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (٦٣) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (٦٤) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (٦٦))

البيان : (أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ ..) هذه صفحة من وعد الله عزوجل وعدا حسنا فوجده في الاخرة حقا. وهو لا بد لاقيه. وهذه صفحة من متاع الحياة الدنيا القصيرة الزهيدة. ثم ها هو في الاخرة من المحضرين للحساب والعقاب. وتلك نهاية المطاف لكل من أهل الدنيا والاخرة. (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ : أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ).

والله تعالى يعلم ان لا وجود اليوم لهؤلاء الشركاء. وان أتباعهم لا يعلمون عنهم شيئا. ولكنه الخزي لهم. والفضيحة على رؤوس الاشهاد. (رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ) منهم.

انما هم وقعوا في الغواية عن رضى منهم واختيار. كما وقعنا نحن في الغواية دون اجبار. عندئذ يعود بهم الى المخزاة التي حولوا الحديث عنها مخزاة الشركاء (وقيل أين شركاءهم) أدعوهم ولا تهربوا من سيرتهم. ادعوهم لينقذوكم مما نزل بكم. وهل هم الا مثلهم في البلاء. (فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) ولم يكن منتظرا غير ذاك منهم ولكنه الاذلال والتوبيخ لهم. (وَرَأَوُا الْعَذابَ) رأوه في هذا الحوار. ورأوه من جميع جهاتهم فأين المفر فلا شفيع ولا حميم. (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) وان الله ليعلم ماذا أجابوا. ولكنه التأنيب

٥٤٦

والتبكيت. (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ) والتعبير يلقى ظل العمى عليهم. وهم ذهول صامتون ساكتون.

(فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (٦٧) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٨) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٦٩) وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠))

البيان : (فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) هذه هي الصفحة المقابلة. ففي الوقت الذي يبلغ الكرب ذروته بالمشركين. يفتح لهم باب التوبة. وباب النجاة. وباب الفوز بجنة نعيمها خالد لا يزول. ويتحدث عمن تاب وآمن وعمل صالحا. فله جنة فيها ما تشتهي الانفس وتلذ الأعين. (وربك يخلق ما يشاء ويختار. ما كان له الخيرة ..) انها الحقيقة التي كثيرا ما ينساها الناس. ان الله عزوجل هو الخالق لكل شيء كما يريد ويشاء وليس لمخلوق دخل في كل ما يخلق ويختار.

(وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) فهو مجازيهم يعلم من أمرهم كل ما أعلنوا وما أسروا (وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) وهكذا يطوقهم بالشعور بقدرة الله. وتفرد ارادته في هذا الوجود واطلاعه على كل حركة يتحركونها. فلا يخفى عليهم خافية. واليه مرجعهم ومنه ثوابهم وأعقابهم.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢)

وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٧٥))

٥٤٧

البيان : الناس لطول ما اعتادوا من كر الجديدين ينسون جدتهما المتكررة التي لا تبلى ولا يروعهم مطلع الشمس ولا مغيبها الا قليلا. ولا يهزهم طلوع النهار واقبال الليل الا نادرا. ولا يتدبرون ما في تواليهما من رحمة بهم وانقاذ من البلى والدمار. أو التعطل والبوار.

والقرآن المجيد يوقظهم من جمود الالفة والعادة. ويلفتهم الى تملّي الكون من حولهم ومشاهده العظيمة. وذلك حين يخيل اليهم استمرار الليل أبدا. أو النهار أبدا. فما يكون حالهم حين يخيفهم من عواقب هذا وذاك. وما يشعر الانسان بقيمة الشيء الا حين فقدانه.

والناس يشتاقون الى الصبح حين يطول بهم الليل في أيام الشتاء. ويحنون الى ضياء الشمس فكيف بهم لو فقدوا الضياء أصلا. وهل يبقى على وجه الارض حياة من كل حي.

والناس يستروحون الظلال حين يطول عليهم الهجير في ساعات النهار. ويحنون الى الليل. والحياة كلها مفتقرة الى الليل وهوائه البارد. فكيف بالناس لو ظل النهار سرمدا الى يوم القيامة. فهل يبقى حياة صالحة لمخلوق حي. (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) القمر (٤٩)

فالليل سكينة وقرار. والنهار نشاط وعمل. والمرجع فيها الى فضل الله الحكيم القدير. الذي اتقن صنع كل شيء وقدره تقديرا. ولكن اكثر الناس عن رحمته وحكمته يغفلون والعاقبة للمتقين.

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) وتصوير يوم النداء. وما فيه من سؤال عن الشركاء. قد سبق في جولة ماضية فهو يعاد هنا لتوكيده. بمناسبة المشهد الجديد. الذي يعرض هنا.(فعلموا انه الحق) الحق كله خالصا لا شبهة فيه ولا ارتياب لأولي الالباب.

٥٤٨

(إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩)

وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (٨٠) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (٨١) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (٨٢))

البيان : (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى) هكذا تبدأ القصة فتعين اسم (قارُونَ) الباغي وتقرر مسلكه مع قومه. وهو مسلك البغي (فَبَغى عَلَيْهِمْ) وتشير الى سبب هذا البغي. (وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ...) لقد كان قارون من قوم موسى. فحصل على مال كثير (إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ) فهم يردونه الى الله الذي لا يحب الفرحين المتباهين بالمال والمتفاخرين به على سواهم من الفقراء. (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) يعني اغتنم غناك وما آتاك الله وافعل به الخير لنفسك لتسعد به بعد موتك وفي آخرتك فان الحياة غنيمة لمن اقدره الله تعالى. (ولذا ورد في الحديث : اغتنم حياتك قبل موتك وغناك قبل فقرك وشبابك قبل هرمك ...)

(وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) فهذا المال هو مال الله عزوجل والسعيد من اغتنم حصوله لينفقه في مرضات الله تعالى فينال به حظا في الدنيا بين الناس وثوابا من الله تعالى وسعادة في دار الاخرة ونعيم

٥٤٩

الابد. وذلك هو الفوز العظيم. (قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) يعني انه بحسن تدبيره ومهارته حصل هذا المال والله ليس له دخل في حصوله.

انها قوة للمغرور المطموس الذي ينسى مصدر الرزق والعطاء ، ويفتنه المال والجاه. وهذا كاد أن يكون ملازما لأكثر من يحصل لديه المال الكثير. والجاه الواسع. فكم من الناس يظن ويخدعه الغرور بأن علمه ومهارته اوصله الى ما حصل له من هذا المال. ومن ثم فهو الذي ينفق ويمسك ويعطي ويمنع فالأمر اليه وليس لأحد دخل في كل ما له وما عليه.

والاسلام يعترف بالملكية الفردية. ويقدر الجهد الفردي في بذل تحصيله من وجوه الحلال. ولكنه في الوقت ذاته يفرض منهجا معينا للتصرف في الملكية الفردية. وهو منهج متوازن متعادل. فلا يحرم الفرد ثمرة جهده. ولا يطلق يده في الاستمتاع بما يخرجه الى الافراط. او التفريط.

كما أنه يفرض للجماعة حقوقها في هذا المال. ورقابتها على طرق تحصيله. وطرق انفاقه. ولكن ، الباغي لم يستمع لنداء قومه. ولم يشعر بنعمة خالقه. ولم يخضع لمنهجه العادل. وقد أعرض عن ذلك كله مع الاستكبار اللئيم. والبطر المذموم. ومن ثم جاءه التهديد الالهي :

(أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً. وَأَكْثَرُ جَمْعاً). فان كان ذا قوة وذا مال. فقد أهلك الله من قبله أجيالا كانت أشد منه قوة واكثر مالا. (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ...) فوقفت طائفة منهم أمام فتنة الحياة الدنيا. وتمنت ما عليه قارون من زينة الحياة الفانية الزائلة.

٥٥٠

أما المتصلون بالله والعارفون بعظمته وجلاله. فلهم ميزان آخر بقيم الحياة. التي لا تزول وليس لها مثيل في هذا الوجود. (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً).

وعند ما تبلغ زينة الدنيا ذروتها ويسكر أربابها ببهجتها يأتي القضاء من القدرة الالهية (فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ. فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ).

هكذا في جملة قصيرة. وفي لمحة خاطفة. ذهب قارون وغاب عن الوجود كما ذهب من قبل ـ عن قريب ـ فرعون الذي كانت الاتباع تسجد له طوعا أو كرها. وغاب مال قارون مع داره الذي كان يسكنه ومع البيوت التي كانت تخزن فيها الاموال التي كانت مفاتيحها تعجز عن حملها العصبة القوية. (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ) (وكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء .. لو لا ان من الله علينا لخسف بنا) مع قارون وماله وداره في لحظة واحدة كأنه لم يكن وقفوا يحمدون الله تعالى الذي لم يعاجلهم مقابل ما قالوا وما تمنوا وما استحسنوا من فعل قارون وزينته. ورجعوا الى خالقهم يشكرونه على عدم مواخذتهم بما قالوا وما تمنوا.

(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣) مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (٨٥) وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَافِرِينَ (٨٦) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨))

البيان : ويسدل الستار على هذا المشهد. وقد انتصرت

٥٥١

القلوب المؤمنة بتدخل القدرة الالهية سافرة. وقد رجحت قيمة الايمان في كفة الميزان. ثم يأخذ في تعقيب أنسب فيقول :

(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).

تلك الاخرة التي تحدث عنها الذين أوتوا العلم. العلم الحق الذي يقوم الاشياء قيمتها الحقيقية. تلك الدار الآخرة العالية الرتبة. البعيدة الافاق (نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ) فلا يقوم في نفوسهم خاطر الاستعلاء بأنفسهم. ولا يهجس في قلوبهم الاعتزاز بالدنيا وما فيها. وانما يتوارى شعورهم بأنفسهم ليملأها الشعور بالله الخالق العظيم. ومنهجه العدل المستقيم. الذين يخشون الله ويراقبونه في جميع حركاتهم وتقلباتهم. ويتحرزون من الدنو لما يحتملون فيه غضبه.

(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) ولقد ردّ موسى (ع) من قبل الى أمه وفاء لوعده لها. ثم رده بعد خروجه خائفا يترقب. ولكن هذه المرة قد رده وهو رسول الله تعالى ردّه وهو يحمل رسالة السماء الى أهل الارض جميعا. ردّه وهو يحمل التوراة فيها هدى ونور. قد ردّه لينقذ المستضعفين المظلومين. رده ليكافح الظلم والطغيان ويمحيه من عالم الوجود ويخلف هؤلاء المستضعفين في الارض وينظر كيف يعملون حيث أعزّهم بعد الخذلان والعدوان (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) وهذا الفات نظر لرسولنا ص وآله.

وهو تقرير قاطع عن عدم تطلع الرسول ص وآله. الى الرسالة. وانما هو اختيار الله عزوجل لان رسالة السماء لا يجوز لأحد ان يتحمل عبء تبليغها وحمل نشرها وعبء صيانتها الا من يختاره الله عزوجل

٥٥٢

لذلك لانه هو العليم الخبير بما تكنه الصدور. وما يحدث ويكون في المستقبل الآتي.

لذلك يقول الامام الرضا (ع) في حديث في فضل الامام (ع) وصفته قال هل يعرفون قدر الامامة. ومحلها من الامة حتى يجوز فيها الاختيار للمخلوقات ـ الى أن يقول (ع) : لقد راموا صعبا وقالوا افكا. وضلوا ضلالا بعيدا. ووقعوا في الحيرة. اذ تركوا الامام ـ الذي اختاره الله ورسوله ص وآله ـ عن بصيرة وزيّن لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين.

لقد رغبوا عن اختيار الله واختيار رسول الله الى اختيارهم. والقرآن يناديهم بقوله تعالى (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ. ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) وقال تعالى (ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ).

وسئل (ع) عن العلّة التي تمنع أن يكون اختيار الامام بعد النبي من غير الله تعالى ص وآله. فقال (ع) : فهل يجوز أن تقع خيرتهم على المفسد بعد أن لا يعلم أحدهم ما يخطر ببال غيره. من صلاح او فساد. قيل بلى قال (ع) فهي العلة. ثم أورد (ع) برهانا تخضع له العقول ويقنع به الضمير والوجدان. فقال (ع) اخبرون عن الرسل الذين اصطفاهم الله عزوجل وعصمهم. أهم أهدى الى الاختيار قالوا : نعم فقال (ع) فهذا موسى (ع) كليم الله. قد اختار من قومه سبعين رجلا لميقات ربه. فآل أمرهم الى أن قالوا له : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً. فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) فاذا كان اختيار خير زمانه لا يسلم من الفساد فكيف بمن هم دونه بمراتب لا تتناهى) فاعتبروا يا أولي الالباب ولكن اتباع الهوى يعمي صاحبه.

٥٥٣

ـ ٢٩ ـ سورة العنكبوت آياتها (٦٩) آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥))

البيان : ألف. لام. ميم. الحروف المقطعة التي اخترنا في تفسيرها انها للتنبيه الى انها مادة هذا الكتاب الذي أنزله الله على رسوله ص وآله. وهو مؤلف من مثل هذه الحروف المألوفة للقوم ولكل انسان. فليؤلفوا منها مثل هذا الكتاب ان ارتابوا في انه منزل من عند الخالق العظيم والرب القدير الحكيم. ولكنهم اعجز واقصر من ان يملكوا ذلك ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. لانه صنع الخالق وليس من سواه (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ).

انه الايقاع الاول في هذا المقطع القوي من السورة يساق في صورة استفهام استنكاري لمفهوم الناس بالايمان. وحسبانهم انه كلمة تقال باللسان. ان الايمان ليس كلمة تقال. انما هو حقيقة ذات تكاليف. وأمانة ذات اعباء. وجهاد يحتاج الى صبر. وجهد يحتاج الى احتمال.

فلا يكفي ان يقول الناس آمنا. وهم لا يختبرون. ويمتحنون حتى يتميز الصادق من الكاذب والخبيث من الطيب والتقي من الشقي. (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ..)

والله يعلم حقيقة القلوب قبل الابتلاء والامتحان. ولكن يريد عزوجل ان يظهر ذلك لأولى الالباب حتى يتميز لهم الطيب فيتبعوه. ويتميز لهم الخبيث فيتجنبوا عنه ويحذروه. ولتكون الحجة أقوى وأظهر. ان الايمان بالله عزوجل. أمانة الله في هذه الارض لا يحملها الا من هم لها اهل وعلى حملها قدير. الذين قد تجردت قلوبهم عن حب الدنيا وأهلها. ومن ثم يحتاج الى طراز خاص يصبر على الابتلاء. ومن الفتنة والامتحان ان يتعرض المؤمن للاذى من الباطل وأهله. ثم لا يجد النصير الذي

٥٥٤

يسانده وهناك فتن كثيرة في صور شتى. ربما كانت أمرّ وأدهى.

هناك فتن الاهل والاقارب. الذين يخشى عليهم ان يصيبهم الاذى بسببه. وهو لا يملك عنهم دفعا وقد يهتفون به ليسالم او يستسلم. وينادونه باسم الحب له والقرابة. واتقاء الله في الرحم. التي يعرضها للاذى او الهلاك. وأشير في هذه السورة الى لون من هذه الفتنة. مع الوالدين وهو شاقّ عسر. وهناك فتنة من نوع اخر قد نراها في هذه الايام. فتنة ان يجد المؤمن أمما ودولا غارقة في الرذائل والمفاسد. وهي تدعي بذلك التقدم والرقي. والناس يحسدونها على ذلك وهناك الفتنة الكبرى. اكبر من هذا كله واعنف. فتنة النفس والشهوة وجاذبية الارض والرغبة في المتاع والسلطان. او في الدعة والتجنب لكفاح الضلال والباطل.

ولذا ورد في الحديث (أشد الناس بلاء الانبياء ثم الاوصياء ثم الامثل فالأمثل. ولذا قال تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا. ساءَ ما يَحْكُمُونَ).

فلا يحسبن اهل الضلال والفساد انهم يفلتون من انتقام الله تعالى وعقابه لهم اينما كانوا. فأن الله تعالى هو الذي جعل الابتلاء للمؤمنين ليميز الخبيث من الطيب. والصادق من الكاذب. هو الذي جعل أخذ المسيئين سنة لا تتبدل ولا تتخلف ولا تحيد.

(مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ. فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ) فلتقر القلوب الراجية في لقاء خالقها ولتطمئن ولتنتظر ما وعدها الله اياه. انتظار الواثق المستيقن. ولتصبر من الله تعالى مع الصابرين.

(وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٧) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا

٥٥٥

وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠))

البيان : (وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ) (فلا يقفن احد في وسط الطريق.) وقد مضى في الجهاد شوطا. يطلب من الله ثمن جهاده. ويمنّ عليه. وعلى اتباع دعوته. ويستبطىء المكافأة. فان الله لا يناله من جهاده شيء. وليس في حاجة الى جهاد المخلوقين. الذين قد منّ عليهم بالوجود (فان الله لغني عن العالمين) والله المتفضل على المجاهدين حيث يوفقهم للجهاد. واستخلفهم في ارضه .. وتفضل عليهم بأن يثبتهم على جهادهم. وان كان نفعه وفائدته راجع اليهم. (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً. وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما ..)

ان الصلة في الله هي الصلة الاولى ـ بين المخلوقين ـ وهي الرابطة في الله ـ وهي العروة الوثقى. فأن أمر الوالدان ولدهما بما يتنافى مع رضى الخالق العظيم فلا تجوز طاعتهما. ولا كرامة لهما في معصية الخالق. لانه لا تجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق بحكم العقل والشرع (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ. فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ).

واختلت في نفسه القيم. واهتزت في ضميره العقيدة. وتصور ان لا عذاب بعد هذا الاذى الذي يلقاه. وقال في نفسه ها هو عذاب الله ليس وراءه. أشد فعلام اصبر على الايمان.

وان هذا الا الخلط بين أذى يقدر ويحدد وينقضي وبين عذاب الله الذي لا يقدر ولا ينتهي (وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) انا كنا معكم وذلك كان موقفهم في ساعة العسرة. من التخاذل والتهاوي وسوء التصوير. وخطأ التقدير. (أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ) ا وليس الله تعالى يعلم بما تنطوي عليه تلك الصدور. من ايمان

٥٥٦

او نفاق فمن الذي يخدع علام الغيوب.

(وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (١٥))

البيان : فليست الغلطة ان صبرهم قد ضعف عن احتمال العذاب. فمثل هذا قد يقع من المؤمنين الصادقين في بعض اللحظات. ولكنه لا يصل بهم الامر حتى يستوي عندهم عذاب المخلوق المحدود مع عذاب الخالق الغير مقدر ولا تحده حدود. فلا يختلط في حسهم ابدا عالم الفناء الصغير وعالم الخلود الكبير. حتى في اللحظة التي يجاوز عذاب الناس لهم مدى الطاقة وجهد الاحتمال. وهذا هو المايز الفارق بين قلوب اهل الايمان الصادق. وبين قلوب اهل النفاق الكاذب. (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ. وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ ..)

وقد كان الذين كفروا يقصدون خداع اهل الايمان بمثل هذا الباطل وقد حذّر الله تعالى اهل الايمان من هذه الخدع التي لا واقع لها في ميزان الحق والعدل. فكل من يرتكب جريمة يتحمل هو عبء اجرامها وعقابها. غاية الأمر الذى يزين ويساعد ويخدع من يرتكبها يكون عليه من الوزر والعقاب كمن باشرها. ولا ينقص جرم المباشر شيئا. ولذا قال عزوجل : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ. وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ).

(وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ

٥٥٧

وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧) وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (١٩) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠))

البيان : لقد دعا ابراهيم (ع) قومه دعوة بسيطة واضحة لا تعقيد فيها ولا غموض. وهي مرتبة العرض (اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ). ثم ثنّى بتحبيب هذه الحقيقة اليهم وما تضمنته من الخير لهم (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) وفي هذا التعقيب ما يحفزهم الى ترك الجهل واختيار الخير لأنفسهم وفي الخطوة الثالثة بين لهم فساد ما هم عليه من عبادة الاحجار. والاخشاب فهي عبادة سخيفة بدون خفاء. وبخاصة اذا كانوا بعبادتها يعدلون عن عبادة الخالق العظيم القدير.

وثانيها انهم بهذه العبادة لا يستندون الى برهان او دليل. وانما يخلقون افكا وينشئون باطلا. وثالثها : ان هذه الاوثان لا تقدم لهم نفعا. ولا ترزقهم شيئا (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً).

وفي الخطوة الرابعة يوجههم الى الله ليطلبوا منه الرزق. الأمر الذي يهمهم ويمس حاجتهم (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ) وفي نهاية المطاف يهتف بهم الى واهب الارزاق المتفضل عليهم بالنعم الجسام قبل ان يعرفوه وقبل ان يكونوا شيئا مذكورا. واخيرا يكشف لهم انه لا مفر لكم من الله عزوجل واليه ترجعون. فمن الخير ان ترجعوا اليه مؤمنين مطيعين شاكرين لا نعمه ولتفضله. لتنالوا ما اعده للتائبين المطيعين من جنات النعيم (وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) فلن يصل الى الله تعالى ولا الى رسوله من ضرر تكذيبكم. فهو راجع ضرره ووباله عليكم لا غير وعلى من يتبعكم (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ).

٥٥٨

انهم ليرون كل ذلك بأعينهم. يرونه في النبتة النامية. وفي بيضة الدجاجة. وفي تركيب كل مولود. ووفي كل ما لم يكن ثم كان. مما لا تملك قدرة البشر بأجمعهم مجتمعين عليه. ولذا يقول الله عزوجل (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) سورة الحج آية ٧٢).

فان كانوا يرون انشاء الخلق بأعينهم. فالذي انشأه اول مرة هو اهون عليه ارجاعه ثاني مرة (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) ومن المسامحة في اللفظ ان يقال عن الله تعالى هذا يسير عليه. ولكن انما يقرب بذلك الى أفهام البشر المحدودين في كل شؤونهم. فالبدء أسهل من الأعادة بحسب فهم البشر وانما امره اذا قال للشيء كن فيكون. (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) ان التعبير هنا بلفظ الماضي (كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) لينظروا كيف بدء الخلق يثير في النفس خاطرا معينا. ترى هنالك في الارض ما يدل. والسير في الارض يفتح العين. والقلب على المشاهد الجديدة. التي تألفها العين ولم يملها القلب. وهي لفتة عميقة الى حقيقة دقيقة. وان الانسان ليعيش في المكان الذي ألفه. فلا يكاد ينتبه الى شيء من مشاهده أو عجائبه حتى اذا سافر وتنقل وساح استيقظ حسه وقلبه الى كل مشهد يراه. والى كل مظهر يمر عليه في الارض جديد. مما كان يمر على مثله او أروع منه في موطنه. دون الالتفات ولا انتباه. وربما عاد الى موطنه بحس جديد. وروح جديدة. ليبحث ويتأمل ويعجب بما لم يهتم به قبل سفره وغيبته. فسبحان منزل هذا القرآن الخبير بمداخل القلوب. (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يبدأ الحياة ويعيدها بهذه القدرة المطلقة التي لا تتقيد بتصورات البشر القاصرة. وما يحسبونه قوانين يقيسون عليها الممكن وغير الممكن بما يعرفونه من المحدود فليس كما يتوهمون.

٥٥٩

الفهرس

الصفحة

 الموضوع

الصفحة

 الموضوع

٤٩

 ـ نظرة الاسلام في الانسان

٢٥١

 ـ سورة الحجر

٥٥

 ـ سورة الانفال

٢٦٤

 ـ سورة النحل

٥٥

 ـ الفيىء والانفال

٢٩٢

 ـ سورة الاسراء

٦٧

 ـ التقوى غذاء القلوب

٣٠٣

 ـ عناية الاسلام بالمرأة

٨١

 ـ الاسلام منهج الحياة

٣٢٣

 ـ سورة الكهف

٨٣

 ـ سورة التوبة

٣٣٩

 ـ قصة الاسكندر

٨٧

 ـ عداء المشركين للاسلام

٣٤٢

 ـ سورة مريم

٩٧

 ـ اليهود والنصار مشركون

٣٥٥

 ـ سورة طه

١٢٤

 ـ سورة يونس

٣٧٢

 ـ سورة الانبياء

١٣٩

 ـ اعجاز القرآن وتحديه

٣٩١

 ـ الحجة المنتظر (ع)

١٥٥

 ـ نجاة قوم يونس (ع)

٣٩٥

 ـ سورة الحج

١٦٢

 ـ سورة هود (ع)

٤١٥

 ـ سورة المؤمنون

١٨٥

 ـ الاسلام ميزان الحق

٥٩

 ـ سورة الفرقان

١٩٣

 ـ سورة يوسف (ع)

٤٨٠

 ـ سورة الشعراء

٢١٦

 ـ نصرة الله لرسله

٥٠٥

 ـ سورة النمل

٢١٨

 ـ سورة الرعد

٥٢٨

 ـ سورة القصص

٢٣٤

 ـ سورة ابراهيم

٥٥٤

 ـ سورة العنكبوت

٢٣٨

 ـ الايمان فطرة الله تعالى

* * *

٥٦٠