تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٣

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي

تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠

أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٢٢) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (٢٤))

البيان : انه مشهد عنيف صاخب. حافل بالحركة. مطول بالتخييل الذي يبعثه في النفس نسق التعبير : هذه ثياب من النار. تقطع وتفصل. وهذا حميم ساخن يصب من فوق الرؤوس يصهر به ما في البطون. هذه مقامع من حديد أحميت بالنار. وهذا هو العذاب الشديد. (وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) ولا يبارح الخيال هذا المشهد العنيف الذي يستطرده السياق.

فأصل الموضوع أن هناك خصمين اختصموا في ربهم فاما الذين كفروا فهذا مصيرهم. وأما الذين آمنوا فهم في جنات النعيم. وملابسهم من حرير. وقد هداهم الله الى الطيب من القول. وتلك عاقبة الخصام في الله. فهذا فريق في عذاب الجحيم. وذاك فريق في جنات النعيم.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٥) وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠))

البيان : كان ذلك فعل المشركين من قريش. فجعلوا يصدون

٤٠١

الناس عن الاسلام. والقرآن يهدد من يريد الاعوجاج. في هذا المنهج المستقيم بالعذاب الاليم ..

(وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) ومن دقائق التعبير أن يحذف خبران في الجملة. فلا يذكر ما لهم ما شانهم ما جزاؤهم .. فالحكمة هنا في الاجمال والاختصار. (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) : فللتوحيد أقيم هذا البيت منذ أول لحظة. عرف الله عزوجل لان ابراهيم (ع) أمره الله تعالى ليقيم بيته على احساس التوحيد (أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً) فهو بيت الله وحده دون سواه. (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ) فهؤلاء هم الذين انشىء لهم البيت. لا لمن يشركون بالله. ويتوجهون بالعبادة الى سواه. (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً) ومازال وعد الله يتحقق منذ ابراهيم (ع) الى اليوم والغد. وما تزال أفئدة من الناس تهوى اليه (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ) والمنافع التي يشهدها الحجيج كثيرة فالحج موسم ومؤتمر. والحج موسم تجارة. وموسم عبادة. ومؤتمر اجتماعي وتعارف بين المسلمين. ومؤتمر تنسيق وتعاون وهو موسم عبادة تصفو فيه الارواح. وهي تستشعر قربها من خالقها العظيم في بيته الحرام (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) وهذه كناية عن نحر الذبائح لان الجو جو عبادة ولان المقصود من النحر هو التقرب الى الله. والنحر ذكرى لفداء اسماعيل (ع) (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا) وبالنحر ينتهي الاحرام فيحل حلق الشعر للحاج أو التقصير. والبيت معمور منذ ابراهيم (ع). (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) وتعظيم حرمات الله يتبعه التحرج من كل فساد وظلم وعدوان على المخلوقين عامة. فالضمير الذي يتحرج هو الضمير الذي يتطهر من كل دنس (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ. وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) ويغلظ النص

٤٠٢

من جريمة قول الزور اذ يقرنها بالشرك. والشرك افتراء على الله وزور ، فلذا يحذر الله من الدنو منه على كل حال.

(حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (٣١) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥))

البيان : انه مشهد الهويّ من شاهق (فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ) وفي لمح البصر يتمزق والمحلوظ هو سرعة الحركة مع عنفها. وتعاقب خطواتها بسرعة الاختفاء. والمراد بالاشراك هنا هو مطلق العصيان لله ، لان كل من رجا عدو الله في جلب محبوب او التجأ الى عدو الله في دفع مكروه فقد أشرك بالله. وجعل هذا المخلوق قادرا على قضاء حاجته.

والاستغناء بالمخلوق عن الخالق وأي شرك أقبح من هذا. والله عزوجل يقول (إِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ. وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). والرجاء لاعداء الله. والالتجاء لاعداء الله هو الشرك الخفي لله عزوجل في خصائصه فالويل لعلماء الدين الذين يقفون على ابواب أعداء الله. من أطباء. وأغنياء. وزعماء

(ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) ويربط بين الهدي الذي ينحره الحاج وتقوى القلوب. اذ ان التقوى هي الغاية من مناسك الحج. وهي ذكريات الطاعة لله والانابة اليه. وهذه الانعام التي تتخذ هديا ينحر في نهاية المناسك. ويطعم فيها البائس الفقير.

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ) والاسلام يوحد المشاعر والاتجاهات ، ويتوجه بها الى الله عزوجل دون سواه. وعلى

٤٠٣

هذا الاساس حرم الذبائح لغير الله. وأوجب ذكر اسمه عليها (فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) والاسلام لا يجبر او يكره احدا على اعتناقه انما يطلب تفهمه ليدخل به الانسان عن الحاجة الى صحة عقيدته وعدالة منهجه (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ).

(وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦) لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (٣٧) إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠))

البيان : يخص هنا البدن بالذكر لانها أعظم افراد الهدي. فيقرر الله انه أراد بها الخير لهم ، فجعلها صالحة للعمل والركوب والتولد. والاكل والحليب الذي يخرج منها فكلها منافع. (كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) فقد هداهم الى توحيده والاتجاه اليه. عزوجل.

(إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) ان قوى الشر والضلال تعمل في هذه الارض والمعركة مستمرة بين الخير والشر. والهدى والضلال. والكفر والايمان. ولم يشأ الله عزوجل أن يترك المؤمنين للفتنة. الا ريثما يستعدون للمقاومة. ويتمكنون من وسائل الجهاد (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) (وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) ان الله يبدأ الاذن بالقتال للذين قاتلهم المشركون واعتدى عليهم المبطلون. وما وراءها من اسرار في عالم النفس والحياة.

٤٠٤

فقد ضمن للمؤمنين انه تعالى يدافع عنهم بشرط أن يقوموا بما أوجب عليهم وترك ما نهاهم عنه وطاعته الكاملة وحينئذ يستحقون المدافعة. ولا يشمل هذا الدفاع العاصين لله تعالى وان كانوا يدعون الايمان بدون حق. لقد شاء الله تعالى أن يجعل دفاعه عن الذين آمنوا يتم عن طريق معونتهم على أعدائهم كي يتم نضجهم في أثناء المعركة.

والامة التي تقوم على دعوة الله في حاجة الى حشد كل قواها للدفاع والقتال لاعدائها كي يتم نموها ويكمل نضجها وتتهيأ لحمل الامانة والقيام عليها لصون الدين والمجاهدة في سبيل الحق. والنصر السريع الذي لا يكلف عناء والذي يتنزل هينا لينا على القاعدين مثل هذا النصر يعطل تلك الطاقات عن الظهور واستعمال القوة التي وهبها الله لعباده ليؤدوا حقها وبذلها.

وقد يبطىء النصر حتى تبذل الامة المؤمنة آخر ما في طوقها من قوة. واخر ما تملكه من رصيد. فلا تستبقي عزيزا ولا غاليا ، الا تبذله هينا رخيصا في سبيل الله عزوجل. وحتى تدرك الامة ان القوة وحدها بدون سند من الله لا تكفل النصر. انما يتنزل النصر من عند الله بعد ما تبذل الامة آخر ما في طوقها ثم تكل الامر بعدها الى الله فان كانت الحكمة في النصر نصر والا فاليه الامر.

وقد يبطىء النصر لان الباطل الذي تحاربه الامة المؤمنة لم ينكشف زيفه للناس تماما.

فلو غلب المؤمنون حينئذ فقد يجد له أنصارا من المخدوعين فيه ، فتظل له جذور لم تنكشف لهم الحقيقة. فالحكمة هنا بتأخر النصر حتى يرتفع هذا المانع.

كما قد يبطىء النصر لان في الشر الذي تكافحه الامة المؤمنة ،

٤٠٥

بقية من خير. يريد الله ان يجرد الشر منها ليتمحض الشر خالصا. ويذهب وحده هالكا في غمار الدمار.

قد يبطىء النصر لان البيئة بعد لم تصلح لاستقبال الحق والخير والعدل الذي تمثله الامة المؤمنة. فلو انتصرت حينئذ ، للقيت معارضة لا يستقر لها قرار. فيظل الصراع قائما حتى تتهيأ النفوس من حوله لاستقبال الحق الظافر. وهذا ما حصل بعد وفاة رسول الله ص وآله مباشرة ودعا امير المؤمنين وامام المتقين علي بن ابي طالب (ع) للسكوت عن أهل السقيفة.

ولذا قال لفاطمة الزهراء (ع) ـ حينما عاتبته على جلوسه في بيته ـ والله لو خرجت اليهم بسيفي هذا لارتد القوم وخدعوا الناس فتبعتهم وعادت الاصنام الى جوف الكعبة وتولى الامارة ابو سفيان عدو الانسانية والاسلام. وحينئذ تكون المصيبة على الدين اشد وأدهى مما هو فيه. فقالت (ع) قد رضيت بكل اصابتي لبقاء دين الله تعالى

(وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ..) فحققنا لهم النصر وثبتنا لهم الامر فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وعبدوا الله مخلصين له الدين. فوعد الله المؤكد الوثيق المتحقق الذي لا يتخلف هو ان ينصر من ينصره. فمن هم هؤلاء الذين يعدهم الله بالنصر على وجه التحقيق. فالنصر يجب أن يقوم على اسبابه. من انتصار الحق والعدل. والنصر له سببه وله ثمنه وله تكاليفه. وله شروطه. فلا يعطي لأحد جزافا أو محاباة. ولا يبقى لاحد لا يتحقق مقتضاه.

(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٤١)

وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ

٤٠٦

لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٤) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥))

البيان : فالسنة المطردة في الرسالات كلها. قبل رسالة خاتم الرسل ص وآله. ان يجييء الرسل بالآيات فيكذب بها المكذبون. فليس الرسول ص وآله. بدعا من الرسل حين يكذبه قومه. والعاقبة معروفة. والسنة مطردة (فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ ..) (وبعد الاستعراض السريع لمصارع اولئك الاقوام يعمم في عرض مصارع الغابرين : (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ) (فهي كثيرة تلك القرى التي اوهلكت بظلمها. فهي داعيا الى التأمل في صورتها الخالية. وصورتها البادية. والربوع الخربة الموحشة فهي عبرة للمعتبرين.

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٥١))

البيان : ان مصارع الغابرين حيالهم شاخصة موحية ، تتحدث بالعبر. وتنطق بالعظات. (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) فيروها فتوحى لهم بالعبرة. وتنطق لهم بلسانها البليغ. وتحدثهم بما تنطوي عليه من عبر (فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها) فتدرك ما وراء هذه الآثار الدوارس من سنة لا تتخلف ولا تتبدل (أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) فتسمع احاديث الاحياء عن تلك الدور المهدمة. والآبار المعطلة. والقصور الموحشة. أفلم تكن لهم قلوب. فانهم يرون ولا يدركون. ويسمعون ولا يعتبرون (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ).

٤٠٧

ويمعن العاقل في تحديد مواضع القلوب (الَّتِي فِي الصُّدُورِ) زيادة في التوكيد وزيادة في اثبات العمى لتلك القلوب على وجه التحديد. ولو كانت هذه القلوب تعي لجاشت بالذكرى وجاشت بالعبرة. وجنحت الى الايمان خشية العاقبة. الماثلة في مصارع الغابرين وهي حولهم كثيرة ولكنهم بدلا من التأمل والجنوح الى الايمان والحذر من العذاب. راحوا يستعجلون العذاب (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) وذلك دأب الظالمين في كل حين. فانهم يرون مصارع الظالمين. ويقرأون اخبارهم. ثم اذا هم يسلكون طريقهم. فاذا ذكروا بما نال اسلافهم استبعدوا ان يصيبهم ما أصابهم ثم يطغي بهم الغرور والاستهتار اذا امهلهم خالقهم لعلهم يرجعون عن ظلمهم وطغيانهم. (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ..) فما بال هؤلاء الجاهلين يستعجلون هلاكهم ودمارهم لو كانوا يعقلون.(قل يا أيها الناس انما انا نذير مبين) ويمحص السياق وظيفة الرسول ص وآله. في هذا الانذار لما يقتضيه التكذيب ثم يأخذ بالتفصيل (فَالَّذِينَ آمَنُوا) واتبعوا ايمانهم بالعمل الصالح فجزاؤهم الرحمة والرضوان غير منقطع ولا مقطوع. (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ).

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٤) وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥))

البيان : المعنى ان من ارسل قبلك من الرسل كان اذا تلا ما يؤديه الى قومه. حرفوا عليه وزادوا فيما يقوله من عند الله. أو

٤٠٨

نقصوا كما فعلت اليهود والنصارى في التوراة والانجيل واضافوا ذلك الى الشيطان لانه لقنهم بغروره هذه الزيادة.

(فَيَنْسَخُ اللهُ) ما القى الشيطان الى اعداء الله من الزيادة. اي يزيله ويدحضه بظهور حججه. وقد خرج هذا على وجه التسلية للنبي ص وآله. لما كذب المشركون عليه واضافوا الى تلاوته من مدح آلهتهم ما لم يكن فيها (عن مجمع البيان. (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) اي ليكشف بذلك خبايا ما يضمره اعداء الله في نفوسهم من الزيغ والانحراف فيتمسكوا بما اضافه الشيطان على لسان أوليائه لما نزل من عند الله. وينكشف حالهم عند المؤمنين الصالحين فلا ينخدعوا بعد بظواهرهم (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ) (يعني الموت وهناك يلاقوا العذاب الشديد).

(الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٥٧) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩) ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠))

البيان : الهجرة في سبيل الله هي تجرد من كل ما تهفو له نفس الانسان ومن كل ما تعتز به وتحرص عليه : الاهل والديار. والوطن والذكريات. والمال وسائر اعراض الحياة. وايثار العقيدة في هذا كله ابتغاء رضوان الله. وتطلعا الى ما عنده وهو خير مما في الارض جميعا والهجرة كانت قبل فتح مكة وقيام الدولة الاسلامية هكذا. اما بعد الفتح فلم يبق الا الجهاد والعمل الصالح. وهو الجهاد الاكبر جهاد الشهوات ومخالفة الهوى.

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ

٤٠٩

وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٦٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٦٥))

البيان : انها ظاهرة طبيعية تمر بالبشر صباحا ومساء ويرى البشر هذه الظاهرة وتلك من ايلاج الليل في النهار. وايلاج النهار في الليل. فينسيهم طول رؤيتها وطول الفتها ما وراءها. من عظمة النواميس ودقتها واطرادها. فلا تختل مرة. ولا تتوقف مرة. وهي تشهد بالقدرة الباهرة والادارة الحكيمة. التي تصرف هذا الكون وما حواه وفق تلك النواميس المقررة. والسياق يوجه النظر الى تلك الظاهرة الكونية المكررة التي يمر عليها الناس وهم غافلون والقرآن المجيد يريد ان يفتح بصائرهم ومشاعرهم لينظروا القدرة الآلهية وهي تطوي النهار من جانب وتسدل الليل من جانب. في دقة عجيبة لا تختل وفي اطراد عجيب لا يختلف.

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ) وذلك تعليل كاف وضمان كاف لانتصار الحق والعدل. وهزيمة الباطل والبغي. وهو كذلك ضمان لاطراد سنن الكون وثباتها. وعدم تخلخلها او تخلفها. ومن هذه السنن انتصار الحق وهزيمة البغي. والله اعلى من الطغاة واكبر من الجبابرة. (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ...) نزول الماء من السماء واخضرار الارض باعشابها ظاهرة واقعة مكرورة. وهذا المشهد في الارض يستجيش في القلب المنفتح الاحاسيس العجيبة. فان هذا النبت الصغير الطالع من سواد الطين بخضرته وغضارته اطفال صغار. تبسم في غرارة لهذا الوجود البهيج. والذي يحس على هذا النحو يستطيع ان يدرك

٤١٠

ما في تعقب قوله عزوجل : (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) من لطف وعمق اتقان وتدبير وحكمة تملأ قلوب اولى الالباب.

فمن اللطف الالهي ذلك الدبيب اللطيف. دبيب النبتة الصغيرة من جوف الثرى. وهي ضئيلة ويد القدرة تمدها في الهواء. وتمدها في جوف الارض ويتم ذلك في امتزاج الماء بالتربة وانطلاق الهواء (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ ..) كم قد اوجد الخالق العظيم في هذه الارض من قوة وثروة. وسخرها لهذا الانسان لعله يتذكر او يخشى ولكن زاد طغيانا وكفرا. لقد سخر الله ما في الارض لهذا الانسان فجعل نواميس موافقة لفطرته وطاقاته. ولو اختلفت فطرة الانسان مع نواميس هذه الارض ما استطاع الحياة عليها ولما تذوق ذرة استقرار او راحة فسبحان المدبر الحكيم القادر العليم (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ) ان الله الذي خلق هذا الكون وفق هذا النظام الذي اختاره له. هو الذي يمكنه التصرف فيه كما يشاء. فبيده عدمه كما كان بيده وجوده. وادارته بيده عزوجل :

(وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (٦٦) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (٦٧) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨) اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧٠))

البيان : الحياة الأولى معجزة تتحد في كل حي. اناء الليل واطراف النهار. وسرها اللطيف لا يزال غيبا يحار العقل البشري عن تصور كنهه وهي تتم في لحظة خاطفة. وتفقد كذلك. والمسافة بين طبيعة الموت. وطبيعة الحياة مسافة عريضة ضخمة. ومجالها فسيح للتأمل والحياة بعد الموت ـ هي غيب من الغيب ـ ولكن دليله حاضر من النشأة الاولى

٤١١

وفيه ايضا مجال لذلك للتأمل والتدبر. ولكن هذا الانسان لا يتأمل ولا يتدبر هذه الدلائل كلها. ويوجه القلوب اليها في معرض التوكيد لنصرة الله لمن يقع عليه البغي وهو يرد عن نفسه العدوان. وذلك عن طريق القرآن المجيد في استخدام المشاهد الكونية لاستجاشة القلوب. وفي ربط سنن الحق والعدل في الخلق بسنن الكون ونواميس الوجود. (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ). ان لكل امة منهجا وطريقة في الحياة والتفكير والسلوك والاعتقاد. فالامة التي تفتح قلوبها لدواعي الهدى ودلائله في الكون والنفس هي امة مهتدية الى الله بالاهتداء الى نواميسه المؤدية الى معرفة الخالق وطاعته. والامة التي تغلق قلوبها دون تلك الدواعي والدلائل امة ضالة تزداد ضلالا كلما ازدادت اعراضا عن الهدى ودواعيه.

(وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) فانما يجدي الجدل مع أرباب القلوب المستعدة للهدى التي تطلب المعرفة وتبحث حقيقة عن الدليل. لا مع القلوب المغلقة المصرة على الضلال. التي لا تحفل بكل هذا الحشد من الدواعي والدلائل في الانفس والافاق وهي معروضة للانظار والقلوب (اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) فالله هو الحكم الذي يحكم بعلم كامل. فلا تخفى عليه خافية في الارض ولا في السماء. ان العقل البشري ليصيبه الكلال وهو يتأمل بعض ما في الكون وما حواه (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ)

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢)

يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ

٤١٢

ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤) اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥))

البيان : وما لوضع ولا لشرع من قوة الا ان يستمد قوته من الله القوي الذي لا يغلب فما لم ينزل به الله من عنده قوة. فهو ضعيف هزيل خلو من عنصر القوة الاصيل. وهؤلاء انما يعبدون آلهة من الاصنام والاحجار. أو من الناس او من الشيطان مباشرة وهذه كلها لم ينزل الله بها قوة من عنده فهي محرومة من القوة.

واعجب شيء انهم وهم يعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم. ومع هذا كله فلا يستمعون لدعوة الحق ولا يتلقون الحديث عنها بالقبول.

انما تأخذهم العزة بالأثم ويكادون يبطشون بمن يتلون عليهم كلام الله. (إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ). (انهم لا يناهضون الحجة بالحجة وانى لديهم حجة صحيحة وانهم ليعلمون انهم على ضلال وباطل ولكن الاهواء والاغراض دعتهم لذلك. ومن ثم يواجهون القرآن المجيد بالتهديد (قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ. النَّارُ) وبئس المصير) (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) انه النداء العام.

والنفير البعيد الصدى (يا أَيُّهَا النَّاسُ) فاذا تجمع الناس على النداء اعلنوا انهم امام مثل عام يضرب (ان الذين تدعون من دون الخالق لن يخلقوا ذبابا) كل من تدعون من دون الله من جميع الاصناف والاجناس (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) والذبابة صغيرة حقيرة. ولكن جميع الآلهة عاجزة عن خلق هذه الذبابة. وخلقها مستحيل كخلق الفيل والبعير لأن الذي لديه قدرة على خلق ادنى مخلوق هو قادر بتلك القدرة على خلق كل مخلوق مهما كان شكله وجنسه.

ثم بخطوة اوسع في ابراز ضعفهم وتعجيزهم المزر. (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ

٤١٣

الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) فما قيمة هذه الآلهة التي يعبدها هؤلاء الجبابرة وهي عاجزة عن دفع ذباب اذا ارادت سلبهم. ومع هذا فهم يتكبرون عن الايمان بخالق الوجود وما فيه وعن عبادته وهم الفقراء اليه وهنا يظهر القبح والخزي المزري لهؤلاء الطغاة. الذين يطيعهم الناس وهم يستعبدونهم (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) والمشاعر تفيض بالزراية والاحتقار لهؤلاء الجبابرة الطغاة ولآلهتهم الضعفاء. (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ. إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)

(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٧٦) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٧٨))

البيان : هنا يجمع القرآن المجيد المنهج الذي رسمه الله لهذه الامة. ويلخص تكاليفها التي ناطها بها. ويقرر مكانها الذي قدره لها. ويثبت جذورها في الماضي والحاضر والمستقبل متى استقامت على المنهج الذي اراده لها الله عزوجل.

انه يبدأ بأمر الذين آمنوا بالركوع والسجود. ويثني بالأمر العام بالعبادة وهي اشمل من الصلاة. فعبادة الله عزوجل تشمل الفرائض كلها وتزيد عليها كل عمل امر بفعله او نهى عن فعله. ويختم بفعل الخير عامة في التعامل مع الناس بعد التعامل مع الله بالعبادة فالله عزوجل يأمر الامة المسلمة بهذا رجاء ان تفلح فهذه هي اسباب الفلاح. فلا بد من العبادة التي توصل صاحبها بخالقه ان تقوم على قاعدة ثابتة وطريق واصل وفعل خير يؤدي الى استقامة الحياة. للفرد وللجماعة. على قاعدة من العدل والايمان والاستقامة. فاذا استعدت الامة المسلمة بهذه العدة

٤١٤

من الصلة بالله واستقامة الحياة بين البشر استقامت حياتها وسمت في رقيها وكمالها الانساني (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ) وهو تعبير شامل جامع دقيق. يحتاج الى تلك التعبئة. وهذه الذخيرة للدنيا والآخرة. والجهاد في سبيل الله يشمل جهاد الاعداء وجهاد الشهوات والاهواء والنفس الامارة وهو الذي عبر عنه الرسول ص وآله : (بالجهاد الاكبر).

والاسلام هو اسلام الوجه والقلب لله وحده بلا شريك (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ ..) والامة المسلمة تكون شهيدة على الناس أي حجة ومثالا للخير والصلاح والاستقامة وتبقى الامة المسلمة حجة على الامم ما دامت متمسكة بعقيدتها ونظامها الآلهي والا فهي المسؤولة.

ـ ٢٣ ـ سورة المؤمنون وعدد آياتها (١١٨) مائة وثماني عشرة آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١))

البيان : انه الوعد الصادق. بل هو القرار المؤكد بفلاح المؤمنين وعد الله. ولا يخلف الله وعده وقرار الله المحتوم. الذي لا يملك احد رده. الفلاح في الدنيا. والفلاح في الآخرة. فلاح الفرد المؤمن وفلاح الجماعة المؤمنة الفلاح الذي يحسه المؤمن بقلبه. ويجد مصداقه في واقع حياته. والذي يشمل ما يعرفه الناس من معاني الفلاح. وما لا

٤١٥

يعرفونه مما يدخره الخالق العظيم لعباده المؤمنين المتقين. فمن هم المؤمنون الذين ـ كفلهم الله وعافاهم ـ وحرسهم من كل خوف ومكروه كتب الله لهم هذه الوثيقة المؤكدة .. ووعدهم هذا الوعد المحتوم. وأعلن عن فلاحهم ونجاحهم هذا الاعلان الهائل. من هم المؤمنون المكتوب لهم الخير والنصر والعافية. والسعادة والتوفيق. والمتاع الطيب في هذه الدنيا وفي الآخرة. والمكتوب لهم الفوز والنجاة والثواب والرضوان في دار الخلود.

من هم المؤمنون. الوارثون. الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون : انهم الذين هم في صلاتهم خاشعون. والذين هم عن اللغو معرضون. والذين هم للزكاة فاعلون. والذين هم لفروجهم حافظون. والذين هم لأمانتهم وعهدهم راعون. والذين هم لفروجهم حافظون. ـ فما قيمة هذه الصفات ـ قيمتها انها ترسم شخصية المسلم الصحيح في افقها الاعلى. افق محمد وآله محمد ص وآله رسول الله. وخير خلق الله. الذي ادبه ربه فأحسن أدبه. والذي شهد له في كتابه بعظمة اخلاقه. (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) تستشعر قلوبهم رهبة الموقف في الصلاة بين يدي الله فتسكن وتخشع. فيسري الخشوع منها الى الجوارح والملامح والحركات ويغشي ارواحهم جلال الله في حضرته. فتختفي من اذهانهم جميع الشواغل. ولا تشتغل بسواه. فلا يشهدون الا الله. ولا يحسّون الا اياه. ولا يتذوقون الا لذة مناجاته ونفحات قدسه.

(وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) لغو القول. ولغو الفعل. ولغو الاهتمام والشعور. ان القلب المؤمن ما يشغله عن اللغو واللهو والهذر. له ما لا يشغله عن ذكر الله الذي يجلى القلوب ويضيىء البصائر. ويحيى الافئدة. ويقمع الشهوات وينفي الهوى وما يشغل عن زخارف الدنيا.

٤١٦

وكل مشهد من مشاهد الكون يستغرق الالباب. ويشغل الافكار ويحرك الوجدان وله ما لا يشغله من تقوية العقيدة. وتطهير القلب. ونزكية النفس وتنقية الضمير ومكافحة الشهوات ومحاولة الثبات على الصراط المستقيم. والمرتقى العالي الذي يتطلبه الايمان الطموح وفي ذلك الكفاية لاستغراق الجهد البشري. والعمر المحتوم المحدود.

(وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) بعد اقبالهم على الله. وانصرافهم عن اللغو في الحياة. والزكاة طهارة للقلب وحصانة للمال. وانتصار على وسوسة الشيطان. ونفي للحاجة والفقر. وبرهان للوثوق بما وعد الله من الخلف والعوض كما في الحديث : (من أيقن بالعوض جاد في العطية). والزكاة تأمين اجتماعي للافراد وسلاح للجماعة. وانشاء للمشاريع العامة الخيرية والعمرانية. (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) وهذه طهارة الروح والأسر والجماعة. ووقاية للنفس من الانزلاق. وحفظ القلوب من التطلع الى غير الحلال. وحفظ الجماعة من انطلاق الشهوات فيها بغير حساب. (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) وراء الاتصال الحلال من زوجات وملك اليمين. (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) والامانات كثيرة في عنق الفرد والجماعة. وفي اولها امانة الفطرة وهي الايمان بالخالق العظيم والالتزام بطاعته العامة بدون ادنى تفريط وانحراف. والمؤمنون يرعون الامانة الكبرى. فلا يدعون فطرتهم تنحرف عن استقامتها. فتظل قائمة بامانتها. شاهدة بوجود خالقها ووحدانيته. ثم يلتزمون باداء سائر الامانات تبعا لتلك الامانة (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ) فلا يتكاسلون عنها ولا عن ادائها في اول وقتها واهتماما بشأنها والصلاة صلة بين العبد ومولاه. وبين القلب وخالقه. ولقد بدأت صفات المؤمنين بالصلاة. وختمت بالصلاة للدلالة على عظيم مكانتها في بناء الايمان الصحيح وتثبيته. بوصفها

٤١٧

الاكمل والتوجه الخاص لله (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ) وتلك غاية الفلاح ونهاية الايمان وثمرة التقوى. الذي بستحيل ان يثمر سواه. او تنال سعادة الدنيا والآخرة الا بتحقيقه.

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦)

وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (١٧) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (١٨) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (١٩))

البيان : في اطوار هذه النشأة. وتتابعها بهذا النظام. وبهذا الاطراد. ما يشهد بوجود المنشىء اولا. وما يشهد بالقصد والتدبير في تلك النشأة وفي اتجاهها اخيرا. فما يمكن ان يكون الامر مصادفة عابرة. ولا خبط عشواء بدون قصد ولا تدبير. ثم تسير هذه السيرة التي لا تنحرف ولا تخطىء ولا تتخلف. ولا تسير فى طريق آخر. من شتى الطرق التي يمكن عقلا وتصورا ان تسير فيها. انما تسير النشأة الانسانية في هذا الطريق دون سواه من شتى الطرق الممكنة بناء على قصد وتدبير من الارادة الخالقة المدبرة في هذا الوجود (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ).

هذا النص يشير الى أطوار النشأة الانسانية ولا يحددها. فيفيد ان الانسان مرّ بأطوار مسلسلة من الطين الى ان اننهى الى انسان. فالطين هو المصدر الاول. أو التطور الاول والانسان هو التطور الأخير في ذلك الخط الثابت لا تنحرف ولا تتحول (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) هذا وهي حقيقة اخبر عنها القرآن حيث لم يكن هناك مختبرات ولا تشريعات طبية. فان كان هذا الكشف والخبر عن الله تعالى فقد ثبت أن هذا

٤١٨

القرآن كلام الله ويجب التصديق به ومن انكر ذلك لزمه ان يقر لمحمد الذي أتى بهذا القول في وقت كانت المعالم عن مثل هذه الكشفيات معدومة انه فوق مستوى البشر حتى في القرن العشرين وما بعده الى آخر الدهر. ولكن هيهات أنى للمخلوقات القدرة على ذلك (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ..) لقد نشأ الجنس الانساني من سلالة من طين. فاتكرار افراده بعد ذلك وتكاثرهم فقد جرت سنة الله ان يكون عن طريق نقطة مائية تخرج من صلب رجل فتسنقر في رحم امرأة. نقطة مائية واحدة. لا بل خلية واحدة من عشرات الآلاف من الخلايا الكامنة في تلك النطفة المندفقة من صلب الرجل تستقر (فِي قَرارٍ مَكِينٍ) ثابتة في الرحم الغائرة بين عظام الحوض وتنتقل من نطفة الى علقة. ومن علقة الى مضغة. وتمضي هذه الخليقة في ذلك الخط الثابت لا تنحرف ولا تميل (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) هذا هو الانسان ذو الخصائص المتميزة. فجنين الانسان يشبه جنين الحيوان في اطواره الجسدية ... ان الجنين الانساني مزود بخصائص معينة هي التي سلك به طريقه الانساني فيما بعد. (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ).

وليس هناك من يخلق سوى الله عزوجل : الذي اودع فطرة الانسان تلك القدرة على السير في هذه الاطوار وفق السنة التي لا تتبدل ولا تنحرف ولا تتخلف. حتى يبلغ الانسان مراتب الكمال. ان الناس ليقفون دهشين امام ما يسمونه (معجزات العلم) حين يصنع الانسان جهازا في مراحله يتبع طريقا خاصا في تحركه. دون تدخل مباشر من انسان. فأين هذا من سير الجنين في مراحله تلك واطواره وتحولاته. وبين كل مرحلة ومرحلة فوارق هائلة في طبيعتها وتحولات كاملة في ماهيتها. غير ان البشر يمرون على هذه الخوارق مغمضي العيون. والقلوب. لأن اطوار الألفة أنساهم امرها الخارق العجيب. ان مجرد التفكير في هذه الحقيقة التي تتكرر كل لحظة لكاف وحده ان يفتح

٤١٩

مغالق القلوب على ذلك التدبير العجيب الغريب. (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) فهو الموت نهاية الحياة الارضية. وبرزخ ما بين الموت والقيامة. وبعد ذلك تبدأ الحياة الخالدة اما في النعيم واما في الجحيم. (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ. وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ) ان السياق يمضي في استعراض هذه الدلائل. وهو يربط بينها جميعا. يربط بينها بوصفها من دلائل القدرة. ومن ثم يربط بين هذه المشاهد الكونية وبين اطوار النشأة الانسانية. في سياق السورة (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ ..) والطرائق هي الطبقات بعضها فوق بعض. وقد يكون المقصود سبع مدارات فلكية. او سبع مجموعات نجمية. أو سبع كتل سديمية ـ كما يقول الفلكيون ـ هي التي تكون منها المجموعات النجمية. وعلى اية حال فهي سبع طرائق فوق البشر. (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ) وهنا تتصل تلك الطرائق بالأرض. فالماء نازل من السماء وله علاقة بتلك الافلاك (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ) بحكمة وتدبير لا اكثر فيغرق ويفسد. ولا اقل فيكون الجدب والمحل. ولا في غير اوانه فيبدد ويتلف ولا ينفع فسبحان المدبر الحكيم.

(وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٢١) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٢٢) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٢٣) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (٢٥))

البيان : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) فهذه المخلوقات المسخرة للانسان بقدرة الله وتدبيره. وتوزيعها للوظائف والخصائص في هذا الكون الكبير. فيها عبرة لمن ينظر بعين صحيحة وقلب مفتوح ويتدبر ما وراءها من حكمة ومن تقدير. ويرى ان اللبن السائغ اللطيف الذي

٤٢٠