تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٣

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي

تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠

ان هذا المشهد كما انه لا يتجه اليه الفكر البشري والاهتمام البشري ، كذلك لا تلحظه العيون ان هذا المشهد انما ينكشف بجملته لعلم الله وحده ، المنكشف لكل شيء والمحيط بكل شيء ، الحافظ لكل شيء ، الذي تتعلق مشيئته وارادته بكل شيء ، وهو اللطيف الخبير.

(وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) : آماد وآفاق وأغوار في (المنظور) على استواه وسعته (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها ، وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها ...)

يقف الانسان العاقل أمام هذه الصفحة المعروضة ، في كلمات قليلة ، فاذا هو امام حشد هائل عجيب من الاشياء والحركات والاحجام والاشكال والصور والمعاني لا يصمد لها الخيال. ولو ان اهل الارض جميعا وقفوا حياتهم كلها يتتبعون ويحصون ما يقع في لحظة واحدة مما تشير اليه الآية لأعجزهم تتبعه واحصاؤه عن يقين.

فكم من شيء في اللحظة الواحدة يخرج من الارض ويلج فيها. كم من دودة ومن حشرة تلج في الارض وكم وكم مما يلج في الارض ويخرج منها. وعين الله عزوجل عليه ساهرة لا تنام. وكم مما ينزله من السماء ، كم من نقطة مطر ، وكم شهاب وشعاع ورياح ، وجاذبية ، وكم ممن يعرج فيها ، وكم من روح من أرواح الخلائق التي نعلمها أو نجهلها متوفاة فما لا يعلمه الا الله العليم الخبير. وأين يذهب علم البشر المحدود من جميع جهاته مهما سمى وعلا وتعاظم انه محدود ومقدر بقدر لا يتعداه فكل قلب وما فيه من نوايا وخواطر وما له من حركات وسكنات كلها تحت عين الله عزوجل وعنايته. وهو مع هذا يستر ويغفر (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).

وان آية واحدة من القرآن كهذه الاية لمما يوحي بان هذا القرآن

١٤١

يستحيل أن يصدر من بشر محدود مقدر ، من جميع جهاته ، فمثل هذا الخاطر الكوني لا يخطر بطبيعته على قلب بشر :

(أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ .. إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً ..)

وفي هذه الآيات تسلية لرسول الله ص وآله مما يجده في نفسه من ضيق التكذيب منهم اياه ، لما معه من الحق ، وبهذا العناد الضيق بعد تكرار البيان .. ولكن هؤلاء كالصم والعمي. وما يفتح الآذان الصماء والعيون العمي الا الله. واذا الجرائم أعمت وأصمت صاحبها ما ينفعه بعد ذلك.

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (٤٥) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (٤٦) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٤٧))

البيان : في هذه الجولة الخاطفة ننظر فاذا المحشورون مأخوذون بالمفاجأة. شاعرون أن رحلتهم الدنيوية كانت في غاية القصر والقلة ، حتى كأنها ساعة من نهار قضوها في التعارف. ثم أسدل بينهم الستار ، وانشغل كل امرىء ببلواه وما دهاه من الخوف والهلع.

انه لتشبيه ولكنها حق اليقين ، انهم يجيئون ثم يذهبون ، يتحابون ثم يتنازعون ويتباغضون ، ثم يتلاعنون ، هكذا يكون شأن أهل المعاصي والجرائم في هذه الحياة :

(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ) ... واما نرينك بعض الذي وعدناهم (.. فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ).

وتبدأ هذه الجولة بتقرير أن مرجع القوم الى الله ـ سواء عجلهم بالانتقام أو أجلهم ـ المرجع في الحالتين الى الله العليم الخبير ، وهو شهيد على ما كانوا يفعلون.

١٤٢

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٤٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (٥١) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢))

(وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥٣) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٥٤) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٥) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٥٦) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧) قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨))

البيان : وقد كانوا يسألون في تحد واستعجال طالبين وقوع ما وعدهم به النبي ص وآله من قضاء الله فيهم ، كما قضى الله بين الامم التي جاءتها رسلها فكذبت فأخذهم الله عزوجل (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً) : واذا كان الرسول الاعظم ص وآله لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا فالأولى انه لا يملك لغيره كذلك) والامر اذن لله وحده يفعل كما يشاء انه قوي قدير : (انه الحق وما انتم بمعجزين) : ما انتم بمعجزين ان يأتي بكم. وما انتم بمعجزين ان يميتكم وما انتم بمعجزين ان يحييكم ويحاسبكم عن كل صغيرة وكبيرة من أمر ونهي وطاعة ومعصية :

(وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ) (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ)

يالها من حسرة وندامة ، لا تنفع صاحبها ، ولا يعوض على خاسرها.

ويالها من وهلة مرعبة ، ومفاجأة مذهلة ، تخرص لها الالسن وترتعد منها الفرائص.

(أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.

يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً

١٤٣

وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ.)

البيان : ألا) بهذا الاعلان المدوي (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ) فلا يعجزه عن تنفيذ ما أراد شيء. ولا يتخلف مراده عن ارادته (فحسبه أن يقول للشيء كن فيكون)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)

جاءتكم الموعظة في هذا الكتاب ، وليس هو كما يقول الأفاكون انه مفتري ، وليس هو من عند المخلوقين ، بل من الخالق العظيم الذي خلق كل شيء فأحسن خلقه ..

جاءتكم موعظة لتحيي القلوب الميتة وتشفي نفوس المرضى. وتذهب القلق عن أهل الريب.

جاءتكم الموعظة لتفيض عليكم العفو والعافية ، والهدى واليقين ، والامن والامان مدى الزمان.

(قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)

بهذا الفضل الذي أفاضه الله تعالى على عباده فليفرحوا بهذه الرحمة التي أنزلها الله على عباده فليفرحوا ، فهذا هو الذي يستحق الفرح ، لا المال ، ولا اعراض هذه الحياة.

الفرح الحقيقي للاخيار يختص بما يبقى معهم عند رحيلهم من هذه الدار الى دار الخلود.

ان النقلة الاساسية التي تتمثل في هذا الدين هي اعتاق رقاب العباد من العبودية للعباد وتحريرهم من هذه العبودية وتعبيدهم لله وحده. واقامة حياتهم كلها على أساس هذا الانطلاق الذي يرفع

١٤٤

تصوراتهم ، ويرفع قيمهم ، ويرفع أخلاقهم ، ويرفع حياتهم كلها من العبودية الى الحرية الحقيقية التي هي كفاية الله عزوجل وشفايته وحمايته التامة.

والذين يرتكزون على القيم المادية ، وعلى الانتاج المادي ويغفلون عن تلك القيمة الكبرى الاساسة ، هم اعداء البشرية ، الذين لا يريدون لها أن ترتفع على مستوى الحيوان وعلى مطالب الحيوان الذي لا يفكر ولا يهتم الا بشهواته وغرائزه لا غير.

وعند ما يصبح الانتاج المادي صنما يكدح الناس حوله ويطوفون به في قداسة الاصنام فان كل القيم والاعتبارات الاخرى تداس في سبيله وتنتهك الاخلاق ، الاسرة ، الاعراض ، الحريات الضمانات ، كلها. كلها اذا تعارضت مع توفير الانتاج يجب أن تداس بالاقدام.

فماذا تكون الارباب والاصنام غير هذا ان لم تكن هي هذه ، انه ليس من الحتم ان يكون الصنم حجرا أو خشبا ، فقد يكون قيمة واعتبارا ورمزا ولقبا.

ان القيادة العليا يجب أن تبقى لفضل الله ورحمته. المتمثلين في هداه الذي يشفى الصدور ويحرر الرقاب ، ويعلي من القيم الانسانية ، وفي ظل هذه القيمة العليا يمكن الانتفاع برزق الله عزوجل ، الذي أعطاه للناس في الارض. وبالتصنيع الذي يوفر الانتاج المادي ، وبالتيسيرات المادية التي تقلل من شدة الكدح.

وبدون وجود تلك القيمة العليا ، وسيادتها تصبح الارزاق والتيسيرات والانتاج لعنة يشقى بها الناس ، لانها يومئذ تستخدم في اعلاء القيم الحيوانية والآلية ، على حساب القيم الانسانية العلوية ، وصدق الله العظيم حيث يقول :

١٤٥

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ ، وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ، قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ (٥٩) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٦٠) وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦١))

(أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٦٣) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٤) وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٥)

أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٦٦) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٧))

البيان : قل ماذا ترون في هذا الرزق الذي أعطاه لكم الله ، لتتصرفوا فيه وفق أوامره ونواهيه ، وشرعه وأحكامه ، فاذا أنتم تتصرفون فيه وفق أهوائكم ومن عند أنفسكم وبدون اذن الله عزوجل الذي يملكه ويملككم.

فجعلتم منه حلالا وحراما ، والتحريم والتحليل مختص بالخالق العظيم الذي له حق التصرف دون سواه. وله الحاكمية والتشريع ، وله الربوبية والالوهية :

(آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) : انها القضية التي يتكرر ذكرها في القرآن المجيد. وبواجه بها أبناء الجاهلية بين الحين والحين ، لان الحاكمية والتصرف قضية كبرى تالية (لشهادة ان لا اله الا الله) ، بل

١٤٦

انها هي هي في حالة التطبيق الواقعي في الحياة.

ان الاعتراف بان الله تعالى هو الخالق الرازق يلزمه حتما أن يكون هو الحاكم المتصرف (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) على هذا الرزق وكأنهم لا يعتبرونه من الله الكريم وقد تفضل به عليهم ليستعينوا به على طاعته التي هي مبدأ سعادتهم في الدنيا والآخرة والله هو المطلع على السرائر وما تكنه الصدور ، الذي لا يغيب عنه شيء في الارض ولا في السماء :

(وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ) ويسبح الخيال مع الذرات السابحة في الكون ، ومعها علم الله عزوجل ، ويرتعش الوجدان اشفاقا ورهبة ، ويخشع القلب من الذرة وأكبر محصورا في علم الله اجلالا وتقوى ، حتى يطامن الايمان من الروعة والرهبة ، ويهدهد القلب الواجف بأنس القرب منه عزوجل.

(أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) : كيف يخاف أولياء الله المؤمنون به الاتقياء المطيعون الذين بأمره يعملون وله يراقبون في السر والعلن.

(الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) : كيف يخافون وكيف يحزنون ، وهم على اتصال بالله لانهم أولياؤه. وعلام يحزنون ومم يخافون ، والبشرى لهم في الحياة الدنيا وفي الاخرة. انه الوعد الحق الذي لا يتبدل (لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ) (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

ان أولياء الله الذين يتحدث عنهم السياق هم المتقون حق تقاته وحق الايمان وهم الذين استقر الايمان في قلوبهم فوقرها واضائها

١٤٧

وتلازم ذلك مع العمل والاخلاص والتنفيذ لكل ما أمرهم المولى أو نهاهم ، هكذا يجب ان يفهم معنى الولاية لله عزوجل.

ولذا يخاطب الله عزوجل رسوله : (وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً)

ويفرد الله بالعزة هنا ، ولا يضيفها الى الرسول والمؤمنين ـ كما في موضع آخر ـ لان السياق سياق حماية الله لأوليائه ، فيفرده بالعزة جميعا ـ وهي أصلا لله وحده ـ والرسول والمؤمنون يستمدونها منه عزوجل ، ليجرد منها الناس جميعا ، ورسول الله ص وآله والمؤمنون داخلون في الحماية لانهم من أولياء الله ، ويختص بالخروج اعداء الدين والمنافقين.

(قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٨) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (٦٩) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠))

البيان : عقيدة ان لله سبحانه ولدا ، عقيدة ساذجة منشؤها من قادة التضليل ومن اتباع الجهل وعدم التحقيق ، والواقع ينطق أن الداعي الى ذلك حب الدنيا واتباع الهوى. والا أي نسبة بين مخلوق كان معدوما وخلق ضعيفا ولم يزل لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا وبين خالق موجود بذاته يستحيل عدمه خلق الاشياء كلها واذا أراد شيئا فحسبه أن يقول له : (كُنْ فَيَكُونُ) لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار وهو اللطيف الخبير لا يتحرك ساكن ولا يسكن متحرك الا باذنه وارادته. وكل ما في الوجود شاهد قاطع على انه واحد لا شريك له : (سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) : ولا يدخل القرآن المجيد في جدل نظري حول الطبيعة الالهية ، والطبيعة

١٤٨

الناسوتية ، مما وجد عند المتكلمين والمتفلسفين ، لانه سبحانه يلمس الموضوعات في واقعها القريب الى الفطرة ، ويتعامل مع الموضوع ذاته لا مع فروض جدلية ـ منشأها الهوى والتضليل لاغراض خاصة.

فيكتفي هنا بهذه اللمسة التي تمس واقعهم وحاجتهم الى الولد وتصورهم لهذه الحاجة وانتفاء وجودها بالنسبة الى الله الغني بذاته عن كل ما خلق ، الذي يملك السموات والارض وما فيهما ، ليبلغ من نفوسهم موضع الاقتناع او موضع الافحام. بلا جدل نظري يضعف أثر اللمسة النفسية ، التي تستجيب لها الفطرة في يسر وهوادة ، ثم يجيبهم بالواقع وهو انهم لا يملكون برهانا على ما يدعون : (إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا ، أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)

وقول الانسان ما لا يعلم منقصة لا تليق بالعقلاء وفي الاشياء البسيطة. فكيف اذا كان هذا القول بلا علم على الله سبحانه ، انه جريمة كبرى ، أكبر من كل جريمة ، فهو أولا ينافي ما يستحقه المولى على عبيده ، من تنزيه وتعظيم ، لانه وصف وصفات للمخلوق بمقتضيات الحدوث والعجز والقصور. يجعلونها للخالق العظيم القدير اللطيف الخبير المتعالي عن صفات المخلوقين علوا كبيرا ، ولانه ضلال في تصور العلاقة بين الخالق والمخلوق ، ينشأ عنه ضلال في تصور كل علاقات الحياة والناس والمعاملات.

فكل فرع من تصور هذه العلاقة ، وكل تصور ابتدعه الكهنة لانفسهم في الوثنيات من سلطات وكل ما ابتدعته الكنيسة لها من سلطان (وغفران) انما نشأ عن تصور العلاقة بين الله تعالى وبناته الملائكة ، أو بين الله تعالى وعيسى بن مريم من صلة الابوة والبنوة ، وحكاية الخطيئة (والغفران) ومنها نشأت مسألة الاعتراف ، ومسألة قيام كنيسة

١٤٩

المسيح بتوصيل الناس بأبي المسيح (بزعمهم) الى نهاية السلسلة التي متى بدأت الحلقة الاولى فيها بفساد تصور العلاقة بين الخالق والمخلوق فسدت الحلقات التالية كلها في كل ضروب الحياة ..

فليست مجرد فساد في التصور الاعتقادي. ولكنه مسألة الحياة برمتها ، وكل ما وقع بين الكنيسة وبين العلم والعقل من عداء. انتهى الى تخلص المجتمع من سلطان الكنيسة. بتخلصه من سلطان الدين نفسه ، انما نشأ من هذه الحلقة. حلقة فساد تصور العلاقة بين الله وخلقه ، وجر في ذيوله شرا كثيرا تعاني البشرية كلها ويلاته في التيارات المادية وما وراءها من بلايا وأرزاء.

ومن ثم كان حرص العقيدة الاسلامية على تجلية هذه العلاقة تجلية كاملة لا لبس فيها ولا ابهام. الله خالق أزلي باقي سرمدي ، لا يحتاج مخلوقاته ويستحيل أن يكون له شبيه او ولد أو شريك ليس كمثله شيء وهو اللطيف الخبير. تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (٧١) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٧٢) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣))

ـ البيان : ان الحلقة التي تعرض هنا من قصة نوح (ع) هي الحلقة الاخيرة. حلقة التحدي الأخير بعد الانذار الطويل والتذكير الطويل. والتكذيب. ولا يذكر في هذه الحلقة موضوع السفينة. ولا من ركب فيها ولا الطوفان. ولا النقصيات في تلك الحلقة. لأن الهدف هو ابراز التحدي. والاستعانة بالله وحده. ونجاة الرسول ومن

١٥٠

معه وهم قلة. وهلاك المكذبين له. وهم كثرة وقوة. لذلك يختصر السياق هنا تفصيلات القصة الى حلقة واحدة. ويختصر الى نتائجها الاخيرة. لأن هذا هو مقتضى السياق في هذا الموضع. فكأنه يقول لهم :

ان كان الأمر قد بلغ منكم مبلغ الضيق. فلم تعودوا تتحملون بقائي فيكم ودعوتي لكم وتذكيري لكم بآيات الله. فانتم وما تريدون. وانا ماض في طريقي لا اعتمد الا على الله (فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ). (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ) : ولا تمهلوني للاهبة والاستعداد. فكل استعدادي هو اعتمادي على الله وحده دون سواه. انه التحدي الصريح المثير. الذي لا يقوله القائل الا وهو مالىء يديه من قوته. واثق كل الوثوق من صدق وعده. حتى ليغري خصومه بنفسه. ويحرضهم بمثيرات القول على ان يهاجموه. فماذا كان وراء نوح من القوة والعدة. وما ذا كان معه من قوى الارض جميعا. كان معه الايمان الخاص. وكان وراءه قوة الله عزوجل التي تتصاغر امامها كل كثرة. ويعجز امامها كل تدبير. وحيلة وسلاح. انه الايمان الصحيح بالله القوي القدير. الذي لا يدع أولياءه لاولياء الشيطان.

انه الايمان الثابت بالله عزوجل وحده. ذلك الذي يصل صاحبه بمصدر القوة الكبرى المسيطرة على هذا الكون وما حواه من احياء وجماد ، من متحرك وساكن.

فليس هذا التحدي غرورا ، وليس كذلك تهورا ، وليس انتحارا ، انما هو تحدي القوة الحقيقية الكبرى للقوة الهزيلة الفانية التي تتضاءل وتتصاغر أمام أصحاب الايمان الصحيح.

وأصحاب الدعوة الى الله لهم أسوة حسنة برسول الله ، وانه

١٥١

لينبغي لهم ان تمتلىء قلوبهم بالثقة حتى تفيض ، وان لهم ان يتوكلوا على الله وحده في وجه الطاغوت أيا كان.

وهم على يقين تام أن الطاغوت لن يضرهم اذا أراد مولاهم حمايتهم وحراستهم من كل أذى (فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ .. وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا) (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ).

ويعجل السياق باعلان نجاة نوح ومن معه ، لان نوحا والقلة المؤمنة كانوا يواجهون خطر التحدي للكثرة الكافرة ، فلم تكن مجرد هلاك هذه الكثرة ، بل كان قبلها نجاة القلة من جميع أنواع الاخطار. واستخلافهم في الارض وهذا وعد الله لأوليائه المخلصين ، وهو على نصرهم لقدير ، وان العاقبة والاستخلاف للمؤمنين بعد هلاك المتكبر العاتي.

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (٧٤) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (٧٥) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (٧٦) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (٧٧) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (٧٨))

البيان : فهؤلاء الرسل جاؤوا قومهم بالبينات ، والنص يقول : انهم ما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل ، وهذا يحتمل انهم بعد مجيء الآيات ظلوا يكذبون كما كانوا قبلها لان أهواءهم دعتهم لذلك والهوى اذا ملك صاحبه منعه من كل ما يتنافى معه.

و (كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) ان القلب الذي يغلقه صاحبه ينطبع عليه ويتحجر فلا يعود صالحا للتلقي والاستقبال. لا ان الله يغلق

١٥٢

هذه القلوب ليمنعها من الاهتداء ابتداء ، حاشاه ، وانما هي تعميها الجرائم وينطبق الغطاء عليه فلا تبقى صالحة لان تتلقى الفيوضات الالهية ، أو أن يدخلها وعظ أو رشاد كالعين اذا عميت.

والآيات التي بعث بها موسى الى فرعون وملئه هي الايات التسع المذكورة في سورة الاعراف :

(قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ ، قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) فالسحر لا يستهدف هداية الناس ، ولا يتضمن عقيدة ، وليس له فكرة معينة عن الالوهية وعلاقة الخلق بالخالق. وما كان للساحرين عملا يستهدف مثل هذه الاغراض وما كانوا ليفلحوا وهنا يكشف الملأ عن حقيقة الدوافع التي تصدهم عن التسليم بآيات الله :

(قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) : واذن فهو الخوف من تحطيم معتقداتهم الموروثة التي يقوم عليها نظامهم السياسي والاقتصادي وهو الخوف على السلطان في الارض ، هذا السلطان الذي يستمدونه من خرافات عقائدهم الموروثة.

انها العلة القديمة الجديدة ، التي تدفع بالطغاة الى مقاومة الدعوات ، وانتحال شتى المعاذر ، ورمى الدعاة بأشنع التهم والفجور في مقاومة الدعوات والدعاة انها (الْكِبْرِياءُ.)

وتعلق فرعون وملؤه بحكاية السحر وارادوا ـ في أغلب الظن ـ ان يغرقوا الجماهير بها :

(ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ .. وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ). فان كراهتهم لا تعطل مشيئة الله. ولا تقف دون آياته. وقد كان. وبطل السحر وعلا الحق.

١٥٣

(وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢))

(فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٨٦))

البيان : (فما آمن لموسى الا قليل) ويفيد ان هذا النص عن الذين أظهروا ايمانهم وانضمامهم لموسى من بني اسرائيل كانوا هم الفتيان الصغار. (فالتوكل على الله دلالة الايمان ومقتضاه وقد ذكر لهم موسى الايمان والاسلام. وجعل التوكل على الله مقتضى هذا وذلك مقتضى الاعتقاد في الله. ومقتضى اسلام النفس له خالصة والعمل بما يريد.

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧) وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٨٨) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨٩))

البيان : واتجه موسى (ع) وقد يئس من فرعون وملائه. ان يكون فيهم خير (رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا).

وموسى (ع) يتحدث هنا عن الواقع المشهود في عامة الناس ويطلب وقف هذا الاضلال ولتجريد القوة الباغية المضلة من وسائل

١٥٤

البغي والاغراء .. فهو دعاء من يئس من صلاح هذه القلوب. ومن ان تكون لها توبة او انابة.

(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (٩٢)

وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣))

البيان : انه الموقف الحاسم والمشهد الاخير في قصة التحدي والتكذيب. والسياق يعرضه مختصرا مجملا. لأن الغرض من سياق هذه الحلقة من القصة. في هذه السورة هو بيان هذه الخاتمة. بيان رعاية الله وحمايته لأوليائه. وانزال العذاب والهلاك بأعدائه. الذين يغفلون عن آياته الكونية والحيوانية والانسانية. والنباتية. وآياته مع رسله حتى تأخذهم الآية الأخيرة التي لا ينفع بعدها ندم ولا توبة. وهو مصداق ما سبق من وعيد المكذبين. (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ) : الآن حيث لا اختيار ولا فرار. وقد تماديت بالعصيان والاجرام (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ) : والمبوأ : مكان الاقامة الامين واضافته الى الصدق تزيده امانا وثباتا واستقرارا. ولقد طاب المقام فترة لبني اسرائيل بعد تجارب طويلة. حتى فسقوا عن أمر الله فحرمت عليهم طيبات احلت لهم وابتلاهم الله بأنواع البلايا جزاء لهم (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ).

(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٩٧))

١٥٥

فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (٩٨) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (١٠٠) قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣))

البيان : لقد كان آخر الحديث عن بني اسرائيل وهم من اهل الكتاب. وهم يعرفون قصة نوح مع قومه وقصة موسى مع فرعون. فهم يقرأونها في كتابهم.

فهنا يتوجه الخطاب الى الرسول ص وآله. ان كان في شك مما انزل اليه. من هذا القصص او غيره فليسأل الذين يقرأون الكتاب من قبله فان لديهم عنه علم يقيني مما يقرأون. (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) : لكن الرسول ص وآله لم يكن في شك مما أنزل الله اليه ولكن هذا من باب (اياك أعني واسمعي يا جاره) : انما هو تعريض بالشاكين الممترين. المكذبين.

وهذا التعريض يترك الفرصة لمن يريد منهم ان يرجع ليرجع. لانه اذا كان الرسول ص وآله له الحق ان يسأل ان كان في شك فغيره اولى. وهذه فائدة الخطاب اليه من ربه.

وبعد فاذا جاء الى الرسول هو الحق الذي لا مريه فيه. فما تعليل اصرار قوم على التكذيب ولجاجهم فيه : تعليله ان كلمة الله وسنته اقتضت ان من لا يأخذ بأسباب الهدى لا يهتدي. ومن لا يفتح بصيرته على النور لا يراه. ومن يعطل مداركه لا ينتفع بوظيفتها فتكون نهايته الى الضلال. مهما تكن الآيات والبينات. لأنه لا يفيده شيء

١٥٦

من الآيات والبينات. وعندئذ تكون كلمة الله وسنته قد حقت عليهم وتحققت فيهم واستحقوا العذاب والقصاص (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) : فلا ينفعهم حينئذ الايمان. لانه لم يجيىء عن اختيار. ولم تعد هناك فرصة لتحقيق مدلوله في الحياة. ومنذ هنيهة كان أمامنا مشهد يصدق هذا : مشهد فرعون حين ادركه الغرق بقوله :

(آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ).

وعند هذا الموقف الذي تظهر فيه حتمية سنن الله العامة. وانتهاؤها الى نهايتها المرسومة متى تعرض الانسان لها باختياره. تفتح نافذة مضيئة بآخر شعاع من اشعة الامل في النجاة. ذلك ان يعود المكذبون عن تكذيبهم قبيل وقوع العذاب. (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها) (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) وهو تخصيص ينسحب على الماضي فيفيد ان مدلوله لم يقع الا في قوم يونس. ولكن العقل السليم مع العدالة الآلهية يعطينا صورة ان نجاة قوم يونس لم يكن فيه محاباة. من الله عز شأنه. وانما يعطينا صورة يقينية. ان كل من لم يقبل الله عزوجل توبتهم عند نزول العذاب ان الله عالم انه ان رفع عنهم العذاب ليعودن لما كانوا عليه من العصيان والضلال الا قوم قوم يونس فقد علم الله انهم صادقون في ايمانهم لذلك استحقوا الرحمة ورفع العذاب عنهم بعد نزوله من السماء فلو ان جميع الامم صدقوا في دعواهم عند نزول العذاب كما صدق قوم يونس لكان الله العادل فعل بهم ما فعله في قوم يونس ورفع عنهم العذاب حتما.

ويمكنك تحقيق صحة ذلك من امهال الله تعالى لفرعون عند نزول الآيات قبل الغرق حيث اراه تسع آيات بينات وفي كل نزول آية عليه يتوسل بموسى (ع) ان يدعو ربه ان يرفع عنه هذا البلاء وله عليه العهد

١٥٧

ان يؤمن به ويرسل معه بني اسرائيل بمجرد رفع البلاء. وعند دعاء موسى (ع) ورفع البلاء ينكث فرعون وقومه ولا يفون. بما اعطوه على انفسهم من العهد بالايمان بالله تعالى يقول عزوجل : (لَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ ـ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ. وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ ..) اذن فعدم النجاة لعدم صدقهم (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) : يعني الذين عطلوا عقولهم عن الاستفادة بها كما ينبغي من التحقيق والتدبر وعدم اتباع الهوى الذي يصدر عن معرفة الحق. او عن اتباع الحق بعد بيانه (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) (فالمسألة مسألة هوى واغراض دعت الى ترك تحقيق الحق مع امكانه. او دعت الى عدم اتباع الحق بعد ظهوره وتحقيقه.

والنظرة الى ما في السموات والارض يمد القلب والعقل بزاد من المشاعر والتأملات. وزاد من الاستجابات والتأثرات وزاد من سعة الشعور بالوجود.

ويمضي الزمن وتنمو معارف الانسان العلمية عن هذا الكون. فان كان هذا الانسان مهتديا بنور الله عزوجل الى جوار هذه المعارف العلمية زادته هذه المعارف من الزاد الذي تحصله الكينونة البشرية. من التأمل في هذا الكون. والانسى به والتعرف عليه والتجاوب معه والاشتراك معه في تسبيحه بحمد الله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ. وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ).

١٥٨

فكل ما في الوجود يمجد خالقه في اتقان صنعته وفي تدبير نظامه وفي الحكمة التي وجد لأجلها ولا يفقه تسبيح كل من يحمد خالقه الا الموصول قلبه بضياء خالقه المتسبب عن طاعته له. والتسليم لأرادته وتدبيره. واما ان كانت هذه المعارف العلمية غير مصحوبة ببشاشة الايمان بالله ونوره .. فانها تقود الاشقياء الى مزيد من الشقوة حين تقودهم الى مزيد من البعد عن الله والحرمان من بشاشة الايمان ونوره. وحلاوة لذته.

والمنهج القرآني في اتباعه لهذه الخطة انما يعتمد على حقيقة اساسية في التكوين البشري. فالله عزوجل هو الذي خلق وهو اعلم بما خلق وبمن خلق. والفطرة البشرية بها حاجة ذاتية الى التدين والى الاعتقاد بآله. بل هي حين تصح وتستقيم تجد في اعماقها اتجاها الى آله واحد واحساسا فويا بوجود هذا الآله الواحد. ووظيفة العقيدة الصحيحة ليست هي الا انشاء هذا الشعور. بالحاجة الى آله والتوجه اليه. فهذا امر مركوز في الفطرة. ولكن وظيفتها هي تصحيح تصور الانسان لآلهه. وتعريفه بالآله الحق الذي لا آله غيره. يعطي ويمنع. يعز ويذل. يشفي ويبدلي وهو الخبير العليم.

ثم تعريفه بمقتضيات الالوهية في حياته ـ وهي الربوبية والقوامة والحاكمية المطلقة والشك في حقيقة الوجود الآلهي أو انكاره هو بذاته دليل قاطع على اختلال بين في الكينونة البشرية. وعلى تعطيل أجهزة الاستقبال وتعطلها. والاستجابة الفطرية فيها.

وهذا التعطل لا يعالج ـ اذن ـ بالجدل وليس هذا هو طريق العلاج. (ان هذا الكون كون مؤمن مسلم. يعلم بارئه ويخضع له. ويسبح بحمده كل شيء فيه وكل حي الا ـ بعض الاناس ـ و(الانسان) يعيش في هذا الكون الذي تتجاوب جنباته باصداء الايمان والاسلام.

١٥٩

واصداء التسبيح والسجود. وذرات كيانه وخلاياه تشارك في هذه الاصداء. وتخضع في حركتها الطبيعية الفطرية للنواميس التي قدرها

فالكائن الذي لا تستشعر فطرته تلك الموجات الكونية وهذه الاصداء كلها. ولا تحس بايقاع النواميس الالهية التي فيها هي ذاتها. ولا تلتقط اجهزته الفطرية تلك الموجبات الكونية. ولفت الحس والقلب والعقل للنظر الى ما في السموات والارض وسيلة من وسائل المنهج القرآني لاستحياء القلب الانساني. لعله ينبض ويتحرك ويتلقى ويستجيب. فالقلب الذي لا يحس بذلك فهو اعمى وميت ..

ولكن اؤلئك المكذبين من الجاهليين العرب ـ وامثالهم ـ لا يتدبرون ولا يستجيبون فماذا ينتظرون ، ان سنة الله لا تتخلف. وعاقبة المكذبين معروفة. وليس لهم ان يتوقعوا من سنة الله ان تتخلف. وقد ينظرهم الله فلا يأخذهم بعذاب الاستئصال. ولكن الذين يصرون على التكذيب لا بد لهم من النكال. (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ) وهو التهديد الاخير (كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) (انها الكلمة التي كتبها الله على نفسه. ان تبقى البذرة المؤمنة وتنبت وتنجو بعد كل ايذاء وكل خطر بعد كل تكذيب وكل تعذيب).

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(١٠٥) وَلَا تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّٰلِمِينَ(١٠٦) وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(١٠٧)

قُلْ يَٰأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ(١٠٨) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىٰ يَحْكُمَ ٱللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَٰكِمِينَ(١٠٩))

١٦٠