روح المعاني - ج ١٥

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٥

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٤

سورة العاديات

مكية في قول ابن مسعود وجابر والحسن وعكرمة وعطاء ، مدنية في قول أنس وقتادة وإحدى الروايتين عن ابن عباس ، وقد أخرج عنه البزار وابن المنذر وابن أبي حاتم والدار قطني في الافراد وابن مردويه أنه قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خيلا فاستمرت شهرا لا يأتيه منها خبر ، فنزلت (وَالْعادِياتِ) إلخ. وآيها احدى عشرة آية بلا خلاف. وأخرج أبو عبيد في فضائله من مرسل الحسن أنها تعدل بنصف القرآن. وأخرج ذلك محمد بن نصر من طريق عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس مرفوعا ولم أقف على سره. ولما ذكر سبحانه فيما قبلها الجزاء على الخير والشر وأتبع ذلك فيها بتعنيت من اثر دنياه على آخرته ولم يستعد لها بفعل الخير. ولا يخفى ما في قوله تعالى هناك (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) [الزلزلة : ٢] وقوله سبحانه هنا (إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ) [العاديات : ٩] من المناسبة أو العلاقة على ما سمعت من أن المراد بالأثقال ما في جوفها من الأموات أو ما يعمهم والكنوز.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (١) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (٢) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (٣) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (٤) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (٥) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (٧) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (٨) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (١٠) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ)(١١)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* وَالْعادِياتِ) الجمهور على أنه قسم بخيل الغزاة في سبيل الله تعالى التي تعدو أي تجري بسرعة نحو العدو ، وأصل العاديات العادوات بالواو فقلبت ياء لانكسار ما قبلها. وقوله تعالى (ضَبْحاً) مصدر منصوب بفعله المحذوف أي تضبح أو يضبحن ضبحا والجملة في موضع الحال ، وضبحها صوت أنفاسها عند عدوها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس : الخيل إذا عدت قالت اح اح فذلك ضبحها. وأخرج ابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه : الضبح من الخيل الحمحمة ومن الإبل التنفس. وفي البحر تصويت جهير عند العدو الشديد ليس بصهيل ولا رغاء ولا نباح بل هو غير الصوت المعتاد من صوت الحيوان الذي ينسب هو إليه وعن ابن عباس : ليس يضبح من الحيوان غير الخيل والكلاب ولا يصح عنه فإن العرب استعملت الضبح في الإبل والأسود من الحيات واليوم والأرنب والثعلب وربما تسنده إلى القوس. أنشد أبو حنيفة في صفتها.

٤٤١

حنانة من نشم أو تالب

تضبح في الكف ضباح الثعلب

وذكر بعضهم أن أصله للثعلب فاستعير للخيل كما في قول عنترة :

والخيل تكدح حين تض

بح في حياض الموت ضبحا

وإنه من ضبحته النار غيّرت لونه ولم تبالغ فيه. ويقال انضبح لونه تغير إلى السواد قليلا. وقال أبو عبيدة :

الضبح وكذا الضبع بمعنى العدو الشديد وعليه قيل إنه مفعول مطلق للعاديات وليس هناك فعل مقدر. وجوز على تفسيره بما تقدم أن يكون نصبا على المصدرية به أيضا لكن باعتبار أن العدو مستلزم للضبح فهو في قوة فعل الضبح. ويجوز أن يكون نصبا على الحال مؤولا باسم الفاعل بناء على أن الأصل فيها أن تكون غير جامدة أي والعاديات ضابحات (فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) الإيراء إخراج النار والقدح هو الضرب والصك المعروف يقال : قدح فأورى إذا أخرج النار ، وقدح فأصلد إذا قدح ولم يخرجها والمراد بها الخيل أيضا أي فالتي توري النار من صدم حوافرها للحجارة وتسمى تلك النار نار الحباحب وهو اسم رجل بخيل كان لا يوقد إلّا نارا ضعيفة مخافة الضيفان ، فضربوا بها المثل حتى قالوا ذلك لما تقدحه الخيل بحوافرها والإبل بأخفافها. وانتصاب (قَدْحاً) كانتصاب (ضَبْحاً) على ما تقدم. وجوز كونه على التمييز المحول عن الفاعل أي فالمورى قدحها ولعله أمير وأبعد عن القدح. وعن قتادة : الموريات مجاز في الخيل توري نار الحرب وتوقدها وهو خلاف الظاهر (فَالْمُغِيراتِ) من أغار على العدو هجم عليه بغتة بخيله لنهب أو قتل أو إسار ، فالإغارة صفة أصحاب الخيل وإسنادها إليها إما بالتجوز فيه أو بتقدير المضاف والأصل فالمغير أصحابها أي فالتي يغير أصحابها على العدو عليها وقيل بسببها (صُبْحاً) أي في وقت الصبح فهو نصب على الظرفية وذلك هو المعتاد في الغارات كانوا يعدون ليلا لئلا يشعر بهم العدو ويهجمون صباحا ليروا ما يأتون وما يذرون وكانوا يتحمسون بذلك ومنه قوله :

قومي الذين صبحوا الصباحا

يوم النخيل غارة ملحاحا

(فَأَثَرْنَ بِهِ) من الإثارة وهي التهييج وتحريك الغبار ونحوه. والأصل أثورن نقلت حركة الواو إلى ما قبلها وقلبت ألفا وحذفت لاجتماع الساكنين ، والفعل عطف على الاسم قبله وهو العاديات ، أو ما بعده لأنه اسم فاعل وهو في معنى الفعل خصوصا إذا وقع صلة فكأنه قيل : فاللاتي عدون فأورين فأغرن فأثرن. ولا شذوذ في مثله لأن الفعل تابع فلا يلزم دخول أل عليه ولا حاجة إلى أن يقال هو معطوف على الفعل الذي وضع اسم الفاعل موضعه. والحكمة في مجيء هذا فعلا بعد اسم فاعل على ما قال ابن المنير تصوير هذه الأفعال في النفس فإن التصوير يحصل بإيراد الفعل بعد الاسم لما بينهما من التخالف وهو أبلغ من التصوير بالأسماء المتناسقة وكذلك التصوير بالمضارع بعد المضارع كقول ابن معد يكرب :

بأني قد لقيت الغول يهوي

بشهب كالصحيفة صحصحان

فآخذه فأضربه فخرت

صريعا لليدين وللجران

وخص هذا المقام من الفائدة على ما قال الطيبي أن الخيل وصفت بالأوصاف الثلاثة ليرتب عليها ما قصد من الظفر بالفتح فجيء بهذا الفعل الماضي وما بعده مسببين عن أسماء الفاعلين فأفاد ذلك أن تلك المداومة أنتجت هاتين البغيتين ، ويفهم منه أن الفاء لتفريع ما بعدها عما قبلها وجعله مسببا عنه وسيأتي الكلام فيها قريبا إن شاء الله تعالى وضمير (بِهِ) للصبح والباء ظرفية أي فهيجن في ذلك الوقت (نَقْعاً) أي غبارا وتخصيص إثارته بالصبح لأنه لا يثور أو لا يظهر ثورانه بالليل وبهذا يظهر أن الإيراء الذي لا يظهر في النهار

٤٤٢

واقع في الليل. وفي ذكر إثارة الغبار إشارة بلا غبار إلى شدة العدو وكثرة الكر والفر وكثيرا ما يشيرون به إلى ذلك ومنه قول ابن رواحة :

عدمت بنيتي إن لم تروها

تثير النقع من كنفي كداء

وقال أبو عبيدة : النقع رفع الصوت ومنه قول لبيد :

فمتى ينقع صراخ صادق

يحلبوه ذات جرس وزجل

وقول عمر رضي الله تعالى عنه وقد قيل له يوم توفي خالد بن الوليد إن النساء قد اجتمعن يبكين على خالد : ما على نساء بني المغيرة أن يسفكن على أبي سليمان دموعهن وهن جلوس ما لم يكن نقع ولا لقلقة. والمعنى عليه فهيجن في ذلك الوقت صياح وهو صياح من هجم عليه وأوقع به. والمشهور المعنى الأول وجوز كون ضمير به للعدو الدال عليه العاديات أو للإغارة الدال عليها المغيرات والتذكير لتأويلها بالجري ونحوه والباء للسببية أو للملابسة وجوز كونها ظرفية أيضا والضمير للمكان الدال عليه السياق والأول أظهر وألطف. ومثله ضمير (بِهِ) في قوله عزوجل (فَوَسَطْنَ بِهِ) أي فتوسطن في ذلك الوقت (جَمْعاً) من جموع الأعداء وجوز فيه وفي بائه نحو ما تقدم في به قبله وجوز أيضا كون الضمير للنقع والباء للملابسة أي فتوسطن ملتبسات بالنقع جمعا أو هي على ما قيل للتعدية إن أريد أنها وسطت الغبار والفاءات كما في الإرشاد للدلالة على ترتيب ما بعد كل منها على ما قبله فتوسط الجمع مترتب على الإثارة المترتبة على الإيراء المترتب على العدو. وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة «فأثّرن» و «فوسّطن» بتشديد الثاء والسين. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وزيد بن علي وقتادة وابن أبي ليلى الأول كالجمهور والثاني كذين. والمعنى على تشديد الأول فأظهرن به غبارا لأن التأثير فيه معنى الإظهار وعلى تشديد الثاني على نحو ما تقدم. فقد نقلوا أن وسط مخففا ومثقلا بمعنى واحد وأنهما لغتان. وقال ابن جني المعنى ميزن به جمعا أي جعلنه شطرين أي قسمين وشقين. وقال الزمخشري : التشديد فيه للتعدية والباء مزيدة للتأكيد كما في قوله تعالى «وأتوا به» في قراءة وهي مبالغة في وسّطن وجوز أن يكون قلب ثورن إلى وثرن ثم قلبت الواو همزة فالمعنى على ما مرّ وهو تمحل مستغنى عنه. وعن السدي ومحمد بن كعب وعبيد بن عمير أنهم قالوا العاديات هي الإبل تعدو ضبحا من عرفة إلى المزدلفة ومن المزدلفة إلى منى. ونسب إلى عليّ كرم الله تعالى وجهه فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن الأنباري في كتاب الأضداد وابن مردويه والحاكم وصححه عن ابن عباس قال : بينما أنا في الحجر جالس إذ أتاني رجل فسألني عن (الْعادِياتِ ضَبْحاً) فقلت : الخيل حين تغير في سبيل الله تعالى ثم تأوي إلى الليل فيصنعون طعامهم ويورون نارهم ، فانفتل عني فذهب إلى علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وهو جالس تحت سقاية زمزم ، فسأله عن العاديات ضبحا فقال سألت عنها أحدا قبلي؟ قال : نعم سألت عنها ابن عباس. فقال : هي الخيل حين تغير في سبيل الله تعالى فقال : اذهب فادعه لي فلما وقفت على رأسه قال : تفتي الناس بما لا علم لك به ، والله إن كانت لأول غزوة في الإسلام لبدر وما كان معنا إلّا فرسان فرس للزبير وفرس للمقداد بن الأسود فكيف تكون العاديات ضبحا؟ إنما العاديات ضبحا الإبل تعدو من عرفة إلى المزدلفة فإذا أووا إلى المزدلفة أوروا النيران (فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً) من المزدلفة إلى منى فذلك جمع. وأما قوله تعالى (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً) فهو نقع الأرض حين تطؤها بخفافها. قال ابن عباس : فنزعت عن قولي إلى قول عليّ كرم الله تعالى وجهه ورضي الله تعالى عنه. واستشكل رده كرم الله تعالى وجهه كون المراد بها الخيل بما كان من أمر غزوة بدر بأن ابن عباس لم يدع أن أل في العاديات للعهد وأنها إشارة إلى عاديات بدر ، ولا أن السورة

٤٤٣

نزلت في شأن تلك الغزوة ليلزم تحقق ذلك فيها ودخولها تحت العموم بل ظاهر كلامه حمل ذلك على جنس الخيل التي تعدو في سبيل الله عزوجل وإن حملت على العهد. وقيل : إن المعهود هو الخيل التي بعثها عليه الصلاة والسلام للغزو على ما سمعت صدر السورة وكذا على ما روي من أنه عليه الصلاة والسلام بعث إلى أناس من بني كنانة سرية واستعمل عليها المنذر بن عمرو الأنصاري وكان أحد النقباء فأبطأ صلى‌الله‌عليه‌وسلم خبرها شهرا ، فقال المنافقون : إنهم قتلوا ، فنزلت السورة إخبارا له عليه الصلاة والسلام بسلامتها وبشارة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإغارتها على القوم لم يبعد ، وأجيب بأنه كرم الله تعالى وجهه أراد أن غزوة بدر هي أفضل غزوات الإسلام وبدرها الذي ليس فيه انثلام فيتعين أن لا تكون المراد ذلك. ويسلك في الآية ما يناسبها من المسالك ولا يخفى أن هذا الجواب لا يتحمل لمزيد ضعفه الإغارة عليه وإطلاق أعنّة عاديات الأفكار إليه والأحرى أن الخبر لا صحة له وتصحيح الحاكم محكوم عليه عند أهل الأثر بكثرة التساهل فيه وأنه غير معتبر ثم إن النقل عنه رضي الله تعالى عنه في المراد بالعاديات متعارض بما تقدم أنه إبل الحجاج. ونقل صاحب التأويلات أنه كرم الله تعالى وجهه فسرها بإبل بدر وأن ابن مسعود هو الذي فسرها بإبل الحجاج. ويرجح إرادة الخيل أن إثارة النقع فيها أظهر منها في الإبل ثم إن ذلك الخبر يقتضي أن للقسم به نوعان الخيل والإبل وجماعة الغزاة أو الحجاج الموقدة نارا لطعامها أو نحوه. وفي بعض الآثار عن ابن عباس ما هو أصرح مما تقدم في تفسير الموريات بما يغاير العاديات بالذات ففي البحر عنه أنها الجماعة التي توري نارها بالليل لحاجتها وطعامها. وفي رواية أخرى عنه تلك جماعة الغزاة تكثر النار إرهابا ورويت المغايرة عن آخرين أيضا. فعن مجاهد وزيد بن أسلم وهي رواية أخرى عن ابن عباس هي الجماعة تمكر في الحرب فالعرب تقول إذا أرادت المكر بالرجل : والله لأورين له ، ومن الغريب ما روي عن عكرمة أنها ألسنة الرجال توري النار من عظيم ما يتكلم به ويظهر من الحجج والدلائل وإظهار الحق وإبطال الباطل وهو كما ترى.

ومن البطون والإشارات أن يكون المقسم به النفوس العادية إثر كمالهن الموريات بأفكارهن أنوار المعارف والمغيرات على الهوى والعادات إذا ظهر لهن مثل أنوار القدس فأثرن به شوقا فوسطن بذلك الشوق جمعا من جموع العليين. ومثله ما قيل إن ذلك قسم بالهمم القالبية التي تعدو في سبيل الله تعالى خارجا من جوف اشتياقها صوت الدعاء من شدة العدو وغاية الشوق بحيث يسمع الروحانيون ضجيج دعائها وتضرعها والتماسها تسهيل سلوك الطريق الوعر الذي يتعلق بجبال القالب الموريات بحوافر الذكر نار الهداية المستكنة في حجر القالب وقت تخمير اللطيفة والمغيرات بعد سلوكها في جبال القالب الراسية في ظلام الليل القالبي وعبورها عنها إلى أفق عالم النفس وتنفس صبح النفس على الخواطر النفسية وشئونها فهيجن بذلك الجري غبار الخواطر وأثرنه لئلا يختفي خاطر من الخواطر ، فوسطن بذلك جمعا من جنود القوى القلبية وحزب الخواطر الذكرية التي هي حزب الرحمن في وسط عالم النفس ولهم في هذا الباب غير ذلك. وأيّا ما كان فالمقسم عليه قوله تعالى (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) أي لكفور جحود من كند النعمة كفرها ولم يشكرها وأنشدوا :

كنود لنعماء الرجال ومن يكن

كنودا لنعماء الرجال يبعد

وعن ابن عباس ومقاتل : الكنود بلسان كندة وحضرموت العاصي ، وبلسان ربيعة ومضر الكفور ، وبلسان كنانة البخيل السيّئ الملكة ، ومنه الأرض الكنود الذي لا تنبت شيئا. وقال الكلبي نحوه إلّا أنه قال : وبلسان بني مالك البخيل ولم يذكر حضرموت بل اقتصر على كندة وتفسيره بالكفور هنا مروي عن ابن عباس

٤٤٤

والحسن وأخرجه ابن عساكر عن أبي أمامة مرفوعا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفي رواية أخرى عن الحسن أنه قال : هو اللائم لربه عزوجل يعد السيئات وينسى الحسنات. وروى الطبراني وغيره بسند ضعيف عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أتدرون ما الكنود»؟ قالوا الله تعالى ورسوله أعلم. قال : «هو الكفور الذي يضرب عبده ويمنع رفده ويأكل وحده». وأخرجه البخاري في الأدب المفرد والحكيم الترمذي وغيرهما تفسيره بالذي يمنع رفده وينزل وحده ويضرب عبده موقوفا على أبي أمامة. والجمهور على تفسيره بالكفور وكل مما ذكر لا يخلو عن كفران والكفران المبالغ فيه يجمع صنوفا منه. وأل في (الْإِنْسانَ) للجنس والحكم عليه بما ذكر باعتبار بعض الافراد. وقيل : المراد به كافر معين لما روي عن ابن عباس أنها نزلت في قرط بن عبد الله بن عمرو بن نوفل القرشي وأيد بقوله تعالى بعد (أَفَلا يَعْلَمُ) إلخ لأنه لا يليق إلّا بالكافر. وفي الأمرين نظر وقيل المراد به كل الناس على معنى أن طبع الإنسان يحمله على ذلك إلّا إذا عصمه الله تعالى بلطفه وتوفيقه من ذلك واختاره عصام الدين وقال : فيه مدح للغزاة لسعيهم على خلاف طبعهم. و (لِرَبِّهِ) متعلق بكنود واللام غير مانعة من ذلك ، وقدم للفاصلة مع كونه أهم من حيث إن الذم البالغ إنما هو على كنود نعمته عزوجل وقيل للتخصيص على سبيل المبالغة. (وَإِنَّهُ) أي الإنسان كما قال الحسن ومحمد بن كعب (عَلى ذلِكَ) أي على كنوده (لَشَهِيدٌ) لظهور أثره عليه فالشهادة بلسان الحال الذي هو أفصح من لسان المقال. وقيل : هي بلسان المقال لكن في الآخرة. وقيل : شهيد من الشهود لا من الشهادة بمعنى أنه كفور مع علمه بكفرانه وعمل السوء مع العلم به غاية المذمة والظاهر الأول. وقال ابن عباس وقتادة : ضمير (إِنَّهُ) عائد على الله تعالى أي وإن ربه سبحانه شاهد عليه فيكون الكلام على سبيل الوعيد واختاره التبريزي فقال : هو الأصح لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب مذكور قبله. وفيه أن الوجوب ممنوع واتساق الضمائر وعدم تفكيكها يرجح الأول فإن الضمير السابق أعني ضمير (لِرَبِّهِ) للإنسان ضرورة وكذا الضمير اللاحق أعني الضمير في قوله تعالى (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ) أي المال وورد بهذا المعنى في القرآن كثيرا حتى زعم عكرمة أن الخير حيث وقع في القرآن هو المال وخصه بعضهم بالمال الكثير وفسر به في قوله تعالى (إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ) [البقرة : ١٨٠] وإطلاق كونه خيرا باعتبار ما يراه الناس وإلّا فمنه ما هو شر يوم القيامة واللام للتعليل أي أنه لأجل حب المال (لَشَدِيدٌ) أي لبخيل كما قيل وكما يقال للبخيل شديد يقال له متشدد كما في قول طرفة :

أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي

عقيلة مال الفاحش المتشدد

وشديد فيه يجوز أن يكون بمعنى مفعول كأن البخيل شد عن الإفضال ، ويجوز أن يكون بمعنى فاعل كأنه شد صرته فلا يخرج منها شيئا. وجوز غير واحد أن يراد بالشديد القوي ولعله الأظهر وكأن اللام عليه بمعنى في أي وإنه لقوي مبالغ في حب المال. والمراد قوة حبه له. وقال الزمخشري : المعنى وإنه لحب المال وإيثار الدنيا وطلبها قوي مطيق وهو لحب عبادة الله تعالى وشكر نعمته سبحانه ضعيف متقاعس تقول هو شديد لهذا الأمر وقوي له إذا كان مطيقا له ضابطا. وجعل النيسابوري اللام على هذا للتعليل وليس بظاهر فتأمل. وقال الفراء : يجوز أن يكون المعنى وإنه لحب الخير لشديد الحب يعني أنه يحب المال ويحب كونه محبا له إلّا أنه اكتفى بالحب الأول عن الثاني كما قال تعالى (اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) [إبراهيم : ١٨] أي في يوم عاصف الريح فاكتفى بالأول عن الثاني. وقال قطرب : أي إنه شديد لحب الخير كقولك إنه لزيد ضروب في إنه ضروب لزيد. وظاهر التمثيل أنه اعتبر حب الخير مفعولا به لشديد وإن شديد اسم فاعل جيء

٤٤٥

به على فعيل للمبالغة وأن اللام في (لِحُبِ) للتقوية وفيه ما فيه. وقيل يجوز أن يعتبر أن شديدا صفة مشبهة كانت مضافة إلى مرفوعها وهو حب المضاف إلى الخير إضافة المصدر إلى مفعوله ثم حول الاسناد وانتصب المرفوع على التشبيه بالمفعول به ، ثم قدم وجر باللام وفيه مع قطع النظر عن التكلف أن تقدم معمول الصفة عليها لا يجوز وكونه مجرورا في مثل ذلك لا يجدي نفعا إذ ليس هو فيه نحو زيد بك فرح كما لا يخفى. ويفهم من كلام الزمخشري في الكشاف جواز أن يراد به ما هو عنده تعالى من الطاعات على أن المعنى إنه لحب الخيرات غير هش منبسط ولكنه شديد منقبض. وقوله تعالى (أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ) إلخ تهديد ووعيد والهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام ومفعول يعلم محذوف وهو العامل في إذا وهي ظرفية أي أيفعل ما يفعل من القبائح أو ألا يلاحظ فلا يعلم الآن مآله إذا بعثر من في القبور من الموتى وإيراد ما لكونهم إذ ذاك بمعزل من رتبة العقلاء. وقال الحوفي : العامل في (إِذا) الظرفية (يَعْلَمُ) وأورد عليه أنه لا يراد منه العلم في ذلك الوقت بل العلم في الدنيا. وأجيب بأن هذا إنما يرد إذا كان ضمير (يَعْلَمُ) راجعا إلى الإنسان وذلك غير لازم على هذا القول لجواز أن يرجع إليه عزوجل ويكون مفعولا يعلم محذوفين. والتقدير أفلا يعلمهم الله تعالى عاملين بما عملوا إذا بعثر على أن يكون العلم كناية عن المجازاة والمعنى أفلا يجازيهم إذا بعثر ويكون الجملة المؤكدة بعد تحقيقا وتقريرا لهذا المعنى وهو كما ترى. وقيل : إن إذا مفعول به ليعلم على معنى أفلا يعلم ذلك الوقت ويعرف تحققه وقل إن العالم فيها بعثر بناء على أنها شرطية غير مضافة قالوا : ولم يجوز أن يعمل فيها لخبير لأن ما بعد إن لا يعمل فيما قبلها وأوجه الأوجه ما قدمناه وتعدي العلم إذا كان بمعنى المعرفة لواحد شائع وتقدم تحقيق معنى البعثرة فتذكر. وقرأ عبد الله «بحثر» بالحاء والثاء المثلثة. وقرأ الأسود بن زيد «بحث» بهما. بدون راء وقرأ نصر بن عاصم «بحثر» كقراءة عبد الله لكن بالبناء للفاعل. (وَحُصِّلَ ما فِي (١) الصُّدُورِ) أي جمع ما في القلوب من العزائم المصممة وأظهر كإظهار اللب من القشر وجمعه أو ميّز خيره من شره فقد استعمل حصل الشيء بمعنى ميزه من غيره كما في البحر. وأصل التحصيل إخراج اللب من القشر كإخراج الذهب من حجر المعدن والبر من التبن وتخصيص ما في القلوب لأنه الأصل لأعمال الجوارح ولذا كانت الأعمال بالنيات وكان أول الفكر آخر العمل فجميع ما عمل تابع له فيدل على الجميع صريحا وكناية. وقرأ ابن يعمر ونصر بن عاصم ومحمد بن أبي معدان «وحصّل» مبنيا للفاعل وهو ضميره عزوجل. وقرأ ابن يعمر ونصر أيضا «حصل» مبنيا للفاعل خفيف الصاد فما عليه هو الفاعل (إِنَّ رَبَّهُمْ) أي المبعوثين كنى عنهم بعد الإحياء الثاني بضمير العقلاء بعد ما عبّر عنهم قبل ذلك بما بناء تفاوتهم في الحالين (بِهِمْ) بذواتهم وصفاتهم وأحوالهم بتفاصيلها (يَوْمَئِذٍ) أي يوم إذ يكون ما عدّ من بعث ما في القبور وتحصيل ما في الصدور والظرفان متعلقان بقوله تعالى (لَخَبِيرٌ) أي عالم بظواهر ما عملوا وبواطنه علما موجبا للجزاء متصلا به كما ينبئ عنه تقييده بذلك اليوم وإلّا فمطلق علمه عزوجل بما كان وما سيكون. وقرأ أبو السمال والحجاج «أن ربهم بهم يومئذ خبير» بفتح همزة أن وإسقاط لام التأكيد فإن وما بعدها في تأويل مصدر معمول ليعلم على ما استظهره بعضهم ، وأيد به كون يعلم معلقة عن العمل في أن ربهم إلخ على قراءة الجمهور لمكان اللام وإذا على هذا لا يجوز تعلقها بخبير أيضا لكونه في صفة أن المصدرية فلا يتقدم معموله عليها. ويعلم أمره مما تقدم وقيل الكلام على تقدير لام التعليل وهي متعلقة بحصل كأنه قيل وحصل ما في الصدور لأن ربهم بهم يومئذ خبير والأول أظهر والله تعالى أعلم وأخبر.

٤٤٦

سورة القارعة

مكية بلا خلاف وآيها إحدى عشرة آية في الكوفي وعشر في الحجازي وثمان في البصري والشامي ومناسبتها لما قبلها أظهر من أن تذكر.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (٣) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (٤) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٧) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (٩) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (١٠) نارٌ حامِيَةٌ)(١١)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ) الجمهور على أنها القيامة نفسها ومبدؤها النفخة الأولى ومنتهاها فصل القضاء بين الخلائق وقيل صوت النفخة. وقال الضحاك : هي النار ذات التغيظ والزفير وليس بشيء. وأيّا ما كان فهي من القرع وهو الضرب بشدة بحيث يحصل منه صوت شديد وقد تقدم الكلام فيها وكذا ما يعلم منه إعراب ما ذكر في الكلام على قوله تعالى (الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ) [الحاقة : ١ ـ ٣] وقرأ عيسى «القارعة» بالنصب وخرج على أنه بإضمار فعل أي اذكر القارعة وقوله تعالى (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) قيل أيضا منصوب بإضمار اذكر كأنه قيل بعد تفخيم أمر القارعة وتشويقه عليه الصلاة والسلام إلى معرفتها اذكر يوم يكون الناس إلخ فإنه يدريك ما هي. وقال الزمخشري : ظرف لمضمر دلت عليه القارعة أي تقرع يوم. وقال الحوفي : ظرف تأتى مقدرا وبعضهم قدر هذا الفعل مقدما على القارعة وجعلها فاعلا له أيضا. وقال ابن عطية : ظرف للقارعة نفسها من غير تقدير ولم يبين أي القوارع أراد. وتعقبه أبو حيان بأنه إن أراد اللفظ الأول ورد عليه الفصل بين العامل وهو في صلة أل والمعمول بالخبر وهو لا يجوز وإن أراد الثاني أو الثالث فلا يلتئم معنى الظرف معه. وأيد بقراءة زيد بن علي «يوم» بالرفع على ذلك وقدر بعضهم المبتدأ وقتها والفراش قال في الصحاح : جمع فراشة التي تطير وتهافت في النار وهو المروي عن قتادة. وقيل : هو طير رقيق يقصد النار ولا يزال يتقحم على المصباح ونحوه حتى

٤٤٧

يحترق. وقال الفرّاء : هو غوغاء الجراد الذي ينتشر في الأرض ويركب بعضه بعضا من الهول وقال صاحب التأويلات : اختلفوا في تأويله على وجوه لكن كلها ترجع إلى معنى واحد وهو الإشارة إلى الحيرة والاضطراب من هول ذلك اليوم واختار غير واحد ما روي عن قتادة وقالوا : شبهوا في الكثرة والانتشار والضعف والذلة والمجيء والذهاب على غير نظام والتطاير إلى الداعي من كل جهة حين يدعوهم إلى المحشر بالفراش المتفرق المتطاير قال جرير :

إن الفرزدق ما علمت وقومه

مثل الفراش غشين نار المصطلي

(وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) أي الصوف مطلقا أو المصبوغ كما قيده الراغب به وقد تقدم الكلام فيه في المعارج وكان بمعنى صار أي وتصير جميع الجبال كالعهن (الْمَنْفُوشِ) المفرق بالأصبع ونحوها في تفرق أجزائها وتطايرها في الجو حسبما ينطق به غير آية. وقوله تعالى (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) إلى آخره بيان إجمالي لتحزب الناس حزبين وتنبيه على كيفية الأحوال الخاصة بكل منهما إثر بيان الأحوال الشاملة للكل. وهذا إشارة إلى وزن الأعمال وهو مما يجب الإيمان به حقيقة ولا يكفره منكره ويكون بعد تطاير الصحف وأخذها بالأيمان والشمائل وبعد السؤال والحساب كما ذكره الواحدي وغيره. وجزم به صاحب كنز الأسرار بميزان له لسان وكفتان كإطباق السماوات والأرض والله تعالى أعلم بماهيته. وقد روي القول به عن ابن عباس والحسن البصري وعزاه في شرح المقاصد لكثير من المفسرين ومكانه بين الجنة والنار كما في نوادر الأصول وذكر يتقبل به العرش يأخذ جبريل عليه‌السلام بعموده ناظرا إلى لسانه وميكائيل عليه‌السلام أمين عليه والأشهر الأصح أنه ميزان واحد كما ذكرنا لجميع الأمم ولجميع الأعمال فقوله تعالى (مَوازِينُهُ) وهو جمع ميزان وأصله موزان بالواو لكن قلبت ياء لسكونها وانكسار ما قبلها قيل للتعظيم كالجمع في قوله تعالى (كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ) [الشعراء : ١٢٣] في وجه أو باعتبار أجزائه نحو شابت مفارقه أو باعتبار تعدد الأفراد للتغاير الاعتباري كما قيل في قوله :

لمعان برق أو شعاع شموس

وزعم الرازي على ما نقل عنه أن فيه حديثا مرفوعا. وقال آخرون : توزن نفس الأعمال فتصور الصالحة بصور حسنة نورانية ثم تطرح في كفة النور وهي اليمنى المعدة للحسنات فتثقل بفضل الله تعالى ، وتصور الأعمال السيئة بصور قبيحة ظلمانية ثم تطرح في كفه الظلمة وهي الشمال فتخفف بعدل الله تعالى وامتناع قلب الحقائق في مقام خرق العادات ممنوع أو مقيد ببقاء آثار الحقيقة الأولى. وقد ذهب بعضهم إلى أن الله تعالى يخلق أجساما على عدد تلك الأعمال من غير قلب لها وادعى أن فيه أثرا. والظاهر أن الثقل والخفة مثلهما في الدنيا فما ثقل نزل إلى أسفل ثم يرتفع إلى عليين وما خف طاش إلى أعلى ثم نزل إلى سجين وبه صرح القرطبي وقال بعض المتأخرين : هما على خلاف ما في الدنيا وأن عمل المؤمن إذا رجح صعد وثقلت سيئاته وأن الكافر تثقل كفته لخلو الأخرى من الحسنات ثم تلا (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر : ١٠] وفي كونه دليلا نظر وذكر بعضهم أن صفة الوزن أن يجعل جميع أعمال العباد في الميزان مرة واحدة الحسنات في كفة النور عن يمين العرش جهة الجنة ، والسيئات في كفة الظلمة جهة النار ، ويخلق الله تعالى لكل إنسان علما ضروريا يدرك به خفة أعماله وثقلها. وقيل نحو إلّا أن علامة الرجحان عمود من نور يثور من كفة الحسنات حتى يكسو كفة السيئات وعلامة الخفة عمود ظلمة يثور من كفة السيئات حتى يكسو كفة الحسنات

٤٤٨

فالكيفيات أربع وستظهر حقيقة الحال بالعيان وهو كما قال القرطبي لا يكون في حق كل أحد لما في الحديث الصحيح «فيقال : يا محمد أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن» الحديث. وأحرى الأنبياء عليهم‌السلام وقوله سبحانه (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) [الرحمن : ٤١] وإنما يبقى الوزن لمن شاء الله تعالى من الفريقين وذكر القاضي منذر بن سعيد البلوطي أن أهل الصبر لا توزن أعمالهم وإنما يصب لهم الأجر صبا. والظاهر أنه يدرج المنافق في الكافر والحق أن أعمالهم مطلقا توزن لظواهر الآيات والأحاديث الكثيرة. والمراد في الآية وزنا نافعا. والصحيح أن الجن مؤمنهم وكافرهم كالإنس في هذا الشأن كما قرر في محله. والتقسيم فيما نحن فيه على ما سمعت عن القرطبي بالنسبة إلى من توزن أعماله لا بالنسبة إلى الناس مطلقا. وأنكر المعتزلة الوزن حقيقة وجماعة من أهل السنة والجماعة منهم مجاهد والضحاك والأعمش قالوا : إن الأعمال أعراض إن أمكن بقاؤها لا يمكن وزنها فالوزن عبارة عن القضاء السوي والحكم العادل ، وجوزوا فيما هنا أن تكون الموازين جمع موزون وهو العمل الذي له وزن وخطر عند الله تعالى وأن معنى ثقلها رجحانها وروي هذا عن الفراء أي فمن ترجحت مقادير حسناته ورتبها (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) المشهور جعل ذلك من باب النسب أي ذات رضا. وجوز أن تكون (راضِيَةٍ) بمعنى المفعول أي مرضية على التجوز في الكلمة نفسها وأن يكون الإسناد مجازيا وهو حقيقة إلى صاحب العيشة. وجوز أن يكون في الكلام استعارة مكنية وتخييلية على ما قرر في كتب المعاني لكن ذكر بعض الأجلّة هاهنا كلاما نفيسا وهو أن ما كان للنسب يؤول بذي كذا فلا يؤنث لأنه لم يجر على موصوف فألحق بالجوامد ونقل عن السيرافي أنه قال : يقدح فيما عللوا به سقوط الهاء في (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) وفيه وجهان أحدهما أن تكون بمعنى أنها راضية أهلها فهي ملازمة لهم راضية بهم. والآخر أن تكون الهاء للمبالغة كعلامة ورواية ووجه بأن الهاء لزمت لئلا تسقط الياء فيخل بالبنية كناقة مشلية وكلبة مجرية وهم يقولون ظبية مطفل ومشدان وباب مفعل ومفعال لا يؤنث. وقد ادخلوا الهاء في بعضه كمصكة انتهى ثم قال : إن هذا حقيق بالقبول ومحصله الجواب بوجوه أحدهما أن (راضِيَةٍ) هنا فيه ليس من باب النسب بل هو اسم فاعل أريد به لازم معناه لأن من شاء شيئا ورضي به لازمه فهو مجاز مرسل أو استعارة. ويجوز أن يراد أنه مجاز في الإسناد وما ذكر بيان لمعناه الثاني أن الهاء للمبالغة ولا تختص بفعال ولذا مثل برواية أيضا والثالث أنه يجوز إلحاق الهاء في المعتل لحفظ البنية ومصكة إما شاذا ولتشبيه المضاعف بالمعتل انتهى. فاحفظه فإنه نفيس خلا عنه أكثر الكتب.

(وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) بأن لم يكن له حسنة يعتد بها أو ثقلت سيئاته على حسناته (فَأُمُّهُ) أي فمأواه كما قال ابن زيد وغيره (هاوِيَةٌ) أريد بها النار كما يؤذن به قوله تعالى (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ نارٌ حامِيَةٌ) فإنه تقرير لها بعد إبهامها والإشعار بخروجها عن المعهود للتفخيم والتهويل. وذكر أن إطلاق ذلك عليها لغاية عمقها وبعد مهواها ، فقد روي أن أهل النار تهوي فيها سبعين خريفا وخصها بعضهم بالباب الأسفل من النار وعبر عن المأوى بالأم على التشبيه بها فالأم مفزع الولد ومأواه وفيه تهكم به. وقيل : شبه النار بالأم في أنها تحيط به إحاطة رحم الولد بالأم. وعن قتادة وأبي صالح وعكرمة والكلبي وغيرهم : المعنى فأم رأسه هاوية في قعر جهنم لأنه يطرح فيها منكوسا. وفي رواية أخرى عن قتادة هو من قولهم إذا دعوا على الرجل بالهلكة : هوت أمه لأنه إذا هوى أي سقط وهلك فقد هوت أمه ثكلا وحزنا ومن ذلك قول كعب بن سعد الغنوي :

هوت أمه ما يبعث الصبح غاديا

وما ذا يرد الليل حين يئوب

٤٤٩

وفي الكشف أن هذا أحسن ليطابق قوله سبحانه (فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) وما فيه من المبالغة. وقال الطيبي: إنه الأظهر وللبحث فيه مجال. والضمير أعني هي عليه للداهية التي دل عليها الكلام وعلى ما قدمنا لهاوية وعلى الوجه الثاني لما يشعر به الكلام كأنه قيل : فأم رأسه هاوية في نار وما أدراك ما هيه إلخ. والهاء الملحقة في (هِيَهْ) هاء السكت وحذفها في الوصل ابن أبي إسحاق والأعمش وحمزة وأثبتها الجمهور. ورفع (نارٌ) على أنها خبر مبتدأ محذوف أي هي نار ، و (حامِيَةٌ) نعت لها وهو من الحمى اشتداد الحر قال في القاموس : حمى الشمس والنار حميا وحميا وحموا اشتد حرهما. وجعله بعضهم على ما قيل من حميت القدر فهي محمية ففسره بذات حمى وهو كما ترى. وقرأ طلحة «فإمه» بكسر الهمزة قال ابن خالويه وحكى ابن دريد أنها لغة وأما النحويون فيقولون لا يجوز كسر الهمزة إلا أن يتقدمها كسرة أو ياء والله تعالى أعلم.

٤٥٠

سورة التّكاثر

وكان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما أخرج ابن أبي حاتم عن سعد بن أبي هلال يسمونها المقبرة وهي مكية. قال أبو حيان عند جميع المفسرين. وقال الجلال السيوطي : على الأشهر ويدل لكونها مدنية وهو المختار ما أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي بريدة فيها. قال : نزلت في قبيلتين من قبائل الأنصار في بني حارثة وبني الحارث تفاخروا وتكاثروا فقالت إحداهما : فيكم مثل فلان وفلان؟ وقال الآخرون مثل ذلك تفاخروا بالأحياء ثم قالوا : انطلقوا بناء إلى القبور فجعلت إحدى الطائفتين تقول فيكم مثل فلان؟ تشير إلى القبر ومثل فلان ، وفعل الآخرون مثل ذلك فأنزل الله تعالى (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) إلخ. وأخرج البخاري وابن جرير عن أبي بن كعب قال : كنا نرى هذا من القرآن «لو أن لابن آدم واديين من مال لتمنى واديا ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب ثم يتوب الله على من تاب» حتى نزلت ألهاكم التكاثر. إلخ. وأخرج الترمذي وابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن عليّ كرم الله تعالى وجهه ما زلنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) وعذاب القبر لم يذكر إلّا في المدينة كما في الصحيح في قصة اليهودية انتهى. ولقوة الأدلة على مدنيتها قال بعض الأجلّة إنه الحق. وآيها ثمان بالاتفاق وهي تعدل ألف آية من القرآن. أخرج الحاكم والبيهقي في الشعب عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا يستطيع أحدكم أن يقرأ ألف آية في كل يوم؟» قالوا : ومن يستطيع أن يقرأ ألف آية؟ قال : «أما يستطيع أحدكم أن يقرأ ألهاكم التكاثر»؟ وأخرج الخطيب في المتفق والمفترق والديلمي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه. قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ في ليلة ألف آية لقي الله تعالى وهو ضاحك في وجهه» فقيل : يا رسول الله من يقوى على ألف آية؟ فقرأ سورة ألهاكم التكاثر إلى آخرها ثم قال عليه الصلاة والسلام : «والذي نفسي بيده إنها لتعدل ألف آية». وذكر ناصر الدين بن الميلق في سر ذلك أن القرآن ستة آلاف ومائتا آية وكسر ، فإذا تركنا الكسر كان الألف سدس القرآن وهذه السورة تشتمل على سدس من مقاصد القرآن فإنها على ما ذكره الغزالي ستة ثلاثة مهمة وهي تعريف المدعو إليه وتعريف الصراط المستقيم وتعريف الحال عند الرجوع إليه عزوجل ، وثلاثة متمة وهي تعريف أحوال المطيعين وحكاية أقوال الجاحدين وتعريف منازل الطريق وأحدها معرفة الآخرة المشار إليه بتعريف الحال عند الرجوع إليه تعالى المشتمل عليه السورة. والتعبير على هذا المعنى بألف آية أفخم وأجل من التعبير بالسدس انتهى. والأمر والله تعالى أعلم وراء ذلك ومناسبتها لما قبلها ظاهرة.

٤٥١

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (٢) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (٧) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)(٨)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* أَلْهاكُمُ) أي شغلكم وأصل اللهو الغفلة ثم شاع في كل شاغل وخصّه العرف بالشاغل الذي يسر المرء وهو قريب من اللعب ولذا ورد بمعناه كثيرا. وقال الراغب : اللهو ما يشغلك عما يعني ويهم وقيل : وليس بذاك المراد به هنا الغفلة والمعنى جعلكم لاهين غافلين (التَّكاثُرُ) أي التباري في الكثرة والتباهي بها بأن يقول هؤلاء نحن أكثر وهؤلاء نحن أكثر (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) حتى إذا استوعبتم عدد الأحياء صرتم إلى المقابر وانتقلتم إلى ذكر من فيها فتكاثرتم بالأموات فالغاية داخلة في المغيا ، وقد تقدم من سبب النزول ما يوضح ذلك. وعن الكلبي ومقاتل أن بني عبد مناف وبني سهم تفاخروا أيهم أكثر عددا فكثرتهم بنو عبد مناف فقالت بنو سهم : إن البغي أهلكنا في الجاهلية فعادونا بالأحياء والأموات فكثرتهم بنو سهم وزيارة المقابر على ما تقدم على ظاهرها ، وأما على هذا فقد عبّر بها عن بلوغهم ذكر الموتى كناية أو مجازا واستحسن جعله تمثيلا وفي الكشاف عبّر بذلك عما ذكر تهكما بهم ووجه بعض بأنه كأنه قيل أنتم في فعلكم هذا كمن يزور القبور من غير غرض صحيح وبعض آخر بأن زيارة القبور للاتعاظ وتذكر الموت وهم عكسوا فجعلوها سببا للغفلة وهذا أولى. والمعنى ألهاكم ذلك وهو لا يعنيكم ولا يجدي عليكم في دنياكم وآخرتكم عما يعنيكم من أمر الدين الذي هو أهم وأعنى من كل مهم ، وحذف الملهي عنه للتعظيم المأخوذ من الإبهام بالحذف والمبالغة في الذم حيث أشار إلى أن ما يلهي مذموم فضلا عن الملهي عن أمر الدين. وقيل : المراد ألهاكم التكاثر بالأموال والأولاد إلى أن متم وقبرتم منفقين أعماركم في طلب الدنيا والاشتياق إليها والتهالك عليها إلى أن أتاكم الموت لا هم لكم غيرها عما هو أولى بكم من السعي لعاقبتكم والعمل لآخرتكم ، وصدره قد أخرجه ابن المنذر عن ابن عباس وهو وابن أبي حاتم وابن أبي شيبة عن الحسن وزيارة المقابر عليه عبارة عن الموت كما قال الشاعر :

إني رأيت الضمد شيئا نكرا

لن يخلص العام خليل عشرا

ذاق الضماد أو يزور القبرا

وقال جرير :

زار القبور أبو مالك

فأصبح ألأم زوارها

وفي ذلك إشارة إلى تحقق البعث. يحكى أن أعرابيا سمع ذلك فقال : بعث القوم للقيامة ورب الكعبة فإن الزائر منصرف لا مقيم. وعن عمر بن عبد العزيز أنه قال : لا بد لمن زار أن يرجع إلى جنة أو نار وفيه أيضا إشارة إلى قصر زمن اللبث في القبور والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع أو لتغليب من مات أولا أو لجعل موت آبائهم بمنزلة موتهم. ومما يقضي منه العجب قول أبي مسلم : إن الله عزوجل يتكلم بهذه السورة يوم القيامة تعييرا للكفار وهم في ذلك الوقت قد تقدمت منهم زيارة القبور. وقيل : هذا تأنيب على الإكثار من

٤٥٢

زيارة القبور تكثرا بمن سلف ومباهاة وتفاخرا به لا اتعاظا وتذكرا للآخرة كما هو المشروع ، ويشير إليه خبر أبي داود : «نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة» ولا يخفى أن الآية بمعزل عن ذلك نعم لا كلام في ذم زيارة القبور للتفاخر بالمزور أو للتباهي بالزيارة كما يفعل كثير من الجهلة المنتسبين إلى المتصوفة في زياراتهم لقبور المشايخ عليهم الرحمة هذا مع ما لهم فيها من منكرات اعتقدوها طاعات وشنائع اتخذوها شرائع إلى أمور تضيق عنها صدور السطور. وقرأ ابن عباس وعائشة ومعاوية وأبو عمران الجوني وأبو صالح ومالك بن دينار وأبو الجوزاء وجماعة : «آلهاكم» بالمد على الاستفهام. وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وابن عباس أيضا والشعبي وأبي العالية وابن أبي عبلة والكسائي في رواية «أألهاكم» بهمزتين والاستفهام للتقرير (كَلَّا) ردع عن الاشتغال بما لا يعنيه عما يعنيه وتنبيه على الخطأ فيه لأن عاقبته وخيمة (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) سوء مغبة ما أنتم عليه إذا عاينتم عاقبته والعلم بمعنى المعرفة المتعدية لواحد (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) تكرير للتأكيد وثم للدلالة على أن الثاني أبلغ كما يقول العظيم لعبده أقول لك ثم أقول لك لا تفعل قيل ولكونه أبلغ نزل منزلة المغايرة فعطف ، وإلّا فالمؤكد لا يعطف على المؤكد لما بينهما من شدة الاتصال وأنت تعلم أن المنع هو رأي اللغويين وقد صرح المفسرون والنحاة بخلافه. وقال علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه الأول في القبور والثاني في النشور فلا تكرير والتراخي على ظاهره ولا كلام في العطف. وقال الضحاك : الزجر الأول ووعيده للكافرين وما بعد للمؤمنين ، وهو خلاف الظاهر.

(كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) أي لو تعلمون ما بين أيديكم علم الأمر المتيقن أي كعلمكم ما تستيقنونه من الأمور فالعلم مضاف للمفعول واليقين بمعنى المتيقن صفة لمقدر ، وجوز أبو حيان كون الإضافة من إضافة الموصوف إلى صفته أي العلم اليقين وفائدة الوصف ظاهرة بناء على أن العلم يطلق على غير اليقين وجواب (لَوْ) محذوف للتهويل أي لو تعلمون كذلك لفعلتم ما لا يوصف ولا يكتنه أو لشغلكم ذلك عن التكاثر وغيره أو نحو ذلك. وقوله تعالى (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) جواب قسم مضمر أكّد به الوعيد وشدد به التهديد وأوضح به ما أنذروه بعد إبهامه تفخيما ولا يجوز أن يكون جواب لو الامتناعية لأنه محقق الوقوع وجوابها لا يكون كذلك. وقيل : يجوز ويكون المعنى سوف تعلمون الجزاء ثم قال سبحانه : لو تعلمون الجزاء علم اليقين الآن لترون الجحيم يعني تكون الجحيم دائما في نظركم لا تغيب عنكم وهو كما ترى (ثُمَّ لَتَرَوُنَّها) تكرير للتأكيد وثم للدلالة على الأبلغية ، وجوّز أن تكون الرؤية الأولى إذا رأتهم من بعيد والثاني إذا وردوها أو إذا دخلوها أو الأولى إذا وردوها والثانية إذا دخلوها ، أو الأولى المعرفة والثانية المشاهدة والمعاينة وقيل يجوز أن يكون المراد لترون الجحيم غير مرة إشارة إلى الخلود وهذا نحو التثنية في قوله تعالى (ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) [الملك : ٤] وهو خلاف الظاهر جدا (عَيْنَ الْيَقِينِ) أي الرؤية التي هي نفس اليقين فإن الانكشاف بالرؤية والمشاهدة فوق سائر الانكشافات فهو أحق بأن يكون عين اليقين فعين بمعنى النفس مثله في نحو جاء زيد نفسه وهو صفة مصدر مقدر أي رؤية عين اليقين ، والعامل فيه (لَتَرَوُنَّها) وجوز أن يكون متنازعا فيه للفعلين قبله وفي إطلاقه كلام لا أظنه يخفى عليك. واليقين في اللغة على ما قال السيد السند العلم الذي لا شك فيه وفي الاصطلاح اعتقاد الشيء أنه كذا مع اعتقاد أنه لا يمكن إلّا كذا اعتقادا مطابقا للواقع غير ممكن الزوال. وقال الراغب : اليقين من صفة العلم فوق المعرفة والدراية وإخوتهما يقال : علم يقين ولا يقال معرفة يقين وهو سكون النفس مع ثبات الفهم. وفسّر السيد اليقين بما سمعت ونقل عن أهل الحقيقة عدة

٤٥٣

تفسيرات فيه وعلم اليقين بما أعطاه الدليل من إدراك الشيء على ما هو عليه ، وعين اليقين بما أعطاه المشاهدة والكشف وجعل وراء ذلك حق اليقين وقال على سبيل التمثيل علم كل عاقل بالموت علم اليقين وإذا عاين الملائكة عليهم‌السلام فهو عين اليقين وإذا ذاق الموت فهو حق اليقين ولهم غير ذلك ومبنى أكثر ما قالوه على الاصطلاح فلا تغفل. وقرأ ابن عامر والكسائي «لترون» بضم التاء وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن كثير في رواية وعاصم كذلك بفتحها في «لترون» وضمها في «لترونها» ومجاهد وأشهب وابن أبي عبلة بضمها فيهما. وروي عن الحسن وأبي عمرو بخلاف عنهما أنهما همزا الواوين ووجه بأنهم استثقلوا الضمة على الواو فهمزوا للتخفيف كما همزوا في وقت وكان القياس ترك الهمز لأن الضمة حركة عارضة لالتقاء الساكنين فلا يعتد بها لكن لما لزمت الكلمة بحيث لا تزول أشبهت الحركة الأصلية فهمزوا وقد همزوا من الحركة العارضة التي تزول في الوقف نحو «اشتروا الضلالة» فالهمز من هذه أولى.

(ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) قيل الخطاب للكفار وحكي ذلك عن الحسن ومقاتل واختاره الطيبي.

و (النَّعِيمِ) عام لكل ما يتلذذ به من مطعم ومشرب ومفرش ومركب وكذا قيل في الخطابات السابقة. وقد روي عن ابن عباس أنه صرح بأن الخطاب في (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) للمشركين ، وحملوا الرؤية عليه على رؤية الدخول وحملوا السؤال هنا على سؤال التقريع والتوبيخ لما أنهم لم يشركوا ذلك بالإيمان به عزوجل ، والسؤال قيل : يجوز أن يكون بعد رؤية الجحيم ودخولها كما يسألون كذلك عن أشياء أخر على ما يؤذن به قوله تعالى (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) [الملك : ٨] وقوله سبحانه (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) [المدثر : ٤٢] وذلك لأنه إذ ذاك أشد إيلاما وادعى للاعتراف بالتقصير ، فثم على ظاهرها وأن يكون في موقف الحساب قبل الدخول فتكون (ثُمَ) للترتيب الذكري وقيل الخطاب مخصوص بكل من ألهاه دنياه عن دينه ، والنعيم مخصوص بما شغله عن ذلك لظهور أن الخطاب في (أَلْهاكُمُ) إلخ للملهين فيكون قرينة على ما ذكر وللنصوص الكثيرة كقوله تعالى (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ) [الأعراف : ٣٢] و (كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) [المؤمنون : ٥١] وهذا أيضا يحمل السؤال على سؤال التوبيخ ويدخل فيما ذكر الكفار وفسقة المؤمنين. وقيل : الخطاب عام وكذا السؤال يعم سؤال التوبيخ وغيره ، والنعيم خاص واختلف فيه على أقوال. فأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن ابن مسعود مرفوعا : «هو الأمن والصحة وأخرج البيهقي عن الأمير علي كرم الله تعالى وجهه قال : النعيم العافية. وأخرج ابن مردويه عن أبي الدرداء مرفوعا : أكل خبز البر والنوم في الظل وشرب ماء الفرات مبردا». وأخرج ابن جرير عن ثابت البناني مرفوعا «النعيم المسئول عنه يوم القيامة كسرة تقوته وماء يرويه وثوب يواريه». وأخرج الخطيب عن ابن عباس قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفسره قال : «الخصاف والماء وفلق الكسر» وروي عنه وعن جابر أنه ملاذ المأكول والمشروب. وقال الحسين بن الفضل : هو تخفيف الشرائع وتيسير القرآن. ويروى عن جابر الجعفي من الإمامية قال : دخلت على الباقر رضي الله تعالى عنه فقال : ما يقول أرباب التأويل في قوله تعالى (لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)؟ فقلت : يقولون الظل والماء البارد. فقال : لو أنك أدخلت بيتك أحدا وأقعدته في ظل وسقيته أتمن عليه؟ قلت : لا. فقال : فالله تعالى أكرم من أن يطعم عبده ويسقيه ثم يسأله عنه. قلت : ما تأويله قال : النعيم هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنعم الله تعالى به على أهل العالم فاستنقذهم به من الضلالة ، أما سمعت قوله تعالى (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً) [آل عمران : ١٦٤] ومن رواية العياشي من الإمامية أيضا أن أبا عبد الله رضي الله تعالى عنه قال لأبي

٤٥٤

حنيفة رضي الله تعالى عنه في الآية : ما النعيم عندك يا نعمان؟ فقال : القوت من الطعام والماء البارد. فقال أبو عبد الله : لئن أوقفك الله تعالى بين يديه حتى يسألك عن كل أكلة أكلتها أو شربة شربتها ليطولن وقوفك بين يديه. فقال أبو حنيفة : فما النعيم؟ قال : نحن أهل البيت النعيم أنعم الله تعالى بنا على العباد وبنا ائتلفوا بعد أن كانوا مختلفين ، وبنا ألف الله تعالى بين قلوبهم وجعلهم إخوانا بعد أن كانوا أعداء وبنا هداهم إلى الإسلام وهو النعمة التي لا تنقطع والله تعالى سائلهم عن حق النعيم الذي أنعم سبحانه به عليهم وهو محمد وعترته عليه وعليهم الصلاة والسلام. وكلا الخبرين لا أرى لهما صحة وفيهما ما ينادي عن عدم صحتهما كما لا يخفى على من ألقى السمع وهو شهيد والحق عموم الخطاب والنعيم بيد أن المؤمن لا يثرب عليه في شيء ناله منه في الدنيا بل يسأل غير مثرب وإنما يثرب على الكافر كما ورد ذلك في حديث رواه الطبراني عن ابن مسعود. ويدل على عموم الخطاب ما أخرج مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وآخرون عن أبي هريرة قال : خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم فإذا هو بأبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فقال : «ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة»؟ قالا : الجوع يا رسول الله ، قال : «والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما فقوموا» فقاموا معه عليه الصلاة والسلام فأتى رجلا من الأنصار فإذا هو ليس في بيته فلما رأته صلى‌الله‌عليه‌وسلم المرأة قالت : مرحبا. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أين فلان»؟ قالت : انطلق يستعذب لنا الماء ، إذ جاء الأنصاري فنظر إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصاحبيه فقال : الحمد لله ما أحد اليوم أكرم أضيافا مني فانطلق فجاء بعذق فيه بسر وتمر ، فقال : كلوا من هذا وأخذ المدية فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إياك والحلوب» فذبح لهم فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق وشربوا فلما شبعوا ورووا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي بكر وعمر : «والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة» وفي رواية ابن حبان وابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصاحبيه انطلقوا إلى منزل أبي أيوب الأنصاري فقالت امرأته : مرحبا بنبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن معه ، فجاء أبو أيوب فقطع عذقا فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أردت أن تقطع لنا هذا ألا جنيت من تمره؟» قال : أحببت يا رسول الله أن تأكلوا من تمره وبسره ورطبه. ثم ذبح جديا فشوى نصفه وطبخ نصفه فلما وضع بين يدي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذ من الجدي فجعله في رغيف. وقال : «يا أبا أيوب أبلغ هذا فاطمة رضي الله تعالى عنها فإنها لم تصب مثل هذا منذ أيام ، فذهب به أبو أيوب إلى فاطمة رضي الله تعالى عنها فلما أكلوا وشبعوا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خبز ولحم وتمر وبسر ورطب» ودمعت عيناه عليه الصلاة والسلام ثم قال «والذي نفسي بيده إن هذا لهو النعيم الذي تسألون عنه قال الله تعالى (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) فهذا النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة» فكبر ذلك على أصحابه فقال عليه الصلاة والسلام : «بلى إذا أصبتم مثل هذا فضربتم بأيديكم فقولوا بسم الله فإذا شبعتم فقولوا الحمد لله الذي أشبعنا وأنعم علينا وأفضل فإن هذا كفاف بذاك» وليس المراد في هذا الخبر حصر النعيم مطلقا فيما ذكر بل حصر النعيم بالنسبة إلى ذلك الوقت الذي كانوا فيه جياعا وكذا فيما يصح من الأخبار التي فيها الاقتصار على شيء أو شيئين أو أكثر فكل ذلك من باب التمثيل ببعض أفراد خصت بالذكر لأمر اقتضاه الحال ، ويؤيد ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في غير رواية عند ذكر شيء من ذلك : «هذا من النعيم الذي تسألون عنه بمن التبعيضية. وفي التفسير الكبير الحق أن السؤال يعم المؤمن والكافر عن جميع النعم سواء كان ما لا بد منه أو لا لأن كل ما يهب الله تعالى يجب أن يكون مصروفا إلى طاعته سبحانه لا إلى معصيته عزوجل فيكون السؤال واقعا عن الكل ويؤكده قوله عليه الصلاة والسلام : «لا تزول قدما العبد حتى يسأل عن أربع : عن عمره فيم أفناه ، وعن شبابه فيم أبلاه ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، وعن علمه ما ذا عمل به» لأنّ كل نعيم داخل فيما ذكره عليه الصلاة والسلام ، ويشكل

٤٥٥

عليه ما أخرجه عبد الله ابن الإمام أحمد في زوائد الزهد والديلمي عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثلاث لا يحاسب بهن العبد : ظل خص يستظل به ، وكسرة يشد بها صلبه ، وثوب يواري به عورته» وأجيب بأنه إن صح فالمراد لا يناقش الحساب بهن. وقيل : المراد ما يضطر العبد إليه من ذلك لحياته فتأمل. ورأيت في بعض الكتب أن الطعام الذي يؤكل مع اليتيم لا يسأل عنه وكان ذلك لأن في الأكل معه جبرا لقلبه وإزالة لوحشته فيكون ذلك بمنزلة الشكر فلا يسأل عنه سؤال تقريع. وفي القلب من صحة ذلك شيء والله تعالى أعلم.

٤٥٦

سورة العصر

مكية في قول ابن عباس وابن الزبير والجمهور ، ومدنية في قول مجاهد وقتادة ومقاتل. وآيها ثلاث بلا خلاف وهي على قصرها جمعت من العلوم ما جمعت فقد روي عن الشافعي عليه الرحمة أنه قال : لو لم ينزل غير هذه السورة لكفت الناس لأنها شملت جميع علوم القرآن. وأخرج الطبراني في الأوسط والبيهقي في الشعب عن أبي حذيفة وكانت له صحبة ، قال : كان الرجلان من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا التقيا لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر سورة والعصر ثم يسلم أحدهما على الآخر. وفيها إشارة إلى حال من لم يلهه التكاثر ولذا وضعت بعد سورته.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ)(٣)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* وَالْعَصْرِ) قال مقاتل : أقسم سبحانه بصلاة العصر لفضلها لأنها الصلاة الوسطى عند الجمهور لقوله عليه الصلاة والسلام : «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر». ولما في مصحف حفصة «والصلاة الوسطى صلاة العصر» وفي الحديث : «من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله». وروي أن امرأة كانت تصيح في سكك المدينة دلوني على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرآها عليه الصلاة والسلام فسألها ما ذا حدث؟ فقالت : يا رسول الله إن زوجي غاب فزنيت فجاءني ولد من الزنا فألقيت الولد في دن خل فمات ثم بعث ذلك الخل فهل لي من توبة؟ فقال عليه الصلاة والسلام : أما الزنا فعليك الرجم بسببه ، وأما القتل فجزاؤه جهنم ، وأما بيع الخل فقد ارتكبت كبيرا لكن ظننت أنك تركت صلاة العصر» ذكره الإمام وهو لعمري إمام في نقل مثل ذلك مما لا يعول عليه عند أئمة الحديث فإياك والاقتداء به. وخصت بالفضل لأن التكليف في أدائها أشق لتهافت الناس في تجاراتهم ومكاسبهم آخر النهار واشتغالهم بمعايشهم. وقيل : أقسم عزوجل بوقت تلك الصلاة لفضيلة صلاته أو لخلق آدم أبي البشر عليه‌السلام فيه من يوم الجمعة وإلى هذا ذهب قتادة فقد روي عنه أنه قال : العصر العشي أقسم سبحانه به كما أقسم بالضحى لما فيهما من دلائل القدرة. وقال الزجاج : العصر اليوم والعصر الليلة وعليه قول حميد بن ثور :

٤٥٧

ولم يلبث العصران يوم وليلة

إذا طلبا أن يدركا ما تيمما

وقيل : العصر بكرة والعصر عشية وهما الإبرادان وعليه وعلى ما قبله يكون القسم بواحد من الأمرين غير معين. وقيل : المراد به عصر النبوة وكأنه عنى به وقت حياته عليه الصلاة والسلام كأنه أشرف الأعصار لتشريف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : هو زمان حياته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما بعده إلى يوم القيامة ومقداره فيما مضى من الزمان مقدار وقت العصر من النهار ويؤذن بذلك ما رواه البخاري عن سالم بن عبد الله عن أبيه أنه سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إنما بقاؤكم فيمن سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس» وشرفه لكونه زمان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته التي هي خير أمة أخرجت للناس ولا يضره تأخيره كما لا يضر السنان تأخره عن أطراف مرانه والنور تأخره عن أطراف أغصانه. وقال ابن عباس : هو الدهر أقسم عزوجل به لاشتماله على أصناف العجائب ولذا قيل له أبو العجب وكأنه تعالى يذكر بالقسم به ما فيه من النعم وأضدادها لتنبيه الإنسان المستعد للخسران والسعادة ويعرض عزوجل لما في الإقسام به من التعظيم بنفي أن يكون له خسران أو دخل فيه كما يزعمه من يضيف الحوادث إليه وفي إضافة الخسران بعد ذلك للإنسان إشعار بأنه صفة له لا للزمان كما قيل :

يعيبون الزمان وليس فيه

معايب غير أهل للزمان

وتعقب بأن استعمال العصر بذلك المعنى غير ظاهر (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) أي خسران في متاجرهم ومساعيهم وصرف أعمارهم في مباغيهم التي لا ينتفعون بها في الآخرة بل ربما تضرّ بهم إذا حلوا الساهرة.

والتعريف للاستغراق بقرينة الاستثناء والتنكير قيل للتعظيم أي في خسر عظيم ويجوز أن يكون للتنويع أي نوع من الخسر غير ما يعرفه الإنسان (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فإنهم في تجارة لن تبور حيث باعوا الفاني الخسيس واشتروا الباقي النفيس. واستبدلوا الباقيات الصالحات بالغاديات الرائحات فيا لها من صفقة ما أربحها ومنفعة جامعة للخير ما أوضحها. والمراد بالموصول كل من اتصف بعنوان الصلة لا عليّ كرم الله تعالى وجهه وسلمان الفارسي رضى الله تعالى عنه فقط كما يتوهم من اقتصار ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في الذكر عليهما بل هما داخلان في ذلك دخولا أوليا ومثل ذلك اقتصاره في الإنسان الخاسر على أبي جهل وهو ظاهر. وهذا بيان لتكميلهم لأنفسهم. وقوله تعالى (وَتَواصَوْا بِالْحَقِ) إلخ بيان لتكميلهم لغيرهم أي وصى بعضهم بعضا بالأمر الثابت الذي لا سبيل إلى إنكاره ولا زوال في الدارين لمحاسن آثاره وهو الخير كله من الإيمان بالله عزوجل واتباع كتبه ورسله عليهم‌السلام في كل عقد وعمل (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) عن المعاصي التي تشتاق إليها النفس بحكم الجبلة البشرية وعلى الطاعات التي يشق عليها أداؤها وعلى ما يبتلي الله تعالى به عباده من المصائب والصبر المذكور داخل في الحق ، وذكر بعده مع إعادة الجار والفعل المتعلق هو به لإبراز كمال العناية به ويجوز أن يكون الأول عبارة رتبة العبادة التي هي فعل ما يرضى الله تعالى ، والثاني عبارة رتبة العبودية التي هي الرضا بما فعل الله تعالى فإن المراد بالصبر ليس مجرد حبس النفس عما تتوق إليه من فعل أو ترك بل هو تلقي ما ورد منه عزوجل بالجميل والرضا به باطنا وظاهرا. وقرأ سلام وهارون وابن موسى عن أبي عمرو «والعصر» بكسر الصاد «والصبر» بكسر الباء قال ابن عطية : وهذا لا يجوز إلّا في الوقف على نقل الحركة. وروي عن أبي عمرو بالصبر بكسر الباء إشماما وهذا كما قال لا يكون أيضا إلّا في الوقف وقال صاحب اللوامح : قرأ عيسى البصرة «بالصبر» بنقل حركة الراء إلى الباء لئلا يحتاج إلى أن يؤتى ببعض الحركة في الوقف ولا إلى أن يسكن فيجمع بين ساكنين وذلك لغة شائعة وليست بشاذة بل مستفيضة ، وذلك دلالة على الإعراب وانفصال

٤٥٨

من التقاء الساكنين وتأدية حق الموقوف عليه من السكون انتهى. ومن هذا كما في البحر قوله :

أنا جرير كنيتي أبو عمرو

أضرب بالسيف وسعد في العصر

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وغيرهم عن عليّ كرم الله تعالى وجهه أنه كان يقرأ : «والعصر ونوائب الدهر إن الإنسان لفي خسر وإنه لفيه إلى آخر الدهر. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي داود في المصاحف عن ميمون بن مهران أنه قرأ «والعصر إن الإنسان لفي خسر وإنه لفيه إلى آخر الدهر إلا الذين آمنوا» وذكر أنها قراءة ابن مسعود هذا. واستدل بعض المعتزلة بما في هذه السورة على أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار لأنه لم يستثن فيها عن الخسر إلّا الذين آمنوا وعملوا الصالحات إلخ. وأجيب عنه بأنه لا دلالة في ذلك على أكثر من كون غير المستثنى في خسر ، وأما على كونه مخلدا في النار فلا كيف والخسر عام فهو إما بالخلود إن مات كافرا ، وإما بالدخول النار إن مات عاصيا ولم يغفروا ما بفوت الدرجات العاليات إن غفر وهو جواب حسن. وللشيخ الماتريدي رحمه‌الله تعالى في التقصي عن ذلك تكلفات مذكورة في التأويلات فلا تغفل. وفي السورة من الندب إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن يحب المرء لأخيه ما يحب لنفسه ما لا يخفى.

٤٥٩

سورة الهمزة

مكية وآيها تسع بلا خلاف في الأمرين. ولما ذكر سبحانه فيما قبلها أن الإنسان سوى من استثنى في خسر بيّن عزوجل فيها أحوال بعض الخاسرين فقال عزّ من قائل :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (٢) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (٣) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (٤) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (٥) نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ (٦) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (٧) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (٨) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ)(٩)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) تقدم الكلام على إعراب مثل هذه الجملة والهمزة الكسر كالهزم واللمز الطعن كاللهز شاعا في الكسر من أعراض الناس والغض منهم واغتيابهم والطعن فيهم ، وأصل ذلك كان استعارة لأنه لا يتصور الكسر والطعن الحقيقيان في الأجسام فصار حقيقة عرفية ذلك وبناء فعلة يدل على الاعتياد فلا يقال : ضحكة ولعنة إلا للمكثر المتعود قال زيادة الأعجم :

إذا لقيتك عن شحط تكاشرني

وإن تغيبت كنت الهامز اللمزه

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وجماعة عن ابن عباس أنه سئل عن ذلك فقال : هو المشاء بالنميمة المفرق بين الجمع المغري بين الإخوان. وأخرج ابن أبي حاتم وعبد بن حميد وغيرهما عن مجاهد : الهمزة الطعان في الناس واللمزة الطعان في الأنساب. وأخرج عبد بن حميد عن أبي العالية الهمز في الوجه واللمز في الخلف ، وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن جريج الهمز بالعين والشدق واليد واللمز باللسان. وقيل غير ذلك وما تقدم أجمع. وقرأ الباقر رضي الله تعالى عنه (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) بسكون الميم فيهما على البناء الشائع في معنى المفعول وهو المسخرة الذي يأتي بالأضاحيك فيضحك منه ويشتم ويهمز ويلمز ونزل ذلك على ما أخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن إسحاق عن عثمان بن عمر في أبيّ بن خلف ، وعلى ما أخرج عن السدي في أبيّ بن عمر والثقفي الشهير بالأخنس بن شريق فإنه كان مغتابا كثير الوقيعة وعلى ما قال ابن إسحاق في أمية بن خلف الجمحي وكان يهمز النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويعيبه ، وعلى ما أخرج ابن جرير وغيره عن مجاهد في جميل بن عامر ، وعلى ما قيل في الوليد بن المغيرة واغتيابه لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغضه منه ، وعلى قول في

٤٦٠