روح المعاني - ج ١٥

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٥

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٤

سورة عبس

وتسمى سورة الصاخة وسورة السفرة وسميت في غير كتاب سورة الأعمى وهي مكية لا خلاف وآيها اثنتان وأربعون في الحجازي والكوفي ، وإحدى وأربعون في البصري ، وأربعون في الشامي والمدني الأول ولما ذكر سبحانه فيما قبلها (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) [النازعات : ٤٥] ذكر عزوجل في هذه من ينفعه الإنذار ومن لم ينفعه فقال عزّ من قائل :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى(٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦) قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ)(٢٤)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) إلخ روي أن ابن أم مكتوم وهو ابن خال خديجة واسمه عمرو بن قيس بن زائدة بن جندب بن هرم بن رواحة بن حجر بن معيص بن عامر بن لؤي القرشي وقيل عبد الله بن عمرو وقيل عبد الله بن شريح بن مالك بن أبي ربيعة الفهري والأول أكثر وأشهر كما في جامع الأصول وأم مكتوم كنية أمه واسمها عاتكة بنت عبد الله المخزومية ، وغلط الزمخشري في جعلها في الكشاف جدته وكان أعمى وعمي بعد نور وقيل ولد أعمى ولذا قيل لأمه أم مكتوم. أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعنده صناديد قريش عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل والعباس بن عبد المطلب وأمية بن خلف والوليد بن المغيرة يناجيهم ويدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم فقال : يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله تعالى وكرر ذلك ولم يعلم تشاغله بالقوم ، فكره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قطعه لكلامه وعبس وأعرض عنه فنزلت. فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكرمه ويقول إذا رآه : «مرحبا بمن عاتبني فيه ربي» ويقول : «هل لك من حاجة». واستخلفه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المدينة فكان يصلي بالناس ثلاث عشرة مرة كما رواه ابن عبد البر في الاستيعاب عن

٢٤١

أهل العلم بالسير ثم استخلف بعده أبا لبابة وهو من المهاجرين الأولين هاجر على الصحيح قبل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووهم القرطبي في زعمه أنه مدني وأنه لم يجتمع بالصناديد المذكورين من أهل مكة وموته قيل بالقادسية شهيدا يوم فتح المدائن أيام عمر رضي الله تعالى عنه ، ورآه أنس يومئذ وعليه درع وله راية سوداء وقيل رجع منها إلى المدينة فمات بها رضي الله تعالى عنه. وضمير (عَبَسَ) وما بعده للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي التعبير عنه عليه الصلاة والسلام بضمير الغيبة إجلال له صلى‌الله‌عليه‌وسلم لإيهام أن من صدر عنه ذلك غيره لأنه لا يصدر عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثله كما أن في التعبير عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بضمير الخطاب في قوله سبحانه (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) ذلك لما فيه من الإيناس بعد الإيحاش والإقبال بعد الإعراض والتعبير عن ابن أم مكتوم بالأعمى للإشعار بعذره في الإقدام على قطع كلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتشاغله بالقوم. وقيل : إن الغيبة أولا والخطاب ثانيا لزيادة الإنكار وذلك كمن يشكو إلى الناس جانيا جنى عليه ثم يقبل على الجاني إذا حمى على الشاكية مواجها بالتوبيخ وإلزام الحجة وفي ذكر الأعمى نحو من ذلك لأنه وصف يناسب الإقبال عليه والتعطف. وفيه أيضا دفع إيهام الاختصاص بالأعمى المعين وإيماء إلى أن كل ضعيف يستحق الإقبال من مثله على أسلوب «لا يقضي القاضي وهو غضبان» وإن بتقدير حرف الجر أعني لام التعليل وهو معمول لأول الفعلين على مختار الكوفيين وثانيهما على مختار البصريين وكليهما معا على مذهب الفراء نعم هو بحسب المعنى علة لهما بلا خلاف أي عبس لأن جاءه الأعمى وأعرض لذلك. وقرأ زيد بن علي «عبّس» بتشديد الباء للمبالغة لا للتعدية وهو والحسن وأبو عمران الجوني وعيسى «آن» بهمزة ومدة بعدها وبعض القراء بهمزتين محققتين والهمزة في القراءتين للاستفهام الإنكاري ويوقف على (تَوَلَّى) والمعنى إلّا أن جاء الأعمى فعل ذلك وضمير (لَعَلَّهُ) للأعمى والظاهر أن الجملة متعلقة بفعل الدراية على وجه سد مسد مفعوله أي أي شيء يجعلك داريا بحال هذا الأعمى لعله يتطهر بما يتلقن من الشرائع من بعض أوضار الإثم.

(أَوْ يَذَّكَّرُ) أي يتعظ (فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى) أي ذكراك وموعظتك والمعنى أنك لا تدري ما هو مترقب منه من تزك أو تذكر ولو دريت لما كان الذي كان والغرض نفي دراية أنه يزكى أو يذكر والترجي راجع إلى الأعمى أو إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما قيل دلالة على أن رجاء تزكية أو كونه ممن يرجى منه ذلك كاف في الامتناع من العبوس والإعراض كيف وقد كان استزكاؤه محققا ، ولما هضم من حقه في تعلق الرجاء به لا التحقق اعتبر متعلق التزكي بعض الأوضار ترشيحا لذلك وفيه إظهار ما يقتضي مقام العظمة هاهنا من إطلاق التزكي وحمله على ما ينطلق عليه الاسم لا الكامل. وقال بعضهم : متعلق الدراية محذوف أي ما يدريك أمره وعاقبة حاله ويطلعك على ذلك. وقوله سبحانه (لَعَلَّهُ) إلخ استئناف وارد لبيان ما يلوح به ما قبله فإنه مع إشعاره بأن له شأنا منافيا للإعراض عنه خارجا عن دراية الغير ودراؤه مؤذن بأنه تعالى يدريه ذلك. واعتبر في التزكي الكمال فقال : أي لعله يتطهر بما يقتبس منك من أوضار الإثم بالكلية أو يتذكر فتنفعه موعظتك إن لم تبلغ درجة التزكي التام ، ولعل الأول أبعد مغزى. وقدم التزكي على التذكر لتقدم التخلية على التحلية وخص بعضهم الثاني بما إذا كان ما يتعلمه من النوافل والأول بما إذا كان سوى ذلك وهو كما ترى وفي الآية تعريض وإشعار بأن من تصدى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتزكيتهم وتذكيرهم من الكفرة لا يرجى منهم التزكي والتذكر أصلا فهي كقولك لمن يقرر مسألة لمن لا يفهمها وعنده آخر قابل لفهمها : لعل هذا يفهم ما تقرر فإنه يشعر بأنه قصد تفهيم غيره وليس بأهل لما قصده ، وقيل : جاء التعريض من جهة أن المحدث عنه كان متزكيا من الآثام متعظا

٢٤٢

وقيل ضمير (لَعَلَّهُ) للكافر والترجي راجع إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي إنك طمعت في تزكيه بالإسلام وتذكره بالموعظة ولذلك أعرضت عن غيره فما يدريك أن ما طمعت فيه كائن وضعف بعدم تقدم ذكر الكافر وبإفراد الضمير والظاهر جمعه أي بناء على المشهور في أن من تشاغل عليه الصلاة والسلام به كان جمعا وجاء في بعض الروايات أنه كان واحدا. وقرأ الأعرج وعاصم في رواية «أو يذكر» بسكون الذال وضم الكاف وقرأ الأكثر «فتنفعه» بالرفع عطفا على (يَذَّكَّرُ) وبالنصب قرأ عاصم في المشهور والأعرج وأبو حيوة وابن أبي عبلة والزعفراني وهو عند البصريين بإضمار أن بعد الفاء وعند الكوفيين في جواب الترجي وهو كالتمني عندهم ينصب في جوابه. وفي الكشف أن النصب يؤيد رجوع ضمير لعله على الكافر لإشمام الترجي معنى التمني لبعد المرجو من الحصول أي بالنظر إلى المجموع إذ قد حصل من العباس وعلى السابق وجهه ترشيح معنى الهضم فتذكر (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى) أي عن الإيمان وعما عندك من العلوم والمعارف التي ينطوي عليها القرآن وفي معناه ما قيل استغنى بكفره عما يهديه وقيل : أي وأما من كان ذا ثروة وغنى وتعقب بأنه لو كان كذلك لذكر الفقر في مقابله وأجيب بما ستعلمه إن شاء الله تعالى (فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) أي تتصدى وتتعرض بالإقبال عليه والاهتمام بإرشاده واستصلاحه وفيه مزيد تنفير له صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن مصاحبتهم فإن الإقبال على المدبر مخل بالمروءة ، ومن هنا قيل :

لا أبتغي وصل من لا يبتغي صلتي

ولا ألين لمن لا يبتغي ليني

والله لو كرهت كفي مصاحبتي

يوما لقلت لها عن صحبتي بيني

وقرأ الحرميان «تصدّى» بتشديد الصاد على أن الأصل تتصدى فقلبت التاء صادا وأدغمت وقرأ أبو جعفر «تصدّى» بضم التاء وتخفيف الصاد مبنيا للمفعول أي تعرض ومعناه يدعوك إلى التصدّي والتعرض له داع من الحرص ومزيد الرغبة في إسلامه ، وأصل (تَصَدَّى) على ما في البحر تصدد من الصدد وهو ما استقبلك وصار قبالتك يقال داري صدد داره أي قبالتها ، وقيل من الصدى وهو العطش وقيل من الصدى وهو الصوت المعروف (وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) وليس عليك بأس في أن لا يتزكى بالإسلام حتى يبعثك الحرص على إسلامه إلى الإعراض عمن أسلم فما نافية والجملة حال من ضمير (تَصَدَّى) والممنوع عنه في الحقيقة الإعراض عمن أسلم لا الإقبال على غيره والاهتمام بأمره حرصا على إسلامه ، ويجوز أن تكون (ما) استفهامية للإنكار أي أي شيء عليك في أن لا يتزكى ومآله النفي أيضا (وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى) أي حال كونه مسرعا طالبا لما عندك من أحكام الرشد وخصال الخير (وَهُوَ يَخْشى) أي يخاف الله تعالى وقيل أذية الكفار في الإتيان وقيل العثار والكبوة إذ لم يكن معه قائد والجملة حال من فاعل (يَسْعى) كما أن جملة (يَسْعى) حال من فاعل (جاءَكَ) واستظهر بعض الأفاضل أن النظم الجليل من الاحتباك ذكر الغنى أولا للدلالة على الفقر ثانيا ، والمجيء والخشية ثانيا للدلالة على ضدهما أولا وكأنه حمل استغنى على ما نقل أخيرا واستشعر ما قيل عليه فاحتاج لدفعه إلى هذا التكلف وعدم الاحتياج إليه على ما نقلناه في غاية الظهور (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) تتشاغل يقال لهى عنه كرضى ورمى والتهى وتلهى. وفي تقديم ضميره عليه الصلاة والسلام على الفعلين تنبيه على أن مناط الإنكار خصوصيته عليه الصلاة والسلام وتقديم له وعنه قيل للتعريض بالاهتمام بمضمونها وقيل للعناية لأنهما منشأ العتاب وقيل للفاصلة وقيل للحصر وذكر التصدي في المستغني دون الاشتغال به وهو المقابل للتلهي عن المسرع الخاشي والتلهي عنه دون عدم التصدي له وهو المقابل للتصدي لذلك قيل للإشعار

٢٤٣

بأن العتاب للاهتمام بالأول لا للاشتغال به إذ الاشتغال بالكفار غير ممنوع وعلى الاشتغال عن الثاني لا لأنه لا اهتمام له صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أمره إذ الاهتمام غير واجب لأنه عليه الصلاة والسلام ليس إلّا منذرا. وقرأ البزي عن ابن كثير «عنهو تلهى» بإدغام تاء المضارعة في تاء تفعل وأبو جعفر «تلهّى» بضم التاء مبنيا للمفعول أي يشغلك الحرص على دعاء الكافر للإسلام وطلحة «تتلهى» بتاءين وعنه بتاء واحدة وسكون اللام (كَلَّا) مبالغة في إرشاده صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى عدم معاودة ما عوقب عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد نزل ذلك كما في خبر رواه ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس بعد أن قضى عليه الصلاة والسلام نجواه وذهب إلى أهله ، وجوز كونه إرشادا بليغا إلى ترك المعاتب عليه عليه الصلاة والسلام بناء على أن النزول في أثناء ذلك وقبل انقضائه. وفي بعض الآثار أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ما عبس في وجه فقير ولا تصدى لغني وتأدب الناس بذلك أدبا حسنا فقد روي عن سفيان الثوري أن الفقراء كانوا في مجلسه أمراء.

والضمير في قوله تعالى (إِنَّها) للقرآن العظيم والتأنيث لتأنيث الخبر أعني قوله سبحانه (تَذْكِرَةٌ) أي موعظة يجب أن يتعظ بها ويعمل بموجبها وكذا الضمير في قوله عزوجل (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) والجملة والمؤكدة تعليل لما أفادته كلا ببيان علو رتبة القرآن العظيم الذي استغنى عنه من تصدى عليه الصلاة والسلام له والجملة الثانية اعتراض جيء به للترغيب في القرآن والحث على حفظه أو الاتعاظ به واقتران الجملة المعترض بها بالفاء قد صرح به ابن مالك في التسهيل من غير نقل اختلاف فيه وكلام الزمخشري في الكشاف عند الكلام على قوله تعالى (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) [النحل : ٤٣ ، الأنبياء : ٧] نص في ذلك نعم قيل إنه قيل له (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) اعتراض فقال لا لأن الاعتراض شرطه أن يكون بالواو أو بدونه فأما بالفاء فلا أي وهو استطراد لكن تعقب بأن النقل لمنافاته ذلك ليس بثبت ، ويمكن أن يكون في القوم من ينكر ذلك فوافقه تارة وخالفه أخرى ، وما ألطف قول السعد في التلويح الاعتراض يكون بالواو والفاء :

فاعلم فعلم المرء ينفعه

هذا وقيل الضمير الأول للسورة أو للآيات السابقة والثاني للتذكرة والتذكير لأنها بمعنى الذكر والوعظ أو لمرجع الأول والتذكير باعتبار كون ذلك قرآنا ورجح بعدم ارتكاب التأويل قبل الاحتياج إليه وتعقب بأنه ليس بذاك فإن السورة أو الآيات وإن كانت متصفة بما سيأتي إن شاء الله تعالى من الصفات الشريفة لكنها ليست مما ألقى على من استغنى عنه واستحق بسبب ذلك ما سيأتي إن شاء الله تعالى من الدعاء عليه والتعجب من كفره المفرط لنزولها بعد الحادثة وجوز كون الضميرين للمعاتبة الواقعة وتذكير الثاني لكونها عتابا وفيه أنه يأباه الوصف بالصفات الآتية وإن كان باعتبار أن العتاب وقع بالآيات المذكورة قبل وهي متصفة بما ذكر جاء ما سمعت آنفا وقيل لك أن تجعلهما للدعوة إلى الإسلام وتذكير الثاني لكونها دعاء وهذا على ما فيه مما يأباه المقام. وقوله تعالى (فِي صُحُفٍ) متعلق بمضمر هو صفة لتذكرة أو خبر ثان لأن أي كائنة أو مثبتة في صحف والمراد بها الصحف المنتسخة من اللوح المحفوظ. وعن ابن عباس هي اللوح نفسه وهو غير ظاهر وقيل الصحف المنزلة على الأنبياء عليهم‌السلام كقوله تعالى (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) [الشعراء : ١٩٦] وقيل : صحف المسلمين على أنه إخبار بالغيب فإن القرآن بمكة لم يكن في الصحف وإنما كان متفرقا في الدفاف والجريد ونحوهما ، وأول ما جمع في صحيفة في عهد أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وهو كما ترى (مُكَرَّمَةٍ) عند الله عزوجل (مَرْفُوعَةٍ) أي في السماء السابعة كما قال يحيى بن سلام أو مرفوعة القدر كما

٢٤٤

قيل (مُطَهَّرَةٍ) منزهة عن مساس أيدي الشياطين أو عن كل دنس على ما روي عن الحسن ، وقيل : عن الشبه والتناقص والأول قيل مأخوذ من مقابلته بقوله تعالى : (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ) أي كتبة من الملائكة عليهم‌السلام كما قال مجاهد وجماعة فإنهم ينسخون الكتب من اللوح وهو جمع سافر أي كاتب والمصدر السفر كالضرب. وعن ابن عباس هم الملائكة المتوسطون بين الله تعالى وأنبيائه عليهم‌السلام على أن جمع سافر أيضا بمعنى سفير أي رسول وواسطة ، والمشهور في مصدره بهذا المعنى السفارة بكسر السين وفتحها وجاء فيه السفر أيضا كما في القاموس. وقيل : هم الأنبياء عليهم‌السلام لأنهم سفراء بين الله تعالى والأمة أو لأنهم يكتبون الوحي ولا يخفى بعده فإن الأنبياء عليهم‌السلام وظيفتهم التلقي من الوحي لا الكتب لما يوحى على أن خاتمهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن يكتب القرآن بل لم يكتب أصلا على ما هو الشائع وقد مر تحقيقه وكذا وظيفتهم إرشاد الأمة بالأمر والنهي وتعليم الشرائع والأحكام لا مجرد السفارة إليهم. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن وهب بن منبه أنهم أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قيل لأنهم سفراء ووسائط بينه عليه الصلاة والسلام وبين سائر الأمة ، وقيل : لأن بعضهم يسفر إلى بعض في الخير والتعليم والتعلم وفي رواية عن قتادة أنهم القراء وكان القولين ليس بالمعول عليه وقد قالوا هذه اللفظة مختصة بالملائكة عليهم‌السلام لا تكاد تطلق على غيرهم وإن جاز الإطلاق بحسب اللغة ومادتها موضوعة بجميع تراكيبها لما يتضمن الكشف كسفرت المرأة إذا كشفت القناع عن وجهها والباء قيل متعلقة ب (مُطَهَّرَةٍ) وقيل بمضمر هو صفة أخرى ل (صُحُفٍ كِرامٍ) أي أعزاء على الله تعالى معظمين عنده عزوجل فهو من الكرامة بمعنى التوقير أو متعطفين على المؤمنين يستغفرون لهم ويرشدونهم إلى ما فيه الخير بالإلهام وينزلون بما فيه تكميلهم من الشرائع فهو من الكرم ضد اللؤم (بَرَرَةٍ) أي أتقياء وقيل مطيعين الله تعالى من قولهم فلان يبر خالقه أي يطيعه وقيل صادقين من بر في يمينه وهو جمع بر لا غير ، وأما أبرار فيكون جمع بر كرب وأرباب وجمع بار كصاحب وأصحاب وإن منعه بعض النحاة لعدم اطّراده واختص على ما قيل الجمع الأول بالملائكة والثاني بالآدميين في القرآن ولسان الشارع صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان ذلك لأن الأبرار من صيغ القلة دون البررة ، ومتقو الملائكة أكثر من متقي الآدميين فناسب استعمال صيغة القلة وإن لم ترد حقيقتها في الآدميين دونهم. وقال الراغب. خص البررة بهم من حيث إنه أبلغ من أبرار فإنه جمع بر وأبرار جمع بار ، وبر أبلغ من بار كما أن عدلا أبلغ من عادل وكأنه عنى أن الوصف ببر أبلغ لكونه من قبيل الوصف بالمصدر من الوصف ببار لكن قد سمعت أن أبرارا يكون جمع بر كما يكون جمع بار وأيضا في كون الملائكة أحق بالوصف بالأبلغ بالنسبة إلى الآدميين مطلقا بحث. وقيل : إن الأبرار أبلغ من البررة إذ هو جمع بار والبررة جمع بر وبار أبلغ منه لزيادة بنيته ولما كانت صفات الكمال في بني آدم تكون كاملة وناقصة وصفوا بالأبرار إشارة إلى مدحهم بأكمل الأوصاف ، وأما الملائكة فصفات الكمال فيهم لا تكون ناقصة فوصفوا بالبررة لأنه يدل على أصل الوصف بقطع النظر عن المبالغة فيه لعدم احتياجهم لذلك وإشارة لفضيلة البشر لما في كونهم أبرارا من المجاهدة وعصيان داعي الجبلة وفيه ما لا يخفى ومن استعمال البررة في الملائكة ما أخرجه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة ، والذي يقرؤه وهو عليه شاق له أجران».

(قُتِلَ الْإِنْسانُ) دعاء عليه بأشنع الدعوات وأفظعها (ما أَكْفَرَهُ) تعجيب من إفراطه في الكفران وبيان لاستحقاقه الدعاء عليه والمراد به إما من استغنى عن القرآن الكريم الذي ذكرت نعوته الجليلة الموجبة للإقبال

٢٤٥

عليه والإيمان به ، وإما الجنس باعتبار انتظامه له ولأمثاله من أفراده ورجح هذا بأن الآية نزلت على ما أخرج ابن للمنذر عن عكرمة في عتبة بن أبي لهب غاضب أباه فأسلم ثم استصلحه أبوه وأعطاه مالا وجهزه إلى الشام ، فبعث إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنه كافر برب النجم إذا هوى فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم ابعث عليه كلبك حتى يفترسه» فلما كان في أثناء الطريق ذكر الدعاء فجعل لمن معه ألف دينار إن أصبح حيا فجعلوه وسط الرفقة والمتاع حوله فأقبل أسد إلى الرحال ووثب فإذا هو فوقه فمزقه فكان أبوه يندبه ويبكي عليه ويقول : ما قال محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا قط إلّا كان وسيأتي إن شاء الله تعالى خبر في هذه القصة أطول من هذا الخبر فلا تغفل ثم إن هذا كلام في غاية الإيجاز. وقد قال جار الله : لا ترى أسلوبا أغلظ منه ولا أدل على سخط ولا أبعد شوطا في المذمة مع تقارب طرفيه ولا أجمع للأئمة على قصر متنه حيث اشتمل على ما سمعت من الدعاء مرادا إذ لا يتصور منه تعالى لازمه وعلى التعجب المراد به لاستحالته عليه سبحانه التعجيب لكل سامع. وقال الإمام : إن الجملة الأولى تدل على استحقاقهم أعظم أنواع العقاب عرفا ، والثانية تنبيه على أنهم اتصفوا بأعظم أنواع القبائح والمنكرات شرعا ولم يسمع ذلك قبل نزول القرآن وما نسب إلى امرئ القيس من قوله :

يتمنى المرء في الصيف الشتا

فإذا جاء الشتا أنكره

فهو لا يرضى بحال واحد

قتل الإنسان ما أكفره

لا أصل له ومن له أدنى معرفة بكلام العرب لا يجهل أن قائل ذلك مولد أراد الاقتباس لا جاهلي ، وجوز بعضهم أن يكون قوله تعالى (قُتِلَ الْإِنْسانُ) خبرا عن أنه سيقتل الكفار بإنزال آية القتال وعبر بالماضي مبالغة في أنه سيتحقق ذلك وليس بشيء ونحوه ما قيل إن (ما) استفهامية أي أي شيء أكفره أي جعله كافرا بمعنى لا شيء يسوغ له أن يكفر. وقوله تعالى (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) شروع في بيان إفراطه في الكفران بتفصيل ما أفاض عزوجل عليه من مبدأ فطرته إلى منتهى عمره من فنون النعم الموجبة لأن تقابل بالشكر والطاعة مع إخلاله والاستفهام قيل للتحقير وذكر الجواب أعني قوله تعالى (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ) لا يقتضي أنه حقيقي لأنه ليس بجواب في الحقيقة بل على صورته وهو بدل من قوله سبحانه (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) وجوز أن يكون للتقرير والتحقير مستفاد من شيء المنكر وقيل التحقير يفهم. أيضا من قوله سبحانه (مِنْ نُطْفَةٍ) إلخ أي من أي شيء حقير مهين خلقه من نطفة مذرة خلقه (فَقَدَّرَهُ) فهيأه لما يصلح له ويليق به من الأعضاء والأشكال فالتقدير بمعنى التهيئة لما يصلح ولذا ساغ عطفه بالفاء دون التسوية لأن الخلق بمعنى التقدير بهذا المعنى أو يتضمنه فلا تصلح الفاء وجوز أن يكون هذا تفصيلا لما أجمل أولا في قوله تعالى (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) أي فقدره أطوار إلى أن أتم خلقه (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) أي ثم سهل مخرجه من البطن كما جاء في رواية عن ابن عباس بأن فتح فم الرحم ومدد الأعصاب في طريقه ونكس رأسه لأسفل بعد أن كان في جهة العلو. وعن ابن عباس أيضا وقتادة وأبي صالح والسدّي المراد ب (السَّبِيلَ) سبيل النظر القويم المؤدي إلى الإيمان وتيسيره له هو هبة العقل وتمكينه من النظر. وقال مجاهد والحسن وعطاء وهو رواية عن الحبر أيضا : هو سبيل الهدى والضلال أي سهل له الطريق الذي يريد سلوكه من طريق الخير والهدى وطريق الشر والضلال بأن أقدره عزوجل على كل ومكنه منه والإقدار على المراد نعمة ظاهرة بقطع النظر عن خيريته وشريته فلا يرد عليه أنه كيف يعد تسهيل طريق الشر والضلال من النعم وقل إنه عد منها لأنه لو لم يكن مسهلا كسبيل الخير لم يستحق المدح والثواب بالإعراض عنه وتركه مبني على القول بأن ترك المحرم كالزنا مع عدم القدرة عليه

٢٤٦

لعنة مثلا لا يثاب عليه وقيل يثاب ويمدح عليه إذا قدر التارك في نفسه أنه لو تمكن لم يفعل. وقال بعضهم : العجز عن الشكر نعمة وأنشد :

جكونه شكر اين نعمت كزارم

كه زور مردم آزارى ندارم

ونصب السبيل بمضمر يفسره الظاهر وفيه مبالغة في التيسير وتمكين في النفس بسبب التكرير. قيل : وفي تعريفه باللام دون الإضافة إشعار بعمومه فإنه لو قيل سبيله أوهم أنه على التوزيع وإن لكل إنسان سبيلا يخصه وخص بعضهم هذه النكتة بالمعنى الأخير للسبيل فتدبر. وعلى هذا المعنى قيل إن فيه إيماء إلى أن الدنيا طريق المقصد غيرها لما أشعرت به الآية من أن الميسر سبيل المكلفين الذي يترتب عليه الثواب والعقاب وفيه خفاء وأيّا ما كان فالضمير المنصوب في (يَسَّرَهُ) للسبيل وليس في التفكيك لبس حتى يكون نقصا في البيان (ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ) أي جعله ذا قبر توارى فيه جيفته تكرمة له ولم يجعله مطروحا على الأرض يستقذره من يراه وتقتسمه السباع والطير إذا ظفرت به كسائر الحيوان والمراد من جعله إذا قبر أمره عزوجل بدفنه يقال : قبر الميت إذا دفنه بيده ، ومنه قول الأعشى :

لو أسندت ميتا إلى نحرها

عاش ولم ينقل إلى قابر

وأقبره إذا أمر بدفنه أو مكّن منه ففي الآية إشارة إلى مشروعية دفن الإنسان وهي مما لا خلاف فيه وأما دفن غيره من الحيوانات فقيل هو مباح لا مكروه وقد يطلب لأمر مشروع يقتضيه كدفع أذى جيفته مثلا وعد الإماتة من النعم لأنها وصلة في الجملة إلى الحياة الأبدية والنعيم المقيم ، وخصت هذه النعم بالذكر لما فيها من ذكر أحوال الإنسان من ابتدائه إلى انتهائه وما تتضمن من النعم التي هي محض فضل من الله فإذا تأمل ذلك العاقل علم قبح الكفر وكفران نعم الرب سبحانه وتعالى فشكره جل وعلا بالإيمان والطاعة (ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) أي إذا شاء إنشاره أنشره على القاعدة المعروفة في حذف مفعول المشيئة وفي تعليق الإنشار بمشيئته تعالى إيذان بأن وقته غير معين أصلا بل هو تابع لها وهذا بخلاف الإماتة فإن وقتها معين إجمالا على ما هو المعهود في الأعمار الطبيعية وكذا الحال في وقت الإقبار بل هو أظهر في ذلك. وقرأ شعيب بن الحجاب كما في كتاب اللوامح وابن أبي حمزة كما في تفسير ابن عطية «نشره» بدون همزة وهما لغتان في الإحياء وقوله تعالى (كَلَّا) ردع للإنسان عما هو عليه من كفران النعم البالغ نهايته وقوله سبحانه (لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) بيان لسبب الردع و (لَمَّا) نافية جازمة ونفيها غير منقطع و (ما) موصولة وضمير (أَمَرَهُ) إما للإنسان كالمستتر في يقض والعائد إلى الموصول محذوف أي به أو للموصول على الحذف والإيصال والعائد إلى الإنسان محذوف أي إياه قيل والثاني أحسن لأن حذف المفعول أهون من حذف العائد إلى الموصول والمراد بما أمره جميع ما أمره والمعنى على ما قال غير واحد لم يقض من أول زمانه تكليفه إلى زمان إماتته وإقباره أو من لدن آدم عليه‌السلام إلى هذه الغاية مع طول المدى وامتداده جميع ما أمره فلم يخرج من جميع أوامره تعالى إذ لا يخلو أحد عن تقصير ما ، ونقل هذا عن مجاهد وقتادة وفيه حمل عدم القضاء على نفي العموم وتعقب بأنه لا ريب في أن مساق الآيات الكريمة لبيان غاية عظم جناية الإنسان وتحقيق كفرانه المفرط المستوجب للسخط العظيم وظاهر أن ذلك لا يتحقق بهذا القدر من نوع تقصير لا يخلو عنه أحد من أفراده واختير أن يحمل عدم القضاء على عموم النفي إما على أن المحكوم عليه هو الإنسان المستغني أو هو الجنس لكن لا على الإطلاق بل على أن مصداق الحكم بعدم القضاء بعض أفراده وقد أسند إلى الكل كما في قوله

٢٤٧

تعالى (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) [إبراهيم : ٣٤] وإما على أن مصداقه الكل من حيث هو كمل بطريق رفع الإيجاب الكلي دون السلب الكلي فالمعنى لما يقض جميع أفراده ما أمره بل أخل به بعضها بالكفر والعصيان مع أن مقتضى ما فصل من فنون النعماء الشاملة للكل أن لا يختلف عنه أحد. وعن الحسن أن (كَلَّا) بمعنى حقا فيتعلق بما بعده أي حقا لم يعمل بما أمره به. وقال ابن فورك : الضمير في (يَقْضِ) لله تعالى أي لم يقض الله تعالى لهذا الكافر ما أمره به من الإيمان بل أمره إقامة للحجة عليه لما يقض له ولا يخفى بعده. والظاهر عليه أن (كَلَّا) بمعنى حقا أيضا وقوله سبحانه (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) على معنى إذا كان هذا حال الإنسان وهو أنه إلى الآن لم يقض ما أمره مع أن مقتضى النعم السابقة القضاء فلينظر إلى طعامه إلخ لعله يقضي. وفي الحواشي العصامية لا يخفى ما في قوله تعالى (لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) من كمال تهييج الإنسان وتحريضه على امتثال ما يعقبه من الأمر بالنظر وتفريع الأمر عليه مبني على أن الائتمار كما ينبغي أن يتيسر بعد الارتداع عما هو عليه ، والظاهر أن المراد بالإنسان هنا نحو ما أريد به في قوله تعالى (قُتِلَ الْإِنْسانُ) ولما جوز صاحب الحواشي المذكورة حمل عدم القضاء على السلب الكلي وجعل الكلام في الإنسان المبالغ في الكفر قال : فالمراد بضمير (يَقْضِ) غير الإنسان الذي أمر بالنظر فإنه عام فلذا أظهر وتضمن ما مر ذكر النعم الذاتية أي ما يتعلق بذات الإنسان من الذات نفسها ولوازمها ، وهذا ذكر النعم الخارجية المقابلة لذلك وقيل : الأولى نعم خاصة والثانية نعم عامة. وقيل : تلك نعم متعلقة بالحدوث وهذه نعم متعلقة بالبقاء وفيه نظر. والظاهر أن المراد بالطعام المطعوم بأنواعه واقتصر عليه ولم يذكر المشروب لأن آثار القدرة فيه أكثر من آثارها في المشروب واعتبار التغليب لا يخفى ما فيه.

(أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٢) فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ)(٤٢)

وقوله تعالى (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ) بدل منه بدل اشتمال فإنه لكونه من أسباب تكونه كالمشتمل عليه والعائد محذوف أي صببنا له ، وجوز كونه بدل كل من كل على معنى فلينظر الإنسان إلى إنعامنا في طعامه إنا صببنا إلخ وهو كما ترى وأيّا ما كان فالمقصود بالنظر هو البدل وبذلك يضعف ما روي عن أبيّ وابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم أن المعنى فلينظر إلى طعامه إذا صار رجيعا ليتأمل عاقبة الدنيا وما تهالك عليه أهلها ، ولعمري إن هذا بعيد الإرادة عن السياق ولا أظن أنه وقع على صحة روايته عن هؤلاء الأجلّة الاتفاق. وظاهر الصب يقتضي تخصيص الماء بالغيث وهو المروي عن ابن عباس وجوز بعضهم إرادة الأعم. وقال : إن في كل ماء صبا من الله تعالى بخلق أسبابه على أصول النباتات وأنت تعلم أن إيصال الماء إلى أصول النباتات يبعد تسميته صبا وتأكيد الجملة للاعتناء بمضمونها مع كونها مظنة لإنكار القاصر لعدم الإحساس بفعل من الله تعالى وإنما يعرف الاستناد إليه عزوجل بالنظر الصحيح. وقرأ الأكثر «إنّا» بالكسر على الاستئناف البياني كأنه لما أمر سبحانه بالنظر إلى ما رزقه جل وعلا من أنواع المأكولات قيل كيف أحدث ذلك وأوجد بعد أن لم يكن فقيل (أَنَّا صَبَبْنَا) إلخ وقرأ الإمام الحسين ابن أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجههما ورضي سبحانه

٢٤٨

عنهما «أنى صببنا» بفتح الهمزة والإمالة على معنى فلينظر الإنسان كيف صببنا الماء (صَبًّا) عجيبا (ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ) أي بالنبات كما قال ابن عباس (شَقًّا) بديعا لائقا بما يشقها من النبات صغرا وكبرا وشكلا وهيئة. وقيل : شقها بالكراب وإسناده إلى ضميره تعالى مجاز من باب الإسناد إلى السبب وإن كان الله تعالى عزوجل هو الموجد حقيقة فقد تبين في موضعه أن إسناد الفعل حقيقة لمن قام به لا من صدر عنه إيجادا ولهذا يشتق اسم الفاعل له وتعقب بأنه يأباه كلمة ثم والفاء في قوله تعالى (فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا) فإن الشق بالمعنى المذكور لا ترتب بينه وبين الإمطار أصلا ولا بينه وبين إنبات الحب بلا مهلة فإن المراد بالنبات ما نبت من الأرض إلى أن يتكامل النمو وينعقد الحب فإن انشقاق الأرض بالنبات لا يزال يتزايد ويتسع إلى تلك المرتبة على أن مساق النظم الكريم لبيان النعم الفائضة من جنابه تعالى على وجه بديع خارج عن العادات المعهودة كما ينبئ منه إرداف الفعلين بالمصدرين فتوسيط فعل المنعم عليه في حصول تلك النعم مخل بالمرام وللبحث فيه مجال. وقيل عليه أيضا إن الشق بالكراب لا يظهر في العنب والزيتون والنخل وأجيب بأنه ليس من لوازم العطف تقييد المعطوف بجميع ما قيد به المعطوف عليه ويحتمل أن يكون ذكر الكراب في القيل على سبيل التمثيل ، أو أريد به ما يشمل الحفر وجوز أن يكون المراد شقها بالعيون على أن المراد بصب الماء إمطار المطر وبهذا إجراء الأنهار ، وتعقب بأنه يأباه ترتب الشق على صب الماء بكلمة التراخي وأيضا ترتيب الإنبات على مجموع الصب والشق بالمعنى المذكور لا يلائم قوله تعالى (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا) [النبأ : ١٤ ، ١٥] الآية لإشعاره باستقلال الصب وإنزال الغيث في ذلك ، ودفعا بأن ماء العيون من المطر لا من الأبخرة المحتبسة في الأرض ولا يخفى على ذي عين أن هذا الوجه بعيد متكلف. والمراد بالحب جنس الحبوب التي يتقوت بها وتدخر كالحنطة والشعير والذرة وغيرها (وَعِنَباً) معروف (وَقَضْباً) أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال هو الفصفصة وقيدها الخليل بالرطبة وقال : إذا يبست فهي القت وسميت بمصدر قضبه أي قطعة مبالغة كأنها لتكرر قطعها وتكثره نفسه القطع ، وضعف هذا من فسر الأب بما يشمل ذلك وقيل هو كل ما يقضب ليأكله ابن آدم غضا من النبات كالبقول والهليون. وفي البحر عن الحبر إنه الرطب وهو يقضب من النخل واستأنس له بذكره مع العنب ولا يخفى ما فيه (وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً) هما معروفان (وَحَدائِقَ) رياضا (غُلْباً) أي عظاما وأصله جمع أغلب وغلباء صفة العنق وقد يوصف به الرجل لكن الأول هو الأغلب ومنه قول الأعشى:

يمشي بها غلب الرقاب كأنهم

بزل كسين من الكحيل (١) جلالا

ووصف الحدائق بذلك على سبيل الاستعارة شبه تكاثف أوراق الأشجار وعروقها بغلظ الأوداج وانتفاخ الأعصاب مع اندماج بعضها في بعض في غلظ الرقبة إلا أن الغلظ في الأشجار أقوى لأن الأمر بالعكس نظرا إلى الاندماج وتقوّي البعض بالبعض حتى صارت شيئا واحدا ، وجوز أن يكون هناك مجاز مرسل كما في المرسن بأن يراد بالأغلب الغليظ مطلقا ، وتجوز في الإسناد أيضا لأن الحدائق نفسها ليست غليظة بل الغليظ أشجارها. وقال بعض : المراد بالحدائق نفس الأشجار لمكان العطف على ما في حيز أنبتنا فلا تغفل (وَفاكِهَةً) قيل هي الثمار كلها وقيل بل هي الثمار ما عدا العنب والرمان وأيّا ما كان فذكر ما يدخل فيها

__________________

(١) الكحيل مصغر وهو النفط يطلى به الجرب ا ه منه.

٢٤٩

أولا للاعتناء بشأنه (وَأَبًّا) عن ابن عباس وجماعة إنه الكلأ والمرعى من أنّه إذا أمّه وقصده لأنه يؤم ويقصد أو من أب لكذا إذا تهيأ له لأنه متهيئ المرعى ويطلق على نفس مكان الكلأ ومنه قوله :

جذمنا (١) قيس ونجد دارنا

ولنا الأب بها والمكرع

وذكر بعضهم أن ما يأكله الآدميون من النبات يسمى الحصيدة والحصيد ، وما يأكله غيرهم يسمى الأب وعليه قول بعض الصحابة يمدح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

له دعوة ميمونة ريحها الصبا

بها ينبت الله الحصيدة والأبا

وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك أنه التبن خاصة وقيل هو يابس الفاكهة لأنها تؤب وتهيأ للشتاء للتفكه بها. وأخرج أبو عبيد في فضائله وعبد بن حميد عن إبراهيم التيمي قال : سئل أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه عن الأب ما هو؟ فقال : أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله تعالى ما لا أعلم. وأخرج ابن سعد وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وغيرهم عن أنس أن عمر رضي الله تعالى عنه قرأ على المنبر (فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً) ـ إلى قوله ـ (وَأَبًّا) فقال : كل هذا قد عرفناه فما الأب ثم رفع عصا كانت في يده فقال هذا لعمر الله هو التكلف فما عليك يا ابن أم عمر أن لا تدري ما الأب ابتغوا ما بيّن لكم من هذا الكتاب فاعملوا به وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربه وفي صحيح البخاري من رواية أنس أيضا أنه قرأ ذلك وقال : فما الأب؟ ثم قال : ما كلفنا أو ما أمرنا بهذا. ويتراءى من ذلك النهي عن تتبع معاني القرآن والبحث عن مشكلاته. وفي الكشاف لم يذهب إلى ذلك ولكن القوم كانت أكبر همتهم عاكفة على العمل وكان التشاغل بشيء من العلم لا يعمل به تكلفا فأراد رضي الله تعالى عنه أن الآية مسوقة في الامتنان على الإنسان بمطعمه واستدعاء شكره وقد علم من فحواها أن الأب بعض ما أنبت سبحانه للإنسان متاعا له أو لأنعامه فعليك بما هو أهم من النهوض بالشكر له عزوجل على ما تبين لك ، ولم يشكل مما عدد من نعمته تعالى ولا تتشاغل عنه بطلب معنى الأب ومعرفة النبات الخاص الذي هو اسم له واكتف بالمعرفة الجملية إلى أن يتبين لك في غير هذا الوقت ، ثم وصى الناس بأن يجروا على هذا السنن فيما أشبه ذلك من مشكلات القرآن انتهى. وهو قصارى ما يقال في توجيه ذلك لكن في بعض الآثار عن الفاروق كما في الدر المنثور ما يبعد فيه إن صح هذا التوجيه بقي شيء وهو أنه ينبغي أن خفاء تعيين المراد من الأب على الشيخين رضي الله تعالى عنهما ونحوها من الصحابة وكذا الاختلاف فيه لا يستدعي كونه غريبا مخلا بالفصاحة وأنه غير مستعمل عند العرب العرباء وقد فسره ابن عباس لابن الأزرق بما تعتلف منه الدواب واستشهد به بقول الشاعر :

ترى به الأب واليقطين مختلطا

ووقع في شعر بعض الصحابة كما سمعت ومن تتبع وجد غير ذلك. (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) قيل إما مفعول له أي فعل ذلك تمتيعا لكم ولمواشيكم فإن بعض النعم المعدودة طعام لهم وبعضها علف لدوابهم ويوزع وينزل كل على مقتضاه والالتفات لتكميل الامتناع ، وإما مصدر مؤكد لفعله المضمر بحذف الزوائد أي متعكم بذلك متاعا أو لفعل مرتب عليه أي فتمتعتم بذلك متاعا أي تمتعا أو مصدر من غير لفظه فإن ما ذكر

__________________

(١) جذمنا بكسر الجيم أي أصلنا ا ه منه.

٢٥٠

من الأفعال الثلاثة في معنى التمتيع وقد مر الكلام في نظيره فتذكر (فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ) شروع في بيان أحوال معادهم بعد بيان ما يتعلق بخلقهم ومعاشهم والفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما يشعر به لفظ المتاع من سرعة زوال هاتيك النعم وقرب اضمحلالها. و (الصَّاخَّةُ) هي الداهية العظيمة من صخ بمعنى أصاخ أي استمع والمراد بها النفخة الثانية ، ووصفت بها لأن الناس يصخون لها فجعلت مستمعة مجازا في الظرف أو الإسناد. وقال الراغب (الصَّاخَّةُ) شدة صوت ذي النطق ، يقال : صخ يصخ فهو صاخ فعليه هي بمعنى الصائحة مجازا أيضا. وقيل : مأخوذة من صخه بالحجر أي صكه. وقال الخليل : هي صيحة تصخ الآذان صخا أي تصمها لشدة وقعتها ، ومنه أخذ الحافظ أبو بكر بن العربي قوله (الصَّاخَّةُ) هي التي تورث الصمم وإنها لمسمعة وهو من بديع الفصاحة كقوله :

أصم بك الداعي وإن كان أسمعا

ثم قال : ولعمر الله تعالى إن صيحة القيامة مسمعة تصم عن الدنيا وتسمع أمور الآخرة. والكلام في جواب (إذا) وفي (يَوْمَ) من قوله تعالى (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ) أي زوجته (وَبَنِيهِ) على نحو ما تقدم في النازعات فتذكره فما في العهد من قدم أي يوم يعرض عنهم ولا يصاحبهم. ولا يسأل عن حالهم كما في الدنيا لاشتغاله بحال نفسه كما يؤذن به قوله تعالى (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) فإنه استئناف وارد لبيان سبب الفرار وجعله جواب (فَإِذا) والاعتذار عن عدم التصدير بالفاء بتقدير الماضي بغير قد أو المضارع المثبت أو بالفاء إبدال يوم يفر المرء عنه إياه لأن البدل لا يطلب جزاء لا يخفى حاله على من شرط الإنصاف على نفسه أي لكل واحد من المذكورين شغل شاغل وخطب هائل يكفيه في الاهتمام به. وأخرج الطبراني وابن مردويه والبيهقي والحاكم وصححه عن أم المؤمنين سودة بنت زمعة قالت : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا قد ألجمهم العرق وبلغ شحوم الآذان» قلت : يا رسول الله وا سوأتاه ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال : «شغل الناس عن ذلك» وتلا (يَوْمَ يَفِرُّ) الآية. وجاء في رواية الطبراني عن سهل بن سعد أنه قيل له عليه الصلاة والسلام : ما شغلهم؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نشر الصحائف فيها مثاقيل الذر ومثاقيل الخردل». وقيل يفر منهم لعلمه أنهم لا يغنون عنه شيئا وكلام الكشاف يشعر بذلك ويأباه ما سمعت وكذا ما قيل يفر منهم حذرا من مطالبتهم بالتبعات يقول الأخ لم تواسني بمالك ، والأبوان قصرت في برنا ، والصاحبة أطعمتني الحرام وفعلت وصنعت ، والبنون لم تعلمنا ولم ترشدنا ويشعر بذلك ما أخرج أبو عبيد وابن المنذر عن قتادة قال : ليس شيء أشد على الإنسان يوم القيامة من أن يرى من يعرفه مخافة أن يكون يطلبه بمظلمة. ثم قرأ (يَوْمَ يَفِرُّ) الآية وذكر المرء بناء على أنه الرجل لا الإنسان ليعلم منه حال المرأة من باب أولى. وقيل : هو من باب التغليب وفيه نظر وجعل القاضي ذكر المتعاطفات على هذا النمط من باب الترقي على اعتبار الأب على الأم سابقا على عطفهما على الأخ فيكون المجموع معطوفا عليه وكذا في (صاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) فقال : تأخير الأحب فالأحب للمبالغة كأنه قيل : يفر من أخيه بل من أبويه بل من صاحبته وبنيه ، ولا يخفى تكلفه مع اختلاف الناس والطباع في أمر الحب ولعل عدم مراعاة ترق أو تدل لهذا الاختلاف مع الرمز إلى أن الأمر يومئذ أبعد من أن يخطر بالبال فيه ذلك. وروي عن ابن عباس أنه يفر قابيل من أخيه هابيل ، ويفر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أمه ، ويفر إبراهيم عليه‌السلام من أبيه ، ويفر نوح عليه‌السلام من ابنه ، ويفر لوط عليه‌السلام من امرأته. وفي خبر رواه ابن عساكر عن الحسن نحو ذلك وفيه فيرون أن هذه الآية أعني يوم يفر

٢٥١

إلخ نزلت فيهم وكلا الخبرين لا يعول عليهما ولا ينبغي أن يلتفت إليهما كما لا يخفى والذي أدين الله تعالى به نجاة أبويه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد ألفت رسائل في ذلك رغما لأنف علي القاري ومن وافقه وأعتقد أن جميع آبائه عليه الصلاة والسلام لا سيما من ولداه بلا واسطة أوفر الناس حظا مما أوتي هناك من السعادة والشرف وسمو القدر :

كم من أب قد سما بابن ذرى شرف

كما سما برسول الله عدنان

وقرأ ابن محيصن وابن أبي عبلة وحميد وابن السميفع «يعنيه» بفتح الياء وبالعين المهملة أي يهمه من عناه الأمر إذا أهمه أي أوقعه في الهم ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» لا من عناه إذا قصده كما زعمه أبو حيان. وقوله تعالى (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ) بيان لمآل أمر المذكورين وانقسامهم إلى السعداء والأشقياء بعد ذكر وقوعهم في داهية دهياء ف (وُجُوهٌ) مبتدأ وسوغ الابتداء به كونه في حيز التنويع كما مر و (مُسْفِرَةٌ) خبره و (يَوْمَئِذٍ) متعلق به أي مضيئة متهللة من أسفر الصبح إذا أضاء وعن ابن عباس إن ذلك من قيام الليل. وعن الضحاك من آثار الوضوء فيختص ذلك بهذه الأمة أي لأن الوضوء من خواصهم قيل أي بالنسبة إلى الأمم السابقة فقط لا مع أنبيائهم عليهم‌السلام وقيل من طول ما اغبرّت في سبيل الله تعالى (ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) أي مسرورة بما تشاهد من النعيم المقيم والبهجة الدائمة (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ) أي غبار وكدورة (تَرْهَقُها) أي تعلوها وتغشاها (قَتَرَةٌ) أي سواد وظلمة ولا ترى أوحش من اجتماع الغرة والسواد في الوجه وسوّى الفيروزآبادي والجوهري بين الغبرة والقترة فقيل المراد بالقترة الغبار حقيقة ، وبالغبرة ما يغشاهم من العبوس من الهم. وقيل : هما على حقيقتهما والمعنى أن عليها غبارا وكدورة فوق غبار وكدورة. وقال زيد بن أسلم : الغبرة ما انحطت إلى الأرض والقترة ما ارتفع إلى السماء ، والمراد وصول الغبار إلى وجوههم من فوق ومن تحت والمعول عليه ما تقدم. وقرأ ابن أبي عبلة «قترة» بسكون التاء (أُولئِكَ) إشارة إلى أصحاب تلك الوجوه وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد درجتهم في سوء الحال أي أولئك الموصوفون بما ذكر (هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) أي الجامعون بين الكفر والفجور فلذلك جمع الله تعالى لهم بين الغبرة والقترة وكان الغبرة للفجور والقترة للكفور نعوذ بالله عزوجل من ذلك.

٢٥٢

سورة التّكوير

ويقال سورة كورت وسورة إذا الشمس كورت وهي مكية بلا خلاف وآيها تسع وعشرون آية ، وفي التيسير ثمان وعشرون ، وفيها من شرح حال يوم القيامة الذي تضمنه آخر السورة قبل ما فيها وقد أخرج الإمام أحمد والترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليقرأ إذا الشمس كورت ، وإذا السماء انفطرت ، وإذا السماء انشقت» أي السور الثلاث وكفى بذلك مناسبة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (٤) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ)(٩)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) أي لفّت من كورت العمامة إذا لففتها وهو مجاز عن رفعها (١) وإزالتها من مكانها بعلاقة اللزوم فإن الثوب إذا أريد رفعه يلف لفا ويطوى ثم يرفع ونحوه قوله تعالى (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ) [الأنبياء : ١٠٤] ويجوز أن يراد لف ضوئها المنبسط في الآفاق المنتشر في الأقطار ، إما على أن الشمس مجاز عن الضوء فإنه شائع في العرف ، أو على تقدير المضاف ، أو على التجوز في الإسناد ويراد من لفه إذهابه مجازا بعلاقة اللزوم كما سمعت آنفا ، أو رفعه وستره استعارة كما قيل ، وقد اعتبر تشبيه الضوء بالجواهر والأمور النفسية التي إذا رفعت لفّت في ثوب ثم تعتبر الاستعارة ويجعل التكوير بمعنى اللف قرينة ليكون هناك استعارة مكنية تخييلية. وكون المراد إذهاب ضوئها مروي عن الحسن وقتادة ومجاهد وهو ظاهر ما رواه جماعة عن ابن عباس من تفسيره (كُوِّرَتْ) بأظلمت ، والظاهر أن ذاك مع بقاء جرمها كالقمر في خسوفه وفي الآثار ما يؤيد ذلك ، وقيل : إن ذاك عبارة عن إزالة نفس الشمس والذهاب بها للزوم العادي واستلزام زوال اللازم لزوال الملزوم ، ويجوز أن يكون المراد ب (كُوِّرَتْ) ألقيت عن فلكها

__________________

(١) ولعل القرينة النسبة ا ه منه.

٢٥٣

وطرحت من طعنه فحوره وكوره أي ألقاه مجتمعا على الأرض وإلقاؤها في جهنم مع عبدتها كما يدل عليه بعض الأخبار المرفوعة ويذهب إذا ذاك نورها كما صرح به القرطبي أو في البحر كما يدل عليه خبر ابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن ابن عتيك. وفيه أن الله تعالى يبعث ريحا دبورا فتنفخه أي البحر حتى يرجع نارا ، وعظم جرم الشمس اليوم لا يقتضي استحالة إلقائها في البحر ذلك اليوم لجواز اختلاف الحال في الوقتين والله عزوجل على كل شيء قدير لكن جاء في الأخبار الصحيحة أن الشمس تدنو يوم القيامة من الرءوس في المحشر حتى تكون قدر ميل ويلجم الناس العرق يومئذ والأبحر حينئذ لتلقى فيه بعد فلا تقفل وعن أبي صالح (كُوِّرَتْ) نكست. وفي رواية عن ابن عباس تكويرها إدخالها في العرش. وعن مجاهد أيضا اضمحلت ، ومدار التركيب على الإدارة والجمع هذا ولم نقف لأحد من السلف على إرادة لفها حقيقة ، وللمتأخرين في جواز إرادته خلاف فقيل : لا تجوز إرادته لأن الشمس كرية مصمتة وغاية اللف هي الإدارة وهي حاصلة فيها ، وقيل : تجوز لأن كون الشمس كذلك مما لا يثبته أهل الشرح وعلى تسليمه يجوز أن يحدث فيها قابلية اللف بأن يصيرها سبحانه منبسطة ثم يلفها وله عزوجل في ذلك ما له من الحكم ، ويبعد إرادة الحقيقة فيما أرى كونها كيفما كانت من الأجرام التي لا تلف كالثياب نعم القدرة في كل وقت لا يتعاصاها شيء ، وارتفاع الشمس بفعل مضمر يفسره المذكور عند جمهور البصريين لاختصاص إذا الشرطية عندهم بالفعل وعلى الابتداء عند الأخفش والكوفيين لعدم الاختصاص عندهم وكون التقدير خلاف الأصل. وكذا يقال في قوله تعالى (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) أي انقضت وسقطت كما أخرجه عبد بن حميد عن مجاهد وقتادة ، ومنه : انكدر البازي إذا نزل بسرعة على ما يأخذه. قال العجاج يمدح عمر بن عمر التميمي :

إذا الكرام ابتدروا الباع بدر

تقضّي البازي إذا البازي كسر

دانى جناحيه من الطود فمر

أبصر خربان فضاء فانكدر

وهذا إحدى روايتين عن ابن عباس. وروي عنه أنه قال : لا يبقى يومئذ نجم إلّا سقط في الأرض. وعنه أيضا أن النجوم قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من نور بأيدي ملائكة من نور ، فإذا مات من في السماوات والأرض تساقطت من أيديهم. وظاهر هذا أن النجوم ليست في جرم أفلاك لها كما يقول الفلاسفة المتقدمون بل معلقة في فضاء ويقرب منه من وجه قول الفلاسفة المحدثين فإنهم يقولون بكونها في فضاء أيضا لكن بقوى متجاذبة لا معلقة بسلاسل بأيدي ملائكة وليس وراء ما يشاهد منها إلا سماء بمعنى جهة علو لا سماء بالمعنى المعروف ، وإن صح خبر الحبر وهو في حكم المرفوع لم نعدل عن ظاهره إلّا إن ظهر استحالته وهيهات ذلك وحينئذ فالأمر سهل. وقد ذكر بعض متأهلين أن الملائكة قد تطلق على الأرباب النورية كما في خبر : «إن لكل شيء ملكا وإن كل قطرة من قطرات المطر ينزل معها ملك». وخبر «أتاني ملك الجبال وملك البحار» وتسمى المثل الأفلاطونية وهي أنوار مجردة قائمة بنفسها مدبرة بإذن الله تعالى للمربوبات حافظة إياها وهي المنمية والغاذية والمولودة في النباتات والحيوانات ويقال في السلاسل إنه أريد بها القوى التي بها حفظ الأوضاع أو نحو ذلك. وقيل : انكدرت تغيرت وانطمس. نورها كما في هو في الرواية الأخرى عن ابن عباس من كدرت الماء فانكدر ففيه تشبيه انطماس نورها بتكدر الماء الذي لا يبقى معه صفاؤه ورونق منظره ، وتكون هي حينئذ على ما في بعض الآثار مع عبدتها في النار وظاهر أن النجوم لا تشمل الشمس وقيل تشملها وذكرها بعدها تعميم بعد تخصيص فلا تغفل (وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ) أي أزيلت عن أماكنها من الأرض

٢٥٤

بالرجفة الحاصلة على أن التسيير مجاز عن ذلك ، وقيل : سيرت بعد رفعها في الجو كما قال تعالى (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) [النمل : ٨٨]. وهذا إنما يكون بعد النفخة الثانية (وَإِذَا الْعِشارُ) جمع عشراء كنفاس جمع نفساء وهي الناقة التي أتى عليها من يوم أرسل فيها الفحل عشرة أشهر ثم لا يزال ذلك اسمها حتى تضع ، وقد يقال لها ذلك بعد ما تضع أيضا وهي أنفس ما يكون عند أهلها وأعز شيء عليهم (عُطِّلَتْ) تركت مهملة لا راعي لها ولا طالب ، وقيل : عطلها أهلها عن الحلب والصر ، وقيل عن أن يرسل فيها الفحول وذلك إذا كان قبيل قيام القيامة لاشتغال أهلها بما عراهم مما يكون إذا ذاك. وقيل : إن هذا التعطيل يوم القيامة ، فقال القرطبي : الكلام على التمثيل إذ لا عشار حينئذ والمعنى أنه لو كانت عشار لعطلها أهلها واشتغلوا بأنفسهم ، وقيل على الحقيقة أي إذا قاموا من القبور وشاهدوا الوحوش والأنعام والدواب محشورة ورأوا عشارهم التي كانت كرائم أموالهم فيها لم يعبئوا بها لشغلهم بأنفسهم وهو كما ترى. وقيل : المراد بالعشار السحاب على تشبيه السحابة المتوقع مطرها بالناقة العشراء القريب وضع حملها وفيه استعارة لطيفة مع المناسبة التامة بينه وبين ما قبله فإن السحب تنعقد على رءوس الجبال وترى عندها وإلّا ينافيه كونه مناسبا لما بعده على الأول فإنه معنى حقيقي مرجح بنفسه ، وتعطيلها مجاز عن عدم ارتقاب مطرها لأنهم في شغل عنه. وقيل عن عدم إمطارها وقيل : هي الديار تعطل فلا تسكن ، وقيل : الأرض التي يعشر زرعها تعطل فلا تزرع. وقرأ مضر اليزيدي «عطلت» بالتخفيف والبناء للمجهول ونقله في اللوامح عن ابن كثير ثم قال : هو وهم إنما «عطلت» بفتحتين بمعنى تعطلت لأن تشديده للتعدية ، يقال : عطلت الشيء وأعطلته فعطل بنفسه وعطلت المرأة فهي عاطل إذا لم يكن عليها حلي فلعل هذه القراءة لغة استوى فيها فعلت وأفعلت أي في التعدي ، وقيل : الأظهر أنه عدّي بالحرف ثم حذف وأوصل الفعل بنفسه.

(وَإِذَا الْوُحُوشُ) جمع وحش وهو حيوان البر الذي ليس في طبعه التأنس ببني آدم والمراد به ما يعم البهائم مطلقا (حُشِرَتْ) أي جمعت من كل جانب وذلك قبيل النفخة الأولى حين تخرج نار تفر الناس والأنعام منها حتى تجتمع ، وقيل أميتت من قولهم : إذا أجحنت السنة الناس حشرتهم ، ونحوه ما أخرج عبد بن حميد عن مجاهد أنه قال : حشرها موتها ، وعن ابن عباس تفسير الحشر بالجمع إلّا أنه قال كما أخرجه جماعة وصححه الحاكم جمعت بالموت فلا تبعث ولا يحضر في القيامة غير الثقلين ، وقيل : بعثت للقصاص فيحشر كل شيء حتى الذباب وروي ذلك عن ابن عباس أيضا وعن قتادة وجماعة. وفي رواية عن الحبر تحشر الوحوش حتى يقتص من بعضها لبعض فيقتص للجماء من القرناء ثم يقال لها موتي فتموت ، وقيل : إذا قضي بينها ردت ترابا فلا يبقى منها إلّا ما فيه سرور لبني آدم وإعجاب بصورته كالطاوس والظبي. وقيل : يبقى كل ما لم ينتفع به إلّا المؤمن كشاة لم يأكل منها إلّا هو ويدخل ما يبقى الجنة على حال لائقة بها. وذهب كثير إلى بعث جميع الحيوانات ميلا إلى هذه الأخبار ونحوها فقد أخرج مسلم والترمذي عن أبي هريرة في هذه الآية قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لتؤذن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجماء من الشاة القرناء». وزاد أحمد بن حنبل : «وحتى الذرة من الذرة» ومال حجة الإسلام الغزالي وجماعة إلى أنه لا يحشر غير الثقلين لعدم كونه مكلفا إلّا أهلا للكرامة بوجه وليس في هذا الباب نص من كتاب أو سنة معول عليها يدل على حشر غيرهما من الوحوش وخبر مسلم والترمذي وإن كان صحيحا لكنه لم يخرج مخرج التفسير للآية ، ويجوز أن يكون كناية عن العدل التام وإلى هذا القول أميل ولا أجزم بخطإ القائلين بالأول لأن لهم ما يصلح مستندا

٢٥٥

في الجملة والله تعالى أعلم. وقرأ الحسن وعمرو بن ميمون «حشّرت» بالتشديد للتكثير.

(وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) أي أحميت بأن تغيض مياهها وتظهر النار في مكانها ولذا ورد على ما قيل إن البحر غطاء جهنم ، أو ملئت بتفجير بعضها إلى بعض حتى يكون مالحها وعذبها بحرا واحدا من سجر التنور إذا ملأه بالحطب ليحميه ، وقيل : ملئت نيرانا تضطرم لتعذيب أهل النار ، وقيل : ملئت ترابا تسوية لها بأرض المحشر وليس له مستند أثر عن السلف. ونقل في البحر عن كتاب لغات القرآن أن (سُجِّرَتْ) بمعنى جمعت لغة خثعم ولعل جمعها عليه بالتفجير. وقال ابن عطية : يحتمل أن يكون المعنى ملكت وقيد اضطرابها حتى لا يخرج عن الأرض من الهول فيكون ذلك مأخوذا من ساجور الكلب وهو خشبة تجعل في عنقه ، ويقال : سجره إذا شده به. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «سجّرت» بالتخفيف (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) أي قرنت كل نفس بشكلها. أخرج جماعة منهم الحاكم وصححه عن النعمان بن بشير عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه سئل عن ذلك فقال : يقرن الرجل الصالح مع الرجل الصالح في الجنة ، ويقرن الرجل السوء مع الرجل السوء في النار فذلك تزويج الأنفس. وفي حديث مرفوع رواه النعمان أيضا ما يقتضي ظاهره ذلك وقال بعض هذا في الموقف أن يقرن بين الطبقات الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل. وقال مقاتل بن سليمان : تقرن نفوس المؤمنين بأزواجهم من الحور وغيرهن ، ونفوس الكافرين بالشياطين. وقيل : تقرن كل نفس بكتابها وقيل بعملها وجوز أن يراد تقرن كل نفس بخصمها فلا يمكنها الفرار منه وأنت تعلم أن كون كل نفس ذا خصم بين الانتفاء وأيّا ما كان فالنفس بمعنى الذات والتزويج جعل الشيء زوجا أي مقارنا. وقال عكرمة والضحاك والشعبي : تقرن النفوس بأزواجها وذلك عند البعث والنفس عليه بمعنى الروح. وقرأ عاصم «زوجت» على فوعلت.

(وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ) وهي البنت التي تدفن حية من الوأد وهو الثقل كأنها سميت بذلك لأنها تثقل بالتراب حتى تموت. وقيل : هو مقلوب الأود وحكاه المرتضى في درره عن بعض أهل اللغة وهو غير مرتضى عند أبي حيان وكانت العرب تئد البنات مخافة لحوق العار بهم من أجلهن ، وقيل : مخافة الإملاق ولعله بالنسبة إلى بعضهم ومنهم من يقول : الملائكة بنات الله سبحانه عما يقولون فألحقوا البنات به تعالى فهو عزوجل أحق بهن. وذكر غير واحد أنه كان الرجل منهم إذا ولدت له بنت فأراد أن يستحييها ألبسها جبة من صوف أو شعر ترعى له الإبل والغنم في البادية وإن أراد قتلها تركها حتى إذا كانت سداسية فيقول لأمها طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها وقد حفر لها بئرا في الصحراء فيبلغ بها البئر فيقول لها : انظري فيها ، ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب حتى تستوي البئر بالأرض. وقيل : كانت الحامل إذا قربت حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة فإذا ولدت بنتا رمت بها فيها ، وإن ولدت ابنا حبسته ورأيت إذ أنا يافع في بعض الكتب أن أول قبيلة وأدت من العرب ربيعة وذلك أنهم أغير عليهم فنهبت بنت لأمير لهم فاستردها بعد الصلح فخيرت برضا منه بين أبيها ومن هي عنده فاختارت من هي عنده وآثرته على أبيها فغضب وسن لقوله الوأد ففعلوه غيرة منهم ومخافة أن يقع لهم بعد مثل ما وقع ، وشاع في العرب غيرهم والله تعالى أعلم بصحة ذلك. وقرأ البزي في رواية الموؤدة» كمعونة فاحتمل أن يكون الأصل (الْمَوْؤُدَةُ) كقراءة الجمهور فنقل حركة الهمزة إلى الواو قبله وحذفت ثم همزت تلك الواو واحتمل أن يكون اسم مفعول من آد والأصل المأوودة فحذفت أحد الواوين فصارت الموءودة كما حذفت من مقوول فصار مقولا. وقرئ «الموودة» بضم الواو الأولى وتسهيل الهمزة أعني التسهيل بحذفها ونقل حركتها إلى ما قبلها. وفي مجمع البيان والعهدة عليه روي عن أبي جعفر وأبي

٢٥٦

عبد الله وابن عباس رضي الله تعالى عنهم أنهم قرءوا «المودّة» بفتح الميم والواو والمراد بها الرحم والقرابة وعن أبي جعفر قرابة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويراد بقتلها قطعها أو هو على حقيقته والإسناد مجازي والمراد قتل المتصف بها. وتوجيه السؤال إلى الموءودة في قوله تعالى (سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) دون الوائد مع أن الذنب له دونها لتسليتها وإظهار كمال الغيظ والسخط لوائدها وإسقاطه عن درجة الخطاب والمبالغة في تبكيته فإن المجني عليه إذا سئل بمحضر الجاني ونسبت إليه الجناية دون الجاني كان ذلك بعثا للجاني على التفكر في حال نفسه وحال المجني عليه ، فيرى براءة ساحته وأنه هو المستحق للعتاب والعقاب ، وهذا نوع من الاستدراج واقع على طريق التعريض كما في قوله تعالى (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ) [المائدة : ١١٦].

وقرأ أبيّ وابن مسعود والربيع بن خيثم وابن يعمر «سألت» أي خاصمت أو سألت الله تعالى أو قاتلها وإنما قيل (قُتِلَتْ) لما أن الكلام إخبار عنها لا حكاية لما خوطبت به حين سئلت ليقال قتلت على الخطاب ولا حكاية لكلامها حين سألت ليقال قتلت على الحكاية عن نفسها وقد قرأ كذلك علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وابن مسعود أيضا وجابر بن يزيد وأبو الضحى ومجاهد. وقرأ الحسن والأعرج «سيلت» بكسر السين وذلك على لغة من قال سال بغير همز. وقرأ أبو جعفر بشد الياء لأن الموءودة اسم جنس فناسب التكثير باعتبار الأشخاص وفي الآية دليل على عظم جناية الوأد. وقد أخرج البزار والحاكم في الكنى والبيهقي في سننه عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال : جاء قيس بن عاصم التميمي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إني وأدت ثمان بنات لي في الجاهلية ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعتق عن كل واحدة رقبة» قال : إني صاحب إبل قال : «فاهد عن كل واحدة بدنة». وكان لأمر للندب لا للوجوب لتوقف صحة التوبة عليه فإن الإسلام يجب ما قبله من مثل ذلك وفيه تعظيم أمر الوأد وكان من العرب من يستقبحه كصعصعة بن ناجية المجاشعي جد الفرزدق كان يفتدي الموءودات من قومه بني تميم وبه افتخر الفرزدق في قوله :

وجدي الذي منع الوائدات

فأحيا الوئيد فلم توأد

وأخرج الطبراني عنه قال : قلت يا رسول الله إني عملت أعمالا في الجاهلية فهل فيها من أجر؟ أحييت ثلاثمائة وستين من الموءودة اشتري كل واحدة منهن عشراوين وجمل فهل لي في ذلك من أجر؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لك أجره إذ منّ الله تعالى عليك بالإسلام». وعد من الوأد العزل لما أخرج الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والطبراني وابن مردويه عن خذامة بنت وهب قالت : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن العزل فقال : «ذلك الوأد الخفي» ومن هنا قيل بحرمته وأنت تعلم أن المسألة خلافية فقد قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم : العزل وهو أن يجامع فإذا قارب الانزال نزع وأنزل خارج الفرج مكروه عندنا في كل حال امرأة سواء رضيت أم لا لأنه طريق إلى قطع النسل. وأما التحريم فقد قال أصحابنا ـ يعني الشافعية ـ لا يحرم في مملوكته ولا في زوجته الأمة سواء رضيت أم لا لأن عليه ضررا في مملوكته بمصيرها أم ولد وامتناع بيعها ، وعليه ضرر في زوجته الرقيقة بمصير ولده رقيقا تبعا لأمه ، وأما زوجته الحرة فإن أذنت فيه لم يحرم وإلّا فوجهان أصحهما لا يحرم ثم الأحاديث التي ظاهرها التعارض في هذا المطلب يجمع بينها بأن ما ورد منها في النهي محمول على كراهة التنزيه ، وما ورد في الإذن في ذلك محمول على أنه ليس بحرام وليس معناه نفي الكراهة انتهى. وأجيب على الحديث السابق بأن تسميته بالوأد الخفي لا يدل على أن حكمه حكم الوأد الظاهر فقد صح أن الرياء شرك خفي ولم يقل أحد بأن حكمه حكمه ، ولا يبعد أن يكون الاستمناء باليد كالعزل وأدا

٢٥٧

خفيا. وذكر بعضهم أنه إذا لم يخش الزنا حرام وإن خشي لم يحرم وكذا لا يبعد أن يكون التفخيذ مع من يحل له وطؤها كذلك ولم أر قائلا بحرمته وتمام الكلام في هذا المقام في كتب الفقه فلتراجع. واستدل الزمخشري بالآية على أن أطفال المشركين لا يعذبون وعلى أن العذاب لا يستحق إلّا الذنب ، أما الأول فلأن تبكيت قاتلها يباين تعذيبها لأن استحقاق التبكيت لبراءتها من الذنب فمتى بكّت سبحانه الكافر ببراءتها من الذنب كيف يكر سبحانه عليها فيفعل بها ما ينسى عنده فعل المبكت من العذاب السرمدي. وأما الثاني فلإشارة قوله تعالى (بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) إلى أن القتل إنما يصار إليه بذنب وأنه لا يستحسن ارتكابه دونه ، ومعلوم أن في معناه كل تعذيب. ثم الآية لما دلت على أن الموءودة لا ذنب لها ليتم التبكيت تضمنت عدم استحقاقها العقاب. وزعم أن ابن عباس سئل عن ذلك فاحتج بهذه الآية وتعقب بأن مبنى ما ذكره التحسين والتقبيح ، وقد بيّن ما فيهما في موضعه. وعلى التسليم نمنع انحصار سبب التبكيت في البراءة على أن القتل للباعث المذكور في القرآن بمعنى خشية الإملاق رذيلة يستحق بها التبكيت استحق بها المقتول التعذيب الأخروي أولا ، وإشارة الآية على أن باعثهم على القتل لم يكن الذنب لا إلى أن الذنب أعني ما تستحق به الموءودة التعذيب معدوم من كل وجه ، وما روي عن ابن عباس لا نسلم صحته وفي الأخبار ما ينافيه.

أخرج الإمام أحمد والنسائي وغيرهما عن سلمة بن يزيد الجعفي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الوائدة والموءودة في النار» إلّا أن تدرك الوائدة الإسلام فيعفو الله تعالى عنها». وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عباس قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أولاد المشركين ، فقال: «الله تعالى إذ خلقهم أعلم بما كانوا عاملين» وتفسيره على ما قيل ما روى أبو داود عن عائشة قلت : يا رسول الله ذراري المؤمنين؟ فقال «من آبائهم» قلت : بلا عمل؟ قال : الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين» قلت يا رسول الله فذراري المشركين؟ فقال : «من آبائهم» قلت : بلا عمل؟ قال : «الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين». وفي مسند الإمام أحمد سألت خديجة عن ولدين ما بالهما في الجاهلية فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هما في النار وأنت تعلم أن في مسألة الأطفال من هذه الحيثية ما عدا أطفال الأنبياء عليهم‌السلام فإنهم أجمع على كونهم من أهل الجنة كما قال اللقاني خلافا فقد قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم أجمع من يعتد به من علماء المسلمين على أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة لأنه ليس مكلفا ، وتوقفت فيه بعض من لا يعتد به لحديث عائشة : توفي صبي من الأنصار فقالت : طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أو غير ذلك يا عائشة إن الله تعالى خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم ، وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم». وأجاب العلماء عنه بأنه لعله عليه الصلاة والسلام نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون عندها دليل قاطع ويحتمل أنه عليه الصلاة والسلام قال هذا قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة ، فلما علم صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ذلك في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من مسلم يموت له ثلاث من الولد لم يبلغوا الحنث إلّا أدخله الله تعالى الجنة بفضله ورحمته إياهم» وغير ذلك من الأحاديث. وأما أطفال المشركين ففيهم ثلاثة مذاهب قال الأكثرون : هم في النار تبعا لآبائهم لحديث سئل عن أولاد المشركين من يموت منهم صغيرا فقال عليه الصلاة والسلام : «الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين» أي وغير ذلك. وتوقف طائفة فيهم وقالت الثالثة وهو الصحيح الذي ذهب إليه المحققون أنهم من أهل الجنة ويستدل له بأشياء منها حديث إبراهيم الخليل عليه‌السلام حين رآه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الجنة حوله أولاد الناس ، قالوا : يا رسول الله وأولاد المشركين قال : «وأولاد

٢٥٨

المشركين» رواه البخاري في صحيحه ومنها قوله تعالى (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء : ١٥] ولا يتوجه على المولود التكليف ويلزمه قول الرسول حتى يبلغ وهذا متفق عليه والجواب عن حديث «الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين» أنه ليس فيه تصريح بأنهم في النار ، وحقيقة لفظة : «الله تعالى أعلم بما كانوا يعملون» لو بلغوا ولم يبلغوا والتكليف لا يكون إلّا بالبلوغ انتهى. وتعقب ما ذكره من الاحتمال في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها بأنه يأباه ما ذكره من حديث إبراهيم عليه‌السلام فإن حديث عائشة كان بالمدينة لأنه في صبي من الأنصار وبناؤه عليه الصلاة والسلام عليها إنما كان فيها ، وحديث إبراهيم عليه‌السلام كان بمكة لأن الظاهر أن تلك الرؤية كانت ليلة المعراج وهو قد كان فيها ، ومنه يعلم أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد علم أن الأطفال كلهم في الجنة يومئذ فكيف يحتمل أن يكون ما قاله بعد قاله قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة ، وأيضا إذا كان حديث إبراهيم عليه‌السلام في مكة يضعف الجواب الأول عن حديث عائشة باحتمال أن تكون قالت ما قالت لأنه بلغها ذلك الحديث. ثم ما ذكر من أن المذاهب في أطفال المشركين ثلاثة الظاهر أنه مبني على ما وقف عليه وإلّا فهي غير منحصرة فيها بل منها أنهم في برزخ بين الجنة والنار ومنها أنهم يمتحنون بدخول النار يوم القيامة فمن كتب له السعادة أطاع بدخولها فيرد إلى الجنة ، ومن كتب له الشقاوة امتنع فيسحب إلى النار كما جاء في بعض الروايات فلا يحكم على معين منهم بجنة ولا نار وعليه حمل الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين وفي اختيارات الشيخ ابن تيمية أن هذا أحسن الأجوبة فيهم. وقال الجلال السيوطي هو الصحيح المعتمد ومنها ما ذكره هذا الجلال واختاره الإمام الرباني الفاروقي السرهندي قدس‌سره أنهم يحشرون ثم يصيرون ترابا كالوحوش وإن أريد مما تقدم من أنهم في الجنة كونهم فيها كسائر أهلها فهناك قول آخر وهو أنهم فيها خدما لأهلها وقد نقله النسفي في بحر الكلام على أهل السنة والجماعة وفيه أحاديث جمة. والظاهر أن المراد بأطفال المشركين الأطفال الذين ولدوا لهم وهم مشركون ولو آمنوا بعد ويدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام : «السابق في ولدي خديجة هما في النار» وهو يعكر على من يقول : أطفال الذين ماتوا مشركين في النار وأطفال المشركين الذين آمنوا بعد موتهم في الجنة إكراما لهم. والذي أختاره القول بأن الأطفال مطلقا وكذا فرخ الزنا ومن جن قبل البلوغ في الجنة فهو الأخلق بكرم الله تعالى وواسع رحمته عزوجل والأوفق للحكمة بحسب الظاهر والأكثر تأيدا بالآيات ولا بعد في ترجح الأخبار الدالة على ذلك بما ذكر على الأخبار الدالة على خلافه والقول بأن ما تضمنته هاتيك الأخبار كان منه عليه الصلاة والسلام قبل علمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن الأطفال في الجنة بعيد عندي. نعم جوز أن يكون قد أخبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنهم من أهل النار بناء على أخبار الوحي به كأخباره بالوعيدات التي يعفو الله تعالى عنها من حيث إنه مقيد بشرط كان لم يشملهم الفضل مثلا لكنه لم يذكر معه كما لم يذكر معها لحكمة ثم أخبر عليه الصلاة والسلام بأنهم من أهل الجنة بناء على أخبار الوحي به أيضا ويكون متضمنا للأخبار بأن شرط كونهم من أهل النار لا يتحقق فضلا من الله تعالى وكرما ويكون ذلك كالعفو عما يقتضيه الوعيد ومثل ذلك أخباره بما ذكر بناء على مشاهدة كونهم في الجنة عند إبراهيم عليه‌السلام فتأمل.

(وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (١٤) فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ

٢٥٩

الْمُبِينِ (٢٣) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢٥) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ)(٢٩)

(وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) أي صحف الأعمال. أخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال : إذا مات الإنسان طويت صحيفته ثم تنشر يوم القيامة فيحاسب بما فيها ، وقيل : نشرت أي فرقت بين أصحابها عن مرثد بن وداعة إذا كان يوم القيامة تطايرت الصحف من تحت العرش فتقع صحيفة المؤمن في يده في جنة عالية ، وتقع صحيفة الكافر في يده في سموم وحميم أي مكتوب فيها ذلك وهي صحف غير صحف الأعمال. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي «نشّرت» بالتشديد للمبالغة في النشر بمعنييه أو لكثرة الصحف أو لشدة التطاير (وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ) قلعت وأزيلت كما يكشف الإهاب عن الذبيحة والغطاء عن الشيء المستور به فأصل الكشط السلخ واستعير هنا للإزالة. وقرأ عبد الله «قشطت» بالقاف مكان الكاف واعتقابهما غير عزيز كالكافور. والقافور وعربي قح وكح (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) أي أوقدت إيقادا شديدا قال قتادة : سعرها غضب الله تعالى وخطايا بني آدم. وقرأ جمع منهم علي كرم الله تعالى وجهه «سعرت» بالتخفيف (وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) أي قربت من المتقين كقوله تعالى (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) [ق : ٣١] أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن أبي العالية أنه قال : ست آيات من هذه السورة في الدنيا والناس ينظرون ، وست في الآخرة (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) ـ إلى ـ (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) هذه في الدنيا (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) ـ إلى ـ (وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) هذه في الآخرة. وأخرج ابن أبي الدنيا وابن جرير وابن أبي حاتم عن أبيّ بن كعب أنه قال : ست آيات قبل يوم القيامة بينما الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس فبينما هم كذلك إذ تكدرت النجوم ، فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على وجه الأرض فتحركت واضطربت ففزعت الجن إلى الإنس والإنس إلى الجن واختلطت الدواب والطير والوحش فماجوا بعضهم في بعض وأهملت العشار وقال الجنس للإنس : نحن نأتيكم بالخبر فانطلقوا إلى البحر فإذا هو نار تأجج فبينما هم كذلك إذ تصدعت الأرض صدعة واحدة فبينما هم كذلك إذ جاءتهم ريح فأماتتهم وقال بعضهم : إن الست الأول فيما بين النفختين وإنه مراد من قال إنها في الدنيا ، وقيل : هي فيما قبل النفخة الأولى وما بعدها إلى النفخة الثانية فلا تغفل. (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) جواب (إِذَا) على أن المراد بها زمان واحد ممتد يشع الأمور المذكورة مبدؤه قبيل النفخة الأولى أو هي ومنتهاه فصل القضاء بين الخلائق لكن لا بمعنى إن النفس تعلم ما تعلم في كل جزء من أجزاء ذلك الوقت المديد أو عند وقوع داهية من تلك الدواهي بل عند نشر الصحف إلّا أنه لما كان بعض تلك الدواهي من مباديه وبعضها من روادفه نسب علمها بذلك إلى زمان وقوع كلها تهويلا للخطب وتفظيعا للحال ، والمراد ب (ما أَحْضَرَتْ) أعمالها من الخير والشر ، وبحضور الأعمال أما حضور صحائفها كما يعرب عنه نشرها وأما حضور أنفسها على ما قالوا من أن الأعمال الظاهرة في هذه النشأة بصور عرضية تبرز في النشأة الآخرة بصور جوهرية مناسبة لها في الحسن والقبح على كيفيات مخصوصة وهيئات معينة حتى أن الذنوب والمعاصي تتجسم هنالك وتتصور وحمل على ذلك نحو قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) [النساء : ١٠] وعن ابن عباس ما يؤيده ويؤيده أيضا حديث ذبح الموت ونحوه ، قيل : ولا بعد في ذلك ألا يرى أن العلم يظهر في عالم المثال على صورة اللبن كما لا يخفى على من له خبرة بأحوال الحضرات الخمس ، وقد حكي عن بعض الأكابر أنهم يشاهدون في هذه النشأة الأعمال عند العروج بها إلى السماء وكان ذلك بنوع من التجسد وأيا ما كان فإسناد إحضارها إلى النفس مع أنها تحضر بأمر الله تعالى كما يؤذن به قوله تعالى (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً) [آل عمران : ٣٠]

٢٦٠