روح المعاني - ج ١٥

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٥

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٤

إلى (القاسطين) وهو المروي عن ابن عباس وقتادة ومجاهد وابن جبير واعتبار المثلى قيل لأن التعريف للعهد والمعهود طريقة الجن المفضلة على غيرها وقيل لأن جعلها طريقة وما عداها ليس بطريقة يفهم منه كونه مفضلة. وقيل المعنى أنه لو استقام الجن على طريقتهم وهي الكفر ولم يسلموا باستماع القرآن لوسعنا عليهم الرزق استدراجا لنوقعهم في الفتنة ونعذبهم في كفران النعمة وروي نحو هذا عن الضحاك والربيع بن أنس وزيد بن أسلم وأبي مجلز بيد أنهم أعادوا الضمير على من أسلم وقالوا أي لو كفر من أسلم من الناس (لَأَسْقَيْناهُمْ) إلخ وهو مخالف للظاهر لاستعمال الاستقامة على الطريقة في الاستقامة على الكفر وكون النعمة المذكورة استدراجا من غير قرينة عليه مع أن قوله تعالى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا) [الأعراف : ٩٦] إلخ يؤيد الأول وزعم الطيبي أن التذييل بقوله عزوجل (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ) إلخ ينصر ما قيل قال لأنه توكيد لمضمون السابق من الوعيد أي لنستدرجهم فيتبعوا الشهوات التي هي موجبة للبطر والإعراض عن ذكر الله تعالى وفيه نظر والذكر مصدر مضاف لمفعوله تجوز به عن العبادة أو هو بمعنى التذكير مضاف لفاعله ويفسر بالموعظة وقال بعضهم المراد بالذكر الوحي أن (وَمَنْ يُعْرِضْ) عن عبادة ربه تعالى أو عن موعظته سبحانه أو عن وحيه عزوجل (يَسْلُكْهُ) مضمن معنى ندخله ولذا تعدى إلى المفعول الثاني أعني قوله تعالى (عَذاباً صَعَداً) بنفسه دون فى أو هو من باب الحذف والإيصال والصعد مصدر وصف به مبالغة أو تأويلا أي ندخله عذابا يعلو المعذب ويغلبه وفسر بشاق يقال فلان في صعد من أمره أي في مشقة ومنه قول عمر رضي الله تعالى عنه ما تصعدني شيء كما تصعدني خطبة النكاح أي ما شق عليّ وكأنه أخذ إنما قال ذلك لأنه كان من عادتهم أن يذكروا جميع ما كان في الخاطب من الأوصاف الموروثة والمكتسبة فكان يشق عليه ارتجالا ، أو كان يشق أن يقول الصدق في وجه الخاطب وعشيرته وقيل إنما شق من الوجوه ونظر بعضهم إلى بعض وقال أبو سعيد الخدري وابن عباس : صعد جبل في النار قال الخدري كلما وضعوا أيديهم عليه ذابت وقال عكرمة هو صخرة ملساء في جهنم يكلف صعودها فإذا انتهى إلى أعلاها جدر إلى جهنم فعلى هذا قال أبو حيان : يجوز أن يكون بدلا من عذاب على حذف مضاف أي عذاب صعد ويجوز أن يكون مفعول (نَسْلُكُهُ) و (عَذاباً) مفعول من أجله وقرأ الكوفيون (يَسْلُكْهُ) بالياء وباقي السبعة بالنون وابن جندب بالنون من أسلك وبعض التابعين بالياء كذلك وهما لغتان سلك وأسلك قال الشاعر يصف جيشا مهزومين :

حتى إذا أسلكوهم في قتائدة (١)

شلا كما تطرد الجمالة الشردا

(وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً (١٨) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (١٩) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (٢٠) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (٢٣) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (٢٤) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ

__________________

(١) قتائدة ثنية معروفة ا ه منه.

١٠١

رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً)(٢٨)

وقرأ قوم «صعدا» بضمتين وابن عباس والحسن بضم الصاد وفتح العين قال الحسن معناه لا راحة فيه (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) عطف على (أَنَّهُ اسْتَمَعَ) فهو من جملة الموحى والظاهر أن المراد بالمساجد المواضع المعدة للصلاة والعبادة أي وأوحي إليّ أن المساجد مختصة بالله تعالى شأنه (فَلا تَدْعُوا) أي فلا تعبدوا فيها (مَعَ اللهِ أَحَداً) غيره سبحانه. وقال الحسن المراد كل موضع سجد فيه من الأرض سواء أعد لذلك أم لا إذ الأرض كلها مسجد لهذه الأمة وكأنه ذلك مما في الحديث الصحيح : «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» واشتهر أن هذا من خصائص نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي شريعته فيكون له ولأمته عليه الصلاة والسلام وكان من قبل إنما تباح لهم الصلاة في البيع والكنائس واستشكل بأن عيسى عليه‌السلام كان يكثر السياحة وغيره من الأنبياء عليهم‌السلام يسافرون فإذا لم تجز لهم الصلاة في غير ما ذكر لزم ترك الصلاة في كثير من الأوقات وهو بعيد لا سيما في الخضر عليه‌السلام ولذا قيل المخصوص كونها مسجدا وطهورا أي المجموع ويكفي في اختصاصه اختصاص التيمم وأجيب بأن المراد الاختصاص بالنسبة إلى الأمم السالفة دون أنبيائها عليهم‌السلام والخضر إن كان حيّا اليوم فهو من هذه الأمة سواء كان نبيا أم لا لخبر لو كان موسى حيا ما وسعه إلّا اتباعي وحكمه قبله نبيا ظاهر والأمر فيه غير نبي سهل وقيل المراد بها المسجد الحرام أي الكعبة نفسها أو الحرم كله على ما قيل والجمع لأن كل ناحية منه مسجد له قبلة مخصوصة أو لأنه لما كان قبلة المساجد فإن كل قبلة متوجهة نحوه جعل كأنه جميع المساجد مجازا وقيل : المراد هو وبيت المقدس فقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس لم يكن يوم نزلت (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) إلخ في الأرض مسجدا لا المسجد الحرام ومسجد إيليا بيت المقدس وأمر الجمع عليه أظهر منه على الأول لا أنه كالأول خلاف الظاهر وما ذكر لا يتم دليلا له. وقال ابن عطاء وابن جبير والزجاج والفراء المراد بها الأعضاء السبعة التي يسجد عليها واحدها مسجد بفتح الجيم وهي القدمان والركبتان والكفان والوجه أي الجبهة والأنف. وروي أن المعتصم سأل أبا جعفر محمد بن عليّ بن موسى الكاظم رضي الله تعالى عنهم عن ذلك فأجاب بما ذكر. وقيل السجدات على أن المسجد بفتح الجيم مصدر ميمي ونقل عن الخليل بن أحمد أن قوله تعالى (وَأَنَّ الْمَساجِدَ) بتقدير لام التعليل وهو متعلق بما بعد و (الْمَساجِدَ) بمعناها المعروف أي لأن (الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) ولما لم تكن الفاء في جواب شرط محقق كانت في الحقيقة زائدة فلا يمتنع تقديم معمول ما بعدها عليها نعم قال غير واحد جيء بها لتضمن الكلام معنى الشرط ، والمعنى أن الله تعالى يحب أن يوحد ولا يشرك به أحد فإن لم يوحدوه في سائر المواضع فلا تدعوا معه أحدا في المساجد لأن المساجد له سبحانه مختصة به عزوجل فالإشراك فيها أقبح وأقبح ونظير هذا قوله تعالى (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا) [قريش : ١ ـ ٣] على وجه ولا يعد ذلك من الشرط المحقق ويندفع بما ذكر لزوم جعل الفاء لغوا لأنها للسببية ومعناها مستفاد من اللام المقدرة وقيل في دفعه أيضا أنها تأكيد للام أو زائدة جيء بها للإشعار بمعناها وأنها مقدرة والخطاب في (تَدْعُوا) قيل للجن وأيد بما روي عن ابن جبير قال : إن الجن قالوا يا رسول الله كيف نشهد الصلاة معك على نأينا عنك فنزلت الآية ليخاطبهم على معنى أن عبادتكم حيث كانت مقبولة إذا لم تشركوا فيها. وقيل هو خطاب عام وعن قتادة كان اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله

١٠٢

عزوجل فأمرنا أن نخلص لله تعالى الدعوة إذا دخلنا المساجد يعني بهذه الآية وعن ابن جريج بدل (فأمرنا) إلخ «فأمرهم أن يوحدوه» وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يتعلق بذلك أيضا وقرأ كما في البحر ابن هرمز وطلحة «وإن المساجد» بكسر همزة «إن» وحمل ذلك على الاستئناف (وَأَنَّهُ) بفتح الهمزة عند الجمهور على أنه عطف على (أَنَّهُ (١) اسْتَمَعَ) كالذي قبله فهو من كلامه تعالى أي وأوحى إليّ أن الشان (لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ) أي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقوله تعالى (يَدْعُوهُ) حال من (عَبْدُ) أي لما قام عابدا له عزوجل وذلك قيامه عليه الصلاة والسلام لصلاة الفجر بنخلة كما مر (كادُوا) أي الجن كما قال ابن عباس والضحاك (يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) متراكمين من ازدحامهم عليه تعجبا مما شاهدوا من عبادته وسمعوا من قراءته واقتداء أصحابه به قياما وركوعا وسجودا لأنهم رأوا ما لم يروا مثله وسمعوا ما لم يسمعوا نظيره وهذا كالظاهر في أنهم كانوا كثيرين لا تسعة ونحوها وإيراده عليه الصلاة والسلام بلفظ العبد دون لفظ النبي أو الرسول أو الضمير إما لأنه مقول على لسانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه أمر أن يقول أوحي كذا فجيء به على ما يقتضيه مقام العبودية والتواضع ، أو لأنه تعالى عدل عن ذلك تنبيها على أن العبادة من العبد لا تستبعد ، ونقل عليه الصلاة والسلام كلامه سبحانه كما هو رفعا لنفسه عن البين فلا وجود للأثر بعد العين وحيث كان هذا العدول منه جل وعلا إما لكذا أو لكذا لا أنه تصرف من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يمتنع كما قال بعض الأجلة الجمع بين الحسنيين. وقال الحسن وقتادة ضمير (كادُوا) لكفار قريش والعرب فيراد بالقيام القيام بالرسالة وبالتلبد التلبد للعداوة والمعنى وأنه لما قام عبد الله بالرسالة يدعو لله تعالى وحده ويذر ما كانوا يدعون من دونه كادوا لتظاهرهم عليه وتعاونهم على عداوته يزدحمون عليه متراكمين وجوز أن يكون الضمير على هذا للجن والإنس. وعن قتادة أيضا ما يقتضيه قال : تلبدت الإنس والجن على هذا الأمر ليطفئوه فأبى الله تعالى إلا أن ينصره على من ناوأه وفي البحر أبعد من قال عبد الله هنا نوح عليه‌السلام كاد قومه يقتلونه حتى استنقذه الله تعالى منهم قاله الحسن وأبعد منه قول من قال إنه عبد الله بن سلام ا ه ولعمري إنه لا ينبغي القول بذلك ولا أظن له صحة بوجه من الوجوه. وقرأ نافع وأبو بكر كما قدمنا وابن هرمز وطلحة كما في الحبر «وإنه» بكسر الهمزة وحمل على أن الجملة استئنافية من كلامه عزوجل وجوز أن تكون من كلام الجن معطوفة على جملة (إِنَّا سَمِعْنا) حكوا فيها لقومهم لما رجعوا إليهم ما رأوا من صلاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وازدحام أصحابه عليه في ائتمامهم به وحكي ذلك عن ابن جبير وجوز نحو هذا على قراءة الفتح بناء على ما سمعت عن أبي حاتم أو بتقدير ونخبركم بأنه أو نحوه هذا. وفي الكشف الوجه على تقدير أن يكون (وَأَنَّ الْمَساجِدَ) من جملة الموحي أن يكون (فَلا تَدْعُوا) خطابا للجن محكيا إن جعل قوله تعالى «وإنه لما قام» على قراءة الكسر من مقول الجن لئلا ينفك النظم لو جعل ابتداء قصة ووحيا آخر منقطعا عن حكاية الجن وكذلك لو جعل ضمير (كادُوا) للجن على قراءة الفتح أيضا والأصل أن المساجد لله فلا تدعوا أيها الجن مع الله أحدا فقيل قل يا محمد لمشركي مكة (أُوحِيَ إِلَيَ) كذا وإذا كان كذلك فيجيء في ضمن الحكاية إثبات هذا الحكم بالنسبة إلى المخاطبين أيضا لاتحاد العلة ، وأما لو جعل خطابا عاما فالوجه أن يكون ضمير (كادُوا) راجعا إلى المشركين أو إلى الجن والإنس وأن يكون على قراءة الكسر جملة استئنافية ابتداء قصة منه جل شأنه في الإخبار عن حال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو تمهيد لما يأتي من بعد وتوكيد لما ذكر من قبل فكأنه قيل : قل لمشركي مكة ما كان من حديث الجن وإيمان بعضهم وكفر آخرين منهم ليكون حكاية ذلك لطفا لهم في الانتهاء عما كانوا فيه وحثا على الإيمان ثم قيل (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ) ويوحده كاد الفريقان من كفرة الجن والإنس (يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) دلالة على عدم ارتداعهم مع هذه الدلائل الباهرة والآيات النيرة ،

١٠٣

وما أحسن التقابل بين قوله تعالى (وَأَنَّ الْمَساجِدَ) وبين هذا القول كأنهم نهوا كلهم عن الإشراك ودعوا إلى التوحيد فقابلوا ذلك بعداوة من يوحد الله سبحانه ويدعوه ولم يرضوا بالاباء وحده وهذا من خواص الكتاب الكريم وبديع أسلوبه إذا أخذ في قصة غب قصه جعلهما متناصفتين فيما سيق له الكلام وزاد عليه التآخي بينهما. في تناسب خاتمة الأولى وفاتحة الثانية ، ولعل هذا الوجه من الوجاهة بمكان وأما لو فسر بما حكي عن الخليل ولأن المساجد لله فلا تدعوا إلخ فالوجه أن يكون استطرادا ذكر عقيب وعيد المعرض والحمل على هذا على الأعضاء السبعة أظهر لأن فيه تذكيرا لكونه تعالى المنع بها عليهم وتنبها على أن الحكمة في خلقها خدمة المعبود من حيث العدول عن لفظ الأعضاء وأسمائها الخاصة إلى المساجد ودلالة على أن ذلك ينافي الإشراك وحينئذ لا يبقى إشكال في ارتباط ما بعده بما قبله على القراءتين والأوجه والله تعالى أعلم ا ه فتأمل. واللبد بكسر اللام وفتح الباء كما قرأ الجمهور جمع لبدة بالكسر نحو كسرة وكسر وهي الجماعات شبهت بالشيء المتلبد بعضه فوق بعض ويقال للجراد ومنه كما قال الجبائي قول عبد مناف بن ربع الهذلي :

صافوا بستة أبيات وأربعة

حتى كأن عليهم جابيا لبدا

وقرأ مجاهد وابن محيصن وابن عامر بخلاف عنه «لبدا» بضم اللام جمع لبدة كزبرة وزبر وعن ابن محيصن أيضا تسكين الباء وضم اللام وقرأ الحسن والجحدري وأبو حيوة وجماعة عن أبي عمرو بضمتين جمع لبد كرهن ورهن أو جمع لبود كصبور وصبر وقرأ الحسن والجحدري أيضا بخلاف عنهما «لبّدا» بضم اللام وتشديد الباء جمع لا بد وأبو رجاء بكسرها وشد الباء المفتوحة (قُلْ إِنَّما أَدْعُوا) أعبد (رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ) في العبادة (أَحَداً) فليس ذلك ببدع ولا مستنكر يوجب التعجب أو الاطباق على عداوتي وقرأ الأكثرون «قال» على أنه حكاية منه تعالى لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمتراكمين عليه أو حكاية من الجن له عند رجوعهم إلى قومهم فلا تغفل وقراءة الأمر وهي قراءة عاصم وحمزة وأبي عمرو بخلاف عنه أظهر وأوقف لقوله سبحانه (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً) أي ولا نفعا تعبيرا باسم السبب عن المسبب ، والمعنى لا أستطيع أن أضركم ولا أنفعكم إنما الضار والنافع هو الله عزوجل أو لا أملك لكم غيّا ولا رشدا على أن الضر مراد به الغي تعبير باسم السبب عن السبب ويدل عليه قراءة أبي «غيّا» بدل (ضَرًّا) والمعنى لا أستطيع أن أقسركم على الغي والرشد إنما القادر على ذلك هو الله سبحانه وتعالى وجوز أن يكون في الآية الاحتباك والأصل لا أملك لكم ضرا ولا نفعا ولا غيا ولا رشدا فترك من كلا المتقابلين ما ذكر في الآخر. وقرأ الأعرج «رشدا» بضمتين (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ) إن أرادني سبحانه بسوء (وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) أي معدلا ومنحرفا وقال الكلبي مدخلا في الأرض وقال السدي حرزا وأصله المدخل من اللحد والمراد ملجأ يركن إليه وأنشدوا :

يا لهف نفسي ونفسي غير مجدية

عني وما من قضاء الله ملتحد

وجوز فيه الراغب كونه اسم مكان وكونه مصدرا وهذا على ما قيل بيان لعجزه عليه الصلاة والسلام عن شئون نفسه بعد بيان عجزه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن شئون غيره وقيل في الكلام حذف وهو قالوا اترك ما تدعو إليه ونحن نجيرك فقيل له (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي) إلخ وقيل هو جواب لقول ورد أن سيد الجن وقد ازدحموا عليه أنا أرحلهم عنك فقال (إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي) إلخ ذكره الماوردي والقولان ليسا بشيء وقوله تعالى (إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللهِ) استثناء من مفعول (لا أَمْلِكُ) كما يشير إليه كلام قتادة وما بينهما اعتراض مؤكد لنفي الاستطاعة فلا اعتراض بكثرة الفصل المبعدة لذلك فإن كان المعنى لا أملك أن أضركم ولا أنفعكم كان استثناء متصلا كأنه

١٠٤

قيل لا أملك شيئا إلّا بلاغا وإن كان المعنى لا أملك أن أقسركم على الغي والرشد كان منقطعا أو من باب :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

كما في الكشف وظاهر كلام بعض الأجلة أنه إما استثناء متصل من (رَشَداً) فإن الإبلاغ إرشاد ونفع والاستثناء من المعطوف دون المعطوف عليه جائز ، وأما استثناء منقطع من (مُلْتَحَداً) قال الرازي لأن البلاغ من الله تعالى لا يكون داخلا تحت قوله سبحانه (مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) لأنه لا يكون من دون الله سبحانه بل منه جل وعلا وبإعانته وتوفيقه. وفي البحر قال الحسن هو استثناء منقطع أي (لَنْ يُجِيرَنِي) أحد لكن إن بلغت رحمتي بذلك والإجارة مستعارة للبلاغ إذ هو سبب إجارة الله تعالى ورحمته سبحانه وقيل هو على هذا المعنى استثناء متصل. والمعنى لن أجد شيئا أميل إليه وأعتصم به إلّا أن أبلغ وأطيع فيجيرني فيجوز نصبه على الاستثناء من (مُلْتَحَداً) أو على البدل وهو الوجه لأن قبله نفيا وعلى البدل خرجه الزجاج انتهى. والأظهر ما تقدم وقيل إن إلّا مركبة من أن الشرطية ولا النافية والمعنى أن لا أبلغ بلاغا وما قبله دليل الجواب فهو كقولك إلّا قياما فقعودا وظاهره أن المصدر سد مسد الشرط كمعمول كان ولهم في حذف جملة الشرط مع بقاء الأداة كلام والظاهر إن اطراد حذفه مشروط ببقاء لا كما في قوله :

فطلقها فلست لها بكفء

وإلّا يعل مفرقك الحسام

ما لم يسد مسده شيء من معمول أو مفسر ك (إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ) [التوبة : ٦] والناس مجزيون بأعمالهم إن خيرا فخير وهذا الوجه خلاف المتبادر كما لا يخفى وقوله تعالى (وَرِسالاتِهِ) عطف على (بَلاغاً) و (مِنَ اللهِ) متعلق بمحذوف وقع صفة له أي بلاغا كائنا من الله وليس بصلة له لأنه يستعمل بعن كما في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بلغوا عني ولو آية» والمعنى على ما علمت أولا في الاستثناء لا أملك لكم إلّا تبليغا كائنا منه تعالى ورسالاته التي أرسلني عزوجل بها. وفي الكشف في الكلام إضمار أي بلاغ رسالته وأصل الكلام إلّا بلاغ رسالات الله فعدل إلى المنزل ليدل على التبليغين مبالغة وإن كلا من المعنيين أعني كونه من الله تعالى وكونه بلاغ رسالاته يقتضي التشمر لذلك انتهى. وفي عبارة الكشاف رمز ما إليه لكن قيل عليه لا ينبغي تقدير المضاف فيه أعني بلاغ فإنه يكون العطف حينئذ من عطف الشيء على نفسه إلّا أن يوجه بأن البلاغ من الله تعالى فيما أخذه عنه سبحانه بغير واسطة والبلاغ للرسالات فيما هو بها وهو بعيد غاية البعد فافهم. واستظهر أبو حيان عطفه على الاسم الجليل فقال الظاهر عطف (رِسالاتِهِ) على (اللهِ) أي إلّا أن أبلغ عن الله وعن رسالاته وظاهره جعل (مِنَ) بمعنى عن وقد تقدم منه أنها لابتداء الغاية. وقرئ «قال لا أملك» أي قال عبد الله للمشركين أو للجن وجوز أن يكون من حكاية الجن لقومهم. هذا ووجه ارتباط الآية بما قبلها قيل بناء على أن التلبد للعداوة أنهم لما تلبدوا عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم متظاهرين للعداوة قيل له عليه الصلاة والسلام (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً) أي ما أردت إلّا نفعكم وقابلتموني بالإساءة وليس في استطاعتي النفع الذي أردت ولا الضر الذي أكافئكم به إنما ذان إلى الله تعالى وفيه تهديد عظيم وتوكيل إلى الله جل وعلا وأنه سبحانه هو الذي يجزيه بحسن صنيعه وسوء صنيعهم ، ثم فيه مبالغة من حيث إنه لا يدع التبليغ لتظاهرهم هذا فإن الذي يستطيعه عليه الصلاة والسلام هو التبليغ ولا يدع المستطاع ولهذا قال (إِلَّا بَلاغاً) وجعله بدلا من (مُلْتَحَداً) شديد الطباق على هذا والشرط قريب منه ، وأما إن كان الخطاب للجن والتلبد للتعجب

١٠٥

فالوجه أنهم لما تلبدوا لذلك قيل له عليه الصلاة والسلام قل لهم ما لكم ازدحمتم علي متعجبين مني ومن تطامن أصحابي على العبادة أني ليس إليّ النفع والضر إنما أنا مبلغ عن الضار النافع فأقبلوا أنتم مثلنا على العبادة ولا تقبلوا على التعجب فإن العجب ممن يعرض عن المنعم المنتقم الضار النافع ولعل اعتبار قوة الارتباط يقتضي أولوية كون التلبد كان للعداوة ومعصية الرسول عليه الصلاة والسلام (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي في الأمر بالتوحيد إذ الكلام فيه فلا يصح استدلال المعتزلة ونحوهم بالآية على تخليد العصاة في النار وجوز أن يراد بالرسول رسول الملائكة عليهم‌السلام دون رسول البشر فالمراد بعصيانه أن لا يبلغ المرسل إليه ما وصل إليه كما وصل وهو خلاف الظاهر (فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) أي في النار أو في جهنم وجمع (خالِدِينَ) باعتبار معنى (مِنَ) كما أن الإفراد قبل باعتبار لفظها ولو روعي هنا أيضا لقيل خالدا (أَبَداً) بلا نهاية. وقرأ طلحة «فإن» بفتح الهمزة على أن التقدير كما قال ابن الأنباري وغيره فجزاءه أن له إلخ وقد نص النحاة على أن أن بعد فاء الشرط يجوز فيها الفتح والكسر فقول ابن مجاهد ما قرأ به أحد وهو لحن لأنه بعد فاء الشرط ناشئ من قلة تتبعه وضعفه في النحو وقوله تعالى (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً) جملة شرطية مقرونة بحتى الابتدائية وهي وإن لم تكن جارة فيها معنى الغاية فمدخولها غاية لمحذوف دلت عليه الحال من استضعاف الكفار لأنصاره عليه الصلاة والسلام واستقلالهم لعدده كأنه قيل : لا يزالون يستضعفون ويستهزءون حتى إذا رأوا ما يوعدون من فنون العذاب في الآخرة تبين لهم أن المستضعف من هو ويدل على ذلك أيضا جواب الشرط وكذا ما قيل على ما قيل لأن قوله سبحانه (قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي) تعريض بالمشركين كيفما قدر بل السورة الكريمة من مفتتحها مسوقة للتعريض بحال مشركي مكة وتسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتسرية عنه عليه الصلاة والسلام وتعبير لهم بقصور نظرهم عن الجن مع ادعائهم الفطانة وقلة إنصافهم ومبادهتهم بالتكذيب والاستهزاء بدل مبادهة الجن بالتصديق والاستهداء ، ويجوز جعل ذلك غاية لقوله تعالى (يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) إن فسر بالتلبد على العداوة ولا مانع من تخلل أمور غير أجنبية بين الغاية والمغيا فقول أبي حيان أنه بعيد جدا لطول الفصل بينهما بالجمل الكثيرة ليس بشيء كجعله إياه غاية لما تضمنته الجملة قبل يعني فإن له نار جهنم من الحكم بكينونة النار له ومثل ذلك ما قيل من أنه غاية لمحذوف والتقدير دعهم حتى إذا رأوا إلخ والظاهر أن (مَنْ) استفهامية كما أشرنا إليه وهي مبتدأ و (أَضْعَفُ) خبر والجملة في موضع نصب بما قبلها وقد علق عن العمل لمكان الاستفهام وجوز كونها موصولة في موضع نصب ب (يعلمون) و (أَضْعَفُ) خبر مبتدأ محذوف والجملة صلة لمن والتقدير فسيعرفون الذي هو أضعف وحسن حذف صدر الصلة طولها بالتمييز وجوز تفسير (ما يُوعَدُونَ) بيوم بدر ورجح الأول بأن الظاهر أن قوله سبحانه (قُلْ إِنْ أَدْرِي) أي ما أدري (أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً) رد لما قاله المشركون عند سماعهم ذلك ، ومقتضى حالهم أنهم قالوا إنكارا واستهزاء متى يكون ذلك الموعود بل روي عن مقاتل أن النضر بن الحارث قال ذلك فقيل قل إنه كائن لا محالة وأما وقته فما أدري متى يكون والأحرى بسؤالهم وهذا الجواب إرادة ما في يوم القيامة المنكرين له أشد الإنكار والخفي وقته عن الخلائق غاية الخفاء والمراد بالأمد الزمان البعيد بقرينة المقابلة بالقريب وإلّا فهو وضعا شامل لهما ولذا وصف ببعيدا في قوله تعالى (تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) [آل عمران : ٣٠] وقيل إن معنى القرب ينبئ عن مشارفة النهاية فكأنه قيل لا أدري أهو حال متوقع في كل ساعة أم هو مؤجل ضرب له غاية والأول أولى وأقرب (عالِمُ الْغَيْبِ) بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو سبحانه عالم الغيب وجوز أبو حيان كونه

١٠٦

بدلا من (رَبِّي) وغيره أيضا كونه بيانا له ويأبى الوجهين الفاء في قوله تعالى (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً) إذ يكون النظم حينئذ (أَمْ يَجْعَلُ) له عالم الغيب (أَمَداً فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً) وفيه من الإخلال ما لا يخفى ، وإضافة (عالِمُ) إلى (الْغَيْبِ) محصنة لقصد الثبات فيه فيفد تعريف الطرفين التخصيص وتعريف الغيب للاستغراق وفي الرضي أن اسم الجنس أعني الذي يقع على القليل والكثير بلفظ الواحد إذا استعمل ولم تقم قرينة تخصصه ببعض ما يصدق عليه فهو في الظاهر لاستغراق الجنس أخذا من استقراء كلامهم فمعنى التراب يابس والماء بارد كل ما فيه هاتان الماهيتان حاله كذا فلو قلت في قولهم النوم ينقض الطهارة النوم مع الجلوس لا ينقضها لكان مناقضا لذلك اللفظ انتهى. وهو يؤيد إرادة ذلك هنا لأن الغيب كالماء يقع على القليل والكثير بلفظ واحد ولا يضر في ذلك جمعه على غيوب كما لا يضر فيه جمع الماء على المياه وكذا المراد بغيبه جميع غيبه وقد نص عليه عزمي زاده معللا له بكون اسم الجنس المضاف بمنزلة المعرف باللام سيما إذا كان في الأصل مصدرا وعزى إلى شرح المقاصد ما يقتضيه وربما يقال يفهم ذلك أيضا من اعتبار كون الإضافة للعهد وأن المعهود هو الغيب المستغرق أو من اعتبارها للاختصاص وأن الغيب المختص به تعالى بمعنى المختص علمه سبحانه به هو كل غيب واعتناء بشأن الاختصاص جيء بالمظهر موضع المضمر والجملة استئناف لدفع توهم نقص من نفى الدارية والفاء لترتيب عدم الإظهار على تفرده تعالى بعلم الغيب والمراد بالإظهار المنفي الاطلاع الكامل الذي تنكشف به جلية الحال على أتم وجه كما يرشد إليه حرف الاستعلاء فكأنه قيل ما عليّ إذا قلت ما أدري قرب ذلك الموعد الغيب ولا بعده فالله سبحانه وتعالى عالم كل غيب وحده فلا يطلع على ذلك المختص علمه به تعالى اطلاعا كاملا أحدا من خلقه ليكون أليق بالتفرد وأبعد عن توهم مساواة علم خلقه لعلمه سبحانه وإنما يطلع جل وعلا إذا اطلع من شاء على بعضه مما تقتضيه الحكمة التي هي مدار سائر أفعاله عزوجل وما نفيت عني العلم به مما لم يطلعني الله تعالى عليه لما أن الاطلاع عليه مما لا تقتضيه الحكمة التشريعية التي يدور عليها فلك الرسالة بل هو مخل بها وإن شئت فاعتبر الجملة واقعة موقع التعليل لنفي الدراية السابقة ولما كان مساق الكلام مما قد يتوهمون منه أنه عليه الصلاة والسلام لم يطلع على شيء من الغيب عقّب عزوجل الكلام بالاستثناء المنقطع كما روي في البحر عن ابن عباس الذي هو بمعنى الاستدراك لدفع ذلك على أبلغ وجه حيث عمم الأمر في الرسل المرتضين وأقام كيفية الإظهار مقام الإظهار مع الإشارة إلى البعض الذي اطلعوا عليه المناسب لمقام الدعوة فقال عزّ من قائل (إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) أي لكن الرسول المرتضى يظهره جل وعلا على بعض الغيوب المتعلقة برسالته كما يعرب عنه بيان من ارتضى بالرسول تعلقا ما إما لكونه من مبادئها بأن يكون معجزة وإما لكونه من أركانها وأحكامها كعامة التكاليف الشرعية وكيفيات الأعمال وأجزيتها ونحو ذلك من الأمور الغيبية التي بيانها من وظائف الرسالة بأن يسلك من جميع جوانبه عند اطلاعه على ذلك حرسا من الملائكة عليهم‌السلام يحرسونه من تعرض الشياطين لما أريد اطلاعه عليه اختطافا أو تخليطا (لِيَعْلَمَ) متعلق ب (يَسْلُكُ) وعلة له والضمير لمن أي لأجل أن يعلم ذلك المرتضى الرسول ويصدق تصديقا جازما ثابتا مطابقا للواقع (أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا) أي الشأن قد أبلغ إليه الرصد وهو من قبيل : بنو تميم قتلوا زيدا فإن المبلغ في الحقيقة واحد معهم وهو جبريل عليه‌السلام كما هو المشهور من أنه المبلغ من بين الملائكة عليهم‌السلام إلى الأنبياء (رِسالاتِ رَبِّهِمْ) وهي الغيوب المظهر عليها كما هي من غير اختطاف ولا تخليط ، وعلى هذا فليكن من مبتدأ وجملة إنه (يَسْلُكُ) خبره وجيء بالفاء لكونه اسم موصول وقوله تعالى (وَأَحاطَ

١٠٧

بِما لَدَيْهِمْ) أي بما عند الرصد (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ) أي مما كان ومما سيكون (عَدَداً) أي فردا فردا حال من فاعل (يَسْلُكُ) بتقدير قد أو بدونه جيء به لمزيد الاعتناء بأمر علمه تعالى بجميع الأشياء وتفرده سبحانه بذلك على أتم وجه بحيث لا يشاركه سبحانه في ذلك الملائكة الذين هم وسائط العلم فكأنه قيل لكن المرتضى الرسول يعلمه الله تعالى بواسطة الملائكة بعض الغيوب مما له تعلق ما برسالته والحال أنه تعالى قد أحاط علما بجميع أحوال أولئك الوسائط وعلم جل وعلا جميع الأشياء بوجه جزئي تفصيلي فأين الوسائط منه تعالى أو حال من فاعل أبلغوا جيء به للإشارة إلى أن الرصد أنفسهم لم يزيدوا ولم ينقصوا فيما بلغوا كأنه قيل ليعلم الرسول أن قد أبلغ الرصد إليه رسالات ربه في حال أن الله تعالى قد علم جميع أحوالهم وعلم كل شيء فلو أنهم زادوا أو نقصوا عند الإبلاغ لعلمه سبحانه فما كان يختارهم للرصدية والحفظ هذا ما سنح لذهني القاصر في تفسير هذه الآيات الكريمة ولست على يقين من أمره بيد أن الاستدلال بقوله سبحانه (فَلا يُظْهِرُ) إلخ على نفي كرامة الأولياء بالاطلاع على بعض الغيوب لا يتم عليه لأن قوله تعالى (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً) في قوة قضية سالبة جزئية لدخول ما يفيد العموم في حيز السلب وأكثر استعمالاته لسلب العموم وصرح به فيما هنا في شرح المقاصد لا لعموم السلب وهو سلب جزئي فلا ينافي الإيجاب الجزئي كأن يظهر بعض الغيب على ولي على نحو ما قال بعض أهل السنة في قوله تعالى (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) [الأنعام : ١٠٣] ولا يرد أن الاستثناء يقتضي أن يكون المرتضى الرسول مظهرا على جميع غيبه تعالى بناء على أن الاستثناء من النفي يقتضي إيجاب نقيضه للمستثنى ونقيض السالبة الجزئية الموجبة الكلية مع أنه سبحانه لا يظهر أحدا كائنا من كان على جميع ما يعلمه عزوجل من الغيب وذلك لانقطاع الاستثناء المصرّح به ابن عباس وكذا لا يرد أن الله تعالى نفى إظهار شيء من غيبه على أحد إلّا على الرسول فيلزم أن لا يظهر سبحانه أحدا من الملائكة على شيء منه لأن الرسول هنا ظاهر في الرسول البشري لقوله تعالى (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ) إلخ وذلك ليس إلّا فيه كما لا يخفى على من علم حكمة ذلك ويلزم أن لا يظهر أيضا أحدا من الأنبياء الذين ليسوا برسل بناء على إرادة المعنى الخاص من الرسول هنا وذلك لما ذكرنا أولا وكذا لا يرد أنه يلزم أن لا يظهر المرتضى الرسول على شيء من الغيوب التي لا تتعلق برسالته ولا يخل الإظهار عليها بالحكمة التشريعية إذ لا حصر للبعض المظهر فيما يتعلق بالرسالة وإنما أشير إلى المتعلق بها لاقتضاء المقام لذلك وكون كل غيب يظهر عليه الرسول لا يكون إلا متعلقا برسالته محل توقف وللمفسرين هاهنا كلام لا بأس بذكره بما له وما عليه حسب الإمكان ثم الأمر بعد ذلك إليك فنقول لما كان مذهب أكثر أهل السنة القول بكرامة الولي بالاطلاع على الغيب وكان ظاهر قوله تعالى (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ) إلخ دالا على نفيها ولذا قال الزمخشري إن في هذا إبطال الكرامات أي في الجملة وهي ما كان من الإظهار على الغيب لأن الذين تضاف إليهم وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل ، وقد خص الله تعالى الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب وإبطال الكهانة والتنجيم لأن أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء وأدخله في السخط انتهى. أنجدوا وأتهموا وأيمنوا وأشأموا في تفسير الآية على وجه لا ينافي مذهبهم ولا يتم عليه استدلال المعتزلي على مذهبه فقال الإمام ليس في قوله تعالى (عَلى غَيْبِهِ) صيغة عموم فيكفي في العمل بمقتضاه أن لا يظهر تعالى خلقه على غيب واحد من غيوبه فنحمله على وقت وقوع القيامة فيكون المراد من الآية أنه تعالى لا يظهر هذا الغيب لأحد فلا يبقى في الآية دلالة على أنه سبحانه لا يظهر شيئا من الغيوب لأحد ويؤكد ذلك وقوع الآية بعد قوله تعالى (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ) والمراد به وقوع يوم القيامة ثم قال فإن قيل إذا حملتم ذلك على القيامة فكيف

١٠٨

قال سبحانه (إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) مع أنه لا يظهر هذا الغيب لأحد من رسله قلنا بل يظهره عند القرب من إقامة القيامة وكيف لا وقد قال تعالى (يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) [الفرقان : ٢٥] ولا شك أن الملائكة يعلمون في ذلك الوقت وأيضا يحتمل أن يكون هذا الاستثناء منقطعا كأنه قيل (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ) المخصوص وهو قيام القيامة (أَحَداً) ثم قيل (إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) حفظة يحفظونه من شر مردة الإنس والجن انتهى. وتعقب بأن في غيبه ما يدل على العموم كما سمعت أولا والسياق لا يأباه اللهم إلا أن يطعن في ذلك. وأيضا ظاهر جوابه الأول عن القيل كون المراد بالرسول في الآية الرسول الملكي ويأباه ما بعد من قوله تعالى (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ) إلخ على أن علم الملائكة بوقت الساعة يوم تشقق السماء ليس من الإظهار على الغيب بل هو من إظهار الغيب وإبرازه للشهادة كإظهار المطر عند نزوله وما في الأرحام عند وضعه إلى غير ذلك ، وأيضا الانقطاع على الوجه الذي ذكره بعيد جدا إذ فيه قطع المناسبة بين السابق واللاحق بالكلية اللهم إلّا أن يقال مثله لا يضر في المنقطع وقيل إن الإظهار على الغيب بمعنى الاطلاع عليه على أتم وجه بحيث يحصل به أعلى مراتب العلم والمراد عموم السلب ولا يضر في ذلك دخول ما يفيد العموم في حيز النفي لأن القاعدة أكثرية لا مطردة لقوله تعالى (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) [الحديد : ٢٣] وقوله سبحانه (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) [البقرة : ٢٧٦] وقد نص على ذلك العلامة التفتازاني فيكون المعنى (فَلا يُظْهِرُ عَلى) شيء من (غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) فإنه سبحانه يظهره على شيء من غيبه بأن يسلك إلخ ولا يرد كرامة الولي إذ ليست من الإظهار المذكور إذ لا يحصل له أعلى مراتب العلم بالغيب الذي يخبر به وإنما يحصل له ظنون صادقة أو نحوها وكذا شأن غيره من أرباب الرياضات من الكفرة وغيرهم وتعقب بأن من الصوفية من قال كالشيخ محيي الدين قدس‌سره بنزول الملك على الولي وإخباره إياه ببعض المغيبات أحيانا ويرشد إلى نزوله عليه قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) [فصلت : ٣٠ ، الأحقاف : ١٣] الآية وكون ما يحصل له إذ ذاك ظن أو نحوه لا علم كالعلم الحاصل للرسول بواسطة الملك لا يخلو عن بحث بل قد يحصل له بواسطة الإلهام والنفث في الروع نحو ما يحصل للرسول وأيضا يلزم أن لا يظهر الملك على الغيب إذ الرسول المستثنى رسول البشر على ما هو الظاهر والتزام أنه لا يظهر بالمعنى السابق ويظهر بواسطته مما لا وجه له أصلا وأيضا يلزم أن ما يحصل للنبي غير الرسول بالمعنى الأخص المتبادر هنا ليس بعلم بالمعنى المذكور وهو كما ترى وقيل المراد بالغيب في الموضعين الجنس والإظهار عليه على ما سمعت وكذا عدم ورود الكرامة والبحث فيه كالبحث في سابقه وزيادة وقال صاحب الكشف في الرد على الزمخشري الغيب إن كان مفسرا بما فسره في قوله تعالى (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) [البقرة : ٣] فالآية حجة عليه لأنه جوز هنالك أن يعلم بإعلامه تعالى أو بنصبه الدليل. وهذا الثاني أعني القسم العقلي تنفيه الآية وترشد إلى أن تهذيب طرق الأدلة أيضا بواسطة الأنبياء عليهم‌السلام والعقل غير مستقل وأهل السنة عن آخرهم على أن الغيب بذلك المعنى لا يطلع عليه إلّا رسول أو آخذ منهم وليس فيه نفي الكرامة أصلا وإن أراد الغائب عن الحس في الحال مطلقا فلا بد من التخصيص بالاتفاق فليس فيه ما ينفيها أيضا وإن فسر بالمعدوم كما ذكره في قوله تعالى (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) [الأنعام : ٧٣ وغيرها] فلا بد أيضا من التخصيص وكذلك لو فسر بما غاب عن العباد أو بالسر على أن ظاهر الآية أنه تعالى عالم كل غيب وحده لا يظهر على غيبه المختص به وهو يتعلق بذاته تعالى وصفاته عزوجل بدلالة الإضافة إلا رسولا وهو كذلك فإن غيبه تعالى لا يطلع عليه إلّا بالإعلام من رسول ملكي أو بشري ولا

١٠٩

كل غيبه تعالى الخاص مطلع عليه بل بعضه وأقل القليل منه فدل المفهوم على أن غير هذا النوع الخاص من الغيب لا منع من اطلاع الله تعالى غير الرسول عليه فهذا ظاهر الآية دون تعسف ثم لو سلم فالثاني إما مستغرق وإذا قال سبحانه لا يطلع على جميعه أحدا إلا من ارتضى من رسول لم يدل على أنه لا يجوز اطلاع غير الرسول على البعض وإما مطلق ينزل على الكامل منه فيرجع إلى ما اخترناه وتعاضد دلالتا تشريف الإضافة والإطلاق فلا وجه لتعليقه بهذه الآية ومنه يظهر أن الاستدلال من الآية على إبطال الكهانة والتنجيم غير ناهض وإن كان إبطالهما حقا لأنكره فضلا عن تكفير من قال بدلالته على حياة أو موت لأنه كفر بهذه الآية كما نقله شيخنا الطيبي عن الواحدي والزجاج وصاحب المطلع انتهى. وبحث فيه بأن حمل غيبه على الغيب الخاص بمعنى ما يتعلق بذاته تعالى وصفاته عزوجل مما لا يناسب السياق وبأن ظاهر ما قرره على احتمال الاستغراق يقتضي على تقدير اتصال الاستثناء وإيجاب ضد ما نفى للمستثنى أن يظهر الرسول على جميع غيبه تعالى إلى ما يظهر بالتأمل وذكر العلامة البيضاوي أولا ما يفهم منه على ما قيل حمل غيبه على العموم مع الاختصاص أي عموم الغيب المخصوص به علمه تعالى وحمل فلا يظهر على سلب العموم وحمل الرسول على الرسول البشري واعتبار الاستثناء منقطعا على أن المعنى (فَلا يُظْهِرُ) على جميع (غَيْبِهِ) المختص به علمه تعالى (أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) فيظهره على بعض غيبه حتى يكون اخباره به معجزة فلا يتم الاستدلال بالآية على نفي الكرامة. وفسر الاختصاص بأنه لا يعلمه بالذات ولكنه علما حقيقيا يقينيا بغير سبب كاطلاع الغير إلا هو سبحانه وأما علم غيره سبحانه لبعضه فليس علما للغيب إلّا بحسب الظاهر وبالنسبة لبعض البشر وقيل أراد بالغيب المخصوص به تعالى ما لم ينصب عليه دليل ولا يقدح في الاختصاص علم الغير به بإعلامه تعالى إذ هو إضافي بالنسبة إلى من لم يعلم. وقال ثانيا في الجواب عن الاستدلال ولعله أراد الجواب عند القوم ما نصه وجوابه تخصيص الرسول بالملك والإظهار بما يكون بغير توسط وكرامات الأولياء على المغيبات إنما تكون تلقيا من الملائكة أي بالنفث في الروع ونحوه وحاصله أن الاستدلال إنما يتم أن لو تحقق كون المراد بالرسول رسول البشر والملك جميعا أو رسول البشر فقط وبالإظهار الإظهار بواسطة أولا والكل ممنوع إذ يجوز أن يخص الرسول برسول الملك وأن يراد بالإظهار الإظهار بلا واسطة ويكون المعنى فلا يظهر بلا واسطة على غيبه إلّا رسل الملائكة ولا ينافي ذلك إظهار الأولياء على غيبه لأنه لا يكون إلّا بالواسطة وهو جواب بمنع المقدمتين وإن كان يكفي فيه منع أحدهما كما فعل الإمام والتفتازاني في شرح المقاصد وتعقب بأن رسل البشر قد يطلعون بغير واسطة أيضا وفي قصة المعراج وتكليم موسى عليه‌السلام ما يكفي في ذلك على أنه قد قيل عليه بعد ما قيل وأغرب ما قيل في هذا المقام كون (إِلَّا) في قوله تعالى (إِلَّا مَنِ ارْتَضى) للعطف والمعنى فلا يظهر على غيبه أحد ولا من ارتضى من رسول وحاله لا يخفى ثم إن تفسير قوله تعالى (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ) إلخ بما سمعت هو الذي عليه جمهور المفسرين وكانت الحفظة الذين ينزلون مع جبريل عليه‌السلام على نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما أخرج ابن المنذر وجماعة عن ابن جبير أربعة وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : ما أنزل الله تعالى على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم آية من القرآن إلّا ومعها أربعة من الملائكة يحفظونها حتى يؤدونها إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قرأ (عالِمُ الْغَيْبِ) الآية وقد يكون مع الوحي أكثر من ذلك ففي بعض الأخبار أنه نزل مع سورة الأنعام سبعون ألف ملك ملك وجاء في شأن آية الكرسي ما جاء وقال ابن كمال لاحت دقيقة بخاطري الفاتر قلما يوجد مثلها في بطون الدفاتر وهي أن المراد (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) في الآية القوى الظاهرة (وَمِنْ خَلْفِهِ) القوى الباطنة ولذلك قال سبحانه (يَسْلُكُ) إلخ أي يدخل حفظة من الملائكة يحفظون قواه الظاهرة

١١٠

والباطنة من الشياطين ويعصمونه من وساوسهم من تينك الجهتين ولو كان المراد حفظة من الجوانب كيلا يقربه الشياطين عند إنزال الوحي فتلقى غير الوحي أو تسمعه فتلقيه إلى الكهنة فتخبر به قبل إخبار الرسول كما ذهب إليه صاحب التيسير وغيره لما كان نظم الكلام على الوجه المذكور فإن عبارة (يَسْلُكُ) وتخصيص الجهتين المذكورتين إنما يناسب ما ذكرناه لا ما ذكروه انتهى ولا يخفى أنه نحو من الإشارة ولعل التعبير بيسلك على تفسير الجمهور لتصوير الجهات التي تأتي منها الشياطين بالثغور الضيقة والمسالك الدقيقة وفي ذلك من الحسن ما فيه وذهب كثير إلى أن ضمير (لِيَعْلَمَ) لله تعالى وضمير (أَبْلَغُوا) إما للرصد أو لمن ارتضى والجمع باعتبار معنى من كما أن الإفراد في الضميرين قبل باعتبار لفظها والمعنى أنه تعالى يسلكهم ليعلم أن الشأن قد أبلغوا رسالات ربهم علما مستتبعا للجزاء وهو أن يعلمه تعالى موجودا حاصلا بالفعل كما في قوله تعالى (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ) [محمد : ٣١] فالغاية في الحقيقة هو الإبلاغ والجهاد وإيراد علمه تعالى لإبراز اعتنائه تعالى بأمرهما والإشعار بترتب الجزاء عليهما والمبالغة في الحث عليهما والتحذير عن التفريط فيهما وقوله تعالى (وَأَحاطَ) إلخ إما عطف على لا يظهر أو حال من فاعل (يَسْلُكُ) جيء به لدفع التوهم وتحقيق استغنائه تعالى في العلم بالإبلاغ عما ذكر من سلك الرصد على الوجه المذكور أو عطف كما زعم بعض على مضمر لأن (لِيَعْلَمَ) متضمن معنى علم فصار المعنى قد علم ذلك وأحاط إلخ وجوز أن يكون ضمير يعلم للرسول الموحى إليه وضمير (أَبْلَغُوا) للرصد النازلين إليه بالوحي. وروي عن ابن جبير ما يؤيده أو للرسل سواه (وَأَحاطَ) إلخ عطف على (أَبْلَغُوا) أو على لا (يُظْهِرُ) وعن مجاهد ليعلم من كذب وأشرك أن الرسل قد أبلغوا وفيه من البعد ما فيه وعليه لا يقع هذا العلم على ما في البحر إلّا في الآخرة وقيل ليعلم إبليس أن الرسل قد أبلغوا وقيل ليعلم الجن أن الرسل قد أبلغوا ما أنزل إليهم ولم يكونوا هم المتلقين باستراق السمع وكلا القولين كما ترى ونصب (عَدَداً) عند جمع على أنه تمييز محول عن المفعول به والأصل أحصى عدد كل شيء إلّا أنه قال أبو حيان في كونه ثابتا من لسان العرب خلاف وأنت تعلم أن التحويل في مثله تقديري وجوز أن يكون حالا أي معدودا محصورا ولا يضر تنكير صاحبها للعموم وأن يكون نصبا على المصدر بمعنى إحصاء فتأمل جميع ذلك والله تعالى الموفق لسلوك أحسن المسالك وقرئ «عالم» بالنصب على المدح «وعلم» فعلا ماضيا «الغيب» بالنصب وقرأ ابن عباس وزيد بن علي «ليعلم» بالبناء للمفعول والزهري وابن أبي عبلة «ليعلم» بضم الياء وكسر اللام من الإعلام أي ليعلم الله تعالى من شاء أن يعلمه أن قد أبلغوا إلخ وقرأ أبو حيوة «رسالة» بالإفراد وقرأ ابن أبي عبلة و «أحيط» و «أحصي» كل بالبناء للمفعول في الفعلين. ورفع «كلّ» على النيابة والفاعل هو الله عزوجل فهو سبحانه المحيط بالأحوال علما والمحصي لكل شيء عددا.

١١١

سورة المزّمّل

مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر وقال ابن عباس وقتادة كما ذكر الماوردي الآيتين منها (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) [المزمل : ١٠] والتي تليها وحكي في البحر عن الجمهور أنها مكية إلا قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ) [المزمل : ٢٠] إلى آخرها وتعقبه الجلال السيوطي بعد أن نقل الاستثناء عن حكاية ابن الفرس بقوله ويرده ما أخرجه الحاكم عن عائشة أن ذلك نزل بعد نزول صدر السورة بسنة وذلك حين فرض قيام الليل في أول الإسلام قبل فرض الصلوات الخمس وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يتعلق بذلك وآيها ثماني عشرة آية في المدني الأخير وتسع عشرة في البصري وعشرون فيما عداهما ولما ختم سبحانه سورة الجن بذكر الرسل عليهم الصلاة والسلام افتتح عزوجل هذه بما يتعلق بخاتمهم عليه وعليهم الصلاة والسلام وهو وجه في المناسبة وفي تناسق الدرر لا يخفى اتصال أولها (قُمِ اللَّيْلَ) [المزمل : ٢] إلخ بقوله تعالى في آخر تلك (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ) [الجن : ١٩] وبقوله سبحانه (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) [الجن : ١٨] الآية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (٥) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (٧) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (٨) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (٩) وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (١٠) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (١١) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (١٢) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (١٣) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (١٤) إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (١٥) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (١٦) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (١٧) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (١٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً)(١٩)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) وقال الأخفش : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) أي المتزمل من تزمل بثيابه إذا تلفف

١١٢

بها فأدغم التاء في الزاي وقد قرأ أبيّ على الأصل وعكرمة «المزمل» بتخفيف الزاي وكسر الميم أي المزمل جسمه أو نفسه وبعض السلف «المزمل» بالتخفيف وفتح الميم اسم مفعول ولا تدافع بين القراءات فإنه عليه الصلاة والسلام هو زمل نفسه الكريمة من غير شبهة لكن إذا نظر إلى أن كل أفعاله من الله تعالى فقد زمله غيره ولا حاجة إلى أن يقال إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم زمل نفسه أولا ثم نام فزمله غيره أو أنه زمله غيره أولا ثم سقط عنه ما زمل به فزمل هو نفسه ، والجمهور على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما جاءه الملك في غار حراء وحاوره بما حاوره رجع إلى خديجة رضي الله تعالى عنها فقال : «زملوني زملوني» فنزلت (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) وعلى أثرها نزلت (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) وأخرج البزار والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الدلائل عن جابر رضي الله تعالى عنه قال : لما اجتمعت قريش في دار الندوة فقالوا : سموا هذا الرجل اسما تصدر الناس عنه فقالوا كاهن قالوا ليس بكاهن قالوا مجنون قالوا ليس بمجنون قالوا ساحر قالوا ليس بساحر قالوا يفرق بين الحبيب وحبيبه فتفرق المشركون على ذلك فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتزمل في ثيابه وتدثر فيها فأتاه جبريل عليه‌السلام فقال : يا أيها المزمل يا أيها المدثر ونداؤه عليه الصلاة والسلام بذلك تأنيس له وملاطفة على عادة العرب في اشتقاق اسم للمخاطب من صفته التي هو عليها كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي كرم الله تعالى وجهه حين غاضب فاطمة رضي الله عنها فأتاه وهو نائم لصق بجنبه التراب «قم أبا تراب» قصدا لرفع الحجاب وطي بساط العتاب وتنشيطا له ليتلقى ما يرد عليه بلا كسل :

وكل ما يفعل المحبوب محبوب

وزعم الزمخشري أنه عليه الصلاة والسلام نودي بذلك تهجينا للحالة التي عليها من التزمل في قطيفة واستعداده للاستثقال في النوم كما يفعل من لا يهمه أمر ولا يعنيه شأن إلى آخر ما قال مما ينادي عليه كما قال الأكثرون بسوء الأدب ووافقه في بعضه من وافقه وقال صاحب الكشف أراد أنه عليه الصلاة والسلام وصف بما هو ملتبس به يذكره تقاعده فهو من لطيف العتاب الممزوج بمحض الرأفة ولينشطه ويجعله مستعدا لما وعده تعالى بقوله سبحانه (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) [المزمل : ٥] ولا يربأ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن مثل هذا النداء فقد خوطب بما هو أشد في قوله تعالى (عَبَسَ وَتَوَلَّى) [عبس : ١] ومثل هذا من خطاب الإدلال والترؤف لا يتقاعد ما في ضمنه من البر والتقريب عما في ضمن (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ) [الأنفال : ٦٤] وغيرها. (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) [المائدة : ٤١ ، ٦٧] من التعظيم والترحيب انتهى ولا يخفى أنه لا يندفع به سوء أدب الزمخشري في تعبيره فإنه تعالى وإن كان له أن يخاطب حبيبه بما شاء لكنا نحن لا نجري على ما عامله سبحانه به بل يلزمنا الأدب والتعظيم لجنابه الكريم ولو خاطب بعض الرعايا الوزير بما خاطبه به السلطان طرده الحجاب وربما كان العقاب هو الجواب وقيل كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم متزملا بمرط لعائشة رضي الله تعالى عنها يصلي فنودي بذلك ثناء عليه وتحسينا لحاله التي كان عليها ولا يأباه الأمر بالقيام بعد إما لأنه أمر بالمداومة على ذلك والمواظبة عليه أو تعليم له عليه الصلاة والسلام وبيان لمقدار ما يقوم على ما قيل نعم أورد عليه أن السورة من أوائل ما نزل بمكة ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما بني على عائشة رضي الله عنها بالمدينة مع أن الأخبار الصحيحة متضافرة بأن النداء المذكور كان وهو عليه الصلاة والسلام في بيت خديجة رضي الله تعالى عنها ويعلم منه حال ما روي عن عائشة أنها سئلت ما كان تزميله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالت كان مرطا طوله أربع عشرة ذراعا نصفه عليّ وأنا نائمة ونصفه عليه وهو يصلي وكان سداه شعرا ولحمته وبرا وتكلف صاحب الكشف فقال الجواب أنه عليه الصلاة والسلام

١١٣

عقد في مكة فلعل المرط بعد العقد صار إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم نعم دل أنه بعد وفاة خديجة إنما إشكال في قول عائشة نصفه عليّ إلخ وجوابه أنه يمكن أن يكون قد بات صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بيت الصديق رضي الله تعالى عنه ذات ليلة وكان المرط على عائشة وهي طفلة والباقي لطوله على النبيّ عليه الصلاة والسلام فحكت ذلك أم المؤمنين إذ لا دلالة على أنها حكاية ما بعد البناء فهذا ما يتكلف لصحة هذا القول انتهى وأنت تعلم أن هذا الحديث لم يقع في الكتب الصحيحة كما قاله ابن حجر بل هو مخالف لها ومثل الاحتمالات لا يكتفى بها بل قال أبو حيان إنه كذب صريح وعن قتادة كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد تزمل في ثيابه للصلاة واستعد لها فنودي بيا أيها المزمل على معنى يا أيها المستعد للعبادة. وقال عكرمة : المعنى يا أيها المزمل للنبوة وأعبائها والزمل كالحمل لفظا ومعنى ويقال ازدمله أي احتمله وفيه تشبيه إجراء مراسم النبوة بتحمل الحمل الثقيل لما فيهما من المشقة وجوز أن يكون كناية عن المتثاقل لعدم التمرن وأورد عليه نحو ما أورد على وجه الزمخشري ومع صحة المعنى الحقيقي واعتضاده بالأحاديث الصحيحة لا حاجة إلى غيره كما قيل (قُمِ اللَّيْلَ) أي قم إلى الصلاة وقيل داوم عليها وأيّا ما كان فمعمول (قُمِ) مقدر و (اللَّيْلَ) منصوب على الظرفية وجوز أن يكون منصوبا على التوسع والإسناد المجازي ونسب هذا إلى الكوفيين وما قيل إلى البصريين ، وقيل القيام مستعار للصلاة ومعنى (قُمِ) صل فلا تقدير وقرأ أبو السمال بضم الميم اتباعا لحركة القاف وقرئ بفتحها طلبا للتخفيف والكسر في قراءة الجمهور على أصل التقاء الساكنين (إِلَّا قَلِيلاً) استثناء من (اللَّيْلَ) وقوله تعالى (نِصْفَهُ) بدل من (قَلِيلاً) بدل الكل والضمير لليل وفي هذا الإبدال رفع الإبهام وفي الإتيان بقليل ما يدل على أن النصف المغمور بذكر الله تعالى بمنزلة الكل والنصف الفارغ وإن ساواه في الكمية لا يساويه في التحقيق (أَوِ انْقُصْ مِنْهُ) عطف على الأمر السابق والضمير المجرور لليل أيضا مقيدا بالاستثناء لأنه الذي سيق له الكلام وقيل للنصف لقربه (قَلِيلاً) أي نقصا قليلا أو مقدارا قليلا بحيث لا ينحط عن نصف النصف (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) عطف كما سبق وكذا الكلام في الضمير ولا يختلف المعنى على القولين فيه وهو تخييره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أن يقوم نصف الليل أو أقل من النصف أو أكثر بيد أنه رجح الأول بأن فيه جعل معيار النقص والزيادة النصف المقارن للقيام وهو أولى من جعله للنصف العاري منه بالكلية وإن تساويا كمية وجهل بعضهم الإبدال من الليل الباقي بعد الثنيا والضميرين له وقال في الإبدال من قليل ليس بسديد لهذا ولأن الحقيقي بالاعتناء الذي ينبئ عنه الإبدال هو الجزء الباقي بعد الثنيا المقارن للقيام لا للجزء المخرج العاري عنه ولا يخفى أنه على طرف التمام وكذا اعترض أبو حيان ذلك الإبدال بقوله : إن ضمير (نِصْفَهُ) حينئذ إما أن يعود على المبدل منه أو على المستثنى منه وهو (اللَّيْلَ) لا جائز أن يعود على المبدل منه لأنه يكون استثناء مجهول إذ التقدير إلّا قليلا نصف القليل ، وهذا لا يصح له معنى البتة ولا جائز أن يعود على المستثنى منه لأنه يلغو فيه الاستثناء إذ لو قيل قم الليل نصفه أو انقص منه قليلا أو أوزد عليه أفاد معناه على وجه أخصر وأوضح وأبعد عن الإلباس وفيه أنا نختار الثاني وما زعمه من اللغوية قد أشرنا إلى دفعه وأوضحه بعض الأجلة بقوله : إن فيه تنبيها على تخفيف القيام وتسهيله لأن قلة أحد النصفين تلازم قلة الآخر وتنبيها على تفاوت ما شعل بالطاعة وما خلا منها الإشعار بأن البعض المشغول بمنزلة الكل مع ما في ذلك من البيان بعد الإبهام الداعي للتمكن في الذهب وزيادة التشويق وتعقب السمين الشق الأول أيضا بأن قوله استثناء مجهول من مجهول غير صحيح لأن (اللَّيْلَ) معلوم وكذا بعضه من النصف وما دونه وما فوقه ولا ضير في استثناء المجهول من المعلوم نحو (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً) [البقرة : ٢٤٩] بل لا ضمير في إبدال مجهول من مجهول كجاءني جماعة بعضهم مشاة ومع هذا

١١٤

المعول عليه ما سلف وجوز أن يكون (نِصْفَهُ) بدلا من (اللَّيْلَ) بدل بعض من كل والاستثناء منه والكلام على نية التقديم والتأخير والأصل ثم نصف الليل إلا قليلا وضمير منه وعليه للأقل من النصف المفهوم من مجموع المستثنى منه فكأنه قيل قم أقل من نصف الليل بأن تقوم ثلث الليل أو أنقص من ذلك الأقل قليلا بأن تقوم ربع الليل أو أوزد على ذلك الأقل بأن تقوم النصف فالتخيير على هذا بين الأقل من النصف والأقل من الأقل وإلّا زيد منه وهو النصف بعينه وماله إلى التخيير بين النصف والثلث والربع ، فالفرق بين هذا الوجه وما ذكر قيل مثل الصبح ظاهر وفي الكشاف ما يفهم منه على ما قيل إن التخيير فيما وراء النصف أي فيما يقل عن النصف ويزيد على الثلث فلا يبلغ بالزيادة النصف ولا بالنقصان الثلث. قال في الكشف وإنما جعل الزيادة دون النصف والنقصان فوق الثلث لأنهما لو بلغا إلى الكسر الصحيح لكان الأشبه أن يذكر بصريح اسميهما وأيضا إيثار القلة ثانيا دليل على التقريب من ذلك الأقل وما انتهى إلى كسر صحيح فليس بناقص قليل في ذوق هذا المقام وذا القول في جانب الزيادة كيف وقد بنى الأمر على كونه أقل من النصف انتهى وهو وجه متكلف ونحوه فيما أرى ما سمعت قبيله وظاهر كلام بعضهم أن ذكر الثلث والربع والنصف فيه على سبيل التمثيل لا أن الأقل والأنقص والأزيد محصورات فيما ذكر. وجوز أيضا كون الكلام على نية التقديم والتأخير كما مر آنفا لكن مع جعل الضميرين للنصف لا للأقل منه كما في ذلك والمعنى التخيير بين أمرين بين أن يقوم عليه الصلاة والسلام أقل من نصف الليل على البت وبين أن يختار أحد الأمرين وهما النقصان من النصف والزيادة عليه فكأنه قيل قم أقل من نصف الليل على البت أو أنقص من النصف أو أوزد عليه تخييرا قيل وللاعتناء بشأن الأقل لأنه الأصل الواجب كرر على نحو أكرم إما زيدا وإما زيدا أو عمرا وتعقب بأن فيه تكلفا لأن تقديم الاستثناء على البدل ظاهر في أن البدل من الحاصل بعد الاستثناء لأن في تقدير تأخير الاستثناء عدولا عن الأصل من غير دليل ولأن الظاهر على هذا رجوع الضميرين إلى النصف بعد الاستثناء لأنه السابق لا النصف المطلق وأيضا الظاهر أن النقصان رخصة لأن الزيادة نفل والاعتناء بشأن العزيمة أولى ثم فيه أنه لا يجوز قيام النصف ويرده القراءة الثابتة في السبعة (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) [المزمل : ٢٠] بالجر فإن استدل من جواز الأقل على جوازه لمفهوم الموافقة لزم أن يلغو التعرض للزيادة على النصف لذلك أيضا ولا يخفى أن بعض هذا يرد على الوجه المار آنفا واعترض قوله الظاهر أن النقصان رخصة بأنه محل نظر إذ الظاهر أنه من قبيل (فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ) [القصص : ٢٧] فالتخيير ليس على حقيقته وفيه بحث. وجوز أيضا كون الإبدال من (قَلِيلاً) الثاني بمعنى نصف النصف وهو الربع وضمير عليه لهذا القليل وجعل المزيد على هذا القليل أعني الربع نصف الربع كأنه قيل قم نصف الليل أو أنقص من النصف قليلا نصفه أو أوزد على هذا القليل قليلا نصفه ومآله قم نصف الليل أو نصف أو أوزد على نصف النصف نصف نصف النصف فيكون التخيير فيما إذا كان الليل ست عشرة ساعة مثلا بين قيام ثماني ساعات وأربع وست ولا يخفى أن الإطلاق في أو أوزد عليه ظاهر الإشعار بأنه غير مقيد بقليلا إذ لو كان للاستغناء لاكتفى في أو انقص إلخ بالأول أيضا ومن هنا قيل يجوز أن تجعل الزيادة لكونها مطلقة تتمة للثلث فيكون التخيير بين النصف والثلث والربع وفيه أن جعلها تتمة الثلث لا دليل عليه سوى موافقة القراءة بالجر في نصفه وثلثه بعد. وجوز الإمام أن يراد بقليلا في قوله تعالى (إِلَّا قَلِيلاً) الثلث وقال إن (نِصْفَهُ) على حذف حرف العطف فكأنه قيل ثلثي الليل أو قم نصفه أو أنقص من النصف أو أوزد عليه وأطال في بيان ذلك والذب عنه ومع ذلك لا يخفى حاله وذكر أيضا وجها ثانيا لا يخفى أمره على من أحاط بما تقدم خبرا نعم تفسيره

١١٥

القليل بالثلث مروي عن الكلبي ومقاتل وعن وهب بن منبه تفسيره بما دون المعشار والسدس وهو على ما قدمنا نصف واستدل به من قال بجواز استثناء النصف وما فوقه على ما فصل في الأصول وقال التبريزي الأمر بالقيام والتخيير في الزيادة والنقصان وقع على الثلثين من آخر الليل لأن الثلث الأول وقت العتمة والاستثناء وارد على المأمور به فكأنه قيل قم ثلثي الليل إلّا قليلا ثم جعل نصفه بدلا من قليلا فصار القليل مفسرا بالنصف من الثلثين وهو قليل على ما تقدم أو أنقص منه أي من المأمور به وهو قيام الثلثين قليلا أي ما دون نصفه أو أوزد عليه فكان التخيير في الزيادة والنقصان واقعا على الثلثين انتهى. وهو كما ترى وقيل الاستثناء من اعداد الليل لا من أجزائه فإن تعريفه للاستغراق إذ لا عهد فيه والضمير راجع إليه باعتبار الأجزاء على أن هناك استخداما أو شبهه والتخيير بين قيام النصف والناقص عنه والزائد عليه وهو بمكان من البعد وبالجملة قد أكثر المفسرون الكلام في هذه الآية حتى ذكروا ما لا ينبغي تخريج كلام الله تعالى العزيز عليه وأظهر الوجوه عندي وأبعدها عن التكلف وأليقها بجزالة التنزيل هو ما ذكرناه أولا والله تعالى أعلم بما في كتابه الجليل الجزيل وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يتعلق بالأمر في قوله سبحانه (قُمِ اللَّيْلَ) إلخ (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ) أي في أثناء ما ذكر من القيام أي اقرأه على تؤدة وتمهل وتبيين حروف (تَرْتِيلاً) بليغا بحيث يتمكن السامع من عدها من قولهم ثغر رتل بسكون التاء ورتل بكسرها إذا كان مفلجا لم تتصل أسنانه بعضها ببعض وأخرج العسكري في المواعظ عن عليّ كرم الله تعالى وجهه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن هذه الآية فقال : «بينه تبيينا ولا تنثره نثر الدقل ولا تهذه هذا الشعر قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة» (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ) أي سنوحي إليك وإيثار الإلقاء عليه لقوله تعالى (قَوْلاً ثَقِيلاً) وهو القرآن العظيم فإنه لما فيه من التكاليف الشاقة ثقيل على المكلفين سيما على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه عليه الصلاة والسلام مأمور بتحملها وتحميلها للأمة وهذه الجملة المؤكدة معترضة بين الأمر بالقيام وتعليله الآتي لتسهيل ما كلفه عليه الصلاة والسلام من القيام كأنه قيل إنه سيرد عليك في الوحي المنزل تكاليف شاقة هذا بالنسبة إليها سهل فلا تبال بهذه المشقة وتمرن بها لما بعدها وادخل بعضهم في الاعتراض جملة (وَرَتِّلِ) إلخ وتعقب بأنه لا وجه له وقيل معنى كونه (ثَقِيلاً) أنه رصين لإحكام مبانيه ومتانة معانيه والمراد أنه راجح على ما عداه لفظا ومعنى لكن تجوز بالثقيل عن الراجح لأن الراجح من شأنه أن يكون كذلك وفي معناه ما قيل المراد كلام له وزن ورجحان ليس بالسفساف وقيل معناه أنه ثقيل على المتأمل فيه لافتقاره إلى مزيد تصفيه للسر وتجريد للنظر ، فالثقيل مجاز عن الشاق وقيل ثقيل في الميزان والثقل إما حقيقة أو مجاز عن كثرة ثواب قارئه وقال أبو العلية والقرطبي ثقله على الكفار والمنافقين بإعجازه ووعيده وقيل ثقيل تلقّيه يعني يثقل عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم والوحي به بواسطة الملك فإنه كان يوحي إليه عليه الصلاة والسلام على أنحاء منها أن لا يتمثل له الملك ويخاطبه بل يعرض له عليه الصلاة والسلام كالغشي لشدة انجذاب روحه الشريفة للملإ إلّا على بحيث يسمع ما يوحي به إليه ويشاهده ويحسه هو عليه الصلاة والسلام دون من معه وفي هذه الحالة كان يحس في بدنه ثقلا حتى كادت فخذه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ترض فخذ زيد بن ثابت وقد كانت عليها وهو يوحى إليه وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن جرير وابن نصر والحاكم وصححه عن عائشة أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت جرانها فما تستطيع أن تتحرك حتى يسري عنه وتلت (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) وروى الشيخان ومالك والترمذي والنسائي عنها أنها قالت ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون (ثَقِيلاً) صفة لمصدر حذف فأقيم مقامه وانتصب انتصابه أي

١١٦

إلقاء ثقيلا وليس صفة (قَوْلاً) وقيل ذلك عن بقائه على وجه الدهر لأن الثقيل من شأنه أن يبقى في مكانه. وقيل ثقله باعتبار ثقل حروفه حقيقة في اللوح المحفوظ فعن بعضهم أن كل حرف من القرآن في اللوح أعظم من جبل قاف ، وأن الملائكة لو اجتمعت على الحرف أن يقلوه ما أطاقوه حتى يأتي إسرافيل عليه‌السلام وهو ملك اللوح فيرفعه ويقله بإذن الله تعالى لا بقوته ولكن الله عزوجل طوقه ذلك وهذا مما يحتاج إلى نقل صحيح عن الصادق عليه الصلاة والسلام ولا أظن وجوده. والجملة قيل على معظم هذه الأوجه مستأنفة للتعليل فإن التهجد يعد النفس لأن تعالج ثقله فتأمل. واستدل بالآية على أنه لا ينبغي أن يقال سورة خفيفة لما أن الله تعالى سمى فيها القرآن كله (قَوْلاً ثَقِيلاً) وهذا من باب الاحتياط كما لا يخفى (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ) أي إن النفس التي تنشأ من مضجعها إلى العبادة أي تنهض من نشأ من مكانه ونشر إذ نهض وأنشد قوله :

نشأنا إلى خوص برى فيها السرى

وأشرف منها مشرفات القماحد

وظاهر كلام اللغويين أن نشأ بهذا المعنى لغة عربية وقال الكرماني في شرح البخاري هي لغة حبشية عربوها وأخرج جماعة نحوه عن ابن عباس وابن مسعود وحكاه أبو حيان عن ابن جبير وابن زيد وجعل (ناشِئَةَ) جمع ناشئ فكأنه أراد النفوس الناشئة أي القائمة ووجه الإفراد ظاهر والإضافة إما بمعنى في أو على نحو سيد غضي وهذا أبلغ أو أن قيام الليل على أن الناشئة مصدر نشأ بمعنى قام كالعاقبة وإسنادها إلى الليل مجاز كما يقال : قام ليله وصام نهاره ، وخص مجاهد هذا القيام بالقيام من النوم وكذا عائشة ومنعت أن يراد مطلق القيام وكان ذلك بسبب أن الإضافة إلى الليل في قولهم قيام الليل تفهم القيام من النوم فيه أو القيام وقت النوم لمن قال الليل كله أو أن العبادة التي تنشأ أي تحدث بالليل على أن الإضافة اختصاصية أو بمعنى في أو على نحو (مَكْرُ اللَّيْلِ) [سبأ : ٣٣] وقال ابن جبير وابن زيد وجماعة (ناشِئَةَ اللَّيْلِ) ساعاته لأنها تنشأ أي تحدث واحدة بعد واحدة أي متعاقبة والإضافة عليه اختصاصية أو ساعاته الأول من نشأ إذا ابتدأ وقال الكسائي ناشئة أوله وقريب منه ما روي عن ابن عمر وأنس بن مالك وعلي بن الحسين رضي الله تعالى عنهم هي ما بين المغرب والعشاء (هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً) أي هي خاصة دون ناشئة النهار أشد مواطأة يواطئ قلبها لسانها إن أريد بالناشئة النفس المتهجدة أو يواطئ فيها قلب القائم لسانه إن أريد بها القيام أو العبادة أو الساعات والإسناد على الأول حقيقي وعلى هذا مجازي واعتبار الاستعارة المكنية ليس بذاك أو أشد موافقة لما يراد من الإخلاص فلا مجاز على جميع المعاني. وقرأ ابن عباس وابن الزبير ومجاهد والعربيان وطاء بكسر الواو وفتح الطاء ممدودا على أنه مصدر واطأ وطاء كقاتل قتالا وقرأ قتادة وشبل عن أهل مكة بكسر الواو وسكون الطاء والهمز مقصورا وقرأ ابن محصن بفتح الواو ممدودا (وَأَقْوَمُ قِيلاً) أي وأسوأ مقالا أو أثبت قراءة لحضور القلب وهدو الأصوات و (قِيلاً) عليهما مصدر لكنه على الأول عام للأذكار والأدعية وعلى الثاني مخصوص بالقراءة ونصبه ونصب وطأ على التمييز وأخرج ابن جرير وغيره عن أنس بن مالك أنه قرأ «وأصوب قليلا» فقال له رجل إنا نقرؤها «وأقوم قليلا» فقال إن أصوب وأقوم وأهيأ وأشباه هذا واحد (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) أي تقلبا وتصرفا في مهماتك واشتغالا بشواغلك فلا تستطيع أن تتفرغ للعبادة فعليك بها في الليل وأصل السبح المر السريع في الماء فاستعير للذهاب مطلقا كما قاله الراغب وأنشدوا قول الشاعر :

أباحوا لكم شرق البلاد وغربها

ففيها لكم يا صاح سبح من السبح

وهذا بيان للداعي الخارجي إلى قيام الليل بعد بيان ما في نفسه من الداعي وقيل أي إن لك في النهار

١١٧

فراغا وسعة لنومك وتصرفك في حوائجك وقيل إن فاتك من الليل شيء فلك في النهار فراغ تقدر على تداركه فيه فالسبح لفراغ وهو مستعمل في ذلك لغة أيضا لكن الأول أوفق لمعنى قولهم سبح في الماء وأنسب للمقام ثم إن الكلام على هذا إما تتميم للعلة يهون عليه أن النهار يصلح للاستراحة فليغتنم الليل للعبادة وليشكر إن لم يكلف استيعابهما بالعبادة أو تأكيد للاحتفاظ به بأنه إن فات لا بد من تداركه بالنهار ففيه متسع لذلك وفيه تلويح إلى معنى (جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً) [الفرقان : ٦٢] وقرأ ابن يعمر وعكرمة وابن أبي عبلة «سبخا» بالخاء المعجمة أي تفرق قلب بالشواغل مستعار من سبخ الصوف وهو نقشه ونشر أجزائه وقال غير واحد خفة من التكاليف قال الأصمعي يقال : سبخ الله تعالى عنك الحمى خففها وفي الحديث «لا تسبخي بدعائك» أي لا تخففي ومنه قوله :

فسبخ عليك الهم واعلم بأنه

إذا قدر الرحمن شيئا فكائن

وقيل السبخ المد يقال سبخي قطنك أي مديه ، ويقال لقطع القطن سبائخ الواحدة سبخة ومنه قول الأخطل يصف قناصا وكلابا :

فأرسلوهن يذرين التراب كما

يذري سبائخ قطن ندف أوتار

وقال صاحب اللوامح إن ابن يعمر وعكرمة فسرا «سبخا» بالمعجمة بعد أن قرءا به فقالا معناه نوما أي ينام بالنهار ليستعين به على قيام الليل وقد يحتمل هذه القراءة غير هذا المعنى لكنهما فسراها فلا نتجاوز عنه ا ه ولعل ذلك تفسير باللازم (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) أي ودم على ذكره تعالى ليلا ونهارا على أي وجه كان من تسبيح وتهليل وتحميد وصلاة وقراءة قرآن وغير ذلك وفسر الأمر بالدوام لأنه عليه الصلاة والسلام لم ينسه تعالى حتى يؤمر بذكره سبحانه والمراد الدوام العرفي لا الحقيقي لعدم إمكانه ولأن مقتضى السياق أن هذا تعميم بعد التخصيص كان المعنى على ما سمعت من اعتبار ليلا ونهارا (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ) أي وانقطع إليه تعالى بالعبادة وجرد نفسك عما سواه عزوجل واستغرق في مراقبته سبحانه وكان هذا أمر بما يتعلق بالباطن بعد الأمر بما يتعلق بالظاهر ولتأكيد ذلك قال سبحانه (تَبْتِيلاً) ونصبه بتبتل لتضمنه معنى بتل على ما قيل وقد تقدم الكلام في تحقيق ذلك عند قوله تعالى (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) [نوح : ١٧] فتذكر فما في العهد من قدم وكيفما كان الأمر ففيه مراعاة الفواصل (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) مرفوع على المدح وقيل على الابتداء خبره (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وقرأ زيد بن عليّ رضي الله تعالى عنهما «ربّ» بالنصب على الاختصاص والمدح وهو يؤيد الأول وقرأ الإخوان وابن عامر وأبو بكر ويعقوب «ربّ» بالجر على أنه بدل من (رَبِّكَ) وقيل على إضمار حرف القسم وجوابه (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وفيه حذف حرف القسم من غير ما يسد مسده وإبقاء عمله وهو ضعيف جدا كما بين في العربية وقد نقل هذا عن ابن عباس وتعقبه أبو حيان بقوله لعله لا يصح عنه إذ فيه إضمار الجار في القسم ولا يجوز عند البصريين إلّا في لفظة الجلالة الكريمة نحو الله لأفعلن كذا ولا قياس عليه ولأن الجملة المنفية في جواب القسم إذا كانت اسمية تنفى بما لا غير ولا تنفى بلا إلا الجملة المصدرة بمضارع كثيرا وبماض في معناه قليلا انتهى وظاهر كلام ابن مالك في التسهيل إطلاق وقوع الجملة المنفية جوابا للقسم وقال في شرح الكافية إن الجملة الاسمية تقع جوابا للقسم مصدرة بلا النافية لكن يجب تكرارها إذا تقدم خبرها أو كان المبتدأ معرفة نحو والله لا في الدار رجل ولا امرأة وو الله لا زيد في الدار ولا عمرو ومنه يعلم أن المسألة خلافية بين هذين الإمامين وقرأ ابن عباس وعبد الله وأصحابه «رب المشارق

١١٨

والمغارب» وبجمعهما وقد تقدم الكلام في وجه الإفراد والجمع. والفاء في قوله تعالى (فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) لترتيب الأمر وموجبه على اختصاص الألوهية والربوبية به عزوجل وكيل فعيل بمعنى مفعول أي موكول إليه والمراد من اتخاذه سبحانه وكيلا أن يعتمد عليه سبحانه ويفوض كل أمر إليه عزوجل وذكر أن مقام التوكل فوق مقام التبتل لما فيه من رفع الاختيار وفيه دلالة على غاية الحب له تعالى وأنشدوا :

هواي له فرض تعطف أم جفا

ومنهله عذب تكدر أم صفا

وكلت إلى المعشوق أمري كله

فإن شاء أحياني وإن شاء أتلفا

ومن كلام بعض السادة : من رضي بالله تعالى وكيلا وجد إلى كل خير سبيلا (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) مما يؤلمك من الخرافات كقولهم يفرق بين الحبيب وحبيبه على ما سمعت في بعض روايات أسباب النزول (وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) بأن تجانبهم وتداريهم ولا تكافئهم وتكل أمورهم إلى ربهم كما يعرب عنه قوله تعالى (وَذَرْنِي وَ (١) الْمُكَذِّبِينَ) أي خل بيني وبينهم وكل أمرهم إليّ فإن في ما يفرغ بالك ويجلي همك ومر في أن تمام الكلام في ذلك وجوز في المكذبين هنا أن يكونوا هم القائلين ففيه وضع الظاهر موضع المضمر وسما لهم بميسم الذم مع الإشارة إلى علة الوعيد وجوز أن يكونوا بعض القائلين فهو على معنى (ذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ) منهم والآية قيل نزلت في صناديد قريش المستهزئين وقيل في المطعمين يوم بدر (أُولِي النَّعْمَةِ) أرباب التنعم وغضارة العيش وكثرة المال والولد فالنعمة بالفتح التنعم وأما بالكسر فهي الإنعام وما ينعم به وأما بالضم فهي المسرة (وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) أي زمانا قليلا وهو مدة الحياة الدنيا وقيل المدة الباقية إلى يوم بدر وأيّا ما كان فقليلا نصب على الظرفية وجوز أن يكون نصبا على المصدرية أي إمهالا قليلا والتفعيل لتكثير المفعول (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً) جمع نكل بكسر النون وفتحها وهو القيد الثقيل وقيل الشديد وقال الكلبي الأنكال الأغلال الأول أعرف في اللغة وعن الشعبي لم تجعل الأنكال في أرجلهم خوفا من هربهم ولكن إذا أرادوا أن يرتفعوا استفلت بهم والجملة تعليل لقوله تعالى (ذَرْنِي) وما عطف عليه فكأنه قيل كل أمرهم إلي ومهلهم قليلا لأن عندي ما أنتقم به منهم أشد الانتقام أنكالا (وَجَحِيماً) نارا شديدة الإيقاد (وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ) ينشب في الحلوق ولا يكاد يساغ كالضريع والزقوم. وعن ابن عباس شوك من نار يعترض في حلوقهم لا يخرج ولا ينزل (وَعَذاباً أَلِيماً يَوْمَ) ونوعا آخر من العذاب مؤلما لا يقادر قدره ولا يعرف كنهه إلّا الله عزوجل كما يشعر بذلك المقابلة والتنكير وما أعظم هذه الآية فقد أخرج الإمام أحمد في الزهد وابن أبي داود في الشريعة وابن عدي في الكامل والبيهقي في الشعب من طريق حمران بن أعين عن أبي حرب بن الأسود أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمع رجلا يقرأ (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً) إلخ فصعق وفي رواية أنه عليه الصلاة والسلام نفسه قرأ (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً) فلما بلغ (أَلِيماً) صعق وقال خالد بن حسان : أمسى عندنا الحسن وهو صائم فأتيته بطعام فعرضت له هذه الآية (إِنَّ لَدَيْنا) إلخ فقال أرفعه فلما كانت الليلة الثانية أتيته بطعام فعرضت له أيضا فقال ارفعه وكذلك الليلة الثالثة فانطلق ابنه إلى ثابت البناني ويزيد الضبي ويحيى البكاء فحدثهم بحديثه فجاءوا معه فلم يزالوا به حتى شرب شربة من سويق. وفي الحديث السابق إذا صح ما يقيم العذر للصوفية ونحوهم الذين يصعقون عند سماع بعض الآيات ويقعد إنكار عائشة رضي الله عنها ومن وافقها عليهم اللهم إلّا أن يقال إن الإنكار ليس إلّا على من يصدر منه ذلك اختيارا وهو أهل لأن ينكر عليه كما لا يخفى أو يقال صعق من الصعق بسكون العين وقد يحرك غشي عليه لا من الصعق بالتحريك شدة الصوت وذلك مما لم

١١٩

تنكره عائشة رضي الله تعالى عنها ولا غيرها وللإمام في الآية كلام على نحو كلام الصوفية قال اعلم أنه يمكن حمل هذه المراتب الأربعة على العقوبة الروحانية اما الأنكال فهي عبارة عن بقاء النفس في قيد التعلقات الجسمانية واللذات البدنية فإنها في الدنيا لما اكتسبت ملكة تلك المحبة والرغبة فبعد البدن يشتد الحنين مع أن آلات الكسب قد بطلت فصارت تلك كالأنكال والقيود المانعة له من التخلص إلى عالم الروح والصفاء ثم يتولد من تلك القيود الروحانية نيران روحانية فإن شدة ميلها إلى الأحوال البدنية وعدم تمكنها من الوصول إليها توجب حرقة شديدة روحانية كمن تشتد رغبته في وجدان شيء ثم إنه لا يجده فإنه يحترق قلبه عليه فذاك هو الجحيم ثم إنه يتجرع غصة الحرمان وألم الفراق فذاك هو المراد من قوله سبحانه (وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ) ثم إنه بسبب هذه الأحوال بقي محروما عن تجلي نور الله تعالى والانخراط في سلك القدسيين وذلك هو المراد بقوله عزوجل (وَعَذاباً أَلِيماً) وتنكير (عَذاباً) يدل على أنه أشد مما تقدم وأكمل وأعلم أني لا أقول المراد بالآية ما ذكرته فقط بل أقول إنها تفيد حصول المراتب الأربعة الجسمانية وحصول المراتب الأربعة الروحانية ولا يمتنع الحمل عليهما وإن كان اللفظ بالنسبة إلى المراتب الجسمانية حقيقة وبالنسبة إلى المراتب الروحانية مجازا لكنه مجاز متعارف مشهور انتهى وتعقب بأنه بالحمل عليهما يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز أو عموم المجاز من غير قرينة وليس في الكلام ما يدل عليه بوجه من الوجوه وأنت تعلم أن أكثر باب الإشارة عند الصوفية من هذا القبيل وقوله تعالى (تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) قيل متعلق بذرني وقيل صفة (عَذاباً) وقيل متعلق بأليما واختار جمع أنه متعلق بالاستقرار الذي تعلق به (لَدَيْنا) أي استقر ذلك العذاب لدينا وظهر يوم تضطرب الأرض والجبال وتتزلزل وقرأ زيد بن علي «ترجف» مبنيا للمفعول (وَكانَتِ الْجِبالُ) مع صلابتها وارتفاعها (كَثِيباً) رملا مجتمعا من كثب الشيء إذا جمعه فكأنه في الأصل فعيل بمعنى مفعول ثم غلب حتى صار له حكم الجوامد والكلام على التشبيه البليغ وقيل لا مانع من أن تكون رملا حقيقة (مَهِيلاً) قيل أي رخوا لينا إذا وطئته القدم زل من تحتها وقيل منثورا من هيل هيلا إذا نثر وأسيل وكونه كثيبا باعتبار ما كان عليه قبل النثر فلا تنافي بين كونه مجتمعا ومنثورا وليس المراد أنه في قوة ذلك وصدده كما قيل (إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ) خطاب للمكذبين أولي النعمة سواء جعلوا القائلين أو بعضهم ففيه التفات من الغيبة وهو التفات جليل الموقع أي إنا أرسلنا إليكم أيها المكذبون من أهل مكة (رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ) يشهد يوم القيامة بما صدر منكم من الكفر والعصيان (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً) هو موسى عليه‌السلام وعدم تعيينه لعدم دخله في التشبيه أو لأنه معلوم غني عن البيان (فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) المذكور الذي أرسلناه إليه فالتعريف للعهد الذكري والكاف في محل النصب على أنها صفة لمصدر محذوف على تقدير اسميتها أي إرسالا مثل إرسالنا أو الجار والمجرور في موضع الصفة على تقدير حرفيتها أي إرسالا كائنا كما والمعنى أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم فعصيتموه كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصاه وفي إعادة فرعون والرسول مظهرين تفظيع لشأن عصيانه وإن ذلك لكونه عصيان الرسول لا لكونه عصيان موسى وفيه إن عصيان المخاطبين أفظع وأدخل في الدم إذ زاد جل وعلا لهذا الرسول وصفا آخر أعني (شاهِداً عَلَيْكُمْ) وأدمج فيه أنه لو آمنوا كانت الشهادة لهم وقوله تعالى (فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً) أي ثقيلا رديء العقبى من قولهم كلأ وبيل وحم لا يستمرأ لثقله والوبيل أيضا العصا الضخمة ومنه الوابل للمطل العظيم قطره خارج عن التشبيه جيء به لإيذان المخاطبين بأنهم مأخوذون بمثل ذلك وأشد وأشد وقوله تعالى (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) مراتب على الإرسال فالعصيان و (يَوْماً) مفعول به لتتقون ما بتقدير مضاف

١٢٠