روح المعاني - ج ٥

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٥

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٩

وقد ضعف. واعترف المضعفون لرفعه كالدار قطني والبيهقي وابن عدي بأن الصحيح أنه مرسل لأن الحفّاظ كالسفيانين وأبي الأحوص وشعبة وإسرائيل وشريك وجرير وأبي الزبير وعبد بن حميد وخلق آخرين رووه عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأرسلوه ، وقد أرسله مرة أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه ، وحينئذ لنا أن نقول المرسل حجة عند أكثر أهل العلم فيكفينا فيما يرجع إلى العمل على رأينا وعلى طريق الإلزام أيضا بإقامة الدليل على حجية المرسل أيضا ، وعلى تقدير التنزل عن حجيته فقد رفعه الإمام بسند صحيح.

وروى محمد بن الحسن في موطئه قال : أنبأنا أبو حنيفة أبو الحسن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من صلى خلف إمام فإن قراءة الإمام له قراءة» وقولهم : إن الحفاظ الذين عدوهم لم يرفعوه غير صحيح. فقد قال أحمد بن منيع في مسنده : أخبرنا إسحاق الأزرق حدثنا سفيان. وشريك عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد عن جابر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة». ثم قال وحدثنا جرير عن موسى عن عبد الله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فذكره ولم يذكر جابرا ـ ورواه عبد بن حميد قال : حدثنا أبو نعيم حدثنا الحسن بن صالح عن أبي الزبير عن جابر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكره ، وإسناد حديث جابر الأول على شرط الشيخين والثاني على شرط مسلم ، فهؤلاء سفيان وشريك وجرير وأبو الزبير رفعوه بالطرق الصحيحة فبطل عدهم فيمن لم يرفعه ، ولو تفرد الثقة وجب قبوله لأن الرفع زيادة وزيادة الثقة مقبولة فكيف ولم ينفرد ، والثقة قد يسند الحديث تارة ويرسله أخرى. وأخرجه ابن عدي عن الإمام رضي الله تعالى عنه في ترجمته وذكر فيها قصة وبها أخرجه أبو عبد الله الحاكم قال : حدثنا أبو محمد بن بكر بن محمد بن حمدان الصيرفي حدثنا عبد الصمد بن الفضل البلخي حدثنا مكي بن إبراهيم عن أبي حنيفة عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد بن الهاد عن جابر بن عبد الله «إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى ورجل خلفه يقرأ فجعل رجل من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينهاه عن القراءة في الصلاة فلما انصرف أقبل عليه الرجل قال : أتنهاني عن القراءة خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتنازعا حتى ذكرا ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من صلى خلف إمام فإن قراءة الإمام له قراءة». وفي رواية لأبي حنيفة «إن ذلك كان في الظهر أو العصر» وهي أن رجلا قرأ خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الظهر أو العصر فأومأ إليه فنهاه فلما انصرف قال : أتنهاني الحديث. نعم إن جابرا روى منه محل الحكم فقط تارة والمجموع تارة ويتضمن رد القراءة خلف الإمام لأنه خرج تأييدا لنهي ذلك الصحابي عنها مطلقا في السرية والجهرية خصوصا في رواية أبي حنيفة أن القصة كانت في السرية لا إباحة فعلها وتركها فيعارض ما روي في بعض روايات حديث «ما لي أنازع في القرآن» أنه قال : إنه لا بد (١) ففي الفاتحة ، وكذا ما رواه أبو داود والترمذي عن عبادة بن الصامت قال : كنا خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صلاة الفجر فقرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فثقلت عليه القراءة ، فلما فرغ قال : لعلكم تقرءون خلف إمامكم ، قلنا : نعم هذا ، قال : لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب فإنه لا صلاة لمن لا يقرأ بها ؛ ويقدم لتقدم المنع على الإطلاق عند التعارض ولقوة السند فإن حديث المنع أصح فبطل رد المتعصبين ، وتضعيف بعضهم لمثل الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه مع تضييقه في الرواية إلى الغاية حتى إنه شرط التذكر لجوازها بعد علم الراوي أن ذلك المروي خطه ، ولم يشترط الحفاظ هذا ولم يوافقه صاحباه على أن الخبر قد عضد بروايات كثيرة عن جابر غير هذه وإن ضعفت وبمذاهب الصحابة أيضا كابن عباس وابن عمر وزيد بن ثابت وابن مسعود.

__________________

(١) قوله إنه لا بد إلخ كذا بخطه وحرر ا ه

١٤١

وأخرج محمد عن داود بن قيس بن عجلان أن عمر رضي الله تعالى عنه قال : ليت في فم الذي يقرأ خلف الإمام حجرا ، وروي مثل ذلك عن سعد بن أبي وقاص ، وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه إلا أن فيه مقالا أنه قال : من قرأ خلف الإمام فقد أخطأ الفطرة ، وقال الشعبي : أدركت سبعين بدريا كلهم يمنعون المقتدي عن القراءة خلف الإمام ، وقد ادعى بعض أصحابنا اجماع الصحابة رضي الله عنهم على ذلك ، ولعل مراده بذلك إجماع كثير من كبارهم ، وإلا ففيه نظر ، وكون مراده الإجماع السكوتي ليس بشيء أيضا ، وذهب قوم إلى أن المأموم يقرأ إذا أسر الإمام القراءة ولا يقرأ إذا جهر وهو قول عروة بن الزبير والقاسم بن محمد والزهري ومالك وابن المبارك وأحمد وإسحاق ، وروي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه وحجتهم فيما قيل : إن الآية تدل على الأمر بالاستماع لقراءة القرآن والسنة تدل على وجوب القراءة خلف الإمام فحملنا مدلول الآية على صلاة الجهر ومدلول السنة على صلاة السر جمعا بين الدلائل ، وقال آخرون : إنما يقرأ في السرية لأنه لا يقال له مستمع ، واعترض بأنه وإن سلمنا أنه لا يقال له ذلك لكن لا نسلم أنه لا يقال له منصت مع علمه بالقراءة وبأنا لا نسلم دلالة السنة على وجوب القراءة خلف الإمام ودون إثبات ذلك خرط القتاد ، على أن الجزم العمل بأقوى الدليلين ، وليس مقتضى أقواهما إلا المنع ، ومن هنا ضعف ما يروى عن محمد بن الحسن رحمه‌الله تعالى أنه يستحسن قراءة الفاتحة على سبيل الاحتياط مخالفا لما ذهب إليه الإمام وأبو يوسف من كراهة القراءة لما في ذلك من الوعيد ، والحق أن قوله كقولهما ، فقد قال في كتاب الآثار بعد ما أسند إلى علقمة بن قيس : إنه ما قرأ قط فيما يجهر به ولا فيما لا يجهر به ، وبه نأخذ فلا نرى القراءة خلف الإمام في شيء من الصلاة يجهر فيه أو لا يجهر فيه ، ولا ينبغي أن يقرأ خلفه في شيء منها ، وذكر في موطئه نحو ذلك ، وقال السرخسي تفسد صلاة القارئ خلف الإمام في قول عدة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومنهم فيما قيل سعد بن أبي وقاص ، وفي رواية المزني عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه يقرأ في الجهرية والسرية ، وفي رواية البويطي أنه يقرأ في السرية أم القرآن ويضم السورة في الأوليين ويقرأ في الجهرية أم القرآن فقط. والمشهور عند الشافعية أنه لا سورة للمأموم الذي يسمع الإمام في جهرية بل يستمع فإن بعد بأن لم يسمع أو سمع صوتا لا يميز حروفه أو كانت سرية قرأ في الأصح ، وسبب النزول لم يكن القراءة في الصلاة بل أمر آخر. فقد روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة فنزلت ، وحاصلها النهي عن التكلم لا عن القراءة ، ومن الناس من فسر القرآن بالخطبة ، والأمر بالاستماع إما للوجوب أو الندب ، وعندنا الإنصات في الخطبة فرض على تفصيل في المسألة ، وأخرج غير واحد عن مجاهد رضي الله تعالى عنه أن الآية في الصلاة والخطبة يوم الجمعة ، وفي كلام أصحابنا ما يدل على وجوب الاستماع في الجهر بالقرآن مطلقا.

قال في الخلاصة : رجل يكتب الفقه وبجنبه رجل يقرأ القرآن فلا يمكنه استماع القرآن فالاثم على القارئ ، وعلى هذا لو قرأ على السطح في الليل جهرا والناس نيام يأثم ، وهذا صريح في إطلاق الوجوب ، وعلل ذلك بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، و (إِذا) هنا للكلية وغالب الشرطيات القرآنية المؤداة بها كلية ، وهذا والمراد من الاستماع في الآية المعنى المتبادر منه ، وقال الزجاج : المراد منه القبول والإجابة ، وهو بهذا المعنى مجاز كما نص عليه في الأساس ، ومنه سمع الله تعالى لمن حمده وسمع الأمير كلام فلان ، ورجح ذلك العلامة الطيبي قال : وهذا أوفق لتأليف النظم الكريم سابقا ولا حقا وأجمع للمعاني والأقوال فإنه تعالى لما ذكر تعريضا أن المشركين إنما استهزءوا بالقرآن ونبذوه وراءهم ظهريا لأنهم فقدوا البصائر وعدموا الهداية والرحمة وأن حالهم على خلاف المؤمنين أمر المؤمنين بما هو أزيد من مجرد الاستماع وهو قبوله والعمل بما فيه والتمسك به وأن لا يجاوزوه مرتبا للحكم على تلك

١٤٢

الأوصاف ، ولذلك قيل : إذا قرئ القرآن وضعا للمظهر موضع المضمر لمزيد الدلالة على العلية ، يعني إذا ظهر أيها المؤمنون أنكم لستم مثل هؤلاء المعاندين فعليكم بهذا الكتاب الجامع لصفات الكمال الهادي إلى الصراط المستقيم الموصل إلى مقام الرحمة والزلفى فاستمعوه وبالغوا في الأخذ منه والعمل بما فيه ليحصل المطلوب ولعلكم ترحمون ، ويدخل في هذا وجوب الإنصات في الصلاة بطريق الأولى لأنها مقام المناجاة والاستماع من المتكلم ، وعلى هذا الإنصات عند تلاوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ا ه ، ويعلم منه أن الخطاب في الآية للمؤمنين بل هو نص في ذلك.

وقال بعضهم : إن الخطاب فيها للكفار ، وذلك أن كون القرآن بصائر وهدى ورحمة لا يظهر إلا بشرط مخصوص وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام إذا قرأ عليهم القرآن عند نزوله استمعوا له وأنصتوا ليقفوا على معانيه ومزاياه فيعترفوا بإعجازه ويستغنوا بذلك عن طلب سائر المعجزات ، وأيد هذا بقوله سبحانه وتعالى : في آخر الآية (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) بناء على أن ذلك للترجي وهو إنما يناسب حال الكفار لا حال المؤمنين الذين حصل لهم الرحمة جزما في قوله تعالى : (وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ). وأجيب بأن هذه الرحمة المرجوة غير تلك الرحمة ، ولئن سلم كونها إياها فالاطماع من الكريم واجب فلم يبق فرق ، وفي بناء الفعل للمفعول إشارة إلى أن مدار الأمر القراءة من أي قارئ كان. وفي الآية من الدلالة على تعظيم شأن القرآن ما لا يخفى. ومن هنا قال بعض الأصحاب : يستحب لمريد قراءته خارج الصلاة أن يلبس أحسن ثيابه ويتعمم ويستقبل القبلة تعظيما له ، ومثله في ذلك العلم ، ولو قرأ مضطجعا فلا بأس إذ هو نوع من الذكر. وقد مدح سبحانه ذاكريه قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويضم رجليه عند القراءة ولا يمدها لأنه سوء أدب ولو قرأ ماشيا أو عند النسج ونحوه من الأعمال فإن كان القلب حاضرا غير مشتغل لم يكره وإلا كره ، ولا يقرأ وهو مكشوف العورة أو كان بحضرته من هو كذلك. وإن كانت زوجته ، وكره بعضهم القراءة في الحمام والطريق. قال النووي : ومذهبنا لا تكره فيهما ، وتكره في الحش وبيت الرحى وهي تدور عند الشعبي وهو مقتضى مذهبنا ، والكلام في آداب القراءة وما ينبغي للقارئ طويل. وفي الإتقان قدر له قدر من ذلك فإن كان عندك فارجع إليه.

والجملة على ما يدل عليه كلامهم يحتمل أن تكون من القول المأمور به ويحتمل أن تكون استئنافا من جهته تعالى ، قيل : وعلى الأول فقوله سبحانه وتعالى : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ) عطف على قل ، وعلى الثاني فيه تجريد الخطاب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو عام لكل ذكر فإن الإخفاء أدخل في الإخلاص وأقرب من القبول ، وفي بعض الأخبار يقول الله تعالى : من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه وقال الإمام : المراد بالذكر في نفسه أن يكون عارفا بمعاني الأذكار التي يقولها بلسانه مستحضرا لصفات الكمال والعز والعظمة والجلال ، وذلك لأن الذكر باللسان عاريا عن الذكر بالقلب كأنه عديم الفائدة ، بل ذكر جمع أن الذكر اللساني الساذج لا ثواب فيه أصلا ، ومن أتى بالكلمة الطيبة غير ملاحظ معناها أو جاهلا به لا يعد مؤمنا عند الله تعالى ، وقيل : الخطاب لمستمع القرآن والذكر القرآن ، والمراد أمر المأموم بالقراءة سرا بعد فراغ الإمام عن قراءته وفيه بعد ولو التزم قول الإمام ، وقوله سبحانه وتعالى : (تَضَرُّعاً وَخِيفَةً) في موضع الحال بتأويل اسم الفاعل أي متضرعا وخائفا ، أو بتقدير مضاف أي ذا تضرع وخيفة ، وكونه مفعولا لأجله غير مناسب.

وجوز بعضهم كون ذلك مصدرا لفعل من غير المذكور وليس بشيء ، وأصل خيفة خوفة ، ودون في قوله تعالى : (وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) صفة لمعمول حال محذوفة أي ومتكلما كلاما دون الجهر لأن دون لا تتصرف على المشهور ، والعطف على تضرعا ، وقيل : لا حاجة إلى ما ذكر والعطف على حاله ، والمراد اذكره متضرعا ومقتصدا.

١٤٣

وقيل : إن العطف على قوله تعالى : (فِي نَفْسِكَ) لكن على معنى اذكره ذكرا في نفسك وذكرا بلسانك دون الجهر ، والمراد بالجهر رفع الصوت المفرط وبما دونه نوع آخر من الجهر. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : هو أن يسمع نفسه وقال الامام : المراد أن يقع الذكر متوسطا بين الجهر والمخافتة كما قال تعالى (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) [الإسراء : ١١] ويشعر كلام ابن زيد أن المراد بالجهر مقابل الذكر في النفس ، والآية عنده خطاب للمأموم المأمور بالإنصات أي اذكر ربك أيها المنصت في نفسك ولا تجهر بالذكر (بِالْغُدُوِّ) جمع غدوة كما في القاموس ، وفي الصحاح الغدو نقيض الرواح وقد غدا يغدو غدوا. وقوله تعالى : (بِالْغُدُوِّ) أي بالغدوات جمع غدوة وهي ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس ، فعبر بالفعل عن الوقت كما يقال : أتيتك طلوع الشمس أي وقت طلوعها ، وهو نص في أن الغدو مصدر لا جمع ، وعليه فقد معه مضاف مجموع أي أوقات الغدو ليطابق قوله سبحانه وتعالى : (وَالْآصالِ) وهو كما قال الأزهري جمع أصل ، وأصل جمع أصيل أعني ما بين العصر إلى غروب الشمس ـ فهو جمع الجمع وليس للقلة وليس جمعا لأصيل لأن فعيلا لا يجمع على أفعال ، وقيل : إنه جمع له لأنه قد يجمع عليه كيمين وإيمان ، وقيل : إنه جمع لأصل مفردا كعنق ويجمع على أصلان أيضا ، والجار متعلق باذكر ، وخص هذان الوقتان بالذكر قيل لأن الغدوة عندها ينقلب الحيوان من النوم الذي هو كالموت إلى اليقظة التي هي كالحياة ، والعالم يتحول من الظلمة التي هي طبيعة عدمية إلى النور الذي هو طبيعة وجودية ، وفي الأصيل الأمر بالعكس ، أو لأنهما وقتا فراغ فيكون الذكر فيهما ألصق بالقلب ، وقيل : لأنهما وقتان يتعاقب فيهما الملائكة على ابن آدم ، وقيل : ليس المراد التخصيص بل دوام الذكر واتصاله أي اذكر كل وقت.

وقرأ أبو مجلز لاحق بن حميد السدوسي «والإيصال» ، وهو مصدر آصل إذا أدخل في الأصيل وهو مطابق لغدو بناء على القول بافراده ومصدريته فتذكر (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) عن ذكر الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) وهم ملائكة الملأ الأعلى ، فالمراد من العندية القرب من الله تعالى بالزلفى والرضا لا المكانية لتنزه الله تعالى عن ذلك ، وقيل : المراد عند عرش ربك (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) بل يؤدونها حسبما أمروا به (وَيُسَبِّحُونَهُ) أي ينزهونه عما لا يليق بحضرة كبريائه على أبلغ وجه (وَلَهُ يَسْجُدُونَ) أي ويخصونه بغاية العبودية والتذلل لا يشركون به غيره جل شأنه ، وهو تعريض بمن عداهم من المكلفين كما يدل عليه تقديم (لَهُ) وجاز أن يؤخذ من مجموع الكلام كما آثره العلامة الطيبي لأنه تعليل للسابق على معنى ائتوا بالعبادة على وجه الإخلاص كما أمرتم فإن لم تأتوا بها كذلك فإنّا مغنون عنكم وعن عبادتكم إن لنا عبادا مكرمين من شأنهم كذا وكذا فالتقديم على هذا للفاصلة ، ولما في الآية من التعريض شرع السجود عند هذه الآية إرغاما لمن أبى ممن عرض به. قيل : وقد جاء الأمر بالسجدة لآية أمر فيها بالسجود امتثالا للأمر ، أو حكى فيها استنكاف الكفرة عنه مخالفة لهم ، أو حكى فيها سجود نحو الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تأسيا بهم ، وهذا من القسم الثاني باعتبار التعريض أو من القسم الأخير باعتبار التصريح ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في سجوده لذلك كما روى ابن أبي شيبة عن ابن عمر «اللهم لك سجد سوادي وبك آمن فؤادي اللهم ارزقني علما ينفعني وعملا يرفعني» وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وصححه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول في سجود القرآن بالليل مرارا «سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره بحوله وقوته فتبارك الله أحسن الخالقين» وجاء عنها أيضا «ما من مسلم سجد لله تعالى سجدة إلا رفعه الله تعالى بها درجة أو حط عنه بها خطيئة أو جمعها له كلتيهما» وأخرج مسلم. وابن ماجه والبيهقي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويله أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي

١٤٤

النار» واستدل بالآية على أن إخفاء الذكر أفضل ، ويوافق ذلك ما أخرجه أحمد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خير الذكر الخفي» وهي ناعية على جهلة زماننا من المتصوفة ما يفعلونه مما يستقبح شرعا وعقلا وعرفا فإنا الله وإنا إليه راجعون.

هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» و (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) وهي الروح (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) وهي القلب (لِيَسْكُنَ إِلَيْها) أي ليميل إليها ويطمئن فكانت الروح تشم من القلب نسائم نفحات الألطاف (فَلَمَّا تَغَشَّاها) أي جامعها وهو إشارة إلى النكاح الروحاني والصوفية يقولون : إنه سائر في جميع الموجودات ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت (حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً) في البداية بظهور أدنى أثر من آثار الصفات البشرية في القلب الروحاني (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ) كبرت وكثرت آثار الصفات (دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما) لأنهما خافا من تبدل الصفات الروحانية النورانية بالصفات النفسانية الظلمانية (لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً) للعبودية (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً) بحسب الفطرة من القوى (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) أي جعل أولادهما لله تعالى شركاء فيما آتى أولادهما فمنهم عبد البطن ومنهم عبد الخميصة ومنهم من عبد الدرهم والدينار (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ (١) دُونِ اللهِ) كائنا ما كان (عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) في العجز وعدم التأثير (فَادْعُوهُمْ) إلى أي أمر كان (فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في نسبة التأثير إليهم (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها) استفهام على سبيل الإنكار أي ليس لهم أرجل يمشون بها بل بالله عزوجل إذ هو الذي يمشيهم وكذا يقال فيما بعد (قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ) إن استطعتم (إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ) حافظي ومتولي أمري (الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) أي من قام به في حال الاستقامة (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) الحق ولا حقيقتك لأنهم عمي القلوب في الحقيقة ، والضمير للكفار (خُذِ الْعَفْوَ) أي السهل الذي يتيسر لهم ولا تكلفهم ما يشق عليهم (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) أي بالوجه الجميل ، (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) فلا تكافئهم بجهلهم. عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية قيل وذلك لقوة دلالتها على التوحيد فإن من شاهد مالك النواصي وتصرفه في عباده وكونهم فيما يأتون ويذرون به سبحانه وتعالى لا بأنفسهم لا يشاقهم ولا يداقهم في تكاليفهم ولا يغضب في الأمر والنهي ولا يتشدد ويحلم عنهم ، (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) بالشهود والحضور فإنك ترى حينئذ أن لا فعل لغيره سبحانه ، وهذا إشارة إلى ما يعتري الإنسان أحيانا من الغضب وإيماء إلى علاجه بالاستعاذة قال بعضهم : إن الغضب إنما يهيج بالإنسان إذا استقبح من المغضوب عليه عملا من الأعمال ثم اعتقد في نفسه كونه قادرا وفي المغضوب عليه كونه عاجزا ، وإذا انكشف له نور من عالم العقل عرف أن المغضوب عليه إنما أقدم على ذلك العمل لأن الله تعالى خلق فيه داعية وقد سبقت عليه الكلمة الأزلية فلا سبيل له إلى تركه وحينئذ يتغير غضبه. وقد ورد من عرف سر الله تعالى في القدر هانت عليه المصائب ، فالاستعاذة بالله تعالى في المعنى طلب الالتجاء إليه باستكشاف ذلك النور ، (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا) الشرك (إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ) لمة منه بنسبة الفعل إلى غيره سبحانه وتعالى (تَذَكَّرُوا) مقام التوحيد ومشاهدة الأفعال من الله تعالى (فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) فعالية الله تعالى لا شيطان ولا فاعل غيره سبحانه في نظرهم (وَإِخْوانُهُمْ) أي اخوان الشياطين من المحجوبين (يَمُدُّونَهُمْ) الشياطين في الغي وهو نسبة الفعل إلى السوي (ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) عن العناد والمراء والجدل ، و (قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها) أي جمعتها من تلقاء نفسك (قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) لأني قائم به لا بنفسي (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) أي للقرآن بآذانكم الظاهرة (وَأَنْصِتُوا) بحواسكم الباطنة ، وجوز أن يكون ضمير له للرب سبحانه ، أي إذا قرئ القرآن فاستمعوا للرب جل شأنه فإنه المتكلم والمخاطب لكم به (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) بالسمع الحقيقي أو برحمة تجلي المتكلم في

١٤٥

كلامه بصفاته وأفعاله (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ) بأن تتحلى بما يمكن التحلي به من صفات الله تعالى ، وقيل : هو على حد (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب : ٢١](تَضَرُّعاً وَخِيفَةً) حسب اختلاف المقام (وَدُونَ الْجَهْرِ) أي دون أن يظهر ذلك منك بل يكون ذاكرا به له (بِالْغُدُوِّ) أي وقت ظهور نور الروح (وَالْآصالِ) أي وقت غلبات صفات النفس (وَلا تَكُنْ) في وقت من الأوقات (مِنَ الْغافِلِينَ) عن شهود الوحدة الذاتية ، وقال بعض الأكابر : إن قوله سبحانه : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً) إشارة إلى أعلى المراتب وهو حصة الواصلين المشاهدين ، وقوله سبحانه وتعالى : (وَدُونَ الْجَهْرِ) إشارة إلى المرتبة الوسطى وهي نصيب السائرين إلى مقام المشاهدة ، وقوله جل شأنه : (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) إيماء إلى مرتبة النازلين من السالكين ، وفي ذكر الخوف اشعار باستشعار هيبة الجلال كما قال :

أشتاقه فإذا بدا

أطرقت من إجلاله

لا خيفة بل هيبة

وصيانة لجماله

وذكروا أن حال المبتدي والسالك منوطة برأي الشيخ فإنه الطبيب لأمراض القلوب فهو أعرف بالعلاج ، فقد يرى له رفع الصوت بالذكر علاجا حيث توقف قطع الخواطر وحديث النفس عليه ، وفي عوارف المعارف للسهروردي قدس‌سره لا يزال العبد يردد هذه الكلمة على لسانه مع مواطأة القلب حتى تصير متأصلة فيه مزيلة لحديث النفس وينوب معناها في القلب عنه فإذا استولت الكلمة وسهلت على اللسان تشربها القلب ويصير الذكر حينئذ ذكر الذات ، وهذا الذكر هو المشاهدة والمكاشفة والمعاينة ، وذاك هو المقصد الأقصى من الخلوة ، وقد يحصل ما ذكر بتلاوة القرآن أيضا إذا أكثر التلاوة واجتهد في مواطأة القلب مع اللسان حتى تجري التلاوة على اللسان وتقوم مقام حديث النفس فيدخل على العبد سهولة في التلاوة والصلاة ا ه.

ونقل عنه أيضا ما حاصله أن بنية العبد تحكي مدينة جامعة ، وأعضاؤه وجوارحه بمثابة سكان المدينة ، والعبد في إقباله على الذكر كمؤذن صعد منارة على باب المدينة يقصد اسماع أهل المدينة الأذان ، فالذاكر المحقق يقصد إيقاظ قلبه وإنباء أجزائه وأبعاضه بذكر لسانه فهو يقول ببعضه ويسمع بكله إلى أن تنتقل الكلمة من اللسان إلى القلب فيتنور بها ويظفر بجدوى الأحوال ثم ينعكس نور القلب على القالب فيتزين بمحاسن الأعمال ا ه.

(إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) وهم الفانون الباقون به سبحانه وتعالى أرباب الاستقامة (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) لعدم احتجابهم بالأنانية (وَيُسَبِّحُونَهُ) بنفيها (وَلَهُ يَسْجُدُونَ) بالفناء التام وطمس البقية والله تعالى هو الباقي ليس في الوجود سواه.

١٤٦

سورة الأنفال

بسم الله الرحمن الرحيم

مدنية كما روي عن زيد بن ثابت. وعبد الله بن الزبير ، وجاء ذلك في رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.

وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير أنه سئل الحبر عنها فقال : تلك سورة بدر ، وفي رواية أخرى أنه قال : نزلت في بدر ، وقيل : هي مدنية إلا قوله سبحانه وتعالى : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الأنفال: ٣٠] الآية فإنها نزلت بمكة على ما قاله مقاتل ، ورد بأنه صح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هذه الآية بعينها نزلت بالمدينة ، وجمع بعضهم بين القولين بما لا يخلو عن نظر. واستثنى آخرون قوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ) [الأنفال : ٦٤] الآية وصححه ابن العربي وغيره ، ويؤيده ما أخرجه البزار عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت لما أسلم عمر رضي الله تعالى عنه وهي في الشامي سبع وسبعون آية ، وفي البصري والحجازي ست وسبعون. وفي الكوفي خمس وسبعون. ووجه مناسبتها لسورة [الأعراف : ١٩٩] أن فيها (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) وفي هذه كثير من أفراد المأمور به. وفي تلك ذكر قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أقوامهم وفي هذه ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكر ما جرى بينه وبين قومه ، وقد فصل سبحانه وتعالى في تلك قصص آل فرعون وأضرابهم وما حل بهم وأجمل في هذه ذلك فقال سبحانه وتعالى : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) [الأنفال : ٥٢] وأشار هناك إلى سوء زعم الكفرة في القرآن بقوله تعالى : (وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها) [الأعراف : ٢٠٣] وصرح سبحانه وتعالى بذلك هنا بقوله جل وعلا : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [الأنفال : ٢١] وبين جل شأنه فيما تقدم أن القرآن هدى ورحمة لقوم يؤمنون وأردف سبحانه وتعالى ذلك بالأمر بالاستماع له والأمر بذكره تعالى وهنا بين جل وعلا حال المؤمنين عند تلاوته وحالهم إذا ذكر الله تبارك اسمه بقوله عزّ من قائل : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [الأنفال : ٢] إلى غير ذلك من المناسبات ، والظاهر أن وضعها هنا توقيفي وكذا وضع براءة بعدها وهما من هذه الحيثية كسائر السور وإلى ذلك ذهب غير واحد كما مر في المقدمات.

وذكر الجلال السيوطي أن ذكر هذه السورة هنا ليس بتوقيف من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم للصحابة رضي الله تعالى عنهم كما هو المرجح في سائر السور بل باجتهاد من عثمان رضي الله تعالى عنه ، وقد كان يظهر في بادي الرأي أن

١٤٧

المناسب إيلاء الأعراف بيونس وهود لاشتراك في كل في اشتمالها على قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأنها مكية النزول خصوصا أن الحديث ورد في فضل السبع الطول وعدوا السابعة يونس وكانت تسمى بذلك كما أخرجه البيهقي في الدلائل ففي فصلها من الأعراف بسورتين فصل للنظير من سائر نظائره هذا مع قصر سورة الأنفال بالنسبة إلى الأعراف وبراءة ، وقد استشكل ذلك قديما حبر الأمة رضي الله تعالى عنه فقال لعثمان رضي الله تعالى عنه : ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا البسملة بينهما ووضعتموهما في السبع الطول؟ ثم ذكر جواب عثمان رضي الله تعالى عنه ، وقد أسلفنا الخبر بطوله سؤالا وجوابا ، ثم قال : وأقول : يتم مقصد عثمان رضي الله تعالى عنه في ذلك بأمور فتح الله تعالى بها. الأول أنه جعل الأنفال قبل براءة مع قصرها لكونها مشتملة على البسملة فقدمها لتكون كقطعة منها ومفتتحها وتكون براءة لخلوها من البسملة كتتمتها وبقيتها.

ولهذا قال جماعة من السلف : إنهما سورة واحدة. الثاني أنه وضع براءة هنا لمناسبة الطول فانه ليس بعد الست السابقة سورة أطول منها وذلك كاف في المناسبة. الثالث أنه خلل بالسورتين أثناء السبع الطول المعلوم ترتيبها في العصر الأول للإشارة إلى أن ذلك أمر صادر لا عن توقيف وإلى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبض قبل أن يبين كلتيهما فوضعا هنا كالوضع المستعار بخلاف ما لو وضعا بعد السبع الطول فإنه كان يوهم أن ذلك محلهما بتوقيف ولا يتوهم هذا على هذا الوضع للعلم بترتب السبع.

فانظر إلى هذه الدقيقة التي فتح الله تعالى بها ولا يغوص عليها الأغواص. الرابع أنه لو أخرهما وقدم يونس وأتى بعد براءة بهود كما في مصحف أبي لمراعاة مناسبة السبع وإيلاء بعضها بعضا لفات مع ما أشرنا إليه أمر آخر آكد في المناسبة فإن الأولى بسورة يونس أن يؤتى بالسور الخمسة التي بعدها لما اشتركت فيه من المناسبات من القصص والافتتاح ب (الر) وبذكر الكتاب ومن كونها مكيات ومن تناسب ما عدا الحجر في المقدار ومن التسمية باسم نبي والرعد اسم ملك وهو مناسب لأسماء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، فهذه عدة مناسبات للاتصال بين يونس وما بعدها وهي آكد من هذا الوجه الواحد في تقديم يونس بعد الأعراف ، ولبعض هذه الأمور قدمت سورة الحجر على النحل مع كونها أقصر منها ، ولو أخرت براءة عن هذه السورة الست لبعدت المناسبة جدا لطولها بعد عدة سور أقصر منها بخلاف وضع سورة النحل بعد الحجر فانها ليست كبراءة في الطول.

ويشهد لمراعاة الفواتح في مناسبة الوضع ما ذكرناه من تقديم الحجر على النحل لمناسبة (الر) قبلها ، وما تقدم من تقديم آل عمران على النساء وإن كانت أقصر منها لمناسبتها البقرة في الافتتاح (بالم) وتوالى الطواسين والحواميم وتوالى العنكبوت والروم ولقمان والسجدة لافتتاح كل (بألم) ، ولهذا قدمت السجدة على الأحزاب التي هي أطول منها ، هذا ما فتح الله تعالى به عليّ ، ثم ذكر أن ابن مسعود رضي الله تعالى قدم في مصحفه البقرة والنساء وآل عمران والأعراف والأنعام والمائدة ويونس راعى السبع الطول فقدم الأطول فالأطول منها فالأطول ثم ثنى بالمئين فقدم براءة ثم النحل ثم هود ثم يوسف ثم الكهف وهكذا الأطول وجعل الأنفال بعد النور.

ووجه المناسبة أن كلّا مدنية ومشتملة على أحكام وأن في [النور : ٥٥](وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) الآية. وفي [الأنفال : ٢٦](وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ) إلخ. ولا يخفى ما بين الآيتين من المناسبة فإن الأولى مشتملة على الوعد بما حصل وذكر به في الثانية فتأمل ا ه.

وأقول : قد من الله تعالى على هذا العبد الحقير بما لم يمن به على هذا المولى الجليل والحمد لله تعالى على

١٤٨

ذلك حيث أوقفني سبحانه على وجه مناسبة هذه السورة لما قبلها وهو لم يبين ذلك. ثم ما ذكره من عدم التوقيف في هذا الوضع في غاية البعد كما يفهم مما قدمناه في المقدمات ، وسؤال الحبر وجواب عثمان رضي الله تعالى عنهما ليسا نصا في ذلك ، وما ذكره عليه الرحمة في أول الأمور التي فتح الله تعالى بها عليه غير ملائم بظاهره ظاهر سؤال الحبر رضي الله تعالى عنه حيث أفاد أن إسقاط البسملة من براءة اجتهادي أيضا ويستفاد مما ذكره خلافه ، وما ادعاه من أن يونس سابعة السبع الطول ليس أمرا مجمعا عليه بل هو قول مجاهد وابن جبير ورواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وفي رواية عند الحاكم أنها الكهف ، وذهب جماعة كما قال في إتقانه : إلى أن السبع الطول أولها البقرة وآخرها براءة ، واقتصر ابن الأثير في النهاية على هذا ، وعن بعضهم أن السابعة الأنفال وبراءة بناء على القول بأنهما سورة واحدة ، وقد ذكر ذلك الفيروزآبادىّ في قاموسه ، وما ذكره في الأمر الثاني يغني عنه ما علل به عثمان رضي الله تعالى عنه. فقد أخرج النحاس في ناسخه عنه أنه قال : كانت الأنفال وبراءة يدعيان في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرينتين فلذلك جعلتهما في السبع الطول ، وما ذكره من مراعاة الفواتح في المناسبة غير مطرد فإن الجن والكافرون والإخلاص مفتتحات بقل مع الفصل بعدة سور بين الأولى والثانية والفصل بسورتين بين الثانية والثالثة ، وبعد هذا كله لا يخلو ما ذكره عن نظر كما لا يخفى على المتأمل فتأمل.

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩) وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (١١) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (١٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (١٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا

١٤٩

زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٢١) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)(٢٤)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) جمع نفل بالفتح وهو الزيادة ولذا قيل للتطوع نافلة وكذا لولد الولد ، ثم صار حقيقة في العطية ومنه قول لبيد :

ان تقوى ربنا خير نفل

وبإذن الله ريثي وعجل

لأنها لكونها تبرعا غير لازم كأنها زيادة ويسمى به الغنيمة أيضا وما يشترطه الإمام للغازي زيادة على سهمه لرأي يراه سواء كان لشخص معين أو لغير معين كمن قتل قتيلا فله سلبه ، وجعلوا من ذلك ما يزيده الإمام لمن صدر منه أثر محمود في الحرب كبراز وحسن أقدام وغيرهما ، وإطلاقه على الغنيمة باعتبار أنها منحة من الله تعالى من غير وجوب ، وقال الإمام عليه الرحمة : لأن المسلمين فضلوا بها على سائر الأمم التي لم تحل لهم ، ووجه التسمية لا يلزم اطراده ، وفي الخبر أن المغانم كانت محرمة على الأمم فنفلها الله تعالى هذه الأمة ، وقيل : لأنها زيادة على ما شرع الجهاد له وهو إعلاء كلمة الله تعالى وحماية حوزة الإسلام فإن اعتبر كون ذلك مظفورا به سمي غنيمة ، ومن الناس من فرق بين الغنيمة والنفل بالعموم والخصوص ، فقيل : الغنيمة ما حصل مستغنما سواء كان ببعث أو لا باستحقاق أو لا قبل الظفر أو بعده ، والنفل ما قبل الظفر أو ما كان بغير قتال وهو الفيء ؛ وقيل : ما يفضل عن القسمة ثم إن السؤال كما قال الطيبي ونقل عن الفارسي إما لاستدعاء معرفة أو ما يؤدي إليها وإما لاستدعاء جدال أو ما يؤدي إليه ، وجواب الأول باللسان وينوب عنه اليد بالكتابة أو الإشارة ويتعدى بنفسه وبعن والباء ، وجواب الثاني باليد وينوب عنها اللسان موعدا وردا ويتعدى بنفسه أو بمن وقد يتعدى لمفعولين كأعطى واختار ، وقد يكون الثاني جملة استفهامية نحو (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ) [البقرة : ٢١١] والمراد بالأنفال هنا الغنائم كما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد وطائفة من الصحابة وغيرهم ، وبالسؤال السؤال لاستدعاء المعرفة كما اختاره جمع من المفسرين لتعديه بعن والأصل عدم ارتكاب التأويل ، ويؤيد ذلك ما أخرجه أحمد. وابن حبان. والحاكم من حديث عبادة بن الصامت رضي

١٥٠

الله تعالى عنه وهو سبب النزول أن المسلمين اختلفوا في غنائم بدر وفي قسمتها فسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيف تقسم ولمن الحكم فيها أهو للمهاجرين أم للأنصار أم لهم جميعا؟ فنزلت هذه الآية.

وقال بعضهم : إن السؤال استعطاء. والمراد بالنفل ما شرط للغازي زائدا على سهمه ، وسبب النزول غير ما ذكر. فقد أخرج عبد الرزاق في المصنف وعبد بن حميد وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من قتل قتيلا فله كذا ومن جاء بأسير فله كذا فجاء أبو اليسر بن عمرو الأنصاري بأسيرين فقال : يا رسول الله إنك قد وعدتنا. فقام سعد بن عبادة فقال : يا رسول الله إنك إن أعطيت هؤلاء لم يبق لأصحابك شيء وإنه لم يمنعنا من هذا زهادة في الأجر ولا جبن عن العدو وإنما قمنا هذا المقام محافظة عليك أن يأتوك من ورائك فتشاجروا فنزل القرآن ، وادعوا زيادة (عَنِ) واستدلوا لذلك بقراءة ابن مسعود ، وسعد بن أبي وقاص وعلي بن الحسين وزيد ومحمد الباقر وجعفر الصادق وطلحة بن مصرف «يسألونك الأنفال» وتعقب بأن هذه القراءة من باب الحذف والإيصال وليست دعوى زيادة (عَنِ) في القراءة المتواترة لسقوطها في القراءة الأخرى أولى من دعوى تقديرها في تلك القراءة لثبوتها في القراءة المتواترة بل قد ادعى بعض أنه ينبغي حمل قراءة إسقاط (عَنِ) على إرادتها لأن حذف الحرف وهو مراد معنى أسهل من زيادته للتأكيد ، على أنه يبعد القول بالزيادة هنا الجواب بقوله تعالى : (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) فإنه المراد به اختصاص أمرها وحكمها بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقسمها النبي عليه الصلاة والسلام كما يأمره الله تعالى من غير أن يدخل فيه رأي أحد ، فإن مبني ذلك القول القول بأن السؤال استعطاء ولو كان كذلك لما كان هذا جوابا له فإن اختصاص حكم ما شرط لهم بالله تعالى والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ينافي إعطاءه إياهم بل يحققه لأنهم إنما يسألونه بموجب شرط الرسول عليه الصلاة والسلام الصادر عنه بإذن الله تعالى لا بحكم سبق أيديهم إليه أو نحو ذلك مما يخل بالاختصاص المذكور.

وحمل الجواب على معنى أن الأنفال بذلك المعنى مختصة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا حق فيها للمنفل كائنا من كان لا سبيل إليه قطعا ضرورة ثبوت الاستحقاق بالتنفيل ، وادعاء أن ثبوته بدليل متأخر التزم لتكرر النسخ من غير علم بالناسخ الأخير ، ولا مساغ للمصير إلى ما ذهب إليه مجاهد وعكرمة والسدي من أن الأنفال كانت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة ليس لأحد فيها شيء بهذه الآية فنسخت بقوله تعالى : (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) [الأنفال : ٤١] لما أن المراد بالأنفال فيما قالوا هو المعنى الأول حسبما نطق به قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) [الأنفال : ٤١] الآية ، على أن الحق أنه لا نسخ حينئذ حسبما قاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، بل بين هنا إجمالا أن الأمر مفوض لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرح فيما بعد مصارفها وكيفية قسمتها ، وادعاء اقتصار الاختصاص بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الأنفال المشروطة يوم بدر بجعل اللام للعهد مع بقاء استحقاق المنفل في سائر الأنفال المشروطة يأباه مقام بيان الأحكام كما ينبئ عنه إظهار الأنفال في مقام الإضمار ، على أن الجواب عن سؤال الموعود ببيان كونه له عليه الصلاة والسلام خاصة مما يليق بشأنه الكريم أصلا.

وقد روي عن سعد بن أبي وقاص أنه قال : قتل أخي عمير يوم بدر فقتلت به سعيد بن العاص وأخذت سيفه فأعجبني فجئت به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : إن الله قد شفى صدري من المشركين فهب لي هذا السيف فقال عليه الصلاة والسلام : ليس هذا لي ولا لك اطرحه في القبض فطرحته وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي فما جاوزت إلا قليلا حتى نزلت سورة الأنفال فقال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا سعد إنك سألتني السيف وليس لي وقد صار لي فاذهب فخذه ، وهذا كما ترى يقتضي عدم وقوع التنفيل يومئذ وإلا لكان سؤال السيف من سعد بموجب شرطه

١٥١

عليه الصلاة والسلام ووعده لا بطريق الهبة المبتدأة وحمل ذلك من سعد على مراعاة الأدب مع كون سؤاله بموجب الشرط يرده ورده صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل النزول وتعليله بقوله : ليس هذا لي لاستحالة أن يعد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لي ضرورة أن مناط صيرورته له صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله تعالى : (الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) والفرض أنه المانع من إعطاء المسئول ، ومما هو نص في الباب قوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ) فإنه لو كان السؤال طلبا للمشروط لما كان فيه محذور يجب اتقاؤه قاله شيخ الإسلام عليه الرحمة ، وحاصله إنكار وقوع التنفيل حينئذ ، وعدم صحة حمل السؤال على الاستعطاء والأنفال على المعنى الثاني من معنييها ، وأنا أقول : قد جاء خبر التنفيل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من الطريق الذي ذكرناه ومن طريق آخر أيضا ، فقد أخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن حبان وأبو الشيخ والبيهقي في الدلائل والحاكم وصححه عنه رضي الله تعالى عنه قال : «لما كان يوم بدر قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : من قتل قتيلا فله كذا وكذا ومن أسر أسيرا فله كذا وكذا فأما المشيخة فثبتوا تحت الرايات وأما الشبان فتسارعوا إلى القتل والغنائم فقالت المشيخة للشبان : أشركونا معكم فإنا كنا لكم رداء ولو كان منكم شيء للجأتم إلينا فاختصموا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) الآية فقسم الغنائم بينهم بالسوية» ويشير إلى وقوعه أيضا ما أخرجه أحمد وعبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم والبيهقي في سنن عن أبي أمامة قال : سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال : فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل فساءت فيه أخلاقنا فانتزعه الله تعالى من أيدينا وجعله إلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقسمه عليه الصلاة والسلام بين المسلمين عن بواء، ولعل في الباب غير هذه الروايات فكان على الشيخ حيث أنكر وقوع التنفيل أن يطعن فيها بضعف ونحوه ليتم له الغرض.

وما ذكره من حديث سعد بن أبي وقاص فقد أخرجه أحمد وابن أبي شيبة عنه وهو مع أنه وقع فيه سعيد بن العاص والمحفوظ كما قال : أبو عبيد العاصي بن سعيد مضطرب المتن ، فقد أخرج عبد بن حميد والنحاس وأبو الشيخ وابن مردويه عن سعد أنه قال : «أصاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غنيمة عظيمة فإذا فيها سيف فأخذته فأتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : نفلني هذا السيف فأنا من علمت فقال : رده من حيث أخذته فرجعت به حتى إذا أردت أن ألقيه في القبض لامتني نفسي فرجعت إليه عليه الصلاة والسلام فقلت : أعطنيه فشد لي صوته وقال رده من حيث أخذته فأنزل الله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ)».

فإن هذه الرواية ظاهرة في أن السيف لم يكن سلبا كما هو ظاهر الرواية الأولى بل إن سعدا رضي الله تعالى عنه وجده في الغنيمة وطلبه نفلا على سهمه الشائع فيها. وأخرج النحاس في ناسخه عن سعيد بن جبير أن سعدا ورجلا من الأنصار خرجا يتنفلان فوجدا سيفا ملقى فخرا عليه جميعا فقال سعد : هو لي وقال الأنصاري : هو لي لا أسلمه حتى آتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأتياه فقصا عليه القصة فقال عليه الصلاة والسلام : ليس لك يا سعد ولا للأنصاري ولكنه لي فنزلت (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) الآية ، ومخالفة هذه الرواية للروايتين السابقتين المختلفتين كما علمت في غاية الظهور فلا يكاد يعول على إحداهما إلا بإثبات أنها الأصح. ولم تقف على أنهم نصوا على تصحيح الرواية التي ذكرها الشيخ فضلا عن النص على الأصحية.

نعم أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في السنن عن سعد المذكور رضي الله تعالى عنه قال : «قلت يا رسول قد شفاني الله تعالى اليوم من المشركين فهب لي هذا السيف قال : إن هذا السيف لا لك ولا لي ضعه فوضعته ثم رجعت فقلت: عسى يعطى هذا السيف اليوم من لا يبلي بلائي إذا رجل يدعوني من ورائي فقلت : قد أنزل في شيء قال عليه الصلاة

١٥٢

والسلام : كنت سألتني هذا السيف وليس هو لي واني قد وهب لي فهو لك وأنزل الله تعالى هذه الآية (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ)» إلخ ، فهذه الرواية وإن نص فيها على التصحيح إلا أنه ليست ظاهرة في أن السيف كان سلبا له من عمير كما هو نص الرواية الأولى ، وإن قلنا : إن هذه الرواية وإن لم تكن موافقة للأولى حذو القذة بالقذة لكنها ليست مخالفة لها ، وزيادة الثقة مقبولة سواء كانت في الأول أم في الآخر أم في الوسط ، فلا بد من القول بالنسخ كما هو احدى الروايات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما أنها ظاهرة في كون الأنفال صارت ملكا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس لأحد فيها حق أصلا إلا أن يجود عليه عليه الصلاة والسلام كما يجود من سائر أمواله ، والمولى المذكور ذهب إلى القول بعدم النسخ ولم يعلم أن هذا الخبر الذي استند إليه في إنكار وقوع التنفيل يعكر عليه ، وادعاء أن معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فيه «وقد صار لي» أنه صار حكمه لي لكن عبر بذلك مشاكلة لما في الآية يرده ما في الرواية الأخرى المنصوص على صحتها من الترمذي والحاكم «واني قد وهب لي» ، وحمل ذلك أيضا على مثل ما حمل عليه الأول مما لا يكاد يقدم عليه عارف بكلام العرب لا سيما كلام أفصح من نطق بالضاد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما ذكره قدس‌سره من أن قوله تعالى : (قُلِ الْأَنْفالُ) إلخ لا يكون جوابا لسؤال الاستعطاء فإن اختصاص حكم ما شرط لهم بالرسول عليه الصلاة والسلام لا ينافي الإعطاء بل يحققه ، وقد يجاب عنه بالتزام الحمل الذي ادعى أن لا سبيل إليه قطعا ويقال بالنسخ. وهو من نسخ السنة قبل تقررها بالكتاب ، وأن المنسوخ إنما هو ذلك التنفيل ، والتنفيل الذي يقول به العلماء اليوم هو أن يقول الإمام من قتل قتيلا فله سلبه أو يقول للسرية جعلت لكم الربع بعد الخمس أي بعد ما يرفع الخمس للفقراء ، وقد يكون بغير ذلك كالدراهم والدنانير. وذكر في السير الكبير أنه لو قال : ما أصبتم فهو لكم ولم يقل بعد الخمس لم يجز لأن فيه ابطال الخمس الثابت بالنص ، وبعين ذلك يبطل ما لو قال : من أصاب شيئا فهو له لاتحاد اللازم فيهما بل هو أولى بالبطلان ، وبه أيضا ينتفى ما قالوا : لو نفل بجميع المأخوذ جاز إذا رأى مصلحة ، وفيه زيادة إيحاش الباقين وإيقاع الفتنة. وذكر السادة الشافعية أن الأصح أن النفل يكون من خمس الخمس المرصد للمصالح أن نفل مما سيغنم في هذا القتال لأنه المأثور عندهم كما جاء عن ابن المسيب.

ويحتمل أن التنفيل المنسوخ الواقع يوم بدر عند القائل به لم يكن كهذا الذي ذكرناه عن أئمتنا وكذا عن الشافعية الثابت عندهم بالأدلة المذكورة في كتب الفريقين. والأخبار التي وقفنا عليها في ذلك التنفيل غير ظاهرة في اتحاده مع هذا التنفيل.

وحينئذ فما نسخ لم يثبت وإنما ثبت غيره ، وربما يقال : على فرض تسليم أن ما ثبت هو ما نسخ أن دليل ثبوته هو قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ) [الأنفال : ٦٥] فإن في ذلك من التحريض ما لا يخفى ، ودعوى أن حمل أل في الأنفال على العهد يأباه المقام في حيز المنع ، ومما يستأنس به للعهد أنه يقال لسورة الأنفال سورة بدر فلا بدع أن يراد من الأنفال أنفال بدر ، وإنباء الإظهار في مقام الإضمار على ما ادعاه في غاية الخفاء ، وكون الجواب عن سؤال الموعود ببيان اختصاصه به عليه الصلاة والسلام مما لا يليق بشأنه الكريم أصلا مما لا يكاد يسلم ، كيف والحكم إلهي والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مأمور بالابلاغ ، وقد يقال : حاصل الجواب يا قوم ان ما وعدتكم به بإذن الله تعالى قد ملكنيه سبحانه وتعالى دونكم وهو أعلم بالحكمة فيما فعل أولا وآخرا فاتقوا الله من سوء الظن أو عدم الرضا بذلك. ومن هنا يعلم حسن الأمر بالتقوى بعد ذلك الجواب وبطلان ما ادعاه المولى المدقق من أن هذا الأمر نص في الباب ، وقد يقال أيضا : لا مانع من أن يحمل السؤال على الاستعلام ، والاختصاص على اختصاص الحكم مع كون المراد بالأنفال المعنى الثاني ، والمعنى يسألونك عن حال ما وعدتهم إياه هل يستحقونه وان حرم غيرهم ممن كان ردا وملجأ

١٥٣

حيث إنك وعدتهم وأطلقت لهم الأمر قل إن ذلك الموعود قد نسخ استحقاقكم له بالوعد المأذون فيه من قبل وفوض أمره إلي ولم يحجز علي بإعطائه لكم دون غيركم بل رخصت أن أساوي أصحابكم الذين كانوا ردا لكم معكم لئلا يرجع أحد من أهل بدر بخفي حنين ويستوحشوا من ذلك وتفسد ذات البيت ، فاتقوا الله تعالى من الاستقلال بما أخذتموه أو إخفاء شيء منه بناء على أنكم كنتم موعودين به (وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) بالرد والمواساة فيما حل بأيديكم (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) في كل ما يأمر به وينهى عنه فإن في ذلك مصالح لا تعلمونها وإنما يعلمها الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتقرير السؤال والجواب على هذا الأسلوب وإن لم يكن ظاهرا إلا أنه ليس بالبعيد جدا ، ثم ما ذكره قدس‌سره من أن حديث النسخ الواقع في كلام مجاهد. وعكرمة. والسدي إنما هو للأنفال بالمعنى الأول لدلالة الناسخ على ذلك مسلم ، لكن جاء في آخر رواية النحاس عن ابن جبير السابقة في قصة سعد وصاحبه الأنصاري رضي الله تعالى عنهما ما يوهم كون النسخ للآية مع حمل الأنفال على غير ذلك المعنى وليس كذلك ، هذا ثم إني أعود فأقول : إن هذا التكلف الذي تكلفناه إنما هو لصيانة الروايات الناطقة بكون سبب النزول ما استند إليه القائل بأن الأنفال بالمعنى الثاني عن الإلغاء قبل الوقوف على ضعفها ، ومجرد ما ذكره المولى قدس‌سره لا يدل على ذلك ، ألا تراهم كيف يعدلون عن ظواهر الآيات إذا صح حديث يقتضي ذلك ، وإلا فأنا لا أنكر أن كون حمل الأنفال على المعنى الأول والذهاب إلى أن الآية غير منسوخة والسؤال للاستعلام أقل مئونة من غيره فتأمل ذاك والله سبحانه وتعالى يتولى هداك ، والمراد بقوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ) إلخ على هذا أنه إذا كان أمر الغنائم لله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاتقوه سبحانه وتعالى واجتنبوا ما أنتم فيه من المشاجرة فيها والاختلاف الموجب لشق العصا وسخطه تعالى ، أو فاتقوه في كل ما تأتون وتذرون فيدخل ما هم فيه دخولا أوليا ، وأصلحوا ما بينكم من الأحوال بترك الغلول ونحوه ، وعن السدي بعدم التساب.

وعن عطاء كان الإصلاح بينهم «أن دعاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : اقسموا غنائمكم بالعدل : فقالوا : قد أكلنا وأنفقنا. فقال عليه الصلاة والسلام : ليرد بعضكم على بعض» و (ذاتَ) كما قيل بمعنى صاحبة صفة لمفعول محذوف. و «بين» اما بمعنى الفراق أو الوصل أو ظرف أي أحوالا ذات افتراقكم أو ذات وصلكم أو ذات الكمال المتصل بكم. وقال الزجاج وغيره : إن (ذاتَ) هنا بمنزلة حقيقة الشيء ونفسه كما بينه ابن عطية وعليه استعمال المتكلمين ، ولما كانت الأحوال ملابسة للبين أضيفت إليه كما تقول : اسقني ذا انائك أي ما فيه جعل كأنه صاحبه ، وذكر الاسم الجليل في الأمرين لتربية المهابة وتعليل الحكم.

وذكر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع الله تعالى أولا وآخرا لتعظيم شأنه وإظهار شرفه والإيذان بأن طاعته عليه الصلاة والسلام طاعة الله تعالى ، وقال غير واحد : إن الجمع بين الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولا لأن اختصاص الله تعالى بالأمر والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالامتثال ، وتوسيط الأمر بإصلاح ذات البين بين الأمر بالتقوى والأمر بالطاعة لإظهار كمال العناية بالإصلاح بحسب المقام وليندرج الأمر به بعينه تحت الأمر بالطاعة.

وقرأ ابن محيصن «يسألونك علنفال» بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام وادغام نون عن فيها ولا اعتداد بالحركة العارضة (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) متعلق بالأوامر الثلاثة ، والجواب محذوف ثقة بدلالة المذكور عليه أو هو الجواب على الخلاف المشهور ، وأيا ما كان فالمراد بيان ترتب ما ذكر عليه لا التشكيك في إيمانهم ، وهو يكفي في التعليق بالشرط ، والمراد بالإيمان التصديق ، ولا خفاء في اقتضائه ما ذكر على معنى أنه من شأنه ذلك لا أنه لازم له حقيقة. وقد يراد بالإيمان الكامل والأعمال شرط فيه أو شطر ، فالمعنى إن كنتم كاملي الإيمان فإن كمال الإيمان يدور على تلك الخصال الثلاثة الاتقاء والإصلاح وإطاعة الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويؤيد إرادة الكمال قوله سبحانه

١٥٤

وتعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) إلخ إذ المراد به قطعا الكاملون في الإيمان وإلا لم يصح الحصر ، وهو حينئذ جار على ما هو الأصل المشهور في النكرة إذا أعيدت معرفة ، وعلى الوجه الأول لا يكون هذا عين النكرة السابقة ، ويلتزم القول بأن القاعدة أغلبية كما قد صرحوا به في غير ما موضع ، أي إنما المؤمنون الكاملون في الإيمان المخلصون فيه (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) أي فزعت استعظاما لشأنه الجليل وتهيبا منه جل وعلا والاطمئنان المذكور في قوله سبحانه وتعالى : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد : ٢٨] لا ينافي الوجل والخوف لأنه عبارة عن ثلج الفؤاد وشرح الصدر بنور المعرفة والتوحيد وهو يجامع الخوف ، وإلى هذا ذهب ابن الخازن ، ووفق بعضهم بين الآيتين بأن الذكر في إحداهما ذكر رحمة وفي الأخرى ذكر عقوبة فلا منافاة بينهما. وأخرج البيهقي وجماعة عن السدي أنه قال في الآية : هو الرجل يريد أن يظلم أو يهم بمعصية فيقال له : اتق الله تعالى فيجل قلبه ، وحمل الوجل فيها على الخوف منه تعالى كلما ذكر أبلغ في المدح من حمله على الخوف وقت الهم بمعصية أو إرادة ظلم. وهذا الوجل في قلب المؤمن كضرمة السعفة كما جاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها.

وأخرج ابن جرير وغيره عن أم الدرداء أن الدعاء عند ذلك مستجاب ، وعلامته حصول القشعريرة.

وقرئ «وجلت» بفتح الجيم ومضارعه يحل ، وأما وجل بالكسر فمضارعه يوجل وجاء ييجل ويأجل وهي لغات أربع حكاها سيبويه ، وقرأ عبد الله «فرقت» أي خافت (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ) أي القرآن كما روي عن ابن عباس (زادَتْهُمْ إِيماناً) أي تصديقا كما هو المتبادر فإن تظاهر الأدلة وتعاضد الحجج مما لا ريب في كونه موجبا لذلك ، وهذا أحد أدلة من ذهب إلى أن الإيمان يقبل الزيادة والنقص ، وهو مذهب الجم الغفير من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين وبه أقول لكثرة الظواهر الدالة على ذلك من الكتاب والسنة من غير معارض لها عقلا ، بل قد احتج عليه بعضهم بالعقل أيضا ، وذلك أنه لو لم تتفاوت حقيقة الإيمان لكان إيمان آحاد الأمة بل المنهمكين في الفسق والمعاصي مساويا لإيمان الأنبياء والملائكة عليهم الصلاة والسلام ، واللازم باطل فكذا الملزوم ، وقال محيي الدين النووي في معرض بيان ذلك : إن كل أحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل حتى يكون في بعض الأحيان أعظم يقينا وإخلاصا منه في بعضها ، فكذلك التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها ، وأجابوا عما اعترض به عليه من أنه متى قبل ذلك كان شكا وهو خروج عن حقيقته بأن مراتب اليقين متفاوتة إلى علم اليقين وحق اليقين وعين اليقين مع أنه لا شك معها ، وذهب الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه وكثير من المتكلمين إلى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص ، واختاره إمام الحرمين محتجين بأنه اسم للتصديق البالغ حد الجزم والإذعان وذلك لا يتصور فيه زيادة ولا نقصان ، فالمصدق إذا أتى بالطاعات أو ارتكب المعاصي فتصديقه بحاله لم يتغير أصلا ، وإنما يتفاوت إذا كان اسما للطاعات المتفاوتة قلة وكثرة على ما ذهب إليه القلانسي وجماعة من السلف ، وبما رواه الفقيه أبو الليث السمرقندي في تفسيره عن محمد ابن الفضل وأبي القاسم الساباذي عن فارس بن مردويه عن محمد بن الفضل بن العابد عن يحيى بن عيسى عن أبي مطيع عن حماد بن سلمة عن أبي المهزم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : «جاء وفد ثقيف إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا رسول الله الإيمان يزيد وينقص؟ فقال : لا. الإيمان مكمل في القلب زيادته ونقصانه كفر».

وأجابوا عما تمسك به الأولون من الآيات والأحاديث بأن الزيادة بحسب الدوام والثبات وكثرة الزمان والساعات. وإيضاحه ما قاله إمام الحرمين : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفضل من عداه باستمرار تصديقه وعصمة الله تعالى إياه من مخامرة الشكوك والتصديق عرض لا يبقى بشخصه زمانين بل بتجدد أمثاله فتقع للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دون غيره متوالية فيثبت له صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعداد من الإيمان لا يثبت لغيره إلا بعضها فيكون إيمانه أكثر. واعترض هذا بأن حصول المثل بعد انعدام الشيء لا

١٥٥

يكون زيادة فيه ودفع بأن المراد زيادة اعداد حصلت وعدم البقاء لا ينافي ذلك ، وأجابوا أيضا بأن المراد الزيادة بحسب زيادة ما يؤمن به ، والصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا آمنوا في الجملة وكانوا الشريعة غير تامة والأحكام تتنزل شيئا فشيئا فكانوا يؤمنون بكل ما يتجدد منها ولا شك في تفاوت إيمان الناس بملاحظة التفاصيل كثرة وقلة ولا يختص ذلك بعصر النبوة لامكان الاطلاع عليها في غيره من العصور وبأن المراد زيادة ثمرته واشراق نوره في القلب فان نوره يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي ، ولا يخفى أن الحجة الأولى يعلم جوابها مما ذكرناه أولا ، وأما الحجة الثانية التي ذكرها أبو الليث فيما لا يعول عليها عند الحفاظ أصلا لأن رجال السند إلى أبي مطيع كلهم مجهولون لا يعرفون في شيء من كتب التواريخ المشهورة ، وأما أبو مطيع وهو الحكم بن عبد الله بن مسلمة البلخي فقد ضعفه أحمد بن حنبل. ويحيى بن معين. وعمرو بن علي الفلاس. والبخاري. وأبو داود. والنسائي. وحاتم الرازي. وأبو حاتم محمد بن حبان البستي. والعقيلي. وابن عدي. والدارقطني وغيرهم.

وأما أبو المهزم وقد تصحف على الكتاب ، واسمه يزيد بن سفيان فقد ضعفه أيضا غير واحد وتركه شعبة بن الحجاج ، وقال النسائي : متروك ، وقد اتهمه شعبة بالوضع حيث قال : لو أعطوه فلسين لحدثهم سبعين حديثا ، ومن مارس الأحاديث النبوية لا يشك في أن ذلك اللفظ ليس منها في شيء ، وما ذكره إمام الحرمين على ما فيه مبني على تجدد الأعراض وعدم بقائها زمانين ، والمسألة خلافية ، ودون إثبات ذلك خرط القتاد.

وما أجابوا به أولا من أن زيادة الإيمان بحسب زيادة المؤمن به مع كونه خلاف الظاهر ولا داعي إليه عند المنصف لا يكاد يتأتى في قوله تعالى : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً) [آل عمران : ١٧٢] وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) [الفتح : ٤] إذ ليس هناك زيادة مشروع يحصل الإيمان به ليقال : إن زيادة الإيمان بحسب زيادة المؤمن به ، وحال الجواب الثاني لا يخفى عليك. وذهب جماعة منهم الإمام الرازي وإمام الحرمين في قول إلى أن الخلاف في زيادة الإيمان ونقصانه وعدمهما لفظي وهو فرع تفسير الإيمان ، فمن فسره بالتصديق قال : إنه لا يزيد ولا ينقص ، ومن فسره بالأعمال مع التصديق قال : إنه يزيد وينقص ، وعلى هذا قول البخاري : لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحدا منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص ، وهو المعنى بما روي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : «قلنا يا رسول الله إن الإيمان يزيد وينقص قال : نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة وينقص حتى يدخل صاحبه النار».

واعترض على هذا بأن عدم قبول الإيمان الزيادة والنقص على تقدير كون الطاعات داخلة في مسماه أولى وأحق من عدم قبوله ذلك إذا كان مسماه التصديق وحده ، أما أولا فلأنه لا مرتبة فوق كل الأعمال لتكون زيادة ولا إيمان دونه ليكون نقصا ، وأما ثانيا فلأن أحدا لا يستكمل الإيمان حينئذ والزيادة على ما لم يكمل بعد محال. وأجيب بأن هذا إنما يتوجه على المعتزلة والخوارج القائلين بانتفاء الإيمان بانتفاء شيء من الأعمال ونحن إنما نقول : إنها شرط كمال فيه واللازم عند الانتفاء انتفاء الكمال وهو غير قادح في أصل الإيمان والحق أن الخلاف حقيقي وأن التصديق يقبل التفاوت بحسب مراتبه فما المانع من تفاوته قوة وضعفا كما في التصديق بطلوع الشمس والصديق بحدوث العالم وقلة وكثرة كما في التصديق الإجمالي والتصديق التفصيلي المتعلق بالكثير وما علي إذا خالفت في بعض المسائل مذهب الإمام الأعظم أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه للأدلة التي لا تكاد تحصى فالحق أحق بالاتباع والتقليد في مقل هذه المسائل من سنن العوام.

نعم أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الربيع بن أنس أنه فسر الإيمان في هذه الآية بالخشية وعبر

١٥٦

عنها بذلك بناء على أنها من آثاره وهو خلاف الظاهر أيضا ، وكأن المعنى عليه أن المؤمنين الكاملين هم الذين إذا ذكر الله من غير أن يذكر هناك ما يوجب الفزع من صفاته وأفعاله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته المتضمنة ذلك زادتهم وجلا على على وجل (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) أي يفوضون أمورهم كلها إلى مالكهم ومدبرهم خاصة لا إلى أحد سواه كما يدل عليه تقديم المتعلق على عامله والجملة معطوفة على الصلة.

وجوز أبو البقاء كونها حالا من ضمير المفعول وكونها استئنافية. وقوله سبحانه وتعالى : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) مرفوع على أنه نعت للموصول الأول أو بدل منه أو بيان له أو منصوب على القطع المنبئ عن المدح ، وقد مدحهم سبحانه وتعالى أولا بمكارم الأعمال القلبية من الخشية والإخلاص والتوكل وهذا مدح لهم بمحاسن الأعمال القالبية من الصلاة والصدقة (أُولئِكَ) أي المتصفون بما ذكر من الصفات الحميدة من حيث إنهم كذلك (هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) لأنهم حققوا إيمانهم بأن ضموا إليه ما فضل من أفاضل الأعمال.

وأخرج الطبراني عن الحرث بن مالك الأنصاري أنه مر برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له : «كيف أصبحت يا حارث قال : أصبحت مؤمنا حقا فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : انظر ما تقول فإن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ فقال : عزفت نفسي عن الدنيا فاسهرت ليلي واظمأت نهاري وكأني انظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها وكأني انظر إلى أهل النار يتصارخون فيها قال عليه الصلاة والسلام : يا حارث عرفت فالزم ثلاثا» ونصب (حَقًّا) على أنه صفة مصدر محذوف فالعامل فيه المؤمنون أي إيمانا حقا أو هو مؤكد لمضمون الجملة فالعامل فيه حق مقدر ، وقيل : إنه يجوز أن يكون مؤكدا لمضمون الجملة التي بعده فهو ابتداء كلام ، وهو مع أنه خلاف الظاهر إنما يتجه على القول بجواز تقديم المصدر المؤكد لمضمون الجملة عليها والظاهر منعه كالتأكيد ، واستدل بعضهم بالآية على أنه لا يجوز أن يصف أحد نفسه بكونه مؤمنا حقا لأنه سبحانه وتعالى : إنما وصف بذلك أقواما على أوصاف مخصوصة وكل أحد لا يتحقق وجود تلك الأوصاف فيه بل يلزمه أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله تعالى.

وقرر بعضهم وجه الاستدلال بما يشير إليه ما روي عن الثوري أنه قال : من زعم أنه مؤمن بالله تعالى حقّا ثم لم يشهد أنه من أهل الجنة فقد آمن بنصف الآية ولم يؤمن بالنصف الآخر ، وهذا ظاهر في أن مذهبه الاستثناء ، وهو كما قال الإمام مذهب ابن مسعود تبعه جمع عظيم من الصحابة والتابعين ، وبه قال الشافعي ونسب إلى مالك وأحمد ، ومنعه الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه ؛ وروي عنه أنه قال لقتادة : لم تستثني في إيمانك؟ قال : اتباعا لإبراهيم عليه‌السلام في قوله تعالى : (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) [الشعراء : ٨٢] فقال له : هلا اقتديت به في قوله بلى حين قيل له أو لم تؤمن؟ فانقطع قتادة ؛ قال الرازي كان لقتادة أن يجيب أبا حنيفة عليهما الرحمة ويقول : قول إبراهيم عليه‌السلام (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) [البقرة : ٢٦] بعد قوله بلى طلب لمزيد الطمأنينة وذلك يدل على جواز الاستثناء.

وفي الكشف أن الحق أن من جوز الاستثناء إنما جوز إذا سئل عن الإيمان مطلقا أما إذا قيل : هل أنت مؤمن بالقدر مثلا فقال : أنا مؤمن إن شاء الله تعالى لا يجوز لا لأن التبرك لا معنى له بل للابهام فيما ليس له فائدة ، وأما في الأول فلما كان الإطلاق يدل على الكمال وهو الإيمان المنتفع به في الآخرة علق بالمشيئة تفاؤلا وتيمنا ، وذلك لأن هذه الكلمة خرجت عن موضوعها الأصلي إلى المعنى الذي ذكر في عرف الاستعمال تراهم يستعملونها في كل ما لهم اهتمام بحصوله شائعا بين العرب والعجم فلا وجه لقول من قال : إن معنى التبرك أنا أشك في إيماني تبركا وذلك لأن المشيئة عنده غير مشكوكة عنده بل هو تعليق بما لا بد منه نظرا إلى أنه السبب الأصلي وأنه تفويض من العبد إلى الله

١٥٧

تعالى ومن فوض كفى لا نظرا إلى أن المشيئة غيب غير معلوم فيكون شكا في الإيمان ، وقد جاء «من شك في إيمانه فقد كفر» ، وما أحسن ما نقل عن الحسن أن رجلا سأله أمؤمن أنت؟ فقال : الإيمان إيمانان فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحساب فأنا مؤمن وإن كنت تسألني عن قوله تعالى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) إلخ فو الله لا أدري أمنهم أنا أم لا؟ وهذا ونحوه مما يجعل الخلاف لفظيا ، وقد صرح بذلك جمع من المحققين عليهم الرحمة.

(لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي كرامة وعلو مكانة على أن يراد بالدرجات العلو المعنوي وقد يراد بها العلو الحسي ، وفي الخبر عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «في الجنة مائة درجة لو أن العالمين اجتمعوا في إحداهن لوسعتهم» وعن الربيع بن أنس «سبعون درجة ما بين كل درجتين حضر الفرس المضمر السبعين سنة» ووجه الجمع على الوجهين ظاهر ، والتنوين للتفخيم والظرف ، إما متعلق بمحذوف وقع صفة لها مؤكدة لما أفاده التنوين أو بما تعلق به الخبر أعنى لهم من الاستقرار.

وجوز أبو البقاء أن يكون العامل فيه (دَرَجاتٌ) لأن المراد بها الأجور ، وفي إضافته إلى الرب المضاف إلى ضميرهم مزيد تشريف لهم ولطف بهم وإيذان بأن ما وعدهم متيقن الثبوت مأمون الفوات ، والجملة جوز أن تكون خبرا ثانيا لأولئك وأن تكون مبتدأ مبنية على سؤال نشأ من تعدد مناقبهم كأنه قيل : ما لهم بمقابلة هذه الخصال؟ فقيل : لهم درجات (وَمَغْفِرَةٌ) عظيمة لما فرط منهم (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) وهو ما أعد لهم من نعيم الجنة. وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد القرظي قال : إذا سمعت الله تعالى يقول رزق كريم فهو الجنة. والكرم كما نقل الواحدي اسم جامع لكل ما يحمد ويستحسن في بابه فلعل وصف الرزق به هنا حقيقة.

وقال بعض المحققين : معنى كون الرزق كريما أن رازقه كريم ، ومن هنا وصفوه بالكثرة وعدم الانقطاع إذ من عادة الكريم أن يجزل العطاء ولا يقطعه فكيف بأكرم الأكرمين تبارك وتعالى ، وجعله نفسه كريما على الإسناد المجازي للمبالغة ، ولم يذكروا لتوسيط المغفرة ، والظاهر كما قيل تقديمها هنا نكتة ، وربما يقال في وجه ذكر هذه الأشياء الثلاثة على هذا الوجه أن الدرجات في مقابلة الأوصاف الثلاثة أعني الوجل والإخلاص والتوكل ، ويستأنس له بالجمع والمغفرة في مقابلة إقامة الصلاة ويستأنس له بما ورد في غير ما خبر أن الصلوات مكفرات لما بينها من الخطايا وأنها تنقي الشخص من الذنوب كما ينقى الماء من الدنس ، والرزق الكريم بمقابلة الانفاق ، والمناسبة في ذلك ظاهرة ، وإلى هذا يشير كلام أبي حيان أو يقال : قدم سبحانه الدرجات لأنها بمحض الفضل ، وذكر بعدها المغفرة لأنها أهم عندهم من الرزق مع اشتراكهما في كونهما في مقابلة شيء ، ويؤيد هذا ما أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن زيد أنه قال في الآية : المغفرة بترك الذنوب والرزق الكريم بالأعمال الصالحة فتدبر والله تعالى أعلم بأسرار كلامه (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ) أي إخراجا متلبسا به فالباء للملابسة ، وقيل : هي سببية أي بسبب الحق الذي وجب عليك وهو الجهاد.

والمراد بالبيت مسكنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة أو المدينة نفسها لأنها مثواه عليه الصلاة والسلام ، وزعم بعضهم أن المراد به مكة وليس بذاك ، وإضافة الإخراج إلى الرب سبحانه وتعالى إشارة إلى أنه كان بوحي منه عزوجل ، ولا يخفى لطف ذكر الرب وإضافته إلى ضميره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والكاف يستدعى مشبها وهو غير مصرح به في الآية وفيه خفاء ، ومن هنا اختلفوا في بيانه وكذا في إعرابه على وجوه فاختار بعضهم أنه خبر مبتدأ محذوف هو المشبه أي حالهم هذه في كراهة ما وقع في أمر الأنفال كحال إخراجك من بيتك في كراهتهم له ، وإلى هذا يشير كلام الفراء حيث قال : الكاف شبهت هذه

١٥٨

القصة التي هي إخراجه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بيته بالقصة المتقدمة التي هي سؤالهم عن الأنفال وكراهتهم لما وقع فيها مع أنه أولى بحالهم أو أنه صفة مصدر الفعل المقدر في لله وللرسول أي الأنفال ثبتت لله تعالى وللرسول عليه الصلاة والسلام مع كراهتهم ثباتا كثبات اخراجك وضعف هذا ابن الشجري ، وادعى أن الوجه هو الأولى لتباعد ما بين ذلك الفعل وهذا بعشر جمل ، وأيضا جعله في حيز قل ليس بحسن في الانتظام ، وقال أبو حيان : إنه ليس فيه كبير معنى ولا يظهر للتشبيه فيه وجه ، وأيضا لم يعهد مثل هذا المصدر ، وادعى العلامة الطيبي أن هذا الوجه أدق التئاما من الأول والتشبيه فيه أكثر تفصيلا لأنه حينئذ من تتمة الجملة السابقة داخل في حيز المقول مع مراعاة الالتفات وأطال الكلام في بيان ذلك واعتذر عن الفصل بأن الفاصل جار مجرى الاعتراض ولا أراه سالما من الاعتراض ، وقيل : تقديره وأصلحوا ذات بينكم كما أخرجك وقد التفت من خطاب جماعة إلى خطاب واحد ، وقيل : المراد وأطيعوا الله والرسول كما أخرجك إخراجا لا مرية فيه ، وقيل : التقدير يتوكلون توكلا كما أخرجك ، وقيل : إنهم لكارهون كراهة ثابتة كاخراجك ، وقيل : هو صفة لحقا أي أولئك هم المؤمنون حقا مثل ما أخرجك ، وقيل : صفة لمصدر يجادلون أي يجادلونك جدالا كاخراجك ونسب ذلك إلى الكسائي ، وقيل : الكاف بمعنى إذ أي واذكر إذ أخرجك وهو مع بعده لم يثبت وقيل : الكاف للقسم ولم يثبت أيضا وإن نقل عن أبي عبيد وجعل «يجادلونك» الجواب مع خلوه عن اللام والتأكيد و «ما» حينئذ موصولة أي والذي أخرجك ، وقيل : إنها بمعنى على وما موصولة أيضا أي امض على الذي أخرجك ربك له من بيتك فإنه حق ولا يخفى ما فيه ، وقيل : هي مبتدأ خبره مقدر وهو ركيك جدا ، وقيل : في محل رفع خبر مبتدأ محذوف أي وعده حق كما أخرجك ، وقيل : تقديره قسمتك حق كإخراجك ، وقيل : ذلكم خير لكم كاخراجك ، وقيل : تقديره اخراجك من مكة لحكم كاخراجك هذا ، وقيل : هو متعلق باضربوا وهو كما تقول لعبدك ربيتك افعل كذا.

وقال أبو حيان : خطر لي في المنام أن هنا محذوفا وهو نصرك والكاف فيها معنى التعليل أي لأجل أن خرجت لاعزاز دين الله تعالى نصرك وأمدك بالملائكة ، ودل على هذا المحذوف قوله سبحانه بعد : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) [الأنفال : ٩] الآيات ، ولو قيل : إن هذا مرتبط بقوله سبحانه : (رِزْقٌ كَرِيمٌ) على معنى رزق حسن كحسن إخراجك من بيتك لم يكن بأبعد من كثير من هذه الوجوه (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) للخروج اما لعدم الاستعداد للقتال أو للميل للغنيمة أو للنفرة الطبيعية عنه ، وهذا مما لا يدخل تحت القدرة والاختيار فلا يرد أنه لا يليق بمنصب الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، والجملة في موضع الحال وهي حال مقدرة لأن الكراهة وقعت بعد الخروج كما ستراه إن شاء الله تعالى ، أو يعتبر ذلك ممتدا ، والقصة على ما رواه جماعة وقد تداخلت رواياتهم أن عير قريش أقبلت من الشام وفيها تجارة عظيمة ومعها أربعون راكبا منهم أبو سفيان. وعمرو بن العاص. ومخرمة بن نوفل فأخبر جبريل عليه‌السلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبر المسلمين فأعجبهم تلقيها لكثرة المال وقلة الرجال فلما خرجوا بلغ الخبر أهل مكة فنادى أبو جهل فرق الكفر النجاء النجاء على كل صعب وذلول عيركم أموالكم إن أصابها محمد لم تفلحوا بعدها أبدا ، وقد رأت عاتكة بنت عبد المطلب في المنام أن راكبا أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح ثم صرخ بأعلى صوته ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث فأرى الناس قد اجتمعوا إليه ثم دخل المسجد والناس يتبعونه فبينما هم حوله مثل به بعيره على ظهر الكعبة فصرخ مثلها ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس فصرخ مثلها ثم أخذ صخرة فأرسلها فأقبلت تهوي حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار من دورها إلا ودخل فيها فلقة فحدثت بها أخاها العباس فحدث بها الوليد بن عتبة وكان صديقا له فحدث بها أباه عتبة ففشا الحديث وبلغ أبا جهل فقال للعباس : يا بني عبد المطلب أما رضيتم أن تتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم فأنكر عليه الرؤية. ثم إنه خرج

١٥٩

بجميع مكة ومضى بهم إلى بدر وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوادي دفران فنزل عليه جبريل عليه‌السلام بالوعد بإحدى الطائفتين إما : العير وإما قريش فاستشار أصحابه فقال بعضهم : هلا ذكرت لنا القتال حتى نتأهب له إنا خرجنا للعير فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن العير مضت على ساحل البحر وهذا أبو جهل قد أقبل فقالوا : يا رسول الله عليك بالعير ودع العدو فغضب عليه الصلاة والسلام فقام أبو بكر. وعمر رضي الله تعالى عنهما فأحسنا الكلام في اتباع أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قام المقداد بن عمرو فقال : يا رسول الله امض لما أمرك الله تعالى فنحن معك حيث أحببت لا نقول كما قال بنو إسرائيل لموسى (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) [المائدة : ٢٤] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون فتبسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : أشيروا عليّ أيها الناس ـ وهو يريد الأنصار ـ لأنهم كانوا عدوهم وقد شرطوا حين بايعوه بالعقبة أنهم براء من ذمامه حتى يصل إلى ديارهم فتخوف أن لا يروا نصرته إلا على عدوهم بالمدينة فقام سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنهما فقال : يا رسول الله إيانا تريد؟ قال : أجل. قال : قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما أردت فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد ولا نكره أن تلقى بنا عدونا وإنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء ، ولعل الله تعالى يريك منا ما يقر به عينيك فسر بنا على بركات الله تعالى فنشطه قوله ثم قال عليه الصلاة والسلام : سيروا على بركة الله تعالى فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني انظر إلى مصارع القوم ا ه ، وبهذا تبين أن بعض المؤمنين كانوا كارهين وبعضهم لم يكونوا كذلك وهم الأكثر كما تشير إليه الآية ، وجاء في بعض الأخبار أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما فرغ من بدر قيل له : عليك بالعير فليس دونها شيء فناداه العباس وهو في وثاقه لا يصلح فقال له : لم؟ فقال : لأن الله تعالى وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك ما وعدك (يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِ) الذي هو تلقي النفير المعلى للدين لايثارهم عليه تلقي العير ، والجملة اما مستأنفة أو حال ثانية ، وجوز أن تكون حالا من الضمير في (لَكارِهُونَ) ، وقوله سبحانه : (بَعْدَ ما تَبَيَّنَ) متعلق بيجادلون ، و (ما) مصدرية ، وضمير تبين للحق أي يجادلون بعد تبين الحق لهم باعلامك أنهم ينصرون ويقولون : ما كان خروجنا إلا للعير وهلا ذكرت لنا القتال حتى نستعد له ونتأهب (كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ) أي مشبهين بالذين يساقون بالعنف والصغار إلى القتل ، فالجملة في محل نصب على الحالية من ضمير لكارهون ، وجوز أن تكون صفة مصدر لكارهون بتقدير مضاف أي لكارهون كراهة ككراهة من سبق للموت (وَهُمْ يَنْظُرُونَ) حال من ضمير يساقون وقد شاهدوا أسبابه وعلاماته ، وفي قوله سبحانه وتعالى : (كَأَنَّما) إلخ إيماء إلى أن مجادلتهم كانت لفرط فزعهم ورعبهم لأنهم كانوا ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا في قول فيهم فارسان المقداد بن الأسود. والزبير بن العوام ، وعن علي كرم الله تعالى وجهه ما كان منا فارس يوم بدر إلا المقداد وكان المشركون ألفا قد استعدوا للقتال (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ) كلام مستأنف مسوق لبيان جميل صنع الله تعالى بالمؤمنين مع ما بهم من الجزع وقلة الحزم ، فإذ نصب على المفعولية بمضمر إن كانت متصرفة أو ظرف لمفعول ذلك الفعل ، وهو خطاب للمؤمنين بطريق التلوين والالتفات و (إِحْدَى) مفعول ثان ليعد وهو يتعدى إلى المفعول الثاني بنفسه وبالباء ، أي اذكروا وقت أو الحادث وقت وعد الله تعالى إياكم إحدى الطائفتين.

وقرئ «يعدكم» بسكون الدال تخفيفا ، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية لاستحضار صورتها ، وقوله سبحانه وتعالى : (أَنَّها لَكُمْ) بدل اشتمال من إحدى مبين لكيفية الوعد ، أي يعدكم أن إحدى الطائفتين كائنة لكم مختصة بكم تتسلطون عليها تسلط الملائك وتتصرفون فيها كيفما شئتم (وَتَوَدُّونَ) عطف على يعدكم داخل معه حيث دخل أي تحبون (أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) من الطائفتين ، وذات الشوكة هي النفير ورئيسهم أبو

١٦٠