روح المعاني - ج ٥

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٥

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٩

أن الإنسان عبارة عن النفس الناطقة وأنها جوهر غير متحيز ولا حال فيه لم يحتج إلى الفضاء إلا أن فيه ما فيه ، وقالوا ثالثا : إنه لا فائدة في أخذ الميثاق لأنهم لا يصيرون بسببه مستحقين للثواب والعقاب على أنهم أدون حالا من الأطفال والطفل لا يتوجه عليه التكليف فكيف يتوجه على الذر. وأجيب بأن فائدة الأخذ غير منحصرة في الاستحقاق المذكور بل يجوز أن تكون إظهار كمال القدرة لمن حضر من الملائكة وإقامة الحجة يوم القيامة كما يقتضيه قول البعض في الآية ، وكونهم إذ ذاك أدون حالا من الأطفال في حيز البطلان كما لا يخفى على من هو أدون حالا من الأطفال ، وقالوا رابعا : إنه سبحانه وتعالى قال : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) [المؤمنون : ١٢] : وقال جل وعلا : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ) [الطارق : ٥ ، ٦] وكون أولئك الذر أناسي ينافي كون الإنسان مخلوقا مما ذكر.

وأجيب بأن الإنسان في هذه النشأة مخلوق من ذلك ولا يلزم منه أن يكون في تلك النشأة كذلك على أن الله تعالى لا يعجزه شيء ، وبالجملة ينبغي للمؤمن أن يصدق بذلك الأخذ فقد نطقت به الأخبار الصادرة من منبع الرسالة ، ولا يلتفت إلى قول من قال : إنها متروكة العمل لكونها من الآحاد فإن ذلك يؤدي إلى سد باب كبير من الفتوحات الغيبية ويحرم قائله من عظيم المنح الإلهية. وقد روى البيهقي في المدخل عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال : الذين لقيناهم كلهم يثبتون خبر واحد عن واحد عن واحد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويجعلونه سنة حمد من تبعها وعيب من خالفها ، وقال : من خالف هذا المذهب كان عندنا مفارقا لسبيل أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأهل العلم بعدهم وكان من أهل الجهالة ، وفي جامع الأصول عن رزين عن أبي رافع أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لأعرفن الرجل منكم يأتيه الأمر من أمري أنا أمرت به أو نهيت عنه وهو متكئ في أريكته فيقول : ما ندري ما هذا عندنا كتاب الله تعالى وليس هذا فيه» الحديث ، ولا ينبغي البحث عن كيفية ذلك فإنه من العلوم المسكوت عنها المحتاجة إلى كشف الغطاء وفيض العطاء.

ومن ذلك ما أخرجه الجندي في فضائل مكة وأبو الحسن القطان والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان وضعفه عن أبي سعيد الخدري قال : حججنا مع عمر رضي الله تعالى عنه فلما دخل الطواف استقبل الحجر فقال : إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولو لا أني رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبلك ما قبلتك ثم قبله فقال له علي كرم الله تعالى وجهه : يا أمير المؤمنين إنه يضر وينفع قال : بم؟ قال : بكتاب الله عزوجل قال : وأين ذلك من كتاب الله تعالى قال : قال الله تعالى (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ) الآية إلى قوله سبحانه : (بَلى) وذلك أن الله عزّ شأنه خلق آدم عليه‌السلام ومسح على ظهره فأخرج ذريته فقررهم بأنه الرب وأنهم العبيد وأخذ عهودهم ومواثيقهم وكتب ذلك في رق وكان لهذا الحجر عينان ولسان فقال له : افتح فاك ففتح فاه فألقمه ذلك الرق فقال : اشهد لمن وأفاك بالموافاة يوم القيامة وإني أشهد لسمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «يؤتى يوم القيامة بالحجر الأسود وله لسان ذلق ليشهد لمن يستلمه بالتوحيد» فهو يا أمير المؤمنين يضر وينفع. فقال عمر رضي الله تعالى عنه أعوذ بالله تعالى أن أعيش في قوم لست فيهم يا أبا الحسن.

قيل : ومن هنا يعلم قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الحجر يمين الله تعالى في أرضه» والكلام في ذلك شهير ، هذا ومن الناس من ذكر أن الناس بعد أن قالوا : بلى منهم من سجد سجدتين ومنهم من لم يسجد أصلا ومنهم من سجد مع الأولين السجدة الأولى ولم يسجد الثانية ومنهم من عكس ، فالصنف الأول هم الذين يعيشون مؤمنين ويموتون كذلك ، والثاني هم الذين يعيشون كفارا أو يموتون كذلك. والثالث هم الذين يعيشون مؤمنين ويموتون كفارا والرابع هم الذين يعيشون كفارا أو يموتون مؤمنين انتهى. وهو كلام لم يشهد له كتاب ولا سنة فلا يعول عليه ، ومثله القول بأن بعضا من القائلين بلى قد مكر منهم إذ ذاك حيث أظهر لهم إبليس في ذلك الجمع وظنوا أنه القائل : ألست بربكم؟ فعنوه بالجواب

١٠١

وأولئك هم الأشقياء ، وبعضا تجلى لهم الرب سبحانه فعرفوه وأجابوه وأولئك هم السعداء ، وهذا عندي من البطلان بمكان ، والذي ينبغي اعتقاده أنهم كلهم وجهلوا الجواب لرب الأرباب. نعم ذهب البعض إلى أن البعض أجاب كرها واستدلوا له ببعض الآثار السالفة ، وذهب أهل هذا القول إلى أن أطفال المشركين في النار ، ومن قال : إنهم في الجنة ذهب إلى أنهم أقروا عند أخذ الميثاق اختيارا فيدخلون الجنة بذلك الإقرار والله سبحانه أرحم الراحمين وإسناد القول في الآية على بعض الأقوال إلى ضمير الجمع إنما هو باعتبار وقوعه من البعض فإن وقوعه من الكل باطل بداهة ، ومثل هذا واقع في الآيات كثيرا (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) أي ذلك التفصيل البليغ المستتبع للمنافع الجليلة نفصلها لا غير ذلك.

(وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عما هم عليه من الإصرار على الباطل نفعل التفصيل المذكور ، وقيل : المعنى ولعلهم يرجعون إلى الميثاق الأول فيذكرونه ويعملون بمقتضاه نفعل ذلك ، وأيّا ما كان فالواو ابتدائية كالتي قبلها ، وجوز أن تكون عاطفة على مقدر أي ليقفوا على ما فيها من المرغبات والزواجر ، أو ليظهر الحق ولعلهم يرجعون ، وقيل : إنها سيف خطيب.

هذا ومن باب الإشارة قالوا : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ) أي عن أهل قرية الجسد وهم الروح والقلب والنفس الأمارة وتوابعها (الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ) أي مشرفة على شاطئ بحر البشرية (إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ) يتجاوزون حدود الله تعالى يوم يحرم عليهم تناول بعض الملاذ النفسانية والعادي من أولئك الأهل إنما هو النفس الأمارة فإنها في مواسم الطاعات والكف عن الشهوات كشهر رمضان مثلا حريصة على تناول ما نهيت عنه والمرء. حريص على ما منع (إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ) وهي الأمور التي نهوا عن تناولها (يَوْمَ سَبْتِهِمْ) الذي أمروا بتعظيمه شرعا قريبة المأخذ (وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ) بأن لا يتهيأ لهم ما يريدونه (كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ) نعاملهم معاملة من يختبرهم (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أي بسبب فسقهم المستمر طبعا.

قال بعضهم : ما كان ما قص الله تعالى إلا كحال الإسلاميين من أهل زماننا في اجتماع أنواع الحظوظ النفسانية من المطاعم والمشارب والملاهي والمناكح ظاهرة في الأسواق والمحافل في الأيام المعظمة كالأعياد والأوقات المباركة كأوقات زيارة مشاهد الصالحين المعلومة المشهورة بين الناس (وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ) وهي القلب وأتباعه للأمة الواعظة وهي الروح وأتباعها (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً) وهم النفس الأمارة وقواها (اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً) على فعلهم (قالُوا مَعْذِرَةً) إلى ربكم أي نعظهم معذرة إليه تعالى وذلك أنا خلقنا آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر فنريد أن نقضي ما علينا ليظهر أنا ما تغيرنا عن أوصافنا ولعلهم يتقون لأنهم قابلون لذلك بحسب الفطرة فلا نيأس من تقواهم (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) لغلبة الشقوة عليهم (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ) وهم الروح والقلب وأتباعهما فإنهم كلهم نهوا عن ذلك إلا أن بعضهم مل وبعضهم لم يمل (وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ) أي شديد وهو عذاب حرمان قبول الفيض (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أي بسبب تماديهم على الخروج عن الطاعة (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ) أي أبوا أن يتركوا ذلك (قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) أي جعلنا طباعهم كطباعهم وذلك فوق حرمان قبول الفيض (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ) أي اقسم (لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي قيامتهم (مَنْ يَسُومُهُمْ) وهو التجلي الجلالي (سُوءَ الْعَذابِ) وهو عذاب القهر وذل اتباع الشهوات (وَقَطَّعْناهُمْ) أي فرقنا بني إسرائيل الروح (فِي الْأَرْضِ) أي أرض البدن (أُمَماً) جماعات (مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ) أي الكاملون في الصلاح كالعقل (وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ) فيه كالقلب ومن جعل القلب أكمل من العقل عكس الأمر (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ)

١٠٢

تجليات الجمال والجلال (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) بالفناء إلينا (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) وهي النفس وقواها (وَرِثُوا الْكِتابَ) وهو ما ألهم الله تعالى العقل والقلب (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى) وهي الشهوات الدنية واللذات الفانية ويجعلون ما ورثوه ذريعة إلى أخذ ذلك (وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا) ولا بد لأنا واصلون كاملون وهذا حال كثير من متصوفة زماننا فانهم يتهافتون على الشهوات تهافت الفراش على النار ويقولون : إن ذلك لا يضرنا لأنا واصلون.

وحكي عن بعضهم أنه يأكل الحرام الصرف ويقول : إن النفي والإثبات يدفع ضرره وهو خطأ فاحش وضلال بيّن أعاذنا الله تعالى وإياكم من ذلك. وأعظم منه اعتقاد حل أكل مثل الميتة من غير عذر شرعي لأحدهم ويقول : كل منا بحر والبحر لا ينجس ولا يدري هذا الضال أن من يعتقد ذلك أنجس من الكلب والخنزير. ومنهم يحكي عن بعض الكاملين المكملين من أهل الله تعالى ما يؤيد به دعواه وهو كذا لا أصل له وحاشا ذلك الكامل مما نسب إليه حاشا (وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ) أي إنهم مصرون على هذا الفعل القبيح (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ) الوارد فيما ألهمه الله تعالى العقل والقلب (أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) فكيف عدلوا عنه (وَدَرَسُوا ما فِيهِ) مما فيه رشادهم (وَ (١) الدَّارُ الْآخِرَةُ) المشتملة على اللذات الروحانية خير للذين يتقون عرض هذا الأدنى (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ) أي يتمسكون بما ألهمه الله تعالى العقل والقلب من الحكم والمعارف (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) ولم يألوا جهدا في الطاعة (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) منهم وأجرهم متفاوت حسب تفاوت الصلاح حتى إنه ليصل إلى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ) وهو جبل الأمر الرباني والقهر الإلهي (كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) غمامة عظيمة (وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ) إن لم يقبلوا أحكام الله سبحانه (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) بجد وعزيمة (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) من الأسرار (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) تنتظمون في سلك المتقين على اختلاف مراتب تقواهم.

والكلام على قوله سبحانه : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ) إلخ من هذا الباب يغني عنه ما ذكرناه خلال تفسيره من كلام أهل الله تعالى قدس الله تعالى أسرارهم خلا أنه ذكر بعضهم أن أول ذرة أجابت ببلى ذرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكذا هي أول مجيب من الأرض لما خاطب الله سبحانه السموات والأرض بقوله جل وعلا : (ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت : ١١] وكانت من تربة الكعبة وهي أول ما خلق من الأرض ومنها دحيت كما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وكان يقتضي ذلك أن يكون مدفنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة حيث كانت تربته الشريفة منها ، وقد رووا أن المرء يدفن حيث كانت تربته ، ولكن قيل : إن الماء لما تموج رمى الزبد إلى النواحي فوقعت ذرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ما يحاذي مدفنه الكريم بالمدينة ، ويستفاد من هذا الكلام أنه عليه الصلاة والسلام هو الأصل في التكوين والكائنات تبع له صلى‌الله‌عليه‌وسلم قيل : ولكون ذرته أم الخليقة سمي أميا ، وذكر بعضهم أن الباء لكونه أول حرف فتحت الذرة به فمها حين تكلمت لم تزل الأطفال في هذه النشأة ينطقون به في أول أمرهم ولا بدع فكل مولود يولد على الفطرة ، قيل : ولعظم ما أودع الله سبحانه وتعالى في الباء من الأسرار افتتح الله تعالى به كتابه بل افتتح كل سورة به لتقدم البسملة المفتتحة به على كل سورة ما عدا التوبة وافتتاحها ببراءة وأول هذه اللفظة الباء أيضا ، ولكون الهمزة وتسمى ألفا أول حرف قرع أسماعهم في ذلك المشهد كان أول الحروف لكنه لم يظهر في البسملة لسر أشرنا إليه أول الكتاب والله تعالى الهادي إلى صوب الصواب (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ) عطف على المضمر العامل في (إِذْ أَخَذَ) وارد على نمط الإنباء عن الحور بعد الكور ، أي واقرأ على اليهود أو على قومك كما في الخازن (نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا) أي خبره الذي له شأن وخطر ، وهو كما روى ابن مردويه وغيره من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بلعم بن باعوراء وفي لفظ بلعام بن باعر وكان من

١٠٣

الكنعانيين ، وفي رواية عنه. وعن أبي طلحة أنه من بني إسرائيل ، وأخرج ابن عساكر عن ابن شهاب أنه أمية بن أبي الصلت.

وأخرج أبو الشيخ عن الحبر أنه رجل من بني إسرائيل له زوجة تدعى البسوس ، وفي رواية أخرى أخرجها ابن حاتم عنه أنه النعمان بن صيفي الراهب ، وكونه إسرائيليا أنسب بالمقام كما لا يخفى ، والأشهر أنه بلعام أو بلعم وكان قد أوتي علما ببعض كتب الله تعالى ، ودون ذلك في الشهرة أنه أمية وكان قد قرأ بعض الكتب (فَانْسَلَخَ مِنْها) أي من تلك الآيات انسلاخ الجلد من الشاة ، والمراد أنه خرج منها بالكلية بأن كفر بها ونبذها وراء ظهره ، وحقيقة السلخ كشط الجلد وإزالته بالكلية عن المسلوخ عنه ، ويقال لكل شيء فارق شيئا على أتم وجه انسلخ منه ، وفي التعبير به ما لا يخفى من المبالغة ، واستأنس بعضهم بهذه الآية لأن العلم لا ينزع من الرجال حيث قال سبحانه وتعالى : (فَانْسَلَخَ مِنْها) ولم يقل عز شأنه فانسلخت منه (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ) أي لحقه وأدركه كما قال الراغب بعد أن لم يكن مدركا له لسبقه بالإيمان والطاعة ، وقال الجوهري يقال : أتبعت القوم إذا سبقوك فلحقتهم وكأن المعنى جعلتهم تابعين لي بعد ما كنت تابعا لهم ، وفيه حينئذ مبالغة في اللحوق إذ جعل كأنه إمام للشيطان والشيطان يتبعه وهو من الذم بمكان ، ونظيره في ذلك قوله :

وكان فتى من جند إبليس فارتقى

به الحال حتى صار إبليس من جنده

وصرح بعضهم بأن معناه استتبعه أي جعله تابعا له ، وهو على ما قيل متعد لمفعولين حذف ثانيهما أي أتبعه خطواته. وقرئ «فاتبعه» من الافتعال (فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) فصار من زمرة الضالين الراسخين في الغواية بعد أن كان مهتديا ، وكيفية ذلك على القول بأنه بلعام أن موسى عليه‌السلام لما قصد حرب الجبارين أتى قوم بلعام إليه وكان عنده اسم الله تعالى الأعظم فقالوا له : إن موسى عليه والسلام رجل حديد وإن معه جنودا كثيرة وإنه قد جاء ليخرجنا من أرضنا فادع الله تعالى أن يرده عنا ، فقال : ويلكم نبي الله تعالى ومعه الملائكة والمؤمنون فكيف أدعو عليهم وأنا أعلم من الله تعالى ما أعلم وإني إن فعلت ذهبت دنياي وآخرتي فألحوا عليه ، فقال : حتى أؤامر ربي فأتى في المنام وقيل له : لا تفعل فأخبر قومه فأهدوا له هدية فقبلها ولم يزالوا يتضرعون إليه حتى فتنوه فجعل يدعو موسى عليه الصلاة والسلام وقومه أن الله تعالى جعل يصرف لسانه إلى الدعاء على قومه نفسه ، فقالوا يا بلعام أتدري ما تصنع إنك تدعو علينا ، فقال : هذا أمر غلب الله تعالى عليه فاندلع لسانه ووقع على صدره ، فقال : يا قوم قد ذهبت مني الدنيا والآخرة ولم يبق إلا المكر والحيلة جملوا النساء وأرسلوهن وأمروهن أن لا يمنعن أنفسهن فإن القوم سفر وإن الله سبحانه وتعالى يبغض الزنا وإن هم وقعوا فيه هلكوا ففعلوا ذلك فافتتن زمرى بن شلوم رأس سبط شمعون ابن يعقوب بامرأة منهن تسمى كستى بنت صور فنهاه موسى عليه‌السلام عن الفاحشة فأبى وأدخلها قبته وزنا بها فوقع فيهم الطاعون حتى هلك منهم سبعون ألفا ولم يرتفع حتى قتلهما فنحاص بن العيزار بن هارون وكان غائبا أول الأمر وعن مقاتل أن ملك البلقاء قال له : ادع الله تعالى على موسى عليه‌السلام ، فقال : إنه من أهل ديني ولا أدعو عليه فنصب له خشبة ليصلبه عليها فدعا بالاسم الأعظم أن لا يدخل الله تعالى موسى عليه‌السلام المدينة فاستجيب له ووقع بنو إسرائيل في التيه ، فقال موسى : يا رب بأي ذنب هذا؟ فقال سبحانه وتعالى : بدعاء بلعام ، فقال : رب كما سمعت دعاؤه عليّ فاسمع دعائي عليه فدعا الله جل شأنه أن ينزع عنه الاسم الأعظم والإيمان فنزع الله تعالى عنه المعرفة وسلخه منها فخرجت من صدره كحمامة بيضاء ورد هذا بأن التيه كان روحا وراحة لموسى عليه‌السلام وإنما عذب به بنو إسرائيل وقد كان ذلك بدعائه عليه‌السلام ، على أن في الدعاء بسلب الإيمان مقالا ، وأنا أعجب لم لم يدع هذا الشقي بالاسم

١٠٤

الأعظم الذي كان يعلمه على ملك البلقاء ليخلص من شره؟ ودعا على موسى عليه‌السلام ما هي إلا جهالة سوداء ، وجاء في كلام أبي المعتمر أنه كان قد أوتي النبوة ، ويرده أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يجوز عليهم الكفر عند أحد من العقلاء وكأن مراده من النبوة ما أوتيه من الآيات ، وذلك كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حفظ القرآن فقد طوى النبوة بين جنبيه».

وأخرج ابن المنذر عن مالك بن دينار أنه كان من علماء بني إسرائيل وكان موسى عليه‌السلام يقدمه في الشدائد ويكرهه وينعم عليه فبعثه إلى ملك مدين يدعوهم إلى الله تعالى وكان مجاب الدعوة فترك دين موسى عليه‌السلام واتبع دين الملك ، وهذه الرواية عندي أولى مما تقدم بالقبول ، وأما على القول بأنه أمية فهو أنه كان قد قرأ الكتب القديمة وعلم أن الله تعالى مرسل رسولا فرجا أن يكون هو ذلك الرسول ، فاتفق أن خرج إلى البحرين وتنبأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأقام هناك ثماني سنين ثم قدم فلقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في جماعة من أصحابه فدعاه إلى الإسلام ، وقرأ عليه سورة يس حتى إذا فرغ منها وثب أمية يجر رجليه فتبعته قريش تقول : ما تقول يا أمية؟ فقال : أشهد أنه على الحق قالوا : فهل نتبعه؟ حتى انظر في أمره فخرج إلى الشام وقدم بعد وقعة بدر يريد أن يسلم فلما أخبر بها ترك الإسلام وقال : لو كان نبيا ما قتل ذوي قرابته فذهب إلى الطائف ومات به فأتت أخته الفارعة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألها عن وفاته فذكرت له أنه أنشد عند موته :

كل عيش وإن تطاول دهرا

صائر مرة إلى أن يزولا

ليتني كنت قبل ما قد بدا لي

في قلال الجبال أرعى الوعولا

إن يوم الحساب يوم عظيم

شاب فيه الصغير يوما ثقيلا

ثم قال لها عليه الصلاة والسلام : أنشديني من شعر أخيك فأنشدته :

لك الحمد والنعماء والفضل ربنا

ولا شيء أعلى منك جدا وأمجد

مليك على عرش السماء مهيمن

لعزته تعنو الوجوه وتسجد

من قصيدة طويلة أتت على آخرها ، ثم أنشدته قصيدته التي يقول فيها :

وقف الناس للحساب جميعا

فشقيّ معذب وسعيد

والتي فيها

عند ذي العرش يعرضون عليه

يعلم الجهر والسرار الخفيا

يوم يأتي الرحمن وهو رحيم

إنه كان وعده مأتيا

رب إن تعف فالمعافاة ظني

أو تعاقب فلم تعاقب بريا

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن أخاك آمن شعره وكفر قلبه ، وأنزل الله تعالى الآية. وأما على القول بأنه النعمان فهو أنه كان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح فقدم المدينة فقال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما هذا الذي جئت به؟ فقال عليه الصلاة والسلام : الحنيفية دين إبراهيم عليه‌السلام. قال : فأنا عليها. فقال عليه الصلاة والسلام : لست عليها ولكنك أدخلت فيها ما ليس منها. فقال : أمات الله تعالى الكاذب منا طريدا وحيدا ، ثم خرج إلى الشام وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا السلاح ، ثم أتى قيصر وطلب منه جندا ليخرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المدينة فمات بالشام طريدا وحيدا.

وأما على القول بأنه زوج البسوس ، فقد أخرج ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه رجل أعطي ثلاث دعوات مستجابات ، وكانت له امرأة تدعى البسوس له منها ولد فقالت : اجعل لي منها واحدة. قال :

١٠٥

فما الذي تريدين؟ قالت ادع الله تعالى أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل فدعا الله تعالى فجعلها أجمل امرأة فيهم ، فلما علمت أن ليس فيهم مثلها رغبت عنه وأرادت شيئا آخر فدعا الله تعالى أن يجعلها كلبة فصارت كلبة فذهبت دعوتان ، فجاء بنوها فقالوا : ليس بنا على هذا قرار قد صارت أمنا كلبة يعيرنا الناس بها فادع الله أن يردها إلى الحال التي كانت عليها فدعا فعادت كما كانت فذهبت الدعوات الثلاث فيها ، ومن هنا يقال : أشأم من البسوس اسم لذلك الرجل ، وليس بشيء ، وهذه الرواية لا يساعد عليها نظام القرآن الكريم كما لا يخفى ، والذي نعرفه أن البسوس التي يضرب بها المثل هي بنت منقذ التميمية خالة جساس بن مرة بن ذهل الشيباني قاتل كليب ، وفي قصتها طول وقد ذكرها الميداني وغيره.

وعن الحسن وابن كيسان أن المراد بهذا الذي أوتي الآيات فانسلخ منها منافقو أهل الكتاب الذين كانوا يعرفون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما يعرفون أبناءهم ولم يؤمنوا به صلى‌الله‌عليه‌وسلم إيمانا صحيحا ، ويبعد ذلك إفراد الموصول وعن قتادة أن هذا مثل لمن عرض عليه الهدى واستعد له فأعرض عنه وأبى أن يقبله ، وفيه مخالفات للروايات المشهورة ، وأوهن الأقوال عندي قول أبي مسلم : إن المراد به فرعون والمراد بالآيات الحجج والمعجزات الدالة على صدق موسى عليه‌السلام ، وكأنه قيل : واتل عليهم نبأ فرعون إذ آتيناه الحجج الدالة على صدق موسى عليه‌السلام فلم يقبلها (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها) كلام مستأنف مسوق لبيان ما ذكر من الانسلاخ وما يتبعه ، وضمير (لَرَفَعْناهُ) للذي وضمير (بِها) للآيات ، والباء سببية ، ومفعول المشيئة محذوف هو مضمون الجزاء كما هو القاعدة المستمرة ، أي لو شئنا رفعه لرفعناه إلى منازل الأبرار بسبب تلك الآيات والعمل بما فيها ، وقيل : الضمير المنصوب للكفر المفهوم من الكلام السابق ، أي لو شئنا لأزلنا الكفر بالآيات ، فالرفع من قولهم : رفع الظلم عنا وهو خلاف الظاهر جدا وإن روي عن مجاهد ، ومثله بل أبعد وأبعد ما نقل عن البلخي. والزجاج من إرجاع ضمير بها للمعصية. (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) أي ركن إلى الدنيا ومال إليها ، وبذلك فسره السدي وابن جبير وأصل الإخلاد اللزوم للمكان من الخلود ، ولما في ذلك من الميل فسر به ، وتفسير الأرض بالدنيا لأنها حاوية لملاذها وما يطلب منها.

وقال الراغب : المعنى ركن إلى الأرض ظانا أنه مخلد فيها ، وفسر غير واحد الأرض بالسفالة (وَاتَّبَعَ هَواهُ) في إيثار الدنيا وأعرض عن مقتضى تلك الآيات الجليلة ، وفي تعليق الرفع بالمشيئة ثم الاستدراك عنه بفعل العبد تنبيه كما قال ناصر الدين : على أن المشيئة سبب لفعله المؤدي إلى رفعه وأن عدمه دليل عدمها دلالة انتفاء المسبب على انتفاء سببه ، وأن السبب الحقيقي هو المشيئة ، وأن ما نشاهده من الأسباب وسائط معتبرة في حصول المسبب من حيث إن المشيئة تعلقت به كذلك ، وكان من حقه كما قال أن يقول : ولكنه أعرض عنها ، فأوقع موقعه ما ذكر مبالغة لأنه كناية أبلغ من التصريح ، وتنبيها على ما حمله عليه وأن حب الدنيا رأس كل خطيئة ، وما ألطف نسبة إتيان الآيات والرفع إليه تعالى ونسبة الانسلاخ والإخلاد إلى العبد مع أن الكل من الله تعالى إذ فيه من تعليم العباد حسن الأدب ما فيه ، ومن هنا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اللهم إن الخير بيديك والشر ليس إليك. والزمخشري لما رأى أن ظاهر الآية مخالف لمذهبه دال على وقوع الكائنات بمشيئة الله تعالى إلى التأويل ، فجعل المشيئة مجازا عن سببها وهو لزوم العمل بالآيات بقرينة الاستدراك بما هو فعل العبد المقابل للزوم الآيات وهو الإخلاد إلى الأرض ، أي ولو لزمها لرفعناه وهو من قبيل نزع الخف قبل الوصول إلى الماء والمصير إلى المجاز قبل أوانه لجواز أن يكون (لَوْ شِئْنا) باقيا على حقيقته و (أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) مجازا عن سببه الذي هو عدم مشيئة الرفع بل الإخلاد ، ولم يعتمد على عكازته لفوت المقابلة حينئذ ، وفي الكشف أن حمل المشيئة على ما هي مسببة عنه في زعمه ليس أولى من حمل الإخلاد على ما هو مسبب عنه

١٠٦

في زعمنا كيف وقوله سبحانه وتعالى : (وَلَوْ شِئْنا) استدراك لقوله : (فَانْسَلَخَ مِنْها) على أن الإخلاد هو الميل ، والإرادة والميل ونحوهما من المعاني ليست من أفعال العباد بالاتفاق نعم الجزم المقارن من فعل القلب فعل القلب عندهم ، ثم قوله سبحانه وتعالى : (مَنْ يَهْدِ اللهُ) وقوله تعالى : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا) يؤكدان ما عليه أهل السنة أبلغ تأكيد ولكن الزمخشري لا يعبأ بذلك (١)(فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ) وهو الحيوان المعروف وجمعه أكلب وكلاب وكلابات كما قال ابن سيده وكليب كعبيد وهو قليل ويجمع أكلب على أكالب ، وبه يضرب المثل في الخساسة لأنه يأكل العذرة ويرجع في قيئه والجيفة أحب إليه من اللحم الغريض (٢) نعم وهو أحسن من الرجل السوء ، ومما ينسب إلى الشافعي رضي الله تعالى عنه :

ليت الكلاب لنا كانت مجاورة

وليتنا ما نرى ممن نرى أحدا

إن الكلاب لتهدأ في مرابضها

والناس ليس بهاد شرهم أبدا

وفي شعب الإيمان للبيهقي عن الفقيه منصور أنه كان ينشد لنفسه :

الكلب أحسن عشرة

وهو النهاية في الخساسة

ممن ينازع في الريا

سة قبل أوقات الرئاسة

والمثل بمعنى الصفة كما قال غير واحد فصفته كصفة الكلب ، وقيل المراد أنه كالكلب في الخسة (إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ) أي شددت عليه وطردته (يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ) على حاله (يَلْهَثْ) أي إنه دائم اللهث على كل حال ، واللهث إدلاع اللسان بالنفس الشديد وذلك طبع في الكلب لا يقدر على نغص الهواء المتسخن وجلب الهواء البارد بسهولة لضعف قلبه وانقطاع فؤاده بخلاف سائر الحيوانات فإنها لا تحتاج إلى النفس الشديد ولا يلحقها الكرب والمضايقة إلا عند التعب والإعياء ، وإيثار الجملة الاسمية على الفعلية بأن يقال : فصار مثله كمثل إلخ للإيذان بدوام اتصافه بتلك الحالة الخسيسة وكمال استمراره عليها ، والخطاب في فعلي الشرط لكل أحد ممن له حظ من الخطاب فإنه أدخل في إشاعة فظاعة حاله ، والجملتان الشرطيتان قيل لا محل لهما من الإعراب لأنهما تفصيل لما أجمل في المثال وتفسير لما أبهم فيه بيان وجه الشبه على منهاج قوله تعالى : (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران : ٥٩] أثر قوله سبحانه وتعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) [آل عمران : ٥٩] وقيل : إنهما في محل النصب على الحالية من الكلب بناء على تحولهما إلى معنى التسوية كما تحول الاستفهام إلى ذلك في قوله تعالى : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) [البقرة : ٦] كأنه قيل لاهثا في الحالين ، والجملة الشرطية كما قدمنا تقع حالا مطلقا ، وقال صاحب الضوء : إنها لا تكاد تقع كذلك بتمامها بل إذا أريد وقوعها حالا جعلت خبرا عن ذي الحال نحو جاءني زيد وهو إن تسأله يعطك فتجعل جملة اسمية مع الواو لأن الشرط لصدارته لا يكاد يرتبط بما قبله إلا أن يكون هناك فضل قوة. نعم يجوز إذا أخرجتها عن حقيقتها سواء عطف عليها النقيض وحينئذ يجب ترك الواو كما فيما نحن فيه أو لم يعطف وحينئذ يجب الواو لئلا يحصل الالتباس بالشرط الحقيقي نحو آتيك وإن لم تأتني ، والتشبيه قيل من تشبيه المفرد بالمفرد ، وقيل وعليه كثير من المحققين إنه تشبيه للهيئة المنتزعة مما عراه بعد الانسلاخ من سوء الحال واضطرام القلب ودوام القلق والاضطراب وعدم الاستراحة بحال من الأحوال بالهيئة المنتزعة مما ذكر في

__________________

(١) لطافته لا تخفى على إنسان ا ه منه

(٢) هو بالغين المعجمة مالان من اللحم أي الطري

١٠٧

حال الكلب ، وجاء وقد أشرنا إليه سابقا أن بلعام لما دعا موسى عليه‌السلام خرج لسانه فتدلى على صدره وجعل يلهث كالكلب إلى أن هلك فوجه الشبه إما عقلي أو حسي (ذلِكَ) إشارة إلى وصف الكلب أو المنسلخ من الآيات وما فيه من الإيذان بالبعد لما مر غير مرة.

(مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) يريد كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أهل مكة كانوا يتمنون هاديا يهديهم وداعيا يدعوهم إلى طاعة الله تعالى ثم لما جاءهم من لا يشكون في صدقه وأمانته كذبوه وأعرضوا عن الآيات ولم يؤمنوا بها أو اليهود كما قال غير واحد حيث قرءوا نعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التوراة وذكر القرآن المعجز وما فيه فصدقوه وبشروا الناس باقتراب مبعثه وكانوا يستفتحون به فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فانسلخوا من حكم التوراة أو الأعم من هؤلاء وهؤلاء من كل من اتصف بهذا العنوان كما في الخازن وبه أقول ، ويدخل اليهود ، في ذلك أوليا (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ) القصص مصدر سمي به المفعول كالسلب ، واللام فيه للعهد ، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي إذا تحقق أن المثل المذكور مثل هؤلاء المكذبين فاقصص ذلك عليهم (لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) فينزجرون عما هم عليه من الكفر والضلال ، والجملة في موضع الحال من ضمير المخاطب أو في موضع المفعول له أي فاقصص راجيا لتفكرهم أو رجاء لتفكرهم (ساءَ مَثَلاً) استئناف مسوق لبيان كمال قبح المكذبين بعد البيان السابق ، وساء بمعنى بئس وفاعلها مضمر ومثلا تمييز مفسر له ، ويستغنى بتذكير التمييز وجمعه وغيرهما عن فعل ذلك بالضمير ، وأصلها التعدي لواحد ، والمخصوص بالذم قوله سبحانه وتعالى : (الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) وحيث وجب صدق الفاعل والتمييز والمخصوص على شيء واحد والمثل مغاير للقوم لزم تقدير محذوف من المخصوص وهو الظاهر أو التمييز أي ساء مثلا مثل القوم أو ساء أهل مثل القوم.

وفي الحواشي الشهابية أنه قرئ بإضافة «مثل» بفتحتين و «مثل» بكسر فسكون للقوم ورفعه فساء للتعجب وتقديرها على فعل بالضم كقضو الرجل و «مثل القوم» فاعل أي ما أسوأهم ، والموصول في محل جر صفة للقوم أو هي بمعنى بئس «ومثل» فاعل والموصول هو المخصوص في محل رفع بتقدير مضاف أي مثل الذين إلخ.

وقدر أبو حيان في هذه القراءة تمييزا ، ورده السمين بأنه لا يحتاج إلى التمييز إذا كان الفاعل ظاهرا حتى جعلوا الجمع بينهما ضرورة ، وفيه ثلاثة مذاهب المنع مطلقا والجواز كذلك والتفصيل فإن كان مغايرا جاز نحو نعم الرجل شجاعا زيد وإلا امتنع ، وبعضهم يجعل المخصوص محذوفا وفي كونه ما هو خلاف وإعادة القوم موصوفا بالموصول مع كفاية الضمير بأن يقال ساء مثلا مثلهم للإيذان بأن مدار السوء ما في حيز الصلة وليربط قوله سبحانه وتعالى : (وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) به فإنه إما معطوف على كذبوا داخل معه في حكم الصلة بمعنى جمعوا بين أمرين قبيحين التكذيب وظلمهم أنفسهم خاصة أو منقطع عنه بمعنى وما ظلموا إلا أنفسهم فإن وبالها لا يتخطاها ، وأيا ما كان ففي ذلك لمح إلى أن تكذيبهم بالآيات متضمن للظلم بها وأن ذلك أيضا معتبر في القصر المستفاد من التقديم ، وصرح الطيبي والقطب وغيرهما أن الجملة على تقدير الانقطاع تذييل وتأكيد للجملة التي قبلها ، ويشعر كلام بعضهم أن تقديم المفعول على الوجه الأول لرعاية الفاصلة وعلى الوجه الثاني للإشارة إلى التخصيص وأن سبب ظلمهم أنفسهم هو التكذيب ، وفيه خفاء كما لا يخفى ، هذا ثم إن هذه الآيات مما ترمي علماء السوء بثالثة الأثافي ، وقد ذكر مولانا الطيبي طيب الله ثراه أن من تفكر في هذا المثل وسائر الأمثال المضروبة في التنزيل في حق المشركين والأصنام من بيت العنكبوت والذباب تحقق له أن علماء السوء أسوأ وأقبح من ذلك فما أنعاه من مثل عليهم وما هم فيه من التهالك في الدنيا مالها وجاهها والركون إلى لذاتها وشهواتها من متابعة النفس الأمارة وإرخاء زمامها في مرامها عافانا الله تعالى والمسلمين من ذلك.

١٠٨

ونقل عن مولانا شيخ الإسلام شهاب الدين السهروردي أنه كتب إلى الإمام فخر الدين الرازي تغمدهما الله تعالى برضوانه من تعين في الزمان لنشر العلم عظمت نعمة الله تعالى عليه فينبغي للمتيقظين الحذاق من أرباب الديانات أن يمدوه بالدعاء الصالح ليصفي الله تعالى مورد علمه بحقائق التقوى ومصدره من شوائب الهوى إذ قطرة من الهوى تكدر بحرا من العلم ونوازع الهوى المركوز في النفوس المستصحبة إياه من محتدها من العالم السفلي إذا شابت العلم حطته من أوجه وإذا صفت مصادر العلم وموارده من الهوى أمدته كلمات الله تعالى التي ينفد البحر دون نفادها ويبقى العلم على كمال قوته ، وهذه رتبة الراسخين في العلم لا المترسمين به وهم ورثة الأنبياء عليهم‌السلام كر عملهم على علمهم وتناوب العلم والعمل فيهم حتى صفت أعمالهم ولطفت وصارت مسامرات سرية ومحاورات روحية وتشكلت الأعمال بالعلوم لمكان لطافتها وتشكلت العلوم بالأعمال لقوة فعلها وسرايتها إلى الاستعدادات ، وفي اتباع الهوى إخلاد إلى الأرض قال تعالى : (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ) فتطهير نور الفكرة عن رذائل التخيلات والارتهان بالموهومات التي أورثت العقول الصغار والمداهنة للنفوس القاصرة هو من شأن البالغين من الرجال فتصحب نفوسهم الطاهرة الملأ الأعلى فتسرح في ميادين القدس ، فالنزاهة من محنة حطام الدنيا والفرار من استحلاء نظر الخلق وعقائدهم فتلك مصارع الأدوان ، وطالب الرفيق الأعلى مكلم محدث ، والتعريفات الإلهية واردة عليه لمكان علمه بصورة الابتلاء واستئصاله شأفة الابتلاء بصدق الالتجاء وكثرة ولوجه في حريم القرب الإلهي وانغماسه مع الأنفاس في بحار عين اليقين وغسله نفث دلائل البرهان بنور العيان فالبرهان للأفكار لا للأسرار إلى آخر ما قال ، ويا لها من موعظة حكيم ونصيحة حميم نسأل الله تعالى أن يهدينا لما أشارت إليه.

(مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٧٨) وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٧٩) وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٨٠) وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١٨٤) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥) مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (١٨٧) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(١٨٨)

١٠٩

(مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) تذييل وتأكيد لما تضمنته القصة السابقة على ما يشير إليه كلام بعضهم. وقال آخر : إنه تعالى لما أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقص على أولئك الضالين قصص أخيهم ليتفكروا ويتركوا ما هم عليه عقب ذلك بتحقيق أن الهداية والضلالة من جهته سبحانه وتعالى وإنما العظة والتذكير من قبيل الوسائط العادية في حصول الاهتداء لكونها دواعي إلى صرف المكلف اختياره نحو تحصيله حسبما نيط به خلق الله تعالى إياه ، والمراد بهذه الهداية ما يوجب الاهتداء قطعا لا لأن حقيقتها الدلالة الموصلة إلى البغية كما يوهمه كلام بعض الأصحاب بل لأنها الفرد الكامل من حقيقة الهداية التي هي الدلالة إلى ما يوصل لإسنادها إلى الله تعالى وتفريع الاهتداء عليها ومقابلتها بالضلال وما معه ولا يخفى أن الهداية بهذا المعنى يلزمها الاهتداء فيكون الإخبار باهتداء من هداه الله تعالى على ما قيل على حد الأخبار في ـ شعري شعري ـ وهو يفيد تعظيم شأن الاهتداء وأنه في نفسه كمال جسيم ونفع عظيم وأنه كاف في نيل كل شرف في الأولى والعقبى.

واختار بعض المحققين أنه ليس المقصود مجرد الإخبار بما ذكر ليتوهم عدم الإفادة بحسب الظاهر ويصار إلى توجيهه بذلك بل هو قصر الاهتداء على من هداه الله تعالى حسبما يقضي به تعريف الخبر ، فالمعنى من يخلق فيه الاهتداء فهو المهتدي لا غير كائنا من كان ولا يخلو عن حسن إلا أنه قد يقال : إن الأول أوفق بالمقابل ، وإفراد المهتدي رعاية للفظ «من» ، وجمع الخاسرين رعاية لمعناها للإيذان بأن الحق واحد وطرق الضلال متشعبة ، وفي الآية تصريح بأن الهدى والضلال من الله تعالى فسبحان من أضل المعتزلة (وَلَقَدْ ذَرَأْنا) كلام مستأنف مقرر لمضمون ما قبله بطريق التذييل ، والذرأ بالهمزة الخلق وبذلك فسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره أي والله تعالى لقد خلقنا (لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) وهم المصرون على الكفر في علمه سبحانه وتعالى ، واللام للعاقبة عند الكثير كما في قوله تعالى : (رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) [يونس : ٨٨] وقول الشاعر :

له الملك ينادي كل يوم

لدوا للموت وابنوا للخراب

وفي الكشاف أنهم جعلوا لإغراقهم في الكفر وشدة شكائمهم فيه وأنه لا يتأتى منهم إلا أفعال أهل النار مخلوقين للنار دلالة على توغلهم في الموجبات وتمكنهم فيما يؤهلهم لدخولها ، وأشار إلى أن ذلك تذييل لقصة اليهود بعد ما عد من قبائحهم تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأنه قيل : من الذين لا ينجع فيهم الإنذار فدعهم واشتغل بأمر نفسك ومن هو على دينك في لزوم التوحيد ، والآية على ما قال من باب الكناية الإيمائية عند القطب قدس‌سره ويفهم كلامه أن الذي دعا الزمخشري إلى ذلك لزوم كون الكفر مراد الله تعالى إذا أريد الظاهر وهو خلاف مذهبه ، وأنت تعلم أن الكثير من أهل السنة تأولوا الآية بحمل اللام على ما عملت لقوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] فإن تعليل الخلق بالعباد يأبى تعليله بجهنم ودخولها ، نعم ذهب ابن عطية منا إلى الحمل على الظاهر وكون اللام للتعليل ، وادعى أناس أن التأويل مخالف للأحاديث الواردة في الباب كبعض الأحاديث السابقة في آية أخذ الميثاق ، وما أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن عبد الرحمن بن قتادة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الله تعالى خلق آدم عليه‌السلام ثم أخذ الخلق من ظهره فقال هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي قال قائل : فعلى ما ذا العمل؟ قال : على موافقة القدر» وما أخرجه محيي السنة عن عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها قالت : أدرك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جنازة صبي من صبيان الأنصار فقلت : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طوبى له عصفور من عصافير الجنة

١١٠

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وما يدريك إن الله تعالى خلق الجنة وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم وخلق النار وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم» إلى غير ذلك.

وإلى هذا ذهب الطيبي وأيده بما أيده وادعى أن فائدة القسم التنبيه على قلع شبه من عسى أن يتصدى لتأويل الآية وتحريف النص القاطع ، ونقل عن الإمام أن الآية حجة لصحة مذهب أهل السنة في مسألة خلق الأعمال وإرادة الكائنات لأنه سبحانه وتعالى صرح بأنه جل وعلا خلق كثيرا من الجن والإنس لجهنم ولا مزيد لبيان الله تعالى ، ولا يخفى أن الحمل على الظاهر مخالف لظاهر الآية التي ذكرناها ، وفي الكتاب الكريم كثير مما يوافقها على أن التعليل الحقيقي لأفعاله تعالى يمنع عنه في المشهور الإمام الأشعري وأصحابه.

وقال بعض الجلة : المراد بالكثير الذين حقت عليهم الكلمة الأزلية بالشقاوة ولكن لا بطريق الجبر من غير أن يكون من قبلهم ما يؤدي إلى ذلك بل لعله سبحانه وتعالى : بأنهم لا يصرفون اختيارهم نحو الحق أبدا بل يصرون على الباطل من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم من الآيات والنذر ، فبهذا الاعتبار جعل خلقهم مغيا بجهنم كما أن جمع الفريقين باعتبار استعدادهم الكامل الفطري للعبادة وتمكنهم التام منها جعل خلقهم مغيا بها كما نطق به قوله سبحانه وتعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] انتهى ، وعندي أنه لا محيص من التأويل في هذا المقام فتدبر ولا تغفل ، ثم إن الجار الأول متعلق بما عنده وتقديمه على المفعول الصريح لما في توابعه من نوع طول يؤدي توسيطه بما بينهما وتأخيره عنهما إلى الإخلال بجزالة النظم الجليل ، والجار الثاني متعلق بمحذوف وقع صفة لكثير ، وتقديم الجن لأنهم أعرف من الإنس في الاتصاف بما ذكر من الصفات وأكثر عددا وأقدم خلقا ولا يشكل أنهم خلقوا من النار فلا يشق عليهم دخولها ولا يضرهم شيئا لأنا نقول في دفع ذلك على علاته خلقهم من النار بمعنى أن الغالب عليهم الجزء الناري لا يأبى تضررهم بها فإن الإنس خلقوا من الطين ويتضررون به ، ويوضح ذلك أن حقيقة النار لم تبق فيهم على ما هي عليه قبل خلقهم منها كما أن حقيقة الطين لم تبق في الإنس على ما هي عليه قبل خلقهم منها على أن المخلوق من نار هو البدن والمعذب هو الروح وليست مخلوقة منها وعذاب الروح في قالب ناري معقول كعذابها في قالب طيني ، وقوله تعالى : (لَهُمْ قُلُوبٌ) في محل النصب على أنه صفة أخرى لكثير ، وقوله سبحانه وتعالى : (لا يَفْقَهُونَ بِها) في محل الرفع على أنه صفة لقلوب مبينة لكونها غير معهودة مخالفة لسائر أفراد الجنس فاقدة لما ينبغي أن يكون أو هي مؤكدة لما يفيده تنكيرها وإبهامها من كونها كذلك ، وأريد بالقلب اللطيفة الإنسانية ، وبالفقه الفهم وهو المعنى اللغوي له ، يقال : فقه بالكسر أي فهم وفقه بالضم إذا صار فقيها أي فهما أو عالما بالفقه بالمعنى العرفي المبين في كتب الأصول ، والفعل هنا متعد إلا أنه حذف مفعوله للتعميم أي لهم قلوب ليس من شأنها أن يفهموا بها شيئا مما شأنه أن يفهم فيدخل فيه ما يليق بالمقام من الحق ودلائله دخولا أوليا ، وكذا الكلام في قوله جل وعلا : (وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها) فيقال : المراد لا يبصرون بها شيئا من المبصرات فيندرج فيه الشواهد التكوينية الدالة على الحق اندراجا أوليا ، وكذا يقال في قوله تبارك وتعالى : (وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها) حيث يراد لا يسمعون بها شيئا من المسموعات فيتناول الآيات التنزيلية على طرز ما سلف ، وأمر الوصيفة في الأخيرين مثله في الأول ، والمراد بالإبصار والسماع المنفيين ما يختص بالعقلاء من الإدراك على ما هو وظيفة الثقلين لا ما يتناول مجرد الإحساس بالشبح والصوت كما هو وظيفة الأنعام ، وجاء في كلامهم نحو فلان لا يسمع الخنا أي لا يعتني به ولا يصرف سمعه إليه ولا يقبله ، ومن ذلك قول الشاعر :

وعوراء الكلام صممت عنها

وإني لو أشاء لها سميع

١١١

وفي إعادة الخبر في الجملتين المعطوفتين مع انتظام الكلام بدون ذلك بأن يقال : وأعين لا يبصرون بها وآذان لا يسمعون بها ما لا يخفى من تقرير سوء حالهم ، وكذا في إثبات المشاعر الثلاثة لهم ثم وصف كل بما وصف به دون سلبها عنهم ابتداء بأن يقال : ليس لهم في قلوب يفقهون بها ولا أعين يبصرون بها ولا آذان يسمعون بها ما لا يخفى على ما قيل من الشهادة بكمال رسوخهم في الجهل والغواية ، وتفسير الآية على هذا الوجه واعتبار حذف المفعول لما ذكرنا من الأفعال الثلاثة هو الذي اختاره بعض المحققين لما فيه من الإفصاح بكنه حالهم على ما أشار إليه ، واختار بعضهم التخصيص أي لا يفقهون الحق ودلائله ولا يبصرون ما خلق الله تعالى إبصار اعتبار ولا يسمعون الآيات والمواعظ سماع تأمل وتفكر ، وأيّا ما كان فالمراد أنهم لم يصرفوا ما خلق لهم لما له فكأنهم خلقوا كذلك ، ولو أريدت الحقيقة لم يتوجه الذم ولم تقم الحجة ، ومن ادعاها قال : إن ذلك بسبب إفاضة الحكيم حسب الاستعداد الأزلي الغير المجعول فالذم بذلك لدلالته على سوء الاستعداد لأنه كالأثر له ، وبالجملة لا تقوم الآية دليلا للجبر الصرف ولو ضم إليها ما قبل ، والجبر المتوسط مما قال به أهل الحق وهو لبن خالص أخرج من بين فرث ودم ، وحاصله عند بعض المشايخ أن العبد مختار مجبور باختياره ، ولعل كلام حجة الإسلام الغزالي حيث قال من كلام طويل : فان قلت : إني أجد في نفسي أني إن شئت الفعل فعلت وإن شئت الترك تركت فيكون فعلي حاصلا بي لا بغيري ، أجبنا وقلنا : هب أنك وجدت من نفسك ذلك إلا أنا نقول : وهل تجد من نفسك أنك إن شئت أن تشاء شئت وإن شئت أن لا تشأ لم تشأ؟ ما أظنك تقول ذلك وإلا لذهب الأمر فيه إلى ما لا نهاية له فلا مشيئتك بك ولا حصول فعلك بعد حصول مشيئتك بك وإنما أنت مضطر في صورة مختار انتهى. يرجع إلى ما ذكرنا ، وقد استوفينا الكلام في هذا البحث في كتابنا الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية وهو لعمري من مشكلات المباحث التي سأل عنها الإيرانيون.

(أُولئِكَ) أي الموصوفون بالأوصاف المذكورة (كَالْأَنْعامِ) أي في انتفاء الشعور على الوجه المذكور ، وقيل في أن مشاعرهم متوجهة إلى أسباب التعيش مقصورة عليها وكأن وجه الشبه مدرك مما قبل فتكون الجملة كالتأكيد له فلذا فصلت عنه (بَلْ هُمْ أَضَلُ) من الأنعام لأنها تدرك ما من شأنها أن تدركه من المنافع والمضار فتجهد في جلبها وسلبها غاية ما يمكنها وهؤلاء ليسوا كذلك حيث لم يميزوا بين المنافع والمضار بل يعكسون الأمر فيتركون النعيم ويقدمون على العذاب الأليم ، وقيل : لأنها إذا زجزت انزجرت وإذا أرشدت إلى طريق اهتدت وهؤلاء لا يهتدون إلى شيء من الخيرات. وقيل : لأنها لم تعط قدرة على تحصيل الفضائل وهؤلاء أعطوا ولم ينتفعوا بما أعطوا ، ولأنها وإن لم تكن مطيعة لم تكن عاصية وهؤلاء لا يعرفون ربهم ولا يذكرونه ولا يطيعونه ، وبالجملة كون هؤلاء أضل مما لا شك فيه ووجوه ذلك كثيرة ولا تنافي بين الخبرين كما لا يخفى.

(أُولئِكَ) أي المنعوتون بما ذكر من مثلية الأنعام والشرية منها (هُمُ الْغافِلُونَ) أي الكاملون في الغفلة عما فيه صلاحهم. وقال عطاء : عما أعد الله تعالى لأوليائه من الثواب ولأعدائه من العقاب ، وجعل بعضهم هذه الجملة كالبيان للجملة قبلها فلذا فصلت عنها (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) قيل : تنبيه للمؤمنين على كيفية ذكره تعالى وكيفية المعاملة مع المخلين بذلك الغافلين عنه سبحانه وتعالى وعما يليق بشأنه عز شأنه أثر بيان غفلتهم التامة وضلالتهم التامة ، وسيأتي إن شاء الله تعالى وجه آخر لذكر ذلك.

والمراد بالأسماء كما قال حجة الإسلام الغزالي وغيره الألفاظ المصوغة الدالة على المعاني المختلفة ، والحسنى تأنيث الأحسن أفعل تفضيل ، ومعنى ذلك أنها أحسن الأسماء وأجلها لإنبائها عن أحسن المعاني وأشرفها:

١١٢

وقيل : المراد بالأسماء الصفات ويكون من قولهم طار اسمه في البلاد أي صيته ونعته ، والجمهور على الأول لقوله عزّ اسمه : (فَادْعُوهُ بِها) لأنه اما من الدعوة بمعنى التسمية كقولهم : دعوته زيدا أو بزيد أي سميته أو من الدعاء بمعنى النداء كقولهم : دعوت زيدا أي ناديته ، وعلى التقديرين إنما يلائم ظاهر المعنى الأول على ما قيل.

(وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) أي يميلون وينحرفون فيها عن الحق إلى الباطل يقال : ألحد إذا مال عن القصد والاستقامة ، ومنه لحد القبر لكونه في جانبه بخلاف الضريح فإنه في وسطه ، وقرأ حمزة هنا وفي [فصلت : ٤٠] «يلحدون» بالفتح من الثلاثي والمعنى واحد ، وروى أبو عبيدة عن الأحمر أن ألحد بمعنى مارى وجادل ، ولحد بمعنى مال وانحرف ، واختار الواحدي قراءة الجمهور قال : ولا يكاد يسمع لأحد بمعنى ملحد ، والإلحاد في أسمائه سبحانه أن يسمى بما لا توقيف فيه أو بما يوهم معنى فاسدا كما في قول أهل البدو يا أبا المكارم ، يا أبيض الوجه يا سخي ونحو ذلك ، فالمراد بالترك المأمور به الاجتناب عن ذلك ، وبأسمائه ما أطلقوه عليه تعالى وسموه به على زعمهم لا أسماؤه تعالى حقيقة ، وعلى ذلك يحمل ترك الإضمار بأن يقال : يلحدون بها ، وما قيل : إنه أريد بالأسماء التسميات فلذا ترك الإضمار ليس بشيء ، ومن فسر الإلحاد في الأسماء بما ذكر ذهب إلى أن أسماء الله تعالى توقيفية يراعى فيها الكتاب والسنة والإجماع فكل اسم ورد في هذه الأصول جاز إطلاقه عليه جل شأنه وما لم يرد فيها لا يجوز إطلاقه وإن صح معناه ، وبهذا صرح أبو القاسم القشيري في مفاتيح الحجج ومصابيح النهج ، وفي أبكار الأفكار للآمدي ليس مأخذ جواز تسميات الأسماء الحسنى دليلا عقليا ولا قياسا لفظيا وإلا لكان تسمية الرب تعالى فقيها عاقلا مع صحة معاني هذه التسميات في حقه وهي العلم والفقه أولى من تسميته سبحانه وتعالى بكثير مما يشكل ظاهره بل مأخذ ذلك إنما هو الإطلاق والإذن من الشارع فكل ما ورد الإذن به منه جوزناه وما ورد المنع منه منعناه وما لم يوجد فيه إطلاق ولا منع فقد قال بعض أصحابنا بالمنع منه وليس القول بالمنع مع عدم وروده أولى من القول بالجواز مع عدم وروده إذ المنع والجواز حكمان ، وليس إثبات أحدهما مع عدم الدليل أولى من الآخر بل الحق في ذلك هو الوقف وهو أنا لا نحكم بجواز ولا منع والمتبع في ذلك كله الظواهر الشرعية كما هو المتبع في سائر الأحكام وهو أن يكون ظاهرا في دلالته وفي صحته ولا يشترط فيه القطع كما ذهب إليه بعض الأصحاب لكون المنع والجواز من الأحكام الشرعية ، والتفرقة بين حكم وحكم في اشتراط القطع في أحدهما دون الآخر تحكم لا دليل عليه انتهى ، وأنت تعلم أن المشهور التفرقة بين الأحكام الأصولية الاعتقادية والأحكام الفرعية العملية كما سنشير إليه إن شاء الله تعالى قريبا ، وخلاصة الكلام في هذا المقام أن علماء الإسلام اتفقوا على جواز إطلاق الأسماء والصفات على الباري تعالى إذا ورد بها الإذن من الشارع وعلى امتناعه إذا ورد المنع عنه ، واختلفوا حيث لا إذن ولا منع في جواز إطلاق ما كان سبحانه وتعالى متصفا بمعناه ولم يكن من الأسماء الاعلام الموضوعة في سائر اللغات إذ ليس جواز إطلاقها عليه تعالى محل نزاع لأحد ، ولم يكن إطلاقه موهما نقصا بل كان مشعرا بالمدح فمنعه جمهور أهل الحق مطلقا للخطر ، وجوزه المعتزلة مطلقا ، ومال إليه القاضي أبو بكر لشيوع إطلاق نحو خدا وتكرى من غير نكير فكان إجماعا ، وردّ بأن الإجماع كاف في الإذن الشرعي إذا ثبت.

واعترضه أيضا إمام الحرمين بأنه قول بالقياس وهو حجة في العمليات والأسماء والصفات من العمليات ، وروى بعضهم عنه التوقف ، وذكر في شرح المواقف أن القاضي أبا بكر ذهب إلى أن كل لفظ دل على معنى ثابت لله تعالى جاز إطلاقه عليه إذا لم يكن موهما لما لا يليق بذاته تعالى ، ثم قال : وقد يقال : لا بد مع نفي ذلك الإيهام من الإشعار بالتعظيم حتى يصح الإطلاق بلا توقف وجعل مذهب المعتزلة غير مذهبه والمشهور ما ذكرناه.

١١٣

وفصل الغزالي قدس‌سره فجوز إطلاق الصفة وهو ما دل على معنى زائد على الذات ومنع إطلاق الاسم وهو ما يدل على نفس الذات محتجا بإباحة الصدق واستحبابه والصفة لتضمنها النسبة الخبرية راجعة إليه وهي لا تتوقف إلا على تحقق معناها بخلاف الاسم فإنه لا يتضمن النسبة الخبرية وأنه ليس إلا للأبوين أو من يجري مجراهما. وأجيب بأن ذلك حيث مانع من استعمال اللفظ الدال على تلك النسبة والخطر قائم ، وأين التراب من رب الأرباب؟.

واختار جمع من المتأخرين مذهب الجمهور قالوا : فيطلق ما سمع على الوجه الذي سمع ولا يتجاوز ذلك إلا في التعريف والتنكير سواء أوهم كالصبور والشكور والجبار والرحيم أو لم يوهم كالقادر والعالم ، والمراد بالسمعي ما ورد به كتاب أو سنة صحيحة أو إجماع لأنه غير خارج عنهما في التحقيق بخلاف الضعيفة والقياس أيضا إن قلنا : إن المسألة من العمليات أما إن قلنا : إنها من العمليات فالسنة الضعيفة كالحسنة الواهية جدا ، والقياس كالإجماع ، وأطلق بعضهم المنع في القياس وهو الظاهر لاحتمال إيهام أحد المترادفين دون الآخر.

وجعل بعضهم من الثابت بالقياس المترادفات من لغة أو لغات ، وليس بذاك ، ومن الثابت بالإجماع الصانع والموجود والواجب القديم ، قيل : والعلة ، وقيل : الصانع والقديم مسموعان كالحنان والمنان ، ونص بعض المحققين على أنه يمنع إطلاق غير المضاف إذا كان مرادفا للمضاف المسموع قياسا كما يمنع إطلاق ما ورد على وجه المشاكلة والمجاز ، وأنه لا يكفي ورود الفعل والمصدر ونحوهما في صحة إطلاق الوصف فلا يطلق الحارث والزارع والرامي والمستهزئ والمنزل والماكر عليه سبحانه وتعالى وإن جاءت آيات تشعر بذلك.

هذا ومن الناس من قال : إن الألفاظ على الصفات ثلاثة أقسام : الأول ما يدل على صفات واجبة وهو أصناف : منها ما يصح إطلاقه مفردا لا مضافا نحو الموجود والأزلي والقديم وغيرها ، ومنها ما يصح إطلاقه مفردا ومضافا إلى ما لا هجنة فيه نحو الملك والمولى والرب والخالق. ومنها ما يصح مضافا غير مفرد نحو يا منشئ الرفات ومقيل العثرات ، والثاني ما يدل على صفات ممتنعة نحو اليد والوجه والنزول والمجيء فلا يصح إطلاقه البتة ، وإن ورد به السمع كان التأويل من اللوازم. والثالث ما لا يدل على صفات واجبة ولا ممتنعة بل يدل على معان ثابتة نحو المكر والخداع وأمثالهما فلا يصح إطلاقه إلا إذا ورد التوقيف ، ولا يقال : يا مكار يا خداع البتة وإن كان مذكورا ما يدل عليه كقوله تعالى : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) [آل عمران : ٥٤] انتهى ، ولا يخفى ما فيه. وذكر الطيبي أن الحق الاعتماد في الإطلاق على الإطلاق على التوقيف ، وأن كل ما أذن الشارع أن يدعى به الله عزوجل سواء كان مشتقا أو غير مشتق فهو اسم ، وكل ما نسب إليه سبحانه وتعالى من غير ذلك الوجه سواء كان مؤولا أو غير مؤول فهو وصف ؛ وجعل الحي وصفا والكريم اسما وادعى أنه يقال يا كريم ولا يقال يا حي مع ورود اللفظين فيه سبحانه وتعالى فيما أخرجه أبو داود والترمذي من حديث سلمان رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الله تعالى حيي كريم يستحيي إذا رفع العبد يده أن يردها صفرا حتى يضع فيها خيرا» ، وذكر أن التعريف في الأسماء للعهد وأنه لا بد من المعهود لأنه سبحانه وتعالى أمر بالدعاء بها ونهى عن الدعاء بغيرها وأوعد على ذلك. وروى الشيخان وغيرهما من حديث أبي هريرة أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن لله تعالى تسعة وتسعين اسما من حفظها دخل الجنة» وفي رواية أحصاها ، وفي أخرى «إن لله تعالى تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا»» وأوتي فيه بالفذلكة والتأكيد لئلا يزاد على ما ورد. وجاءت معدودة في بعض الروايات بقوله عليه الصلاة والسلام «هو الله لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور الغفار القهار الوهاب الرزاق الفتاح العليم القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل السميع البصير الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور الشكور العلي الكبير الحفيظ المقيت

١١٤

الحسيب الجليل الكريم الرقيب المجيب الواسع الحكيم الودود المجيد الباعث الشهيد الحق الوكيل القوي المتين الولي الحميد المحصي المبدئ المعيد المحيي المميت الحي القيوم الواجد الماجد الواحد الصمد القادر المقتدر المقدم المؤخر الأول الآخر الظاهر الباطن الوالي المتعال البر التواب المنتقم العفو الرءوف مالك الملك ذو الجلال والإكرام المقسط الجامع الغني المغني المانع الضار النافع النور الهادي البديع الباقي الوارث الرشيد الصبور».

ونقل عن أهل البيت رضي الله تعالى عنهم غير ذلك وأخذوها من القرآن ؛ وجاء أيضا عندنا ما يخالف هذه الرواية في بعض الأسماء.

وذكر غير واحد من العلماء أن هذه الأسماء منها ما يرجع إلى صفة فعلية ومنها ما يرجع إلى صفة نفسية ومنها ما يرجع إلى صفة سلبية. ومنها ما اختلف في رجوعه إلى شيء مما ذكر وعدم رجوعه وهو الله والحق أنه اسم للذات وهو الذي إليه يرجع الأمر كله ، ومن هنا ذهب الجل إلى أنه الاسم الأعظم ، وتنقسم قسمة أخرى إلى ما لا يجوز إطلاقه على غيره سبحانه وتعالى كالله والرحمن وما يجوز كالرحيم والكريم وإلى ما يباح ذكره وحده كأكثرها وإلى ما لا يباح ذكره كذلك كالمميت والضار فإنه لا يقال : يا مميت يا ضار بل يقال : يا محيي يا مميت ويا نافع يا ضار ، والذي أراه أنه لا حصر لأسمائه عزت أسماؤه في التسعة والتسعين ، ويدل على ذلك ما أخرجه البيهقي عن ابن مسعود قال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أصابه هم أو حزن فليقل : اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي في يدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت له نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وذهاب همي وجلاء حزني» الحديث ، وهو صريح في عدم الحصر لمكان أو وأو.

وحكى محيي الدين النووي اتفاق العلماء على ذلك وأن المقصود من الحديث الإخبار بأن هذه التسعة والتسعين من أحصاها دخل الجنة وهو لا ينافي أن له تعالى أسماء غيرها غير موصوفة بذلك. ونقل أبو بكر بن العربي عن بعضهم أن له سبحانه وتعالى ألف اسم ثم قال : وهذا قليل وهو كما قال. وعن بعضهم أنها أربعة آلاف ، وعن بعض الصوفية أنها لا تكاد تحصى ، والمختار عندي عدم توقف إطلاق الأسماء المشتقة الراجعة إلى نوع من الصفات النفسية والفعلية وكذا الصفات السلبية عليه تعالى على التوقيف الخاص بل يصح الإطلاق بدونه لكن بعد التحري التام وبذلك الوسع فيما هو نص في التعظيم والتحفظ إلى الغاية عما يوهم أدنى أدنى نقص معاذ الله تعالى في حقه سبحانه لأنا مأذونون بتعظيم الله تبارك وتعالى بالأقوال والأفعال ولم يحد لنا حد فيه ، فمتى كان في الإطلاق تعظيم له عزوجل كان مأذونا به ، والتكليف منوط بالوسع (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) فبعد بذل الوسع في التعظيم يرتفع الحرج.

وحديث الخطر الذي يذكرونه يستدعي أن لا يصح إلا إطلاق ما ثبت تواترا إطلاقه عليه جل وعلا أو اجتمعت الأمة على إطلاقه لأن الثبوت فيما عدا ذلك ظني والخطر فيه يقيني ، والأسماء المتقدمة آنفا لم يوجد في كثير من الروايات ذكرها وهي مشهورة من حديث الترمذي ، وقد قال : إنه حدثنا به غير واحد عن صفوان بن صالح ولا نعرفه إلا من حديثه وهو ثقة عند أهل الحديث ، وأنت تعلم أن هذا القدر لا يثبت به اليقين بل ولا بمثله ومثله ، على أن عد بعض أهل البيت كما في الدر المنثور للتسعة والتسعين وكذا غيرهم كما لا يخفى على المتتبع يخالف هذا العد ، وسند ذلك الخبر وإن لم يكن في المتانة كسند هذا إلا أنه لا أقل يورث الشبهة اللهم إلا أن يقال : حصل الإجماع على ما في حديث الترمذي دون ما في حديث غيره المخالف له لكن لم أقف على من حكى ذلك.

١١٥

ثم إن هذه الأسماء المأخوذة مما ذكرنا لا مانع من الدعاء بها ومن إجرائها اخبارا عنه سبحانه وتعالى أو أوصافا له جل وعزّ وكلها حسنى ، وتسميتها بذلك من جهة أنها بالمعنى المراد منها بالنسبة إليه تعالى مختصة به جل وعلا اختصاص الاسم ولا تطلق على غيره بالمعنى المراد منها حال إطلاقها على الله تعالى وإنما تطلق على الغير بمعنى آخر ليس بينه وبين ذلك المعنى إلا كما بين السواد والبياض فإن بينهما غاية البعد الذي لا يتصور أن يكون بعد فوقه لكنهما متشاركان في العرضية واللونية والمدركية بالبصر وأمور أخر سوى ذلك ، وبهذا لا يعد البياض مماثلا للسواد أو بالعكس لأن المماثلة عبارة عن المشاركة في النوع والماهية وهي مفقودة هنا وكذا هي مفقودة بين العلم مثلا الذي يوصف الله تعالى به والعلم الذي يوصف غيره سبحانه وتعالى به ولا يعلم حقيقة ذلك وماهيته إلا الله تعالى كما لا يعرف حقيقة الله تعالى إلا الله تعالى في الدنيا والآخرة. نعم لو قال قائل : لا أعرف إلا الله تعالى صدق ولكن من جهة أخرى ، ونهاية معرفة العارفين العجز عن المعرفة ومعرفتهم بالحقيقة أنهم لا يعرفونه فإذا انكشف لهم ذلك فقد عرفوا وبلغوا المنتهى الذي يمكن في حق الخلق من معرفته سبحانه وتعالى.

وهذا الذي أشار إليه الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه حيث قال : العجز عن درك الإدراك إدراك بل هو الذي عناه سيد البشر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» فإنه عليه الصلاة والسلام أراد إني لا أحيط بمحامدك وصفات إلهيتك وإنما أنت المحيط به وحدك لا أني أعرف منك ما لا أستطيع التعبير عنه بلساني ، وتفاوت درجات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والملائكة والأولياء في المعرفة إنما هو بالوقوف على عجائب آياته في ملكوت السموات والأرض وخلق الأرواح والأجساد وحينئذ يتفاوتون في معرفة الأسماء والصفات ، ومعرفة أن زيدا عالم مثلا ليس كمعرفة تفاصيل علومه كما لا يخفى ، ولا يرد على ما ذكرنا من الاختصار أنه يأباه تقسيمهم أسماءه تعالى إلى مختص كالرحمن وغير مختص كالرحيم لأن مرادهم بالمختص ما اعتبر في مفهومه المطابقي ما يمنع من الإطلاق على الغير ، وقد نص البيضاوي على أن معنى الرحمن المنعم الحقيقي البالغ في الرحمة غايتها وذلك لا يصدق على غيره تعالى فلذا لا يوصف به ، وبغير المختص ما لم يعتبر في مفهومه ذلك بل اعتبر فيه معنى عام فيطلق لذلك على الله تعالى وعلى غيره ، لكن حال إطلاقه عليه تعالى يراد الفرد الكامل من ذلك المفهوم الذي لا يليق ولا يمكن أن يثبت إلا لله عزوجل ، وقد يقال : لا فرق بين الأسماء المشتقة التي يوجد في الغير مبدأ اشتقاقها في الجملة من حيث إن اعتبار ذلك الوجود يقتضي عدم الاختصاص ، واعتبار الوجود على أتم وجه وأكمله يقتضي الاختصاص من غير تفرقة بين اسم واسم إلا انا حكمنا بالاختصاص في بعض وبعدمه في آخر لأمر آخر كالاستعمال وعدم الاستعمال وإذن الشارع وعدم إذنه فلا يأبى ما قلناه أيضا نعم اعتبار الاختصاص بالله تعالى في الأسماء المذكورة في الآية لا يتأتى فيها بناء على أن تقديم الخبر يفيد الاختصاص أيضا فيكون المعنى لله لا لغيره الأسماء التي تختص به تعالى ولا تطلق على غيره ، ويؤول ذلك إلى أن الأسماء المختصة به سبحانه وتعالى مختصة به جل وعلا وهو مما لا فائدة فيه ، وحينئذ لا بد اما من حمل الأسماء على الصفات كما قال البعض ، ومعنى الحسنى الكاملة من كل وجه أي لله تعالى لا لغيره الصفات الكاملة لأن صفات غيره سبحانه وتعالى كيفما كانت ناقصة لا أقل من أن العدم محيط بطرفيها ، ومعنى فادعوه بها إلخ سموه بما يشتق منها أو نادوه بذلك وذروا الذين يميلون عن الحق في صفاته فيسمون بها غيره أو يدعون معتقدين الشركة ودعوهم وإلحادهم ، واما من ارتكاب ضرب من التجوز ، وما ذكره الطيبي من أن التعريف في الأسماء للعهد إلى آخر ما قاله مما لا أظنك في مرية من ركاكته فتأمل.

وجوز أن يراد بالإلحاد العدول عن تسميته تعالى ببعض أسمائه الكريمة كما قالوا : وما الرحمن؟ انا لا نعرف إلا

١١٦

رحمن اليمامة ، وعليه فالمراد بالترك الاجتناب كما أريد أولا بالأسماء أسماؤه تعالى حقيقة ، فالمعنى سموه تعالى بجميع أسمائه واجتنبوا إخراج بعضها من البين ، وأن يراد به إطلاقها على الأصنام واشتقاق أسمائها منها كاللات من الله تعالى والعزى من العزيز ، فالمراد من الأسماء أسماؤه تعالى حقيقة ، والإظهار في موضع الإضمار مع التجريد عن الوصف في الكل للإيذان بأن إلحادهم في نفس الأسماء من غير اعتبار الوصف. والمراد بالترك الاعراض وعدم المبالاة بما فعلوا ترقبا لنزول العقوبة فيهم عن قريب كما يشير إليه قوله تعالى : (سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) فإنه استئناف وقع جوابا عن سؤال مقدر كأنه قيل : لم لا نبالي؟ فقيل : لأنه سينزل بهم عقوبة وتشتفون عن قريب ، والمعنى على الأمر بالاجتناب اجتنبوا إلحادهم كيلا يصيبكم ما يصيبهم فإنه سينزل بهم عقوبة ذلك (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) قيل بيان إجمالي لحال من عدا المذكورين من الثقلين الموصوفين بما ذكر من الضلال على أتم وجه ، وهو عند جمع من المحققين على ما ظهر للعلامة الطيبي عطف على جملة (وَلَقَدْ ذَرَأْنا) وقوله سبحانه وتعالى : (يَهْدُونَ) إلخ إذا أخذ بجملته وزبدته كان كالمقابل لقوله تعالى : (لَهُمْ قُلُوبٌ) إلى (هُمُ الْغافِلُونَ) وكلتا الآيتين كالنشر لقوله عزّ شأنه : (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) وهو كالتذييل لحديث الذي أوتي آيات الله تعالى والأسماء العظام فانسلخ منها وقوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) اعتراض لمناسبة حديث الأسماء حديث أسماء الله تعالى العظام التي أوتيها ذلك المنسلخ كما في بعض الروايات وقد تعلق بقوله عز شأنه : (أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) باعتبار أنه كالتنبيه على أن الموجب لدخول جهنم هو الغفلة عن ذكر الله تعالى وعن أسمائه الحسنى ، وأرباب الذوق والمشاهدة يجدون ذلك من أرواحهم لأن القلب إذا غفل عن ذكر الله تبارك وتعالى واقبل على الدنيا وشهواتها وقع في نار الحرص ولا يزال يهوي من ظلمة إلى ظلمة حتى ينتهي إلى دركات الحرمان ، وبخلاف ذلك إذا انفتح على القلب باب الذكر فإنه يقع في جنة القناعة ولا يزال يترقى من نور إلى نور حتى ينتهي إلى أعلى درجات الإحسان ، ومن إما نكرة موصوفة أو بمعنى الذي ، والمراد بعض من خلقنا أو بعض ممن خلقنا طائفة جليلة كثيرة يهدون الناس ملتبسين بالحق أو يهدونهم بكلمة الحق ويدلونهم على الاستقامة وبالحق يحكمون في الحكومات الجارية فيما بينهم ولا يجورون فيها. أخرج ابن جرير وغيره عن ابن جريج أنه قال : ذكر لنا «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : هذه أمتي». وأخرج عن قتادة أنه قال : بلغنا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول إذا قرأ هذه الآية : «هذه لكم وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون».

وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن من أمتي قوما على الحق حتى ينزل عيسى ابن مريم عليه‌السلام». وروى الشيخان عن معاوية والمغيرة بن شعبة قالا : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله تعالى لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تعالى وهم على ذلك».

واستدل الجبائي بالآية على صحة الإجماع في كل عصر سواء في ذلك عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والصحابة رضي الله تعالى عنهم وغيره إذ لو اختص لم يكن لذكره فائدة لأنه معلوم ، وعلى أنه لا يخلو عصر عن مجتهد إلى قيام الساعة لأن المجتهدين هم أرباب الإجماع ، قيل : وهو مخالف لما روي من أنه لا تقوم الساعة إلا على أشرار الخلق ولا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله ، وأجيب بأن ذلك الزمان ملحق بيوم القيامة لمعانقته له ، والمراد عدم خلو العصر عن مجتهد فيما عداه ، وقيل : المراد من الخبرين الإشارة إلى غلبة الشر فلا ينافي وجود النزر من أهل ذلك العنوان ، والواحد منهم كاف وهو حينئذ الأمة ، والاقتصار على نعتهم بهداية الناس للايذان بأن اهتداءهم في أنفسهم أمر محقق غني عن التصريح (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) ولم تنفعهم هداية الهادين كأهل مكة وغيرهم ، واقتصر بعضهم على

١١٧

الأولين والعموم أولى ، وإضافة الآيات إلى ضمير العظمة لتشريفها واستعظام الاقدام على تكذيبها ، والموصول في محل الرفع على أنه مبتدأ خبره جملة (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) أي سنستدنيهم البتة إلى الهلاك شيئا فشيئا ، وجوز أن يكون في محل النصب بفعل محذوف يفسره المذكور ، والاستدراج استفعال من الدرجة بمعنى النقل درجة بعد درجة من سفل إلى علو فيكون استصعادا أو بالعكس فيكون استنزالا وقد استعمله الأعشى في قوله :

فلو كنت في جب ثمانين قامة

ورقيت أسباب السماء بسلم

ليستدرجنك القول حتى تهره

وتعلم أني عنكم غير مفحم

في مطلق معناه ، وقال بعضهم : هو استفعال من درج إما بمعنى صعد ثم اتسع فيه فاستعمل في كل نقل تدريجي سواء كان بطريق الصعود أو الهبوط أو الاستقامة ، وإما بمعنى مشى مشيا ضعيفا ومنه درج الصبي وإما بمعنى طوى ومنه أدرج الكتاب ثم استعير لطلب كل نقل تدريجي من حال إلى حال من الأحوال الملائمة للمنتقل الموافقة لهواه ، واستدراجه تعالى إياهم بادرار النعم عليهم مع انهماكهم في الغي ، ولذا قيل : إذا رأيت الله تعالى أنعم على عبد وهو مقيم على معصيته فاعلم أنه مستدرج ، وهذا يمكن حمله على الاستصعاد باعتبار نظرهم وزعمهم أن متواترة النعم اثرة من الله تعالى وهو الظاهر ، وعلى الاستنزال باعتبار الحقيقة فإن الجبلة الإنسانية في أصل الفطرة سليمة متهيئة لقبول الحق لقضية كل مولود يولد على الفطرة فهو في بقاع التمكن على الهدى والدين فإذا أخلد إلى الأرض واتبع الشهوات وارتكب المعاصي والسيئات ينزل درجة درجة إلى أن يصير أسفل السافلين ، وأيّا ما كان فليس المطلوب إلا تدرجهم في مدراج المعاصي إلى أن يحق عليهم كلمة العذاب الأخروي أو الدنيوي على ما قيل على أفظع حال وأشنعها وإدرار النعم وسيلة إلى ذلك (مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) أنه كذلك بل يحسبون أنه أثرة من الله تعالى ، وقيل : لا يعلمون ما يراد بهم ، والجار والمجرور متعلق بمضمر وقع صفة لمصدر الفعل المذكور أي سنستدرجهم كائنا من حيث لا يعلمون (وَأُمْلِي لَهُمْ) أي أمهلهم والواو للعطف وما بعده معطوف على سنستدرجهم غير داخل في حكم السين لما أن الامهال ليس من الأمور التدريجية كالاستدراك الحاصل في نفسه شيئا فشيئا بل هو مما يحصل دفعة والحاصل بطريق التدريج آثاره وأحكامه ليس إلا ، ويلوح بذلك تغيير التعبير بتوحيد الضمير مع ما فيه من الافتنان المنبئ عن مزيد الاعتناء بمضمون الكلام لابتنائه على تجديد القصة والعزيمة ، وجعله غير واحد داخلا في حكمها ، ولا يخفى التوحيد حينئذ ، وقيل : إنه كلام مستأنف أي وأنا أملي لهم ، والخروج من ذلك الضمير إلى ضمير المتكلم المفرد شبيه الالتفات واستظهر أنه من التلوين.

وما قيل : إن هذا للإشعار بأن الامهال بمحض التقدير الإلهي وذاك للإشارة إلى أن الاستدراج بتوسط المدبرات ليس بشيء لمكان (لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ (١) خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ) [آل عمران : ١٧٨](إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) تقرير للوعيد وتأكيد له ، والمتين من المتانة بمعنى الشدة والقوة ، ومنه المتن للظهر أو اللحم الغليظ في جانبي الصلب ، وفسر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الكيد بالمكر. وفسره بعضهم بالاستدراج والاملاء مع نتيجتهما ، وتسميته كيدا لما أن ظاهره لطف وباطنه قهر ، وبعضهم بنفس الأخذ فقط فتسميته حينئذ بذلك قيل : لكون مقدماته كذلك ، وقيل : لنزوله بهم من حيث لا يشعرون ، وأيا ما كان فالمعنى أن كيدي قوي لا يدافع بقوة ولا بحيلة ، والآية حجة لأهل السنة في مسألة القضاء والقدر. وادعى بعض المفسرين أنها نزلت في المستهزئين من قريش أمهلهم الله تعالى ثم أخذهم في يوم بدر ، ثم إنه سبحانه وتعالى لما بالغ في تهديد الملحدين المعرضين الغافلين عن آياته والإيمان برسوله عليه الصلاة والسلام عقب ذلك على ما قيل بالجواب عن شبهتهم وإنكار عدم تفكرهم فقال عزّ من قائل : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما

١١٨

بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ) فالهمزة للإنكار والتوبيخ ، والواو للعطف على مقدر يستدعيه السياق والسباق ، والخلاف في مثل هذا التركيب مشهور وقد تقدمت الإشارة إليه.

و (ما) قال أبو البقاء : تحتمل أن تكون استفهامية إنكارية في محل الرفع بالابتداء والخبر (بِصاحِبِهِمْ) وأن تكون نافية اسمها (جِنَّةٍ) وخبرها (بِصاحِبِهِمْ). وجوز أن تكون موصولة ، وفيه بعد. والجنة مصدر كالجلسة بمعنى الجنون ، وليس المراد به الجن كما في قوله تعالى : (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) [الناس : ٦] لأنه يحتاج إلى تقدير مضاف أي مس جنة أو تخبطها ، والتنكير للتقليل والتحقير ، والتفكر التأمل وإعمال الخاطر في الأمر ، وهو من أفعال القلوب فحكمه حكمها في أمر التعليق ، ومحل الجملة على الوجهين النصب على نزع الخافض ، ومحل الموصول نصب على ذلك في الوجه الأخير ، أي أكذبوا ولم يتفكروا في أي شيء من جنون ما كائن بصاحبهم الذي هو أعظم الهادين الحق وعليه أنزلت الآيات ، أو في أنه ليس بصاحبهم شيء من جنة حتى يؤديهم التفكر في ذلك إلى الوقوف على صدقه وصحة نبوته فيؤمنوا به وبما أنزل عليه من الآيات أو في الذي بصاحبهم من جنة بزعمهم ليعلموا أن ذلك ليس من الجنة في شيء فيؤمنوا ، واختار الطبرسي أن الكلام قد تم عند قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا) أي أكذبوا ولم يتفكروا في أقواله وأفعاله أو أو لم يفعلوا التفكر ، ثم ابتدئ فقيل : أي شيء بصاحبهم من جنة ما على طريقة الإنكار والتعجيب والتبكيت ، أو قيل : ليس بصاحبهم شيء منها. والمراد بصاحبهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتعبير عنه عليه الصلاة والسلام بذلك لتأكيد النكير وتشديده لأن الصحبة مما يطلعهم على نزاهته صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن شائبة مما ذكر ، والتعرض لنفي الجنون عنه عليه الصلاة والسلام مع وضوح استحالة ثبوته له لما أن التكلم بما هو خارق لا يصدر إلا عمن به مس من الجنة كيفما اتفق من غير أن يكون له أصل أو عمن له تأييد إلهي يخبر به عن الغيوب ، وإذ ليس به عليه الصلاة والسلام شيء من الأول تعين الثاني. وأخرج ابن جرير وغيره عن قتادة قال : ذكر لنا أن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام على الصفا فدعا قريشا فخذا فخذا يا بني فلان يحذرهم بأس الله تعالى ووقائعه إلى الصباح حتى قال قائلهم : إن صاحبكم هذا المجنون بات يهوت حتى أصبح فأنزل الله تعالى الآية ، وعليه فالتصريح بنفي الجنون للرد على عظيمتهم الشنعاء عند من له أدنى عقل ، والعبير بصاحبهم وارد على مشاكلة كلامهم مع ما فيه من النكتة السالفة. وذكر بعضهم في سبب النزول أنهم كانوا إذا رأوا ما يعرض له صلى‌الله‌عليه‌وسلم من برحاء الوحي قالوا : جن فنزلت (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) تقرير لما قبله وتكذيب لهم فيما يزعمونه حيث تبين فيه حقيقة حاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي ما هو عليه الصلاة والسلام إلا مبالغ في الانذار مظهر له غاية الإظهار ، ثم لما كان أمر النبوة مفرعا على التوحيد ذكر سبحانه ما يدل عليه فقال جل شأنه : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو مسوق للإنكار والتوبيخ بإخلالهم بالتأمل بالآيات التكوينية إثر ما نعي عليهم ما نعي ، والهمزة هنا كالهمزة فيما قبل ، والواو للعطف على مقدر كما تقدم أو على الجملة المنفية بلم ، والملكوت الملك العظيم ، أي أكذبوا أو لم يتفكروا فيما ذكر ولم ينظروا نظر تأمل واستدلال فيما يدل على كما قدرة الصانع ووحدة المبدع وعظيم شأن المالك ليظهر لهم صحة ما يدعوهم إليه ذاك الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكأن التعبير بالنظر هنا دون التفكر الذي عبر به فيما قبل للإشارة إلى أن الدليل هنا أوضح منه فيما تقدم. وقوله سبحانه وتعالى : (وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) يحتمل أن يكون عطفا على ملكوت وتخصيصه بالسماوات والأرض لكمال ظهور عظم الملك فيهما ، وأن يكون عطفا على المضاف هو إليه فيكون منسحبا على الجميع ، والتعميم لاشتراك الكل في عظم الملك في الحقيقة ، و (مِنْ شَيْءٍ) بيان «لما» ، وفي ذلك تنبيه على أن الدلالة على التوحيد غير مقصورة على السموات والأرض بل كان ذرة من ذرات العالم دليل على توحيده :

١١٩

وفي كل شيء له آية

تدل على أنه واحد

وهذا أمر متفق عليه عند العقلاء. نعم منهم من جعل وجه الدلالة الحدوث وهو الذي عليه معظم المتكلمين ، ومنهم من جعل وجهها الإمكان وهو الذي عليه الفلاسفة واختاره بعض المتكلمين ، ورجح الأول قطب عصره الشيخ خالد المجددي قدس‌سره في تعليقاته على حواشي عبد الحكيم على الخيالي فارجع إليها ، وقوله تعالى : (وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) عطف على ملكوت فهو معمول لينظروا لكن لا يعتبر فيه بالنظر إليه أنه للاستدلال بناء على ما قالوا : إن قيد المعطوف عليه لا يلزم ملاحظته في المعطوف ، وقد تقدم الكلام في ذلك ، وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وخبرها عسى مع فاعلها الذي هو (أَنْ يَكُونَ) ، وخبر ضمير الشأن لا يشترط فيه الخبرية ولا يحتاج إلى التأويل كما نص عليه المحققون فلا معنى معنى للمناقشة في ذلك ، واسم يكون أيضا ضمير الشأن والخبر (قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) ، ولم يجعلوا هذا من باب التنازع لأن تنازع كان وخبرها مما لم يعهد لا لأن ذلك خلاف الأصل لما فيه من الإضمار قبل الذكر لأن ذلك لازم على جعل الاسم ضمير الشأن ولا ضير في كل ، وأمر التكرار فيما ذكرنا سهل فلا يرتكب له خلاف المعهود خلافا للقطب الرازي ، وجوز أبو البقاء أن تكون مصدرية ، وتعقب بأنها لا توصل إلا بالفعل المتصرف وعسى ليست كذلك ، والمعنى أولم ينظروا في اقتراب آجالهم وتوقع حلولها فيسارعوا إلى طلب الحق والتوجه إلى ما ينجيهم قبل مغافصة الموت ومفاجأته ونزول العذاب ، فالمراد بأجلهم أجل موتهم ، وجوز أن يكون عبارة عن الساعة ، والإضافة إلى ضميرهم لملابستهم لها من جهة انكارهم إياها وبحثهم عنها ، وقوله جل وعلا : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) قطع لاحتمال إيمانهم رأسا ونفي له بالكلية بعد الزام الحجة والإرشاد إلى النظر ، والباء متعلقة بيؤمنون ، وضمير بعده للقرآن على ما ذهب إليه غالب المفسرين وهو معلوم من السياق ، والحديث بمعنى الكلام فلا دليل في الآية لمن يزعم حدوث القرآن ، وقيل : ولئن سلمنا كونه دليلا يراد من القرآن الألفاظ وهي محدثة على المشهور ، والمعنى إذا لم يؤمنوا بالقرآن وهو النهاية في البيان فبأي كلام يؤمنون بعده ، وقيل : الضمير للآيات على حذف المضاف المفهوم من كذبوا ، والتذكير باعتبار كونها قرآنا أو بتأويلها بالمذكور أو إجراء الضمير مجرى اسم الإشارة.

والمعنى أكذبوا بالآيات ولم يتفكروا فيما يوجب تصديقها من أحواله عليه الصلاة والسلام وأحوال المصنوعات فبأي حديث بعد تكذيبها يؤمنون ، وفيه بعد ، وقيل : إنه يعود على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتقدير مضاف أيضا أي بعد حديثه يؤمنون وهو أصدق الناس ، وقيل : المراد بعد هذا الحديث ، وقيل : بعد الأجل أي كيف يؤمنون بعد انقضاء أجلهم؟ ، وجعل الزمخشري ذلك مرتبطا بقوله تعالى : (وَأَنْ عَسى) إلخ ارتباط التسبب عنه ، والضمير للقرآن كأنه قيل : لعل أجلهم قد اقترب فما بالهم لا يبادرون الايمان بالقرآن قبل الموت وما ذا ينظرون بعد وضوح الحق وبأي حديث أحق منه يريدون أن يؤمنوا ، وتقدير ما قدر عند صاحب الكشف ليس لأنه لا بد من تقديره ليستقيم الكلام بل للتنبيه على معنى الاستبطاء الذي في ضمن أي ، وأنه ليس بعد هذا البيان الواضح أمر منتظر ، وقوله عزّ شأنه : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ) استئناف مقرر لما قبله مبني على الطبع على قلوبهم ، والمراد استمرار النفي لا نفي الاستمرار ، وقوله سبحانه وتعالى : (وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ) بالياء والرفع على الاستئناف أي وهو يذرهم ، وقرأ غير واحد بنون العظمة على طريقة الالتفات أي ونحن نذرهم ، وقرأ حمزة. والكسائي بالياء والجزم عطفا على محل الجملة الاسمية الواقعة جواب الشرط كأنه قيل : من يضلل الله لا يهده أحد ويذرهم ، ويحتمل أن يكون ذلك تسكينا للتخفيف كما قرئ يشعركم وينصركم ، وقد روي الجزم مع النون عن نافع وأبي عمرو في الشواذ ، وتخريجه على أحد الاحتمالين ، وقوله تبارك

١٢٠