روح المعاني - ج ٥

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٥

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٩

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (٨٨) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (٨٩) وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٩١) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (٩٢) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (٩٣) وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩٥) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (٩٧) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (٩٩) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (١٠٠) تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (١٠١) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (١٠٢) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٤) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ

٣

عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٠٥) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (١٠٧) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ)(١٠٨)

(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) استئناف مبني على سؤال ينساق إليه المقال كأنه قيل له : فما ذا قالوا له عليه‌السلام بعد ما سمعوا منه هذه المواعظ؟ فقيل : قال أشراف قومه المستكبرون متطاولين عليه عليه‌السلام غير مكتفين بمجرد الاستعصاء بل بالغين من العتو مبلغا عظيما (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا) بغضا لكم ودفعا لفتنتكم المترتبة على المساكنة والجوار ، والتأكيد القسمي للمبالغة والاعتناء بالحكم و (مَعَكَ) متعلق بالإخراج لا بالإيمان ، ونسبة الإخراج إليه عليه‌السلام أولا وإلى المؤمنين ثانيا للتنبيه على أصالته عليه‌السلام في ذلك وتبعيتهم له فيه ، وتوسيط النداء باسمه العلي بين المعطوفين لزيادة التقرير والتهديد الناشئة عن غاية الوقاحة والطغيان ، وقوله تعالى : (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) عطف على جواب القسم أي والله ليكونن أحد الأمرين البتة الإخراج أو العود على أن المقصد الأهم هو العود وإنما ذكر الأول لمجرد القسر والإلجاء كما يفصح عنه عدم تعرضه عليه‌السلام بجواب الإخراج ، والمتبادر من العود الرجوع إلى الحالة الأولى وهذا مما لا يمكن في حق شعيب عليه‌السلام لأن الأنبياء عليهم‌السلام معصومون عما دون الكفر بمراتب. نعم هو ممكن في حق من آمن به فإسناده إليه عليه‌السلام من باب التغليب ، قيل : وقد غلب عليه المؤمنون هنا كما غلب هو عليهم في الخطاب فيكون في الآية حينئذ تغليبان ، وقال غير واحد : إن تعود بمعنى تصير كما أثبته بعض النحاة واللغويين فلا يستدعي العود إلى حالة سابقة وعلى ذلك قوله :

فإن لم تك الأيام تحسن مرة

اليّ فقد عادت لهنّ ذنوب

فكأنهم قالوا : لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتصيرن مثلنا فحينئذ لا إشكال ولا تغليب ، وكذا يقال فيما بعد وهو حسن ولا يأباه (إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها) لاحتمال أن يقال بالتغليب فيه أو يقال إن التنجية لا يلزم أن تكون بعد الوقوع في المكروه ، ألا ترى إلى قوله سبحانه : (فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ) [الأعراف: ٨٣] وأمثاله.

وقال ابن المنير : على احتمال تسليم استعمال العود بمعنى الرجوع إلى أمر سابق يجاب بأنه على نهج قوله تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) [البقرة : ٢٥٧] فإن الإخراج يستدعي دخولا سابقا فيما وقع الإخراج منه ، وهو غير متحقق في المؤمن والكافر الأصليين ، لكن لما كان الإيمان والكفر من الأفعال الاختيارية التي خلق الله تعالى العبد ميسرا لكل واحد منهما متمكنا منه لو أراده عبر عن تمكن المؤمن من الكفر ، ثم عدوله عنه إلى الإيمان اختيارا بالإخراج من الظلمات إلى النور توفيقا من الله تعالى له ولطفا به وبالعكس في حق الكافر ؛ ويأتي نظير ذلك في قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) [البقرة : ١٦ ، ١٧٥] وهذا من المجاز المعبر فيه عن السبب بالمسبب. وفائدة اختياره في هذه المواضع تحقيق التمكن والاختيار لإقامة حجة الله تعالى على عباده.

وقيل : إن هذا القول كان جاريا على ظنهم أنه عليه‌السلام كان في ملتهم لسكوته قبل البعثة عن الإنكار عليهم أو أنه صدر عن رؤسائهم تلبيسا على الناس وإيهاما لأنه كان على دينهم ، وما صدر عنه عليه‌السلام في أثناء المحاورة وقع على طريق المشاكلة ، وذكر الشهاب احتمالا آخر في الجواب وهو أن الظاهر أن العود هو المقابل للخروج إلى ما

٤

خرج منه وهو القرية ، والجار والمجرور في موضع الحال أي ليكن منكم الخروج من قريتنا أو العود إليها كائنين في ملتنا فينحل الاشكال من غير حاجة إلى ما تقدم ، ولا يخفى بعده. وإنما لم يقولوا أو لنعيدنكم على طريقة ما قبله لما أن مرادهم أن يعودوا بصورة الطواعية حذر الإخراج عن الوطن باختيار أهون الشرين لا إعادتهم بسائر وجوه الإكراه والتعذيب ، ومن الناس من زعم أن تعودن لا يصلح أن يكون جوابا للقسم لأنه ليس فعل المقسم ، وجعل ما أشرنا إليه أولى في بيان المعنى مخلصا من ذلك وهو باطل لأنه يقتضي أن القسم لا يكون على فعل الغير ولم يقل أحد به ، وقد شاع نحو والله ليضربن زيد من غير نكير وعدي العود بفي إيماء إلى أن الملة لهم بمنزلة الوعاء المحيط بهم (قالَ) استئناف كنظائره أي قال شعيب عليه‌السلام ردا لمقالتهم الباطلة وتكذيبا لهم في أيمانهم الفاجرة : (أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ) على أن الهمزة لإنكار الوقوع ونفيه ، والواو للعطف على محذوف ، وقد يقال : لها في مثل هذا الموضع واو الحال أيضا و (لَوْ) هي التي يؤتى بها لبيان ما يفيده الكلام السابق بالذات أو بالواسطة من الحكم الموجب أو المنفي على كل حال مفروض من الأحوال المقارنة له على الإجمال بإدخالها على أبعدها منه وأشدها منافاة له ليظهر بثبوته أو انتفائه مع ثبوته أو انتفاؤه مع ما عداه من الأحوال بطريق الأولوية ، والكلام هاهنا في تقدير أنعود فيها لو لم نكن كارهين ولو كنا كارهين غير مبالين بالإكراه ، فالجملة في موضع الحال من ضمير الفعل المقدر والمآل أنعود فيها حال عدم الكراهة وحال الكراهة إنكارا لما تفيده كلمتهم الشنيعة بإطلاقها من العود على أي حالة غير أنه اكتفى بذكر الحالة التي هي أشد الأحوال منافاة للعود وأكثرها بعدا منه تنبيها على أنها هي الواقعة في نفس الأمر وثقة باغنائها عن ذكر الأولى إغناء واضحا لأن العود الذي تعلق به الإنكار حين تحقق مع الكراهة على ما يوجبه كلامهم فلأن يتحقق مع عدمها أولى ، وهذا بعض مما ذكره شيخ الإسلام في هذا المقام ، وقد أطنب فيه الكلام وأتى بالنقض والإبرام فارجع إليه ، وقد جوز أن يكون الاستفهام باقيا على حاله ، وجعل بعضهم الهمزة بمعنى كيف ، ووجه التعجب إلى العود أي كيف نعود فيها ونحن كارهون لها وتقدير فعل العود لقوة دلالة الكلام عليه أولى من تقدير فعل الإعادة كما فعل الزمخشري ، وفي التيسير تقدير فعل الإخراج أي تخرجوننا من غير ذنب ونحن كارهون لمفارقة الأوطان ، وقد وجه بأن العود مفروغ عنه لا يتصور من عاقل فلا يكون إلا الإخراج ، ولا يخفى ضعف هذا التقدير.

وذكر أبو البقاء أن (لَوْ) هنا بمعنى إن لأنها للمستقبل ، وجوز أن تكون على أصلها وما أشار إليه شيخ الإسلام في هذا المقام أبعد مغزى فليتأمل (قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً) عظيما لا يقادر قدره.

(إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ) التي هي الشرك وزعمنا كما زعمتم أن لله سبحانه ندا تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

(بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها) وعلمنا بطلانها وأن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله أي إن عدنا في ملتكم فقد افترينا ، واستشكل ذلك بأن الظاهر فيما إذا كان الجواب مثل ما ذكر أن يتعلق ظهوره والعلم به بالشرط نحو (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) [يوسف : ٧٧] و (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ) [التوبة : ٤٠] وإن أكرمتني اليوم فقد أكرمتك أمس ، والمقصود هنا تقييد نفس الافتراء بالعود ، ولفظ قد وصيغة الماضي يمنعانه ، والجواب ما أشار إليه الزمخشري من أنه من باب الإخراج لا على مقتضى الظاهر وإيثار قد والماضي الدالين على التأكيد إما لأنه جواب قسم مقدر أو لأنه تعجب على معنى ما أكذبنا إن عدنا إلخ. ووجه التعجب أن المرتد أبلغ في الافتراء من الكافر لأن الكافر مفتر على الله تعالى الكذب حيث يزعم أن لله سبحانه ندا ولا ند له والمرتد مثله في ذلك وزائد عليه حيث يزعم أنه قد تبين له ما خفي عليه من التمييز بين الحق والباطل والحمل على التعجب على ما في الكشف أولى لأن حذف اللام ضعيف ، وجوز أبو حيان تبعا لابن عطية أن يكون الفعل المذكور

٥

قسما كما يقال : برئت من الله تعالى إن فعلت كذا ، وكقول مالك بن الأشتر النخعي :

أبقيت وفري وانحرفت عن العلى

ولقيت أضيافي بوجه عبوس

إن لم أشن على ابن هند غارة

لم تخل يوما من ذهاب نفوس

وهذا نوع من أنواع البديع وقد ذكره غير واحد من أصحاب البديعيات ، ومثله عز الدين الموصلي بقوله:

برئت من سلفي والشم من هممي

إن لم أدن بتقى مبرورة القسم

والباغونية بقولها :

لا مكنتنى المعالي من سيادتها

إن لم أكن لهم من جملة الخدم

(وَما يَكُونُ لَنا) أي ما يصح لنا وما يقع فيكون تامة ، وقد يأتي ذلك بمعنى ما ينبغي وما يليق.

(أَنْ نَعُودَ فِيها) في حال من الأحوال أو وقت من الأوقات (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا) أي إلا حال أو وقت مشيئة الله لعودنا ، والتعرض لعنوان الربوبية للتصريح بأنه المالك الذي لا يسأل عما يفعل.

(وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) فهو سبحانه يعلم كل حكمة ومصلحة ومشيئته على موجب الحكمة فكل ما يقع مشتمل عليها ، وهذا إشارة إلى عدم الأمن من مكر الله سبحانه فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الكافرون ، وفيه من الانقطاع إلى الله تعالى ما لا يخفى ، ويؤكد ذلك قوله تعالى : (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) فإن التوكل عليه سبحانه إظهار العجز والاعتماد عليه جل شأنه ، وإظهار الاسم الجليل للمبالغة ، وتقديم المعمول لإفادة الحصر. وفي الآية دلالة على أن لله تعالى أن يشاء الكفر.

وادعى شيخ الإسلام أن المراد استحالة وقوع ذلك كأنه قيل : وما كان لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله تعالى العود وهيهات ذلك ، ولا يكاد يكون كما ينبئ عنه التعرض لعنوان الربوبية ، وقولهم : (بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ) فإن تنجيته تعالى إياهم منها من دلائل عدم مشيئته سبحانه لعودهم فيها ، وفرع على قوله تعالى : (وَسِعَ) إلخ بعد أن فسره بما فسره محالية مشيئته العود لكن لطفا وهو وجه في الآية ، ولعل ما ذهبت إليه فيها أولى ، ولا يرد على تقدير العود مفعولا للمشيئة أنه ليس لذكر سعة العلم بعد حينئذ كبير معنى ، بل كان المناسب ذكر شمول الإرادة وأن الحوادث كلها بمشيئة الله تعالى لما لا يخفى ، ولا يحتاج إلى القول بأن ذلك منه عليه‌السلام رد لدعوى الحصر باحتمال قسم ثالث ، والزمخشري بنى تفسيره على عقيدته الفاسدة من وجوب رعاية الصلاح والأصلح وأن الله تعالى لا يمكن أن يشاء الكفر بوجه لخروجه عن الحكمة ، واستدل بقوله سبحانه : (وَسِعَ) إلخ ، ورده ابن المنير بأن موقع ما ذكر الاعتراف بالقصور عن علم العاقبة والاطلاع على الأمور الغائبة. ونظير ذلك قول إبراهيم عليه‌السلام : (وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) [الأنعام : ٨٠] فإنه عليه‌السلام لما رد الأمر إلى المشيئة وهي مغيبة مجد الله تعالى بالانفراد بعلم الغائبات انتهى ، وإلى كون المراد من الاستثناء التأبيد ذهب جعفر بن الحارث والزجاج أيضا وجعلوا ذلك كقول الشاعر :

إذا شاب الغراب أتيت أهلي

وصار القار كاللبن الحليب

وأنت خبير بأن ذلك مخالف للنصوص النقلية والعقلية وللعبارة والإشارة ، وقال الجبائي ، والقاضي : المراد بالملة الشريعة وفيها ما لا يرجع إلى الاعتقاد ، ويجوز أن يتعبد الله تعالى عباده به ومفعول المشيئة العود إلى ذلك أي ليس لنا أن نعود إلى ملتكم إلا أن يشاء الله بأن يتعبدنا بها وينقلنا وينسخ ما نحن فيه من الشريعة ، وقيل : المراد إلا أن

٦

يشاء الله تعالى أن يمكنكم من إكراهنا ويخلي بينكم وبينه فنعود إلى اظهار ملتكم مكرهين ، وقوي بسبق (أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ).

وقيل : إن الهاء في قوله سبحانه (فِيها) يعود إلى القرية لا الملة فيكون المعنى أنا سنخرج من قريتكم ولا نعود فيها إلا أن يشاء الله بما ينجزه لنا من الوعد في الإظهار عليكم والظفر بكم فنعود فيها ؛ وقيل : إن التقدير إلا أن يشاء الله أن يردكم إلى الحق فنكون جميعا على ملة واحدة ، ولا يخفى أن كل ذلك مما يضحك الثكلى ، وبالجملة الآية ظاهرة فيما ذهب إليه أهل السنة وسبحان من سد باب الرشد عن المعتزلة.

(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ) إعراض عن مفاوضتهم إثر ما ظهر من عتوهم وعنادهم وإقبال على الله تعالى بالدعاء والفتح بمعنى الحكم والقضاء لغة لحمير أو لمراد. والفتاح عندهم القاضي والفتاحة بالضم الحكومة.

وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه قال : الفتح القضاء لغة يمانية. وأخرج البيهقي وجماعة عن ابن عباس قال : ما كنت أدري ما قوله (رَبَّنَا افْتَحْ) حتى سمعت ابنة ذي يزن وقد جرى بيني وبينها كلام فقالت أفاتحك تريد أقاضيك و (بَيْنَنا) منصوب على الظرفية والتقييد بالحق لإظهار النصفة ، وجوز أن يكون مجازا عن البيان والإظهار وإليه ذهب الزجاج ، ومنه فتح المشكل لبيانه وحله تشبيها له بفتح الباب وإزالة الاغلاق حتى يوصل إلى ما خلفها وبيننا على ما قيل مفعول به بتقدير ما بيننا (وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) أي الحاكمين لخلو حكمك عن الجور والحيف أو المظهرين لمزيد علمك وسعة قدرتك والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبله.

(وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) عطف على (قالَ الْمَلَأُ) إلخ والمراد من هؤلاء الملأ يحتمل أن يكون أولئك المستكبرين وتغيير الصلة لما أن مناط قولهم السابق هو الاستكبار ويكون هذا حكاية لإضلالهم بعد حكاية ضلالهم على ما قيل ، ويحتمل أن يكون غيرهم ودونهم في الرتبة شأنهم الوساطة بينهم وبين العامة والقيام بأمورهم حسبما يراه المستكبرون ، أي قالوا لأهل ملتهم تنفيرا لهم وتثبيطا عن الإيمان بعد أن شاهدوا صلابة شعيب عليه‌السلام ومن معه من المؤمنين فيه وخافوا أن يفارقوهم (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً) ودخلتم في ملته وفارقتم ملة آبائكم (إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) أي مغبونون لاستبدالكم الضلالة بالهدى ولفوات ما يحصل لكم بالبخس والتطفيف فالخسران على الأول استعارة وعلى الثاني حقيقة وإلى تفسير الخاسرين بالمغبونين ذهب ابن عباس ، وعن عطاء تفسيره بالجاهلين ، وعن الضحاك تفسيره بالفجرة ، وإذا حرف جواب وجزاء معترض كما قال غير واحد بين اسم إن وخبرها. وقيل : هي إذا الظرفية الاستقبالية وحذفت الجملة المضاف إليها وعوض عنها التنوين ، ورده أبو حيان بأنه لم يقله أحد من النحاة ، والجملة جواب للقسم الذي وطأته اللام بدليل عدم الاقتران بالفاء وسادة مسد جواب الشرط وليست جوابا لهما معا كما يوهمه كلام بعضهم لأنه كما قيل مع مخالفته للقواعد النحوية يلزم فيه أن يكون جملة واحدة لها محل من الاعراب ولا محل لها وان جاز باعتبارين (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) أي الزلزلة كما قال الكلبي وفي سورة [هود : ٩٤](وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) أي صيحة جبريل عليه‌السلام ، ولعلها كانت من مبادئ الرجفة فأسند إهلاكهم إلى السبب القريب تارة وإلى البعيد أخرى ، وقال بعضهم : إن القصة غير واحدة فإن شعيبا عليه‌السلام بعث إلى أمتين أهل مدين وأهل الأيكة فأهلكت إحداهما بالرجفة والأخرى بالصيحة ، وفيه أنه إنما يتم لو لم يكن هلاك أهل مدين بالصيحة ، والمروي عن قتادة أنهم الذين أهلكوا بها وأن أهل الأيكة أهلكوا بالظلة.

وجاء في بعض الآثار أن أهل مدين أهلكوا بالظلة والرجفة ، فقد روي عن ابن عباس وغيره في هذه الآية أن الله تعالى فتح عليهم بابا من جهنم فأرسل عليهم حرا شديدا فأخذ بأنفاسهم ولم ينفعهم ظل ولا ماء فكانوا يدخلون

٧

الأسراب فيجدونها أشد حرا من الظاهر فخرجوا إلى البرية فبعث الله تعالى سحابة فيها ريح طيبة فأظلتهم فوجدوا لها بردا فنادى بعضهم بعضا حتى اجتمعوا تحتها رجالهم ونساؤهم وصبيانهم فألهبها عليهم نارا ورجفت بهم الأرض فاحترقوا كما يحترق الجراد المقلي وصاروا رمادا. ويشكل على هلاكهم جميعا نساء ورجالا ما نقل عن عبد الله البجلي قال : كان أبو جاد وهوز وحطي وكلمن وسعفص وقرشت ملوك مدين وكان ملكهم في زمن شعيب عليه‌السلام كلمن فلما هلك يوم الظلة رثته ابنته بقولها :

كلمن قد هد ركني

هلكه وسط المحلة

سيد القوم أتاه الح

تف نار تحت ظله

جعلت نار عليهم

دارهم كالمضمحله

اللهم إلا أن يقال : إنها كانت مؤمنة فنجت ، وقد يقال : إن هذا الخبر مما ليس له سند يعوّل عليه.

(فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) تقدم نظيره (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً) استئناف لبيان ابتلائهم بشؤم قولهم : (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا) والموصول مبتدأ خبره قوله تعالى : (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) أي لم يقيموا في دارهم ، وقال قتادة : المعنى كأن لم يعيشوا فيها مستغنين ، وذكر غير واحد أنه يقال : غني بالمكان يغنى غنى وغنيانا إذا أقام به دهرا طويلا ، وقيده بعضهم بالإقامة في عيش رغد ، وقال ابن الأنباري كغيره : إنه من الغنى ضد الفقر كما في قول حاتم :

غنينا زمانا بالتصعلك والغنى

فكلّا سقاناه بكأسهما الدهر

فما زادنا بغيا على ذي قرابة

غنانا ولا أزرى بأحسابنا الفقر

وعلى هذا تفسير قتادة ، ورد الراغب غني بمعنى أقام إلى هذا المعنى فقال : غني بالمكان طال مقامه فيه مستغنيا به عن غيره ، وقول بعضهم في بيان الآية : إنهم استؤصلوا بالمرة بيان لحاصل المعنى ، وفي بناء الخبر على الموصول إيماء إلى أن علة الحكم هي الصلة فكأنه قيل : الذين كذبوا شعيبا هلكوا لتكذيبهم إياه هلاك الأبد ، ويشعر ذلك هنا بأن مصدقيه عليه‌السلام نجوا نجاة الأبد ، وهذا مراد من قال بالاختصاص في الآية ، وقيل : إنه مبني على أن مثل هذا التركيب كما يفيد التقوى قد يفيد الاختصاص نحو (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ) [الرعد : ٢٦] والقرينة عليه هنا أنه سبحانه ذكر فيما سبق المؤمنين والكافرين ولم يذكر هنا إلا هلاك المكذبين ، ويرجع حاصل المعنى بالآخرة إلى أنهم عوقبوا بتوعدهم السابق بالإخراج وصاروا هم المخرجين من القرية إخراجا لا دخول بعده دون شعيب عليه‌السلام ومن معه ، وقوله تعالى : (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ) استئناف آخر لبيان ابتلائهم بعقوبة قولهم الأخير ، واستفادة الحصر هنا أوضح من استفادته فيما تقدم ، أي الذين كذبوه عليه‌السلام عوقبوا بقولهم (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) فصاروا هم الخاسرين للدنيا والدين لتكذيبهم لا المتبعون له عليه‌السلام المصدقون إياه عليه‌السلام ، وبهذا القصر اكتفى عن التصريح بالانجاء كما وقع في سورة [هود : ٩٤] من قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) إلخ ، وفي الكشاف أن في هذا الاستئناف وتكرير الموصول والصلة مبالغة في رد مقالة الملأ لأشياعهم وتسفيه لرأيهم واستهزاء بنصحهم بقومهم واستعظام لما جرى عليهم. وأنت تعلم أن في استفادة ذلك كله من نفس هذه الآية خفاء ، والظاهر أن مجموع الاستئنافين مؤذن به. وبين الطيبي ذلك بأنه تعالى لما رتب العقاب بأخذ الرجفة وتركهم هامدين لا حراك بهم علي التكذيب والعناد اتجه لسائل أن يسأل إلى ما ذا صار مآل أمرهم بعد الجثوم؟ فقيل : (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) أي إنهم استؤصلوا وتلاشت جسومهم كأن لم يقيموا فيها. ثم سأل

٨

أخصص الدمار بهم أم تعدى إلى غيرهم؟ فقيل : (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ) أي اختص بهم الدمار فجعلت الصلة الأولى ذريعة إلى تحقيق الخبر كقوله :

إن التي ضربت بيتا مهاجرة

بكوفة الجند غالت ودها غول

وكذلك بولغ في الإخبار عن دمار القوم وجيء بتقوى الحكم والتخصيص وجعلت الصلة الثانية علة لوجود الخبر ، وجاء تسفيه الرأي من الرد عليهم بعين ما تلفظوا به في نصح قومهم ، والاستهزاء من الإشارة إلى أن ما جعلوه نصيحة صار فضيحة وانعكس الحال الذي زعموه ؛ ويستفاد عظم الخسران من تعريف الخبر بلام الجنس. وأما استعظام ما جرى فمن قوله سبحانه : (كَأَنْ لَمْ) إلخ وكذا من مجموع الكلام ، ولا يخفى أن القول بالاستئناف من غير عطف جار على عادة العرب في مثل هذا المقام فإن عادتهم الاستئناف كذلك في الذم والتوبيخ فيقولون : أخوك الذي نهب مالنا أخوك الذي هتك سترنا أخوك الذي ظلمنا ، وجوز أبو البقاء أن يكون الموصول الثاني بدلا من الضمير في (يَغْنَوْا) وأن يكون في محل نصب بإضمار أعنى ، وأن يكون الأول مبتدأ والخبر (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا) و (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا) حال من ضمير (كَذَّبُوا) وأن يكون الأول صفة للذين كفروا أو بدلا منه وعلى الوجهين يكون (كَأَنْ لَمْ) إلخ حالا ، وما اخترناه هو الأولى كما هو ظاهر فليتدبر ؛ وقوله سبحانه : (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ) تقدم الكلام على نظيره ، بيد أن هذا القول يحتمل أن يكون تأنيبا وتوبيخا لهم وقوله سبحانه : (فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ) إنكار لمضمونه ، أي لقد أعذرت لكم في الإبلاغ والنصيحة والتحذير مما حل بكم فلم تسمعوا قولي ولم تصدقوني (فَكَيْفَ آسى) أي لا آسى عليكم لأنكم لستم أحقاء بالأسى وهو الحزن كما في الصحاح والقاموس أو شدة الحزن كما في الكشاف ومجمع البيان ، ويحتمل أن يكون تأسفا بهم لشدة حزنه عليهم ، وقوله سبحانه : (فَكَيْفَ) إلخ إنكار على نفسه لذلك ، وفيه تجريد والتفات على ما قيل حيث جرد عليه‌السلام من نفسه شخصا وأنكر عليه حزنه على قوم لا يستحقونه والتفت من الخطاب إلى التكلم ، وذكر بعض المحققين أن الظاهر أنه ليس من الالتفات والتجريد في شيء فإن قال يقتضي صيغة التكلم وهي تنافي التجريد ، وإنما هو نوع من البديع يسمى الرجوع وهو العود على الكلام السابق بالنقض لأنه إذا كان قد أبلغتكم تأسفا ينافي ما بعده فكأنه بدا له ورجع عن التأسف منكرا لفعله الأول ، وقد جاء ذلك كثيرا في كلامهم ومن ذلك قول زهير :

قف بالديار التي لم يعفها القدم

بلى وغيرها الأرواح والديم

والنكتة فيه الاشعار بالتوله والذهول من شدة الحيرة لعظم الأمر بحيث لا يفرق بين ما هو كالمتناقض من الكلام وغيره ، وابن حجة لا يفرق بين هذا النوع ونوع السلب والإيجاب وكأن منشأ ذلك اعتماده في النوع الأخير على تعريف أبي هلال العسكري له ولو اعتمد على تعريف إمام الصناعة ابن أبي الإصبع لما اشتبه عليه الفرق ، وعلى الاحتمالين في قوله سبحانه : (عَلى قَوْمٍ) إلخ إقامة الظاهر مقام الضمير للاشعار بعدم استحقاقهم التأسف عليهم لكفرهم ، وقرأ يحيى بن ثابت «فكيف إيسى» بكسر الهمزة وقلب الألف ياء على لغة من يكسر حرف المضارعة كقوله :

قعيدك أن لا تسمعيني ملامة

ولا تنكئي جرح الفؤاد فييجعا

وإمالة الألف الثانية ، هذا ثم إن شعيبا عليه‌السلام بعد هلاك من أرسل إليهم نزل مع المؤمنين به بمكة حتى ماتوا

٩

هناك وقبورهم على ما روي عن وهب بن منبه في غربي الكعبة بين دار الندوة وباب سهم. وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في المسجد الحرام قبران ليس فيه غيرهما قبر إسماعيل وقبر شعيب عليهما‌السلام أما قبر إسماعيل ففي الحجر وأما قبر شعيب فمقابل الحجر الأسود ، وروي عنه أيضا أنه عليه‌السلام كان يقرأ الكتب التي كان الله تعالى أنزلها على إبراهيم عليه‌السلام ، ومن الغريب ما نقل الشهاب أن شعيبا اثنان وأن صهر موسى عليهما الصلاة والسلام من قبيلة من العرب تسمى عنزة وعنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان وبينه وبين من تقدم دهر طويل فتبصر والله تعالى أعلم.

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍ) إشارة إجمالية إلى بيان أحوال سائر الأمم المذكورة تفصيلا ، وفيه تخويف لقريش وتحذير ، و «من» جيء بها لتأكيد النفي ، وفي الكلام حذف صفة نبي أي كذب أو كذبه أهلها (إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها) استثناء مفرغ من أعم الأحوال و (أَخَذْنا) في موضع نصب على الحال من فاعل (أَرْسَلْنا) وفي الرضى أن الماضي الواقع حالا إذا كان بعد إلا فاكتفاؤه بالضمير من دون الواو ، وقد كثر نحو ما لقيته إلا وأكرمني لأن دخول إلا في الأغلب الأكثر على الاسم فهو بتأويل إلا مكرما لي فصار كالمضارع المثبت وما في هذه الآية من هذا القبيل ، وقد يجيء مع الواو وقد نحو ما لقيته إلا وقد أكرمني ، ومع الواو وحدها نحو ما لقيته إلا وأكرمني لأن الواو مع إلا تدخل في خبر المبتدأ فكيف بالحال ولم يسمع فيه قد من دون الواو ، وقال المرادي في شرح الألفية : إن الحال المصدرة بالماضي المثبت إذا كان تاليا ل إلا يلزمها الضمير والخلو من الواو ويمتنع دخول قد وقوله :

متى يأت هذا الموت لم تلف حاجة

لنفسي إلا قد قضيت قضاءها

نادر ، وقد نص على ذلك الأشموني وغيره أيضا ، والظاهر أن امتناع قد بعد إلا فيما ذكر إذا كان الماضي حالا لا مطلقا ، وإلا فقد ذكر الشهاب أن الفعل الماضي لا يقع بعد إلا إلا بأحد شرطين إما تقدم فعل كما هنا. وإما مع قد نحو ما زيد إلا قد قام ، ولا يجوز ما زيد إلا ضرب ، ويعلم مما ذكرنا أن ما وقع في غالب نسخ تفسير مولانا شيخ الإسلام من أن الفعل الماضي لا يقع بعد إلا إلا بأحد شرطين إما تقدير قد كما في هذه الآية أو مقارنة قد كما في قولك : ما زيد إلا قد قام ليس على ما ينبغي بل هو غلط ظاهر كما لا يخفى ، والمعنى فيما نحن فيه وما أرسلنا في قرية من القرى المهلكة نبيا من الأنبياء عليهم‌السلام في حال من الأحوال إلا حال كوننا آخذين أهلها (بِالْبَأْساءِ) أي بالبؤس والفقر (وَالضَّرَّاءِ) بالضر والمرض ، وبذلك فسرهما ابن مسعود وهو معنى قول من قال : البأساء في المال والضراء في النفس وليس المراد أن ابتداء الإرسال مقارن للأخذ المذكور بل إنه مستتبع له غير منفك عنه (لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) أي كي يتضرعوا ويخضعوا ويتوبوا من ذنوبهم وينقادوا لأمر الله تعالى (ثُمَّ بَدَّلْنا) عطف على أخذنا داخل في حكمه (مَكانَ السَّيِّئَةِ) التي أصابتهم لما تقدم (الْحَسَنَةَ) وهي السعة والسلامة ، ونصب (مَكانَ) كما قيل على الظرفية بدل متضمن معنى أعطى الناصب لمفعولين وهما هنا الضمير المحذوف والحسنة أي أعطيناهم الحسنة في مكان السيئة ، ومعنى كونها في مكانها أنها بدل منها. وقال بعض المحققين : الأظهر أن مكان مفعول به لبدلنا لا ظرف ، والمعنى بدلنا مكان الحال السيئة الحال الحسنة فالحسنة هي المأخوذة الحاصلة في مكان السيئة المتروكة والمتروك هو الذي تصحبه الباء في نحو بدلت زيدا بعمرو (حَتَّى عَفَوْا) أي كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم ، وبذلك فسره ابن عباس وغيره من عفا النبات وعفا الشحم والوبر إذا كثرت ، ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أحفوا الشوارب واعفوا اللحى» وقول الحطيئة :

بمستأسد القريان عاف نباته

تساقطني والرحل من صوت هدهد

١٠

وقوله

ولكنا نعض السيف منها

بأسوق عافيات الشحم كوم

وتفسير أبي مسلم له بالاعراض عن الشكر ليس بيانا للمعنى اللغوي كما لا يخفى ، و (حَتَّى) هذه الداخلة على الماضي ابتدائية لا غائية عند الجمهور ، ولا محل للجملة بعدها كما نقل ذلك الجلال السيوطي في شرح جمع الجوامع له عن بعض مشايخه ، وأما زعم ابن مالك أنها جارة غائية وأن مضمرة بعدها على تأويل المصدر فغلطه فيه أبو حيان وتبعه ابن هشام فقال : لا أعرف له في ذلك سلفا ، وفيه تكلف إضمار من غير ضرورة ، ولا يشكل عليه ولا على من يقول : إن معنى الغاية لازم لحتى ولو كانت ابتدائية أن الماضي لمضيه لا يصلح أن يكون غاية لما قبل لتأخر الغاية عن ذي الغاية لأن الفعل وإن كان ماضيا لكنه بالنسبة إلى ما صار غاية له مستقبل فافهم.

(وَقالُوا) غير واقفين على أن ما أصابهم من الأمرين ابتلاء منه سبحانه (قَدْ مَسَّ آباءَنَا) كما مسنا.

(الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ) وما ذلك إلا من عادة الدهر يعاقب في الناس بين الضراء والسراء ويداولهما بينهم من غير أن يكون هناك داعية إليهما أو تبعة تترتب عليهما وليس هذا كقول القائل :

ثمانية عمت بأسبابها الورى

فكل امرئ لا بد يلقى الثمانية

سرور وحزن واجتماع وفرقة

وعسر ويسر ثم سقم وعافية

كما لا يخفى ولعل تأخير السراء للإشعار بأنها تعقب الضراء فلا ضير فيها (فَأَخَذْناهُمْ) عطف على مجموع عفوا وقالوا أو على قالوا لأنه المسبب عنه أي فأخذناهم إثر ذلك (بَغْتَةً) أي فجأة.

(وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بشيء من ذلك ولا يخطرون ببالهم شيئا من المكاره ، والجملة حال مؤكدة لمعنى البغتة ، وهذا أشد أنواع الأخذ كما قيل : وأنكأ شيء يفجؤك البغت ، وقيل : المراد بعدم الشعور عدم تصديقهم بأخبار الرسل عليهم‌السلام بذلك لا خلو أذهانهم عنه ولا عن وقته لقوله تعالى : (ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ) [الأنعام : ١٣١] ولا يخفى ما فيه من الغفلة عن معنى الغفلة وعن محل الجملة.

(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى) أي القرى المهلكة المدلول عليها بقوله سبحانه : (فِي قَرْيَةٍ) فاللام للعهد الذكري والقرية وإن كانت مفردة لكنها في سياق النفي فتساوي الجمع ، وجوز أن تكون اللام للعهد الخارجي إشارة إلى مكة وما حولها. وتعقب ذلك بأنه غير ظاهر من السياق ، ووجه بأنه تعالى لما أخبر عن القرى الهالكة بتكذيب الرسل وأنهم لو آمنوا سلموا وغنموا انتقل إلى إنذار أهل مكة وما حولها مما وقع بالأمم والقرى السابقة.

وجوز في الكشاف أن تكون للجنس ، والظاهر أن المراد حينئذ ما يتناول القرى المرسل إلى أهلها من المذكورة وغيرها لا ما لا يتناول قرى أرسل إليها نبي وأخذ أهلها بما أخذ وغيرها كما قيل لإباء ظاهر ما في حيز الاستدراك الآتي عنه (آمَنُوا) أي بما أنزل على أنبيائهم (وَاتَّقَوْا) أي ما حرم الله تعالى عليهم كما قال قتادة ويدخل في ذلك ما أرادوه من كلمتهم السابقة.

(لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي ليسرنا عليهم الخير من كل جانب ، وقيل : المراد بالبركات السماوية المطر وبالبركات الأرضية النبات. وأيا ما كان ففي فتحنا استعارة تبعية. ووجه الشبه بين المستعار منه والمستعار له الذي أشرنا إليه سهولة التناول ، ويجوز أن يكون هناك مجاز مرسل والعلاقة اللزوم ويمكن أن يتكلف

١١

لتحصيل الاستعارة التمثيلية ، وفي الآية على ما قيل إشكال وهو أنه يفهم بحسب الظاهر منها أنه لم يفتح عليهم بركات من السماء والأرض ، وفي [الأنعام : ٤٤](فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) وهو يدل على أنه فتح عليهم بركات من السماء والأرض ؛ وهو معنى قوله سبحانه : (أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) لأن المراد منها الخصب والرخاء والصحة والعافية لمقابلة أخذناهم بالبأساء والضراء ، وحمل فتح البركات على ادامته أو زيادته عدول عن الظاهر وغير ملائم لتفسيرهم الفتح بتيسير الخير ولا المطر والنبات. وأجاب عنه الخيالي بأنه ينبغي أن يراد بالبركات غير الحسنة أو يراد آمنوا من أول الأمر فنجوا من البأساء والضراء كما هو الظاهر ، والمراد في سورة الأنعام بالفتح ما أريد بالحسنة هاهنا فلا يتوهم الاشكال انتهى. وأنت خبير بأن إرادة آمنوا من أول الأمر إلى آخره غير ظاهرة بل الظاهر أنهم لو أنهم آمنوا بعد أن ابتلوا ليسرنا عليهم ما يسرنا مكان ما أصابهم من فنون العقوبات التي بعضها من السماء كإمطار الحجارة وبعضها من الأرض كالرجفة وبهذا ينحل الاشكال لأن آية الأنعام لا تدل على أنه فتح لهم هذا الفتح كما هو ظاهر لتاليها ، وما ذكر من أن المراد بالفتح هناك ما أريد بالحسنة هاهنا إن كان المراد به أن الفتح هناك واقع. وقع إعطاء الحسنة بدل السيئة هنا حيث كان ذكر كل منهما بعد ذكر الأخذ بالبأساء والضراء وبعده الأخذ بغتة فربما يكون له وجه لكنه وحده لا يجدي نفعا ، وإن كان المراد به أن مدلول ذلك العام المراد به التكثير هو مدلول الحسنة فلا يخفى ما فيه فتدبر ، وقيل : المراد بالبركات السماوية والأرضية الأشياء التي تحمد عواقبها ويسعد في الدارين صاحبها وقد جاءت البركة بمعنى السعادة في كلامهم فلتحمل هنا على الكامل من ذلك الجنس ولا يفتح ذلك إلا للمؤمن بخلاف نحو المطر والنبات والصحة والعافية فإنه يفتح له وللكافر أيضا استدراجا ومكرا ، ويتعين هذا الحمل على ما قيل إذا أريد من القرى ما يتناول قرى أرسل إليها نبي وأخذ أهلها بما أخذ وغيرها ، وقيل : البركات السماوية إجابة الدعاء والأرضية قضاء الحوائج فليفهم.

وقرأ ابن عامر «لفتّحنا» بالتشديد (وَلكِنْ كَذَّبُوا) أي ولكن لم يؤمنوا ولم يتقوا ، وقد اكتفى بذكر الأول لاستلزامه الثاني للإشارة إلى أنه أعظم الأمرين (فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) من أنواع الكفر والمعاصي التي من جملتها قولهم السابق ، والظاهر أن هذا الأخذ والمتقدم في قوله سبحانه : (فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) واحد وليس عبارة عن الجدب والقحط كما قيل : لأنهما قد زالا بتبديل الحسنة مكان السيئة ، وحمل أحد الأخذين على الأخذ الأخروي والآخر على الدنيوي بعيد ، ومن ذهب إلى حمل أل على الجنس على الوجه الأخير فيه يلزمه أن يحمل كذبوا فأخذناهم على وقوع التكذيب والأخذ فيما بينهم ولا يخفى بعده (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى) الهمزة لانكار الواقع واستقباحه ، وقيل : لانكار الوقوع ونفيه ، وتعقب بأن (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ) إلخ يأباه ، والفاء للتعقيب مع السبب ، والمراد بأهل القرى قيل : أهل القرى المذكورة على وضع المظهر موضع المضمر للايذان بأن مدار التوبيخ أمن كل طائفة ما أتاهم من البأس لا أمن مجموع الأمم ، وقيل : المراد بهم أهل مكة وما حواليها ممن بعث إليه نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو الأولى عندي وإلى ذلك ذهب محيي السنة ، والعطف على القولين على (فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) لا على محذوف ويقدر بما يناسب المقام كما وقع نحو ذلك في القرآن كثيرا ، وأمر صدارة الاستفهام سهل ، وقوله سبحانه : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا) إلخ اعتراض توسط بينهما للمسارعة إلى بيان أن الأخذ المذكور مما كسبته أيديهم نظرا للأول ولأنه يؤيد ما ذكر من أن الأخذ بغتة ترتب على الإيمان والتقوى ، ولو عكس لانعكس الأمر نظرا للثاني ، ولو جعلت اللام فيما تقدم للجنس أكد كذا هذا الاعتراض المعطوف والمعطوف عليها وشملهما شمولا سواء على ما في الكشف ولم يجعل العطف على فأخذناهم الأقرب لأنه لم يسق لبيان القرى وقصة هلاكها قصدا كالذي قبله فكان العطف عليه

١٢

دونه أنسب وهذا إذا أريد بالقرى القرى المدلول عليها بما سبق ، وأما إذا أريد بها مكة وما حولها فوجه ذلك أظهر لأن منشأ الإنكار ما أصاب الأمم السالفة لا ما أصاب أهل مكة ومن حولها من القحط وضيق الحال ، وربما يقال : إذا كان المراد بأهل القرى في الموضعين أهل مكة وما حولها يكون العطف على الأقرب أنسب ، والمعنى أبعد ذلك الأخذ لمن استكبر وتعزز وخالف الرسل عليهم‌السلام وشيوعه والعلم به يأمن أهل القرى المشاركون لهم في ذلك (أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا) أي عذابنا (بَياتاً) أي وقت بيات وهو مراد من قال ليلا ، وهو مصدر بات ونصبه على الظرفية بتقدير مضاف ، ويجوز أن يكون حالا من المفعول أي بائتين ، وجوز أن يكون مصدر بيت ونصبه على أنه مفعول مطلق ليأتيهم من غير لفظه أي تبييتا أو حال من الفاعل بمعنى مبيتا بالكسر أو من المفعول بمعنى مبيتين بالفتح ، واختار غير واحد الظرفية ليناسب ما سيأتي (وَهُمْ نائِمُونَ) حال من ضميرهم البارز أو المستتر في بياتا لتأويله بالصفة كما سمعت وهو حال متداخلة حينئذ (أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى) انكار بعد إنكار للمبالغة في التوبيخ والتشديد ، ولم يقصد الترتيب بينهما فلذا لم يؤت بالفاء.

وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر. (أَوَ) بسكون الواو وهي لأحد الشيئين والمراد الترديد بين أن يأتيهم العذاب بياتا وما دل عليه قوله سبحانه : (أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى) أي ضحوة النهار وهو في الأصل ارتفاع الشمس أو شروقها وقت ارتفاعها ثم استعمل للوقت الواقع فيه ذلك وهو أحد ساعات النهار عندهم وهي الذرور والبزوغ والضحى والغزالة والهاجرة والزوال والدلوك والعصر والأصيل والصنوت والحدور والغروب وبعضهم يسميها البكور والشروق والإشراق والراد والضحى والمنوع والهاجرة والأصيل والعصر والطفل والحدور والغروب ، ويكون كما قال الشهاب متصرفا إن لم يرد به وقت من يوم بعينه وغير متصرف إن أريد به ضحوة يوم معين فيلزم النصب على الظرفية وهو مقصور فإن فتح مد ، وقد عدوا لفظ الضحى مما يذكر ويؤنث.

(وَهُمْ يَلْعَبُونَ) أي يلهون من فرط الغفلة وهو مجاز مرسل في ذلك ، ويحتمل أن يكون هناك استعارة أي يشتغلون بما لا نفع فيه كأنهم يلعبون (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ) تكرير لمجموع الانكارين السابقين جمعا بين التفريق قصدا إلى زيادة التحذير والإنذار ، وذكر جمع من جلة المحققين أنه لو جعل تكرير له ولما سلف من غرة أهل القرى السابقة أيضا على معنى أن الكل نتيجة الأمن من مكر الله تعالى لجاز إلا أنه لما جعل تهديدا للموجودين كان الأنسب التخصيص ، وفيه تأمل. والمكر في الأصل الخداع ويطلق على الستر يقال : مكر الليل أي ستر بظلمته ما هو فيه ، وإذا نسب إليه سبحانه فالمراد به استدراجه العبد العاصي حتى يهلكه في غفلته تشبيها لذلك بالخداع ، وتجوز هذه النسبة إليه سبحانه من غير مشاكلة خلافا لبعضهم ، وهو هنا إتيان البأس في الوقتين والحالين المذكورين ، وهل كان تبديل مكان السيئة الحسنة المذكور قبل مكرا واستدراجا أو ملاطفة ومراوحة؟ فيه خلاف والكل محتمل (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) أي الذين خسروا أنفسهم فأضاعوا فطرة الله التي فطر الناس عليها والاستعداد القريب المستفاد من النظر في الآيات والفاء هنا متعلق كما قال القطب الرازي وغيره بمقدر كأنه قيل فلما آمنوا خسروا فلا يأمن إلخ. وقال أبو البقاء إنها للتنبيه على تعقيب العذاب أمن مكر الله تعالى ، وقد يقال : إنها لتعليل ما يفهمه الكلام من ذم الأمن واستقباحه أو يقال إنها فصيحة ، ويقدر ما يستفاد من الكلام شرطا أي إذا كان الأمن في غاية القبح فلا يرتكبه إلا من خسر نفسه ، واستدلت الحنفية بالآية على أن الأمن من مكر الله تعالى وهو كما في جميع الجوامع الاسترسال في المعاصي اتكالا على عفو الله تعالى كفر ، ومثله اليأس من رحمة الله تعالى لقوله تعالى : (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) [يوسف : ٨٧] وذهبت الشافعية إلى أنهما من الكبائر لتصريح ابن مسعود رضي الله تعالى عنه

١٣

بذلك (١) وروى ابن أبي حاتم. والبزار عن ابن عباس أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل ما الكبائر؟ فقال : الشرك بالله تعالى واليأس من روح الله والأمن من مكر الله وهذا أكبر الكبائر قالوا : وما ورد من أن ذلك كفر محمول على التغليظ وآية لا ييأس إلخ كقوله تعالى (الزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ) [النور : ٣] و (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ) [المجادلة : ٢٢] في قوله. وقال بعض المحققين : إن كان في الأمن اعتقاد أن الله تعالى لا يقدر على الانتقام منه وكذا إذا كان في اليأس اعتقاد عدم القدرة على الرحمة والإحسان أو نحو ذلك فذلك مما لا ريب في أنه كفر وإن خلا عن نحو هذا الاعتقاد ولم يكن فيه تهاون وعدم مبالاة بالله تعالى فذلك كبيرة وهو كالمحاكمة بين القولين (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها) أي يخلفون من خلا قبلهم من الأمم ، والمراد بهم كما روي عن السدي المشركون وفسروا بأهل مكة ومن حولها ، وعليه لا يبعد أن يكون في الآية إقامة الظاهر مقام الضمير إذا كان المراد بأهل القرى سابقا أهل مكة وما حولها ، وتعدية فعل الهداية باللام لأنها كما روي عن ابن عباس. ومجاهد بمعنى التبيين وهو على ما قيل : إما بطريق المجاز أو التضمين أو لتنزيله منزلة اللازم كأنه قيل : أغفلوا ولم يفعل الهداية لهم (أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) أي بجزاء ذنوبهم كما أصبنا من قبلهم ، وإذا ضمن أصبنا معنى أهلكنا لا يحتاج إلى تقدير مضاف. وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن مقدر وخبره الجملة الشرطية والمصدر المؤول فاعل (يَهْدِ) ومفعوله على احتمال التضمين محذوف أي أو لم يتبين لهم مآل أمرهم أو نحو ذلك. وجوز أن يكون الفاعل ضمير الله تعالى وأن يكون ضميرا عائدا على ما يفهم مما قبل ، أي أو لم يهد لهم ما جرى على الأمم السابقة. وقرأ عبد الرحمن السلمي وقتادة ، وروي عن مجاهد. ويعقوب «نهد» بالنون فالمصدر حينئذ مفعول ، ومن الناس من خص اعتبار التضمين أو المجاز بهذه القراءة واعتبار التنزيل منزلة اللازم بقراءة الياء ، وفيه بحث ، وقوله تعالى : (وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ) جملة معترضة تذييلية أي ونحن من شأننا وسنتنا أن نطبع على قلب من لم نرد منه الايمان حتى لا يتعظ بأحوال من قبله ولا يلتفت إلى الأدلة ، ومن أراد من أهل القرى فيما تقدم أهل مكة جعله تأكيدا لما نعى عليهم من الغرة والأمن والخسران أي ونحن نطبع على قلوبهم فلذلك اقتفوا آثار من قبلهم ولم يعتبروا بالآيات وأمنوا من البيات لمستخلفيهم حذو النعل بالنعل. وجوز عطفه على مقدر دل عليه قوله تعالى (أَوَلَمْ يَهْدِ) وعطفه عليه أيضا وهو وإن كان إنشاء إلا أن المقصود منه الإخبار بغفلتهم وعدم اهتدائهم أي لا يهتدون أو يغفلون عن الهداية أو عن التأمل والتفكر ونطبع إلخ.

وجوز أن يكون عطفا على يرثون ، واعترض بأنه صلة والمعطوف على الصلة صلة ففيه الفصل بين أبعاض الصلة بأجنبي وهو (أَنْ لَوْ نَشاءُ) سواء كانت فاعلا أو مفعولا ، ونقل أبو حيان عن الأنباري أنه قال : يجوز أن يكون معطوفا على (أَصَبْناهُمْ) إذ كان بمعنى نصيب فوضع الماضي موضع المستقبل عند وضوح معنى الاستقبال كما في قوله تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ) [الفرقان : ١٠] أي إن يشأ ، يدل عليه (وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً) [الفرقان : ١٠] فجعل لو شرطية بمعنى إن ولم يجعلها التي هي لما كان سيقع لوقوع غيره وجعل أصبنا بمعنى نصيب ، وقد يرتكب التأويل في جانب المعطوف فيؤول «نطبع» بطبعنا ، ورد الزمخشري هذا العطف بأنه لا يساعد عليه المعنى لأن القوم كانوا مطبوعا على قلوبهم موصوفين بصفة من قبلهم من اقتراف الذنوب والإصابة بها وذلك يؤدي إلى خلوهم عن هذه الصفة وأن الله تعالى لو شاء لا تصفوا بها ، وتعقبه ابن المنير بأنه لا يلزم أن يكون المخاطبون موصوفين بالطبع ولا بد وهم وإن كانوا كفارا ومقترفين للذنوب فليس الطبع من لوازم الاقتراف البتة إذ هو التمادي على الكفر

__________________

(١) قيل الأشبه أن يكون الخبر مرفوعا ا ه منه

١٤

والإصرار والغلو في التصميم حتى يكون الموصوف به مأيوسا من قبوله للحق ولا يلزم أن يكون كل كافر بهذه المثابة بلى إن الكافر يهدد لتماديه على الكفر بأن يطبع الله تعالى على قلبه فلا يؤمن أبدا وهو مقتضى العطف على (أَصَبْناهُمْ) فتكون الآية قد هددتهم بأمرين الإصابة بذنوبهم والطبع على قلوبهم والثاني أشد من الأول وهو أيضا نوع من الإصابة بالذنوب والعقوبة عليها ولكنه أنكى أنواع العذاب وأبلغ صنوف العقاب ، وكثيرا ما يعاقب الله تعالى على الذنوب بالإيقاع في ذنب أكبر منه ، وعلى الكفر بزيادة التصميم عليه والغلو فيه كما قال سبحانه : (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) [التوبة : ١٢٥] كما زادت المؤمنين إيمانا إلى إيمانهم وهذا النوع من الثواب والعقاب مناسب لما كان سببا فيه وجزاء عليه فثواب الإيمان إيمان وثواب الكفر كفر ، وإنما الزمخشري يحاذر من هذا الوجه دخول الطبع في مشيئة الله تعالى وذلك عنده محال لأنه بزعمه قبيح والله سبحانه عنه متعال ، وفي التقريب نحو ذلك فإنه نظر فيما ذكره الزمخشري بأن المذكور كونهم مذنبين دون الطبع وأيضا جاز أن يراد لو شئنا زدنا في طبعهم أو لأمناه ، والحق كما قال غير واحد من المحققين أن منعه من هذا العطف ليس بناء على أنه لا يوافق رأيه فقط بل لأن النظم لا يقتضيه فإن قوله سبحانه : (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) أي سماع تفهم واعتبار يدل على أنهم مطبوع على قلوبهم لأن المراد استمرار هذه الحال لا أنه داخل في حكم المشيئة لأن عدم السماع كان حاصلا ولو كان كذلك لوجب أن يكون منفيا ، وأيضا التحقيق لا يناسب الغرض ، و (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى (١) قُلُوبِ الْكافِرِينَ) ظاهر الدلالة على أن الوارثين والموروثين كل من أهل الطبع وكذا قوله سبحانه : (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) يدل على أن حالهم منافية للإيمان وأنه لا يجيء منه البتة وأيضا إدامة الطبع أو زيادته لا يصلح عقوبة للكافرين بل قد يكون عقوبة ذنب المؤمن كما ورد في الصحيح وما يورد من الدغدغة على هذا مما لا يلتفت إليه (تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها) جملة مستأنفة جارية مجرى الفذلكة مما قبلها منبئة عن غاية غواية الأمم المذكورة وتلك إشارة إلى قرى الأمم المحكية من قوم نوح وعاد وثمود وأضرابهم ، واللام للعهد وجوز أن تكون للجنس ، وهو مبتدأ والقرى صفته والجملة بعده خبر.

وجوز الزمخشري أن تكون تلك مبتدأ ، والقرى خبر ، والجملة خبر بعد خبر على رأي من يرى جواز كون الخبر الثاني جملة ، وأن تكون الجملة حالا ، وإفادة الكلام بالتقييد بها ، واعترضه في التقريب بأنه جعل شرط الإفادة التقييد بالحال وعلى تقدير كون ذلك خبرا بعد خبر ينتفي الشرط إلا أن يريد تلك القرى المعلومة حالها أو صفتها على أن اللام للعهد لكنه يوجب الاستغناء عن اشتراط إفادته بالحال انتهى ، وفيه أن حديث الاستغناء ممنوع فإن المعنى كما في الكشف على التقديرين مختلف لأنه إذا جعل حالا يكون المقصود تقييده بالحال كما ذكره الزجاج في نحو هذا زيد قائما إذا جعل قيدا للخبر إن الكلام إنما يكون مع من يعلم أنه زيد وإلا جاء الاحالة لأنه يكون زيد قائما كان أو لا ، وإذا جعل خبرا بعد خبر فتلك القرى على أسلوب ذلك الكتاب على أحد الوجوه و (نَقُصُ) خبر ثان تفخيما على تفخيم حيث نبه على أن لها قصصا وأحوالا أخرى مطوية.

وقال الطيبي : إن الحال لما كانت فضلة كان الاشكال قائما في عدم إفادة الخبر فأجيب بأنها ليست فضلة من كل وجه وأما الخبر فلا عجب من كونه كالجزء من الأول كما في قولك هذا حلو حامض ، وهو بمنزلته ، وفيه أن عد ما نحن فيه من ذلك القبيل حامض ومستغنى عنه بالحلو ، ومثله ، بل أدهى وأمر. الجواب بأنه لما اشترك الحلوان في ذات المبتدأ كفى إفادة أحدهما وصيغة المضارع للإيذان بعدم انقضاء القصة بعد و (مِنْ) للتبعيض أي بعض أخبارها التي فيها عظة وتذكير ، وتصدير الكلام بذكر القرى وإضافة الأنباء أي الأخبار العظيمة الشأن إليها مع أن المقصود أنباء أهلها وبيان أحوالهم حسبما يؤذن به قوله سبحانه : (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) لما ذكره شيخ الإسلام من أن

١٥

حكاية هلاكهم بالمرة على وجه الاستئصال بحيث يشمل أماكنهم أيضا بالخسف والرجفة وبقائها خاوية معطلة أهول وأفظع ، والباء في قوله تعالى : (بِالْبَيِّناتِ) متعلقة إما بالفعل المذكور على أنها للتعدية ، وإما بمحذوف وقع حالا من فاعله أي متلبسين بالبينات على معنى أن رسول كل أمة من الأمم المهلكة الخاص بهم جاءهم بالمعجزات البينة الجمة لا أن كل رسول جاء بينة واحدة ، وما ذكروه من أن مقابلة الجمع بالجمع تقتضي انقسام الآحاد على الآحاد لا يقتضي كما قال المولى المدقق أبو القاسم السمرقندي في تعليقاته على المطول أن يلزم في كل مقابلة مقارنة الواحد للواحد لأن انقسام الآحاد على الآحاد كما يجوز أن يكون على السواء يجوز أن يكون على التفاوت ، مثلا إذا قيل : باع القوم دوابهم يفهم أن كلّا منهم باع ما له من دابة ، ويجوز أن تتعدد دابة البعض ، ولهذا قيل في قوله سبحانه : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ) [المائدة : ٦] إن غسل يدي كل شخص ثابت بالكتاب والمقام هنا يقتضي ما ذكرناه فإن الجملة مستأنفة مبينة لكمال عتوهم وعنادهم ، وقوله عزّ شأنه : (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) بيان لاستمرار عدم إيمانهم في الزمان الماضي لا لعدم استمرار إيمانهم ، ونظير ذلك (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [المائدة : ٦٩] ، وترتيب حالهم هذه على مجيء الرسل بالبينات بالفاء لما أن الاستمرار على فعل بعد ورود ما يوجب الإقلاع عنه يعد بحسب العنوان فعلا جديدا وصنعا حادثا كما في وعظته فلم ينزجر ودعوته فلم يجب ، واللام لتأكيد النفي أي فما صح وما استقام لقوم من أولئك الأقوام في وقت من الأوقات ليؤمنوا بل كان ذلك ممتنعا منهم إلى أن لقوا ما لقوا لغاية عتوهم وشدة شكيمتهم في الكفر والطغيان ثم إن كان المحكيّ آخر حال كل قوم منهم فالمراد بعدم إيمانهم هو إصرارهم على ذلك بعد اللتيا والتي وبما أشير إليه بقوله تعالى : (بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) تكذيبهم من لدن مجيء الرسل عليهم‌السلام إلى وقت الإصرار والعناد ، وهذا معنى كلام الزجاج فما كانوا ليؤمنوا بعد رؤية تلك المعجزات بما كذبوا قبل رؤيتها ، يعني أول ما جاءوهم فاجئوهم بالتكذيب فأتوا بالمعجزات فأصروا على التكذيب وإلى هذا ذهب الحسن أيضا ، وإنما لم يجعل ذلك مقصودا بالذات كالأول بل جعل صلة للموصول المحذوف عائده أي الذي كذبوه إيذانا بأنه بين في نفسه ، وإنما المحتاج إلى البيان عدم إيمانهم بعد تواتر البينات الباهرة وتظاهر المعجزات الظاهرة التي كانت تضطرهم إلى القبول لو كانوا من ذوي العقول ، والموصول الذي تعلق به الإيمان والتكذيب إيجابا وسلبا عبارة عن جميع الشرائع التي جاء بها كل رسول أصولها وفروعها وإن كان المحكي أحوال كل قوم منهم فالمراد على ما قيل بما ذكر أولا كفرهم المستمر من حين مجيء الرسل عليهم‌السلام إلى آخر أمرهم وبما أشير إليه آخرا تكذيبهم قبل مجيئهم فلا بد من جعل الموصول عبارة عن أصول الشرائع التي لا تقبل التبدل والتغير واجتمعت الرسل قاطبة عليها ودعوا الأمم إليها كلمة التوحيد ولوازمها ومعنى تكذيبهم بها قبل مجيء الرسل أنهم كانوا يسمعونها من بقايا من قبلهم فيكذبونها لا أن العقل يرشد إليها ويحكم بها ويخالفونه ثم كانت حالهم بعد مجيء الرسل إليهم كحالهم قبل كأن لم يبعث إليهم أحد وتخصيص التكذيب وعدم الإيمان بما ذكر من الأصول لظهور حال الباقي بدلالة النص فانهم حين لم يؤمنوا بما اجتمعت عليه كافة الرسل فلأن لا يؤمنوا بما تفرد به بعضهم أولى ، وعدم جعل هذا التكذيب مقصودا بالذات لما أنه ليس مدار العذاب بل مداره التكذيب بعد البعثة كما يفصح عنه قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء : ١٥] وإنما ذكر ما وقع قبلها بيانا لعراقتهم في الكفر والتكذيب ، وقيل : المراد بما أشير إليه آخرا تكذيبهم الذي أسروه يوم الميثاق ، وروي ذلك عن أبي بن كعب والربيع والسدي ومقاتل واختاره الطبري.

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما عن مجاهد أن الآية على حد قوله تعالى : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) [الأنعام : ٢٨] فالمعنى ما كانوا لو أهلكناهم ثم أحييناهم ليؤمنوا بما كذبوا قبل إهلاكهم ، وعلى هذا فالمراد

١٦

بالموصول جميع الشرائع أصولها وفروعها وفيه من المبالغة في إصرارهم وعتوهم ما لا يخفى إلا أنه في غاية الخفاء ، وأيّا ما كان فالضمائر الثلاثة متوافقة في المرجع ، وقيل ضمير (كَذَّبُوا) راجع إلى أسلافهم ، والمعنى فما كان الأبناء ليؤمنوا بما كذب به الآباء ، ولا يخفى ما فيه من التعسف ، وذهب الأخفش إلى أن الياء سببية وما مصدرية والمعنى عليه كما قيل : فما كانوا ليؤمنوا الآن أي عند مجيء الرسل لما سبق منهم من التكذيب الذي ألفوه وتمرنوا عليه قبل مجيئهم أو لم يؤمنوا قط واستمروا على تكذيبهم لما حصل منهم من التكذيب حين مجيء الرسل.

(كَذلِكَ) أي مثل ذلك الطبع الشديد المحكم (يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ) أي قلوبهم فوضع المظهر موضع المضمر ليدل على أن الطبع بسبب الكفر وإلى هذا يشير كلام الزجاج وصرح به بعضهم ، ويجوز ولعله الأولى أن يراد بالكافرين ما يشمل المذكورين وغيرهم وفي ذلك من تحذير السامعين ما لا يخفى ، وإظهار الاسم الجليل بطريق الالتفات لتربية المهابة وإدخال الروعة (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ) أي أكثر الأمم المذكورين ، ووجد متعدية لواحد واللام متعلقة بها كما في قولك : ما وجدت لزيد مالا أي ما صادفت له مالا ولا لقيته أو بمحذوف كما قال أبو البقاء وقع حالا من قوله تعالى : (مِنْ عَهْدٍ) لأنه في الأصل صفة للنكرة فلما قدمت عليها انتصبت حالا ومن مزيدة للاستغراق وجوز أن تكون وجد علمية والأول أظهر ، والكلام على تقدير مضاف أي ما وجدنا وفاء عهد كائن لأكثرهم فانهم نقضوا ما عاهدوا عليه الله تعالى عند مساس البأساء والضراء قائلين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين ، وإلى هذا ذهب قتادة ، وتخصيص هذا الشأن بأكثرهم ليس لأن بعضهم كانوا يوفون بالعهد بل لأن بعضهم كانوا لا يعهدون ولا يوفون ، وقيل : المراد بالعهد ما وقع يوم أخذ الميثاق ، وروي ذلك عن أبي بن كعب. وأبي العالية ، وقيل : المراد به ما عهد الله تعالى إليهم من الإيمان والتقوى بنصب الدلائل والحجج وإنزال الآيات ، وفسره ابن مسعود بالإيمان كما في قوله تعالى : (اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) [مريم : ٧٨] ، وقيل : هو بمعنى البقاء أي ما وجدنا لهم بقاء على فطرتهم ، والمراد بالأكثر في الكل الكل ، وذهب كثير من الناس إلى أن ضمير أكثرهم للناس وهو معلوم لشهرته ، والجملة إلى فاسقين اعتراض لأنه لا اختصاص له بما قبله لكن لعمومه يؤكده. وعلى الأول تتميم على ما نص عليه الطيبي وغيره (وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ) أي أكثر الأمم أو أكثر الناس أي علمناهم كقولك : وجدت زيدا فاضلا وبين وجد هذه ووجد السابق على المعنى الأول فيه الجناس التام المماثل و (إِنْ) مخففة من الثقيلة وضمير الشأن محذوف ولا عمل لها فيه لأنها ملغاة على المشهور ، وتعين تفسير وجد بعلم الناصبة للمبتدإ والخبر لدخولها عليهما ، فقد صرح الجمهور أنها لا تدخل إلا على المبتدأ أو على الأفعال الناسخة وخالف في ذلك الأخفش فلا يرى ذلك.

وجوز دخولها على غيرهما ، وذهب الكوفيون إلى أن إن نافية ، واللام في قوله سبحانه : (لَفاسِقِينَ) اللام الفارقة وعند الكوفيين أن إن نافية واللام بمعنى إلا أي ما وجدنا أكثرهم الا خارجين عن الطاعة ويدخل في ذلك نقض العهد ، وذكر الطيبي أنه إذا فسر الفاسقون بالناكثين يكون في الآية الطرد والعكس ، وهو أن يؤتى بكلامين يقرر الأول بمنطوقه مفهوم الثاني وبالعكس ، وهو كقوله تعالى : (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) [النور : ٥٨] إلى قوله سبحانه : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَ) [النور : ٥٨] فمنطوق الأمر بالاستئذان في الأوقات الثلاثة خاصة مقرر لمفهوم رفع الجناح فيما عداها وبالعكس ، وكذا قوله تعالى : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [التحريم : ٦] وهذا النوع من الإطناب يقابله في الإيجاز نوع الاحتباك (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى) أي أرسلناه عليه‌السلام بعد الرسل أو بعد الأمم والأول متقدم في قوله سبحانه : (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ) والثاني مدلول عليه بتلك القرى والاحتمال الأول أولى ، والتصريح بالبعدية مع ثم الدالة عليها قيل للتنصيص على أنها للتراخي الزماني

١٧

فانها كثيرا ما تستعمل في غيره ، وقيل : للايذان بأن بعثه عليه‌السلام جرى على سنن السنة الإلهية من إرسال الرسل تترى ، و (مِنْ) لابتداء الغاية ، وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح لما مر مرارا من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ، وقوله سبحانه : (بِآياتِنا) متعلق بمحذوف وقع حالا من مفعول بعثنا أو صفة لمصدره أي بعثناه عليه‌السلام ملتبسا بها أو بعثناه بعثا ملتبسا بها وأريد بها الآيات التسع المفصلة (إِلى فِرْعَوْنَ) هو علم شخص ثم صار لقبا لكل من ملك مصر من العمالقة ، كما أن كسرى لقب من ملك فارس ، وقيصر لقب من ملك الروم ، والنجاشي لقب من ملك الحبشة ، وتبع لقب من ملك اليمن ، وقيل : إنه من أول الأمر لقب لمن ذكر ، واسمه الوليد بن مصعب بن الريان ، وقيل : قابوس وكنيته أبو العباس ، وقيل : أبو مرة ، وقيل : أبو الوليد ، وعن جماعة أن قابوسا والوليد اسمان لشخصين أحدهما فرعون موسى والآخر فرعون يوسف عليهما‌السلام ، وعن النقاش. وتاج القراء أن فرعون موسى هو والد الخضر عليه‌السلام ، وقيل : ابنه وذلك من الغرابة بمكان ، ويلقب به كل عات ويقال فيه فرعون كزنبور ، وحكى ابن خالويه عن الفراء ضم فائه وفتح عينه وهي لغة نادرة ، ويقال فيه : فريع كزبير وعليه قول أمية بن الصلت :

حي داود بن عاد وموسى

وفريع بنيانه بالثقال

وقيل : هو فيه ضرورة شعر ومنع من الصرف لأنه أعجمي ، وحكى أبو الخطاب بن دحية في مروج البحرين عن أبي النصر القشيري في التيسير أنه بلغة القبط اسم للتمساح ، والقول بأنه لم ينصرف لأنه لا سميّ له كإبليس عند من أخذه من أبلس ليس بشيء ، وقيل : هو وأضرابه السابقة أعلام أشخاص وليست من علم الجنس لجمعها على فراعنة وقياصرة وأكاسرة ، وعلم الجنس لا يجمع فلا بد من القول بوضع خاص لكل من تطلق عليه. وتعقب بأنه ليس بشيء لأن الذي غره قول الرضي إن علم الجنس لا يجمع لأنه كالنكرة شامل للقليل والكثير لوضعه للماهية فلا حاجة لجمعه ، وقد صرح النحاة بخلافه وممن ذكر جمعه السهيلي في الروض الأنف فكأن مراد الرضي أنه لا يطرد جمعه وما ذكره تعسف نحن في غنى عنه (وَمَلَائِهِ) أي أشراف قومه وتخصيصهم بالذكر مع عموم بعثته عليه‌السلام لقومه كافة لأصالتهم في تدبير الأمور واتباع غيرهم لهم في الورود والصدور (فَظَلَمُوا بِها) أي بالآيات ، وأصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه وهو يتعدى بنفسه لا بالباء إلا أنه لما كان هو والكفر من واد واحد عدّي تعديته أو هو بمعنى الكفر مجازا أو تضمينا أو هو مضمن معنى التكذيب أي ظلموا كافرين بها أو مكذبين بها ، وقول بعضهم : إن المعنى كفروا بها مكان الإيمان الذي هو من حقها لوضوحها ظاهر في التضمين كأنه قيل كفروا بها واضعين الكفر في غير موضعه حيث كان اللائق بهم الإيمان.

وقيل : الباء للسببية ومفعول ظلموا محذوف أي ظلموا الناس بصدهم عن الإيمان أو أنفسهم كما قال الحسن. والجبائي بسببها ، والمراد به الاستمرار على الكفر بها إلى أن لقوا من العذاب ما لقوا.

(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) أي آخر أمرهم ، ووضع المفسدين موضع ضميرهم للايذان بأن الظلم مستلزم للافساد ، والفاء لأنه كما أن ظلمهم بالآيات مستتبع لتلك العاقبة الهائلة كذلك حكايته مستتبع للأمر بالنظر إليها ، والخطاب إما للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكل من يتأتى منه النظر ، و (كَيْفَ) كما قال أبو البقاء وغيره خبر كان قدم على اسمها لاقتضائه الصدارة ، والجملة في حيز النصب بإسقاط الخافض كما ، قيل : أي فانظر بعين عقلك إلى كيفية ما فعلنا بهم (وَقالَ مُوسى) كلام مبتدأ مسوق لتفصيل ما أجمل فيما قبله.

(يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ) أي إليكم كما يشعر به قد جئتكم أو إليك كما يشعر به فأرسل (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ)

١٨

أي سيدهم ومالك أمرهم (حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) جواب لتكذيبه عليه‌السلام المدلول عليه بقوله سبحانه : (فَظَلَمُوا بِها) ، وحقيق صفة رسول أو خبر بعد خبر.

وقيل : خبر مبتدأ محذوف أي أنا حقيق وهو بمعنى جدير و (عَلى) بمعنى الباء كما قال الفراء أو بمعنى حريص (١) و (عَلى) على ظاهرها ، قال أبو عبيدة : أو بمعنى واجب ، واستشكل بأن قول الحق هو الواجب على موسى عليه‌السلام لا العكس والكلام ظاهر فيه ، وأجيب بأن أصله «حقيق عليّ» بتشديد الياء كما في قراءة نافع. ومجاهد (أَنْ لا أَقُولَ) إلخ فقلب لأمن الالتباس كما في قول خراش بن زهير :

كذبتم وبيت الله حتى تعالجوا

قوادم حرب لا تلين ولا تمري

هي وطن آبائهم ، وكان عدو الله تعالى والقبط قد استبعدوهم بعد انقراض الأسباط يستعملونهم ويكلفونهم الأفاعيل الشاقة كالبناء وحمل الماء فأنقذهم الله تعالى بموسى عليه‌السلام ، وكان بين اليوم الذي دخل فيه يوسف عليه‌السلام مصر واليوم الذي دخل فيه موسى عليه‌السلام على ما روي عن وهب أربعمائة سنة ، واستعمال الإرسال بما أشير إليه على ما يظهر من كلام الراغب حقيقة ، وقيل : إنه استعارة من إرسال الطير من القفص تمثيلية أو تبعية ، ولا يخفى أنه ساقط عن وكر القبول ، والفاء لترتيب الإرسال أو الأمر به على ما قبله من رسالته عليه‌السلام ومجيئه بالبينة (قالَ) استئناف بياني كأنه قيل : فما قال فرعون؟ فقيل : قال :

(إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ) من عند من أرسلك كما تدعيه (فَأْتِ بِها) أي فأحضرها عندي ليثبت بها صدقك في دعواك ، فالمغايرة بين الشرط والجزاء مما لا غبار عليه ، ولعل الأمر غني عن التزام ذلك لحصوله بما لا أظنه يخفى عليك (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في دعواك فإن كونك من جملة المعروفين بالصدق يقتضي إظهار الآية لا محالة (فَأَلْقى عَصاهُ) وكانت كما روى ابن المنذر. وابن أبي حاتم من عوسج. وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنها كانت من لوز.

وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن قتادة أنه قال : ذكر لنا أنها عصا آدم عليه‌السلام أعطاها لموسى ملك حين توجه إلى مدين فكانت تضيء له بالليل ويضرب بها الأرض بالنهار فيخرج له رزقه ويهش بها على غنمه ، والمشهور أنها كانت من آس الجنة وكانت لآدم عليه‌السلام ثم وصلت إلى شعيب فأعطاه إياها ، وجاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن اسمها مأشا (فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ) أي حية ضخمة طويلة. وعن الفراء أن الثعبان هو الذكر العظيم من الحيات. وقال آخرون : إنه الحية مطلقا.

وفي مجمع البيان أنه مشتق من ثعب الماء إذا انفجر ، فكأنه سمي بذلك لأنه يجري كعنق الماء إذا انفجر (مُبِينٌ) أي ظاهر أمره لا يشك في كونه ثعبانا ؛ فهو إشارة إلى أن الصيرورة حقيقية لا تخييلية ، وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على كمال سرعة الانقلاب وثبات وصف الثعبانية فيها كأنها في الأصل كذلك ، وروي عن ابن عباس. والسدي أنه عليه‌السلام لما ألقاها صارت حية صفراء شعراء فاغرة فاها بين لحييها ثمانون ذراعا وارتفعت من الأرض بقدر ميل وقامت على ذنبها واضعة لحيها الأسفل في الأرض ولحيها الأعلى على سور القصر وتوجهت نحو فرعون لتأخذه فوثب عن سريره هاربا وأحدث ، وفي بعض الروايات أنه أحدث في ذلك اليوم أربعمائة مرة ، وفي أخرى أنه

__________________

(١) أي تضمينا ا ه منه

١٩

استمر معه داء البطن حتى غرق ، وقيل : إنها أخذت قبة فرعون بين أنيابها وأنها حملت على الناس فانهزموا مزدحمين فمات منهم خمسة وعشرون ألفا ، فصاح فرعون يا موسى أنشدك بالذي أرسلك أن تأخذها وأنا أؤمن بك وأرسل معك بني إسرائيل ، فأخذها فعادت عصا كما كانت ، وعن معمر أنها كانت في العظم كالمدينة ، وقيل : كان طولها ثمانين ذراعا ، وعن وهب بن منبه أن بين لحييها اثني عشر ذراعا ، وعلى جميع الروايات لا تعارض بين ما هنا وقوله سبحانه : (كَأَنَّها جَانٌّ) [النمل : ١٠ ، القصص : ٣١] بناء على أن الجان هي الحية الصغيرة لما قالوا : إن القصة غير واحدة ، أو أن المقصود من ذلك تشبيهها في خفة الحركة بالجان لا بيان جثتها ، أو لما قيل : إنها انقلبت جانا وصارت ثعبانا فحكيت الحالتان في آيتين ، وسيأتي إن شاء الله تعالى.

وتلحق خيل لا هوادة بينها

وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر

وضعف بأن القلب سواء كان قلب الألفاظ بالتقديم والتأخير كخرق الثوب المسمار أم قلب المعنى فقط كما هنا إنما يفصح إذا تضمن نكتة كما في البيت ، وهي فيه الإشارة إلى كثرة الطعن حتى شقيت الرماح بهم لتكسرها بسبب ذلك ، وقد أفصح عن هذا المتنبي بقوله :

والسيف يشقى كما تشقى الضلوع به

وللسيوف كما للناس آجال

وبأن بين الواجب ومن يجب عليه ملازمة فعبر عن لزومه للواجب بوجوبه على الواجب كما استفاض العكس ، وليس هو من الكناية الإيمائية كقول البحتري :

أو ما رأيت الجود ألقى رحله

في آل طلحة ثم لم يتحول

وقول ابن هانئ :

فما جازه جود ولا حل دونه

ولكن يسير الجود حيث يسير

بل هو تجوز فيه مبالغة حسنة ، وبان ذلك من الإغراق في الوصف بالصدق بأن يكون قد جعل قول الحق بمنزلة رجل يجب عليه شيء ثم جعل نفسه أي قابليته لقول الحق وقيامه به بمنزلة الواجب على قول الحق فيكون استعارة مكنية وتخييلية ، والمعنى أنا واجب على الحق أن يسعى في أن أكون قائله والناطق به فكيف يتصور مني الكذب ، واعترضه القطب الرازي وغيره بأنه إنما يتم لو كان هو حقيقا على قول الحق وليس كذلك بل على قوله الحق ، وجعل قوله الحق بحيث يجب عليه أن يسعى في أن يكون قائله لا معنى له.

وأجيب بأن مبنى ذلك على أن المصدر المؤول لا بد من إضافته إلى ما كان مرفوعا به وليس بمسلم فإنه قد يقطع النظر عن ذلك.

وقد صرح بعض النحاة بأنه قد يكون نكرة نحو (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى) [يونس : ٣٧] أي افتراء ، وهاهنا قد قطع النظر فيه عن الفاعل إذ المعنى حقيق على قول الحق وهو محصل مجموع الكلام فلا إشكال ، وذكر ابن مقسم في توجيه الآية على قراءة الجمهور وادعى أنه الأولى أن (عَلى أَنْ لا أَقُولَ) متعلق برسول إن قلنا بجواز إعمال الصفة إذا وصفت وإن لم نقل به وهو المشهور فهو متعلق بفعل يدل عليه أي أرسلت على أن لا أقول إلخ ، والأولى عندي كون على بمعنى الباء ، ويؤيده قراءة أبي بأن لا أقول.

وقرأ عبد الله «أن لا أقول» بتقدير الجار وهو على أو الباء ، وقد تقدم يقدر على بياء مشددة ، وقوله سبحانه : (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) استئناف مقرر لما قبله ، ولم يكن هذا وما بعده من جواب فرعون إثر ما ذكر هاهنا بل بعد ما جرى بينهما من المحاورات التي قصها الله تعالى في غير ما موضع ، وقد طوى ذكرها هنا للايجاز و (مِنْ) متعلقة

٢٠