تفسير الصّافي - ج ٢

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]

تفسير الصّافي - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: منشورات مكتبة الصدر
المطبعة: خورشيد
الطبعة: ٣
ISBN الدورة:
964-6847-51-X

الصفحات: ٤٧٩

وفي العُيون عن الرضا عليه السلام : سمّيت مكّة مكّة (١) لأن الناس يمكون فيها وكان يقال لمن قصدها قد مكا (٢) وذلك قول الله تعالى وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً.

فالمكاء الصفير والتصديقة وتصفيق اليدين قيل كانوا يطوفون بالبيت عراء يشبّكون بين أصابعهم ويصفّرون فيها ويصفقون وكانوا يفعلون ذلك إذا قرأ رسول الله صلىَّ الله عليه وآله وسلم في صلوته يخلطون عليه.

وفي المجمع روي : أنّ النّبيّ صلىَّ الله عليه وآله وسلم كان إذا صلىَّ في المسجد الحرام قام رجلان من بني عبد الدّار عن يمينه فيصفّران ورجلان عن يساره فيصفِقان بأيديهما فيخلطان عليه صلوته فقتلهم الله جميعاً ببدر فَذُوقُوا الْعَذابَ يعني القتل والأسر يوم بدر أو عذاب النار في الآخرة بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ بسبَب كفركم.

القمّيّ هذه الْآيَةَ معطوفة على قوله وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا كما نقلنا عنه هناك.

(٣٦) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ.

القمّيّ نزلت في قريش لمّا وافاهم ضمضم وأخبرهم بخبر رسول الله صلىَّ الله عليه وآله وسلم في طلب العير فأخرجوا أموالهم وحملوا وأنفقوا وخرجوا إلى محاربة رسول الله صلىَّ الله عليه وآله وسلم ببدر فقتلوا وصاروا إلى النار وكان ما أنفقوا حسرةً عليهم.

أقول : قد مضت تسمية بعض المنافقين في قصة بدر.

وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ يساقون.

(٣٧) لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ الكافر من المؤمن والصالح من الفاسد

__________________

(١) الملك النّقض والهلاك ومنه سمّي البلد الحرام مكّة لأنّها تنقض الذنوب وتنقيها أو تملك من قصدها بالظّلم أي تهلكه كما وقع لأصحاب الفيل أو لقلّة الماء بها.

(٢) مكا يمكو إذا صفر ويقال المكاء صفير كصغير المكّاء بالتشديد والمد وهو طائر بالحجاز له صفير.

٣٠١

وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فيجمَعَه ويضمّ بعضه إلى بعض فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ كلّه أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ الكاملونَ في الخسران.

في العلل عن الباقر عليه السلام في حديث : إنّ الله سبحانه مزج طينة المؤمن حين أراد خلقه بطينة الكافر فما يفعل المؤمن من سيّئة فانّما هو من أجل ذلك المزاج وكذلك مزج طينة الكافر حين أراد خلقه بطينة المؤمن فما يفعل الكافر من حَسَنة فانّما هو من أجل ذلك المزاج أو لفظ هذا معناه قال فإذا كان يوم القيامة ينزع الله من العدوّ الناصب سنخ المؤمن ومزاجه وطينته وجوهره وعنصره مع جميع أعماله الصالحة ويردّه إلى المؤمن وينزع الله تعالى من المؤمن سنخ الناصب ومزاجه وطينته وجوهره وعنصره مع جميع أعماله السيئة الردّية ويردّه إلى الناصب عدلاً منه جلّ جلاله وتقدّسَت أسماؤه ويقول للنّاصب لا ظلم عليك هذه الأعمال الخبيثة من طينتِك ومزاجك وأنت أولى بها وهذه الأعمال الصالحة من طينة المؤمن ومزاجه وهو أولى بها لا ظلم اليوم إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ* ثم قال أزيدك في هذا المعنى من القرآن أليس الله عزّ وجلّ يقول الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وقال عزّ وجلّ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وقد أردنا تمام هذا الحديث على وجهه وشرحناه في كتابَنا المسمى بالوافي من أراده فليطلبه هناك.

(٣٨) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا عن الكفر ومعاداة الرسول يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ من ذنوبهم وَإِنْ يَعُودُوا الى قتاله فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ الذين تحزّبُوا على الأنبياءِ بالتدمير كما جرى على أهل بدر فليتوقّعوا مثل ذلك.

والعيّاشيّ عن الباقر عليه السلام : أنّه قال له رجل إنّي كنت عاملاً لبني أميّة فأصبت مالاً كثيراً فظننت أنّ ذلك لا يحلّ لي فسألت عن ذلك فقيل لي إنّ أهلك ومالك وكل شيء لك حرام فقال ليس كما قالوا لك قال فلي توبة قال نعم توبتك في

٣٠٢

كتاب الله قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ.

(٣٩) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ لا يوجد فيهم شرك.

القمّيّ أي كفر قال وهي ناسخة لقوله كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ ولقوله وَدَعْ أَذاهُمْ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ويضمحل عنهم الأديان الباطلة.

في الكافي عن الباقر عليه السلام : لم يجيء تأويل هذه الآية بعد إن رسول الله صلىَّ الله عليه وآله وسلم رخّص لهم لحاجته وحاجة أصحابه فلو قد جاء تأويلها لم يقبل منهم ولكنهم يقتلون حتّى يوحد الله وحتّى لا يكون شرك.

وفي المجمع والعيّاشيّ عن الصادق عليه السلام : لم يجئ تأويل هذه الآية ولو قد قام قائمنا بعد سَيَرى من يدركه ما يكون من تأويل هذه الآية وليبلغنّ دين محمّد صلىَّ الله عليه وآله وسلم ما بلغ الليل حتّى لا يكون مشرك على ظهر الأرض كما قال الله تعالى يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً فَإِنِ انْتَهَوْا عن الكفر فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازيهم على انتهائهم عنه وإسلامهم.

(٤٠) وَإِنْ تَوَلَّوْا ولم ينتهُوا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ ناصركم فثقوا به ولا تبالوا بمعاداتهم نِعْمَ الْمَوْلى لا يضيع من تولّاه وَنِعْمَ النَّصِيرُ لا يغلب من نصره.

(٤١) وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ قيل أي الذي أخذتموه من الكفّار قهراً.

وفي الكافي عن الصادق عليه السلام : هي والله الإِفادة يوماً بيوم.

أقول : يعني استفادة المال من أية جهة كانت فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ.

في الكافي عن الباقر عليه السلام : إنّ ذا القربى هم قرابة رسول الله صليَّ الله عليه وآله وسلم والخمس للرسُول ولنا.

والعيّاشيّ عن أحدهما عليهما السلام مثله وزاد : انّه سئل منهم الْيَتامى

٣٠٣

وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ قال نعم.

وفي الكافي والتهذيب عن أمير المؤمنين عليه السلام : نحن والله عنى بذي القربى الّذينَ قرنهم الله بنفسه وبرسوله فقال ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ منا خاصّة قال ولم يجعل لنا في سهم الصدقة نصيباً أكرم الله نبيّه وأكرمنا أن يطعمنا أوساخ ما في أيدي الناس.

وفي الكافي عن الرضا عليه السلام : أنّه سئل عن هذه الآية فقيل له فما كان لله فلمن هو فقال لرسول الله صلىَّ الله عليه وآله وسلم وما كان لرسول الله صلىَّ الله عليه وآله وسلم فهو للإِمام فقيل له أرأيت ان كان صنف من الأصناف أكثر وصنف أقل ما يصنع به قال ذاك إلى الإِمام أرأيت رسول الله صلىَّ الله عليه وآله وسلم كيف يصنع ألى انّما كان يعطي على ما يرى كذلك الإِمام.

وفي الفقيه والتهذيب والعيّاشيّ عن الصادق عليه السلام : أما خمس الله فللرسول يضعه في سبيل الله وأمّا خمس الرسول فلأَقاربه وخمس ذوي القربى فهم أقرباؤه واليتامى يتامى أهل بيته فجعل هذه الأربعة الأسهم فيهم وأمّا المساكين وابن السبيل فقد عرفت انا لا نأكل الصدقة ولا تحلّ لنا فهي للمساكين وأبناءِ السبيل.

وفي التهذيب عن أحدهما عليهما السلام : خمس الله للإمام وخمس الرّسُول للإِمام وخمس ذي القربى لقرابة الرّسول والإِمام واليتامى يتامى الرسول والمساكين منهم فلا يخرج منهم الى غيرهم.

والقمّيّ فهم أيتام آل محمّد صلوات الله عليهم خاصّة ومساكينهم وأبناءُ سبيلهم فمن الغنيمة يخرج الخمس ويقسّم على ستة أسهم سهم لله وسهم لرسول الله وسهم للإِمام فسهم الله وسهم الرّسُول يرثه الإِمام فيكون للإِمام ثلاثة أسهم من ستّة والثلاثة الأسهم لأيتام آل الرّسُول صلوات الله عليهم ومساكينهم وأبناءِ سبيلهم وانما صارت للإِمام وحده من الخمس ثلاثة أسهم لأنّ الله تعالى قد ألزمه بما الزم النبيّ صلىَّ الله عليه وآله وسلم من تربية الأيتام ومؤن المسلمين وَقضاء ديونهم وحملهم في الحجّ والجهاد وذلك قول رسول الله صلىَّ الله عليه وآله وسلم لما أنزل عليه النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ

٣٠٤

مِنْ أَنْفُسِهِمْ وهو أبٌ لهم فلما جعله الله أباً للمؤمنين لزمهم ما يلزم الوالد للولد فقال عند ذلك : من ترك مالاً فلورثته ومن ترك ديناً أو ضياعاً فعليّ وإليّ فلزم الإِمام ما لزم الرسول صلىَّ الله عليه وآله وسلم فلذلك صار له من الخمس ثلاثة أسهم إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ متعلق بمحذوف يعني إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فاعلموا أنّ الخمس من الغنيمة يجب التقرّب به فاقطعوا عنه أطماعكم واقتنعوا بالأخماس الأربعة وَما أَنْزَلْنا وبما أنزلنا عَلى عَبْدِنا محمّد صلىَّ الله عليه وآله وسلم من الآيات والملائكة والنصر يَوْمَ الْفُرْقانِ يوم بدر فانه فرق فيه بين الحق والباطل يَوْمَ الْتَقَى (١) الْجَمْعانِ المسلمون والكفّار.

وفي الخصال في حديث الأغسال عن الباقر عليه السلام : ليلة الْتَقَى الْجَمْعانِ ليلة بدر وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيقدر على نصر القليل على الكثير والإِمداد بالملائكة.

(٤٢) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا من المدينة بدل من يَوْمَ الْفُرْقانِ والعدوة مثلثة شطّ الوادي وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى البعدى من المدينة تأنيث الأقصى.

القمّيّ يعني قريشاً حيث نزلوا بالعدوة اليمانية ورسول الله صلىَّ الله عليه وآله وسلم نزل بالعدوة الشامية وقرئ العِدوة بكسر العين وَالرَّكْبُ.

القمّيّ يعني العير التي أفلتت.

والعيّاشيّ عن الصادق عليه السلام : يعني أبا سفيان وأصحابه.

أقول : والتفسيران متّحدان فان أبا سفيان كان مع العير أَسْفَلَ مِنْكُمْ في مكان أسفل من مكانكم يقودون العير بالساحل والفائدة في ذكر هذا المواطن الإخبار من الحالة الدالة على قوة المشركين وضعف المسلمين وأنّ غلبتهم على مثل هذه الحالة أمر الهيّ لا يتيسّر الا بحوله وقوّته وذلك أنّ العدوة القصوى كان فيها الماء ولا ماءَ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وكانت رخوة تسوخ فيها الأرجل وكانت الغير وراء ظهورهم مع كثرة

__________________

(١) العيّاشي عن الباقر عليه السلام : في تسعة عشر من شهر رمضان يلتقي الجمعان قيل ما معنى يلتقي الجمعان قال يجمع فيها ما يريد من تقديمه وتأخيره على إرادته وقضائه «منه رحمه الله».

٣٠٥

عددهم فكانت الحماية دونها تضاعف حميّتهم وتحملهم على أن لا يبرحوا مواطنهم ويبذلوا نهاية نجدتهم وفيه تصوير ما دبر الله من أمر وقعة بدر وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ أي لو تواعدتم أنتم وهُم على موعدة للقتال ثمّ علمتم حالكم وحالهم لخالف بعضكم بعضاً ثبّطكم قلتكم عن الوفاءِ بالموعد وثبّطهُمْ ما في قلوبهم من الرعب فلم يتّفِق لكم من الوفاءِ ما وفقه الله وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً كان واجباً ان يفعل من إعزاز دينه واعلاءِ كلمته ونصر أوليائه وقهر أعدائه لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ عيانها وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ شاهدها.

القمّيّ قال يعلم من بقي أنّ الله نَصَرَهُ وقيل ليصدر كفر من كفر وايمان من آمن عن وضوح بيّنة وقيام حجّة وقرئ حَيِيَ بفكّ الإِدغام وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ يعلم كيف يدبّر أموركم.

(٤٣) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً لتخبر به أصحابكَ فيكون تثبيتاً لهم وتشجيعاً على عدوهم وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ لجبنتم وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ أمر القتال وتفرقت آراؤكم بين الثبات والفرار وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ أنعم بالسلامَةِ من الفشل والتنازع إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ يعلم ما سَيَكون فيها وما يغيّر أحوالها من الجرأة والجبن.

القمّيّ فالمخاطبة لرسول الله صلىَّ الله عليه وآله وسلم والمعنى لأصحابه أراهم الله قريشاً في منامهم أنّهم قليل وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لفزعوا.

في الكافي عن الباقر عليه السلام : كان إبليس يوم بدر يقلّل المسلمين في أعين الكفّار ويكثر الكفّار في أعين الناس فشدّ عليه جبرئيل بالسيف فهرب منه وهو يقول يا جبرئيل إنّي مؤجّل حتّى وقع في البحر قيل لأيّ شيء يخاف وهو مؤجّل قال يقطع بعض أطرافه.

(٤٤) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً تصديقاً لرؤيا رسول الله صلىَّ الله عليه وآله وسلم وتثبيتاً لكم في الجوامع عن ابن مسعود لقد قللّوا في أعيننا حتّى قلت لرجل إلى جنبي أتراهم سبعين قال أراهم مائة فأسرنا رجلاً منهم فقلنا كم كنتم قال

٣٠٦

ألفاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ حتى قال قائل منهم إنّما هم أكلة جزور وقال أبو جهل ما هم إلّا أكلة رأس لو بعثنا عليهم عبيدنا لأخذوهم أخذاً باليد كما مرّ ذكره في القصة وانّما قللهم في أعينهم ليجترءوا عليهم قبل اللقاءِ ثمّ كثرهم فيها بعد اللقاءِ ليفجأهم الكثرة فَيَهابُوا وتقلّ شوكتهم حين يرون ما لم يكن في حسبانهم وهذا من عظائم آيات تلك الوقعة وعجائب قدرة الله فيها فانّ البصر وإن كان قد يرى الكثير قليلاً والقليل كثيراً لكن لا على هذا الوجه ولا إلى هذا الحدّ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ.

(٤٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً إذا حاربتم جماعة كافرة أو باغية واللقاء ممّا غلب في القتال فَاثْبُتُوا لقتالهم ولا تفرقوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً في مواطن الحرب داعين له مستظهرين بذكره مترقّبين لنصره لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ تظفرون بمرادكم من النصرة والمثوبة قيل فيه تنبيه على أن العبد ينبغي أن لا يشغله شيء عن ذكر الله تعالى وأن يلتجئ إليه عند الشدائد ويقبل عليه بشراشرة (١) فارغ البال واثقاً بأن لطفه لا ينفك عنه في شيء من الأحوال.

(٤٦) وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا باختلاف الآراءِ كما فعلتم ببدر وأُحد فَتَفْشَلُوا فتضعفوا عن قتال عدوكم وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ دولتكم شبهت الدولة بالريح في نفوذ أمرها وهبوبها يقال هبّت ريح فلان إذا نفذ أمره وقيل لم يكن قط نصر إلّا بريح يبعثها الله.

وفي الحديث النبوي صلىَّ الله عليه وآله وسلم : نُصِرْت بالصَّبا وأهلكت عاد بالدّبور وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ بالكلاءة والنصر.

(٤٧) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ يعني أهل مكّة حين خرجوا منها لحماية العير بَطَراً فخراً وأشراً وَرِئاءَ النَّاسِ ليثنوا عليهم بالشجاعة والسماحة وذلك أنهم لمّا بلغوا جحفة (٢) وأتاهم رسول أبي سفيان أن ارجعوا فقد سلمت عيركم فأبى ابو

__________________

(١) الشراشر الأثقال الواحد شرشره يقال القى عليه شراشره أي نفسه حرصاً ومحبّة.

(٢) وجحفة موضع بين مكّة والمدينة وهي ميقات أهل الشام وكان اسمها مهيعة فأجحف السّيل بأهلها فسمّيت جحفة.

٣٠٧

جهل وقال حتّى نقدم بدراً نشرب بها الخمور وتعزف (١) علينا القيان ونطعم بها من حضرنا من العرب فذلك بطرهم ورئاؤهم فوافوها فسقوا كأس الحمام (٢) مكان الخمر وناحت عليهم النوائح مكان القيان فنهى الله المؤمنين أن يكونوا أمثالهم بطرين مرائين وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ.

(٤٨) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ في معاداة الرسول وغيرها بأن وسوس إليهم وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ مجيركم فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ تلاقى الفريقان نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ رجع القهقرى وبطل كيده وعاد ما خيل إليهم أنه مجيرهم سبب هلاكهم وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ يعني جنود الملائكة إِنِّي أَخافُ اللهَ أن يصيبني مكروهاً وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ قد مضى لهذه الآية بيان في سورة آل عمران في قصة بدر.

وفي المجمع عن الباقر وعن الصادق عليهما السلام : أنهم لما التقوا كان إبليس في صفّ المشركين آخذاً بيد الحارث بن هشام ف نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ فقال له الحارث يا سراقة أتخذلنا على هذه الحال فقال إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ فقال والله ما ترى إلّا جواسيس يثرب فدفع في صدر الحرث وانطلق وانهزم الناس فلما قدموا مكّة قال الناس هزم سراقة فبلغ سراقة فقال والله ما شعرت بمسيركم حتّى بلغني هزيمتكم فقالوا إنّك آتيتنا يوم كذا فحلَفَ لهم فلمّا أسلموا علموا أنّ ذلك كان الشيطان.

العيّاشيّ عن السجّاد عليه السلام : لما عطش القوم يوم بدر انطلق عليّ عليه السلام بالقربة يستقي وهو على القليب إذ جاءت ريح شديدة ثمّ مضت فلبث ما بدا له ثمّ جاءت ريح أخرى ثمّ مضت ثمّ جاءت أخرى كاد أن تشغله وهو على القليب (٣) ثم جلس حتّى مضى فلما رجع إلى رسول الله صلىَّ الله عليه وآله وسلم أخبره بذلك فقال

__________________

(١) المعازف : الملاهي والعازف اللاعب بها والمغنّي وقد عزف عزفاً.

(٢) الحمام بالكسر والتخفيف الموت.

(٣) القليب البئر قبل أن تطوى يذكّر ويؤنّث.

٣٠٨

رسول الله صلىَّ الله عليه وآله وسلم أمّا الريح الأولى ففيها جبرئيل مع ألف من الملائكة والثانية فيها ميكائيل مع ألف من الملائكة والثالثة فيها إسرافيل مع ألف من الملائكة وقد سلّموا عليك وهم مدد لنا وهم الذين رآهم إبليس ف نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ يمشي القهقرى حين يقول إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ الآية.

(٤٩) إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ الشاكون في الإسلام غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ يعنون المسلمين أي اغتّروا بدينهم حتّى تعرضوا مع قلّتهم لقتال جمّ غفير وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ جواب لهم فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غالب ينصر الضعيف على القوي والقليل على الكثير حَكِيمٌ يفعل بحكمته البالغة ما يستبعده العقل ويعجز عن إدراكه وقد مضى لهذه الآية وما بعدها بيان في قصة بدر.

(٥٠) وَلَوْ تَرى ولو رأيت وشاهدت فانّ لو تجعل المضارع ماضياً عكس إنّ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ ببدر وقد قرئ تتوفّى بالتاءِ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ ما أقبل منهم وَأَدْبارَهُمْ وما أدبر.

العيّاشيّ مرفوعاً : انّما أرادَ وَاسْتَاهَهُم انّ الله كريم يكنّي وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ ويقولونَ ذوقوا عذاب الآخرة وقيل كانت معهم مقامع من حديد كلّما ضربوا التهبت النار منها.

وفي المجمع عن النبيّ صلىَّ الله عليه وآله وسلم : أنّ رجلاً قال له إنّي حملت على رجل من المشركين فذهبت لأضربه فبدر رأسه فقال سَبَقك إليه الملائكة.

(٥١) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ بسبب ما كسبت أيديكم من الكفر والمعاصي وَأَنَّ اللهَ (١) لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ بأنّ الله يعذب الكفّار بالعدل لأنّه لا يظلم عباده في عقوبتهم وظلّام للمتكثّر لأجل العبيد.

(٥٢) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ أي دأب هؤلاء مثل دأب آل فرعون ودأبهم وعادتهم

__________________

(١) وفي هذا دلالة واضحة على بطلان مذهب المجبّرة في أنّه يخلق الكفر ثمّ يعذّب عليه وأنّه يجوز أن يعذّب من غير ذنب وأن يأخذ بذنب غيره لأنّ هذا غاية الظّلم وقد بالغ عزّ اسمه في نفي الظّلم عن نفسه بقوله لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ.

٣٠٩

وعملهم الذي دأبوا فيه أي داوموا عليه وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من قبل آل فرعون كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ تفسير لدأبهم فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ كما أخذ هؤلاءِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ لا يغلبه في دفعه شيء.

(٥٣) ذلِكَ إشارة إلى ما حلّ بهِم بِأَنَّ اللهَ بسبب أنّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً لا يصح في حكمته أن يغيّر نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ مبدّلاً إيّاها بالنّقمةِ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ يبدّلوا ما بهم من الحال إلى حال أسوء كتغيير قريش حالهم في صلة الرّحم والكفّ عن تعرّض الآيات والرسل بمعاداة الرّسول ومن تبعه منهم والسّعي في اراقة دمائهم والتكذيب بالآيات والاستهزاءِ بها إلى غير ذلك ممّا أحدثوه بعد البعث وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ لما يقولون عَلِيمٌ بما يفعلون.

في الكافي عن الصادق عليه السلام : إنّ الله بعث نبيّاً من أنبيائه إلى قومه وأوحى إليه أن قل لقومك أنّه ليس من أهل قرية ولا ناس كانوا على طاعتي فأصابهم فيها سرّاء فتحوّلوا عمّا أحبّ إلى ما أكره الّا تحوّلت لهم عمّا يحبّون إلى ما يكرهون وليس من أهل قرية ولا أهل بيت كانوا على معصيتي فأصابهم فيها ضرّاء فتحوّلوا عمّا أكره إلى ما أحبّ إلّا تحوّلت لهم عمّا يكرهون إلى ما يحبون الحديث.

وعنه عليه السلام : أنّه يقول كان أبي يقول إنّ الله قضى قضاءً حتماً لا ينعم على العبد بنعمة فيسلبها إيّاه حتّى يحدث العبد ذنباً يستحق بذلك النّقمة.

(٥٤) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ تكرير للتّأكيد وفي قوله بِآياتِ رَبِّهِمْ زيادة دلالة على كفران النّعم وفي ذكر الإغراق بيان للأخذ بالذّنوب وَكُلٌ من غرقى آل فرعون وقتلى قريش كانُوا ظالِمِينَ أنفسهم بكفرهم ومعاصيهم.

(٥٥) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا أصرّوا على الكفر ورسخوا فيه فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ فلا يتوقع منهم إيمان.

القمّيّ والعيّاشيّ عن الباقر عليه السلام : نزلت في بني أميّة فهم أشرّ خلق الله

٣١٠

هم الذين كفروا في بطن القرآن.

(٥٦) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ قيل هم يهود بني قريظة عاهدهم رسول الله صلىَّ الله عليه وآله وسلم على أن لا يمالئوا عليه عدوّاً فنكثوا بأن أعانوا مشركي مكّة بالسلاحِ وقالوا نسينا ثمّ عاهدهم فنكثوا ومالئوا عليه الأحزاب يوم الخندق.

والقمّيّ هم أصحابه الذين فرّوا يوم أُحد وَهُمْ لا يَتَّقُونَ لا يخافون عاقبة الغدر ولا يبالون ما فيه من العار والنار.

(٥٧) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ تصادفنهم وتظفر بهم فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ ففرق عن محاربتك ونكّل عنها بقتلِهم والنكاية فيهم مَنْ خَلْفَهُمْ من ورائهم من الكفرة والتشريد تفريق على اضطراب لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ يتعظُونَ.

(٥٨) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ معاهدين خِيانَةً نقض عهد بأمارات تلوح لك فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ فاطرح إليهم عهدهم عَلى سَواءٍ عَلى طريق مقتصد مستوٍ في العداوة وذلك بأن تخبرهم بنقضِ العهد إخباراً ظاهراً مكشوفاً يتبين لهم أنّك قطعت ما بينك وبينهم ولا تبدأهم بالقتال وهم على توهّم العهد فيكون ذلك خيانة إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ فلا تخنهم بأن تناجزهم القتال من غير اعلامهم بالنّبذ.

القمّيّ نزلت في معاوية (لع) لمّا خان أمير المؤمنين عليه السلام.

وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وقرئ بالياءِ سَبَقُوا فاتوا من أن يظفر بهم إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ لا يفوتون ولا يجدون طالبهم عاجزاً من ادراكهم وقرئ بالفتح بمعنى لأنّهم

وَأَعِدُّوا أيّها المؤمنون لَهُمْ للكفار مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ من كل ما يتقوّى به في الحرب.

في الكافي والعيّاشيّ مرفوعاً والعامّة عن النّبي صلىَّ الله عليه وآله وسلم : انّ القوّة الرمّي.

٣١١

والعيّاشيّ عن الصادق عليه السلام : سيف وترس.

والقمّيّ قال السّلاح.

وفي الفقيه عنه عليه السلام : منه الخضاب بالسّواد وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ والرّباط اسم للخيل والتي تربط في سبيل الله تُرْهِبُونَ بِهِ تخوّفون به وقرئ بالتشديد عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ كفّار مكّة وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ من غيرهم من الكفرة لا تَعْلَمُونَهُمُ لا تعرفونهم بأعيانهم لأنّهم يصلّون ويصومون اللهُ يَعْلَمُهُمْ يعرفهم لأنّه المطّلع على الأسرار وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ جزاؤه وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ بتضييع العمل أو نقص الثواب.

(٦١) وَإِنْ جَنَحُوا مالوا لِلسَّلْمِ للصلح والاستسلام وقرئ بالكسر فَاجْنَحْ لَها وعاهد معهم وتأنيث الضمير لحملها على نقيضها الذي هي الحرب وقد مضى للآية بيان في قصة بدر.

والقمّيّ قال هي منسوخة بقوله فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ ونزلت هذه الآية وَإِنْ جَنَحُوا قبل نزول يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ وقبل الحرب وقد كتبت في آخر السورة بعد انقضاء أخبار بدر.

وفي الكافي والعيّاشيّ عن الصادق عليه السلام : أنّه سئل مَا السلام قال الدخول في أمرنا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ولا تخف من خديعتهم ومكرهم فانّ الله عاصمك وكافيك منهم إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لأقوالهم الْعَلِيمُ بنيّاتهم.

(٦٢) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ في الصلح بأن يقصدوا به دفع أصحابك عن القتال حتّى يقوي أمرهم فيبدوكم به من غير استعداد منكم فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ محسبك الله.

القمّيّ عن الباقر عليه السلام : هؤلاءِ قوم كانوا معه من قريش هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ قوّاك بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ.

(٦٣) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ حتى صاروا متحابّين متوادّين بعد ما كان بينهم من

٣١٢

التضاغن والتحارب.

في المجمع والقمّيّ عن الباقر عليه السلام : هم الأنصار وهم الأوس والخزرج.

وزاد القمّيّ : كان بين الأوس والخزرج حربٌ شديد وعداوة في الجاهلية وَأَلَّفَ الله بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ونصر بهم نبيّه لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ يعني تناهى عداوتهم إلى حدّ لو أنفق منفق في إصلاح ذات بينهم ما في الأرض من الأموال لم يقدر على الألفة والإصلاح وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ بالإسلام بقدرته البالغة فانّه مالك القلوب يقلّبها كيفَ يَشاء إِنَّهُ عَزِيزٌ تامّ القدرة والغَلَبة لا يعصى عليه ما يريده حَكِيمٌ يعلم أنّه كيف ينبغي أن يفعل ما يريد.

(٦٤) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ كافيك وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قيل نزلت بالبيداءِ في غزوة بدر قبل القتال.

(٦٥) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ بالغ في حثّهم على القتال إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا هذه عِدَة من الله بأنّ الجماعة من المؤمنين أن صبروا وغلبوا عشرة أمثالهم من الكفّار بتأييد الله وقرء تكن بالتاءِ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ بسبب أنّ الكفّار جهلة بالله واليوم الآخِر يقاتلون على غير احتساب الثواب ولا يثبتون ثبات المؤمنين الرّاجين لعوالي الدّرجات.

(٦٦) الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً وقرئ بفتح الضّاد فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ وقرئ تكن بالتّاءِ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ هذه الآية ناسخة لما قبلها.

في الكافي عن الصادق عليه السلام في حديث طويل ذكر فيه هذه الآية : فقال نسخ الرّجلان العشرة.

والعيّاشيّ عن أمير المؤمنين عليه السلام : من فرّ من رجلين في القتال من الزّحف فقد فرّ من الزّحف ومن فرّ من ثلاثة رجال في القتال من الزّحف فلم يفرّ.

٣١٣

والقمّيّ ما يقرب من معنى الحديثين قيل كان فيهم قلّة أوّلاً فأمروا بذلك ثمّ لمّا كثروا خَفَّفَ اللهُ عنهم وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ بالنصر والمعونة فلا محالة يغلبون.

(٦٧) ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ يكثر القتل ويبالغ فيه حتّى يذل الكفر ويقلّ حزبه ويعزّ الإسلام ويستولي أهله من أثخنه المرض إذا أثقله تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا حطامها بأخذ الفداء وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ يريد لكم ثواب الآخرة وَاللهُ عَزِيزٌ يغلب أولياءه على أعدائه حَكِيمٌ يعلم ما يليق بكل حال ويخصّه بها قيل كان هذا يوم بدر فلمّا كثر المسلمون نزل فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً وقد مضى لهذه الآية وما بعدها بيان في قصة بدر.

(٦٨) لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ أي حكم منه سبق إثباته في اللّوح باباحة الغنائم لَكُمْ لَمَسَّكُمْ لنالكم فِيما أَخَذْتُمْ فيما استحللتم قبل الإباحة من الفداءِ عَذابٌ عَظِيمٌ.

(٦٩) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ من الفدية حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ في مخالفته إِنَّ اللهَ غَفُورٌ غفر لكم ذنبكم رَحِيمٌ أباح لكم ما أخذتم.

(٧٠) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى وقرئ الأسارى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً خلوص عقيدة وصحّة نيّة في الإيمان يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ من الفداءِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قد مضى لهذه الآية بيان في قصة بدر.

وفي الكافي والعيّاشيّ عن الصادق عليه السلام : أنّها نزلت في العباس وعقيل ونوفل.

وقال إنّ رسول الله صلىَّ الله عليه وآله وسلم نهى يوم بدر أن يقتل أحد من بني هاشم وأبو البختري فأسروا فأرسل عليّاً عليه السلام فقال انظر من هاهنا من بني هاشم قال فمرّ عليّ عليه السلام على عقيل بن أبي طالب فحاد عنه حار خ ل عنه فقال له عقيل يا ابن أمّ عليّ أما والله لقد رأيت مكاني قال فرجع إلى رسول الله صلىَّ الله عليه وآله وسلم وقال هذا أبو الفضل في يد فلان وهذا عقيل في يد فلان وهذا نوفل

٣١٤

ابن الحرث في يد فلان فقام رسول الله صلىَّ الله عليه وآله وسلم حتّى انتهى إلى عقيل فقال له يا أبا يزيد قتل أبو جهل فقال إذاً لا تنازعون في تهامة فقال إن كنتم أثخنتم القوم والا فاركبوا أكتافهم قال فجيءَ بالعباس فقيل له افد نفسك وافد ابني أخيك فقال يا محمّد تتركني أسأل قريشاً في كفّي قال أعط ما خلّفت عند أمّ الفضل وقلت لها ان أصابني في وجهي هذا شيء فأنفقيه على ولدك ونفسك فقال له يا ابن أخي من أخبرك بهذا فقال أتانى به جبرئيل من عند الله فقال ومحلوفه ما علم بهذا أحد إلّا أنا وهي أشهد أنّك لرسول الله قال فرجع الأسرى كلّهم مشركين إلّا العباس وعقيل ونوفل وفيهم نزلت هذه الآية قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى الآية.

في قرب الإسناد عن السجّاد قال : أتى النّبيّ صلىَّ الله عليه وآله وسلم بمأتي درهم فقال يا عبّاس ابسط رداءك وخذ من هذا المال طرفاً فبسط رداءه فأخذ منه طائفة ثمّ قال رسول الله صلىَّ الله عليه وآله وسلم : هذا من الذي قال الله إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ الآية.

والعيّاشيّ عن الصادق عليه السلام : مثله.

(٧١) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ نقض ما عاهدوك فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ

القمّيّ وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ في عليّ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فيك كما مضى في قصة بدر فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ فأمكنك منهم يوم بدر فان أعادوا الخيانة فسيمكن منهم وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.

(٧٢) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا فارقوا أوطانهم وقومهم حبّاً لله ولرسوله وهم المهاجرون من مكّة إلى المدينة وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ فصرفوها وَأَنْفُسِهِمْ فبذلوها فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا والذين أووهم إلى ديارهم ونصروهم على أعدائهم وهم الأنصار أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أي يتولىّ بعضهم بعضاً في الميراث.

القمّيّ : لمّا هاجر رسول الله صلىَّ الله عليه وآله وسلم إلى المدينة آخى بين المهاجرين والمهاجرين وبين الأنصار والأنصار وبين المهاجرين والأنصار وكان إذا مات

٣١٥

الرّجل يرثه أخوه في الدين ويأخذ المال وكان له ما ترك دون ورثته فلمّا كان بعد بدر أنزل الله النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ الآية فنسخت آية الأخوة بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ.

وفي المجمع عن الباقر عليه السلام : أنّهم كانوا يتوارثون بالمؤاخاة الأولى دون التّقارب حتّى نسخ ذلك بقوله وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا أي من تولّيهم في الميراث وقرئ ولايتهم بالكسر تشبيهاً لها بالعَمَل بالصناعة كالكتابة والأمارة كأنّه بتولية صاحبه يزاول عملاً.

العيّاشيّ عنهما عَليهما السلام : أنّ أهل مكّة لا يولّون أهل المدينة وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ قيل معناه وان طلب المؤمنون الذين لم يهاجروا منكم النصرة لهم على الكفّار فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فلا يجوز لكم نصركم عليهم وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.

(٧٣) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ نهي المسلمُون عن موالاة الكفّار ومعاونتهم وان كانوا أقارب وأوجب أن يتركوا يتولى بعضهم بعضاً إِلَّا تَفْعَلُوهُ لا تفعلوا ما أمرتهم به من التّواصل بينكمُ وتولي بعضكم بعضاً حتّى في التوارث تفضيلاً لنسبة الإسلام على نسبة القرابة ولم تقطعوا العلائق بينكم وبين الكفّار تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ تحصل فيها فتنة عظيمة ومفسدة كبيرة لأنَّ المسلمين ما لم يكونوا يداً واحدة على أهل الشرك كان الشّرك ظاهراً وتجّرأ أهله على أهل الإِسلام ودعوهم إلى الكفر.

(٧٤) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لأنهم حقّقوا إيمانهم بالهجرة والنّصرة والانسلاخ من الأهل والمال والنّفس لأجل الدين لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ لا تبعة له ولا منّة فيه.

(٧٥) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ يريد اللاحقين بعد السابقينَ كقوله وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ أي من جملتكم أيّها المهاجرون

٣١٦

والأنصار حكمهم حكمكم في وجوب موالاتهم ونصرتهم وان تأخّر إيمانهم وهجرتهم وَأُولُوا الْأَرْحامِ وأُولوا القربات بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ بعضهم أولى بميراث بعض من بعض ومن غيرهم وهو نسخ للتّوارث بالهجرة والنصرة كما سبق بيانه فِي كِتابِ اللهِ في حكمه المكتوب وفيه دلالة على أنّ من كان أقرب إلى الميّت في النسب خ ـ ل بالنّسب كان أولى بالميراث.

وفي الكافي عن الصادق عليه السلام : كان عليّ عليه السلام إذا مات مولىً له وترك قرابته لم يأخذ من ميراثه شيئاً ويقول أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ.

والقمّيّ قال هذه الآية نسخت قوله وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ.

وفي الكافي عن الصادق عليه السلام : لا تعود الإمامة في أخوين بعد الحَسَن والحُسين عليهما السلام أبداً إنّما جرت من عليّ بن الحسين عليهما السلام كما قال الله وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ فلا يكون بعد عليّ بن الحسين عليهمَا السلام إلّا في الأعقاب وأعقاب الأعقاب إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ من المواريث وغيرها وبالحكمة في إناطتها بنسبة الإسلام والمظاهرة (١) أوّلاً واعتبار القرابة ثانياً إلى غير ذلك.

وذكر ثواب قراءة هذه السورة يأتي في آخرِ سورة التوبة إنشاء الله تعالى والله العالِمْ.

__________________

(١) المظاهرة المطابقة والمعاضدة والمعاونة والمساعدة وأصله من ترادف الظّهرين والصاق أحدهما بالآخر واعتماده عليه.

٣١٧

سورة التوبة

وهي مدنية كلها وقال بعضهم غير آيتين (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ

أَنْفُسِكُمْ) إلى آخر السورة عدد آيها مائة وتسع وعشرون آية نزلت سنة تسع

من الهجرة وفُتِحَتْ مكّة سنة ثمان وحجَّ رسول الله صلىَّ الله عليه وآله

وسلم حجة الوداع سنة عشر.

في المجمع عن أمير المؤمنين عليه السلام : لم ينزل بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ على رأس سورة براءة لأنّ بسم اللهِ للأمان والرحمة ونزلت براءة لدفع الأمان والسيف.

وفيه والعيّاشيّ عن الصادق عليه السلام : الأنفال وبراءة واحدة.

(١) بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي هذه بَراءَةٌ والمعنى أنّ الله ورسوله بريئان من العهد الذي عاهَدْتُمْ به الْمُشْرِكِينَ إن قيل كيف يجوز أن ينقض النّبيّ العهد اجيب بوجهين.

أحدهما أنّه كان قد شرط عليهم بقاء العهد إلى أن يرفعه الله بوحي والثاني أنّهم قد نقضُوا أو همّوا بذلك فأمر الله أن ينقض عهدهم.

وفي المجمع نسب الوجهين إلى الرّواية.

(٢) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ خطاب للمشركين أمروا أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر آمنين أين شاءوا لا يتعرض لهم ثمّ يقتلون حيث وجدوا.

القمّيّ عن الرضا عليه السلام : فأجّل الله المشركين الذين حجّوا تلك السنة أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ حتى يرجعوا إلى مأمنهم ثمّ يقتلون حيث وجدوا.

٣١٨

وعن الصادق عليه السلام : نزلت هذه الآية بعد ما رجع رسول الله صلىَّ الله عليه وآله وسلم من غزوة تبوك في سنة تسع من الهجرة قال وكان رسول الله صلىَّ الله عليه وآله وسلم لما فتح مكّة لم يمنع المشركين الحجّ في تلك السنة وكان سنة من العرب في الحجّ أنّه من دخل مكّة وطاف بالبيت في ثيابه لم يحلّ له إمساكها وكانوا يتصدّقون بها ولا يلبسونها بعد الطّواف فكان من وافى مكّة يستعير ثوباً ويطوف فيه ثمّ يرده ومن لم يجد عارية اكترى ثياباً ومن لم يجد عارية ولا كرى ولم يكن له إلّا ثوب واحد طاف بالبيت عرياناً فجاءت امرأة من العَرَب وسيمةً جميلة فطلبت عاريّة أو كرى فلم تجده فقالوا لها إن طفت في ثيابك احتجبت ان تتصدقي بها فقالت وكيف أتصدّق بها وليس لي غيرها فطافت بالبيت عريانة وأشرف لها الناس فوضعت احدى يدها على قبلها وأخرى على دبرها وقالت اليوم يبدو بعضه أو كلّه فما بدا منه فلا أحلّه فلمّا فرغت من الطواف خطبها جماعة فقالت إنّ لي زوجاً وكانت سيرة رسول الله صلىَّ الله عليه وآله وسلم قبل نزول سورة براءة أن لا يقاتل إلّا من قاتله ولا يحارب إلّا من حاربه وأراده وقد كان نزل عليه في ذلك من الله عزّ وجلّ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً فكان رسول الله صلىَّ الله عليه وآله وسلم لا يقاتل أحداً قد تنحّى عنه واعتزله حتّى نزلت عليه سورة براءة وأمره بقتل المشركين من اعتزله ومن لم يعتزله الا الذين قد كان عاهدهم رسول الله صلىَّ الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكّة إلى مدّة منهم صفوان بن أميّة وسهيل بن عمرو فقال الله عزّ وجلّ بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ثم يقتلون حيث ما وجدوا فهذه أشهر السياحة عشرين من ذي الحجّة والمحرّم وصفر وشهر ربيع الأوّل وعشراً من ربيع الآخر فلما نزلت الآيات من أوّل براءة دفعها رسول الله صلىَّ الله عليه وآله وسلم إلى أبي بكر وأمره بأن يخرج إلى مكّة ويقرأها على الناس بمنى يوم النّحر فلما خرج أبو بكر نزل جبرئيل على رسول الله صلىَّ الله عليه وآله وسلم فقال يا محمّد لا يؤدي عنك إلّا رجل منك فبعث رسول الله صلىَّ الله عليه وآله وسلم أمير المؤمنين عليه

٣١٩

السلام في طلبه فلحقه بالرّوحاءِ (١) فأخذ منه الآيات فرجع أبو بكر إلى رسول الله صلىَّ الله عليه وآله وسلم فقال يا رسول الله أنزل في شيء قال إنّ الله أمرني أن لا يؤدّي عني الا أنا أو رجل منّي.

والعيّاشيّ عن الصادق عليه السلام : كان الفتح في سنة ثمان وبراءة في سنة تسع وحجّة الوداع في سنة عشر.

وعنه عليه السلام : أن رسول الله صلىَّ الله عليه وآله وسلم بعث أبا بكر مع براءة إلى الموسم ليقرأها على الناس فنزل جبرئيل فقال لا يبلغ عنك إلّا عليّ عليه السلام فدعا رسول الله صلىَّ الله عليه وآله وسلم علياً فأمره أن يركب ناقته العَضباء (٢) وأمره أن يلحق أبا بكر فيأخذ منه البراءة ويقرأها على الناس بمكّة فقال أبو بكر أسخَطَه فقال لا إلّا انه أنزل عليه أنّه لا يبلغ إلّا رجلٌ منك فلما قدم عليّ عليه السلام مكّة وكان يوم النّحر بعد الظهر وهو يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ قام ثمّ قال إنّي رسول الله عليه السلام إليكم فقرأها عليهم بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ عشرين من ذي الحجّة والمحرّم وصفر وشهر ربيع الأوّل وعشراً من شهر ربيع الآخر قال لا يطوف بالبيت عريان ولا عريانة ولا مشرك إلّا من كان له عهد عند رسول الله صلىَّ الله عليه وآله وسلم فمدّته إلى هذه الأربعة أشهر.

قال وفي خبر محمّد بن مسلم : قال أبو بكر يا عليّ هل نزل فيَّ شيء منذ فارقت رسول الله صلىَّ الله عليه وآله وسلم قال : لا ولكن أبى الله أن يبلّغ عن محمّد صلىَّ الله عليه وآله وسلم إلّا رجل منه فوافى الموسم فبلّغ عن الله وعن رسوله بعرفة والمزدلفة ويوم النحر عند الجمار في أيّام التشريق كلها ينادي بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ الآية ويقول ولا يطوفنّ بالبيت عريان.

__________________

(١) الرّوحاء موضع بين الحرمين ثلاثين أربعين ميلاً من المدينة.

(٢) في الحديث : لا تضح بالعَضباء بالمدّ مكسورة القرن الداخل أو مشقوقة الأذن قاله في المغرب وغيره والعضباء اسم ناقة كانت لرسول الله صلىَّ الله عليه وآله وسلم قيل هو علم لها وقيل كانت مشقوقة الأذن وفي كلام الزّمخشري وهو منقول من قولهم ناقة عضباء وهي القصيرة اليد.

٣٢٠