تفسير الصّافي - ج ١

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]

تفسير الصّافي - ج ١

المؤلف:

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: منشورات مكتبة الصدر
المطبعة: خورشيد
الطبعة: ٣
ISBN الدورة:
964-6847-51-X

الصفحات: ٥٢٨

١
٢

٣
٤
٥
٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

نحمدك يا من تجلى لعباده في كتابه بل في كل شيء ، وأراهم نفسه في خطابه بل في كل نور وفيء ، دل على ذاته بذاته ، وتنزّه عن مجانسة مخلوقاته ، كيف يستدل عليه بما هو في وجوده مفتقر إليه ، بل متى غاب حتّى يحتاج إلى دليل يدلّ عليه ، ومتى بَعد حتّى تكون الآثار هي التي توصل إليه ، عميت عين لا تراه ولا يزال عليها رقيباً ، وخسرت صفقة عبد لم يجعل له من حبّه نصيباً ، تعرّف لكلّ موجود فما جهله موجود ، وتعرّف إلينا بكلّ شاهد لنشاهده في كل مشهود ، نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً وأودع اسراره أهل البيت فأذهب عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً ، أبلج عن هدى نبيه المرسل ، بنور كتابه المنزل ، وكشف عن سرّ كتابه المنزل بعترة نبيه المرسل ، جعل الكتاب والعترة حبلين ممدودين بينه وبيننا ، ليخرجنا بتمسكنا بهما من مهوى ضلالتنا ويذهب عنا شيننا ، لم يزل أقامهما فينا طرف منهما بيده وطرف بأيدينا ، منَّ بهما علينا وحببهما بفضله إلينا ، وهما الثقلان اللذان تركهما النبيّ فينا ، وخلّفهما لدينا ، وقال : ان تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي وإنهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ حوضي. فأخبرنا بأنهما صاحبان مصطحبان ، واخوان مؤتلفان ، وان العترة تراجمة للقرآن ، فَمن الكشّاف عن وجوه عرائس اسراره ودقائقه وهم قد خوطبوا به ، ومَن لتبيان مشكلاته ولديه مجمع بيان معضلاته ومنبع بحر حقائقه وهم : أبو حسنه ، ومَن لشرح آيات الله وتيسير تفسيرها بالرموز والصراح الا من شرح الله صدره بنوره ، ومثّله بالمشكاة والمصباح ومن عسى يبلغ علمه بمعالم التّنزيل

٧

والتأويل وفي بيوتهم كان ينزل جبرائيل ، وهي البيوت التي أذن الله أن ترفع ، فعنهم يؤخذ ومنهم يسمع ، إذ أهل البيت بما في البيت ادرى والمخاطبون لما خوطبوا به أوعى ، فأين نذهب عن بابهم ، وإلى من نصير لا والله وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ، سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ، اللهمّ فكما هديتنا للتمسك بحبل الثقلين وجعلت لنا المودة في القربى قرّة عين ، فاشرح صدورنا لأسرار كتابك لنرتقي من العلم إلى العين ، ونوّر أفئدتنا بأنوار العترة لنخرج من ظلمات الغين والرين وصلّ اللهمّ على محمّد وعلي وفاطمة والحسن والحسين وعلى التسعة من ولد الحسين عليهم السلام وصن بياننا عن الشين ولساننا عن المين.

أما بعد : فيقول خادم علوم الدين ، وراصد اسرار كتاب الله المبين ، الفقير إلى الله في كل موقف وموطن (محمّد بن مرتضى) المدعو (بمحسن) حشره الله مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

هذا يا اخواني ما سألتموني من تفسير القرآن بما وصل إلينا من أئمتنا المعصومين من البيان ، أتيتكم به مع قلّة البضاعة ، وقصور يدي عن هذه الصناعة ، على قدر مقدور فان المأمور معذور ، والميسور لا يترك بالمعسور ، ولا سيما كنت أراه امراً مهماً ، وبدونه أرى الخطب مدلهماً ، فان المفسرين وان أكثروا القول في معاني القرآن ، إلّا أنّه لم يأت أحد منهم فيه بسلطان وذلك لأن في القرآن ناسخاً ومنسوخاً ومحكماً ومتشابهاً وخاصاً وعاماً ومبيّناً ومبهماً ومقطوعاً وموصولاً وفرائض وأحكاماً وسنناً وآداباً وحلالاً وحراماً وعزيمة ورخصة وظاهراً وباطناً وحداً ومطلعاً ، ولا يعلم تمييز ذلك كله إلّا من نزل في بيته ، وذلك هو النبيّ وأهل بيته ، فكل ما لا يخرج من بيتهم فلا تعويل عليه.

ولهذا ورد عن النبيّ صلّى الله عليه وآله : من فسّر القرآن برأيه فأصاب الحق فقد أخطأ ، وقد جاءت عن أهل البيت في تفسير القرآن وتأويله أخبار كثيرة إلا أنها خرجت متفرقة عند أسئلة السائلين وعلى قدر افهام المخاطبين ، وبموجب إرشادهم إلى مناهج الدين وبقيت بعد خبايا في زوايا خوفاً من الأعداء وتقيّة من

٨

البعداء ولعله ممّا برز وظهر لم يصل إلينا الأكثر ، لأنّ رواته كانوا في محنة من التقية وشدة من الخطر وذلك بأنّه لما جرى في الصحابة ما جرى ، وضل بهم عامة الورى ، أعرض الناس عن الثقلين وتاهوا في بيداء ضلالتهم عن النجدين الا شرذمة من المؤمنين فمكث العامّة بذلك سنين وعمهوا في غمرتهم حتّى حين ، فآل الحال إلى أن نبذ الكتاب حَمَلته وتناساه حفظته ، فكان الكتاب واهله في الناس وليسا في الناس ومعهم وليسا معهم ، : لأن الضلالة لا توافق الهدى وإن اجتمعا ، وكان العلم مكتوماً واهله مظلوماً لا سبيل لهم إلى إبرازه إلا بتعميته وإلغازه ، ثمّ خلف من بعدهم خلف غير عارفين ولا ناصبين لم يدروا ما صنعوا بالقرآن ، وعمن أخذوا التفسير والبيان ، فعمدوا إلى طائفة يزعمون انهم من العلماء ، فكانوا يفسرونه لهم بالآراء ويروون تفسيره عمّن يحسبونه من كبرائهم ، مثل : أبي هريرة وأنس وابن عمر ونظرائهم. وكانوا يعدّون أمير المؤمنين عليه السلام من جملتهم ويجعلونه كواحد من الناس ، وكان خير من يستندون إليه بعده ابن مسعود وابن عبّاس ممن ليس على قوله كثير تعويل ولا له إلى لباب الحق سبيل ، وكان هؤلاء الكبراء ربما يتقوّلونه من تلقاء أنفسهم غير خائفين من مآله وربما يسندونه إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله ، ومن الآخذين عنهم من لم يكن له معرفة بحقيقة أحوالهم لما تقرر عنهم أن الصحابة كلهم عدول ولم يكن لأحد منهم عن الحق عدول ، ولم يعلموا أن أكثرهم كانوا يبطنون النفاق ويجترون على الله ويفترون على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في عزة وشقاق ، هكذا كان حال الناس قرناً بعد قرن فكان لهم في كل قرن رؤساء ضلالة ، عنهم يأخذون وإليهم يرجعون ، هم بآرائهم يجيبون وإلى كبرائهم يستندون وربما يروون عن بعض أئمة الحق في جملة ما يروون عن رجالهم ولكن يحسبونه من أمثالهم. فتبّاً لهم ولأدب الرواية ، إذ ما رعوها حق الرعاية ، نعوذ بالله من قوم حذفوا محكمات الكتاب ونسوا الله ربّ الأرباب راموا غير باب الله أبواباً ، واتخذوا من دون الله أرباباً ، وفيهم أهل بيت نبيهم وهم أزمة الحق وألسنة الصدق وشجرة النبوّة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة ومهبط

٩

الوحي وعيبة العلم ومنار الهدى والحجج على أهل الدنيا خزائن اسرار الوحي والتنزيل ، ومعادن جواهر العلم والتأويل ، الأمناء على الحقائق ، والخلفاء على الخلائق ، أولوا الأمر الذين أُمروا بطاعتهم وأهل الذكر الذين أُمروا بمسألتهم وأهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ، والراسخون في العلم الذين عندهم علم القرآن كله تأويلاً وتفسيراً ومع ذلك كله يحسبون أنهم مهتدون إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ.

ولما أصبح الأمر كذلك وبقي العلم مخزوناً هنالك صار الناس كأنهم أئمة الكتاب وليس الكتاب بإمامهم فضربوا بعضه ببعض لترويج مرامهم ، وحملوه على أهوائهم في تفاسيرهم وكلامهم ، والتفاسير التي صنَّفها علماء العامّة من هذا القبيل فكيف يصحّ عليها التعويل ، وكذلك التي صنفها متأخرو أصحابنا ، فإنها أيضاً مستندة إلى رؤساء العامّة وشذ ما نقل فيه حديث عن أهل العصمة ، وذلك لأنّهم إنّما نسجوا على منوالهم واقتصروا في الأكثر على أقوالهم ، مع أن أكثر ما تكلم به هؤلاء وهؤلاء فإنما تكلموا في النحو والصرف والاشتقاق واللغة والقراءة وأمثالها ممّا يدور على القشر دون اللباب فأين هم والمقصود من الكتاب ، وإنّما أورد كل طائفة منهم ما قويت فيه منّته ، وترك ما لا معرفة له به مما قصرت عنه همّته ، ومنهم من أدخل في التفسير ما لا يليق به فبسط الكلام في فروع الفقه وأصوله وطوّل القول في اختلاف الفقهاء أو صرف همته فيه إلى المسائل الكلامية وذكر ما فيها من الآراء ، واما ما وصل إلينا ممّا ألفه قدماؤنا من أهل الحديث فغير تام لأنّه إمّا غير منته إلى آخر القرآن وإمّا غير محيط بجميع الآيات المفتقرة إلى البيان ، مع أن منه ما لم يثبت صحته عن المعصوم لضعف رواته أو جهالة حالهم ونكارة بعض مقالهم ، ومنه ما أورد جامعه في كثير من المواضع ما لا مدخل له في فهم القرآن وترك فيه وفي مواضع اخر ما لا بدّ منه في التفسير والتبيان. لم يأت بنظم يليق ، ولا بأسلوب أنيق ، ومنه ما يشتمل مع ذلك على ما ثبت خلافه في العقل والأنباء كنسبة الكبائر والسفه إلى الأنبياء ، ومنه ما يشتمل على التأويلات البعيدة التي تشمئز عنها الطباع وتنفر عنه الأسماع

١٠

وتحجب عن البيان وتزيد في حيرة الحيران ممّا يجب رده إليهم من غير إنكار كما وردت به الأخبار ولعلها إن صحت فإنما وردت لمصالح ومعان يقتضيها الوقت والزمان.

ومنه ما يشتمل على ما يوهم عليه التناقض والتضاد (١) لتخصيص المعنى تارة ببعض الأفراد كأنّه هو المراد ، وتارة بفرد آخر كأنّ غيره لا يراد ، من غير تعرض للجمع والتوفيق ، ولا إتيان بما هو التحقيق وجله يشتمل على ما يوهم اختصاص آيات الرحمة بأشخاص بأعيانهم ، كأنها لا يجاوزهم إلى الغير واختصاص آيات العذاب بأشخاص أخر كأنهم خصوا بأبعد عن الخير من غير تعرض منهم لبيان المراد ، وأن ليس المقصود بهما خصوص الآحاد والأفراد ، كما يعرفه البصير في الدين والخبير بأسرار كلام المعصومين ، كيف ولو كان ذلك كذلك لكان القرآن قليل الفائدة ، يسير الجدوى والعائدة ، حاشاه عن ذلك بل إنّما ورد ذلك على سبيل المثال ، لازاحة الخفاء أو ذكر الفرد الأكمل والأخفى ، أو المنزل فيه أو للاشارة إلى أحد بطون معانيه.

وأمّا في كتب الأخبار ممّا يتعلق بالتفسير فكان مع اشتماله على بعض هذه الامور متفرقاً بحيث يعسر ضبطه وربطه بالآيات ، مع أنّه لم يف بأكثر المهمات ، وبالجملة لم نر إلى الآن في جملة المفسرين مع كثرتهم وكثرة تفاسيرهم من أتى بتصنيف تفسير مهذب صاف واف كاف شاف يشفي العليل ويروي الغليل ، يكون منزهاً عن آراء العوام مستنبطاً من أحاديث أهل البيت عليهم السلام ، وليس لهذا الأمر الخطير والإتيان بمثل هذا التفسير الا ناقد بصير ، ينظر بنور الله ويؤيده روح القدس ، بإذن الله ليشاهد صدق الحديث وصحته من اشراق نوره ، ويعرف كذبه وضعفه من لحن القول وزوره فيصحح

__________________

(١) وذلك كما ورد في قول الله عزّ وجلّ : «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ» تارة بأن المراد بالغيب التوحيد واخرى أن المراد به الأنبياء الماضون ، وأخرى أن المراد به القيامة ، وأخرى أن المراد به القائم (ع) ، واخرى أن المراد به الرجعة إلى غير ذلك وهذه الأخبار توهم التناقض وليست بمتناقضة لأن المراد به الجميع دائماً خرجت على ما اقتضاء الحال وارتضاء السؤال «منه»

١١

الأخبار بالمتون دون الأسانيد ، ويأخذ العلم من الله لا من الأساتيد حتّى يتأتّى له تمييز الصافي من الكدر ، وتخرج الشافي من المضر ، فينقر الأخبار التفسيرية المعصومية نقراً حتّى تصفو عمّا يوهم غباراً في البيان ، ويبقرها بقراً إلى أن يخرج من خاصرتها ما يناسب فهم أبناء الزمان ، يجتمع شتاتها من كتب متعدّدة ، ويؤلف متفرقاتها من مواضع متبددة ، ويفرّدها من كلام كثير ليس لأكثره مدخل في التفسير ويلفّقها من غير واحد بحذف الزوائد ، بحيث يزيل الإبهام لا أن يزيد إبهاماً على إبهام ، وعلى نحو لا يخرج عن مقصود الامام ولا يفوت شيئاً من لطائف الكلام ، وقد جاءت الرخصة عنهم في نقل حديثهم بالمعنى إذا لم يخل بالمرام ، وأن يعمّم في تفسيره المعنى والمفهوم في كل ما يحتمل الإحاطة والعموم ، لأن التناقض والتضاد الموهومين في الأخبار إنّما يرتفعان بذلك في الغالب ، وفهم أسرار القرآن يبتني على ذلك للطالب ، فإن نظر أهل المعرفة إنّما يكون في العلوم إلى الحقائق الكلية دون الافراد ، فما ورد في الأخبار من التخصيص فإنما ورد للافهام القاصرة على خصوص الآحاد للاستيناس إذ كان كلامهم مع الناس على قدر عقول الناس ، وقد عمّم مولانا الصّادق عليه السلام الآية التي وردت في صلة رحم آل محمّد صلّى الله عليه وآله وسلم صلة كل رحم ثمّ قال ولا تكونن ممن يقول في الشيء إنّه في شيء واحد ، وهذا نهي عن التخصيص فضلاً عن الاذن في التعميم وهذا هو المعنى بالتأويل كما يأتي بيانه نقلاً عن المعصوم ثمّ تحقيق معناه ببسط من الكلام إنشاء الله وأن يأتي بذكر القصص التي يتوقف عليها فهم الآيات ، وتعاطيها دون ما لا مدخل له فيها ، وأن يترك ما يبعد عن الافهام في طيّ الأخبار ، ويذره في سنبله من غير نقل ولا إنكار ، امتثالاً لما ورد فيما رواه مولانا الباقر عليه السلام عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : ان حديث آل محمّد صلّى الله عليه وآله وسلم صعب مستصعب لا يؤمن به إلّا ملك مقرَّب أو نبي مرسل أو عبد امتحن الله قلبه للإيمان فما عرض عليكم من حديث آل محمّد فلانت له قلوبكم وعرفتموه فخذوه وما اشمأزت منه قلوبكم وأنكرتموه فردوه إلى الله وإلى الرسول

١٢

وإلى العالم من آل محمّد صلّى الله عليه وآله وإنّما الهلاك أن يحدث عليكم أحدكم بشيء منه لا يحتمله فيقول والله ما كان هذا والله ما هذا بشيء والإنكار هو الكفر. وإذا أتى المفسر بهذا كله فمرجو له أن يكون من أهل البشارة في قوله سبحانه (فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) وإنّي لأرجو من فضل الله وكرمه أن يكون هذا الكتاب هو ذلك التفسير مع إنّي ما بلغت معشار حسنة من حسنات ذلك الناقد البصير إلّا أن يعرفني (بصرني خ ل) ربي ونصرني وأيدني وسددني وآتاني فهماً في قرآنه ثمّ أطلق لساني ببيانه ، وما ذلك يا إلهي إلّا بيدك ولا يوصل إليه إلا بمعونتك وقدرتك ولا ينال إلّا بمشيئتك وإرادتك ، ولا يتأتى إلّا بتوفيقك وتسديدك فهب لي منك تأييداً وتسديداً وتوفيقاً ، وتحقيقاً حتّى استفيد ذلك من خزائنك على أيدي خزانك الأمناء على وحيك العلماء بكتابك ، فإنك إن وكلتني إلى سواك وسواهم تهت وإن تركتني ونفسي ولهت ، وإن كنت لي فيما بيني وبينك فزت وعن مواقع الهلكة جزت وذلك هو الفوز العظيم وهو المرجو منك يا كريم وما ذلك عليك بعزيز.

وبالحري أن يسمى هذا التفسير بالصافي لصفائه عن كدورات آراء العامّة والمُمِل والمحير والمتنافي.

ونمهّد أولاً اثنتي عشرة مقدّمة مهمات ثمّ نشرع إنشاء الله في تفسير الآيات :

المقدّمة الأولى : في نبذ ممّا جاء في الوصية بالتمسك بالقرآن وفضله.

والمقدّمة الثانية : في نبذ ممّا جاء في أن علم القرآن كله إنّما هو من عند أهل البيت عليهم السلام.

والمقدّمة الثالثة : في نبذ ممّا جاء في أن جل القرآن إنّما ورد فيهم وفي أوليائهم وفي أعدائهم ، وبيان سر ذلك.

والمقدّمة الرابعة : في نبذ ممّا جاء في معاني وجوه الآيات من التفسير

١٣

والتأويل والظهر والبطن والحدّ والمطّلع والمحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ وغير ذلك ، وتحقيق القول في معنى المتشابه وتأويله.

والمقدّمة الخامسة : في نبذ ممّا جاء في المنع من تفسير القرآن بالرأي والسر فيه.

والمقدّمة السادسة : في نبذ ممّا جاء في جمع القرآن وتحريفه وزيادته ونقصه وتأويل ذلك.

والمقدّمة السابعة : في نبذ ممّا جاء في أن القرآن تبيان كل شيء وتحقيق معناه.

والمقدّمة الثامنة : في نبذ ممّا جاء في أقسام الآيات واشتمالها على البطون والتأويلات وأنواع اللغات واختلاف القراءات والمعتبرة منها.

والمقدّمة التاسعة : في نبذ ممّا جاء في زمان نزول القرآن وتحقيق ذلك.

والمقدّمة العاشرة : في نبذ ممّا جاء في تمثيل القرآن لأهله يوم القيامة وشفاعته لهم وثواب حفظه وتلاوته.

والمقدّمة الحادية عشرة : في نبذ ممّا جاء في كيفية التلاوة وآدابها.

والمقدّمة الثانية عشرة : في بيان ما اصطلحنا عليه في تفسير الآيات ليكون الناظر فيه على بصيرة ومن الله الاعانة وإعطاء الفهم والبصيرة.

١٤

المقدّمة الأولى

في نبذ ممّا جاء في الوصية بالتمسك بالقرآن وفي فضله

روى محمّد بن يعقوب الكليني طاب ثراه في الكافي بإسناده ، ومحمّد بن مسعود العيّاشيّ في تفسيره بإسناده عن الصادق عن أبيه عن آبائه عليهم السلام قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم : أيها الناس إنكم في دار هدنة وأنتم على ظهر سفر والسير بكم سريع وقد رأيتم الليل والنهار والشمس والقمر يبليان كل جديد ويقرّبان كل بعيد ويأتيان بكل موعود فأعدوا الجهاز لبعد المجاز. قال : فقام المقداد بن الأسود فقال يا رسول الله : وما دار الهدنة فقال (ص). دار بلاغ وانقطاع فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنّه شافع مشفّع ، وما حل مصدق ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة ، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار وهو الدليل يدلّ على خير سبيل وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل ، وهو الفصل وليس بالهزل وله ظهر وبطن ، فظاهره حكم وباطنه علم ظاهره أنيق وباطنه عميق له تخوم وعلى تخومه تخوم لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة ودليل على المعرفة لمن عرف الصفة.

وزاد في الكافي : فليجل جال بصره وليبلغ الصفة نظره ينج من عطب ويخلص من نشب فإن التفكر حياة قلب البصير كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور ، فعليكم بحسن التخلص وقلة التربص.

أقول : ما حل أي يمحل بصاحبه إذا لم يتبع ما فيه ، أعني يسعى به إلى

١٥

الله تعالى. وقيل معناه خصم مجادل.

والأنيق الحسن المعجب.

والتخوم بالمثناة الفوقانية والمعجمة جمع تخم بالفتح وهو منتهى الشيء.

لمن عرف الصفة : أي صفة التعرف وكيفية الاستنباط.

والعطب : الهلاك. والنشف : الوقوع فيما لا مخلص منه.

وروى العيّاشيّ بإسناده عن الحارث الأعور قال : دخلت على أمير المؤمنين عليه السلام فقلت : يا أمير المؤمنين انّا إذا كنّا عندك سمعنا الذي نشد به ديننا وإذا خرجنا من عندك سمعنا أشياء مختلفة مغموسة ولا ندري ما هي. قال : أوقد فعلوها؟ قال : قلت نعم. قال : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول : أتاني جبرائيل فقال : يا محمّد ستكون في أمتك فتنة. قلت : فما المخرج منها؟ فقال : كتاب الله فيه بيان ما قبلكم من خبر ، وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم وهو الفصل ليس بالهزل من وليه من جبّار فعمل بغيره قصمه الله ، ومن التمس الهدى في غيره أضله الله وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم لا تزيغه الأهوية ولا تلبسه الألسنة ولا يخلق على الرد ولا تنقضي عجائبه ولا يشبع منه العلماء هو الذي لم تلبث الجن إذ سمعته أن قالوا : (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) من قال به صدق ومن عمل به أجر ومن اعتصم به فقد هدي إلى صراط مستقيم هو الكتاب العزيز الذي لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ.

وبإسنادهما عن أبي عبد الله عليه السلام قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم : القرآن : هدى من الضلالة وتبيان من العمى واستقالة من العثرة ونور من الظلمة وضياء من الأجداث وعصمة من الهلكة ورشد من الغواية وبيان من الفتن وبلاغ من الدنيا إلى الآخرة وفيه كمال دينكم وما عدل أحد من القرآن إلّا إلى النار.

١٦

وروى العيّاشيّ بإسناده عنه عليه السلام قال : عليكم بالقرآن فما وجدتم آية نجى بها من كان قبلكم فاعملوا به وما وجدتموه ممّا هلك بها من كان قبلكم فاجتنبوه.

وفي تفسير الإمام أبي محمّد الزكي قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم : ان هذا القرآن هو النور المبين والحبل المتين والعروة الوثقى والدرجة العليا والشفاء الأشفى والفضيلة الكبرى والسعادة العظمى من استضاء به نوّره الله ومن عقد به أموره عصمه الله ومن تمسك به أنقذه الله ، ومن لم يفارق أحكامه رفعه الله ومن استشفى به شفاه الله ومن أثر على ما سواه هداه الله ومن طلب الهدى في غيره أضله الله ومن جعله شعاره ودثاره أسعده الله ومن جعله إمامه الذي يقتدي به ومعموله الذي ينتهي إليه أدّاه الله إلى جنات النعيم والعيش السليم.

وفي الكافي بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم : يا معاشر قرّاء القرآن اتّقوا الله فيما حملكم من كتابه فإني مسؤول وإنّكم مسؤولون إنّي مسؤول عن تبليغ الرسالة واما أنتم فتسألون عمّا حملتم من كتاب الله وسنّتي.

وبإسناده عنه عليه السلام قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم : أنا أول وافد على العزيز الجبار يوم القيامة وكتابه وأهل بيتي ثمّ أمتي ثمّ أسألهم ما فعلتم بكتاب الله وأهل بيتي.

وبإسناده عن سعد الإسكاف (١) عنه عليه السلام قال : قال صلّى الله عليه وآله وسلم : أعطيت السور الطول مكان التوراة وأعطيت المئين مكان الإنجيل وأعطيت المثاني مكان الزبور وفضّلت بالمفصّل ثمان وستون سورة وهو مهيمن على سائر الكتب ، فالتوراة لموسى والإنجيل لعيسى والزبور لداود.

أقول : اختلف الأقوال في تفسير هذه الألفاظ أقربها إلى الصواب وأحوطها

__________________

(١) روى هذا الحديث العيّاشيّ أيضاً إلى قوله عليه السلام : وستون سورة وأورد مكان ثمان سبع.

١٧

لسور الكتاب أن الطول كصرد هي السبع الأول بعد الفاتحة على أن يعد الأنفال والبراءة واحدة نزولها جميعاً في المغازي وتسميتهما بالقرينتين.

والمئين من بني إسرائيل إلى سبع سور سمّيت بها لأن كلا منها على نحو مائة آية ، والمفصل من سورة محمّد صلّى الله عليه وآله وسلم إلى آخر القرآن سميت به لكثرة الفواصل بينها ، والمثاني بقية السور وهي التي تقتصر عن المائتين وتزيد على المفصل كأنّ الطول جعلت مبادي تارة والتي تلتها مثاني لها لأنّها ثنت الطول أي تلتها ، والمئين جعلت مبادي أُخرى والتي تلتها مثاني لها.

١٨

المقدّمة الثانية

في نبذ ممّا جاء في ان علم القرآن كله إنّما هو

عند أهل البيت عليهم السلام

روى في الكافي بإسناده عن سليم بن قيس الهلالي قال سمعت أمير المؤمنين يقول وساق الحديث إلى أن قال : ما نزلت آية على رسول الله صلّى الله عليه وآله الا اقرأنيها واملاها علي فكتبتها بخطي وعلمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها ومحكمها ومتشابهها ودعا الله لي أن يعلمني فهمها وحفظها فما نسيت آية من كتاب الله ولا علماً أملاه عليّ فكتبته منذ دعا لي بما دعا وما ترك شيئاً علّمه الله من حلال ولا حرام ولا أمر ولا نهي كان أو يكون ولا كتاب منزل على أحد قبله من طاعة أو معصية إلّا علّمنيه وحفظته فلم أنس منه حرفاً واحداً ثمّ وضع يده على صدري ودعا الله أن يملأ قلبي علماً وفهماً وحكمة ونوراً. فقلت : يا رسول الله بأبي أنت وأمي مذ دعوت الله لي بما دعوت لم أنس شيئاً ولم يفتني شيء لم أكتبه أو تتخوف علي النسيان فيما بعد. فقال : لست أتخوف عليك نسياناً ولا جهلا.

ورواه العيّاشيّ في تفسيره والصدّوق في إكمال الدين بتفاوت يسير في ألفاظه.

وزيد في آخره :

وقد أخبرني ربي أنّه قد استجاب لي فيك وفي شركائك الذين يكونون من بعدك فقلت : يا رسول الله ومن شركائي من بعدي؟ قال : الذين قرنهم الله بنفسه وبي. فقال : أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فقلت ومن

١٩

هم؟ قال : الأوصياء مني. إلى أن يردوا عليّ الحوض كلهم هادين مهديين لا يضرهم من خذلهم هم مع القرآن والقرآن معهم لا يفارقهم ولا يفارقونه بهم ينصر أمتي وبهم تمطر وبهم يدفع عنهم البلاء وبهم يستجاب دعاؤهم فقلت : يا رسول الله سمهم لي. فقال : ابني هذا ووضع يده على رأس الحسن ثمّ ابني هذا ووضع يده على رأس الحسين ثمّ ابن له يقال له علي وسيولد في حياتك فاقرأه مني السلام ثمّ تكملة اثني عشر من ولد محمّد صلّى الله عليه وآله فقلت له بأبي أنت وأمي فسمهم لي فسماهم رجلاً رجلاً فقال : فيهم والله يا أخا بني هلال مهدي أمة محمّد الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً والله إني لأعرف من يبايعه بين الركن والمقام واعرف أسماء آبائهم وقبائلهم.

وفي الكافي بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام قال : ما ادعى أحد من الناس أنّه جمع القرآن كله كما انزل الا كذاب وما جمعه وحفظه كما أنزل الله ، الا عليّ بن أبي طالب والأئمة من بعده عليهم السلام. وبإسناده عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال : ما يستطيع أحد أن يدعي أن عنده جميع القرآن كله ظاهره وباطنه غير الأوصياء ..

وبإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام : في قوله تعالى : (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) قال : هم الأئمة.

وبإسناده عنه عليه السلام قال : قد ولدني رسول الله صلّى الله عليه وآله وأنا أعلم كتاب الله تعالى وفيه بدؤ الخلق وما هو كائن إلى يوم القيامة وفيه خبر السماء وخبر الأرض وخبر الجنة والنار وخبر ما كان وما هو كائن أعلم ذلك كما أنظر إلى كفي إنّ الله تعالى يقول : (فيه تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ).

أقول : الولادة المشار إليها تشمل الولادة الجسمانية والروحانية فإن علمه يرجع إليه كما أن نسبه يرجع إليه فهو وارث علمه كما هو وارث ماله ، ولهذا قال : وأنا أعلم كتاب الله تعالى وفيه كذا وكذا يعني وأنا عالم بذلك كله.

وبإسناده عنه عليه السلام قال : كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم

٢٠