نور الدين علي بن أحمد السّمهودي
المحقق: خالد عبد الغني محفوظ
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3818-9
الصفحات: ٢٩٤
بقية السرح وأخذت بأعناق القوم ، فقال له صلىاللهعليهوسلم : إنهم ليقرون في غطفان ، فقسم صلىاللهعليهوسلم في أصحابه في كل مائة جزورا ، وأقاموا عليها ، ثم رجع ، وأفلتت امرأة الغفاري على ناقة من اللقاح حتى قدمت على رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأخبرته الخبر ، وقالت : إني نذرت لله أن أنحرها إن أنجاني الله عليها ، فتبسم رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقال : بئس ما جزيتيها أن حملك الله عليها ونجاك بها ثم تنحرينها ، إنه لا نذر في معصية الله ولا فيما لا تملكين ، هذه رواية ابن إسحاق ، وقد ذكر فيها قتل اثنين من المسلمين.
وخرّج مسلم القصة عن سلمة مطولة ومختصرة ، وخالف ما ذكره ابن إسحاق في مواضع : منها أنها كانت بعد انصرافه صلىاللهعليهوسلم من الحديبية ، وجعلها ابن إسحاق قبلها ، ومنها : أن فيه أن اللقاح كانت ترعى بذي قرد ، وكذا هو في البخاري ، وقال ابن إسحاق : بالغابة ، وكذا هو في حديث سلمة الطويل ، ولهذا قال عياض : إن الأول غلط ، ويمكن الجمع بأنها كانت ترعى تارة هنا وتارة هناك ، ومنها : أنه قال فيه : خرجت قبل أن يؤذن بالأولى فلقيني غلام لعبد الرحمن بن عوف فقال : أخذت لقاح رسول الله صلىاللهعليهوسلم فصرخت ثلاث صرخات : يا صباحاه ، فأسمعت ما بين لابتي المدينة ، ثم اندفعت على وجهي حتى أدركتهم وقد أخذوا بذي قرد يسقون من الماء ، وفي رواية لمسلم ما يقتضي أن سلمة كان مع السرح (١) لما أغير عليه ، وأنه قام على أكمة (٢) وصاح : يا صباحاه ، ثلاثا ، وهذا يرجح أن السرح كان بالغابة ، ويبعد كونه بذي قرد ، ولو كان بذي قرد لما أمكنه لحوقهم ، ومنها : أن فيه أنه استنقذ سرح رسول الله صلىاللهعليهوسلم بجملته ، ومنها : أنه قال فيه : فرجعنا إلى المدينة ، فو الله ما لبثنا بها إلا ثلاث ليال حتى خرجنا إلى خيبر مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقال القرطبي : لا يختلف أهل السير أن غزوة ذي قرد كانت قبل الحديبية ، انتهى.
وما في الصحيح من التاريخ لها أصح مما في السير ، ويمكن الجمع بتكرر الواقعة ، ويؤيده أن الحاكم ذكر في الإكليل أن الخروج إلى ذي قرد تكرر ؛ ففي الأولى خرج إليها زيد بن حارثة قبل أحد ، وفي الثانية خرج إليها النبي صلىاللهعليهوسلم في ربيع الآخر سنة خمس ، والتالية هي المختلف فيها ، انتهى. والله أعلم.
ثم كانت قصة العرنيين.
قصة العرنيين
قلت : وذلك أن ثمانية منهم ، وفي رواية من عكل ، قدموا فأسلموا واجتووا (٣)
__________________
(١) السّرح : ما يغدى به ويراح. و ـ الماشية.
(٢) الأكمة : التل المرتفع.
(٣) اجتووا المدينة : لم يوافقهم هواءها واستوبئوه.
المدينة ، وقالوا : إنا كنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف ، فبعثهم النبي صلىاللهعليهوسلم إلى لقاحه ، وفي رواية «إبل الصدقة» وكأنهما كانا معا ، فصح الإخبار بالبعث لكل منهما ، ليشربوا من أبوالها وألبانها ، فلما صحوا قتلوا الراعي واستاقوا الإبل ، فبعث النبي صلىاللهعليهوسلم في طلبهم كرز بن خالد الفهري في عشرين ، فأتى بهم ، فأمر بقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وطرحهم في الحرة يستسقون فلا يسقون ، حتى ماتوا ، هذا محصل ما في الصحيح ، وذكر أهل السير أن اللقاح كانت ترعى ناحية الجماوات ، وفي رواية بذي الجدر غربي جبل عير على ستة أميال من المدينة ، وذكر ابن سعد عن ابن عقبة أن أمير الخيل يومئذ سعيد بن زيد أحد العشرة ، فأدركوهم فربطوهم وأردفوهم على خيلهم ، وردوا الإبل ، ولم يفقدوا منها إلا لقحة واحدة من لقاحه صلىاللهعليهوسلم تدعى الحنا ، فسأل عنها ، فقيل : نحروها ، فلما دخلوا بهم المدينة كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالغابة.
غزوة بني المصطلق (المريسيع)
قال بعضهم : وذلك مرجعه من غزوة ذي قرد ، فخرجوا بهم ، نحوه ، فلقوه بالزغابة ، فقطعت أيديهم وأرجلهم وسملت أعينهم وصلبوا هناك ، والله أعلم.
ثم غزا بني المصطلق ، ومر رسول الله صلىاللهعليهوسلم في انصرافه على المريسيع. وفيها كانت قصة الإفك.
قلت : قد قدم غزوة المريسيع في السنة الخامسة ، وذكر أن فيها أنزلت آية التيمم ، وقد اقتضى كلامه أن المريسيع وقعت مرتين : في الأولى التيمم ، وفي الثانية الإفك ، وفيه جمع بين ما ذكره كثير من أهل السير من أن المريسيع سنة خمس وبين ما نقله البخاري عن ابن إسحاق أنها سنة ست ، لكن قد ثبت في الصحيح أن سعد بن معاذ تنازع هو وسعد بن عبادة في أصحاب الإفك ؛ فلو كانت المريسيع التي هي غزاة بني المصطلق سنة ست مع كون الإفك كان فيها لكان ما وقع في الصحيح من ذكر سعد بن معاذ غلطا ؛ لأن سعد بن معاذ مات أيام قريظة ، وكانت سنة خمس ، وقيل : أربع ؛ فالأشبه أن بني المصطلق والمريسيع واحد ، كلاهما في سنة خمس.
وقد ذكر ابن عبد البر في التمهيد أن التيمم كان في غزاة بني المصطلق ، وجزم به في الاستذكار ، وسبقه إليه ابن سعد وابن حبان.
وفي البخاري «غزوة بني المصطلق» ، وهي غزوة المريسيع» وفي الطبراني حديث : كنا مع النبي صلىاللهعليهوسلم في غزوة المريسيع غزوة بني المصطلق ، وبنو المصطلق بطن من خزاعة ، وكان رئيسهم الحارث بن أبي ضرار ، وكان معه عليه الصلاة والسلام بشر كثير ، خرج بهم إليهم لما بلغه أنهم يجمعون له ، وكان معه ثلاثون فرسا وأم سلمة وعائشة ، فهزمهم وأسر
من الكفار جمعا عظيما ، وتزوج جويرية بنت الحارث رئيسهم ، فأعتق الناس ما بأيديهم من الأسرى لمكانها ، وفي هذه الغزاة قال ابن أبي : (لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) [المنافقين : ٨] وقال : (لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) [المنافقين : ٧] وذلك أن ابن أبي خرج في عصابة من المنافقين مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم فلما رأوا أن الله قد نصر رسوله وأصحابه أظهروا قولا سيئا ، واقتتل رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار ، فظهر عليه المهاجري ، فقال ذلك ابن أبي لقومه ، فأخبر زيد بن أرقم بذلك النبي صلىاللهعليهوسلم فأجهد ابن أبي يمينه ما فعل ، فحزن زيد بن أرقم لذلك ، فأنزل الله تصديقه ، واستأذن عبد الله بن عبد الله بن أبي النبي صلىاللهعليهوسلم في قتل أبيه فيما رواه عروة بن الزبير ، فقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم : لا تقتل أباك ، ولما كان بينهم وبين المدينة يوم تعجل عبد الله بن عبد الله بن أبي حتى أناخ على مجامع طرق المدينة حتى جاء أبوه فقال له ابنه : لا والله لا تدخلها حتى يأذن لك رسول الله صلىاللهعليهوسلم وتعلم اليوم من الأعز ومن الأذل ، فقال له : أنت من بين الناس؟ فقال : نعم ، أنا من بين الناس ، فانصرف عبد الله حتى لقي رسول الله صلىاللهعليهوسلم فاشتكى إليه ما صنع ابنه ، فأرسل رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى ابنه «أن خلّ عنه» فدخل المدينة ، رواه ابن شبة.
وفي هذه السنة فرض الحج على الصحيح ، كما سيأتي ، والله أعلم.
السنة السابعة من الهجرة
السنة السابعة : فيها قصة أبي سفيان مع هرقل في الشام ، وفي أولها كتب رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى الملوك وبعث إليهم رسله ، ثم كانت خيبر.
قلت : واستصفى صفية بنت حيي بن أخطب من المغنم ، فأعتقها وتزوجها ، وجاءته مارية القبطية هدية وبغلته دلدل ، وأسلم أبو هريرة ، وسمته صلىاللهعليهوسلم زينب بنت الحارث زوجة سلام بن مشكم ، ثم صار النبي صلىاللهعليهوسلم إلى وادي القرى ، فحاصر أهله ليالي وأصاب غلامه مدعم سهم غرب (١) فقتله ، وفي رجوعه إلى المدينة كان النوم عن صلاة الصبح ، وروى بعضهم أنه كان في الرجوع من غزوة تبوك ، وقال الواقدي : وفي المحرم منها جاء رؤساء اليهود إلى لبيد بن الأعصم ـ وكان حليفا في بني زريق ، وكان ساحرا ـ فقالوا له : يا أبا الأعصم ، أنت أسحرنا ، وقد سحرنا محمدا فلم نصنع شيئا ، ونحن نجعل لك جعلا على أن تسحره لنا سحرا ينكؤه ، فجعلوا له ثلاثة دنانير ، وذكر قصة سحره ، وفي رواية عن
__________________
(١) سهم غرب : لا يدرى راميه ، فضاع غريمه.
الزهري بإسناد صحيح أن المدة التي مكث النبي صلىاللهعليهوسلم فيها في السحر سنة ، وفي رواية أربعين ليلة ، والله أعلم.
وفيها جاءته أم حبيبة بنت أبي سفيان ، وتزوج بها ، ثم كانت عمرة القضية وتزوج ميمونة بنت الحارث الهلالية.
السنة الثامنة من الهجرة
السنة الثامنة : فيها كانت مؤتة ، ثم كان الفتح ، ثم غزوة هوازن ، ثم غزوة الطائف ، وأمر على مكة عتاب بن أسيد ، وأسلم مالك بن عوف النضري ، وتألف المؤلفة من غنائم هوازن ، ثم انصرف إلى المدينة في آخر ذي القعدة.
قلت : وفي هذه السنة ولد ابنه إبراهيم من مارية القبطية ، وحلق رأسه يوم سابعه ، وتصدق بزنة شعره فضة ، وعقّ عنه بكبشين (١) ، ومات في عاشر ربيع الأول من السنة العاشرة وسنه عام ونصف ، وقيل : عام وثلث ، وفي الثامنة أيضا توفيت ابنته زينب ، وهي أكبر أولاده ، وكانت زوج أبي العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس الذي أثنى عليه النبي صلىاللهعليهوسلم في صهارته ، تزوجها قبل البعثة ، ولما قدم عليها مسلما ردها النبي صلىاللهعليهوسلم بالنكاح الأول على الصحيح لقدومه عقب تحريم المسلمات على المشركين ، وذلك بعد صلح الحديبية ، والله أعلم.
السنة التاسعة من الهجرة
السنة التاسعة : فيها هجر نساءه شهرا ، ثم تتابعت الوفود ، ثم فرض الحج.
قلت : قد اختلف في وقته ، فقيل : قبل الهجرة ، وهو غريب ، والمشهور بعدها ، فقيل : سنة خمس ، وجزم به الرافعي في موضع ، وقيل : ست ، وصححه الرافعي في موضع آخر ، وكذا النووي ، وقيل : سبع ، وقيل : ثمان ، وقيل : تسع ، وصححه عياض ، والله أعلم.
وأمّر رسول الله صلىاللهعليهوسلم على الحج أبا بكر رضياللهعنه ، ثم نزلت براءة ، فأرسل رسول الله صلىاللهعليهوسلم علي بن أبي طالب رضياللهعنه ؛ لينبذ إلى الناس عهدهم.
قلت : وفيها في شهر رجب كانت غزوة تبوك ، وهي آخر غزواته صلىاللهعليهوسلم على ما ذكره ابن إسحاق ، والله أعلم.
السنة العاشرة من الهجرة
السنة العاشرة : في أولها قدم عدي بن حاتم بوفد طيء ، ثم قدم وفد بني حنيفة ، ثم
__________________
(١) العقيقة : الذبيحة التي تذبح عن المولود يوم سبوعه عند حلق شعره.
وفد غسان ، ثم وفد نجران الذين كانت فيهم قصة المباهلة ، ثم جاء جبريل يعلم الناس دينهم ، ثم غزا رسول الله صلىاللهعليهوسلم تبوكا.
قلت : وهو مخالف لما قدمناه عن ابن إسحاق من كونها في التاسعة ، والله أعلم.
ثم أذن رسول الله صلىاللهعليهوسلم للناس بالحج في حجة الوداع ورجع ، ثم مرض في صفر لعشر بقين منه ، وتوفي صلىاللهعليهوسلم لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول يوم الإثنين ، انتهى ما ذكره رزين عن أبي حاتم.
قلت : وشهر ربيع هذا من الحادية عشرة ، وكان ابتداء مرضه في بيت ميمونة ، وقيل : زينب بنت جحش ، وقيل : ريحانة ، وذكر الخطابي أن ابتداءه يوم الإثنين ، وقيل : السبت ، وقيل : الأربعاء ، وحكى في الروضة قولين في مدته ، فقيل : أربعة عشر ، وهو الذي صدّر به ، وقيل : ثلاثة عشر ، وعليه الأكثر ، وقيل : عشرة ، وبه جزم سليمان التيمي ، ومقتضى ما تقدم أن المدة تزيد على عشرين يوما ، ولم أر من صرح به ، ولا خلاف في أن الوفاة كانت يوم الإثنين ، وكونه من ربيع الأول ، كاد يكون إجماعا ، لكن في حديث ابن مسعود عند البزار : في حادي عشر رمضان ، وكونها في ثاني عشر ربيع الأول هو ما عليه الجمهور ، وذهب جماعة إلى أنها في أوله ، ورواه يحيى عن ابن شهاب ، وقال : حين زاغت الشمس ، وعن أسماء بنت أبي بكر أنه توفي للنصف من ربيع الأول ، وقيل : ثانيه ، ورجحه السهيلي ، واستشكل قول الجمهور بأنهم اتفقوا على أن الوقفة في حجة الوداع كانت الجمعة ، فأول ذي الحجة الخميس ، فمهما فرضت الشهور الثلاثة توامّ أو نواقص أو بعضها ، لم يصح كون الوفاة يوم الإثنين مع كونه ثاني عشر ربيع الأول ، وأجاب البارزي باحتمال وقوع الثلاثة كوامل ، واختلاف أهل مكة والمدينة في هلال ذي الحجة : فرآه أهل مكة ليلة الخميس ، ولم يره أهل المدينة إلا ليلة الجمعة ، فحصلت الوقفة برؤية أهل مكة ، ثم رجعوا إلى المدينة فأرخوا برؤية أهلها ، فكان أول ذي الحجة الجمعة ، وهو وما بعده كوامل ، فأول ربيع الأول الخميس ، وثاني عشرة الاثنين ، ولا يخفى بعد هذا الجواب ، وقد جزم سليمان التيمي أحد الثقات بأن بدء مرضه صلىاللهعليهوسلم كان يوم السبت الثاني والعشرين من صفر ، ومات يوم الإثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول ، ومنه يعلم أن صفر كان ناقصا ، ولا يمكن أن يكون أول صفر السبت إلا إن كان ذو الحجة والحرم ناقصين ؛ فيلزم عليه نقص ثلاثة أشهر متوالية ، وأما على قول من قال : «أول ربيع الأول» ؛ فيكون اثنان ناقصين وواحد كاملا ، وكذا على قول من قال : «للنصف منه».
وقال البدر ابن جماعة : يحمل قول الجمهور لاثنتي عشرة ليلة خلت : أي بأيامها ، فيكون موته في اليوم الثالث عشر ، وتفرض الشهور كوامل ؛ فيصح قول الجمهور ، ويعكر
عليه ما فيه من مخالفة أهل اللسان في قولهم «لاثنتي عشرة» فإنهم لا يفهمون منها إلا مضي الليالي ، وأن ما أرخ بذلك يكون واقعا في الثاني عشر.
قال الحافظ ابن حجر : فالمعتمد قول أبي مخنف أنه في ثاني ربيع الأول ، وكأن سبب غلط غيره تغيير ذلك إلى الثاني عشر ، وتبع بعضهم بعضا في الوهم.
وغسله صلىاللهعليهوسلم علي بوصيته ، والعباس وابنه الفضل يعينانه ، وقثم وأسامة وشقران يصبون الماء ، وكفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة ـ وسحول : بلدة باليمن ـ وعن جعفر بن محمد عن أبيه : كفن في ثوبين صحاريين مما يصنع بعمان من كرسف (١) وبرد حبرة ، وفي الإكليل ورواه يحيى عن علي بن أبي طالب رضياللهعنه : كفن في سبعة أثواب ، وصلّى عليه في حجرته بغير إمام ؛ ونقل الأقشهري عن الحسين بن محمد الصدفي أنه صلىاللهعليهوسلم صلّى عليه في وسط الروضة من مسجده ، ثم حمل إلى بيته ودفن فيه.
قلت : هذا إنما هو معروف في أبي بكر وعمر رضياللهعنهما ، وفي مستدرك الحاكم ومسند البزار بسند ضعيف أنه صلىاللهعليهوسلم أوصى أن يصلوا عليه أرسالا بغير إمام ، ودفن صلىاللهعليهوسلم ليلة الأربعاء ، وقيل : يومها ، وقيل : يوم الثلاثاء بعد أن عرف الموت في أظفاره ، وقال قائلون : ندفنه بمسجده ، وآخرون بالبقيع ، ثم اتفقوا على دفنه ببيته ، فحمل بالفراش ، وحفر له في موضع الفراش ، وروى يحيى عن ابن أبي مليكة أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : ما هلك نبي إلا دفن حيث تقبض روحه ، وأوصى رسول الله صلىاللهعليهوسلم في مرضه بإخراج المشركين من جزيرة العرب كما في الصحيح من حديث ابن عباس أنه صلىاللهعليهوسلم أمر بذلك ، ولفظه : وأمرهم بثلاث ، فقال : «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيرهم» والثالثة إما سكت عنها ، وإما أن قالها فنسيتها. قال سفيان : هذا ـ أي قوله والثالثة إلى آخره ـ من قول سليمان : أي شيخ سفيان ، قال الداودي : الثالثة هي الوصية بالقرآن ، وقال المهلب : بل هي تجهيز جيش أسامة ، وقواه ابن بطال بأن الصحابة لما اختلفوا على أبي بكر في تنفيذ جيش أسامة ، قال لهم أبو بكر : إن النبي صلىاللهعليهوسلم عهد بذلك عند موته.
وقال عياض : يحتمل أن يكون قوله : «لا تتخذوا قبري وثنا» فإنها ثبتت في الموطأ مقرونة بالأمر بإخراج اليهود ، ويحتمل أن يكون ما وقع في حديث أنس أنها قوله : «الصلاة وما ملكت أيمانكم».
__________________
(١) الكرسف : القطن.
والذي أجلى المشركين من جزيرة العرب هو عمر رضياللهعنه ؛ ففي الصحيح من حديث ابن عمر أن عمر بن الخطاب أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز ، وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم لما ظهر على أهل خيبر أراد أن يخرج اليهود منها ، وكانت الأرض لما ظهر عليها لله وللرسول وللمؤمنين ، فسأل اليهود رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يتركهم على أن يكفوا العمل ولهم نصف الثمر ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «نقركم على ذلك ما شئنا» فأقروا حتى أجلاهم عمر في إمارته إلى تيماء وأريحاء.
وفي الصحيح أيضا عن ابن عمر : لما فدع (١) أهل خيبر عبد الله بن عمر قام عمر خطيبا ، فقال : إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان عامل يهود خيبر على أموالهم وقال : نقركم على ما أقركم الله ، وإن عبد الله بن عمر خرج إلى ماله هناك ، فعدي عليه من الليل ، ففدعت يداه ورجلاه ، وليس لنا هناك عدو غيرهم ، هم عدونا وتهمتنا ، وقد رأيت إجلاءهم ، فلما أجمع عمر على ذلك أتاه أحد بني الحقيق ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أتخرجنا وقد أقرنا محمد صلىاللهعليهوسلم؟ وعاملنا على الأموال ، وشرط ذلك لنا ، فقال عمر : أظننت أني نسيت قول رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «كيف بك إذا أخرجت من خيبر تعدو بك قلوصك ليلة بعد ليلة» فقال : كانت هذه هزيلة من أبي القاسم صلىاللهعليهوسلم فقال : كذبت يا عدو الله ، فأجلاهم عمر ، وأعطاهم قيمة ما كان لهم من الثمر مالا وإبلا وعروضا من أقتاب وحبال وغير ذلك.
وظاهر هذا أن عمر رضياللهعنه إنما استند في إجلائهم لهذه القصة.
وروى ابن زبالة عن مالك عن ابن شهاب أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «لا يبقى دينان في جزيرة العرب».
قال ابن شهاب : ففحص عن ذلك عمر بن الخطاب حتى أتاه الثلج (٢) واليقين أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «لا يبقى دينان في جزيرة العرب» فأجلى يهود خيبر ، قال مالك : وقد أجلى عمر بن الخطاب يهود نجران وفدك.
وروى البيهقي من حديث عمر مرفوعا : «لئن عشت إلى قابل لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب» وخرجه مسلم بدون «لئن عشت» وفي مسند أحمد والبيهقي عن أبي عبيدة قال : كان آخر ما تكلم به رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أخرجوا يهود الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب» الحديث.
وروى أحمد بسند جيد عن عائشة قالت : آخر ما عهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن قال : «لا يترك بجزيرة العرب دينان».
__________________
(١) الفدع : عوج في المفاصل كأنها قد فارقت مواضعها ؛ وأكثر ما يكون في رسغ اليد أو القدم.
(٢) أتاه الثلج : الرضى والاطمئنان واليقين.
قال الجويني والقاضي حسين من أصحابنا : الجزيرة هي الحجاز ، والمشهور أن الحجاز بعض الجزيرة.
ولما مات النبي صلىاللهعليهوسلم لم يتفرغ أبو بكر رضياللهعنه لإخراجهم ، فأجلاهم عمر رضياللهعنه وهم زهاء أربعين ألفا ، ولم ينقل أن أحدا من الخلفاء أجلاهم من اليمن مع أنها من الجزيرة ؛ فدل على أن المراد الحجاز فقط.
وحكى أن بعض اليهود أظهر كتابا ، وادعى أنه كتاب النبي صلىاللهعليهوسلم بإسقاط الجزية عن أهل خيبر ، وفيه شهادة الصحابة ؛ فعرض على أبي بكر الخطيب البغدادي فقال : هذا مزور ؛ لأن فيه شهادة معاوية ، وهو أسلم عام الفتح ، فلم يحضر ما جرى ، وفيه شهادة سعد بن معاذ ، وقد مات في بني قريظة بسهم أصابه في الخندق ، وذلك قبل خيبر بسنتين ، وذلك من فوائد علم التاريخ ، والله أعلم.
الباب الرابع
فيما يتعلق بأمور مسجدها الأعظم النبوي ، والحجرات المنيفات ، وما كان مطيفا به من الدور والبلاط ، وسوق المدينة ، ومنازل المهاجرين ، واتخاذ السور ، وفيه سبعة وثلاثون فصلا.
الفصل الأول
في أخذه صلىاللهعليهوسلم لموضع مسجده الشريف ، وكيفية بنائه
تقدم أن ناقته صلىاللهعليهوسلم لما بركت عند باب المسجد قال صلىاللهعليهوسلم : «هذا المنزل إن شاء الله» وفي كتاب يحيى عن الزهري أنها بركت عند مسجد الرسول صلىاللهعليهوسلم وهو يومئذ يصلي فيه رجال من المسلمين ، وكان مربدا (١) لغلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم حين بركت راحلته : هذا إن شاء الله المنزل ، وقال : اللهم أنزلنا منزلا مباركا وأنت خير المنزلين ، قاله أربع مرات.
وروى رزين نحوه عن أنس ، ولفظه : فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «هذا المنزل إن شاء الله» ثم أخذ في النزول فقال : «ربّ أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين» ولم يقل قاله أربعا.
وفي كتاب يحيى عن الزهري أيضا أن المربد كان لسهل وسهيل ، وأنهما كانا في حجر أبي أمامة أسعد بن زرارة ، وأن النبي صلىاللهعليهوسلم قال حين بركت به راحلته : «هذا المنزل إن شاء الله» ثم دعا الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا ، فقالا : بل نهبه لك يا رسول الله ، فأبى أن يقبله هبة حتى ابتاعه منهما ، ثم بناه مسجدا.
قال يحيى تبعا لابن زبالة : وقال بعضهم : كان لغلامين يتيمين لأبي أيوب هما سهل وسهيل ابنا عمرو ، فطلب المربد من أبي أيوب ، فقال أبو أيوب : يا رسول الله المربد ليتيمين ، وأنا أرضيهما ، فأرضاهما ، فأعطاه لرسول الله صلىاللهعليهوسلم فاتخذه مسجدا. وعند ابن إسحاق أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : لمن هذا؟ يعني المربد ، فقال له معاذ بن عفراء : هو لسهل وسهيل ابني عمرو يتيمان لي ، وسأرضيهما منه ، فاتخذه مسجدا ، فأمر به أن يا بني. ويؤيده أنه وقع في مرسل ابن سيرين عند أبي عبيد في الغريب أنهما كانا في حجر معاذ بن عفراء. والذي في صحيح البخاري أنهما كانا في حجر أسعد بن زرارة ، كذا هو في رواية الجميع إلا أبا ذر ، ففي روايته سعد بإسقاط الألف ، ورواية الجماعة هي الوجه ؛ إذ كان أسعد من السابقين إلى الإسلام ، وهو المكنى بأبي أمامة ، وأما أخوه سعد فتأخر إسلامه.
__________________
(١) المربد : موقف الإبل ومحبسها. و ـ المحبس.
وقد يجمع باشتراك من ذكر في كونهما كانا في حجورهم ، أو بانتقال ذلك بعد أسعد إلى من ذكر واحدا بعد واحد ، سيما وقد روى ابن زبالة عن ابن أبي فديك قال : سمعت بعض أهل العلم يقولون : إن أسعدا توفي قبل أن يا بني المسجد ، فابتاعه النبي صلىاللهعليهوسلم من ولي سهل وسهيل.
وروى ابن زبالة في خبر : كان مسجد النبي صلىاللهعليهوسلم لسهل وسهيل ابني أبي عمرو من بني غنم ، فأعطياه رسول الله صلىاللهعليهوسلم فبناه مسجدا.
وفي الصحيح أن النبي صلىاللهعليهوسلم أرسل إلى ملأ بني النجار بسبب موضع المسجد ، فقال : يا بني النجار ، ثامنوني (١) بحائطكم هذا ، فقالوا : لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله. وعند الإسماعيلي «إلا من الله» وهو ظاهر في أنهم لم يأخذوا له ثمنا.
وفي رواية في باب الهجرة من الصحيح بعد ذكر تأسيس مسجد قباء : ثم ركب رسول الله صلىاللهعليهوسلم راحلته ، فسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد الرسول بالمدينة ، وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين ، وكان مربدا للتمر لسهل وسهيل غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم حين بركت به راحلته : هذا إن شاء الله المنزل ، ثم دعا الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا ، فقالا : بل نهبه لك يا رسول الله ، فأبى أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما ، ثم بناه مسجدا.
ووقع في رواية ابن عيينة : فكلم عمهما ـ أي الذي كانا في حجره ـ أن يبتاعه منهما ، فطلبه منهما فقالا : ما تصنع به؟ فلم يجد بدا من أن يصدقهما ، فأخبرهما أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أراده ، فقالا : نحن نعطيه إياه ، فأعطياه رسول الله صلىاللهعليهوسلم فبناه ، أخرجه الجندي. وطريق الجمع بين ذلك ـ كما أشار إليه الحافظ ابن حجر ـ أنهم لما قالوا لا نطلب ثمنه إلا إلى الله سأل عن من يختص بملكه منهم ، فعينوا له الغلامين ، فابتاعه منهما أو من وليهما أن كانا غير بالغين. وحينئذ فيحتمل أن الذين قالوا : «لا نطلب ثمنه إلا إلى الله» تحملوا عنه للغلامين بالثمن ، فقد نقل ابن عقبة أن أسعد عوّض الغلامين عنه نخلا له في بني بياضة. وتقدم أن أبا أيوب قال : هو ليتيمين لي ، وأنا أرضيهما ، فأرضاهما ، وكذلك معاذ بن عفراء ، فيكون ذلك بعد الشراء. ويحتمل أن كلا من أسعد وأبي أيوب وابن عفراء أرضى اليتيمين بشيء ، فنسب ذلك لكل منهم. وقد روي أن اليتيمين امتنعا من قبول عوض ، فيحمل ذلك على بدء الأمر ، لكن يشكل على هذا ما نقل عن التاريخ الكبير لابن سعد أن الواقدي قال : إنه صلىاللهعليهوسلم اشتراه من ابني عفراء بعشرة دنانير ذهبا ، دفعها أبو بكر الصديق ، وقد يقال : إن الشراء وقع من ابني عفراء لأنهما كانا وليين لليتيمين ، ورغب أبو بكر في
__________________
(١) ثامنوني بحائطكم : ساوموني بحديقتكم.
الخير كما رغب فيه أسعد ، وأبو أمامة ومعاذ بن عفراء ، فدفع لهم أبو بكر العشرة ، ودفع كل من أولئك ما تقدم ، ولم يقبله صلىاللهعليهوسلم بلا ثمن أولا لكونه لليتيمين ، لكن ابن سيد الناس نقل عن البلاذري أنه قال عقب كلامه الآتي : فعرض ـ يعني أسعد ـ على النبي صلىاللهعليهوسلم أن يأخذها ويغرم لليتيمين ثمنها ، فأبى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ذلك ، وابتاعها منه بعشرة دنانير أداها من مال أبي بكر ، انتهى ؛ فيحتمل أنه صلىاللهعليهوسلم أخذ أولا بعض المربد ، ثم أخذ بعضا آخر ؛ لما سيأتي من أنه زاد فيه مرة أخرى ؛ فليست القصة متحدة. ورأيت بخط الأقشهري في كلام نقله عن أبي جعفر الداودي عن عبد الله بن نافع صاحب مالك أن المسجد كان مربدا لابني عفراء.
قلت : يحتمل نسبته إليهما لولايتهما على اليتيمين ، أو أن لليتيمين أما تسمى عفراء ، وأما ابنا عفراء المشهوران فهما معاذ ومعوذ ابنا الحارث ، والذي في الصحيح من تسمية الغلامين سهل وسهيل أصح ، والله أعلم.
وفي كتاب يحيى ما يقتضي أن أسعد بن زرارة كان قد بنى بهذا المربد مسجدا قبل مسجد الرسول صلىاللهعليهوسلم ؛ فإنه قال : حدثنا بكر ثنا محمد بن عمر ثنا معاذ بن محمد عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة قال : سمعت أم سعد بنت سعد بن الربيع تقول : أخبرتني النوار بنت مالك أم زيد بن ثابت أنها رأت أسعد بن زرارة قبل أن يقدم رسول الله صلىاللهعليهوسلم يصلي بالناس الصلوات الخمس ، ويجمع بهم في مسجد بناه في مربد سهل وسهيل ابني رافع بن أبي عمرو بن عائذ بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار ، قالت : فأنظر إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم لما قدم صلّى بهم في ذلك المسجد وبناه ، فهو مسجده اليوم.
ونقل ابن سيد الناس عن ابن إسحاق أن الناقة بركت على باب مسجده صلىاللهعليهوسلم وهو يومئذ ليتيمين من بني مالك بن النجار في حجر معاذ بن عفراء سهل وسهيل ابني عمرو ، ثم قال : وذكر أحمد بن يحيى البلاذري ، قال : فنزل رسول الله صلىاللهعليهوسلم عند أبي أيوب ، ووهبت له الأنصار كل فضل كان في خططها ، وقالوا : يا نبي الله إن شئت فخذ منازلنا ، فقال لهم خيرا ، قالوا : وكان أبو أمامة أسعد بن زرارة يجمّع بمن يليه في مسجد له ، فكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يصلي فيه ، ثم إنه سأل أسعد أن يبيعه أرضا متصلة بذلك المسجد كانت في يديه ليتيمين في حجره يقال لهما سهل وسهيل ابنا رافع بن أبي عمرو بن عائذ بن ثعلبة بن غنم ، كذا نسبهما البلاذري ، وهو يخالف ما سبق عن ابن إسحاق وغيره ، والأول أشهر ، انتهى ، وتشهيره للأول ـ وهو كون الغلامين ابني عمرو ـ تقدم ما يقتضيه ، لكن تقدم أيضا ما يقتضي الثاني ، وهو الأرجح فقدم صرح ابن حزم في الجمهرة ، ورواه ابن زبالة عن ابن شهاب ، وكذا ذكره ابن عبد البر. وذكر السهيلي فيما نقله عنه الذهبي ما يحصل به الجمع
ويرفع الخلاف إلا أن فيه بعض مخالفة لما تقدم ، فقال : سهل بن عمرو الأنصاري النجاري أخو سهيل صاحب المربد ، وكانا في حجر أسعد بن زرارة ، ينسبان إلى جدهما ، وهما ابنا رافع بن عمرو بن أبي عمرو بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن النجار ، انتهى. فعلى هذا يكون سقط من الرواية المتقدمة ابن عمرو بين رافع وأبي عمرو ، وتصحف عبيد بعائذ ، والله أعلم.
وقال المجد : ذكر البيهقي المسجد فقال : كان جدارا مجدرا ليس عليه سقف ، وقبلته إلى القدس ، وكان أسعد بن زرارة بناه ، وكان يصلي بأصحابه فيه ، ويجمّع بهم فيه الجمعة قبل مقدم رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالنخل التي في الحديقة وبالغرقد أن يقطع ، وكان فيه قبور جاهلية ، فامر بها فنبشت ، وأمر بالعظام أن تغيّب ، وكان في المربد ماء مسحل فسيره حتى ذهب ـ والمسحل : ممشى ماء المطر ، انتهى. ولم أره في المعرفة للبيهقي ، ولا في السنن الكبير ، ولا في الدلائل ، والمعروف أنه كان مربدا للتمر : أي يجفّف فيه التمر ، وكأنه سماه حديقة لاشتماله على نخل ؛ ففي الصحيحين أن النبي صلىاللهعليهوسلم «لما أخذه كان فيه نخل وقبور المشركين وخرب ، فأمر النبي صلىاللهعليهوسلم بالنخل فقطع ، وبقبور المشركين فنبشت ، وبالخرب فسويت ، فصفوا النخل قبلة له ، وجعلوا عضادتيه حجارة» وقد قدمنا الكلام على قطع هذا النخل في أحكام الحرم ، وكأن معنى صف النخل قبلة له جعلها سواري في جهة القبلة ليسقف عليها كما في الصحيح «كان المسجد على عهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم مبنيا باللبن ، وسقفه الجريد ، وعمده خشب النخل» وسيأتي فيما أسند يحيى أنه كان في جوف الأرض ـ أي أرض المربد ـ قبور جاهلية ، فامر رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالقبور فنبشت ، فرمى بعظامها ، فأمر بها فغيبت ، وكان في المربد ماء مستنجل (١) فسيره حتى ذهب» ووقع في رواية عطاف بن خالد عند ابن عائذ أنه صلىاللهعليهوسلم «صلى فيه وهو عريش اثني عشر يوما ، ثم بناه وسقفه» وسيأتي ما يشهد له.
وأسند ابن زبالة عن أنس قال : بناه رسول الله صلىاللهعليهوسلم ـ يعني المسجد ـ أول ما بناه بالجريد ، قال : وإنما بناه باللبن بعد الهجرة بأربع سنين.
قلت : وهو واه أو مؤول ، والمعروف خلافه.
وأسند أيضا عن شهر بن حوشب قال : لما أراد رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يحجر بناء المسجد قيل له : عريش كعريش أخيك موسى سبع أذرع ، وأسنده يحيى من غير طريقه عن شهر أيضا بلفظ : لما أراد رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يا بني المسجد ، وأورده رزين بلفظ : لما أراد
__________________
(١) استنجل الماء : صفّى ماء النّزّ من أرضه.
رسول الله صلىاللهعليهوسلم بناء المسجد قال : قيل لي : عريش كعريش أخيك موسى سبعة أذرع ، ثم الأمر أعجل من ذلك. وأسند يحيى عن الحسن قال : لما قدم النبي صلىاللهعليهوسلم المدينة قال : ابنوا لي مسجدا عريشا كعريش موسى ، ابنوه لنا من لبن. وأورده رزين بلفظ : لما أخذ في بناء المسجد قال : ابنوا لي عريشا كعريش موسى ، ثمامات وخشبات وظلة كظلة موسى ، والأمر أعجل من ذلك ، قيل : وما ظلة موسى؟ قال : كان إذا قام فيه أصاب رأسه السقف ، وعمل فيه بنفسه صلىاللهعليهوسلم ترغيبا لهم ؛ ففي الرواية المتقدمة في الصحيح عقب قوله : «حتى ابتاعه منهما» وطفق رسول الله صلىاللهعليهوسلم ينقل معهم اللبن في ثيابه ، ويقول وهو ينقل اللبن :
هذا الحمال لا حمال خيبر |
|
هذا أبرّ ربّنا وأطهر |
ويقول :
اللهم إنّ الأجر أجر الآخرة |
|
فارحم الأنصار والمهاجرة |
قال ابن شهاب : فتمثل صلىاللهعليهوسلم بشعر رجل من المسلمين ، ولم يبلغنا في الأحاديث أنه تمثل ببيت شعر تام غير هذه الأبيات ، زاد ابن عائذ في آخره : التي كان يرتجزهن وهو ينقل اللبن لبناء المسجد.
والحمال مخفّف بمهملة مكسورة : أي هذا المحمول من اللبن أبر عند الله من حمال خيبر ، أي ذات التمر والزبيب. وقوله «ربّنا» أي يا ربنا. وأسند يحيى عن الزهري في معنى قوله «هذا الحمال لا حمال خيبر» قال : كانت يهود إذا صرمت نخلها جاءتهم الأعراب بركائبهم فيحملون لهم عروة بعروة إلى القرى ، فيبيعون ، يكون لهذا نصف الثمن ولهؤلاء نصفه ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم ذلك. وفي الرواية المتقدمة في الصحيح عقب قوله : «وجعلوا عضادتيه حجارة» فجعلوا ينقلون ذلك الصخر وهم يرتجزون ورسول الله صلىاللهعليهوسلم معهم ، يقولون :
اللهم لا خير إلا خير الآخرة |
|
فانصر الأنصار والمهاجرة |
ويذكر أن هذا البيت لعبد الله بن رواحة.
وعن الزهري : بلغني أن الصحابة كانوا يرتجزون به ، وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم ينقل معهم ويقول:
اللهم لا خير إلا خير الآخرة |
|
فارحم المهاجرين والأنصار |
وكان لا يقيم الشعر ، قال الله تعالى : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ)[يس : ٦٩]
وفعل ذلك احتسابا وترغيبا في الخير ؛ ليعمل الناس كلهم ، ولا يرغب أحد بنفسه عن نفس رسول الله صلىاللهعليهوسلم ولهذا أسند ابن زبالة عن مجمع بن يزيد أنه قال عقب ذلك : وعملوا فيه ودأبوا ، فقال قائل من المسلمين :
لئن قعدنا والنّبيّ يعمل |
|
ذاك إذا للعمل المضلّل |
وأسند أيضا أن علي بن أبي طالب كان يرتجز وهو يعمل فيه يقول :
لا يستوي من يعمر المساجدا |
|
يدأب فيها قائما وقاعدا |
ومن يرى عن الغبار حائدا |
وأسند هو أيضا ويحيى من طريقه والمجد ، ولم يخرجه ، عن أم سلمة رضياللهعنها قالت : بنى رسول الله صلىاللهعليهوسلم مسجده ، فقرب اللبن وما يحتاجون إليه ، فقام رسول الله صلىاللهعليهوسلم فوضع رداءه ، فلما رأى ذلك المهاجرون الأولون والأنصار ألقوا أرديتهم وأكسيتهم ، وجعلوا يرتجزون ويعملون ويقولون :
لئن قعدنا والنبيّ يعمل
البيت.
وكان عثمان بن عفان رضياللهعنه رجلا نظيفا متنظفا ، وكان يحمل اللبنة فيجافي بها عن ثوبه ، فإذا وضعها نفض كمه ، ونظر إلى ثوبه ، فإن أصابه شيء من التراب نفضه ، فنظر إليه علي بن أبي طالب فأنشأ يقول :
لا يستوي من يعمر المساجدا
الأبيات المتقدمة.
فسمعها عمار بن ياسر ، فجعل يرتجز بها وهو لا يدري من يعني بها ، فمر بعثمان فقال : يا ابن سمية ، ما أعرفني بمن تعرض ، ومعه جريدة فقال : لتكفن أو لأعترضن بها وجهك ، فسمعه النبي صلىاللهعليهوسلم وهو جالس في ظل بيتي ، يعني أم سلمة ، وفي كتاب يحيى «في ظل بيته» ـ فغضب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ثم قال : إن عمار بن ياسر جلدة ما بين عيني وأنفي ، فإذا بلغ ذلك من المرء فقد بلغ ، ووضع يده بين عينيه ، فكف الناس عن ذلك ، ثم قالوا لعمار : إن النبي صلىاللهعليهوسلم قد غضب فيك ، ونخاف أن ينزل فينا القرآن ، فقال : أنا أرضيه كما غضب ، فقال : يا رسول الله مالي ولأصحابك؟ قال : مالك وما لهم؟ قال : يريدون قتلي ، يحملون لبنة لبنة ويحملون علي اللبنتين والثلاث ، فأخذ بيده فطاف به في المسجد ، وجعل يمسح وفرته (١) بيده من التراب ويقول : يا ابن سمية لا يقتلك أصحابي ، ولكن تقتلك الفئة الباغية.
__________________
(١) الوفرة : الشعر المجتمع على الرأس ، أو ما جاوز شحمة الأذن.
وقد ذكر ابن إسحاق القصة بنحوه كما في تهذيب ابن هشام ، قال : وسألت غير واحد من أهل العلم بالشعر عن هذا الرجز فقالوا : بلغنا أن علي بن أبي طالب ارتجز به ، فلا ندري أهو قائله أم غيره ، وإنما قال ذلك علي رضياللهعنه مطايبة ومباسطة كما هو عادة الجماعة إذا اجتمعوا على عمل ، وليس ذلك طعنا.
وأخرج ابن أبي شيبة من مرسل أبي جعفر الخطمي قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يا بني المسجد وعبد الله بن رواحة يقول :
أفلح من يعالج المساجدا
فيقولها رسول الله صلىاللهعليهوسلم فيقول ابن رواحة :
يتلو القرآن قائما وقاعدا
فيقولها رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
وفي الصحيح في ذكر بناء المسجد : وكنا نحمل لبنة لبنة وعمار لبنتين لبنتين ، فرآه النبي صلىاللهعليهوسلم فجعل ينفض التراب عنه ويقول : «ويح عمار تقتله الفئة الباغية ، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار» وقال : يقول عمار : أعوذ بالله من الفتن.
وأسند ابن زبالة ويحيى عن مجاهد قال : رآهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهم يحملون الحجارة على عمار ، وهو يا بني المسجد ، فقال : «ما لهم ولعمار؟ يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار ، وذلك فعل الأشقياء الأشرار».
وأسند الثاني أيضا عن أم سلمة قالت : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأصحابه يبنون المسجد ، فجعل أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم يحمل كل رجل منهم لبنة لبنة وعمار بن ياسر لبنتين لبنة عنه ولبنة عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقام إليه رسول الله صلىاللهعليهوسلم فمسح ظهره وقال : «يا ابن سمية لك أجران وللناس أجر ، وآخر زادك من الدنيا شربة من لبن ، وتقتلك الفئة الباغية».
وفي الروض للسهيلي : أن معمر بن راشد روى ذلك في جامعه بزيادة في آخره ، وهي : فلما قتل يوم صفين دخل عمرو على معاوية رضياللهعنهما فزعا فقال : قتل عمار ، فقال معاوية : فما ذا؟ فقال عمرو : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «تقتله الفئة الباغية» فقال معاوية : دحضت (١) في بولك ، أنحن قتلناه؟ إنما قتله من أخرجه.
وروى البيهقي في الدلائل عن عبد الرحمن السلمي أنه سمع عبد الله بن عمرو بن العاص يقول لأبيه عمرو : قد قتلنا هذا الرجل ، وقد قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم فيه ما قال ، قال : أي رجل؟ قال : عمار بن ياسر ، أما تذكر يوم بنى رسول الله صلىاللهعليهوسلم المسجد ؛ فكنا نحمل
__________________
(١) دحضت : زلقت.
لبنة لبنة ، وعمار يحمل لبنتين لبنتين ، فمر على رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : «تحمل لبنتين لبنتين وأنت ترحض (١) ، أما إنك ستقتلك الفئة الباغية ، وأنت من أهل الجنة» فدخل عمرو على معاوية فقال : قتلنا هذا الرجل وقد قال فيه رسول الله صلىاللهعليهوسلم ما قال ، فقال : اسكت ، فوالله ما تزال تدحض في بولك ، أنحن قتلناه؟ إنما قتله علي وأصحابه ، جاءوا به حتى ألقوه بيننا.
قلت : وهو يقتضي أن هذا القول لعمار كان في البناء الثاني للمسجد ؛ لأن إسلام عمرو كان في الخامسة كما سبق.
وأسند ابن زبالة عن حسن بن محمد الثقفي قال : بينا رسول الله صلىاللهعليهوسلم يا بني في أساس مسجد المدينة ومعه أبو بكر وعمر وعثمان رضياللهعنهم ، فمر به رجل فقال : يا رسول الله ما معك إلا هؤلاء الرهط؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : هؤلاء ولاة الأمر من بعدي.
وروى أبو يعلى برجال الصحيح إلا أن التابعي لم يسم عن عائشة رضياللهعنها قالت : لما أسس رسول الله صلىاللهعليهوسلم مسجد المدينة جاء بحجر فوضعه ، وجاء أبو بكر بحجر فوضعه ، وجاء عمر بحجر فوضعه ، وجاء عثمان بحجر فوضعه ، قالت : فسئل رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن ذلك ، فقال : هذا أمر الخلافة من بعدي.
وتقدم في تأسيس مسجد قباء نحو ذلك من غير ذكر أمر الخلافة.
وقال الأقشهري في روضته : روى صاحب السيرة ولم يسمه أن جبريل عليهالسلام أتى النبي صلىاللهعليهوسلم وقال : يا محمد ، إن الله يأمرك أن تبني له بيتا ، وأن ترفع بنيانه بالرهص والحجارة ـ والرهص : الطين الذي يتخذ منه الجدار ـ فقال : كم أرفعه يا جبريل؟ قال : سبعة أذرع ، وقيل : خمسة أذرع ، ولما ابتدأ في بنائه أمر بالحجارة وأخذ حجرا فوضعه بيده أولا ، ثم أمر أبا بكر فجاء بحجر فوضعه إلى جنب حجر النبي صلىاللهعليهوسلم ثم عمر كذلك ، ثم عثمان كذلك ، ثم عليا ، انتهى ما ذكره الأقشهري ومن خطه نقلته.
وروى البيهقي في الدلائل عن سفينة مولى رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : لما بنى النبي صلىاللهعليهوسلم المسجد وضع حجرا ، ثم قال : ليضع أبو بكر حجره إلى جنب حجري ، ثم ليضع عمر حجره إلى جنب حجر أبي بكر ، ثم قال : ليضع عثمان حجره إلى جنب حجر عمر ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «هؤلاء الخلفاء من بعدي».
وأسند يحيى عن أسامة بن زيد عن أبيه قال : خرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم ومعه حجر ، فلقيه أسيد بن حضير فقال : يا رسول الله أعطنيه ، فقال : اذهب فاحتمل غيره ، فلست بأفقر إليه مني.
__________________
(١) رحض المحموم : عرق حتى كأنه غسل جسده.
وعن مكحول قال : لما كثر أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم قالوا : اجعل لنا مسجدا ، فقال : خشبات وثمامات ، عريش كعريش أخي موسى صلوات الله عليه ، الأمر أعجل من ذلك.
ورواه رزين وزاد فيه : فطفقوا ينقلون اللبن وما يحتاجون إليه ورسول الله صلىاللهعليهوسلم ينقل معهم ، فلقيه رجل ومع رسول الله صلىاللهعليهوسلم لبنة فقال : أعطنيها يا رسول الله ، فقال : اذهب فخذ غيرها ، فلست بأفقر إلى الله مني.
ونقل المجد عن رواية محمد بن سعد نحوه ، قال : وجاء رجل يحسن عجن الطين ، وكان من حضرموت ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : رحم الله امرأ أحسن صنعته ، وقال له : الزم أنت هذا الشغل فإني أراك تحسنه.
وفي كتاب يحيى من طريق ابن زبالة عن الزهري : كان رجل من أهل اليمامة يقال له طلق من بني حنيفة يقول : قدمت على النبي صلىاللهعليهوسلم وهو يا بني مسجده ، والمسلمون يعملون فيه معه ، وكنت صاحب علاج وخلط طين ، فأخذت المسحاة أخلط الطين والنبي صلىاللهعليهوسلم ينظر إلي ويقول : إن هذا الحنفي لصاحب طين.
وروى أحمد عن طلق بن علي قال : بنيت المسجد مع النبي صلىاللهعليهوسلم فكان يقول : قربوا اليمامي من الطين فإنه أحسنكم له مسكا وأشدكم منكبا.
وعنه أيضا قال : جئت إلى النبي صلىاللهعليهوسلم وأصحابه يبنون المسجد ، قال : فكأنه لم يعجبه عملهم ، قال : فأخذت المسحاة فخلطت بها الطين ، فكأنه أعجبه أخذي المسحاة وعملي فقال : دعوا الحنفي والطين فإنه من أصنعكم للطين.
وأسند ابن زبالة ويحيى من طريقه في أثناء كلام عن ابن شهاب في قصة أخذ المربد ، قال : فبناه مسجدا ، وضرب لبنه من بقيع الخبخبة ناحية بئر أبي أيوب بالمناصع والخبخبة : شجرة كانت تنبت هناك.
وأسند يحيى من طريق عبد العزيز بن عمر عن يزيد بن السائب عن خارجة بن زيد بن ثابت قال : بنى رسول الله صلىاللهعليهوسلم مسجده سبعين في ستين ذراعا أو يزيد ، ولبّن لبنه من بقيع الخبخبة ، وجعله جدارا ، وجعل سواريه خشبا شقة شقة ، وجعل وسطه رحبة ، وبنى بيتين لزوجتيه.
قال عبد العزيز : فسألت زيدا : أين بقيع الخبخبة؟ قال : بين بئر أبي أيوب وتلك الناحية ، وهذا بقيع الغرقد لبقيع المقبرة ، وقال : سألت عبد العزيز عن بقيع الخبخبة فقال : هي ـ أي الخبخبة ـ يسار بقيع الغرقد حين تقطع الطريق وتلقاها عند مسجد يحيى ، فقلت : ومن يحيى صاحب المسجد الذي ذكرت؟ فقال : يحيى بن طلحة بن عبيد الله.
قلت : بقيع الخبخبة لا يعرف اليوم كما ذكره شيخ مشايخنا الزين المراغي ، لكن
الخارج من درب البقيع إذا مشى في البقيع لجهة مشهد سيدنا عثمان بن عفان رضياللهعنه وصار مشهد سيدنا إبراهيم بن رسول الله صلىاللهعليهوسلم على يمينه يكون على يساره طريق تمر بطرف الكومة ، فإذا سلكها انتهى بعد رأس العطفة التي على يمينه إلى حديقة تعرف قديما بأولاد الصيفي بها بئر ينزل إليها بدرج تعرف ببئر أيوب قديما وحديثا ، وعن يسار الخارج من درب البقيع أيضا إذا سلك طريق سيدنا حمزة في شامي الحديقة المعروفة بالرومية حديقة تعرف بالرباطية وقف رباط اليمنة بها بئر. قال المراغي : تعرف ببئر أيوب أيضا ، يتبرك بها الناس ، وهي بالقرب من الحديقة المعروفة بدار فحل ، وهي عن يسار بقيع الغرقد أيضا ، قال الزين المراغي : ولعلها أقرب إلى المراد.
قلت : والذي يظهر أن الأولى هي المراد ، لما سنبينه في الآبار.
وفي كتاب رزين ما لفظه : عن جعفر بن محمد عن أبيه قال : كان بناء مسجد رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالسميط لبنة على لبنة ، ثم بالسعيدة لبنة ونصف أخرى ، ثم كثروا فقالوا : يا رسول الله لو زيد فيه ، فبنى بالذكر والأنثى ، وهي لبنتان مختلفتان ، وكانوا رفعوا أساسه قريبا من ثلاثة أذرع بالحجارة ، وجعلوا طوله مما يلي القبلة إلى مؤخرة مائة ذراع ، وكذا في العرض ، وكان مربعا ، وفي رواية جعفر : ولم يسطح ، فشكوا الحر فجعلوا خشبه وسواريه جذوعا ، وظللوا بالجريد ثم بالخصف ، فلما وكف (١) عليهم طينوه بالطين ، وجعلوا وسطه رحبة ، وكان جداره قبل أن يظلل قامة وشيئا ، انتهى. والظاهر أنه ليس جميعه من كلام جعفر ؛ بدليل قوله في الأثناء «وفي رواية جعفر».
وقد ذكر ابن زبالة ويحيى من غير طريقه كلام جعفر متمحضا فأسندا عنه أن النبي صلىاللهعليهوسلم كان بناء مسجده بالسميط لبنة لبنة ، ثم إن المسلمين كثروا فبناه بالسعيدة ، فقالوا : يا رسول الله لو أمرت من يزيد فيه ، فقال : نعم ، فأمر به فزيد فيه ، وبنى جداره بالأنثى والذكر ، ثم اشتد عليهم الحر فقالوا : يا رسول الله لو أمرت بالمسجد فظلل ، قال : نعم ، فأمر به فأقيمت فيه سواري من جذوع النخل ، ثم طرحت عليها العوارض (٢) والخصف والإذخر (٣) ، فعاشوا فيه ، وأصابتهم الأمطار ، فجعل المسجد يكف عليهم ، فقالوا : يا رسول الله لو أمرت بالمسجد فطيّن ، فقال : لا ، عريش كعريش موسى ، فلم يزل كذلك
__________________
(١) وكف سطح البيت : قطر بالماء.
(٢) العوارض : قطع الخشب. الخصف : جلة تعمل من الخوص ليحفظ فيها التمر.
(٣) الإذخر : حشيشة تسقف بها البيوت فوق الخشب ولها رائحة طيبة.
حتى قبض رسول الله صلىاللهعليهوسلم وكان جداره قبل أن يظلل قامة ، فكان إذا فاء الفيء ذراعا وهو قدمان يصلي الظهر ، فإذا كان ضعف ذلك صلّى العصر ، ثم نقلا عنه تفسير السميط والسعيدة والأنثى والذكر بما تقدم ، ولم يذكرا ذرعا.
وفي الإحياء عن الحسن مرسلا : لما أراد صلىاللهعليهوسلم أن يا بني مسجد المدينة أتاه جبريل فقال : ابنه سبعة أذرع طولا في السماء ، ولا تزخرفه ، ولا تنقشه ، انتهى.
وتقدم فيما نقله الأقشهري عن صاحب السيرة عن جبريل عليهالسلام في ارتفاعه سبعة أذرع ، وقيل : خمسة.
وأسند يحيى عن أسامة بن زيد عن أبيه قال : خرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم ومعه حجر ، فلقيه أسيد بن حضير ، وذكر ما قدمناه ، ثم قال : قال ـ يعني زيدا ـ ورفعوا الأساس قريبا من ثلاثة أذرع على الأرض بالحجارة ، وكان في جوف الأرض قبور جاهلية ، فأمر بالقبور فنبشت فرمى بعظامها ، وأمر بها فغيبت ، وكان في المربد ماء مستنجل فسربه حتى ذهب ، وكان الذين أسسوا المسجد جعلوا طوله مما يلي القبلة إلى مؤخره مائة ذراع ، وفي الجانبين الآخرين مثل ذلك فهو مربع ، ويقال : إنه كان أقل من مائة ذراع ، وجعل قبلته إلى بيت المقدس ، وجعل له ثلاثة أبواب : باب في مؤخره ، أي وهو في جهة القبلة اليوم ، وباب عاتكة الذي يدعى باب عاتكة ويقال باب الرحمة ، والباب الذي كان يدخل منه رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو باب آل عثمان اليوم ، وهذان البابان لم يغيرا بعد أن صرفت القبلة ، ولما صرفت القبلة سد النبي صلىاللهعليهوسلم الباب الذي كان خلفه وفتح هذا الباب ، وحذاء هذ الباب ـ أي ومحاذيه ـ هذا الباب الذي سد. وعبر ابن النجار عن ذلك بقوله : ولما صرفت القبلة سد الباب الذي كان خلفه وفتح بابا حذاءه. قال المجد : أي تجاهه ، انتهى.
وذكر الأقشهري في خبر عن ابن عمر ما يخالف هذا ، فإنه قال : وعن عبد الله بن عمر قال : كان مسجد رسول الله صلىاللهعليهوسلم في زمانه من اللبن ، وسقفه من غصن النخل ، وله ثلاثة أبواب : باب في مؤخره ، وباب عاتكة وهو باب الرحمة ، والباب الذي كان يدخل منه وهو باب عثمان ، وهو الذي يسمى اليوم باب جبريل ، ولما صرفت القبلة سد الباب الذي خلفه وفتح الباب الآخر ، وهو الذي يسمى باب النساء ، انتهى. وهو غريب ، ولعل قوله : «وهو الذي يسمى باب النساء» من تصرفه وفهمه في معنى الخبر ، ولذلك أورد عقبه حديث أبي داود مرفوعا «لو تركنا هذا الباب للنساء» لكن أبو داود بيّن أن الأصح أنه من قول عمر كما سيأتي ، وعلى ما ذكره فلم يجعل للمسجد بعد التحويل بابا خلفه ، وباب عن يمين المصلى ، وباب عن يسار المصلى ، ثم انتهوا إلى البناء باللبن ، فجعل رسول الله صلىاللهعليهوسلم يحمل معهم اللبن في ثيابه ويقول :
هذا الحمال لا حمال خيبر
الرجز المتقدم.
وروى أحمد عن أبي هريرة أنهم كانوا يحملون اللبن إلى بناء المسجد ورسول الله صلىاللهعليهوسلم معهم ، قال : فاستقبلت رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو عارض لبنة على بطنه ، فظننت أنها شقت عليه ، فقلت : ناولنيها يا رسول الله ، قال : خذ غيرها يا أبا هريرة فإنه لا عيش إلا عيش الآخرة.
زيادة النبي في مسجده
قلت : وهذا في البناء الثاني ، أي لأن أبا هريرة لم يحضر البناء الأول ؛ لأن قدومه عام فتح خيبر.
وأسند ابن زبالة من طريق ابن جريج عن جعفر بن عمرو قال : كان المربد لسهل وسهيل ابني عمرو فأعطياه رسول الله صلىاللهعليهوسلم فبناه ، وأعان أصحابه أو بعضهم بنفسه في عمله ، وكان علي بن أبي طالب يرتجز وهو يعمل فيه ، قال : وبناه النبي صلىاللهعليهوسلم مرتين : بناه حين قدم أقل من مائة في مائة ، فلما فتح الله عليه خيبر بناه وزاد عليه مثله في الدور.
وروى الطبراني بإسناد فيه ضعيف عن أبي المليح عن أبيه قال : قال النبي صلىاللهعليهوسلم لصاحب البقعة التي زيدت في مسجد المدينة ـ وكان صاحبها من الأنصار ـ فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «لك بها بيت في الجنة» قال : لا ، فجاء عثمان فقال له : «لك بها عشرة آلاف درهم» فاشتراها منه ، ثم جاء عثمان إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : يا رسول الله اشتر مني البقعة التي اشتريتها من الأنصاري ، فاشتراها منه ببيت في الجنة ، فقال عثمان : إني اشتريتها بعشرة آلاف درهم ، فوضع النبي صلىاللهعليهوسلم لبنة ، ثم دعا أبا بكر فوضع لبنة ، ثم دعا عمر فوضع لبنة ، ثم جاء عثمان فوضع لبنة ، ثم قال للناس : «ضعوا» فوضعوا.
وروى الترمذي وحسّنه في حديث قصة إشراف عثمان على الناس يوم الدار عن ثمامة بن حزن القشيري أن عثمان رضياللهعنه قال : أنشدكم بالله وبالإسلام هل تعلمون أن المسجد ضاق بأهله فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : من يشتري بقعة آل فلان فيزيدها في المسجد بخير له منها في الجنة؟ فاشتريتها من صلب مالي ، فأنتم اليوم تمنعونني أن أصلي فيها ركعتين ، قالوا : اللهم نعم ، الحديث ، وأخرجه الدارقطني أيضا ، وكذا أحمد بنحوه.
وأخرجا أيضا حديثا طويلا عن الأحنف بن قيس فيه : أن عثمان رضياللهعنه قال : أهاهنا علي؟ قالوا : نعم ، قال : أهاهنا طلحة؟ قالوا : نعم ، قال : أنشدكم بالله الذي لا إله