وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى - ج ١

نور الدين علي بن أحمد السّمهودي

وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى - ج ١

المؤلف:

نور الدين علي بن أحمد السّمهودي


المحقق: خالد عبد الغني محفوظ
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3818-9
الصفحات: ٢٩٤

وروى البزار عن جابر قال : «حرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة بريدا من نواحيها».

وفي الأوسط للطبراني ـ وفيه ضعيف ـ عن كعب بن مالك قال : «حرّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الشجر بالمدينة بريدا في بريد ، وأرسلني فأعلمت على الحرم : على شرف ذات الحبيش ، وعلى شريب ، وعلى أشراف مخيض».

ورواه ابن النجار بلفظ : «حرّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة بريدا في بريد ، وأرسلني فأعلمت على الحرم : على شرف ذات الجليس ، وعلى مشيرب ، وعلى أشراف المجتهر ، وعلى تيم» ورواه ابن زبالة بهذا اللفظ ، إلا أنه أسقط أشراف المجتهر ، وأبدل تيم بثيب ، وزاد «وعلى الحفياء وعلى ذي العشيرة».

وروي أيضا عن كعب بن مالك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «حمى الشجر ما بين المدينة إلى وعيرة ، وإلى ثنية المحدث ، وإلى أشراف مخيض ، وإلى ثنية الحفياء ، وإلى مضرب القبة ، وإلى ذات الجيش : من الشجر أن يقطع ، وأذن لهم في متاع الناضح أن يقطع من حمى المدينة».

وروي أيضا عن سلمان بن كعب الديا ناري أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «نزل بمضرب القبة وقال : ما بيني وبين المدينة حمى لا يعضد ، فقالوا : إلا المسد ، فأذن لهم في المسد».

وروي أيضا من طريق مالك بن أنس عن أبي بكر بن حزم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في الحمى : «إلى مضرب القبة» قال مالك : وذلك نحو من بريد.

وروي أيضا عن جابر مرفوعا «كل دافعة دفعت علينا من هذه الشعاب فهي حرام أن تعضد ـ أو تخبط ، أو تقطع ـ إلا لعصفور قتب أو مسد محالة أو عصا حديدة» (١).

وفي الأوسط للطبراني بإسناد حسن عن الحسن بن رافع أنه سأل جابر بن عبد الله فقال : لنا غنم وغلمان ، ونحن وهم بثرير ، فهم يخبطون على غنمهم هذه الثمرة ، يعني الحبلة ـ قال خارجة : وهي ثمر السّمر ـ قال جابر : لا يخبط ولا يعضد حمى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكن هشوا هشا ، ثم قال جابر : إن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليمنع أن يقطع المسد ، قال خارجة : والمسد مرود البكرة.

وروى ابن زبالة عن أبي سعيد الخدري قال : بعثتني عمتي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تستأذنه في مسد ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اقرأ عمتك السلام ، وقل لها : لو أذنت لكم في مسد طلبتم ميزابا ، ولو أذنت لكم في ميزاب طلبتم خشبة ، ثم قال : حماي من حيث استاقت بنو فزارة لقاحي».

__________________

(١) القتب : الرحل الصغير على قدر سنام البعير. المسد : الحبل المضفور المحكم الفتل. و ـ المحور من الحديد تدور عليه البكرة.

٨١

الفصل الحادي عشر

في بيان ما في هذه الأحاديث من الألفاظ المتعلقة بالتحديد ، ومن ذهب إلى مقتضاها.

ذات الجيش

قوله : «شرف ذات الجيش» قال ابن زبالة : ذات الجيش : لقب ثنية الحفيرة من طريق مكة والمدينة ، وقال المطري : هي وسط البيداء ، والبيداء هي التي إذا رحل الحجاج من ذي الحليفة استقبلوها مصعدين إلى جهة الغرب ، وهي على جادة الطريق.

قلت : ويؤيده قول ياقوت : ذات الجيش موضع بعقيق المدينة ، أراد بقربه ، أو لأن سيلها يدفع فيه كما سيأتي ، وقد رأيته يطلق ذلك على ما يدفع في العقيق وإن بعد عنه. وقال أبو عبد الله محمد بن أحمد الأسدي في وصف الطريق بين مكة والمدينة : إن من ذي الحليفة إلى الحفيرة ستة أميال ، قال : وهي متعشّى ، وبها بئر طيبة وحوض ، وعمر بن عبد العزيز هو الذي حفر البئر ، وبها أبيات ومسجد ، اه. ومقتضاه أن يكون ثنية الحفيرة بعد البئر ، فلعلها ثنية الجبل المسمى اليوم بمفرح ، وهناك واد قبل وادي تربان يسمونه سهمان ينطبق عليه الوصف المذكور ، وهو موافق لقول من قال : ذات الجيش واد بين ذي الحليفة وتربان. فأطلق اسمها على الوادي التي هي فيه ، ولقول عياض : ذات الجيش على بريد من المدينة ، وهو ظاهر رواية الطبراني المتقدمة ، لكنه مخالف لما سيأتي في معنى التحديد بالبريد ، وهناك حبس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ابتغاء عقد عائشة رضي‌الله‌عنها ، ونزلت آية التيمم ، والترديد في حديث عائشة : «حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش» كأن سببه قرب الموضعين ، وهو ظاهر في المغايرة بينهما. وقال أبو علي الهجري : ذات الجيش : شعبة على يمين الخارج إلى مكة بحذاء الحفيرة ، قال : وصدر الحفيرة وما قبل من الصلصلين يدفع في بئر أبي عاصية ، ثم يدفع في ذات الجيش ، وما دبر منها يدفع في البطحاء ، ثم تدفع البطحاء من بين الجبلين في وادي العقيق ، وذات الجيش تدفع في وادي أبي كبير ، وهو فوق مسجد الحرم والمعرس ، وطرف أعظم الغربي يدفع في ذات الجيش ، وطرفه الثاني يدفع في البطحاء.

قلت : وأعظم ـ ويقال عظم كما سيأتي ـ جبل معروف اليوم على جادة مكة ، قال المطري : وهو في شامي ذات الجيش ، ويشهد له ما سبق عن الهجري.

شريب

قوله «شريب» الظاهر أنه مشيرب تصغير مشرب كما في الرواية الأخرى ، وهو

٨٢

ما بين جبال في شامي ذات الجيش ، بينها وبين خلائق الضبوعة ، والضبوعة منزل عند يليل (١).

أشراف مخيض

قوله : «أشراف مخيض» بلفظ المخيض من اللبن ـ هي جبال مخيض من طريق الشام ، قاله ابن زبالة ، وقال الهجري : مخيض واد يصب في أضم على طريق الشام من المدينة ، انتهى ؛ فكأنه يطلق على الجبال وواديها ، وقال المطري : جبل مخيض هو الذي على يمين القادم من طريق الشام ، حين يفضي من الجبال إلى البركة التي هي مورد الحجاج من الشام ، ويسمونها عيون حمزة.

أشراف المجتهر

قوله : «أشراف المجتهر» كذا رواه ابن النجار ، وتبعه المطري ، ولم يبيناه ، وقال المجد : هكذا وقع بالجيم والهاء المفتوحة ، فإن صح فهو اسم موضع بالمدينة ، وإلا فيحتمل أن يكون تصحيف «المحيصر» بالحاء والصاد المهملتين تصغير «المحصر» موضع قريب من المدينة. قلت : الأقرب أنه تصحيف المخيض ؛ لمجيئه بدله في بقية الروايات.

الحفياء

قوله «الحفياء» قال ابن زبالة : هي بالغابة في شامي المدينة ، وقال الهجري : وراء الغابة بقليل ، وسيأتي في ترجمتها أن بينها وبين المدينة نحو ستة أميال.

ذو العشيرة

قوله : «ذي العشيرة» تصغير عشرة من العدد ، قال ابن زبالة : شرقي الحفياء ، وقال المطري : نقب في الحفياء.

ثيب

قوله : «ثيب» بفتح المثلاثة ثم مثناة تحتية ساكنة ثم موحدة ـ كذا في النسخة التي وقعت عليها من ابن زبالة ، وقال : إنه جبل في شرقي المدينة ، وكذا هو في العقيق للزبير بن بكار ، وكذا رأيته مضبوطا بالقلم في أصل معتمد من تهذيب ابن هشام ؛ فإنه قال في غزوة السويق : فخرج أبو سفيان حتى نزل بصدر قناة إلى جبل يقال له ثيب من المدينة على بريد أو نحوه ، وكذا هو في العقيق لأبي علي الهجري ، إلا أنه قال عقبه : ثيئب كتيعب ، فاقتضى أن الياء الساكنة بعدها همزة ، ويشهد لذلك ما سيأتي في أسماء البقاع في

__________________

(١) يليل : موضع قرب وادي الصفراء.

٨٣

ترجمة الشظاة من شعر عباس بن مرداس ، وفي كتاب ابن شبة في حديث سلمة الآتي أول الباب السابع : فقلت يا رسول الله ، تباعد الصيد ، فأنا أصيد بصدور قناة نحو تيب ، كذا رأيته مضبوطا بالقلم من غير همزة ، لكنه بالمثناة من فوق ، ووقع في كتاب ابن النجار وتبعه المطري تيم بفتح المثناة الفوقية والتحتية وبالميم. قلت : وفي شرقي المدينة جبل يعرف اليوم بهذا الاسم ، وقال المجد : إنه تصحيف ، والصواب يتيب ، بلفظ مضارع تاب إذا رجع ، فهو بالتاء المثناة من فوق ، ولذا ذكره في مادتها من القاموس ، وقال في مادتها أيضا تيأب كفعلل موضع ، ولم يتعرض لذلك في الثاء المثلاثة.

وعيرة

قوله : «وعيرة» ـ بفتح أوله من الوعورة ، وهو خشونة الأرض ـ جبل شرقي ثور ، وهو أكبر من ثور وأصغر من أحد.

ثنية المحدث

وقوله : «ثنية المحدث» لم أر من تكلم عليه من مؤرخي المدينة وغيرهم ، والعجب من المجد كيف أهمله مع إيراده الحديث في كتابه.

مضرب القبة

قوله : «مضرب القبة» قال المجد كالمطري : ليس اليوم معروفا ، ولا تعلم جهته ، قال : والذي يظهر أنه ما بين ذات الجيش من غربي المدينة إلى مخيض.

قلت : قال أبو علي الهجري : مضرب القبة بين أعظم وبين الشام نحو ستة أميال ، أي من المدينة ، وقد تقدم قول مالك عقب التحديد به : وذلك نحو من بريد ، ولعله يريد مجموع الحرم.

ثرير

قوله : «بثرير» لم أر من تكلم عليه حتى المجد.

غزوة ذي قرد

قوله : «من حيث استاقت بنو فزارة لقاحي» كانت لقاحه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ترعى بالغابة وما حولها ، فأغار عليها عيينة بن حصن الفزاري يوم ذي قرد ، واتفق لسلمة بن الأكوع ما اتفق من استنقاذ اللقاح ووصول الفرسان إليه وهو يقاتلهم ويرميهم بالنبل ، وسميت غزوة ذي قرد بالموضع الذي كان فيه القتال.

والتحديد بهذه الأماكن مؤيد لكون مجموع الحرم بريدا ، ولذلك قال ابن زبالة عقب ما تقدم عنه : وذلك كله يشبه أن يكون بريدا في بريد ، انتهى. ويحمل عليه قول أبي هريرة

٨٤

في حديث مسلم : «وجعل اثني عشر ميلا حول المدينة حمى» لأن ذلك هو البريد أي : ستة أميال من جهة قبلتها ، وستة أميال من جهة شاميها ، وكذلك في المشرق والمغرب ، ومثله حديث «حمى كل ناحية من المدينة بريدا» أي من القبلة إلى الشمال بريدا ، ومن المشرق إلى المغرب بريدا ، وقد أخذ بذلك مالك رحمه‌الله ، لكن فرّق بين حرم الشجر وحرم الصيد ، وجعل البريد حرم الشجر ، وما بين اللابتين حرم الصيد.

قال عياض في الإكمال : قال ابن حبيب : تحريم ما بين اللابتين مخصوص بالصيد ، قال : وأما قطع الشجر فبريد في دور المدينة كلها ، بذلك أخبرني مطرف عن مالك ، وهو قول عمر بن عبد العزيز وابن وهب ، انتهى. وحكى الباجي في المنتقى مثله عن ابن نافع ، ونقل ابن زبالة عن مالك أنه قال : الحرم حرمان ؛ فحرم الطير والوحش من حرة واقم ـ أي : وهي الحرة الشرقية ـ إلى حرة العقيق ـ أي وهي الغربية ـ وحرم الشجر بريد في بريد ، وقال البرهان بن فرحون : حرم الصيد ما بين حرارها الأربع ، وسماهما أربعا لوجود الحرتين المذكورتين في الجهات الأربع ؛ لانعطاف بعض الشرقية والغربية من جهة الشمال والقبلة ، ولم يعول أصحابنا في تحديد الحرم على البريد مع ما فيه من الزيادة ؛ لأن أدلته ليست بالقوية ، فعولوا على ما اشتملت عليه الأحاديث الصحيحة من الجبلين واللابتين ، على أن إطلاق أحاديث التحريم مقتض لعدم الفرق بين حرم الشجر وحرم الصيد ، سواء كان الحرم بريدا أو دونه ، غير أن في أحاديث البريد ما يشعر بأنه للشجر ، مع أن ابن زبالة ـ ومحله من الضعف معلوم ـ روي عن ابن بشير المازني أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحرّم ما بين لابتيها ـ يعني : المدينة ـ من الصيد ، وعن أبي هريرة وغيره نحوه ، وفي رواية له «من الطير أن يصاد بها» وقد يقال : هو من باب إفراد فرد مما حرم بالذكر.

فإن قيل : قوله في حديث مسلم : «حرم ما بين لابتيها ، وجعل اثني عشر ميلا حول المدينة حمى» دال على الفرق المذكور.

قلنا : ممنوع ؛ لأن غايته أن يراد بالحمى الحرم ، فكأنه قال : وجعل اثني عشر ميلا حولها حرما ؛ إذ ليس فيه أنه جعله حمى الشجر.

مقدار البريد والفرسخ والميل

تتمة : البريد أربع فراسخ ، والفرسخ ثلاثة أميال ، والميل ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع بذراع اليد على الأصح ، كما صححه ابن عبد البر وغيره ، وهو الموافق لاختيار ما ذكره من المسافات في الحرم المكي وغيره ، وذراع اليد ـ على ما ذكره المحب الطبراني والنووي وغيرهما ـ أربعة وعشرون أصبعا ، كل أصبع ست شعيرات مضمومة بعضها إلى بعض ، وغلط النووي القلعي في قوله «ثلاث شعيرات» ومقدار الذراع المذكور من ذراع

٨٥

الحديد المستعمل في القماش بمصر الآن ذراع إلا ثمن ذراع ، كما اعتبرته أنا وغيري ، ومشى عليه التقي الفاسي في تاريخ مكة المشرفة ، وليكن ذلك على ذكر منك إذا مررت بشيء مما ضبطناه في المسافات في كتابنا هذا ، وقيل : الميل ستة آلاف ذراع ، ومشى عليه النووي ، وهو بعيد ، ولعل قائله هو الذي يجعل الإصبع في الذراع ثلاث شعيرات فقط ، وقيل : الميل ألفا ذراع ، والصواب ما قدمناه ، والله أعلم.

الفصل الثاني عشر

في حكمة تخصيص هذا المقدار المعين بالتحريم

حكمة التخصيص

اعلم أن المفهوم من تحريم ذلك تشريف المدينة الشريفة وتعظيمها به لحلول أشرف المخلوقين صلوات الله وسلامه عليه ، وانتشار أنواره وبركاته بأرضها ، وكما أن الله تعالى جعل لبيته حرما تعظيما له جعل لحبيبه وأكرم الخلق عليه ما أحاط بمحله حرما تلتزم أحكامه ، وتنال بركاته ، ويوجد فيه من الخير والبركة والأنوار المنتشرة والسلامة العاجلة والآجلة ما لا يوجد في غيره ، ولهذا حث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بني حارثة على الكون به ، كما أشار إليه بقوله : «أراكم يا بني حارثة قد خرجتم من الحرم» ثم التفت فقال : «بل أنتم فيه» وذلك لخصوصية الكون فيه على الكون خارجه ، وتخصيص ذلك المقدار إما أن يكون لما شاهده صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه من أمر رباني ، وسر روحاني بثه الله فيه إلى تلك الحدود المتقدمة ، وقد ذكر أهل الشهود أنهم يشاهدون الأنوار منبثة في الحرم وأهله إلى حدوده ، ولها منابع تفيض عنها ، وذلك في الحرمين جميعا ، فترتبت الأحكام الظاهرة على تلك الحقائق الباطنة ، ولهذا لما بلغت النار الآتي ذكرها طرف هذا الحرم الشريف طفئت كما سيأتي ، وإما أن يكون بمقتضى أمر إلهي ، ووحي رباني لا ندركه نحن ؛ إذ العقول البشرية قاصرة عن إدراك معاني الأحكام المتلقاة عن النبوة ، وإنما يظهر لها لايحه من شوارق مطالعها عند التأييد والتسديد ، هدانا الله لإدراكها بمنه وكرمه.

وجوه تذكر في حكمة التحديد

وقد قيل في حكمة تحديد الحرم المكي أشياء يمكن مثلها هنا ؛ فقيل : لما أهبط آدم إلى الأرض أرسل الله ملائكة حفوا بمكة من كل جانب ووقفوا في موضع أنصاب الحرم يحرسون آدم عليه‌السلام ، فصار ذلك حرما. وقيل : لما وضع الخليل عليه‌السلام الحجر الأسود في الكعبة حين بناها ـ وهو من أحجار الجنة ـ أضاء الحجر من الجهات الأربع ، فحرم الله تعالى الحرم من حيث انتهى النور. وقيل : إن الله تعالى أمر جبريل عليه‌السلام

٨٦

أن ينزل بياقوتة من الجنة ، فنزل بها ، فمسح بها رأس آدم ، فتناثر الشعر منه ، فحيث بلغ نورها صار حرما ، وهو من جنس ما قبله. وقيل غير ذلك ؛ وحينئذ فيحتمل : أن تكون الملائكة الموكلة بحراسته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحراسة بلده الشريف قائمة بتلك الحدود ، فانتهى الحرم إليها ، ويحتمل : أن درته الشريفة التي خلق منها لما كان مأخذها موضع قبره الشريف ، وهو أعظم رياض الجنة ، واشتمل مسجده أيضا على روضة من رياض الجنة ، انبثت الأنوار من ذلك إلى ما لا يعلم غايته إلا الله ، ولكن أبصار الناظرين لها غايات ؛ فقد يكون انتهاؤها إلى تلك الحدود فانتهى الحرم إليها ، ويحتمل أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم قدومه إلى المدينة انتشرت الإضاءة ، وشوهد وصولها إلى تلك الحدود ، وسيأتي قول أنس بن مالك في وصف يوم قدومه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما رأيت مثل ذلك اليوم قط ، والله لقد أضاء منها كل شيء ، يعني : المدينة ، والله أعلم.

الفصل الثالث عشر

في أحكام هذا الحرم الشريف ، وفيه مسائل

الأولى : القول في تحريم الصيد وقطع الشجر

اتفق الشافعي ومالك وأحمد على تحريم صيد حرم المدينة ، واصطياده ، وقطع شجره. وقال أبو حنيفة : لا يحرم شيء من ذلك ، والأحاديث الصحيحة الصريحة حجة عليه ، وقد قدمنا جملة منها ، ولو لم يكن إلا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كما حرم إبراهيم مكة» لكان كفاية ؛ فإنه يتمسك به في كل ما لم يقم دليل على افتراق الحرمين فيه. وروى أبو داود ـ وسكت عليه ، قال النووي : وهو صحيح أو حسن ، أي : كما هو قاعدته فيما يسكت عليه ـ أن سعد بن أبي وقاص رضي‌الله‌عنه أخذ رجلا يصيد في حرم المدينة الذي حرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسلبه ثيابه ، فجاء مواليه فكلموه فيه ، فقال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «حرم هذا الحرم ، وقال : من أخذ أحدا يصيد فيه فليسلبه فلا أرد عليكم طعمة أطعمنيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكن إن شئتم دفعت إليكم ثمنه» وسيأتي عنه نحوه في قطع الشجر ، وفي الموطأ عن أبي أيوب الأنصاري أنه وجد غلمانا قد ألجؤوا ثعلبا إلى زاوية ، فطردهم عنه ، قال مالك : لا أعلم إلا أنه قال : أفي حرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصنع هذا؟ وروى الطبراني برجال الصحيح مثله عن زيد بن ثابت بدل أبي أيوب ، وفي الموطأ أيضا أن رجلا قال : دخل علي زيد بن ثابت وأنا بالأسواف (١) ، وقد اصطدت نهسا (٢) فأخذه من يدي ، فأرسله. ورواه

__________________

(١) الأسواف : موضع بين الحرتين ، ببعض أطراف المدينة.

(٢) النهس : طائر من الفصيلة الصردية لونه كستنائي وهو أكبر من العصفور ، ضخم الرأس والمنقار ، شرس الطباع.

٨٧

الطبراني أيضا مع تسمية المبهم ، ولفظه : عن شرحبيل بن سعيد قال : أخذت نهسا ـ يعني طائرا ـ بالأسواف ، فأخذه مني زيد بن ثابت فأرسله ، وقال : أما علمت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حرم ما بين لابتيها. وفي رواية له «أتانا زيد بن ثابت ونحن في حائط لنا ، ومعنا فخاخ ننصب بها ، فصاح وطردنا ، وقال : ألم تعلموا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حرم صيدها. ورواه أحمد أيضا ـ وكذا الشافعي في حرملة ـ عن شرحبيل بن سعد ، وقد وثّقه ابن حبان وضعفه غيره ، ولفظه : دخل علينا زيد بن ثابت حائطا ونحن غلمان ننصب فخاخا للطير ، فطردنا وقال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حرم صيدها». ورواه ابن زبالة بلفظ : كنت مع بني زيد بن ثابت بالأسواف ، فأخذوا نهسا ، فاستفتح زيد بن ثابت وهو في أيديهم ، فدفعوه في يدي وفروا ، فدخل زيد ، فأخذه من يدي فأرسله ، ثم لطم في قفاي وقال : لا أم لك ، ألم تعلم ، وذكر الحديث المتقدم. وروى الطبراني عن حاجب مولى زيد بن ثابت قال : دخل علي زيد بن ثابت وأنا بالأسواف قد اصطدت نهسا ، فأخذ بأذني من قفاي وقال : تصيد هاهنا وقد حرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما بين لابتيها؟

والنّهس ، كصرد : طائر يشبهه وليس بالصرد ، وقيل : إنه اليمام.

وفي الكبير للطبراني برجال ثقات عن عبد الله بن عباد الزرقي ـ قال الهيثمي : ولم أجد من ترجمه ـ قال : كنت أصيد العصافير في بئر أهاب ، وكانت لهم ، قال : فرآني عبادة بن الصامت وقد أخذت العصفور ، فينزعه مني فيرسله ، ويقول : أي بني ، إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حرم ما بين لابتيها كما حرم إبراهيم مكة.

وروى ابن زبالة ومن طريقه البزار عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال : اصطدت طيرا بالقنبلة (١) ، فلقيني أبي عبد الرحمن ، فعرك أذني ، ثم أخذه مني فأرسله ، وقال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حرم صيد ما بين لابتيها.

وفي أبي داود عن مولى لسعد ، أن سعدا وجد عبيدا من عبيد المدينة يقطعون شجرا من شجر المدينة ، قال : فأخذ متاعهم ، وقال يعني لمواليهم : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ينهى أن يقطع من شجر المدينة شيء ، وقال : من قطع شيئا فلمن أخذه سلبه» ورواه مسلم عن إسماعيل بن محمد بن عامر بن سعد ، ولفظه : أن سعدا ركب إلى قصره بالعقيق ، فوجد عبدا يقطع شجرا ، أو يخبطه ، فسلبه ، فلما رجع سعد جاءه أهل العبد فكلموه أن يرد على غلامهم ـ أو عليهم ـ ما أخذ من غلامهم ، فقال : «معاذ الله أن أرد شيئا نفلنيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ورواه المفضل الجندي عنه ، ولفظه : أن سعدا ركب إلى قصر له بالعقيق ، فوجد عبدا يقطع شجرة ، فأخذ سلبه ، وذكره بنحوه. ورواه أيضا عن عبد الله بن عمر ، ولفظه : أن

__________________

(١) القنبلة : مصيدة يصاد بها أبو براقش.

٨٨

سعدا وجد إنسانا يعضد ، أو يخبط ، عضاها بالعقيق ، فأخذ فأسه ونطعه وشيئا سوى ذلك ، فاطلع العبد إلى ساداته فأخبرهم الخبر ، فركبوا إلى سعد فقالوا : الغلام غلامنا ، فاردد إليه ما أخذت منه ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكر ما قدمناه عنه في الفصل العاشر ، وقال في آخره : «فلم أكن لأرد شيئا أعطانيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ورواه ابن زبالة من طرق بنحوه. وفي بعضها أن سعد بن أبي وقاص وجد جارية لعاصية السلمية تقطع الحمى فضربها وسلبها شملة لها وفأسا كانت معها ، فدخلت عاصية السلمية إلى عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه فاستعدت على سعد ، فقال : اردد إليها يا أبا إسحاق شملتها وفأسها ، فقال : «لا ، والله لا أرد إليها غنيمة غنمنيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمعته يقول : من وجدتموه يقطع الحمى فاضربوه واسلبوه» واتخذ من فأسها مسحاة فما زال يعمل بها حتى لقي الله. وفي بعضها : أخذ سعد بن أبي وقاص جارية لعاصية السلمية تقطع شجرا بالعقيق ، فنزع سلبها ، وذكر نحوه. وروى أيضا عن سعد قال : غنّمنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من وجدناه يقطع من شجر حرم المدينة الرطب منه. وعن زيد بن أسلم نحوه. وروى الجندي عن عبد الكريم بن أبي المخارق قال : أتى عمر بن الخطاب ناحية من المدينة فوجد غلاما لبعضهم في حائط ، فقال : هل يأتيك هاهنا أحد يحتطب؟ قال : نعم ، فقال له عمر : إن رأيت منهم أحدا فخذ فأسه وحبله ، قال : وثوبه؟ قال : فأبى ، وفس نسخة فأفتى ، وفي رواية عنه : أن عمر قال لغلام قدامة بن مظعون : أنت على هؤلاء الحطابين ، فمن وجدته احتطب فيما بين لابتي المدينة فلك فأسه وحبله ، قال : وثوباه؟ قال عمر : ذلك كثير.

وقد اختلف القائلون بالتحريم في حرم المدينة بالنسبة إلى الضمان بالجزاء ، فعن أحمد روايتان ، وللشافعي أيضا قولان كالروايتين : الجديد منهما عدم الضمان وهو قول مالك ؛ لأنه ليس بمحل نسك ، فأشبه مواضع الحمى ووج الطائف (١) ، والقديم الضمان ، وهو المختار كما قاله النووي وغيره ، لحديث سعد المتقدم ، والجواب عنه مشكل ، وعلى هذا فالأصح أنه يسلب الصائد وقاطع الشجر والكلأ كما يسلب القتيل من الكفار حتى يؤخذ فرسه وسلاحه ، وقيل : الثياب فقط ، ويكون ذلك للسالب على الأصح ، وقيل : لفقراء المدينة كما أن جزاء صيد مكة لفقرائها ، وقيل : يوضع في بيت المال وسبيله سبيل السهم المرصد للمصالح. قال الشيخ أبو محمد : ويعطى المسلوب إزارا يستر به عورته ، فإذا قدر على ما يستر به عورته أخذه منه ، واختار الروياني أنه يترك له ، وصوبه النووي. قال الرافعي : والذي يسبق إلى الفهم من الحديث وكلام الأئمة أنه يسلب إذا اصطاد ، ولا يشترط الإتلاف ، ولفظ الغزالي في الوسيط : لا يسلب حتى يصطاد أو يرسل الكلب ،

__________________

(١) الوجّ : واد بين الطائف ومكة.

٨٩

ويحتمل التأخير إلى الإتلاف ، انتهى. ولا فرق في هذا بين صيد وصيد ، ولا بين شجرة وشجرة ، وكأن السلب في معنى العقوبة لمتعاطي ذلك. قال السراج البلقيني : ولو كان الصائد أو قاطع الشجر في حرم المدينة عبدا هل يسلب ثيابه كما اتفق لسعد بن أبي وقاص؟ قال : والذي يقتضيه النظر أنه لا يسلب العبد ؛ فإنه لا ملك له ، وكذلك لو كان على الصائد ثوب مستأجر أو مستعار فإنه لا يسلب ، ولم أر من تعرض له ، انتهى. قلت : التحقيق التفصيل بين ما إذا أمره السيد أو من في معناه بذلك وبين ما إذا لم يأمره ، ويحمل ما اتفق لسعد على الأول ، ولو كان على الصائد والمحتطب ثياب مغصوبة لم تسلب بلا خلاف ، كما نقله في شرح المهذب ، ونقله في المطلب عن البحر ، ثم قال : وينبغي أن تكون المستعارة كذلك ، ولو لم يشاهده أحد يصطاد فالظاهر أنه يجب عليه حمل السلب إلى نائب الإمام ، ولو تحدث بحضرة أحد فسمعه فهل يجوز له أن يسلبه؟ الظاهر عندي لا ، انتهى. ولو أدخل إلى حرم المدينة صيدا لم يلزمه إرساله ، وله ذبحه به اتفاقا ، وكذا حرم مكة عندنا. وقد روى البيهقي أن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا يقدمون مكة فيرون بها في الأقفاص القماري (١) واليعاقيب ، وهذا محمل حديث «يا أبا عمير ، ما فعل النغير (٢)» أو أنه كان قبل تحريم المدينة ؛ لأنه في أول الهجرة ، وتحريم المدينة كان بعد رجوعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من خيبر ، كما أوضح ذلك الحافظ ابن حجر. وقد تمسك أبو حنيفة بقصة أبي عمير فيما ذهب إليه من عدم تحريم صيد المدينة ؛ لذهابه في حرم مكة إلى وجوب الإرسال على من أدخل إليه صيدا من خارجه ، قال : فلو حرم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صيد المدينة لما أقر النغير في يد أبي عمير. وجوابه ما تقدم ، قال البيهقي : والذاهب إلى عدم تحريم الصيد وغيره بالمدينة زعم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما أراد بقاء رينة المدينة وبهجتها لتستوطن كما منع من هدم آطام المدينة لذلك ، قال أبو هريرة رضي‌الله‌عنه : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن هدم آطام المدينة ، وقال : إنها زينة المدينة ، أي فالنهي للتنزيه. قال البيهقي : والنهي عندنا على التحريم حتى تقوم دلالة على التنزيه ، قال : واستدل المخالف بحديث سلمة «أما إنك لو كنت تصيد بالعقيق لشيّعتك إذا ذهبت وتلقيتك إذا جئت ، فإني أحب العقيق» قال البيهقي : وهو حديث ضعيف ، ومن يدعي العلم بالآثار لا ينبغي له أن يعارض الأحاديث الثابتة في حرم المدينة لهذا الحديث الضعيف ، وقد يجوز أن يكون الموضع الذي كان سلمة يصيد فيه خارجا من حرم المدينة ، والموضع الذي رأى فيه سعد بن أبي وقاص غلاما يقطع شجرا من حرم المدينة داخله ، حتى لا يتنافيان ، ولو اختلفا كان الحكم لرواية

__________________

(١) القماري : واحدها القمريّ : ضرب من الحمام مطوّق حسن الصوت.

(٢) النّغير مصغر النّغر (ج) نغران : فرخ العصفور. و ـ البلبل.

٩٠

سعد لصحة حديثه وثقة رجاله ، دون حديث سلمة. قلت : مع أن الذي في الصحيح من حديث سعد لا تعرض فيه لأن القطع كان بالعقيق ، وركوبه إلى قصره بالعقيق لا يقتضي أن القطع كان به ، بل يقتضي أن القطع في موضع من الحرم خارج ، على أن ما يلي ذا الحليفة من العقيق ليس من الحرم عندنا لخروجه عما بين اللابتين ، والمالكية وإن اعتبروا البريد فحرم الصيد عندهم ما بين اللابتين كما تقدم ، مع امتداد العقيق إلى النقيع (١) ؛ فبعضه خارج عن الحرم بكل حال ، فصح ما قاله البيهقي ، وقصر سعد مع قصور العقيق في الطرف الداخل منه في الحرم عندنا ؛ لكونه بالحرة الغربية. هذا ، مع احتمال حديث سلمة لكونه كان قبل تحريم المدينة ، والله أعلم.

الثانية : ما يستثنى مما يحرم

استثنى المطري تبعا لابن النجار جواز أخذ ما تدعو الحاجة إليه للرحل ـ بالحاء المهملة ـ والوسائد ، من شجر حرم المدينة ، وما تدعو الحاجة إليه من حشيشه للعلف ، بخلاف مكة ، هكذا قالاه ، وسبقهما إليه ابن الجوزي من الحنابلة فقال في منسكه : إن المدينة تفارق مكة في أنه يجوز أن يؤخذ من شجر المدينة ما تدعو الضرورة إليه للرحل وشبهه ، انتهى ، ومأخذهم في ذلك ما تقدم في الفصل العاشر في بعض تلك الأحاديث المشتملة على الترخيص في ذلك ونحوه ، مع ما رواه ابن زبالة من حديث : يا رسول الله ، إنا أصحاب عمل ونضح ، وإنا لا نستطيع أن ننتاب أرضا ، فرخص لهم في القائمتين والوسادة والعارضة والأسنان ، فأما غير ذلك فلا يعضد ولا يخبط ، والكلام أولا في توجه الاستدلال بذلك من حيث الإسناد ، مع أنا قدمنا في غضون تلك الأحاديث ما يقتضي المنع ، سيما حديث الطبراني بإسناد حسن إذ فيه قول جابر : لا يخبط ولا يعضد حمى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكن هشوا هشا ، ثم قال جابر : إن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليمنع أن يقطع المسد. قال خارجة : والمسد مرود البكرة ، ومن تأمل كلام أصحابنا الشافعية لا يفهم منه سوى استواء الحرمين في ذلك ؛ لقولهم : إنه يجوز أخذ حشيش حرم مكة لعلف الدواب على الأصح. وقد قال النووي في الكلام على قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث مسلم المتقدم «ولا يخبط شجره إلا لعلف» : إن فيه جواز أخذ أوراق الشجر للعلف ، بخلاف خبط الأغصان وقطعها فإنه حرام ، انتهى. وقد قال هو وغيره في شجر مكة : إنه يجوز أخذ أوراقها لكنها لا تهش حذرا من أن يصيب لحاها. وفي شرح المهذب : يجوز أخذ ورقها والأغصان الصغيرة للسواك ونحوه ، انتهى ؛ فقد استوى الحرمان في ذلك. وقد قال

__________________

(١) النقيع : البئر الكثيرة الماء. وهو موضع قريب من المدينة.

٩١

الغزالي في البسيط والوسيط في حرم مكة : إنه لو قطع منه للحاجة التي يقطع لها الإذخر (١) كتسقيف البيوت ونحوه ففيه الخلاف في قطعه للدواء : أي : والأصح جوازه ، وتبعه على ذلك صاحب الحاوي الصغير ؛ فجوز القطع للحاجة مطلقا ، ولم يخص الدواء ، وقل من تعرض للمسألة ، ومنه يؤخذ جواز ما استثناه المطري ، لكن مع استواء الحرمين في ذلك. وقال القاضي عياض : قال المهلب : قطع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم النخل من المدينة حين بنى مسجده ، وذلك يدل على أن النهي لا يتوجه لقطع شجرها للعمارة وجهة الإصلاح ، وأن يقطع شجرها ليتخذ موضعه جنانا وعمارة ، وأن توجه النهي إنما هو لقطع الإفساد واستبقاء بهجة المدينة وخضرتها في عين الوارد إليها ، انتهى. ونحوه ما روى ابن زبالة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لبني حارثة في طرف من الحمى «أعطيكم على أنه من قطع شجرة غرس مكانها نخلة» ومحل ابن زبالة من الضعف معروف ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما قطع النخل وهو شجر يستنبته الآدميون ، وفيه خلاف ؛ فالذي ذهب إليه المالكية والحنفية جواز قطعه في حرم مكة فضلا عن المدينة ، وهو أحد القولين عندنا ، لكن الأصح إلحاقه بالذي ينبت بنفسه ، والجواب عنه باحتمال كونه قبل تحريم المدينة ، أو أنه قطعه لحاجة العمارة ؛ فإن المتجه جوازه كما تقدم عن الغزالي ، ولم يزل أهل المدينة يسقفون بيوتهم بما يقطعون من نخلها. وقد نقل الواقدي في الحرم المكي عن ابن الزبير الترخيص في قطع شجر الحرم المكي للعمارة لكن مع الفداء ، على أن الماوردي قال فيما يستنبته الآدميون : محل الخلاف فيما أنبت في موات الحرم ، فإن أنبته في أملاكه لم يحرم بلا خلاف ، انتهى. وأما ما يستنبت من غير الشجر كالحنطة والخضروات فيجوز قطعه بلا خلاف ، وكذا ما يتغذى به مما ينبت بنفسه كالرجلة المسماة بالبقلة الحمقاء ونحو ذلك ؛ لأنه في معنى الزرع ، صرح باستثنائه المحب الطبري في شرح التنبيه ، وهو ظاهر ؛ لأنه إذا جاز الأخذ لإطعام البهائم فالآدمي أولى.

الثالثة : ما ذكروه في الأخذ للدواء ونحوه يتناول تحصيله وادخاره لذلك الغرض ، وإن لم يكن السبب قائما ، إلا أن عبارة الروضة : ولو احتيج إلى شيء من نبات الحرم للدواء. وفي شرح المهذب أنه يجوز أخذ النبات للعلف ، ولو أخذه ليبيعه ممن يعلف به لم يجز ، ومقتضاه أن الدواء كذلك ، وظاهر إطلاق الماوردي الجواز مطلقا ، وهو ظاهر استناد بعضهم إلى نقل السنا المكي من غير نكير.

دية القتل الخطأ في المدينة مغلظة

الرابعة : تغلّظ الدية في الخطأ على القاتل في حرم المدينة كمكة في وجه الصحيح خلافه ، ومأخذه عموم قوله «كما حرم إبراهيم مكة».

__________________

(١) الإذخر : حشيشة تسقف بها البيوت فوق الخشب ولها رائحة طيبة.

٩٢

وقد اختار السراج البلقيني هذا الوجه ، قال : لأن الخلاف في ذلك مبني على الخلاف في ضمان صيدها ، والمختار عند النووي ضمان صيدها بسلب الصائد. قلت : وما قاله متّجه ؛ لعموم قوله «كما حرم إبراهيم مكة» وإنما اختصت مكة بمنع الكافر من دخولها مطلقا ، بخلاف المدينة فيجوز أن يدخلها بإذن الإمام أو نائبه للمصلحة ؛ لأن المشركين أخرجوا منها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعاقبهم الله بالمنع من دخولها بكل حال تعظيما لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستحسن الروياني في البحر التسوية بين مكة والمدينة في أن من مات من الكفار بهما يخرج ويدفن خارجهما ، وعلى القول باختصاصه بمكة موجبه ما قدمناه.

الخامسة : حكم لقطة حرم المدينة سوّى صاحب الانتصار من أصحابنا بين حرم مكة والمدينة في أن لقطتهما لا تحل للتملك ، بل للحفظ أبدا ، وقال الدارمي : لا تلحق لقطة حرم المدينة بحرم مكة في ذلك. قلت : والذي يقتضيه الدليل ترجيح الأول ؛ للنص على ذلك في الأحاديث المتقدمة في الفصل الثامن ، وإن كان الأصحاب خصوا مكة بالذكر.

حكم المقاتلة في حرم المدينة

السادسة : مقتضى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الأحاديث المتقدمة أيضا «ولا يحمل فيها سلاح لقتال» أن يأتي فيها ما نقل من الخلاف في حرم مكة من أن المقاتلة الجائزة في غيره تحرم فيه كقتال البغاة به (١) ، بل يضيق عليهم إلى أن يخرجوا أو يفيئوا (٢) كما ذهب إليه جماعة.

وقال الجمهور : يقاتلون ؛ لأن هذا القتال من حقوق الله ، وحفظها في الحرم أولى ، والحرم لا يعيذ عاصيا. وذهب الحسن البصري إلى أنه لا يحل لأحد أن يحمل السلاح بمكة ؛ للنهي عن القتال فيه ، فلا يحمل ما هو من أسبابه ، ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يحل لأحد أن يحمل السلاح بمكة» رواه مسلم.

حكم الاستنجاء بحجارة الحرم

السابعة : حكى الماوردي وجهين في جواز الاستنجاء بحجارة الحرم ، قال ظاهر المذهب سقوط الفرض بذلك مع تأثيمه. قلت : ينبغي حمله على من نقله من الحرم ليستنجي به في الحل مثلا ، وإلا فهو مشكل ؛ إذ لا خلاف في إباحة البول في الحرم ، فالاستنجاء بالحجارة كذلك ، وعبارة شرح المهذب في النقل عن الماوردي بعد حكاية الوجهين في سقوط فرض الاستنجاء بالذهب والديباج : وطردهما الماوردي في الاستنجاء

__________________

(١) البغاة : جمع باغي : الخارج عن القانون.

(٢) الفيئة : التوبة الحسنة.

٩٣

بحجارة الحرم ، انتهى. وهي محتملة لما قررناه ، وقد نقل النووي عدم جواز الأكل في الأواني المعمولة من تراب الحرم ، على ما قاله الدميري ، ولا شك أنه إنما عنى به المنع منه لمن أخرجها من الحرم كما لا يخفى.

حكم نقل تراب الحرم المدني

الثامنة : جزم النووي بتحريم نقل تراب الحرم المدني وأحجاره ، اكتفاء بما ذكره من الخلاف في الحرم المكي ، وصحح فيه التحريم ، والرافعي الكراهة ، ونقلها النووي عن كثيرين أو الأكثرين ، ونقلها القاضي أبو الطيب عن نص الشافعي في القديم ، ونقل التحريم عن نصه في الجامع الكبير ؛ وقال في الأم في حجارة الحرم وترابه : لا خير في أن يخرج منها شيء إلى الحل ، لأن له حرمة باين بها ما سواها من البلدان ، فلا أرى ـ والله أعلم ـ أن جائزا لأحد أن يزيله من الموضع الذي باين به البلدان ؛ إذ يصير كغيره.

وروى الشافعي عن ابن عباس وابن عمر رضي‌الله‌عنهما كراهة ذلك. قال الشافعي : وقال غير واحد من أهل العلم : لا ينبغي أن يخرج من الحرم شيء إلى غيره. وحكى الشافعي عن أبي يوسف أنه قال : سألت أبا حنيفة عن ذلك فقال : لا بأس به. قال أبو يوسف : وحدثنا شيخ عن رزين مولى علي بن عبد الله بن عباس أن عليا كتب إليه أن يبعث إليه بقطعة من المروة (١) فيتخذه مصلى يسجد عليه ، ونقل القاضي أبو الطيب عن الشافعي أنه قال : رخص بعض الناس في ذلك ، واحتج بشراء البرام من مكة ، وهو غلط ؛ فإن البرام ليست من حجارة الحرم ، بل تحمل من مسيرة يومين وثلاثة من الحرم ، وحكى في شرح المهذب اتفاق الأصحاب على أن الأولى أن لا يحمل تراب الحل وأحجاره إلى الحرم ؛ لئلا يحدث لها حرمة لم تكن ، قال : ولا يقال «إنه مكروه» مع إطلاقه في الروضة والمناسك كراهته ، فكأنه أراد بها معنى خلاف الأولى. وقول صاحب البيان «قال الشيخ أبو إسحاق : لا يجوز إدخال شيء من تراب الحل وأحجاره إلى الحرم» محمول على نفي الإباحة بمعنى استواء الطرفين ، كما وقع مثله في مواضع ، وبناء آدم البيت من أجبل ليست من الحرم كلبنان وطور سيناء : إما لأن تحريم الحرم إنما تعلق حكمه وظهر على لسان إبراهيم عليه‌السلام ، وإما لأن شرعه اقتضى ذلك ، مع أن الظاهر استثناء نقل حجارة الحل لمصلحة يقتضيها الحال ، وما نقله أهل السير من أنهم كانوا يأخذون من تراب قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمرت عائشة رضي‌الله‌عنها بجدار فضرب عليهم ، لا متمسك فيه ؛ إذ لم يعرف الفاعل ، بل الظاهر أنه ممن لا يحتج بفعله ، وأمر عائشة بضرب الجدار يقتضي المنع من

__________________

(١) المرو : حجارة بيض رقاق برّاقة تقدح منها النار.

٩٤

ذلك ، على أنه ليس فيه أنه كان يؤخذ للنقل من الحرم ، وقد نقل أبو المعلى السبتي ـ وكذا خليل والتادلي المالكيون ـ كلام النووي في المنع من نقل تراب الحرم وأقروه ؛ فالظاهر أنه جار على قواعدهم ؛ إذ منها سد الذرائع. وقد قيل في سبب عبادة الأصنام : إن بعضهم كان يصحب معه الحجر من الحرم ليتبرك به ، واستشكله البرهان بن فرحون بأمور : منها ما تقدمت الإشارة إلى جوابه ، ومنها الإجماع على نقل ماء زمزم واستهداء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم له من سهيل بن عمرو فبعث إليه منه ، وجوابه أن ماء زمزم طعام طعم وشفاء سقم ، مع أنه يخلف ؛ فأشبه الحشيش الذي يخلف ، ولهذا قال الشافعي : فأما ماء زمزم فلا أكره الخروج به ، والماء ليس بشيء يزول ولا يعود ، انتهى. مع أن المحذور المتقدم في الأحجار لا يتوقع مثله في الماء ؛ إذ المقصود من نقله شربه وهو ظاهر ، بخلاف الحجر وشبهه ؛ فإن القصد التبرك به ، وهو شيء لم يأذن به الله تعالى ولا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولذا أقول : إن من نقل من فخار الحرم كالكراريز (١) لحاجة استعمالها جاز له ، ويحمل كلام من أطلق المنع على ما يراد للتبرك أو مع عدم الحاجة إليه ، وإذا جاز أخذ حشيش الحرم للتداوي فهذا أولى ، وإذا كان الاحتياج إلى آنية الذهب والفضة يجوّز استعمالها فهذا أولى ، فإن أريد نقل ذلك لحاجة متوقعة في المستقبل فينبغي تخريجه على ما تقدم في أخذ نبات الحرم للدواء ونحوه ، وقد قدمنا فيما جاء في ترابه استثناء تربة صعيب لما جاء فيها من التداوي ، وأن الزركشي استثنى تربة حمزة رضي‌الله‌عنه لإطباق الناس على نقلها للتداوي بها من الصداع ، وحكى البرهان ابن فرحون عن الإمام العالم أبي محمد عبد السلام بن إبراهيم بن ومصال الحاحاني ، قال : نقلت من كتاب الشيخ العالم أبي محمد صالح الهزميري قال : قال صالح بن عبد الحليم : سمعت أبا محمد عبد السلام بن يزيد الصنهاجي يقول : سألت أحمد بن يكوت عن تراب المقابر الذي كان الناس يحملونه للتبرك هل يجوز أو يمنع؟ فقال : هو جائز ، وما زال الناس يتبركون بقبور العلماء والشهداء والصالحين ، وكان الناس يحملون تراب قبر سيدنا حمزة بن عبد المطلب في القديم من الزمان. قال ابن فرحون عقبه : والناس اليوم يأخذون من تربة قريبة من مشهد سيدنا حمزة ، ويعملون منها خرزا يشبه السبح ، واستدل ابن فرحون بذلك على جواز نقل تراب المدينة ، وقد علمت مما تقدم أن نقل تربة حمزة رضي‌الله‌عنه إنما هو للتداوي ؛ ولهذا لا يأخذونها من نفس القبر ، بل من المسيل الذي عنده المسجد (٢) ، ولئن صح مشروعية التبرك بتراب قبور

__________________

(١) الكراريز : أكواز ضيقة الرأس. واحدها : كراز.

(٢) المسيل الذي من جهة أحد ، لا من القبلة.

٩٥

الصالحين فهو أمر خاص بها لا دلالة فيه على جواز نقل مطلق تراب الحرم ، وهو أمر لم يأذن به الله تعالى ولا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والخير كله في الاتباع ، وقد قالت الحنابلة أيضا : يكره نقل حصى الحرم وترابه إلى غيره ، ولا يدخل غيره إليه ، ونقلوا عن أحمد أنه قال : الإخراج أشد ، انتهى. ويجب على من أخرج شيئا من تراب الحرم أو حجره أن يرده إليه ، ولا ضمان عليه في ترك الرد ، قال الكمال الدميري : وإذا نقل تراب أحد الحرمين إلى الآخر هل يزول التحريم ـ أي فينقطع وجوب الرد ـ أو يفرق بين نقله للأشرف وعكسه؟ فيه نظر ، والله أعلم.

الفصل الرابع عشر

في ذكر بدء شأنها ، وما يؤول إليه أمرها

روى ابن لهيعة بسنده إلى عائشة مرفوعا : «إن مكة بلد عظّمه الله ، وعظّم حرمته ، خلق مكة وحفها بالملائكة قبل أن يخلق شيئا من الأرض كلها بألف عام ، ووصلها بالمدينة ، ووصل المدينة ببيت المقدس ، ثم خلق الأرض كلها بعد ألف عام خلقا واحدا» قال العلامة المقدسي في بعض تأليفاته : هذا حديث غريب جدّا ، بل منكر.

وعن سليمان عن أبي عمرو الشيباني عن علي رضي‌الله‌عنه : كانت الأرض ماء ، فبعث الله ريحا فمسحت الأرض مسحا ، فظهرت على الأرض زبدة ، فقسمها أربع قطع ، خلق من قطعة مكة ، والثانية المدينة ، والثالثة بيت المقدس ، والرابعة الكوفة. وهو أثر واه.

وروينا في الكبير للطبراني أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله عزوجل اطلع إلى أهل المدينة وهي بطحاء قبل أن تعمر ليس فيها مدر ولا بشر ، فقال : يا أهل يثرب ، إني مشترط عليكم ثلاثا وسائق إليكم من كل الثمرات : لا تعصي ، ولا تعلي ، ولا تكبّري ، فإن فعلت شيئا من ذلك تركتك كالجزور لا يمنع من أكله.

وأخرج النسائي من رواية يزيد بن أبي مالك عن أنس في حديث الإسراء قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أتيت بدابة فوق الحمار ودون البغل» الحديث ، وفيه : «فركبت ومعي جبريل ، فسرت فقال : انزل فصلّ ، ففعلت ، فقال : أتدري أين صليت؟ صليت بطيبة وإليها المهاجر» يعني بفتح الجيم.

ووقع في حديث شداد بن أوس عند البزار والطبراني أنه قال : «أول ما أسري به صلى‌الله‌عليه‌وسلم مر بأرض ذات نخل ، فقال له جبريل : انزل فصل ، فنزل فصلى ، فقال : صليت بيثرب» الحديث.

٩٦

وروى رزين عن أنس يرفعه «لما تجلى الله لجبل طور سيناء تشظى ستة أشظاظ (١)» وفي رواية غير رزين «شظايا ، فنزلت بمكة ثلاثة : حراء ، وثبير ، وثور ، وفي المدينة :أحد ، وعير ، وورقان» وفي رواية «ورضوى» بدل عير ، ولا يشكل ذلك بكون رضوى بينبع ؛ لأن الينبع من توابع المدينة ومضافاتها كما سيأتي ، ورواه بعض شراح المصابيح بلفظ «عير ، وثور ، ورضوى» ومنه يؤخذ حكمة أخرى في تحديد الحرم بعير وثور ، وسيأتي بيان أول من سكنها بعد الطوفان في أخبار سكانها.

وروينا في الإمام للشافعي حديث «أسكنت أقل الأرض مطرا ، وهي بين عيني السماء عين الشام وعين اليمن» ورواه ابن زبالة بزيادة «فاتخذوا الغنم على خمس ليال من المدينة».

وروى أيضا حديث «يا معشر المهاجرين إنكم بأقل الأرض مطرا ، فأقلوا من الماشية ، وعليكم بالزرع ، وأكثروا فيه من الجماجم».

وروى الشافعي أيضا حديث «توشك المدينة أن تمطر مطرا لا يكن أهلها (٢) البيوت ، ولا يكنهم إلا مظال الشعر».

وروى أيضا : «توشك المدينة أن يصيبها مطر أربعين ليلة لا يكن أهلها بيت من مدر».

وروى ابن زبالة حديث «كيف بك يا عائشة إذا رجع الناس بالمدينة وكانت كالرمانة المحشوة؟ قالت : فمن أين يأكلون يا نبي الله؟ قال : يطعمهم الله من فوقهم ومن تحت أرجلهم ومن جنات عدن».

وأورد المرجاني في كتابه أخبار المدينة عن جابر مرفوعا «ليعودن هذا الأمر إلى المدينة كما بدأ منها ، حتى لا يكون إيمان إلا بها» الحديث.

وروى أحمد برجال ثقات «يوشك أن يرجع الناس إلى المدينة حتى يصير مسالحهم بسلاح» ومسالحهم : جمع مسلح ، وهم القوم الذين يحفظون الثغور ، وسلاح ـ كقطام ـ موضع بقرب خيبر.

وفي مسلم حديث : «تبلغ المساكن أهاب أو يهاب» بكسر المثناة التحتية.

وروى أحمد في حديث طويل أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «خرج حتى أتى بئر الأهاب ، قال : يوشك البنيان أن يأتي هذا المكان» وبئر أهاب : سيأتي أنها بالحرة الغربية.

وروى أبو يعلى عن زيد بن وهب قال : حدثني أبو ذر رضي‌الله‌عنه قال : قال لي

__________________

(١) الأشظاظ : شظايا مفردها شظية : الفلقة تتناثر من جسم صلب. و ـ رءوس الأضلاع السفلى وهي شبيهة بالغضاريف.

(٢) كنّ الشيء : ستره.

٩٧

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا بلغ البناء ـ أي : بالمدينة ـ سلعا فارتحل إلى الشام» فلما بلغ البناء سلعا قدمت الشام.

وروى ابن زبالة حديث «ليوشكن الدين أن ينزوي إلى هذين المسجدين ، ويوشكن أن يتشاحوا على موضع الوتد بالحمى كشح أحدكم أن ينقص من داره إلى جانب المسجد ، وليوشكن أن يبلغ بنيانهم يهيقا» قالوا : يا رسول الله ، فمن أين يأكلون؟ قال : «من هنا وهاهنا» يشير إلى السماء والأرض.

ويهيقا أوله آخر الحروف : موضع بقرب المدينة على ما سيأتي عن المجد آخر الباب السابع.

وذكر ابن زبالة الشجرة التي يضاف إليها مسجد ذي الحليفة ، ثم روي عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه : «لا تقوم الساعة حتى يبلغ البناء الشجرة».

وروي أيضا عنه : «أريتك شرف السيالة وشرف الروحاء ؛ فإنه منازل أهل الأردن إذا أجيز الناس إلى المدينة».

وفي الكبير للطبراني في حديث : «سيبلغ البناء سلعا ، ثم يأتي على المدينة زمان يمر السفر على بعض أقطارها فيقول : قد كانت هذه مدة عامرة من طول الزمان وعفو الأثر».

وروى النسائي عن أبي هريرة حديث : «آخر قرية من قرى الإسلام خرابا المدينة» ورواه الترمذي بنحوه ، وقال : حسن غريب ، ورواه ابن حبان بلفظ : «آخر قرية في الإسلام خرابا المدينة».

وروى أبو داود عن معاذ مرفوعا : «عمران بيت المقدس خراب يثرب ، وخراب يثرب خروج الملحمة ، وخروج الملحمة فتح القسطنطينية ، وفتح القسطنطينية وخروج الدجال» وروى أبو داود أيضا مرفوعا «الملحمة الكبرى وفتح القسطنطينية وخروج الدجال في سبعة أشهر».

وفي ابن شبة عن أبي هريرة : «ليخرجن أهل المدينة من المدينة خير ما كانت ، نصفا زهوا ، ونصفا رطبا ، قيل : من يخرجهم منها يا أبا هريرة؟ قال : أمراء السوء».

وفيه أيضا عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه مرفوعا نحوه ، وأن عبد الله بن عمر كان يردّ عليه ، فقال له أبو هريرة : لم تردّ علي؟ فوالله لقد كنت أنا وأنت في بيت حين قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يخرج منها أهلها خير ما كانت» فقال ابن عمر : أجل ، قد كنت أنا وأنت في بيت ، ولكن لم يقله ، إنما قال : «أعمر ما كانت» ولو قال : «خير ما كانت» لكان ذلك وهو حي وأصحابه ، فقال أبو هريرة : صدقت والذي نفسي بيده ، وفيه عنه أيضا : «ليجيئن الثعلب حتى يقيل في ظل المنبر ، ثم يروح لا ينهنهه أحد».

٩٨

وفي رواية عنه : «لا تقوم الساعة حتى يجيء الثعلب فيربض على منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ينهنهه أحد» وفيه أيضا عن شريح بن عبيد أنه قرأ كتابا لكعب : «ليغشين أهل المدينة أمر يفزعهم حتى يتركوها وهي مذللة (١) ، وحتى يبول السنانير على قطايف الخز ما يروعها شيء ، وحتى يخرق الثعالب في أسواقها ما يروعها شيء».

وفي الصحيحين حديث «لتتركون المدينة» ولفظ مسلم : «لتتركن المدينة على خير ما كانت مذللة ثمارها لا يغشاها إلا العوافي» يريد عوافي الطير والسباع «وآخر من يحشر منها راعيان من مزينة يريدان المدينة ينعقان بغنمهما فيجدانها وحوشا» ولفظ مسلم «حتى إذا بلغا ثنية الوداع خرّا على وجوههما» وهو في الموطأ بلفظ : «لتتركن المدينة على أحسن ما كانت حتى يدخل الكلب أو الذئب فيغذى على بعض سواري المسجد».

ورواه ابن شبة ولفظة : «فيغذى على سواري المسجد أو المنبر».

ويغدي ـ بالغين والذال المعجمتين ـ أي يبول عليها دفعة دفعة ، يقال : غذت المرأة ولدها بالتشديد ، إذا أبالته ، وبالتخفيف إذا أطعمته.

وفي ابن زبالة ـ وتبعه ابن النجار ـ حديث «لا تقوم الساعة حتى يغلب على مسجدي هذا الكلاب والذئاب والضباع فيمر الرجل ببابه فيريد أن يصلى فيه فما يقدر عليه».

وفي ابن شبة بسند صحيح حديث : «أما والله لتدعنها مذللة أربعين عاما للعوافي ، أتدرون ما العوافي؟ الطير والسباع» ورواه ابن زبالة بنحوه.

وروى أحمد برجال الصحيح أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صعد أحدا ، فأقبل على المدينة وقال : ويل أمها قرية ، يدعها أهلها كأينع ما تكون» الحديث ، وفي رواية له : «ويل أمك قرية ، يدعك أهلك وأنت خير ما تكونين».

وروي أيضا بإسناد حسن حديث للبشير بن راكب في حب وادي المدينة : «فليقولن لقد كان في هذه مرة حاضرة من المؤمنين».

وروى أيضا برجال ثقات حديث : «المدينة يتركها أهلها وهي مرطبة ، قالوا : فمن يأكلها؟ قال : السباع والعائف».

الفصل الخامس عشر

فيما ذكر من وقوع ما أخبر به صلى‌الله‌عليه‌وسلم

من خروج أهلها وتركها ، وذكر كائنة الحرة المقتضية لذلك

قد اختلف الناس : متى يكون هذا الترك؟ فقال القاضي عياض : إن هذا جرى في

__________________

(١) مذللة : مسهّلة وممهدة.

٩٩

العصر الأول ، وإنه من المعجزات ، فقد تركت المدينة على أحسن ما كانت حين انتقلت الخلافة إلى الشام والعراق ، وذلك أحسن ما كانت من حيث الدين والدنيا : أما الدين فلكثرة العلماء بها ، وأما الدنيا فلعمارتها واتساع حال أهلها ، قال : وذكر الأخباريون في بعض الفتن التي جرت بالمدينة وخاف أهلها أنه رحل عنها أكثر الناس ، وبقيت ثمارها للعوافي (١) ، وخلت مدة ، ثم تراجع الناس إليها.

وحكى البدر ابن فرحون في شرح الموطأ ، ومن خطه نقلت ، عن القاضي أيضا أنه قال : وقد حكى قوم كثيرون أنهم رأوا ما أنذر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تغذية الكلاب على سواري مسجدها ، انتهى.

وقال النووي : الظاهر المختار أن الترك للمدينة يكون آخر الزمان عند قيام الساعة ، ويوضحه قصة الراعيين من مزينة ، فإنهما يخران على وجوههما حين تدركهما الساعة ، ولفظ مسلم واضح في ذلك ؛ فإنه قال «ثم يحشر راعيان» ويؤيده كونها آخر قرى الإسلام خرابا.

قلت : ويؤيده رواية ابن شبة المتقدمة «ليدعنها مذللة أربعين عاما للعوافي» وهذا لم يقع اتفاقا ، على أنه ورد ما يقتضي أن الترك للمدينة يكون متعددا ، فلعل ما ذكره القاضي هو المرة الأولى ، وبقي الترك الذي يكون آخر الزمان ؛ لأن ابن شبة روى حديث «ليخرجن أهل المدينة من المدينة ، ثم ليعودن إليها ، ثم ليخرجن منها ، ثم لا يعودون إليهما ، وليدعنها وهي خير ما يكون مونعة (٢)».

وروي أيضا عن عمر مرفوعا «يخرج أهل المدينة منها ثم يعودون إلها فيعمرونها حتى تمتلئ وتبني ، ثم يخرجون منها فلا يعودون إليها أبدا».

وروى ابن شبة عن أبي هريرة قال : «آخر من يحشر رجلان رجل من جهينة وآخر من مزينة فيقولان : أين الناس؟ فيأتيان المدينة فلا يريان إلا الثعلب ، فينزل إليهما ملكان فيسحبانهما على وجوههما حتى يلحقاهما بالناس».

وروي أيضا عن حذيفة بن أسيد قال : «آخر الناس محضرا رجلان من مزينة يفقدان الناس ، فيقول أحدهما لصاحبه : قد فقدنا الناس منذ حين ، انطلق بنا إلى شخص من بني فلان ، فينطلقان فلا يجدان بها أحدا ، ثم يقول : انطلق بنا إلى المدينة ، فينطلقان فلا يجدان بها أحدا ، ثم يقول : انطلق بنا إلى منزل قريش ببقيع الغرقد ، فينطلقان فلا يريان إلا السباع والثعالب ، فيوجهان نحو البيت الحرام».

__________________

(١) العواف : ما يظفر به الإنسان والحيوان ليلا من صيد ونحوه.

(٢) المونعة : الثمرة الناضجة.

١٠٠