وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى - ج ١

نور الدين علي بن أحمد السّمهودي

وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى - ج ١

المؤلف:

نور الدين علي بن أحمد السّمهودي


المحقق: خالد عبد الغني محفوظ
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3818-9
الصفحات: ٢٩٤

وكل هؤلاء بنو سلمة ، وكانوا بهذه الدور ، وكلمتهم واحدة ، وملكوا عليهم أمّة بن حرام ، فلبث فيهم زمانا حتى هلك رجل من بني عبيد ذو أموال كثيرة ، له ولد واحد اسمه صخر ، فأراد أمة أن ينزع طائفة من أمواله فيقسمها في بني سلمة ، فعظم ذلك على صخر ، وشكا ذلك على بني عبيد وبني سواد ، وقال : إن فعل أمة ذلك لأضربنه بالسيف ، وسألهم أن يمنعوه إن هو فعل ، فأطاعوا له ، فلما فعل أمة ذلك ضربه صخر فقطع حبل عاتقه ، وقامت دونه بنو عبيد وبنو سواد ، فنذر أمة أن لا يؤويه ظل بيت ما عاش حتى يقتل بنو سلمة صخرا أو يأتوه به فيرى فيه رأيه ، وجلس أمة عند الضرب الذي فوق مسجد الفتح مما يلي الجرف في الشمس ، فمرت به وليدة حطابة فقالت : مالك يا سيدي هنا في الشمس؟ فقال :

إن قومي أجمعوا لي أمرهم

ثم نادوا لي صخرا فضرب

إنني آليت لا يسترني

سقف بيت من حرور ولهب

أبدا ما دام صخر آمنا

بينهم يمشي ولا يخشى العطب

فذهبت الجارية ، فأخبرتهم ، فربطوا صخرا ثم أتوه به ، فعفا عنهم وأخذ الذي كان يريد أن يأخذ من أمواله ؛ فهذا خبر ما دخل بين بني سلمة.

وروى ابن شبة عن جابر بن عبد الله أن بني سلمة قالوا : يا رسول الله ، نبيع دورنا ونتحول إليك ، فإن بيننا وبينك واديا؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اثبتوا فإنكم أوتادها ، وما من عبد يخطو إلى الصلاة خطوة إلا كتب الله له أجرا».

وروى أيضا عن يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة قال : شكا أصحابنا ـ يعني بني سلمة وبني حرام ـ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن السيل يحول بينهم وبين الجمعة ، وكانت دورهم مما يلي نخيلهم ومزارعهم في مسجد القبلتين ومسجد الخربة ، فقال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وما عليكم لو تحولتم إلى سفح الجبل» يعني سلعا ، فتحولوا ؛ فدخلت حرام الشّعب ، وصارت سواد وعبيد إلى السفح.

قلت : وشعب بني حرام معروف بسلع ، وهناك آثار منازلهم وآثار مسجدهم في غربي جبل سلع على يمين السالك إلى مساجد الفتح من الطريق القبلية ، وعلى يسار السالك إلى المدينة وعلى مقربة من محاذاته في جهة المغرب حصن خل.

وروى ابن زبالة ويحيى من طريقه عن جابر بن عبد الله قال : كان السيل يحول بين بني حرام وبين مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنقلهم عمر بن الخطاب إلى الشعب ، وكلهم قوما

١٦١

كانوا فيه من أهل اليمن يقال لهم بنو ناغضة ، فانتقلوا إلى الشعب الذي تحت مسجد الفتح ، فآثارهم هناك ، واشترت بنو حرام غلاما روميّا من أعطياتهم ، وكان ينقل الحجارة من الحرة وينقشها ، فبنوا مسجدهم الذي في الشعب وسقفوه بخشب وجريد ، وكان عمر بن عبد العزيز زاد فيه مدماكين من أعلاه ، وطابق سقفه ، وجعل فيه ذيت مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قلت : وآثار خرز أساطينه وما تكسر منها موجود اليوم فيه ، يعرف محله بالشعب المذكور.

وقد روى المجد في فضل المساجد الخبر المتقدم ، إلا أنه قال : وجعل فيه ذيت مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : والذيت الساج الذي يظهر على الحائط ، انتهى. ولم يضبطه غير أنه بالذال في كتابه ، والذي في كتاب ابن زبالة ويحيى ما قدمناه ، والله أعلم.

ونزل بنو بياضة وزريق ابنا عامر بن زريق بن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جشم بن الخزرج الأكبر ، وبنو حبيب بن عبد حارثة بن مالك بن غضب ، وبنو عذارة وهم بنو كعب بن مالك بن غضب ، وبنو الليل وهم بنو عامر بن مالك بن غضب ، وبنو أجدع وهم بنو معاوية بن مالك بن غضب دار بني بياضة. قال المطري : فيما بين دار بني سالم بن عوف بن الخزرج التي عند مسجد الجمعة إلى وادي بطحان قبلي دار بني مازن بن النجار.

قلت : الذي يترجح عندي أن دارهم كانت في شامي دار بني سالم بن عوف وقبلي دار بني مازن ، ممتدة في الحرة الغربية ، حتى إن في كلام ابن زبالة ما يقتضي أن بعض منازلهم تمتد إلى منازل بني ساعدة لما سنذكره.

وابتنوا بدارهم الآطام ، وروى ابن زبالة أنه كان بدارهم تسعة عشر أطما ، وأن الذي أحصاه لبني أمية بن عامر بن بياضة خاصة ثلاثة عشر أطما : منها أطم أسود في يماني أرض فراس بن ميسرة ، كان في الحرة ، ومنها «عقرب» كان في شامي المزرعة المسماة بالرحابة في الحرة على الفقارة ، ومنها «سويد» كان في شامي الحائط الذي يقال له الحماضة ، ولصاحبه كانت الحماضة ، وسيأتي ذكر الحماضة في منازل بني ساعدة ، لكن يبعد أن يكون هي المراد هنا ، ومنها «اللواء» كان موضعه في حد السرارة بينه وبين زاوية الجدار الشامي الذي يحيط على الحماضة عشرون ذراعا ، ومنها أطم كان في السرارة ، والسرارة : ما بين أرض ابن أبي قليع إلى منتهى الحماضة ، وما بين الأطم الذي يقال له

١٦٢

اللواء إلى الجدار الذي يقال له بيوت بني بياضة ، والجدار الذي بناه زياد بن عبيد الله لبركة السوق وسط السرارة ، قاله ابن زبالة ، وهو يقتضي أن السرارة قرب سوق المدينة ، ويؤيده ذكر الحماضة في منازل بني ساعدة ، لكن الظاهر أن المراد ببركة السوق هنا بركة كانت مما يلي سيل بطحان ورانونا ؛ لأن ابن شبة قال في سيل رانونا : إنه يقترن بذي صلب ، يعني موضع مسجد الجمعة ، ثم يستبطن السرارة حتى يمر على قعر البركة ، ثم يفترق فرقتين ، إلى آخر ما سيأتي عنه.

ونقل رزين أن السرارة بين بني بياضة والحماضة. ثم ذكر ابن زبالة بقية آطامهم ، وذكر ما يقتضي أن ما حول السرارة هو أقصى بيوت بني بياضة. ثم قال : وابتنى بنو حبيب بن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جشم بن الخزرج الأطم الذي في أدنى بيوت بني بياضة الذي دونه الجسر الذي عند ذي ريش. ثم قال : فلبث بنو غضب بن جشم بن الخزرج ـ أي الفرق المذكورين كلهم ـ في دار بني بياضة ، وأمرهم جميع ، ثم إن زريق بن عامر هلك فأوصى ببنيه إلى عمه حبيب بن عبد حارثة ، فكان حبيب يكلفهم النّضح بأيديهم ، فلما اشتد عليهم عدوا عليه فقتلوه ، فحالف بنو حبيب بني بياضة على نصرهم على بني زريق ، فخافت بنو زريق أن يكثروهم. وكانت بنو بياضة حينئذ أثرى من بني زريق ، فخرجوا من دار بني بياضة حتى حلوا دارهم المعروفة بهم قبليّ المصلى وسور المدينة الموجود اليوم وداخله بالموضع المعروف بذروان وما والاه ، وابتنوا آطاما منها أطم في زاوية دار كبير بن الصلت بالمصلى ، وأطما يقال له «الريان» عند سقيفة آل سراقة التي يقال لها «سقيفة الريان» وأقام بنو عمرو بن عامر بن زريق مع بني بياضة ، ولهم الأطم الذي في شامي أرض فراس بن ميسرة في أدنى بيوت بني بياضة مما يلي السبخة ، فلبثوا هناك حتى انتقل رافع بن مالك هو وولده قبيل الإسلام فسكنوا طرف السبخة ما بين الأساس إلى طرف السبخة إلى الدار التي فيها يسكن إسحاق بن عبيد بن رفاعة ، وكان يقال لرافع بن مالك «الكامل» لأن أهل الجاهلية كانوا يقولون لمن كان كاتبا شاعرا «الكامل» وانتقل سائر بني عمرو بن عامر بعد ذلك ، فاشتروا من بني عوف بن زريق بعض دورهم وحقوقهم ، وخرجت بنو عوف بن زريق قبيل الإسلام إلى الشام ؛ فيزعمون أن هنالك ناسا منهم ، ولبث بنو بياضة وبنو حبيب زمانا لا يقاتلون بني زريق ، والرسل تجري بينهم ، وبنو زريق يدعونهم إلى الصلح والدية ، وعرضوا على بني حبيب أن يقطعوا لهم طائفة من ديارهم ، فقبلوا ذلك ، ووضعوا الحرب ، وسمي الزقاق الذي دفعوه لهم «زقاق الدية» وانتقل بنو مالك بن زيد بن حبيب بن عبد حارثة من بني بياضة ، ونزلوا الناحية التي ودت بنو زريق ، وابتنوا أطما كان لبني المعلى بن لوذان ، وتخلف بنو الصمة بن حارثة بن

١٦٣

الحارث بن زيد بن حبيب في بني بياضة ، فلبثت بنو المعلى بن لوذان في بني زريق ما شاء الله.

ثم إن عبيد بن المعلى قتل حصن بن خالد الزرقي ، فأراد بنو زريق أن يقتلوه ، ثم بدا لهم أن يدوا حصن بن خالد من أموالهم عن عبيد على أن يحالفهم بنو المعلى ، ويقطعون حلفهم مع بني بياضة ، ففعلوا ، وكان عامر بن زريق بن عبد حارثة والد زريق وبياضة لما حضرته الوفاة أوصى ابنه بياضة بالصبر في الحروب وشدة البأس ، وأوصاه بأخيه زريق وكان أصغرهما ، فقال بعض شعرائهم في ذلك :

بالصّبر أوصى عامر بياضه

ويقال للأوس والخزرج : أبطأهم فرة وأرعهم كرة بنو بياضة وبنو زريق وبنو ظفر ، وإن الأوس والخزرج لم يلتقوا في موطن قط إلا كان لهذه القبائل فضل بيّن على غيرهم من بطون الأوس والخزرج.

وأما بنو عذارة بن مالك بن غضب بن جشم فكانوا أقل بطون بني مالك بن غضب عددا ، وكانوا قوما ذوي شراسة وشدة أنفس ، فقتلوا قتيلا من بعض بطون بني مالك بن غضب إما من بني اللين أو بني أجدع ، وأبى أهل القتيل الدية ، وذهبوا إلى بني بياضة ليعينوهم على بني عذارة حتى يعطوهم القاتل ، فكلمات بنو بياضة بني عذارة في ذلك ، فأبوا أن يخلوا بينهم وبينه ، فأرادت بنو بياضة أن يأخذوه عنوة (١) ، فخرجوا من دار بني بياضة حتى نزلوا قباء على بني عمرو بن عوف فحالفوهم وصاهروهم ، وامتنعوا من بني بياضة ، ثم إنه دخل بين بني عذارة وبين بني عمرو بن عوف قبيل الإسلام أمر ، فأجمعوا أن ينتقلوا من عندهم إلى بني زريق ، وكرهوا أن يرجعوا إلى بني بياضة ، فجاؤوهم وذكروا لهم ذلك ، فلقوهم بما يحبون ، وسددوا رأيهم (٢) ، وأتوا أبا عبيدة سعيد بن عثمان الزرقي فذكروا له ذلك ، فرحب بهم وذكر شرفهم وفضلهم ، ثم قال : إني أشير عليكم أن ترجعوا إلى أخوالكم ـ يعني : بني عمرو بن عوف ـ ولا تنتقلوا إلى بني زريق ، فإن في أخلاقكم شراسة وفي أخلاق بني زريق مثلها ، فتفرقوا عن رأيه ، فلم يزالوا كذلك إلى أن فرض المهدي للأنصار سنة ستين ومائة ، فانتقلوا بديوانهم إلى بني بياضة ، وكان بطنان من بطون بني مالك بن غضب ممن كان بدار بني بياضة ـ لا ندري أهم من الليلن أم من أجدع ـ كان

__________________

(١) عنوة : قسرا.

(٢) سدد رأيه : أصاب في قوله وفعله.

١٦٤

بينهم ميراث في الجاهلية ، فاشتجروا فيه ، فلما رأوا أنهم لا يستقيمون فيه على أمر تداعوا إلى أن يدخلوا حديقة كانت في بني بياضة فيقتتلوا فيها ، فدخلوا جميعا ثم أغلقوها ، فاقتتلوا حتى لم يبق منهم عين تطرف ، فسميت تلك الحديقة «حديقة الموت» وكان بنو مالك بن غضب سوى بني زريق ألف مقاتل في الجاهلية ، وأما بنو أجدع فلم يبق منهم أحد ، وأما بنو اللين فكان بقي منهم رجلان ثم انقرضا لا عقب لهما.

وذكر ابن حزم : أن زيد بن حبيب بن عبد حارثة بن مالك بن غضب المتقدم ذكر بنيه كان له أخ ، وهو عبد الله بن حبيب ، وأن عبد الله بن حبيب هذا ولد أبى جبيلة الغساني الذي جلبه مالك بن العجلان لقتل اليهود بالمدينة كما قدمنا الإشارة إليه ، والله أعلم.

ونزل بنو ساعدة بن كعب بن الخزرج الأكبر مفترقين في أربع منازل : فنزل بنو عمرو وبنو ثعلبة ابنا الخزرج بن ساعدة دار بني ساعدة التي بين السوق ـ أي سوق المدينة ـ وبين بني ضمرة ؛ فهي في شرقي سوق المدينة مما يلي الشام. وقال المطري : قرية بني ساعدة عند بئر بضاعة ، والبئر وسط بيوتهم. قال ابن زبالة : فابتنوا أطما يقال له «معرض» في الدار المواجهة مسجد بني ساعدة ، وهو آخر أطم بني بالمدينة ، وقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة وهم يبنونه ، فاستأذنوه في إتمامه ، فأذن لهم فيه ، وله يقول شاعرهم :

ونحن حمينا عن بضاعة كلّها

ونحن بنينا معرضا فهو مشرف

فأصبح معمورا طويلا فدى له

وتخرب آطام بها وتصفصف

وأطما في دار أبي دجانة الصغرى التي عند بضاعة ، ونزلت بنو قشبة ـ واسم قشبة عامر بن الخزرج بن ساعدة ـ قريبا من بني حديلة ، وابتنوا أطما عند خوخة عمرو بن أمية الضّمري.

قلت : فمنزلهم في شرقي بني ضمرة ، والمنزل المذكور قبل ، والله أعلم.

ونزلت بنو أبي خزيمة بن ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة ـ وهم رهط سعد بن عبادة الدار التي يقال لها جرار سعد وهي جرار كان يسقي الناس فيها الماء بعد موت أمه. قال ابن زبالة : عرض سوق المدينة ما بين المصلى إلى جرار سعد بن عبادة.

قلت : فهي مما يلي السوق ، فإما أن يكون من جهة المشرق والمصلى حده من جهة المغرب ، فيشهد ذلك لأنها الموضع المعروف اليوم بين أهل درب السويقة بسقيفة بني ساعدة ، ويكون إطلاق السقيفة على ذلك المحل صحيحا ، لا كما قال المطري : إنها بقرية ببني ساعدة عند بئر بضاعة ؛ لأن سعد بن عبادة لم يكن هناك ، وإنما كان مع رهطه في منزلهم ، والسقيفة كانت عند منزله ، وإما أن يكون جرار سعد مما يلي السوق من جهة

١٦٥

الشام ، ويكون المصلى حده القبلي ، وهذا هو الأرجح ؛ لأن الجهة التي بالمشرق مما تقدم إنما هي من منازل بني زريق ، والله أعلم.

قال ابن زبالة : فابتنوا أطما يقال له واسط ، وقد تقدم أن بني خدارة نزلوا بجرار سعد أيضا ، فكأنها كانت منزلها ، وبنو خدارة من بني الحارث بن الخزرج كما تقدم ، فدارهم المرادة في حديث عيادة سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج ، لا دار بني الحارث المعروفة بهم لبعدها جدا عن منازل بني ساعدة ، وليسوا قوم سعد إلا من حيث إن الكل من الخزرج.

وفي حديث عائشة في الصحيح بعد قول عروة لها : ما كان يعيشكم؟ قالت : الأسودان التمر والماء ، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جيران من الأنصار كانت لهم منائح ، الحديث.

قال الحافظ ابن حجر في بيان ذلك : جيرانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأنصار سعد بن عبادة وعبد الله بن عمرو بن حزم وأبو أيوب وسعد بن زرارة ؛ فيبعد كون سعد بن عبادة في دار بني الحارث لعده في الجيران ، ومأخذ الحافظ ابن حجر في ذلك ما رواه ابن سعد عن أم سلمة قالت : كان الأنصار يكثرون إلطاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : سعد بن عبادة ، وسعد بن معاذ ، وعمارة بن حزم ، وأبو أيوب ، وذلك لقرب جوارهم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم انتهى ، والله أعلم.

ونزلت بنو وقش وبنو عنان ابنا ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة الدار التي يقال لها «بنو ساعدة» ويقال لها أيضا «بنو طريف» وهي بين الحماضة وجرار سعد ، وسيأتي في ترجمة الشوط ما يقتضي أن لبني ساعدة منزلا في شامي مسجد الراية ، والظاهر أنه هذا المنزل ، والله أعلم.

ونزل بنو مالك بن النجار دارهم المعروفة بهم ، فابتنى بنو غنم بن مالك أطما يقال له «فويرع» وفي موضعه دار حسن بن زيد بن حسن بن علي بن أبي طالب ، رضي‌الله‌عنه!

قلت : وهي الدار المقابلة لدار جعفر الصادق التي في قبلة المدرسة الشهابية ، كما سيأتي نقله عن ابن شبة.

وابتنى بنو مغالة ـ وهم بنو عدي بن عمرو بن مالك ، ومغالة أم عدي ـ أطما يقال له «فارع» وهو الأطم الذي واجه دور بني طلحة بن عبيد الله ، ودخل في دار [جعفر] بن يحيى بن خالد بن برمك ، وله يقول حسان بن ثابت :

أرقت لتوماض البروق اللوامع

ونحن نشاوى بين سلع وفارع

قاله ابن زبالة.

١٦٦

وقال الزين المراغي : إن هذا الأطم كان لثابت والد حسان بن ثابت ، وإنه دخل في الدار المواجهة لباب الرحمة التي كانت دار عاتكة ، ومأخذه في ذلك أن دار عاتكة من جملة دار جعفر بن يحيى ، لكن سيأتي من كلام ابن زبالة ويحيى عند ذكر أبواب المسجد أن دار جعفر بن يحيى ، لكن سيأتي من كلام ابن زبالة ويحيى عند ذكر أبواب المسجد أن دار جعفر بن يحيى دخل فيها بيت عاتكة وفارع أطم حسان بن ثابت ، وبيّنا محله هناك في شامي الدار المذكورة ، أعني دار عاتكة ، وفارع هذا هو الأطم الذي كانت به صفية عمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الخندق وعندها حسان.

وفي مسلم في حديث ابن صياد «فوجده عند أطم بني مغالة».

قال عياض : بنو مغالة كل ما كان على يمينك إذا وقفت آخر البلاط مستقبل المسجد النبوي.

وابتنى بنو حديلة (بضم الحاء المهملة) وهو ـ كما قال ابن زبالة وغيره ـ لقب معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار أطما يقال له «مشعط» كان في غربي مسجدهم الذي يقال له «مسجد أبي» يعني أبي بن كعب ، وفي موضعه بيت يقال له «بيت أبي نبيه» وقد أسند ابن زبالة عقب ذكره الحديث المتقدم «إن كان الوباء في شيء فهو في ظل مشعط» وذكر ابن شبة قصر بني حديلة ، وقال : بناه معاوية بن أبي سفيان رضي‌الله‌عنه ليكون حصنا ، قال : وله بابان : باب شارع على خط بني حديلة ، وباب في الزاوية الشرقية اليمانية عند دار محمد بن طلحة التّيمي ، وفي وسطه بئر حاء ، انتهى.

وقال عياض في المشارق : بئر حاء : موضع يعرف بقصر بني حديلة ، وقد قال ابن إسحاق : بنو عمرو بن مالك بن النجار هم بنو حديلة ، أي لأن حديلة بطن منهم ؛ لما قدمناه من أنه لقب أبيهم معاوية بن عمرو بن مالك.

قلت : فليس بنو حديلة هؤلاء بني معاوية من الأوس أهل مسجد الإجابة كما قدمناه ولكن الاشتراك في الاسم أوجب الوهم ، فقد وقع للقاضي عياض في المشارق ما يخالف كلام عامة الناس ، فقال : قال الزبير : كل ما كان من المدينة عن يمينك إذا وقفت آخر البلاط مستقبل مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنو مغالة ، والجهة الأخرى أي التي على يسارك بنو حديلة ، وهم بنو معاوية وهم من الأوس.

قال الجوهري : هي قرية من قرى الأنصار ، قال القاضي : هم بطن من الأنصار سميت جهتهم بهم ، وهم أيضا بنو حديلة (بحاء ودال مهملتين) وحديلة أمهم ، انتهى.

والذي نقله غيره عن الزبير أن بني حديلة من بني النجار من الخزرج ، وبنو معاوية من الأوس غيرهم ، وقد قدمناه عن ابن زبالة شيخ الزبير ، وقد ذكر ابن حزم في الجمهرة

١٦٧

معاوية من الأوس ، وذكر بني حديلة من الخزرج ، فقال وولد مالك بن النجار معاوية وأمه حديلة فنسب إليها ، والظاهر أن قول القاضي «وهم من الأوس» ليس من كلام الزبير في هذا الموضع ، ولكن القاضي لما رأى قوله «وهم بنو معاوية» ظن أنهم بنو معاوية من الأوس ، وهذا موجب ما وقع للمطري من الخبط في هذا المحل ، حيث غاير بينهما مرة وجعلهما متحدين أخرى ، ولا يصح الجمع بما ذكره المراغي من احتمال أن يكون بنو معاوية بطنا أو فخذا من بني حديلة ؛ لما قدمناه.

وابتنى بنو مبذول ـ واسمه عامر بن مالك بن النجار ـ أطما يقال له «السلج» وأطما كان في دار آل حييّ بن أخطب كان لبني مالك بن مبذول ، وأطما كان في دار سرجس مولى الزبير التي إلى بقيع الزبير كان لآل عبيد بن النعمان أخي النعمان بن عمرو بن مبذول ، وبقيع الزبير ذكر في أماكن يؤخذ منها أنه كان في شرقي الدور التي تلي قبة المسجد النبوي إلى بني زريق ، وإلى بني غنم ، وإلى البقال (١) كما سيأتي.

ونزل بنو عدي بن النجار دارهم المعروفة بهم غربي المسجد النبوي ، على ما قاله المطري ، وكان بها الأطم الذي في قبلة مسجدهم ، وابتنوا أطما يقال له «أطم الزاهريرة» امرأة سكنته كان في دار النابغة عند المسجد الذي في الدار.

ونزل بنو مازن بن النجار دارهم المعروفة بهم قبلى بئر البصة ، وتسمى الناحية اليوم أبو مازن ، غيّرها أهل المدينة.

قال المطري : وابتنوا بها أطمين أحدهما يقال له «واسط» قلت : والذي يؤخذ من كلام ابن شبة الآتي في منازل القبائل أن منازل بني مازن كانت في قبلة المدينة شرقي منازل بني زريق قريبة منها ، والله أعلم.

ونزل بنو دينار بن النجار دارهم التي خلف بطحان المعروفة بهم ، وابتنوا أطما يقال له «المنيف» عند مسجدهم الذي يقال له مسجد بني دينار ، قاله ابن زبالة ، وقال المطري في بيان هذا المسجد : ودار بني دينار بن النجار بين دار بني حديلة ودار بني معاوية أهل مسجد الإجابة ، ودار بني حديلة عند بئر حاء ، اه.

ولا أدري من أين أخذ هذا ، وما ذكره ابن زبالة أقرب وأولى بالاعتماد لأمور سنذكرها في بيان مسجدهم.

قال ابن زبالة : وزعم بنو دينار أنهم نزلوا أولا دار أبي جهم بن حذيفة العدوي ، وكانت امرأة منهم هنالك ، وكان لها سبعة إخوة ، فوقفت على بئر لهم بدار أبي جهم ومعها مدرى لها من فضة فسقط منها في البئر ، فصرخت بإخوتها ، فدخل أولهم يخرجه

__________________

(١) البقال : اسم موضع.

١٦٨

فأسر ، فاستغاث ببعض إخوته حتى دخلوا جميعا فماتوا في تلك البئر ، فهذه منازل بني النجار.

قال المطري وتبعه من بعده : إن دار النابغة المتقدمة في بني عدي كانت غربي مسجد الرسول ، وهي دار بني عدي بن النجار ، ومسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما يليه من جهة الشرق دار بني غانم بن مالك بن النجار ، ودور بني النجار بالمدينة وما حولها من الشمال إلى مسجد الإجابة ، والنجار : هو تيم الله بن ثعلبة ، وسمي بذلك لأنه ضرب رجلا فنجره ، فقيل له : النجار ، وفي دور بنيه هؤلاء قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خير دور الأنصار بنو النجار ثم بنو عبد الأشهل» وهم من الأوس كما سبق. وفي رواية أخرى : «ألا أخبركم بخير دور الأنصار؟ قالوا : بلى ، قال : بنو عبد الأشهل ، وهم رهط سعد بن معاذ ، قالوا : ثم من يا رسول الله قال : ثم بنو النجار» وراويهما واحد ، وقد صحتا ، فاختلف عليه ، وتقديم بني النجار روى عن أنس من غير اختلاف عليه ، ولها مؤيدات أخرى ، وهم أخوال عبد المطلب جد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولذلك نزل عليهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما سيأتي ، ثم ذكر في الرواية المذكورة بعد بني عبد الأشهل بني الحارث بن الخزرج أي الأكبر «ثم بنو ساعدة» وقال في هذه الرواية أيضا «وفي كل دور الأنصار خير» وكأن المفاضلة وقعت بحسب السبق إلى الإسلام ، وبحسب مساعيهم في إعلام كلمة الله.

قال ابن زبالة عقب ذكر جميع منازل الأنصار المتقدمة : ونزل بنو الشطبة حين قدموا من الشام ميطان ، فلم يوافقهم ، فتحولوا قريبا من جذمان ، ثم تحولوا فنزلوا براتج ، فهم أحد قبائل راتج الثلاث ، وقد ذكر راتج في منازل يهود فقال : وكان براتج ناس من اليهود ، وكان راتج أطما سميت به تلك الناحية ، ثم صار لبني الجذماء ، ثم صار بعد لأهل راتج الذين كانوا حلفاء بني عبد الأشهل ، وهو الذي يقول له قيس بن الخطيم :

ألا إن بين الشّرعبى وراتج

البيت.

وقد قدمنا عن ابن حزم أن أهل راتج هم بنو زعورا بن جشم أخي عبد الأشهل بن جشم ، وذكر أيضا أن من أهل راتج بني سعد بن مرة بن مالك بن الأوس.

وقال المطري : راتج جبيل صغير غربي وادي بطحان ، وبجنبه جبيل آخر صغير يقال له : جبل بني عبيد ، انتهى. وسيأتي ما ينازع فيه مع بيان أن راتجا في ناحية مسجد الراية.

١٦٩

الفصل السادس

فيما كان بينهم من حرب بعاث

نقل رزين عن الشرقي أن الأوس والخزرج لبثوا بالمدينة ما شاء الله وكلمتهم واحدة ، ثم وقعت بين الأوس والخزرج حروب كثيرة حتى لم يسمع قط في قوم أكثر منها ولا أطول.

الحروب قبل بعاث

أولها : حرب سمير ، وسببه رجل من بني ثعلبة كان حليفا لمالك بن العجلان ، قتله رجل من الأوس يقال له سمير بالمهملة مصغرا. ثم حرب كعب بن عمرو ، ثم يوم السرارة ، وهو موضع بين بني بياضة والحماضة ، ثم يوم الديك ، وهو موضع أيضا ، ثم حرب بعاث ، وهو كان آخرها ، قتل فيه سراة الأوس والخزرج ورؤسائهم.

قلت : في كلام بعضهم أنه كان بين الأوس والخزرج وقائع من أشهرها يوم السرارة ، ويوم فارع ، ويوم الفجار الأول والثاني ، وحرب حضير بن الأسلت ، وحرب حاطب بن قيس ، إلى أن كان آخر ذلك يوم بعاث ، فقول الخطابي «يوم بعاث يوم مشهور كانت فيه مقتلة عظيمة للأوس على الخزرج ، وبقيت الحرب قائمة مائة وعشرين سنة إلى الإسلام على ما ذكره ابن إسحاق وغيره» مؤول بأن حروب الأوس والخزرج كلها قبل بعاث وبعده مكثت هذه المدة ، وإلا فهو مردود ، وسيأتي تعيين تاريخ يوم بعاث.

سبب حرب بعاث

وكان سببه أن الحروب المتقدمة كلها كان الظفر في أكثرها للخزرج على الأوس ، حتى ذهبت الأوس لتحالف قريظة ، فأرسلت إليهم الخزرج : لئن فعلتم فأذنوا بحرب ، فتفرقوا وأرسلوا إلى الخزرج : إنا لا نخالفهم ، ولا ندخل بينكم ، فقالت الخزرج لليهود : فأعطونا رهائن ، وإلا فلا نأمنكم ، فاعطوهم أربعين غلاما من بينهم ، ففرقهم الخزرج في دورهم ، فلما أيست الأوس من نصرة اليهود حالفت بطونا من الخزرج منهم بنو عمرو بن عوف ، وقال سائرهم : والله لا نصالح حتى ندرك ثأرنا ، فتقاتلوا ، وكثر القتل في الأوس لما خذلهم قومهم ، وخرج سعد بن معاذ الأشهلي ، فأجاره عمرو بن الجموح الحرامي ، فلما رأت الأوس أن أمرهم إلى قل عزموا على أن يكونوا حلفا للخزرج في المدينة ، ثم اشتوروا في أن يحالفوا قريشا ، فأظهروا أنهم يريدون العمرة ، وكان بينهم أن من أراد حجا أو عمرة لم يعرض له ، فأجار أموالهم بعدهم البراء بن معرور ، فأتوا مكة فحالفوا قريشا ، ثم جاء أبو جهل ـ وكان غائبا ـ فنقض حلف قريش بحيلة احتالها.

١٧٠

قلت : روى ابن شبة عن أفلح بن سعيد ما يخالفه في نسبة ذلك لأبي جهل مع بيان الحيلة ، فقال : خرجت الأوس جالية من الخزرج حتى نزلت على قريش بمكة فحالفتها ، فلما حالفتهم قال الوليد بن المغيرة : والله ما نزل قوم قط على قوم إلا أخذوا شرفهم وورثوا ديارهم ، فاقطعوا حلف الأوس ، فقالوا : بأي شيء؟ قال : إن في القوم حمية ، قولوا لهم : إنا نسينا شيئا لم نذكره لكم ، إنا قوم إذا كان النساء بالبيت فرأى الرجل امرأة تعجبه قتلها ولمسها بيده ، فلما قالوا ذلك للأوس نفرت وقالوا : اقطعوا الحلف بيننا وبينكم ، فقطعوه ، انتهى.

فلما لم يتم لهم الحلف ذهبت النبيت إلى خيبر ـ قلت : أراد بالنبيت بعضهم ، وهم بنو حارثة ؛ لما قدمناه من أن النبيت يطلق عليهم وعلى بني عبد الأشهل وبني ظفر وبني زعورا ، والذي انتقل من هؤلاء إلى خيبر هم بنو حارثة فقط كما سبق ، إلا أن يريد غيره ـ فأقاموا بها سنة ، وماتت منهم عجوز فقالوا «أهون حادث موت عجوز في سنة» فذهب مثلا ، فلما رأت الخزرج أن قد ظفرت بالأوس افتخروا عليهم في أشعارهم ، وقال عمرو بن النعمان البياضي : يا قوم إن بياضة بن عمرو أنزلكم منزل سوء ، والله لا يمس رأسي غسلا حتى أنزلكم منازل بني قريظة والنضير وأقتل رهنهم ، وكان لهم غزار المياه وكرام النخل ، وقال رجل منهم أيضا شعرا يتغنى به يذكر جلاء النبيت إلى خيبر وأخذهم الرهن من اليهود :

هلمّ إلى الأحلاف إذ رقّ عظمهم

وإذ أصلحوا ما لا لجذمان ضائعا

إذا ما امرؤ منهم أساء عمارة

بعثنا عليهم من بني العير جادعا

فأما الصّريح منهم فتحمّلوا

وأما اليهود فاتخذنا بضائعا

وذاك بأنا حين نلقى عدوّنا

نصول بضرب يترك العز خاشعا

فبلغ قولهم قريظة والنضير وهم المعينون بالصريح لأنهم من بني الكاهن بن هارون ، وبلغ ذلك أيضا من كان في المدينة من الأوس ، فمشوا إلى كعب بن أسد القرظي ، فدعوه إلى المحالفة على الخزرج ، ففعل ، ثم تحالفوا مع قريظة والنضير ، ثم أرسلوا بذلك إلى النبيت فقدموا فأخذت الخزرج في قتل الرهن ، فقال لهم كعب بن أسد القرظي : إنما هي ليلة ثم تسعة أشهر وقد جاء الخلف ، وأرسلوا إلى الأوس وقالوا لهم : انهضوا إلينا ، فنأتيهم بأجمعنا ، فجاءت الخزرج إلى عبد الله بن أبي فقالوا : مالك لا تقتل الرهن؟ فقال : لا أغدرهم أبدا ، وأنتم البغاة ، وقد بلغني أن الأوس تقول : منعونا الحياة فيمنعونا الموت ، وو الله ما يموتون أو تهلكون عامتكم ، فقال له عمرو بن النعمان : انتفخ والله سحرك ، فقال : إني لا أحضركم ، ولكأني أنظر إليك قتيلا يحملك أربعة في كساء.

١٧١

فاجتمع الخزرج ورأسوا عليهم عمرو بن النعمان قلت : الذي ذكره ابن حزم أن رئيس الخزرج يومئذ هو والد النعمان ، وهو رحيلة بن ثعلبة البياضي ، والله أعلم. فاقتتلوا في بعاث ، وهو موضع عند أعلى قوري ، وكانت الدّبرة على الخزرج ، وقتل عمرو بن النعمان ، وجيء به تحمله أربعة كما قال له ابن أبي ، وحلفت اليهود لتهدمن حصن عبد الله بن أبي ، وكان أبو عمرو الراهب مع الأوس ، وكانت تحته جميلة بنت أبي ، وهي أم حنظلة الغسيل ، فلما أحاطوا بالحصن قال لهم عبد الله : أما أنا فلم أحضر معهم ، وهؤلاء أولادكم الذين عندي فإنني لم أقتل منهم أحدا ، ونهبت الخزرج فعصوني ، وكان جل من عنده من الرهن من أولاد بني النضير ، ففرحوا حين سمعوا بذلك ، فأجاروه من الأوس ومن قريظة ، فأطلق أولادهم وحالفهم ، ولم يزل حتى ردهم حلفاء الخزرج بحيل تحيّل بها ، وكان رئيس الأوس في هذه الحرب حضير الذي قال له «حضير الكتائب» والد أيد بن حضير ، وبها قتل ، وقال خفاف بن ندبة يرثي حضيرا :

أتاني حديث فكذّبته

وقالوا : خليلك في المرمس

فيا عين بكى حضير الندى

حضير الكتائب والمجلس

وكان رئيس الخزرج عمرو بن النعمان البياضي كما تقدم أيضا ، قال بعضهم : وكان النصر فيها أولا للخزرج ، ثم ثبّت حضير الأوس فرجعوا وانتصروا.

وذكر أبو الفرج الأصبهاني أن سبب ذلك أنه كان من قاعدتهم أن الأصيل لا يقتل بالحليف ، فقتل رجل من الأوس حليفا للخزرج ، فأرادوا أن يقيدوه فامتنعوا ، فوقعت بينهم الحرب لأجل ذلك.

وكان يوم بعاث قبل الهجرة بخمس سنين على الأصح ، وقيل : بأربعين سنة ، وقيل : بأكثر ، وهو اليوم الذي تقول فيه عائشة رضي‌الله‌عنها كما في الصحيح «كان يوم بعاث يوما قدمه الله لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دخولهم في الإسلام ، فقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد افترق ملؤهم وقتلت سراتهم» يعني الأوس والخزرج ، ومعناه أنه قتل فيه من أكابرهم من كان لا يؤمن أن يتكبر ويأنف أن يدخل في الإسلام لتصلبه في أمر الجاهلية ولشدة شكيمته حتى لا يكون تحت حكم غيره ، وقد كان بقي منهم من هذا النمط عبد الله بن أبيّ بن سلول ، وقصته في ذلك مشهورة ، وكذلك أبو عامر الراهب الذي سماه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالفاسق ، قال أهل السير : قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة وسيد أهلها عبد الله بن أبي بن سلول ، كان من الخزرج ثم من بني عوف بن الخزرج ثم من بني الحبلى ، لا يختلف في شرفه في قومه اثنان ، لم تجتمع الأوس والخزرج قبله ولا بعده على رجل من أحد الفريقين حتى جاء الإسلام غيره ، ومعه في الأوس رجل هو في قومه من الأوس شريف مطاع أبو عامر بن

١٧٢

صيفي بن النعمان أحد بني ضبيعة بن زيد ، وهو أبو حنظلة الغسيل ، وكان قد ترهب ولبس المسوح ، فشقيا بشرفهما : أما عبد الله بن أبي فلما انصرف عنه قومه إلى الإسلام ضغن ورأى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد استلبه ملكا ، فلما راى قومه قد أبوا إلا الإسلام دخل فيه كارها مصرا على نفاق وضغن ، فكان رأس المنافقين ، وإليه يجتمعون ، وهو القائل في غزوة بني المصطلق (لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) [المنافقين : ٨] وأما أبو عامر فأبى إلا الكفر والفراق لقومه حين اجتمعوا على الإسلام. وأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قدم المدينة فقال : ما هذا الدين الذي جئت به؟ قال : جئت بالحنيفية دين إبراهيم ، قال : فأنا عليها ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنك لست عليها ، قال : إنك أدخلت يا محمد في الحنيفية ما ليس منها ، قال : ما فعلت ، ولكني جئت بها بيضاء نقية ، قال : الكاذب أماته الله طريدا غريبا وحيدا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أجل ، فمن كذب ففعل الله ذلك به ، فكان هو ذاك عدو الله : خرج إلى مكة مفارقا الإسلام ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تقولوا الراهب ، ولكن قولوا الفاسق» فلما افتتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة خرج إلى الطائف ، فلما أسلم أهل الطائف لحق بالشام ، فمات بها طريدا غريبا وحيدا.

وروى بعضهم أنه لم يكن في الأوس والخزرج رجل أوصف لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أبي عامر المذكور ، وكان يألف اليهود ويسائلهم فيخبرونه بصفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم خرج إلى يهود تيماء وإلى الشام ، فسأل النصارى فأخبروه بذلك ، فرجع وهو يقول : أنا على دين الحنيفية ، وترهب ولبس المسوح ، وزعم أنه ينتظر خروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما ظهر بمكة لم يخرج إليه ، فلما قدم المدينة حسد وبغى ، وذكر إتيانه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنحو ما سبق ، إلا أنه قال : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الكاذب أماته الله وحيدا طريدا» قال : آمين ، ثم ذكر خروجه إلى مكة ، وزاد : فكان مع قريش يتبع دينهم وترك ما كان عليه ؛ فهذا مصداق ما ذكرت عائشة رضي‌الله‌عنها.

الفصل السابع

في مبدأ إكرام الله لهم بهذا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

وذكر العقبة الصغرى

اعلم أن تلك الحروب المتقدمة لم تزل بين الأوس والخزرج حتى أكرمهم الله باتباعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يعرض نفسه في كل موسم من مواسم العرب على قبائلهم ، ويقول : ألا رجل يحملني إلى قومه؟ فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي ، فيأبونه ويقولون : قوم الرجل أعلم به.

وذكر ابن إسحاق عرضه عليه الصلاة والسلام نفسه على كندة وعلى كلب وعلى بني

١٧٣

حنيفة ، قال : ولم يكن أحد من العرب أقبح ردا عليه منهم ، وقال موسى بن عقبة عن الزهري : فكان في تلك السنين ـ أي التي قبل الهجرة ـ يعرض نفسه على القبائل ، ويكلم كل شريف قوم ، لا يسألهم إلا أن يؤووه ويمنعوه ، ويقول : لا أكره أحدا منكم على شيء ، بل أريد أن تمنعوا من يؤذيني حتى أبلغ رسالة ربي ، فلا يقبله أحد.

وذكر الواقدي دعاءه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بني عبس إلى الإسلام ، وأنه أتى غسان في منازلهم بعكاظ وبني محارب كذلك ، ولم يزل صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو إلى دين الله ، ويأمر به كل من لقيه ورآه من العرب ، إلى أن قدم سويد بن الصامت أخو بني عمرو بن عوف من الأوس ، وكان يسمى «الكامل» لجلده وشعره ، وهو القائل :

فرشني بخير طالما قد بريتي

فخير الموالي من يريش ولا يبري

فدعاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الإسلام ، فلم يبعد ولم يجب ، ثم انصرف إلى يثرب ، فلم يلبث أن قتل يوم بعاث.

قال ابن إسحاق : فإن كان رجال من قومه ليقولون : إنا نراه قد قتل وهو مسلم ، وقدم مكة أبو الحيسر أنس بن رافع وهو في فتية من قومه بني عبد الأشهل يطالبون الحلف ، فدعاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الإسلام ، فقال رجل منهم اسمه إياس بن معاذ وكان شابا : هذا والله خير مما قدمنا ، فضربه أبو الحيسر وانتهره ، فسكت ، ثم لم يتم لهم الحلف ، فانصرفوا إلى بلادهم ، ومات إياس بن معاذ فقيل : إنه مات مسلما.

وقال رزين في ذكر هذه القصة : ثم جاءت الأوس تطلب أن تحالف قريشا ، فجاءهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعرض نفسه عليهم ، وقال : اسمعوا مني ، هل لكم في خير مما جئتم له؟ وتلا عليهم القرآن ، ثم قال : بايعوني واتبعوني ، فإنكم ستجمعون بي ، فقال عمرو بن الجموح : هذا أي قوم والله خير لكم مما جئتم له ، فانتهروه ، وقالوا : ما جئنا لهذا ، ولم يقبلوا عليه ، ثم انصرفوا ، فكانت وقعة بعاث.

وقال ابن زبالة : إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يعرض نفسه على القبائل فيأبونه ، حتى سمع بنفر من الأوس قدموا في المنافرة التي كانت بينهم ، فأتاهم في رحالهم ، فقالوا : من أنت؟ فانتسب لهم ، وأخبرهم خبره ، وقرأ عليهم القرآن ، وذكر أنهم أخواله ، وسألهم أن يؤووه ويمنعوه حتى يبلغ رسالات ربه ، فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا : والله هذا صادق ، وإنه للنبي الذي يذكر أهل الكتاب ويستفتحون به عليكم ، فاغتنموه وآمنوا به ، فقالوا : أنت رسول الله ، قد عرفناك وآمنا بك وصدقناك ، فمرنا بأمرك فإنا لن نعصيك ، فسر بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجعل يختلف إليهم ، ويزدادون فيه بصيرة ، ثم أمرهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يدعوا قومهم إلى دينهم ،

١٧٤

فسألوه أن يرتحل معهم ، فقال : حتى يأذن لي ربي ، فلحقوا بأهلهم المدينة ، ثم شخصوا إليه في الموسم فكان من أمر العقبة ما كان ، وهو مخالف لما تقدم من أن النفر من الأوس لم يقبلوا.

وقد أخرج الحاكم وغيره بإسناد حسن عن علي رضي‌الله‌عنه قال : لما أمر الله نبيه أن يعرض نفسه على قبائل العرب وخرج وأنا معه وأبو بكر إلى منى حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب ، وتقدم أبو بكر وكان نسابة ، فقال : من القوم؟ قالوا : ربيعة ، فذكر حديثا طويلا في مراجعتهم وتوقفهم أخيرا عن الإجابة ، ثم قال : ثم دفعنا إلى مجلس الأوس والخزرج ، وهم الذين سماهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأنصار ، لكونهم أجابوه إلى إيوائه ونصره ، قال : فما نهضنا حتى بايعوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال ابن إسحاق في ذكر العقبة الأولى : لما أراد الله عزوجل إظهار دينه خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الموسم الذي لقي فيه النفر من الأنصار ، فعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم ، فبينا هو عند العقبة لقي رهطا من الخزرج ، قال : أمن موالي (١) يهود؟ قالوا : نعم ، قال : أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا : بلى ، فجلسوا معه فدعاهم إلى الله ، وعرض عليهم الإسلام ، وكان مما صنع الله لهم في الإسلام أن يهود كانوا معهم في بلادهم ، وكانوا أهل علم وكتاب ، وكانوا هم أهل شرك أصحاب أوثان ، وكانوا قد غزوهم في بلادهم ، فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم : إن نبيا مبعوث قد أظل زمانه نتبعه نقتلكم معه قتل عاد وإرم ، فلما كلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولئك النفر ودعاهم إلى الله قال بعضهم لبعض : تعلموا إنه للنبي الذي توعدكم به يهود ، فلا تسبقنكم إليه ، فأجابوه فيما دعاهم إليه ، وقالوا له : إنا تركنا قومنا ، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم ، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك ، ثم انصرفوا راجعين إلى بلادهم ليدعوا قومهم ، فلما جاءوهم لم يبق دار من دور قومهم إلا وفيها ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : وهم ـ يعني أصحاب العقبة الأولى ـ فيما ذكر لي ستة نفر من الخزرج ، وهم : أبو أمامة أسعد بن زرارة ، وعوف بن الحارث ، كلاهما من بني غنم بن مالك بن النجار ، ورافع بن مالك بن العجلان الزرقي ، وقطبة بن عامر بن حديدة ، وجابر بن عبد الله بن رئاب ، وعقبة بن عامر بن نابي ، وهؤلاء الثلاثة من بني سلمة.

وقال موسى بن عقبة عن الزهري وأبي الأسود عن عروة : هم أسعد بن زرارة ، ومعاذ بن عفراء وهي أمه ، وهو ابن عمرو بن الجموح من بني غنم بن مالك بن النجار أيضا ، ورافع بن مالك ، ويزيد بن ثعلبة البلوي ، ثم من بني غصينة حليفهم ، وأبو الهيثم

__________________

(١) الموالي : المناصرين (ج) مولى.

١٧٥

مالك بن التيهان الأوسي ، ثم من بني جشم أخي عبد الأشهل بن جشم ، وعويم بن ساعدة الأوسي ، ثم من بني أمية بن زيد ، ويقال : كان فيهم عبادة بن الصامت الخزرجي ثم من بني غنم أخي سالم بن عوف ، وذكوان الزرقي ، فيكونون ثمانية ، ومنهم من عدهم سبعة فأسقط جابر بن عبد الله أو عبد الله بن زيد ، وقيل : إنما أسلم في العام الأول اثنان فقط ، هما أسعد بن زرارة وذكوان.

قال ابن إسحاق في ذكر العقبة ـ يعني : الثانية لما قدمه ، وبعضهم يسميها الأولى ـ : فلما كان الموسم ـ يعني : من العام المقبل ـ وافاه منهم اثنا عشر رجلا ، فذكر الستة الذين قدمهم غير جابر بن عبد الله ، وزاد : ذكوان الزرقي ، وعبادة بن الصامت ، ويزيد بن ثعلبة ، والعباس بن عبادة بن نضلة الغنمي السالمي الخزرجي ، ومعاذ بن عفراء ، وأبو الهيثم بن التيهان ، وعويم بن ساعدة ، قال : فبايعهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند العقبة على بيعة النساء : أي على وفق بيعة النساء التي نزلت بعد الفتح ، (عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً) [الممتحنة : ١٢] إلى آخر الآية ، ولم يكن أمر بالقتال بعد ، بل كان جميع ذلك قبل نزول الفرائض ما عدا التوحيد والصلاة ، وأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معهم مصعب بن عمير ليفقههم في الدين ويعلمهم الإسلام ، فكان يصلي بهم ، وقيل : بعثه إليهم بعد ذلك بطلبهم ليعلمهم ويقرئهم القرآن ، فكان يسمى «المقرئ» وهو أول من سمي به ، فنزل على أسعد بن زرارة ، وقيل : بعث إليهم مصعب بن عمير وابن أم مكتوم ؛ فكان مصعب بن عمير يؤمهم ، وذلك أن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه بعض ، فجمّع بهم أول جمعة في الإسلام ، وفي الدارقطني عن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتب إلى مصعب بن عمير أن يجمّع بهم فجمّع بهم وكانوا اثني عشر.

قال الزهري : وعند ابن إسحاق أول من جمّع بهم أبو أمامة أسعد بن زرارة ، وفي أبي داود من طريق عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال : كان أبي إذا سمع الأذان للجمعة استغفر لأسعد بن زرارة ، فسألته ، فقال : كان أول من جمّع بنا في هزم النبيت من حرة بني بياضة في نقيع يقال له نقيع الخضمات. قلت : كم أنتم يومئذ؟ قال : أربعون. قال البيهقي : ولا يخالف هذا ما روي عن الزهري من تجميع مصعب بن عمير بهم وأنهم كانوا اثني عشر ؛ إذ مراد الزهري أنه أقام الجمعة بمعونة النفر الاثنى عشر الذين بايعوا في العقبة وبعثه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صحبتهم أو على أثرهم حين كثر المسلمون ، ومنهم أسعد بن زرارة ، فالزهري أضاف التجمع إلى مصعب لكونه الإمام ، وكعب أضافه إلى أسعد لنزول مصعب أولا عليه ونصره له وخروجه به إلى دور الأنصار يدعوهم إلى الإسلام ، وأراد الزهري بالاثني عشر عدد الذين خرجوا به ، وكانوا له ظهرا ، ومراد كعب جميع من صلّى معه ، هذا وقول كعب متصل ، وقول الزهري منقطع ، اه.

١٧٦

وروى الطبراني مرسلا في خبر طويل قال فيه عن عروة : ثم بعثوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ابعث إلينا رجلا من قبلك يدعو الناس بكتاب الله ؛ فإنه أدنى أن يتبع (١) ؛ فبعث إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مصعب بن عمير أخا بني عبد الدار ، فنزل في بني غنم على أسعد بن زرارة ، فجعل يدعو الناس ، ويفشو الإسلام ، وهم في ذلك مستخفون بدعائهم ، ثم إن أسعد بن زرارة أقبل هو ومصعب بن عمير حتى أتيا مرقا أو قريبا منها ، فجلسا هنالك ، وبعثا إلى رهط من أهل الأرض ، فأتوهم مستخفين ، فبينا مصعب بن عمير يحدثهم ويقص عليهم القرآن أخبر بهم سعد بن معاذ ، فأتاهم في لأمته (٢) ومعه الرمح حتى وقف عليه فقال : غلام يأتينا في دارنا ، هذا الوحيد الفريد الطريد الغريب ليسفه ضعفاءنا بالباطل ويدعوهم ، لا أراكما بعد هذا بشيء من جوارنا ، فرجعوا ، ثم إنهم عادوا الثانية ببئر مرق أو قريبا منها فأخبر بهم سعد بن معاذ الثانية ، فتوعدهم بوعيد دون الأول ، فلما رأى أسعد منه اللين قال : يا ابن خالة ، اسمع من قوله ، فإن سمعت منكرا فاردده بأهدى منه ، وإن سمعت خيرا فأجب إليه ، فقال : ما ذا يقول؟ فقرأ عليه مصعب : (حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [الزخرف : ١ ـ ٣] فقال سعد : وما أسمع إلا ما أعرف ، فرجع وقد هداه الله ، ولم يظهر أمر الإسلام حتى رجع إلى قومه ، فدعا بني عبد الأشهل إلى الإسلام وأظهر إسلامه ، وقال : من شك فيه من صغير أو كبير فليأتنا بأهدى منه ، فو الله لقد جاء أمر لتحزّنّ فيه الرقاب ، فأسلمت بنو عبد الأشهل عند إسلامه ودعائه إلا من لا يذكر فكانت أول دار من دور الأنصار أسلمت بأسرها ، ثم إن بني النجار اشتدوا على أسعد بن زرارة ، وأخرجوا مصعب بن عمير ، فانتقل إلى سعد بن معاذ ، فلم يزل يدعو ويهدي على يديه ، حتى قل دار من دور الأنصار إلا أسلم فيها ناس ، وأسلم أشرافهم ، وأسلم عمرو بن الجموح ، وكسرت أصنامهم ، فكان المسلمون أمر أهلها ، ورجع مصعب بن عمير إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اه.

وقد روى هذه القصة ابن إسحاق عمن سمى من شيوخه بزيادة ونقص ، فقال : إن أسعد بن زرارة خرج بمصعب بن عمير يريد به دار بني عبد الأشهل ودار بني ظفر ، فدخل به حائطا من حوائط بني ظفر على بئر يقال لها بئر مرق ، فجلسا فيه واجتمع إليهما رجال ممن أسلم ، فلما سمع بذلك سعد بن معاذ وأسيد بن حضير ـ وهما يومئذ سيدا قومهما بني عبد الأشهل ـ وكلاهما مشرك ، قال سعد لأسيد : لا أبا لك! انطلق إلى هذين الرجلين اللذين أتيا دارينا ليسفها ضعفاءنا ، فازجرهما وانههما عن أن يأتيا دارينا ؛ فإنه لو لا أن أسعد

__________________

(١) أدنى أن يتبع : أولى أن يتبع.

(٢) اللامة : أداة الحرب كلها. وتشمل جميع أنواع السلاح.

١٧٧

ابن زرارة مني حيث قد علمت كفيتك ذلك ، هو ابن خالتي ، فأخذ أسيد حربته ثم أقبل إليهما فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب : هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه ، قال : فوقف عليهما متشتما ، فقال : ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا ، اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة ، فقال له مصعب : أو تجلس فتسمع ؛ فإن رضيت أمرا قبلته ، وإن كرهته كف عنك ما تكره ، قال : أنصفت ، ثم ركز حربته وجلس إليهما ، فكلمه مصعب بالإسلام ، وقرأ عليه القرآن ، فقالا فيما يذكر عنهما : والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم ، ثم قال : ما أحسن هذا وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له : تغتسل فتطهر ، وتطهر ثيابك ثم تتشهد شهادة الحق ، ثم تصلي ، فقام ففعل ذلك ، ثم قال لهما : إن ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه ، وسأرسله إليكما الآن سعد بن معاذ ، ثم انصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم ، فلما نظر إليه سعد مقبلا قال : أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به ، فلما وقف على النادي قال له سعد : ما فعلت؟ قال : كلمات الرجلين فو الله ما رأيت بهما بأسا ، وقد نهيتهما فقالا : نفعل ما أحببت ، وقد حدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه ، وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليخفروك ، فقام سعد مغضبا مبادرا متخوفا للذي ذكر له ، فأخذ الحربة من يده ثم قال : والله ما أراك أغنيت شيئا ، ثم خرج إليهما ، فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيدا إنما أراد أن يسمع منهما ، فوقف عليهما متشتما ثم قال : يا أبا أمامة ، أما والله لو لا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني ، أتغشانا في دارينا بما نكره ، وقد قال أسعد لمصعب بن عمير أي مصعب ، جاءك والله سيد من وراءه من قومه ، إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان ، فقال له مصعب : أو تقعد فتسمع ، فإن رضيت أمرا ورغبت فيه قبلته وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره ، قال سعد : أنصفت ، ثم ركز الحربة فجلس ، فعرض عليه الإسلام ، وقرأ عليه القرآن ، قالا : فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم لإشراقه وتسهله ، ثم قال لهما : كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم؟ فذكرا له ما تقدم ، ففعله ، ثم أقبل عامر إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير ، فلما رآه قومه مقبلا قالوا : نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به ، فلما وقف عليهم قال : يا بني عبد الأشهل ، كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا : سيدنا ، أفضلنا رأيا ، وأيماننا نقبية (١) ، قال : فإن كلام رجالكم ونسائكم حرام علي حتى تؤمنوا بالله ورسوله ، قال : فو الله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا

__________________

(١) فلان ميمون النقيبة : مبارك السجية والطبيعة.

١٧٨

مسلما أو مسلمة ، ورجع مصعب إلى منزل أسعد بن زرارة ، فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام ، حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون ، إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد وخطمة ووائل وواقف ، وتلك أوس الله ، وذلك أنه كان فيهم أبو قيس ابن صيفي بن الأسلت ، وكان شاعرا لهم قائدا يسمعون منه ويطيعون ، فوقف بهم عن الإسلام حتى هاجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومضى بدر وأحد والخندق ، ثم أسلموا كلهم.

وفي التأريخ الأوسط للبخاري أن أهل مكة سمعوا هاتفا يهتف قبل إسلام سعد بن معاذ :

فإن يسلم السّعدان يصبح محمد

بمكّة لا يخشى خلاف المخالف

فيا سعد سعد الأوس كن أنت ناصرا

ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف

أجيبا إلى داعي الهدي وتمنّيا

على الله في الفردوس منية عارف

في أبيات أخرى.

وذكر لها رزين سببا آخر كما سيأتي ، وهذا أصح ، ولم يذكر ابن إسحاق في الخبر المتقدم إسلام عمرو بن الجموح ، بل ذكره بعد ذكر العقبة الآتية كما سنذكره ، نعم ابنه معاذ شهد العقبة.

الفصل الثامن

في العقبة الكبرى

وبعضهم يسميها العقبة الثانية ، ومقتضى ما قدمناه أن تسمى الثالثة.

قال ابن إسحاق : ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة وخرج من خرج من الأنصار من المسلمين للقائهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومبايعته في الموسم مع حجاج قومهم من أهل الشرك ، حتى قدموا مكة ، فواعدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق ، حين أراد الله بهم ما أراد : من كرامته ، والنصر لنبيه ، وإعزاز الإسلام وأهله ، وإذلال الشرك وأهله.

وروى ابن إسحاق وصححه ابن حبان من طريقه عن كعب بن مالك قال : خرجنا حجاجا مع مشركي قومنا ، وقد صلينا وفقهنا (١) ، ومعنا البراء بن معرور سيدنا وكبيرنا ، فذكر شأن صلاته إلى الكعبة ، قال : فلما وصلنا إلى مكة ولم نكن رأينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل ذلك ، فسألنا عنه ، فقيل : هو مع العباس في المسجد ، فدخلنا فجلسنا إليه ، فسأله البراء عن القبلة ، ثم خرجنا إلى الحج وواعدناه العقبة ، فلما كانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لها. وكنا نكتم من معنا من المشركين أمرنا ومعنا عبد الله بن عمرو والد

__________________

(١) فقه الأمر : أحسن إدراكه وفهمه.

١٧٩

جابر. ولم يكن أسلم قبل ، فعرفناه أمر الإسلام ، فأسلم حينئذ وصار من النقباء (١) ، قال : فنمنا تلك الليلة في قومنا في رحالنا ، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسلل القطا مستخفين ، فاجتمعنا في الشعب عند العقبة ثلاثة وسبعين رجلا ، ومعنا امرأتان : أم عمارة بنت كعب إحدى نساء بني مازن ، وأسماء بنت عمر بن عدي إحدى نساء بني سلمة ، قال : فجاء ومعه العباس ، فتكلم فقال : إن محمدا منا من حيث علمتم ، وقد منعناه ، وهو في عز ، وقد أبى إلا الانحياز إليكم ، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وذاك ، وإلا فمن الآن ، قال : فقلنا : قد سمعنا ما قلت ، فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت ، فتكلم ، فدعا إلى الله ، وقرأ القرآن ، ورغب في الإسلام ، ثم قال : أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم ، قال : فأخذ البراء بن معرور بيده ، فقال : نعم والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا ، فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أصحاب الحروب وأهل الحلقة ورثناها كابرا عن كابر ، فاعترض القول والبراء يكلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبو الهيثم بن التيهان فقال : يا رسول الله ، إن بيننا وبين الرجال ـ يعني اليهود ـ حبالا ونحن قاطعوها ، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا ، قال : فتبسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : بل الدم الدم والهدم الهدم (٢) ، أنا منكم وأنتم مني ، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبا يكونون على قومهم بما فيهم ، فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبا ، تسعة من الخزرج ، وثلاثة من الأوس : فمن الخزرج أسعد بن زرارة نقيب بني النجار ، وسعد بن الربيع وعبد الله بن رواحة نقيبا بني الحارث بن الخزرج ورافع بن مالك بن العجلان نقيب بني زريق ، والبراء بن معرور وعبد الله بن عمرو بن حرام نقيبا بني سلمة ، وعبادة بن الصامت نقيب القبائل وفي الطبراني أنه نقيب بني عدي من الخزرج ، فكأنه نقيب الجميع ، وسعد بن عبادة ، والمنذر بن عمرو نقيبا بني ساعدة ـ ومن الأوس أسيد بن حضير نقيب بني عبد الأشهل ، وسعد بن خيثمة ورفاعة بن عبد المنذر نقيبا بني عمرو بن عوف.

قال ابن إسحاق : وأهل العلم يعدون فيهم أبا الهيثم بن التيهان ، ولا يعدون رفاعة.

قلت : فيكون أبو الهيثم نقيبا ثانيا لبني عبد الأشهل فإنه منهم ، وقد صرحوا به.

__________________

(١) النقيب : كبير القوم المعنيّ بشئونهم. (ج) نقباء.

(٢) دم هدم : دم مهدور.

١٨٠