نور الدين علي بن أحمد السّمهودي
المحقق: خالد عبد الغني محفوظ
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3818-9
الصفحات: ٢٩٤
وجعل صلىاللهعليهوسلم النقباء على عدة الأسباط ، وروى أنه نقب على النقباء أسعد بن زرارة ، فتوفي بعد والمسجد النبوي يا بنى ، قيل : فاجتمعت بنو النجار إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم وسألوه أن يجعل منهم شخصا بدله نقيبا عليهم ، فقال لهم : أنتم أخوالي ، وأنا فيكم ، وأنا نقيبكم ، وكره صلىاللهعليهوسلم أن يخص بها بعضهم دون بعض ، فكان ذلك من فضل بني النجار الذي يعدون.
قال ابن إسحاق : وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال للنقباء : أنتم كفلاء على قومكم كفالة الحواريين لعيسى بن مريم ، قالوا : نعم.
وحدث عاصم بن عمر بن قتادة أن القوم لما اجتمعوا للبيعة قال العباس بن عبادة بن نضلة أخو بني سالم بن عوف : يا معشر الخزرج ، هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا : نعم ، قال : إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس ، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت (١) أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلا أسلمتموه فمن الآن ، فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة. وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على ما ذكرت لكم فهو والله خير الدنيا والآخرة ، قالوا : فإنا نأخذه على ما قلت ، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا؟ قال : الجنة ، قالوا : ابسط يدك ، فبسط يده فبايعوه.
قال عاصم : ما قال ذلك العباس إلا ليشد العقد في أعناقهم ، وقال غيره : أراد التأخير تلك الليلة رجاء أن يحضر عبد الله بن أبي بن سلول فيكون أقوى للأمر.
أول من بايع
قال ابن إسحاق : فبنو النجار يزعمون أن أبا أمامة أسعد بن زرارة كان أول من ضرب على يده ، وبنو عبد الأشهل يقولون : بل أبو الهيثم بن التيهان ، وفي حديث كعب المتقدم أنه البراء ابن معرور ، ثم بايع القوم.
وفي المستدرك عن ابن عباس : كان البراء بن معرور أول من بايع رسول الله صلىاللهعليهوسلم بيعة العقبة ، وعند أحمد عن جابر وعند الحاكم في الإكليل عن كعب بن مالك : قال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله اشترط لربك ولنفسك ما شئت ، فقال : أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم ، قالوا : فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال : الجنة ، قالوا : ربح البيع ، لا نقيل ولا نستقيل ، فنزل (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [التوبة : ١١١] الآية.
وفي حديث كعب المتقدم بعد ذكر صراخ الشيطان أن العباس بن نضلة قال للنبي
__________________
(١) نهكت أموالكم مصيبة : أذهبت أموالكم مصيبة.
صلىاللهعليهوسلم : والذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل منى غدا بأسيافنا ، فقال صلىاللهعليهوسلم : لم أومر بذلك ، ولكن ارجعوا إلى رحالكم ، فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا عليها ، فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش حتى جاءونا في منازلنا فقالوا : يا معشر الخزرج ، إنه بلغنا أنكم جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا ، وإنه والله ما من حي من العرب أبغض إلينا أن تشب الحرب بيننا وبينهم منكم ، فانبعث من هناك من مشركي قومنا يحلفون بالله ما كان من هذا شيء ، وما علمناه ، ولقد صدقوا لم يعلموه.
وفي حديث غير كعب أنهم أتوا عبد الله بن أبي ، فقال لهم : إن هذا الأمر جسيم ، ما كان قومي ليتفوتوا علي بمثل هذا ، وما علمته كان ، وروي أن مشركي الأنصار الذين حجوا في ذلك العام كانوا خمسمائة نفر ، وأن أهل العقبة كانوا سبعين نفرا.
عدة أهل البيعة
وفي لفظ عن ابن إسحاق : من الأوس أحد عشر رجلا : ومن القبائل أربعة نفر حلفاء الخزرج ، وكان من بني الحارث بن الخزرج اثنان وستون رجلا ، فكأنه أدخل في الخزرج حلفاءهم الأربعة ، وإلا فتزيد العدة على ثلاثة وسبعين أربعة.
وروى رزين أن أهل العقبة كانوا سبعين رجلا وامرأتان ؛ فإنه روى حديث العقبة هذه عن عبادة بن الصامت بنحو حديث كعب المتقدم ، فقال : قال عبادة بن الصامت : فلما كان العام المقبل أتينا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ونحن سبعون رجلا وامرأتان من قومنا ، فواعدنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم عند مسجد شعب العقبة ، عن يسارك وأنت ذاهب إلى منى ، فلما توافينا عنده جاء رسول الله صلىاللهعليهوسلم ومعه عمه العباس ، وقال : يا معشر الخزرج ، وهذا الاسم يغلب على الأوس والخزرج جميعا إذ ذاك ، إن محمدا منا حيث علمتم ، وقد منعناه كما بلغكم ، فإن كنتم تعلمون أنكم تقدرون على منعه ، وإلا فذروه فهو مع قومه في عز ومنعة ، فقام البراء بن معرور فقال : قد سمعنا ما قلت ، وإنا ما ضربنا إليه أكباد الإبل إلا وقد علمنا أنه نبي ، فبايعنا يا رسول الله ، واشترط لنفسك ولربك ما شئت ، فحمد الله رسول الله صلىاللهعليهوسلم ودعا إلى الله ، ورغّب في الإسلام ، ثم قال : أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم ، فأخذ البراء بيده ، وقال : نعم والذي بعثك بالحق نبيا لنمنعك مما نمنع منه أزرنا ، ونحن أهل الحلقة والحصون والحروب ، فقام أبو الهيثم بن التيهان فقال : يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالا ، ونحن قاطعوها ، فهل عسيت إن نصرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : بل الدم الدم والهدم الهدم ، المحيا محياكم ، والممات مماتكم ، وأحارب من حاربكم ، وأسالم من سالمكم ، أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبا يكونوا نقباء على الناس ، فأخرجوا تسعة من الخزرج وثلاثة من
الأوس ، فبينما هم في ذلك إذ صرخ الشيطان يقول : يا أهل الجباجب ، وهي المنازل ، هل لكم في الصباة (١) قد اجتمعوا على حربكم ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم هذا أزب العقبة لأفرغن لك أي عدو الله ، ارجعوا إلى رحالكم ، نصركم الله ، فقال له العباس بن عبادة بن نضلة : والذي بعثك بالحق نبيا لئن شئت لنميلن بأسيافنا غدا علي مني ، فقال له : لم أومر بذلك ، ثم ذكر قصة كلام قريش في ذلك وحلف مشركي قومهم لهم عن ذلك ، قال : ثم إنهم قالوا لرسول الله صلىاللهعليهوسلم : أتخرج معنا؟ قال : ما أمرت به.
قال رزين : وقد قيل إنه وقع بين قريش والأنصار كلام في سبب خروج النبي صلىاللهعليهوسلم معهم ، ثم ألقي الرعب في قلوب قريش فقالوا : ليس يخرج معكم إلا في بعض أشهر السنة ، ولا يتحدث العرب بأنكم غلبتمونا ، فقالت الأنصار : الأمر في ذلك لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ونحن سامعون لأمره ، فأنزل الله على رسوله (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ) [الأنفال : ٦٢] أي : إن كان كفار قريش يريدون المكر بك فسيمكر الله بهم ، فانصرفت الأنصار إلى المدينة.
وقيل : إن قريشا بدا لهم فخرجوا في آثارهم ، فأدركوا منهم رجلين كانا تخلفا في أمر ، فردوهما إلى مكة : المنذر ، وعباس بن عبادة ، فأدركهما جبير بن مطعم والحارث بن أمية ، فخلصاهما ولحقا أصحابهما.
قلت : والذي ذكره غيره أن الرجلين هما المنذر وسعد بن عبادة ، فأما المنذر فأعجز القوم ونجا ، وأما سعد فأخذوه فربطوا يديه إلى عنقه بنسع رحله ، ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكة يضربونه ويجذبونه بجمته ، وكان ذا شعر كثير ، ثم خلصه منهم جبير بن مطعم والحارث بن أمية ؛ لأنه كان يجير لهما تجارهما ويمنعهم أن يظلموا ببلده.
إسلام عمرو بن الجموح
وذكر رزين عقب ما تقدم عنه إسلام عمرو بن الجموح كما ذكره أهل السير عقب ذلك أيضا ، وكان عمرو شيخا كيرا من سادات بني سلمة ، وشهد معاذ ابنه العقبة ، وكان لعمرو في داره صنم من خشب يعبده يدعى مناة ، فكان معاذ ابنه ومعاذ بن جبل وفتيان بني سلمة يدلجون بالليل على صنم عمرو فيطرحونه في بعض حفر بني سلمة وفيها عذر الناس منكسا على رأسه ، فإذا أصبح قال عمرو : من عدا على إلهنا هذه الليلة؟ ثم يغدو يلتمسه ، حتى إذ وجده غسله وطيبه ثم يقول : والله لو أعلم من فعل هذا بك لأخزيته ، فتكرر ذلك ، فطهره يوما وطيبه ثم جاء بسيفه فعلقه عليه ثم قال : إني والله لا أعلم من يصنع بك
__________________
(١) الصباة : الخارجون عن دينهم. مفردها : صابئ.
ما ترى ، فإن كان فيك خير فامتنع فهذا السيف معك ، فلما نام أخذوا السيف وقرنوا كلبا ميتا بالصنم بحبل ثم ألقوه في بئر من آبار بني سلمة فيها عذر ، فلم يجده عمرو في مكانه ، فخرج حتى وجده كذلك ، فلما أبصر ما به وكلمه من أسلم من قومه فأسلم وحسن إسلامه ، وقال في ذلك :
والله لو كنت إلها لم تكن |
|
أنت وكلب وسط بئر في قرن |
أفّ لملقاك إلها مستدن |
|
الآن فتّشناك عن سوء الغبن |
الحمد لله العلي ذي المنن |
|
الواهب الرزاق ديّان الدين |
هو الذي أنقذني من قبل أن |
|
أكون في ظلمة قبر مرتهن |
الفصل التاسع
في هجرة النبي صلىاللهعليهوسلم إليها
رؤيا النبي صلىاللهعليهوسلم دار هجرته
روينا في الصحيحين حديث «رأيت أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل ، فذهب وهلي إلى اليمامة أو هجر ، فإذا هي المدينة يثرب» ووقع للبيهقي من حديث صهيب «أريت دار هجرتكم سبخة بين ظهراني حرّتين ، فإما أن يكون هجر أو يثرب» ولم يذكر اليمامة ، وللترمذي من حديث جرير «أوحى إلي : أي هؤلاء الثلاثة نزلت فهي دار هجرتك ، المدينة أو البحرين أو قنسرين» واستغربه ، وفيه نظر ؛ لمخالفته لما في الصحيح من ذكر اليمامة ، وأما هجر فيصح التعبير بها عنها لكونها من بلاد البحرين ، وأما قنسرين فهي من أرض الشام ، ويحتمل أن يكون أري ما في الصحيح وأوحى إليه بالتخيير قبل أو بعد ، فاختار المدينة.
وقال ابن التين : أري النبي صلىاللهعليهوسلم أولا دار هجرته بصفة تجمع المدينة وغيرها ، ثم أري الصفة المختصة بالمدينة فتعينت.
إذن النبي صلىاللهعليهوسلم لأصحابه في الهجرة
ثم أذن النبي صلىاللهعليهوسلم لأصحابه في الهجرة إلى المدينة ، وأقام بمكة ينتظر أن يؤذن له في الخروج ، فتوجه بين العقبتين جماعة منهم ابن أم مكتوم ، ويقال : إن أول من هاجر إلى المدينة أبو سلمة عبد الأسد المخزومي زوج أم سلمة ، وذلك أنه أوذي لما رجع من الحبشة ، فعزم على الرجوع إليهما ، ثم بلغة قصة الاثني عشر من الأنصار فتوجه إلى المدينة ، فقدمها بكرة ، وقدم بعده عامر بن ربيعة عشية ، ثم توجه مصعب بن عمير ليفقه من أسلم من الأنصار كما تقدم ، ثم توالى خروجهم بعد العقبة الأخيرة ، فخرجوا أرسالا :
منهم عمر بن الخطاب ، وأخوه زيد ، وطلحة بن عبيد الله ، وصهيب ، وحمزة بن عبد المطلب ، وزيد بن حارثة ، وعبيدة بن الحارث ، وعبد الرحمن بن عوف ، والزبير ، وعثمان بن عفان ، وغيرهم ، حتى لم يبق معه صلىاللهعليهوسلم بمكة إلا علي بن أبي طالب والصديق رضياللهعنهما ، كذا قاله ابن إسحاق وغيره ، والظاهر أن المراد لم يبق من أعيانهم ؛ لما روي من أن من كان بمكة ممن يطيق الخروج من المسلمين خرجوا بعد خروجه صلىاللهعليهوسلم من مكة ، فطلبهم أبو سفيان وغيره من المشركين ، فردوهم وسجنوهم ، فافتتن منهم ناس ؛ ففي هذا دلالة على بقاء جماعة غير الصديق وعلي رضياللهعنهما مع النبي صلىاللهعليهوسلم حينئذ ، فلما رأت قريش ذلك علموا أن أصحابه قد أصابوا منعة ، ونزلوا دارا ، فحذروا (١) خروج رسول الله صلىاللهعليهوسلم إليهم ، فاجتمعوا بدار الندوة ليأتمروا في أمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم وفيهم أبو جهل ، وزعم ابن دريد في الوشاح أنهم كانوا أنهم كانوا خمسة عشر رجلا ، وفي المولد لابن دحية كانوا مائة رجل ، وجاءهم إبليس في صورة شيخ نجدي فقال : أدخلوني معكم ، فلن تعدموا مني رأيا ، فأدخلوه ، فقال بعضهم : نخرجه من بين أظهرنا ، وقال آخرون : بل نحبسه ولا يطعم حتى يموت ، فقال أبو جهل : قد رأيت أصلح من رأيكم : أن يعطى خمس رجال من خمس قبائل سيفا سيفا فيضربونه ضربة رجل ، فيتفرق دمه في هذه البطون ، فلا يقدر لكم بنو هاشم على شيء ، فقال النجدي : لا أرى غير هذا ، فأخبر جبريل النبي صلىاللهعليهوسلم فأنزل الله على نبيه : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) [الأنفال : ٣٠] فقال النبي صلىاللهعليهوسلم لعلي : نم على فراشي وتسجّ ببردي فلن يخلص إليك منهم أمر ، فترد هذه الودائع إلى أهلها ، لأن كفار قريش كانت تودع عنده لأمانته ، وكان اسمه عندهم الأمين الصادق ، وأتى النبي صلىاللهعليهوسلم أبا بكر الصديق فأعلمه ، وقال : قد أذن لي ، فقال : الصحبة يا رسول الله ، وكان إنما حبس نفسه عليه لما ثبت في الصحيح أن النبي صلىاللهعليهوسلم لما ذكر لأصحابه رؤياه المتقدمة هاجر من هاجر منهم قبل المدينة ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة ، وتجهز أبو بكر قبل المدينة ، فقال له النبي صلىاللهعليهوسلم : على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي ، فقال له :وهل ترجو ذلك بأبي أنت وأمي؟ قال : نعم ، فحبس نفسه على رسول الله صلىاللهعليهوسلم ليصحبه ، وكان عمر قد تقدم إلى المدينة ، وعلف أبو بكر راحلتين كانت عنده الخبط (٢) أربعة أشهر ، فعرض على النبي صلىاللهعليهوسلم إحداهما ، فقال : بالثمن ، وفي رواية ابن إسحاق قال : لا أركب بعيرا ليس هو لي ، فقال : فهو لك ، قال : لا ولكن بالثمن الذي ابتعتها به ، قال : أخذتها
__________________
(١) حذروا : قدّروا واعتقدوا.
(٢) الخبط : ما سقط من ورق الشجر بالخبط والنفض.
بكذا وكذا ، قال : قد أخذتها بذلك ، قال : هي لك ، والحكمة فيه ـ كما أفاده بعضهم ـ أنه صلىاللهعليهوسلم أحب ألّا تكون هجرته إلا من مال نفسه ، وذكر ابن إسحاق أن الناقة التي أخذها هي الجدعاء ، وأنها كانت من إبل بني الحريش ، وكذا في رواية أخرجها ابن حبان ، وأنها الجدعاء ، وأفاد الواقدي أن الثمن كان ثمان مائة درهم ، وأن المأخوذة هي القصوى ، وأنها كانت من نعم بني قشير ، وأنها عاشت حتى ماتت في خلافة الصديق ، وكانت مرسلة ترعى في النقيع ، وفي طبقات ابن سعد أن ثمنها ثمان مائة درهم ، اشتراها أبو بكر من نعم بني قشير ، وأخذ النبي صلىاللهعليهوسلم منه القصوى بثمنها ، وسيأتي من رواية يحيى الحسيني أيضا أنها القصوى ، وجاء عن ابن عباس أن النبي صلىاللهعليهوسلم أذن له في الهجرة إلى المدينة بقوله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً) [الإسراء : ٨٠] أخرجه الترمذي وصححه هو والحاكم ، فذهب أبو بكر إلى عبد الله بن أريقط قاله ابن عقبة. وفي تهذيب ابن هشام «عبد الله بن أرقد» وفي رواية الأموي عن ابن إسحاق «ابن أريقد» وفي الغنية عن مالك اسمه «رقيط من بني الديل من كنانة» فاستأجره ، وكان هاديا خرّيتا (١) : أي ماهرا بالهداية ، وكان على دين الكفار. قال النووي : لا نعلم له إسلاما ، فأمره أن يأتيهما بعد ثلاث في غار ثور ، ثم انصرف رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى منزله ، فجاءه علي رضياللهعنه ، واجتمعت قريش على باب الدار ليقتلوه بزعمهم ، فقال لهم أبو جهل : لا تقتلوه حتى يجتمعوا ، يعني الخمسة من القبائل الخمس ، وجعل يقول لهم : هذا محمد كان يزعم لكم أنكم إن تابعتموه كنتم ملوك العرب والعجم ، ويكون لكم في الآخرة جنات تأكلون منها ، وإن لم تتابعوه يكون له فيكم ذبح في الدنيا ، ويوم القيامة نار تحرقون فيها ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : نعم والله كذا أقول ، وكذا يكون ، وأنت أحدهم ، ثم أخذ حفنة من تراب فرماها في وجوههم ، فأخذ على أبصارهم ولم على أصمختهم فجعل على رأس كل رجل منهم ترابا وهو يقرأ أول سورة يس يستتر بها منهم إلى «فهم لا يبصرون» وتلا : (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً) [الإسراء : ٤٥] ثم أتى منزل أبي بكر ، فخرجا من خوخة كانت له ، وأتيا غار ثور ، وأقام المشركون ساعة ، فجعلوا يتحدثون ، فجاءهم رجل كان إذ ذاك بعيدا منهم فقال لهم : وما تنتظرون؟ فقالوا : أن نصبح فنقتل محمدا ، قال : قبحكم الله وخيبكم ، أو ليس قد خرج عليكم وجعل على رءوسكم التراب ، قال أبو جهل : أو ليس هو ذاك مسجى ببرده؟ الآن كلمنا ، فلما أصبحوا قام علي من الفراش ، فقال أبو جهل : صدقنا ذلك المخبر ، فاجتمعت قريش ،
__________________
(١) الخرّيت : الدليل الحاذق بالدلالة.
وأخذت الطرق ، وجعلت الجعائل (١) لمن جاء به ، فانصرفت أعينهم ولم يجدوا شيئا ، فجاء الديلي بعد ثلاث بالراحلتين ، ولا ينافي هذا ما وقع في رواية هشام بن عروة عند ابن حبان حيث قال : فركبا حتى أتيا الغار فتواريا ؛ لاحتمال أنهما ركبا غير هاتين الراحلتين ، أو هما ثم ذهب بهما عامر بن فهيرة إلى الديلي.
وذكر موسى بن عقبة عن ابن شهاب في الحديث المتقدم أن عليا رقد على فراش رسول الله صلىاللهعليهوسلم يوري عنه ، وباتت قريش تحلف وتأتمر ، أيهم يهجم على صاحب الفراش فيوثقه ، حتى أصبحوا فإذا بعلي ، فسألوه فقال : لا علم لي ، فعلموا أنه فر منهم.
وروى أحمد بإسناد حسن عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآية فذكر تشاور قريش ثم قال : فبات علي على فراشه صلىاللهعليهوسلم وخرج هو حتى لحق بالغار ، وبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه رسول الله صلىاللهعليهوسلم يعني ينتظرونه حتى يقوم فيفعلون به ما اتفقوا عليه ، فلما أصبحوا ورأوا عليا رد الله مكرهم فقالوا : أين صاحبك هذا؟ قال : لا أدري ، فاقتصّوا أثره (٢) ، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم ، فصعدوا الجبل ، فمروا بالغار ، فرأوا على بابه نسج العنكبوت ، فقالوا : لو دخل هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه ، فمكث فيه ثلاث ليال ، وذكر نحوه موسى بن عقبة عن الزهري ، وكله مقتض لأن الخروج إلى الغار كان في بقية تلك الليلة ، وكان ذلك بعد العقبة شهرين وليال ، وقال الحاكم : بثلاثة أشهر أو قريبا منهم ، ويرجح الأول ما جزم به ابن إسحاق من أنه خرج أول يوم من ربيع الأول ؛ فيكون بعد العقبة بشهرين وبضعة عشر يوما ، وكذا جزم به الأموي ، فقال : خرج لهلال ربيع الأول ، وقدم المدينة لاثني عشر خلت منه ، وعلى هذا كان خروجه يوم الخميس ، وهو الذي ذكره محمد بن موسى ، لكن قال الحاكم : تواترت الأخبار بأن الخروج كان يوم الإثنين ، وجمع الحافظ ابن حجر بأن خروجه من مكة كان يوم الخميس : أي في أثناء ليلته لما قدمناه ، وخروجه من الغار ـ يعني غار ثور ـ ليلة الإثنين ؛ لأنه أقام فيه ثلاث ليال ، ومن روى ليلتين لعله لم يحسب أول ليلة ، وأما حديث الحاكم «لبثت مع صاحبي» يعني : أبا بكر «في الغار بضعة عشر يوما ، ما لنا طعام إلا ثمر البرير» أي الأراك ، فقال الحاكم : معناه مكثنا مختفين من الكفار في الغار وفي الطريق بضعة عشر يوما ، وقال الحافظ ابن حجر : الذي يظهر أنها قصة أخرى ، لما في الصحيح من أن عامر بن فهيرة كان يروح عليهما في الغار باللبن ، وكذا قصة نزولهما بخيمة أم معبد ، وغير ذلك ، وكان مدة مقامه صلىاللهعليهوسلم بمكة بعد النبوة بضع عشر سنة. وقال عروة :
__________________
(١) الجعائل : ما جعل على العمل من أجر أو رشوة. مفردها : الجعالة.
(٢) اقتصوا أثره : تتبعوا أثره.
عشرا ، وقال ابن عباس : خمس عشر سنة ، وفي رواية عنه : ثلاث عشرة ، ولم يعلم بخروجه إلا علي وآل أبي بكر ، وكان من قصة نسج العنكبوت وغيره من أمر الغار ما كان ، وانطلق رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأبو بكر ، ومعهما عامر بن فهيرة يخدمهما يردفه أبو بكر ويعقبه ، والدليل ، فأخذ بهم في أسفل مكة حتى أتى بهما طريق السواحل أسفل من عسفان ، ثم عارض الطريق على أمج (١) ، ثم نزل من قديد خيام أم معبد الخزاعية من بني كعب ، وبقية المنازل إلى قباء ذكرها ابن زبالة ، وقد أوضحناه في الأصل ، واتفق في مسيرهم قصة سراقة عارضهم يوم الثلاثاء بقديد على ما ذكره ابن سعد وغيرها من القصص المشتملة على الآيات البينات.
قال رزين : وأقامت قريش أياما لا يدرون أين أخذ محمد صلىاللهعليهوسلم فسمعوا صوتا على أبي قبيس وهو يقول :
فإن يسلم السّعدان يصبح محمد |
|
من الأمن لا يخشى خلاف المخالف |
فقالت قريش : لو علمنا من السعدان ، فقال :
أيا سعد سعد الأوس كن أنت مانعا |
|
ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف |
أجيبا إلى داعي الهدى وتبوّءا |
|
من الله في الفردوس زلفة عارف |
فعلموا إذ ذاك أنه أخذ طريق المدينة.
قلت : والأقرب ما تقدم من إنشاد هذه الأبيات قبل ذلك ؛ لأن السعدين كانا قد أسلما قبل ، ثم سمعوا قائلا بأسفل مكة لا يرى يقول :
جزى الله ربّ الناس خير جزائه |
|
رفيقين قالا : خيمتي أم معبد |
قصة أم معبد
قلت : وروى هذا مع الأبيات الآتية مما سمع حينئذ ، وقيل : سمعوا هاتفا على أبي قبيس يقول :
جزى الله خيرا والجزاء بكفه |
|
رفيقين قالا خيمتي أمّ معبد |
هما رحلا بالحقّ وانتزلا به |
|
فقد فاز من أمسى رفيق محمد |
فما حملت من ناقة فوق رحلها |
|
أبرّ وأوفى ذمة من محمد |
وأكسى لبرد الخال قبل ابتذله |
|
وأعطى لرأس السانح المتجدد |
ليهن بني كعب مكان فتاتهم |
|
ومقعدها للمؤمنين بمرصد |
وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم قد مرّ بأم معبد ، فاستسقاها لبنا ، فقالت : ما عندنا من لبن ،
__________________
(١) أمج : موضع بين المدينة ومكة.
ونحن في سنة (١) ، فنظر إلى شاة قد نحلت عجفاء من الهزال ، فقال : قرّبي لي هذه الشاة ، فقربتها ، فمسح ضرعها بيده المباركة وسمّى ودعا ، ثم قال : هات قدحا ، فجاءت بقدح ، فحلب فيه حتى امتلأ ، فأمر أبا بكر أن يشرب ، فقال : بل أنت فاشرب يا رسول الله ، قال : ساقي القوم آخرهم شربا ، فشرب أبو بكر ، ثم حلب فشرب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ثم حلب فشربت أم معبد ، ثم حلب فقال : ارفعي هذا لأبي معبد إذا جاءك ، ثم ركبوا وساروا ، فلما أتى أبو معبد أخبرته بما رأت ، وسقته اللبن ، فعلم أنه رسول الله صلىاللهعليهوسلم فركب راحلته وخرج في أثره يطلب أن يسلم ، فقيل : إنه قال في طريقه :
جزى الله ربّ الناس خير جزائه |
|
رفيقين قالا خيمتي أم معبد |
هما نزلاها بالهدى فاهتدت به |
|
فقد فاز من أمسى رفيق محمد |
فيا لقصيّ ما زوى الله عنكم |
|
به من فعال لا تجارى وسودد |
ليهن بني كعب مكان فتاتهم |
|
ومقعدها للمؤمنين بمرصد |
سلوا أختكم عن شاتها وإنائها |
|
فإنكم إن تسألوا الشّاة تشهد |
دعاها بشاة حائل فتحلّبت |
|
له بصريح ضرة الشاة مزبد |
فغادرها رهنا لديها لحالب |
|
يرددها في مصدر ثم مورد |
وقال الشرقي : بلغني أن أبا معبد أدركهما ببطن ريم ، فبايع رسول الله صلىاللهعليهوسلم وانصرف.
قلت : وذكر غير رزين هذه الأبيات كلها فيما سمع بأسفل مكة من القائل الذي لا يدرون ، فلما سمع حسان بن ثابت شاعر رسول الله صلىاللهعليهوسلم بذلك جعل يجاوب الهاتف ويقول:
لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم |
|
وقدّس من يسري إليهم ويغتدي |
ترحّل عن قوم فضلت عقولهم |
|
وحلّ على قوم بنور مجدّد |
هداهم به بعد الضلالة ربّهم |
|
وأرشدهم ؛ من يتبع الحق يرشد |
وهل يستوي ضلّال قوم تسكعوا |
|
عمى وهداة يهتدون بمهتد (٢) |
لقد نزلت منه على أهل يثرب |
|
ركاب هدى رحّلت عليهم بأسعد |
نبي يرى ما لا يرى الناس حوله |
|
ويتلو كتاب الله في كل مسجد |
وإن قال في يوم مقالة غائب |
|
فتصديقها في اليوم أو في ضحى غد |
ليهن أبا بكر سعادة جدّه |
|
بصحبته ؛ من يسعد الله يسعد |
__________________
(١) السنة : القحط والجدب.
(٢) تسكع : لم يهتد لوجهته.
خروج أبي بريدة لاستقبال الرسول صلىاللهعليهوسلم
قال أبو سليمان الخطابي : لما شارف النبي صلىاللهعليهوسلم المدينة لقيه بريدة الأسلمي في سبعين من قومه بني أسلم ، فقال : من أنت؟ قال : بريدة فقال لأبي بكر : برد أمرنا وصلح ، ثم قال : ممن؟ قال : من أسلم ، قال : سلمنا ، ثم قال : ممن؟ قال : من بني سهم ، قال : خرج سهمنا (١).
وقد روى ابن الجوزي في شرف المصطفى من طريق البيهقي موصولا إلى بريدة قال : كان النبي صلىاللهعليهوسلم لا يتطير ، وكان يتفاءل ، وكانت قريش جعلت مائة من الإبل لمن يأخذ نبي الله صلىاللهعليهوسلم فيرده إليهم حين توجه إلى المدينة ، فركب بريدة في سبعين راكبا من أهل بيته من بني سهم ، فلقي نبي الله صلىاللهعليهوسلم فقال نبي الله صلىاللهعليهوسلم : من أنت؟ قال : أنا بريدة ، فالتفت النبي صلىاللهعليهوسلم إلى أبي بكر الصديق رضياللهعنه فقال : يا أبا بكر ، برد أمرنا وصلح ، ثم قال صلىاللهعليهوسلم : ممن أنت؟ قال : من أسلم ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم لأبي بكر : سلمنا ، ثم قال : ممن؟ قال : من بني سهم ، قال : خرج سهمك ، فقال بريدة للنبي صلىاللهعليهوسلم : من أنت؟ قال : أنا محمد بن عبد الله رسول الله ، فقال بريدة : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، فأسلم بريدة وأسلم من كان معه جميعا ، فلما أصبح قال بريدة للنبي صلىاللهعليهوسلم : لا تدخل المدينة إلا ومعك لواء ، فحل عمامته ثم شدّها في رمح ثم مشى بين يديه صلىاللهعليهوسلم فقال : يا رسول الله تنزل على من؟ فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : إن ناقتي هذه مأمورة ، قال بريدة : الحمد لله الذي أسلمت بنو سهم طائعين.
وفي الصحيح أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لقي الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشام ، فكسا الزبير رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأبا بكر ثياب بياض.
وروى أن طلحة كان قدم من الشام ومعه ثياب أهداها لأبي بكر من ثياب الشام ، فلما لقيه أعطاه ، فلبس منها النبي صلىاللهعليهوسلم وأبو بكر.
قال الحافظ ابن حجر : فيحتمل : أن كلا من طلحة والزبير أهدى لهما ، والذي في السّير هو طلحة ؛ فالأولى الجمع ، وعند ابن أبي شيبة ما يؤيده ، وإلا فما في الصحيح أصح.
__________________
(١) خرج سهمنا : أي فزنا وظفرنا.
الفصل العاشر
في دخوله صلىاللهعليهوسلم أرض المدينة ، وتأسيس مسجد قباء
كان المسلمون بالمدينة قد سمعوا بمخرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم فكانوا يخرجون كل يوم إلى الحرة أول النهار فينتظرونه ، فما يردهم إلا حرّ الشمس ، فبعد أن رجعوا يوما أو في رجل من اليهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه ، فبصر برسول الله صلىاللهعليهوسلم وأصحابه مبيضين ، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته : يا بني قيلة ـ يعني الأنصار ـ وفي رواية : يا معشر العرب ، هذا جدكم ، يعني حظكم ـ وفي رواية : صاحبكم الذي تنتظرونه ـ فثار المسلمون إلى السلاح ، فتلقّوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم بظهر الحرة ، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف بقباء على كلثوم بن الهدم ، قيل : وكان يومئذ مشركا ، وبه جزم ابن زبالة ، وقال رزين : نزل في ظل نخلة ، ثم انتقل منها إلى دار كلثوم أخي بني عمرو بن عوف ، وفي «أخبار المدينة» ليحيى الحسيني جد أمراء المدينة اليوم في النسخة التي رواها ابنه طاهر بن يحيى عنه من طريق محمد بن معاذ ، قال : حدثنا مجمّع بن يعقوب عن أبيه وعن سعيد بن عبد الرحمن بن رقيش عن عبد الرحمن بن يزيد بن حارثة قالا : صلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم بظهر حرّتنا ، ثم ركب فأناخ إلى عذق عند بئر غرس قبل أن تبزغ الشمس وما يعرف رسول الله صلىاللهعليهوسلم من أبي بكر ، عليهما ثياب متشابهة ، فجعل الناس يقفون عليهم حتى بزغت الشمس من ناحية أطمهم الذي يقال له «شنيف» فأمهل أبو بكر ساعة حتى خيل إليه أنه يؤذي رسول الله صلىاللهعليهوسلم بحر الشمس ، فقام فستر على رسول الله صلىاللهعليهوسلم بردائه ، فعرف القوم رسول الله صلىاللهعليهوسلم فجعلوا يأتون فيسلمون على رسول الله صلىاللهعليهوسلم قلت لمجمّع بن يعقوب : إن الناس يرون أنه جاء بعد ما ارتفع النهار وأحرقتهم الشمس ، قال مجمع : هكذا أخبرني أبي وسعيد بن عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن يزيد قال : ما بزغت الشمس إلا وهو جالس في منزلهصلىاللهعليهوسلم.
قلت : ولم أر هذا الخبر في النسخة التي رواها ولد ابن يحيى عن جده ، وقوله «عند بئر غرس» الظاهر أنه تصحيف ، ولعله «بئر عذق» لبعد بئر غرس من منزله صلىاللهعليهوسلم بقباء ، بخلاف بئر عذق ، وإلا فهو قادح فيما يعرفه الناس اليوم من أن بئر غرس هي هي المعروفة بمحلها الآتي بيانه.
وفي كتاب يحيى أيضا عن محمد بن إسماعيل بن مجمّع قال : لما نزل رسول الله صلىاللهعليهوسلم على كلثوم بن الهدم هو وأبو بكر وعامر بن فهيرة قال : يا نجيح ، لمولى له ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم والتفت إلى أبي بكر : أنجحت ، أو أنجحنا ، فقال : أطعمنا رطبا ، قال :
فأتوا بقنو من أم جرذان فيه رطب منصف وفيه زهو (١) ، فقال صلىاللهعليهوسلم : ما هذا؟ قال : عذق أم جرذان ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : اللهم بارك في أم جرذان ، وقد أخرجه أبو سعيد في شرف المصطفى من طريق الحاكم ، وقال قوم بمنزله صلىاللهعليهوسلم على سعد بن خيثمة. وقد رواه يحيى أيضا ، قال رزين : والأول أصح اه.
اختلاف العلماء في تاريخ مقدمة المدينة
وقال الحاكم : إنه الأرجح ، قال : وقد قاله ابن شهاب وهو أعرف بذلك من غيره ، وقال بعضهم : كان سعد عزبا ، فكان صلىاللهعليهوسلم يجلس مع أصحابه في بيته ، فلذلك قيل : إنه نزل عنده ، ويشهد له ما نقله ابن الجوزي عن ابن حبيب الهاشمي قال : نزل النبي صلىاللهعليهوسلم على كلثوم ، وكان يتحدث في منزل سعد بن خيثمة ، ويسمى «منزل العزاب» وفي الصحيح : فتلقوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم بظهر الحرة ، فعدل بهم (٢) ذات اليمين حتى ينزل بهم في بني عمرو بن عوف ، وفي رواية له : علو المدينة وقباء معدودة من العالية ، وكأن حكمته التفاؤل له ولدينه بالعلو ، وذلك يوم الإثنين نهارا عند الأكثر ، قال الحافظ ابن حجر : وهو المعتمد ، وشذ من قال يوم الجمعة. قلت : لعل مراد هذا القائل القدوم الآتي للمدينة نفسها بعد الخروج من قباء ، وقيل : ليلة الإثنين ؛ لقوله في مسلم «ليلا» قال الحافظ ابن حجر : ويجمع بأن القدوم كان آخر الليل ، فدخل نهارا. قلت : وفيه نظر ، وكان ذلك أول ربيع الأول على ما رواه موسى بن عقبة عن ابن شهاب ، وقيل : لثمان خلون منه. وفي الإكليل عن الحاكم : تواترت الأخبار بذلك ، وفي رواية جرير بن حازم عن ابن إسحاق : قدمها لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول ، ونحوه عن أبي معشر ، ولكن قال : ليلة الإثنين ، ومثله عن ابن البرقي ، وثبت كذلك في أواخر صحيح مسلم ، وفي رواية إبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق : لاثنتي عشرة ليلة خلت منه حين اشتد الضحى ، وهذا ما جزم به الكلبي فيما نقله عنه الحافظ ابن حجر. وحكاه ابن الجوزي في شرف المصطفى عن الزهري فقال : قال الزهري : قدم رسول الله صلىاللهعليهوسلم يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول ، وبه جزم النووي في السّير من الروضة ، وكذا ابن النجار ، ونقل المراغي هذا عن النووي وابن النجار فقط ، وتعجب من عدم موافقته لشيء من الأقوال ، وكأنه فهم أن مرادهما المدينة نفسها بعد الخروج من قباء ، وليس ذلك مرادهما ؛ فإن ابن النجار عبر بقوله : فعدل بهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف ، وذلك يوم الإثنين لاثني عشر من شهر ربيع الأول ، وأما النووي وإن عبر بالمدينة فليس مراده
__________________
(١) نصف البسر والثمر : رطّب نصفه : زها البسر : تلوّن بحمرة أو صفرة.
(٢) عدل بهم : عطف بهم.
سوى ذلك ، والعلماء كلهم يطلقون على ذلك قدوم المدينة. وفي شرف المصطفى لابن الجوزي عن ابن عباس رضياللهعنهما قال : ولد رسول الله صلىاللهعليهوسلم يوم الإثنين ، واستنبئ يوم الإثنين ، ورفع الحجر يوم الإثنين ، وخرج مهاجرا من مكة يوم الإثنين ، وقدم المدينة يوم الإثنين ، وقبض يوم الإثنين. وفي روضة الأقشهري : قال ابن الكلبي : خرج من الغار ليلة الإثنين أول يوم من ربيع الأول ، وقدم المدينة يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت منه. قال أبو عمر : وهو قول ابن إسحاق إلا في تسمية اليوم. وعند أبي سعيد في شرف المصطفى من طريق أبي بكر بن حزم : قدم لثلاث عشرة من ربيع الأول ، وهذا الجمع بينه وبين الذي قبله بالحمل على الاختلاف في رؤية الهلال. وعنده من حديث عمر : ثم نزل على بني عمرو بن عوف يوم الإثنين لليلتين بقيتا من ربيع الأول ، ولعل الرواية خلتا ليوافق ما تقدم. ونقل ابن زبالة عن ابن شهاب أن ذلك كان في النصف من ربيع الأول ، وقيل : كان قدومه في سابعه ، وجزم ابن حزم بأنه خرج من مكة لثلاث ليال بقين من صفر ، وهذا يوافق قول هشام بن الكلبي إنه خرج من الغار ليلة الإثنين أول يوم من ربيع الأول ، فإن كان محفوظا فلعل قدومه قباء كان يوم الإثنين ثامن ربيع الأول ، وإذا ضم ذلك إلى ما سيأتي عن أنس أنه أقام بقباء أربع عشرة ليلة خرج منه أن دخوله المدينة نفسها كان لاثنين وعشرين منه ، لكن الكلبي جزم بأنه دخلها لاثنتي عشرة خلت منه ؛ فعلى قوله تكون إقامته بقباء أربع ليال فقط ، وبه جزم ابن حبان ؛ فإنه قال : أقام بها الثلاثاء والأربعاء والخميس ، يعني وخرج يوم الجمعة ، فلم يعتد بيوم الخروج ، وكذا قال موسى بن عقبة : إنه أقام فيهم ثلاث ليال ؛ فكأنه لم يعد يوم الدخول ولا الخروج. وعن قوم من بني عمرو بن عوف أنه أقام فيهم اثنين وعشرين يوما ، حكاه ابن زبالة. وفي البخاري من حديث أنس «أقام فيهم أربع عشرة ليلة» وهو المراد في رواية عائشة بقولها «بضع عشرة ليلة» وقال موسى بن عقبة عن ابن شهاب : أقام فيهم ثلاثا ، قال : وروى ابن شهاب عن مجمع بن حارثة أنه أقام اثنتين وعشرين ليلة. وقال ابن إسحاق : أقام فيهم خمسا ، وبنو عمرو بن عوف يزعمون أكثر من ذلك. قال الحافظ ابن حجر : أنس ليس من بني عمرو بن عوف ؛ فإنه من الخزرج ، وقد جزم بأربع عشرة ليلة ، فهو أولى بالقبول ، وأمر النبي صلىاللهعليهوسلم بالتاريخ فكتب من حين الهجرة في ربيع ، رواه الحاكم في الإكليل ، وهو معضل ، والمشهور أن ذلك كان في خلافة عمر رضياللهعنه ، وأن عمر قال : الهجرة فرقت بين الحق والباطل ، فأرخ بها ، وابتدأ من المحرم بعد إشارة علي وعثمان رضياللهعنهما بذلك ، وقد ذكرنا ما قيل في
سببه في الأصل ، وأفاد السهيلي أن الصحابة رضياللهعنهم أخذوا التأريخ بالهجرة من قوله تعالى : (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) [التوبة : ١٠٨].
ابتداء التأريخ من الهجرة
وفي الصحيح أنهم لما قدموا قام أبو بكر للناس : أي يتلقاهم ، وجلس رسول الله صلىاللهعليهوسلم فطفق من جاء من الأنصار يحيى أبا بكر ، حتى أصابت الشمس رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه ، فعرف الناس رسول الله صلىاللهعليهوسلم. وفي رواية موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال : وجلس رسول الله صلىاللهعليهوسلم صامتا ، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم يكن رآه يحسبه أبا بكر ، حتى إذا أصابته الشمس أقبل أبو بكر بشيء أظله به ، وفي رواية ابن إسحاق : حتى رأينا أبا بكر ينحاز له عن الظل ، فعرفناه بذلك.
ونزل أبو بكر رضياللهعنه على حبيب بن إساف أحد بني الحارث بن الخزرج بالسنح ، ويقال : على خارجة بن زيد منهم.
وأقام علي رضياللهعنه بعد مخرجه صلىاللهعليهوسلم أياما ، قال بعضهم : ثلاثة ، حتى أدى للناس ودائعهم التي كانت عند النبي صلىاللهعليهوسلم وخلفه لردها ، ثم خرج فلحق رسول الله صلىاللهعليهوسلم بقباء ، فنزل على كلثوم بن الهدم ، قال فيما رواه رزين : فبينا أنا بائت عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا برجل يضرب باب امرأة ، فخرجت فأعطاها شيئا وانصرف ، ثم فعل ذلك ليلة ثانية أيضا ، فذكرت ذلك لها فقالت : هذا سهل بن حنيف يغدو كل ليلة على أصنام قومه فيكسرها ثم يأتي بها لأوقدها حطبا ، وقد علم أن ليس لي من الحطب شيء.
وروى يحيى عن عبد العزيز بن عبيد الله بن عثمان بن حنيف قال : لما نزل رسول الله صلىاللهعليهوسلم على بني عمرو بن عوف ، وقد كان بين الأوس والخزرج ما كان من العداوة ، وكانت الخزرج تخاف أن تدخل دار الأوس ، وكانت الأوس يخاف أن تدخل دار الخزرج ، وكان أسعد بن زرارة قتل نبتل بن الحارث يوم بعاث ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أين أسعد بن زرارة؟ فقال سعد بن خيثمة ومبشر بن عبد المنذر ورفاعة بن عبد المنذر : كان يا رسول الله أصاب منا رجلا يوم بعاث ، فلما كانت ليلة الأربعاء جاء أسعد إلى النبي صلىاللهعليهوسلم متقنّعا بين المغرب والعشاء ، فلما رآه رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : يا أبا أمامة ، جئت من منزلك إلى هاهنا وبينك وبين القوم ما بينك؟ قال أبو أمامة : لا والذي بعثك بالحق ما كنت لأسمع بك في مكان إلا جئت ، ثم بات عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى أصبح ، ثم غدا فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم
لسعد بن خيثمة ورفاعة ومبشر ابني عبد المنذر : أجيروه ، قالوا : أنت يا رسول الله فأجره فجوارنا في جوارك ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : يجيره بعضكم ، فقال سعد بن خيثمة : هو في جواري ، ثم ذهب سعد بن خيثمة إلى أسعد بن زرارة في بيته فجاء بن مخاصرة يده في يده ظهرا حتى انتهى به إلى بني عمرو بن عوف ، ثم قالت الأوس : يا رسول الله كلنا له جار ، فكان أسعد بن زرارة بعد يغدو ويروح إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم انتهى.
وكان لكلثوم بن الهدم بقباء مربد ، والمربد : الموضع الذي يبسط فيه التمر لييبس ، فأخذه منه رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأسسه وبناه مسجدا كما رواه ابن زبالة وغيره.
وفي الصحيح عن عروة : فلبث في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة ، وأسس المسجد الذي أسس على التقوى ، وفي رواية عبد الرزاق عنه قال : الذين بنى فيهم المسجد الذي أسس على التقوى هم بنو عمرو بن عوف ، وكذا في حديث ابن عباس عند ابن عائد ، ولفظه : ومكث في بني عمرو بن عوف ثلاث ليال ، واتخذ مكانه مسجدا فكان يصلي فيه ، ثم بناه بنو عمرو بن عوف ؛ فهو الذي أسس على التقوى.
وروى يونس بن بكير في زيادات المغازي عن المسعودي عن الحكم بن عتيبة قال : لما قدم النبي صلىاللهعليهوسلم فنزل بقباء قال عمار بن ياسر : ما لرسول الله صلىاللهعليهوسلم بد من أن يجعل له مكانا يستظل به إذا استيقظ ويصلي فيه ، فجمع حجارة فبنى مسجد قباء ، فهو أول مسجد بني ، يعني لعامة المسلمين أو للنبي صلىاللهعليهوسلم بالمدينة ، وهو في التحقيق أول مسجد صلّى فيه بأصحابه جماعة ظاهرا ، وإن كان قد تقدم بناء غيره من المساجد ، فقد روى ابن أبي شبة عن جابر قال : لقد لبثنا بالمدينة قبل أن يقدم علينا رسول الله صلىاللهعليهوسلم سنتين نعمر المساجد ونقيم الصلاة ، ولذا قيل : كان المتقدمون في الهجرة من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم والأنصار بقباء قد بنوا مسجدا يصلون فيه ، يعني هذا المسجد ، فلما هاجر رسول الله صلىاللهعليهوسلم وورد قباء صلى بهم فيه إلى بيت المقدس ، ولم يحدث فيه شيئا : أي : في مبدأ الأمر ؛ لأن ابن شبة روى ذلك ، ثم روى أنه صلىاللهعليهوسلم بنى مسجد قباء وقدم القبلة إلى موضعها اليوم ، وقال : جبريل يؤم بي البيت ، وقد اختلف في المراد بقوله تعالى : (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) فالجمهور على أن المراد به : مسجد قباء ، ولا ينافيه قوله صلىاللهعليهوسلم لمسجد المدينة «هو مسجدكم هذا» إذ كل منهما أسس على التقوى على ما سيأتي إيضاحه.
وفي الكبير للطبراني ـ وفيه ضعيف ـ عن جابر بن سمرة قال : لما سأل أهل قباء النبي صلىاللهعليهوسلم أن يا بني لهم مسجدا قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ليقم بعضكم فيركب الناقة» فقام أبو بكر رضياللهعنه فركبها فحركها فلم تنبعث ، فرجع فقعد ، فقام عمر رضياللهعنه فركبها
فلم تنبعث ، فرجع فقعد ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم لأصحابه : «ليقم بعضكم فيركب الناقة» فقام علي رضياللهعنه فلما وضع رجله في غرز الركاب وثبت به ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أرخ زمامها ، وابنوا على مدارها فإنها مأمورة».
وروى الطبراني ـ وفيه من لم يعرف ـ عن جابر أيضا قال : لما قدم رسول الله صلىاللهعليهوسلم المدينة قال لأصحابه : «انطلقوا بنا إلى أهل قباء نسلم عليهم ، فأتاهم فسلم عليهم ، فرحّبوا به ، ثم قال : يا أهل قباء ائتوني بأحجار من هذه الحرة ، فجمعت عنده أحجار كثيرة ، ومعه عنزة له (١) ، فخط قبلتهم ، فأخذ حجرا فوضعه رسول الله صلىاللهعليهوسلم ثم قال : يا أبا بكر ، خذ حجرا فضعه إلى حجري ، ثم قال : يا عمر خذ حجرا فضعه إلى جنب حجر أبي بكر ، ثم قال : يا عثمان خذ حجرا فضعه إلى جنب حجر عمر ، ثم التفت إلى الناس فقال : ليضع كل رجل حجره حيث أحب على ذلك الخط.
متى بني مسجد قباء
قلت : وهو يقتضي أن هذا البنيان لم يكن عند قدوم النبي صلىاللهعليهوسلم إلى قباء ، بل بعد قدوم عثمان رضياللهعنه من الحبشة ؛ فإنه كان قد هاجر إلى أرض الحبشة فارا بدينه مع زوجته رقية بنت رسول الله صلىاللهعليهوسلم وكان أول خارج إليها ، ثم هاجر الهجرة الثانية إلى المدينة ؛ فيمكن أن النبي صلىاللهعليهوسلم أسسه عند قدومه ، ثم بناه بعد ذلك ، وإلا فلم يكن عثمان رضياللهعنه حاضرا ، كذا نبه عليه بعضهم ولهذا قال السهيلي : أول من وضع حجرا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ثم أبو بكر ، ثم عمر ، ولم يذكر عثمان ، ثم قال : وصلّى فيه نحو بيت المقدس قبل أن يأتي المدينة ، انتهى. وسيأتي عند ذكره في المساجد عن عمر رضياللهعنه أنه قال : والذي نفسي بيده لقد رأيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأبا بكر وأصحابه ننقل حجارته على بطوننا ، ويؤسسه رسول الله صلىاللهعليهوسلم وجبريل يؤم به البيت ، ولم أر من نبه على تعيين زمان قدوم عثمان من الحبشة ، وسيأتي في بنائه صلىاللهعليهوسلم لمسجد المدينة أخبار تقتضي حضور عثمان له ، وهو محتمل أيضا للبناء الأول والثاني ، وسبق في الفصل قبله عد عثمان فيمن قدم المدينة قبل مقدم النبي صلىاللهعليهوسلم إليها ، وهو كذلك في كلام ابن إسحاق.
وقال المحب الطبري : الظاهر أن قدوم عثمان من الحبشة كان قبل هجرة النبي صلىاللهعليهوسلم أو بعدها وقبل وقعة بدر ؛ لأنه صح أنه كان في وقعة بدر متخلفا في المدينة على زوجته رقية بنت رسول الله صلىاللهعليهوسلم وكانت مريضة ، ووقعة بدر في الثانية ، وكان قدوم أكثر مهاجري الحبشة في السابعة كما سيأتي ، والله أعلم.
__________________
(١) العنزة : أطول من العصا وأقصر من الرمح في أسفلها زجّ كزجّ الرمح يتوكأ عليها الشيخ الكبير.
وفي الكبير للطبراني ورجاله ثقات عن الشموس بنت النعمان قالت : نظرت إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم حين قدم ونزل وأسس هذا المسجد مسجد قباء ، فرأيته يأخذ الحجر أو الصخرة حتى يهصره الحجر ، وأنظر إلى بياض التراب على بطنه أو سرته ، فيأتي الرجل من أصحابه ويقول : بأبي وأمي يا رسول الله أعطني أكفك ، فيقول : لا ، خذ مثله ، حتى أسسه ، ويقول : إن جبريل عليهالسلام هو يؤم الكعبة ، قالت : فكان يقال : إنه أقوم مسجد قبلة.
قلت : قد صح أنه صلىاللهعليهوسلم كان يستقبل بيت المقدس حتى نسخ ذلك ، وجاءت القبلة وهم في صلاة الصبح فأخبرهم ، وكانت وجوههم إلى الشام ، فاستداروا إلى الكعبة ؛ فيحتمل : أن جبريل عليهالسلام كان يؤم به البيت ليستدل به على جهة بيت المقدس لتقابل الجهتين ، ولعلمه بما يؤول إليه الأمر من استقبال الكعبة ، أو أنه صلىاللهعليهوسلم كان مخيّرا في ابتداء الهجرة في التوجه إلى بيت المقدس أو إلى الكعبة كما قاله الربيع فأمّ به جبريل البيت لذلك ، واختياره الصلاة لبيت المقدس أولا لاستمالة اليهود ، أو أن استقبال الكعبة كان مشروعا في ذلك الوقت ثم نسخ ببيت المقدس ثم نسخ بالكعبة ، لما قاله ابن العربي وغيره من أن القبلة نسخت مرتين ، أو أن ذلك تأسيس آخر غير التأسيس الأول ، ويدل لهذا الأخير ما قدمناه من راوية ابن شبة.
وقوله في حديث الشموس المتقدم «حتى يهصره الحجر» أي : يميله. وأورده المجد من رواية الخطابي بلفظ آخر ، فقال : وروى الخطابي عن الشموس بنت النعمان قالت : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم حين بنى مسجد قباء يأتي بالحجر قد صهره (١) إلى بطنه فيضعه ، فيأتي الرجل يريد أن يقله فلا يستطيع حتى يأمره أن يدعه ويأخذ غيره ، ثم قال : صهره وأصهره إذا ألصقه بالشيء ، ومنه اشتقاق الصهر في القرابة.
وروى ابن شبة أيضا أن عبد الله بن رواحة كان يقول وهم يبنون في مسجد قباء :
أفلح من يعالج المساجدا
فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «المساجدا» فقال عبد الله :
ويقرأ القرآن قائما وقاعدا
فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «وقاعدا» فقال عبد الله :
ولا يبيت الليل عنه راقدا
فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «راقدا» ، والله أعلم.
__________________
(١) صهر الشيء إليه : قرّبه وأدناه.
الفصل الحادي عشر
في قدومه صلىاللهعليهوسلم باطن المدينة ، وسكناه بدار أبي أيوب الأنصاري ، وأمر هذه الدار ، وما آلت إليه ، وما وقع من المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار.
قال أهل السير : ثم إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أرسل إلى ملأ بني النجار ، فجاؤوا متقلدين بالسيوف ، وكانوا أخواله ، وذلك أن هاشم بن عبد مناف تزوج منهم امرأة ، وهي سلمى بنت عمرو ، فجاءه منها ولد ، فلما مات هاشم وكبر الغلام مر به قوم من قريش فأبصروه وقد ترعرع وهو ينتضل (١) ويقول : أنا القرشي ، فجاؤوا وأخبروا عمه المطلب بن عبد مناف ، فذهب فجاء به ، فدخل به مكة وهو ردفه وعليه ثياب السفر ، فقالت قريش : هذا عبد المطلب ، فغلب عليه هذا الاسم ؛ فلذلك كان أخواله بني النجار ، فقالوا لرسول الله صلىاللهعليهوسلم : اركبوا آمنين مطاعين.
وفي البخاري من حديث أنس : قدم رسول الله صلىاللهعليهوسلم فنزل في حي يقال لهم بنو عمرو بن عوف ، فأقام فيهم أربع عشرة ليلة ، ثم أرسل إلى بني النجار فجاؤوا بالسيوف ، ثم رواه البخاري بلفظ آخر ، فقال : قدم النبي صلىاللهعليهوسلم فنزل جانب الحرة ، ثم بعث إلى الأنصار فجاؤوا النبي صلىاللهعليهوسلم وأبا بكر فسلموا عليهما ، وقالوا : اركبا آمنين مطاعين ، فركب حتى نزل جانب دار أبي أيوب.
قال الحافظ ابن حجر : تقديره فنزل جانب الحرة فأقام بقباء المدة التي أقام بها وبنى بها مسجده ، ثم بعث إلى آخره.
وفي التأريخ الصغير للبخاري عن أنس أيضا قال : إني لأسعى مع الغلمان إذ قالوا : محمد جاء ، فننطلق فلا نرى شيئا ، حتى أقبل وصاحبه ، فكمنا (٢) في بعض جوانب المدينة ، وبعثا رجلا من أهل البادية يؤذن بهما (٣) ، فاستقبله خمسمائة من الأنصار ، فقالوا : انطلقا آمنين مطاعين ، الحديث ، ففيه طي لذكر قصة قباء ، إلا أن يريد أن ذلك وقع في مبدأ الأمر عند نزوله صلىاللهعليهوسلم بقباء ، وهو ما اقتضاه رواية رزين ، فإنه قال : عن أنس قال : كنت إذ قدم رسول الله صلىاللهعليهوسلم المدينة ابن تسع سنين ، فأسمع الغلمان والولائد يقولون : جاء رسول الله صلىاللهعليهوسلم فنذهب فلا نرى شيئا ، حتى جاء رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأبو بكر ، فكمنا في
__________________
(١) انتضل القوم : استبقوا بالرمي. و ـ يفتخروا.
(٢) كمنا : استخفا في مكمن لا يفطن له.
(٣) يؤذن بهما : ينذر بهما ويخبر عنهما.
خرب في طرف المدينة ، وأرسلا رجلا يؤذن لهما الأنصار ، فاستقبلهما زهاء خمسمائة من الأنصار ، حتى انتهوا إليهما ، قال : فما رأيت مثل ذلك اليوم قط ، والله لقد أضاء منها كل شيء ، ونزلا على كلثوم بن الهدم ، ثم ذكر تأسيس مسجد قباء ، ثم قال : ثم خرج منها رسول الله صلىاللهعليهوسلم يريد المدينة ، فلا يمر بدار من دور الأنصار إلا عرضوا عليه ، وذكر نحو ما سيأتي ؛ فهو صريح في أن ذلك كان عند مقدمه صلىاللهعليهوسلم في بدء الأمر.
وكان خروجه صلىاللهعليهوسلم من قباء يوم الجمعة ، وتعيينه من الشهر مرتب على ما تقدم في قدومها.
وروى يحيى أنه صلىاللهعليهوسلم لما شخص : أي : من قباء ، اجتمعت بنو عمرو بن عوف فقالوا : يا رسول الله أخرجت ملالا أم تريد دارا خيرا من دارنا؟ قال : إني أمرت بقرية تأكل القرى ، فخلوها ـ أي ناقته ـ فإنها مأمورة فخرج صلىاللهعليهوسلم من قباء ، فعرض له قبائل الأنصار كلهم يدعوه ويعدوه النصرة والمنعة ، فيقول : خلوها فإنها مأمورة ، حتى أدركته الجمعة في بني سالم ، فصلى في بطن الوادي الجمعة وادي ذي صلب.
قلت : قيل كانت هذه أول جمعة صلاها رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالمدينة ، وقيل : إنه كان يصلي الجمعة في مسجد قباء في إقامته هناك ، والله أعلم.
وروى أيضا عن عمارة بن خزيمة قال : لما كان يوم الجمعة وارتفع النهار دعا رسول الله صلىاللهعليهوسلم براحلته ، وحشد المسلمون ، ولبسوا السلاح ، وركب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ناقته القصوى ، والناس معه عن يمينه وعن شماله وخلفه : منهم الماشي والراكب ، فاعترضنا الأنصار فما بدار من دورهم إلا قالوا هلم يا رسول الله إلى العز والمنعة والثروة ، فيقول لهم خيرا ، ويدعو ، ويقول : إنها مأمورة ، خلوا سبيلها ، فمر ببني سالم ، فقام إليه عتبان بن مالك ، ونوفل بن عبد الله بن مالك بن العجلان وهو آخذ بزمام راحلته يقول : يا رسول الله انزل فينا فإن فينا العدد والعدة والحلقة ، ونحن أصحاب العصا والحدائق والدرك ، يا رسول الله قد كان الرجل من العرب يدخل هذه البحرة خائفا فيلجأ إلينا فنقول له : قوقل حيث شئت ، فجعل رسول الله صلىاللهعليهوسلم يتبسم ويقول : خلوا سبيلها فإنها مأمورة ، فقام إليه عبادة بن الصامت وعباس بن الصامت بن نضلة بن العجلان فجعلا يقولان : يا رسول الله انزل فينا ، فيقول النبي صلىاللهعليهوسلم : بارك الله عليكم ، إنها مأمورة ، فلما أتى مسجد بني سالم ـ وهو المسجد الذي في الوادي ـ فجمّع بهم فخطبهم ، ثم أخذ رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن يمين الطريق حتى جاء بني الحبلى ، فأراد أن ينزل على عبد الله بن أبي ، فلما رآه ابن أبي وهو
عند مزاحم أي الأطم محتبيا قال : اذهب إلى الذين دعوك فانزل عليهم ، فقال سعد بن عبادة لا تجد (١) يا رسول الله في نفسك من قوله ، فقد قدمت علينا والخزرج تريد أن تملكه عليها ، ولكن هذه داري ، فمر ببني ساعدة فقال له سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو وأبو دجانة : هلم يا رسول الله إلى العز والثروة والقوة والجلد ، وسعد يقول : يا رسول الله ليس من قومي أكثر عذقا (٢) ولا فم بئر مني مع الثروة والجلد والعدد والحلقة ؛ فيقول رسول الله صلىاللهعليهوسلم : بارك الله عليكم ، وجعل رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : يا أبا ثابت خلّ سبيلها فإنها مأمورة ، فمضى ، واعترضه سعد بن الربيع وعبد الله بن رواحة وبشير بن سعد فقالوا : يا رسول الله لا تجاوزنا فإنا أهل عدد وثروة وحلقة ، قال : بارك الله فيكم ، خلوا سبيلها فإنها مأمورة ، واعترضه زياد بن لبيد وفروة بن عمرو ـ أي : من بني بياضة ـ يقولان : يا رسول الله هلم إلى المواساة والعز والثروة والعدد والقوة ، نحن أهل الدرك يا رسول الله ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : خلوا سبيلها فإنها مأمورة ، ثم مر ببني عدي بن النجار ـ وهم أخواله ـ فقام أبو سليط وصرمة بن أبي أنيس في قومهما فقالا : يا رسول الله نحن أخوالك هلم إلى العدد والمنعة مع القرابة ، لا تجاوزنا إلى غيرنا يا رسول الله ، ليس أحد من قومنا أولى بك منا لقرابتنا بك ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : خلوا سبيلها فإنها مأمورة ، ويقال : إن أول الأنصار اعترضه بنو بياضة ، ثم بنو سالم ، ثم مال إلى ابن أبي ، ثم مر على بني عدي بن النجار ، حتى انتهى إلى بني مالك بن النجار.
قلت : وقول بني عدي بن النجار «نحن أخوالك» لأنهم أقاربه من جهة الأمومة ؛ لأن سلمى بنت عمرو أحد بني عدي بن النجار كانت أم جده عبد المطلب ، وقول البراء في حديث الصحيح «إن النبي صلىاللهعليهوسلم كان أول ما قدم المدينة نزل على أجداده ، أو قال أخواله ، من الأنصار» فيه تجوز من حيث إنه صلىاللهعليهوسلم إنما نزل على إخوتهم بني مالك بن النجار ، أو أراد أنه نزل بخطة بني النجار لتقارب منازلهم الجميع ومنهم بنو عدي.
وقال الحافظ ابن حجر في المقدمة في الكلام على الحديث المذكور : هم من بني عمرو بن عوف من الخزرج ، وكانت أم عبد المطلب جد النبي صلىاللهعليهوسلم منهم ، واسمها سلمى ؛ فهم أجداده حقيقة ، وأخواله مجازا ، والشك من راوي الخبر ، انتهى.
وهو وهم ، سببه اشتباه النزول الأول بقباء بهذا النزول الذي وقع فيه الاستقرار ، وليس بنو عمرو بن عوف ممن يوصف بذلك ، وقد تنبه له في الشرح ؛ فذكره على الصواب كما قدمناه ، والله أعلم.
__________________
(١) الوجد : الحزن والغضب.
(٢) أكثر عذقا : أكثر نخلا.