وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى - ج ١

نور الدين علي بن أحمد السّمهودي

وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى - ج ١

المؤلف:

نور الدين علي بن أحمد السّمهودي


المحقق: خالد عبد الغني محفوظ
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3818-9
الصفحات: ٢٩٤

إلا هو أتعلمون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : أمن يبتاع مربد بني فلان غفر الله له ، فابتعته بعشرين ألفا أو خمسة وعشرين ألفا ، فأتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : قد ابتعته ، فقال : اجعله في مسجدنا وأجره لك ، قالوا : اللهم نعم.

وأخرج خيثمة بن سليمان في فضائل عثمان عن قتادة قال : كانت بقعة إلى جنب المسجد فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من يشتريها ويوسعها في المسجد له مثلها في الجنة ، فاشتراها عثمان ، فوسعها في المسجد.

وأسند ابن زبالة عن خالد بن معدان قال : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على عبد الله بن رواحة وأبي الدرداء ومعهما قصبة يذرعان بها المسجد ، فقال : ما تصنعان؟ فقالا : أردنا أن نبني مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على بنيان الشام ، فيقسم ذلك على الأنصار ، فقال : هاتياها ، فأخذ القصبة منهما ، ثم مشى بها حتى أتى الباب ، فدحا بها (١) ، وقال : كلا ، ثمام وخشيبات وظلة كظلة موسى ، والأمر أقرب من ذلك ، قيل : وما ظلة موسى؟ قال : إذا قام أصاب رأسه السقف.

وروى البيهقي في الدلائل من طريق يعلى بن شداد عن عبادة أن الأنصار جمعوا مالا فأتوا به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا رسول الله ابن بهذا المسجد وزينه ، إلى متى نصلي تحت هذا الجريد؟ فقال : ما بي رغبة عن أخي موسى ، عريش كعريش موسى.

وروى البيهقي أيضا عن الحسن في بيان عريش موسى قال : إذا رفع يده بلغ العريش ، يعني السقف.

وعن ابن شهاب : كانت سواري المسجد في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جذوعا من جذوع النخل ، وكان سقفه جريدا وخوصا ليس على السقف كثير طين ، إذا كان المطر امتلأ المسجد طينا ، إنما هو كهيئة العريش.

وفي الصحيح في ليلة القدر : وإني أريت أني أسجد في ماء وطين ، فمن كان اعتكف مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فليرجع ، فرجعنا وما نرى في السماء قزعة (٢) فجاءت سحابة فمطرت حتى سال سقف المسجد ، وكان من جريد النخل ، وأقيمت الصلاة ، فرأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسجد في الماء والطين ، حتى رأيت أثر الطين في جبهته.

الفصل الثاني

في ذرعه وحدوده التي يتميز بها عن سائر المسجد اليوم

اعلم أن الذراع حيث أطلق فالمراد به ذراع الآدمي ، وقد قدمنا في تحديد الحرم

__________________

(١) دحا بها : دفعها ورماها.

(٢) القزع : قطع السحاب المتفرقة في السماء.

٢٦١

أنه ذراع غير ثمن من ذراع الحديد المستعمل بمصر وبمكة ، وهو شبران تقريبا ، وقد تحصلنا كما تقدم في ذرع المسجد على أربع روايات : الأولى : سبعون ذراعا في ستين أو يزيد ، والثانية : مائة ذراع في مائة ، وأنه مربع ، والثالثة : أنه أقل من مائة ذراع ، وهذا صادق بالأولى فليحمل عليها ، الرابعة : أنه بناه أولا أقل من مائة في مائة ، ثم بناه وزاد عليه مثله في الدور ، ولا يصح أن يراد بذلك الأذرع قطعا ؛ لأنها تقتضي أنه بعد البناء الثاني صار أحد امتداديه إما الطول أو العرض نحو مائتي ذراع ، والامتداد الآخر نحوها ، ولا شك أن حد مسجده صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جهة المشرق غايته الحجرة الشريفة ، فعرضه من جدارها إلى جدار المسجد الغربي ، وذرع هذا القدر اليوم بعد الزيادات المجمع عليها لا تبلغ مائة وخمسين ذراعا كما اختبرته ، بل تنقص أزيد من ستة أذرع ، وقد أجمع المؤرخون على أن عمر وعثمان رضي‌الله‌عنهما زادا في المسجد من هذه الجهة ، ثم غيرهما من الخلفاء ؛ فالظاهر أن المراد من هذه الرواية الأشبار لا الأذرع ، فيقتضي أن المسجد النبوي بعد البناء الثاني صار أحد امتداديه مائتي شبر ، والامتداد الآخر نحوها ؛ فيوافق رواية مائة ذراع في مثلها ، على أن ما ذكره المتأخرون من التحديد بالأمور الآتية يقتضي أنه لم يكن مائة ذراع ؛ فهو مقتض لترجيحهم الرواية الأولى ، وهي سبعون ذراعا في ستين ، وتكون السبعون للطول والستون للعرض.

وقد نقل النووي ذلك في منسكه عن خارجة بن زيد أحد فقهاء المدينة السبعة ، ولفظه : بنى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسجده سبعين ذراعا في ستين أو يزيد ، وهو الذي جزم به ابن النجار فقال : بنى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسجده مربعا ، وجعل قبلته إلى بيت المقدس ، وطوله سبعين ذراعا في ستين ذراعا أو يزيد ، انتهى.

هذا ، وقد قال يحيى قبيل ما جاء في حجر أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : حدثني هارون قال : حدثنا محمد بن يحيى ـ يعني صاحب مالك ـ قال : فيما كان انتهى إلينا من ذرع مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من القبلة إلى حده الشامي أربعة وخمسون ذراعا وثلثا ذراع ، وحده من المشرق إلى المغرب ثلاث وستون ذراعا ، يكون ذلك مكسرا ثلاثة آلاف وأربعمائة وأربعة وأربعين ذراعا ، انتهى.

وقال ابن النجار : اعلم أن حدود مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أي : الذي كان في زمنه ـ من القبلة الدرابزينات التي بين الأساطين التي في قبلة الروضة ، ومن الشام الخشبتان المغروزتان في صحن المسجد ، وأما من المشرق إلى المغرب فهو من حجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الأسطوان الذي بعد المنبر ، وهو آخر البلاط ، انتهى.

٢٦٢

وفيما ذكره ابن النجار مناقشة : أما ما ذكره من التحديد بالدرابزينات من جهة القبلة وبالخشبتين من جهة الشام ، فالخشبتان اليوم غير معروفتين ، وقد نبه على فقدهما الزين المراغي ، وكلام المطري يفهمه ، ولم أر لهما ذكرا في كلام المتقدمين ، نعم ذكر ابن زبالة كلاما فيه غموض يقتضي تحديد بعض جهات المسجد بعودين علا الكبس على أحدهما ، وأن الآخر كان موجودا في زمانه ، فلعل ذلك مأخذ ابن النجار ، وعبارة ابن زبالة تنبو (١) عن ذلك ؛ إذ لم يذكرهما في حد جهة الشام ، والحد من هذه الجهة اليوم ـ على ما يعرف في زماننا ـ الحجران الآتي ذكرهما في صحن المسجد ، وسيأتي ما يقتضي رد ذلك.

وذكر ذلك ابن جماعة في منسكه فقال : قد عرّف المتأخرون مقدار المسجد الذي كان عليه أولا فقالوا : كان على التربيع من الحجرة المقدسة إلى مكان السارية السابعة من جهة المغرب ، ومن موضع الدرابزين الذي هو بين الأساطين المتصل بالصندوق أمام المصلى الشريف إلى موضع الحجرين المغروزين في صحن المسجد الشريف ، انتهى.

ومستنده في ذلك قول المطري في الحجرين المذكورين يذكر أنهما حد المسجد من جهة الشام والمغرب ، قال : لكنهما ليسا على سمت المنبر الشريف ، بل هما داخلان إلى جهة المشرق بمقدار أربعة أذرع أو أقل ، وكذا متقدمان إلى القبلة بمثل ذلك ، قال : لأني اعتبرت ذلك بالذرع فوجدتهما ليسا على ذرع المسجد الأول.

قلت : كونهما داخلين عن سمت المنبر إلى جهة المشرق بما ذكر لا يقدح في كونهما الحد المذكور ؛ لأن المراد أن جهة المغرب هناك في سمتهما ، كما أن المراد أن جهة الشام في سمتهما ، لا أنها ما يحاذي الحجرين فقط ، ووقع الاستغناء عن تحرير ابتداء جهة المغرب بما تقدم له نقلا عن ابن النجار من الأسطوانة التي تلي المنبر من تلك الجهة ، كما استغنى بكون الحجرة الشريفة حده من جهة المشرق ؛ إذ لم يذكر حد لجهة المشرق مما يلي الحجرين في جهة الشام ، وفي الحقيقة لم يقصد بهما سوى بيان جهة الشام ، على أنه يحتمل أن مقدم المسجد كان أعرض من مؤخره كما هو موجود اليوم ، فيكون الحجران حده من جهة المغرب حقيقة ، وأما قوله إنهما متقدمان إلى القبلة بأربعة أذرع وإنهما ليسا على ذرع المسجد الأول يعني السبعين التي ذكرها ابن النجار فقد بناه على ما قاله أيضا من أن الدرابزينات التي ذكرها ابن النجار من جهة القبلة متقدمة على موضع الحائط القبلي ؛ لأن الحائط القبلي كان محاذيا لمصلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما جعل هذا الصندوق الذي في قبلة المصلى الشريف أي بين المصلى والدرابزينات سترة بين المقام الشريف وبين الأسطوانات ، قال : وورد أيضا أنه كان بين الحائط القبلي وبين المنبر ممر الشاة ، وبين

__________________

(١) تنبو : تختلف.

٢٦٣

المنبر والدرابزين اليوم مقدار أربعة أذرع وربع ذراع ، والمنبر لم يغير من جهة القبلة ، وكذا المصلى الشريف ، انتهى. فلم يعتبر الذرع من الدرابزينات.

وقد اختبرت أنا ذلك بنفسي من الدرابزينات المذكورة إلى الحجرين المذكورين فكان سبعين ذراعا بذراع اليد المتقدم ذكره ، وقد قال ابن جماعة : إنه اختبر ذلك بذراع العمل فكان ستة وأربعين ذراعا وثلثي ذراع ؛ فهو موافق لذرعنا ، بل يرجح قليلا ؛ لأن ذراع العمل ذراع ونصف راجح من ذراع اليد.

وأما ما ذكره المراغي في كتابه من الذرع فغير موافق لذرعنا ؛ لأنه اعتمد في ذلك كما صرح به على ذراع المدينة الشريفة اليوم ، وقد اختبرته فوجدته يزيد على ذراع اليد الذي حررناه بأكثر من قيراط ، وقول المطري : «إن بين المنبر والدرابزين اليوم مقدار أربعة أذرع وربع» مخالف لما اختبرناه ؛ فإن بينهما ثلاثة أذرع ونصف بالذراع الذي حررناه ، لكن سيأتي أن المنبر اليوم ليس هو ذلك ، وأنه قد اتضح لنا عند الحفر لتأسيس المنبر الرخام الآتي ذكره صحة ما قاله المطري ، وأن المنبر الذي أدركناه قدّم عن محل المنبر الأصلي لجهة القبلة أزيد من نصف ذراع ، كما سنوضحه إن شاء الله تعالى.

وقد ذكر ابن زبالة ويحيى من طريقه نقلا عن غير واحد من أهل العلم تحديد المسجد الشريف من هذه الجهة فقالا : وعلامته في القبلة حروف المرمر الذي المنبر وسطه ، وعلامته من الشام أربعة طيقان من ناحية المشرق والمغرب ، وعلامة الطيفان الأربع أنهن مخضرات الأجواف بالفسيفساء كلهن.

قلت : والمرمر اليوم لا يظهر منه شيء. لكن يؤخذ من كلام ابن زبالة في وصف هذا المرمر أنه كان دكة مرتفعة حول المنبر قدر الذراع ، وأنه ممتد من المغرب قدر ثلاثة أذرع ، ومن المشرق ثلاثة ، ومن القبلة ثلاثة ، فإنه قال : حدثني محمد بن إسماعيل قال : رأيت طنفسة (١) كانت لعبد الله بن حسن بن حسن تطرح قبالة المنبر على مرمر كان هناك ، قال : فحبس عبد الله بن حسن سنة أربعين ومائة ، وبقيت الطنفسة بعده أياما ، ثم رفعت ، قال : ثم إن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي رضي‌الله‌عنهم لما ولي المدينة سنة خمسين ومائة في خلافة أبي جعفر نقض المرمر ووسعه من جوانبه كلها حتى ألحقه بالسواري ، فكلمه أبو مودود عبد العزيز بن أبي سليمان أن يدع له مصلاه فتركه ولم يلحق المرمر بالأساطين المقدمة ؛ فالمرمر اليوم هو الذي عمل الحسن بن زيد ، والمرمر الذي حول المنبر المرتفع عن المرمر الذي عمل الحسن بن زيد بين ستة أساطين ثلاثة أذرع من قبل القبلة وثلاثة أذرع من قبل المشرق وثلاثة أذرع من قبل المغرب ، وهو مرتفع عن الأرض نحوا من ذراع ، انتهى.

__________________

(١) الطنفسة : النمرقة فوق الرّحل. و ـ البساط.

٢٦٤

وقال في موضع آخر : عرض المرمر الذي حول المنبر ثمانية أذرع ، وطوله ثماني عشرة ذراعا ، وسماه في موضع آخر رخاما ، وهو يطلق عليه لغة ، وسيأتي ذكر هذه الدكة التي المنبر في وسطها عن ابن النجار حيث قال : وارتفاع الدكة التي المنبر عليها شبر وعقد ، فكأن الكبس علا ؛ فإنها كانت ذراعا في زمن ابن زبالة ، وفي زمن ابن النجار شبرا وعقدا ، ثم علا الكبس فلم يوجد اليوم ، وقد ظهر أثرها وأثر الرخام المذكور عند حفر ما حول المنبر الشريف ، وشاهدت الرخام الذي في قبلته كما سيأتي ، وتلخص من هذا أن المرمر كان في جهة القبلة ثلاثة أذرع بعد المنبر ، والظاهر أن عرض جدار المسجد الشريف أدخل في ذلك من جهة القبلة ؛ فقد روى يحيى في ترجمة ما جاء في زيادة الوليد أن عمر بن عبد العزيز أحضر رجالا من قريش فأروه مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والذي زاد فيه عمر ، والذي زاد فيه عثمان ، فعلم عمر بن عبد العزيز المسجد الأول الذي كان على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان جدار القبلة من وراء المنبر ذراعا وأكثر من ذراع. وروى ابن زبالة أخبارا تتضمن أن جدار القبلة كان بينه وبين المنبر قدر ممر العنز ، وفي العتبية ممر الرجل منحرفا ، وفي الصحيح عن سهل : كان بين مصلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين الجدار ممر الشاة. وفيه أيضا عن سلمة : كان جدار المسجد عند المنبر ما كادت الشاة تجوزه ؛ فتعين ما أشرنا إليه من إدخال جدار المسجد في ذلك الممر الذي جعل علامة في جهة القبلة ، وأما الطاقات الأربع التي ذكرها علامة لنهاية المسجد من جهة الشام فغير معروفة اليوم ، إلا أنه سيأتي فيما نقله المرجاني عن الحارث المحاسبي ما يبين محلها.

وأما الجواب على ما ذكر المطري من كون الدرابزينات متقدمة فالظاهر أن ابن النجار فهم أن المراد إدخال عرض الجدار الذي كان موجودا في زمنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما تقرر عندنا من أن جدار المسجد من جملة المسجد ، ويؤيده ما تقدم من التحديد بالمرمر من تلك الجهة ، وما سيأتي في الفصل الثاني عشر من رواية أحمد عن نافع أن عمر رضي‌الله‌عنه زاد في المسجد من الأسطوانة ـ أي التي عند المصلى الشريف ـ إلى المقصورة ؛ لأن ذلك هو الرواق الذي بين الأساطين التي في قبلة الروضة وبين الأساطين التي تليها في القبلة. وقد قال المراغي : إن الذي ظهر له أن الصندوق الذي في قبلة المصلى الشريف جعل في مكان الجدار القديم ، ويشهد له ما سيأتي عن يحيى في ذرع ما بين المصلى الشريف وجدار القبلة اليوم ، لكن عرض هذا الصندوق ذراعان ، وبينه وبين الدرابزين أرجح من نصف ذراع ، وذلك فيما يظهر أزيد من عرض الجدار القديم بنحو الذراع ؛ لأني شاهدت لبنا أخرج من جدران الحجرة الشريفة في العمارة التي أدركناها أولا يزيد في الطول على الذراع ، وعرضه نصف ذراع ، وسمكه ربع ذراع ، وفيه شيء مرتفع طوله وعرضه وسمكه واحد ، وكل ثنتين منه طول لبنة مما قدمناه ، والذي يظهر أنه كان من بقايا لبن الحجرة

٢٦٥

الشريفة التي كانت مبنية به أولا جعل للتبرك لأنه أتى غير مستو ، والجدار مبني بالحجارة الوجوه المحكمة وبالقصة ؛ فلا يناسبه وضع ذلك فيه ، ولهذا جعل بين الحجارة الوجوه في أعالي الجدار ، وقد تقدم أن الذي استقر عليه عرض الجدار في زمنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأنثى والذكر ، وهما لبنتان مختلفتان ، واللبنتان المختلفتان من هذا اللبن الذي رأيناه أو اللبنة ونصف الأخرى وهو السعيدة يزيد على ذراع ونصف يسيرا ، فيكون ذلك هو عرض الجدار في زمنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويشهد له ما شاهدناه أيضا في عرض جدار الحجرة الشريفة على ما سنذكره ، ثم اتضح الحال بظهور المرمر الذي في قبلة المنبر ؛ فإنا وجدنا بينه وبين الدرابزين المذكور أرجح من ذراع ، وبينه وبين طرف محل المنبر الأصلي من جهة القبلة ثلاثة أذرع سواء ، كما ذكر ابن زبالة ، فذلك هو عرض الجدار مع ما كان بين المنبر وبينه.

وأما ما ذكره ابن النجار من التحديد بالأسطوانة التي تلي المنبر من جهة المغرب وأنها آخر البلاط وبالحجرة الشريفة من جهة المشرق ؛ فالبلاط الذي ذكره لا يوجد اليوم ، وكأنه يريد به الرخام الذي كان المنبر وسطه ، وقد عبر عن ذلك ابن جماعة كما تقدم بقوله : من الحجرة إلى مكان السارية السابعة من جهة المغرب ، فإن السابعة من صف الأساطين المذكورة هي التي تلي المنبر من المغرب إن عددنا الأسطوان الملاصق للحجرة ، ولم أر لما ذكره ابن جماعة مستندا في كلام المؤرخين سوى ما ذكره ابن النجار ؛ فيتعين الحمل على الأسطوانة المذكورة ، وقد ذرعت ما بين الأسطوانة التي تلي المنبر عند ظهره من المغرب إلى حائز عمر بن عبد العزيز الذي داخله الحجرة الشريفة بمقط ؛ فكانت مساحته سبعة وخمسين ذراعا ونصف ذراع راجح ، وعرض الحائز المذكور ذراع وربع راجح ، كما تحرر لي عند عمارة ما نقض منه ، وليس بينه وبين جدار الحجرة من هذه الجهة فضاء أصلا ، بل هو لاصق به ليس بينهما مغرز إبرة خلاف ما ذكره المؤرخون ؛ فيكون ما بين الأسطوانة المذكورة والحجرة الشريفة تسعة وخمسون ذراعا ينقص يسيرا ، وكأن ابن النجار جرى على قول من تقدمه من المؤرخين في أن بين الحائز وجدار الحجرة فضاء من هذه الجهة ، وظن أن عرض الحائز أكثر مما ذكرناه ؛ فجعل نهاية قولهم في عرض المسجد ستين ذراعا أو يزيد إلى الأسطوانة التي تلي المنبر أو أن ذلك القدر الناقص لتفاوت الأذرعة ، على أن الظاهر أن ابن جماعة لم يعتبر الأسطوانة اللاصقة بالحجرة ، وأنه جعل السارية السابعة هي التي تلي السارية التي تلي المنبر في جهة المغرب ، وهي الثانية من المنبر في تلك الجهة ، فإنه قال : إنه ذرع ما بين الأسطوانة السابعة إلى حائز الحجرة الشريفة فكان ذلك اثنين وأربعين ذراعا وثلثي ذراع بذراع العمل.

قلت : وقد اعتبرت ما ذكره من الذرع بذراع العمل فرأيته ينتهي إلى الأسطوانة الثانية

٢٦٦

من المنبر في جهة المغرب ، وذرعته بذراع اليد الذي حررناه فكان خمسا وستين ذراعا ، وهو مطابق لما قاله ابن جماعة ولما اختبرناه بذراع العمل ؛ لأن ذراع العمل ذراع وثلث من ذراع الحديد المستعمل بمصر ، وذلك اثنان وثلاثون قيراطا ، والذراع الذي حررناه أحد وعشرون قيراطا ، فذراع العمل ذراع ونصف قيراط بالذراع الذي حررناه ، وقد مال المراغي إلى اعتبار التحديد بهذه الأسطوانة ـ أعني الثانية من المنبر ـ فإنه ذكر عدم وجود البلاط اليوم ، ثم قال : لكني اعتبرت ذرعه من المشرق إلى المغرب على رواية يحيى ثلاثة وستين ، وهي من أقل الروايات ؛ فكان من جدار الحجرة الشريفة يعني الحائز الظاهر إلى الأسطوانة الثانية من المنبر لا التي بعده ستون ذراعا تقريبا ، قال : وعلى هذا يكون عرض جدار عمر بن عبد العزيز وما بينه وبين جدار الحجرة الشريفة الأصلي ثلاث أذرع تقريبا ، انتهى. ولا يخفى ما فهم ؛ لأنه جعل المسافة المذكورة ستين ذراعا تقريبا وهي خمسة وستون تحريرا ، وتبع من تقدمه من المؤرخين في ثبات فضاء بين حائز عمر بن عبد العزيز وجدار الحجرة ، فخمن أن ذلك مع عرض الحائز ثلاثة أذرع ، وقد علمت أن عرض الحائز ذراع وربع يرجح يسيرا ، وليس بينه وبين جدار الحجرة شيء.

وقد روى ابن زبالة ويحيى من طريقه أشياء في تحديد المسجد وذرعه يقتضي أن جدار المسجد الشريف في زمنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جهة المشرق لم ينته إلى حائز عمر بن عبد العزيز ، بل الحائز وبعض ما يليه من المغرب في موضع حجرة عائشة رضي‌الله‌عنها ، وأن جدار حجرة عائشة كان فيما بين الأساطين اللاصقة بجدار القبر وبين الأساطين التي بينها المقصورة الدائرة على الحجرة الشريفة ، وأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان قد بنى المسجد أولا وجعله ثلاث أساطين عن يمين المنبر في المغرب وثلاث أساطين عن يساره في المشرق ، وأن نهايته من جهة المشرق كانت أولا أسطوان التوبة ؛ لأنها تكون في موضع الجدار بعد الأساطين الثلاث ، وأن مساحة ذلك من المشرق إلى المغرب ثلاث وستون ذراعا ، وقيل :خمس وخمسون ، وأنه زاد فيه بعد ذلك من المشرق والمغرب ، ومع ذلك لم ينته زيادته في المشرق إلى موضع حائز عمر بن عبد العزيز ، وأنه لم يزد فيه من جهة القبلة ولا من جهة الشام.

قلت : وهو موافق لما روى أنه كان مائة ذراع كما سنبينه ، ويرجحه عندي أن المنبر الشريف يكون حينئذ متوسطا للمسجد ؛ إذ يبعد أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يتوسط أصحابه ويقف على منبر في طرفهم ، وكون المسجد النبوي لا ينتهي إلى موضع حائز عمر بن عبد العزيز كما قدمناه خلاف ما عليه متأخرو المؤرخين ، لكنه حسن ؛ إذ يبعد أن يا بني عمر بن عبد العزيز حائزه في شيء من المسجد ، وينتقص الروضة الشريفة به ، حاشاه من ذلك ، والذي صح

٢٦٧

أن محل القبور الشريفة في صفة بيت عائشة ، ولا بد للصفة من مرافق ، فيظهر أن الحائط الذي في جوف الحائز هو حائط الصفة ، والحائز فيما خرج عنها من بقية البيت.

ثم ظفرت في كلام المرجاني نقلا عن الحارث المحاسبي بما يصرح بذلك ، لما سيأتي من أنه ذكر في تحديد المسجد ستة أساطين من جهة شرقي المنبر ، ثم قال : والروضة ما بين القبر والمنبر ، فما كان منها في الأسطوانة السادسة التي حددت لك عن يمين المنبر فليس من المسجد الأول ، وإنما كان من حجرة عائشة رضي‌الله‌عنها فوسع به المسجد ، وهو من الروضة ، انتهى.

ولنورد عبارة ابن زبالة فإن يحيى روى ذلك عنه من غير زيادة ولا مخالفة مع ما فيها من أشياء لا تعرف اليوم ، ولكن إفادة هذه الأمور الغريبة التي لم يذكرها متأخرو المؤرخين اقتضت إيرادنا لذلك فنقول : أسند ابن زبالة عن عبيد بن عمر بن حفص بن عاصم أن مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان ثلاث أساطين مما يلي المشرق ، وثلاث أساطين مما يلي المغرب ، سوى ما خرج في الرحبة أي الأساطين المصفوفة من الرحبة إلى القبلة ، ولو لا ما سيأتي من التصريح بأن هذه الست كانت ثلاثة منها على يمين المنبر وثلاثة عن يساره ـ يعني في البناء الأول ـ لحملنا ذلك على أن ابتداء هذه الست من الأسطوانة التي تلي المنبر ؛ فيكون نهايتها الأسطوان التي يلي أسطوان التوبة ، ويكون جدار الحجرة بعدها ، فيوافق التحديد المتقدم ، لكنه قال عقبه : وقال جمهور الناس من أهل العلم وغيرهم : هو إلى الفرضتين اللتين في الأسطوانتين اللتين دون المربعتين الغربية والتي في القبر.

قلت : لا تعرف اليوم في المسجد القديم مربعة غربية ، غير أن الذي ظهر لي ـ من مقابلتها بمربعة القبر ومما سيأتي في بيان الحائز الذي عمل لمنع ماء المطر أن يغشى المسقف القبلي ـ أنها الأسطوانة العظيمة المثمنة اليوم في المسقف القبلي ، فإنها كانت ركن رحبة المسجد في هذا المسقف من جهة المغرب ، كما أن مربعة القبر كانت ركن الرحبة في جهة المشرق ، قبل زيادة الرواقين اللذين ذكرهما في المسقف القبلي كما يؤخذ من مواضع في كلام ابن زبالة ويحيى ، والذي يظهر أن تثمين الأسطوانة المذكورة حادث ، وإنما كانت مربعة ، كما ثمنوا ما ظهر من مربعة القبر وما يلي الحجرة منها باق على تربيعه ، ومربعة القبر هي التي في نهاية الصفحة الغربية من الحائز الدائر على الحجرة من جهة الشام ، وتعرف بأسطوان مقام جبريل عليه‌السلام كما سيأتي إيضاحه ، والأسطوان التي دونها هي الملاصقة بالشباك الدائر على الحجرة اليوم ، وهي بين المربعة وبين أسطوان الوفود ؛ فيكون جدار الحجرة على هذا كان فيما بين مربعة القبر والتي يليها.

قال ابن زبالة عقب ما قدمناه عنه : واحتجوا بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يعتكف في

٢٦٨

المسجد في موضع مجلس بني عبد الرحمن بن الحارث ، وأن عائشة رضي‌الله‌عنها كانت ترجل رأسه وهو معتكف في المسجد وهي في بيتها ، وكان مالك بن أنس يقول : الجدار من المشرق في حد القناديل التي بين الأساطين التي في صفها أسطوان التوبة وبين الأساطين التي تلي القبر ، وأرفه عمر بن عبد العزيز من ورائها في الأسطوانة التي تلي القبر.

قلت : ما نقله عن مالك صريح فيما قدمناه من أن جدار المسجد الشرقي كان فيما بين الأساطين اللاصقة بالقبر وبين الأساطين المقابلة لها ؛ فيكون في محاذاة القناديل الآخرة من القبلة إلى الشام فيما بين هذه الأساطين ، ويكون عمر بن عبد العزيز أخره إلى الأسطوان اللاصق بجدار القبر ، وسيأتي ما يصرح بذلك من كلام المحاسبي أيضا وأما قوله : «واحتجوا إلى آخره» فوجه الاحتجاج أن معتكفه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان لاصقا بحجرته ، بحيث إن عائشة رضي‌الله‌عنها كانت ترجل رأسه وهو في معتكفه وهي في بيتها ، ولهذا أورد ابن زبالة عقبه حديث «كان يدنو مني وأنا حائض فأرجله وهو في المسجد» ومجلس بني عبد الرحمن بن الحارث الذي ذكره ابن زبالة لا يعرف اليوم ، وروى ابن زبالة ويحيى في بيان معتكفه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أشياء سنذكرها إن شاء الله تعالى ، والمناسب لما نحن فيه منها : أنه كان للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سرير من جريد فيه سعفه يوضع بين الأسطوان التي وجاه القبر وبين القناديل ، كان يضطجع عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقوله : «التي وجاه القبر» يريد به المواجهة له ، وهي اللاصقة بشباك الدائر على الحجرة اليوم في صف أسطوان التوبة ، بل قيل : إنها أسطوان التوبة كما سيأتي ، وهذا مطابق لما ذكره مالك من أن الجدار كان في حد القناديل المذكورة.

وأسند ابن زبالة أيضا عن غير واحد من أهل العلم أن مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان ثلاث أساطين عن يمين المنبر وأنت مستقبل القبلة في موضع معتكف حسن بن زيد الذي كان يعتكف فيه ، ومن الشق الآخر إلى أسطوان التوبة ، وكان ذرعه من المشرق إلى المغرب ثلاثة وستين ذراعا ، وقال عبد الرحمن بن سعد عن أشياخه : كان خمسين في خمسين.

قلت : فيكون الحجر التي في شرقي المسجد أدخلت بعد أو بعضها في الزيادة الآتية أو أنها لم تستقر في شرقيه إلا بعد ذلك.

ثم قال ابن زبالة : قالوا : وعلامة مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أي الذي بني عند مقدمه من مكة ـ وذكر علامات كانت في السقف المحترق والفسيفساء التي زالت فلا تعرف اليوم ، ثم قال : وعلامة مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي بني عند مقدمه من خيبر قالوا : ترك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسجد من القبلة في تلك البنية في حده الأول ، وزاد فيه من ناحية

٢٦٩

المشرق إلى الأسطوان التي دون المربعة التي عند القبر ، وعلامة تلك الأسطوان أن لها نجافا (١) طالعا في الرحبة من بين الأساطين ، ومن المغرب إلى الأسطوان التي تلي المربعة التي لها نجاف أيضا من بين الأساطين ، وظهر ذلك أي حد المسجد بحجارة ، وعبارة يحيى : وقد صمد بحجارة تحت الحصباء ، منها أرفة عند الأسطوان التي بين أسطوان التوبة وبين القبر في صف الأسطوان التي لها نجاف ، ومن المغرب مثل ذلك بأرفة حجارة في الأرض مبنية ، وترك مما يلي الشام لم يزد فيه ، انتهى كلام ابن زبالة بحروفه.

وقوله : «ومن المغرب مثل ذلك» أي ظهر الحد بأرفة حجارة في الأرض ، ولا أدري معنى قوله بأرفة (٢).

وذكر ابن زبالة أيضا في موضع آخر ذرع مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي كان في زمنه ، يعني ما استقر عليه في آخر الأمر ، ثم قال : وحده من شرقي المنبر أربع أساطين ، ومن غربيه أربع أساطين ، انتهى.

والعجب من ابن النجار فمن بعده من المؤرخين حيث لم يتعرضوا لهذا ، لكن ابن النجار اعتذر في أول كتابه بأنه كان مجاورا بالمدينة ، ولم تكن كتبه حاضرة عنده ، وذكر ما يقتضي أنه كتب ذلك مما علق بفكره ، والمطري جرى على منواله ، وابن زبالة ويحيى عمدة في ذلك ؛ فإنهما أقدم من أرخ للمدينة لأن ابن زبالة هو محمد بن الحسن أحد أصحاب الإمام مالك بن أنس ، ويؤخذ من كلامه أنه وضع كتابه في صفر سنة تسع وتسعين ومائة ، وأما يحيى فهو من أصحاب أصحابه ، وكانت وفاته سنة سبع وسبعين ومائتين عن ثلاث وستين سنة ، وأما ابن شبة فكان معاصرا ليحيى وقبله بيسير ، ولم أظفر من كتابه بهذا المحل المشتمل على ذكر المسجد ، ولو ظفرت به لكان الشفاء ؛ فإنه يوضح الأمور إيضاحا تاما ، وهو إمام ثقة ، وابن زبالة وإن كان ضعيفا لكن اعتضد بموافقة يحيى له وروايته لكلامه من غير تعقيب.

ثم ظفرت في كلام المرجاني نقلا عن المحاسبي بما يوافق كلامه ؛ فهو العمدة عندي.

قال المرجاني : قال الحارث بن أسد المحاسبي : حد المسجد الأول ستة أساطين في عرضه عن يمين المنبر إلى القناديل التي حذاء الخوجة ، وثلاث سوار عن يساره من ناحية المنحرف منه ، ومنتهى طوله من قبلته إلى مؤخره حذاء تمام الرابع من طيقان المسجد

__________________

(١) النجاف : الناتئ المشرف على الشيء.

(٢) الأرفة : علامة تنصب ، تبين الحدّ بين الأرضين.

٢٧٠

اليوم : أي في زمنه ، وما زاد على ذلك فهو خارج عن المسجد الأول ، قال ـ يعني المحاسبي ـ وقد روى عن مالك أنه قال : مؤخر المسجد بحذاء عضادة الباب الثاني من الباب الذي يقال له باب عثمان ، أعني العضادة الآخرة السفلى ، وهو أربع طيقان من المسجد ، ثم قال : والروضة ما بين القبر والمنبر ، إلى آخر ما قدمناه عنه.

وقوله «عن يمين المنبر» أي في جهة المشرق ، لما سبق عنه خلاف ما تقدم في كلام ابن زبالة ، فإنه عنى يمين مستقبل المنبر ، والطيقان التي ذكرها لها ذكر في كلام ابن زبالة ويحيى كما تقدم ، وهي غير موجودة اليوم ، والباب الثاني من باب عثمان هو المعروف اليوم بباب النساء ؛ فهو صريح في رد ما تقدم من تحديد جهة الشام بالحجرين الموجودين اليوم في صحن المسجد ، ومؤيد للرواية المتقدمة في الذرع ، وهي رواية مائة ذراع في مائة ذراع ؛ لأنه يقرب من ذلك.

وقد تحصلنا من هذا مع ما تقدم عن المتأخرين على خلاف في نهاية المسجد النبوي من جهة المغرب.

فأحد الأقوال : أنه إلى الأسطوانة التي تلي المنبر من تلك الجهة ، وهو الذي عوّل عليه ابن النجار ومن اتبعه.

والثاني : أنه إلى التي تليها ، وهي الثانية من المنبر من تلك الجهة أيضا ، وهما بعيدان.

والثالث : أنه إلى الأسطوانة الثالثة من المنبر في تلك الجهة ، وقد اقتضى كلام ابن زبالة أن ذلك حد المسجد قبل زيادة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه ، خلاف ما يظهر من كلام المحاسبي.

والرابع : أنه إلى الأسطوانة الرابعة من المنبر ؛ لما تقدم من أنه كان على ثلاثة أساطين عن يمين المنبر ؛ فيكون جداره الغربي في موضع الأسطوانة الرابعة في صفها من جهة القبلة أسطوان مربع من أسفله عن الأرض بقدر الجلسة ، وفي صفه من جهة الشام أسطوان محراب الحنفية المحدث.

والخامس : أنه إلى الأسطوانة الخامسة من المنبر ؛ لما تقدم من أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم زاد فيه بعد فتح خيبر من جهة المغرب بقدر أسطوان آخر ، كما يؤخذ مما تقدم ، ولما صرح به ابن زبالة كما قدمناه أيضا حيث قال في حده : وعن غربيه أربع أساطين ؛ فينتهي حده إلى الأسطوانة الخامسة من المنبر ، وهي التي تلي الأسطوانة المذكورة في جهة المغرب في صفها ، وهي مربعة من أسفلها بقدر الجلسة أيضا ، وفي صفها من جهة الشام الأسطوان التي تلي محراب الحنفية من جهة المغرب ، فهاتان المربعتان هما اللتان يتردد فيما يكون منهما في موازاة حد المسجد النبوي من جهة المغرب ، وقد ذهب تربيعهما في العمارة

٢٧١

المتجددة في زماننا بعد الحريق ؛ والمربعة الثانية ـ أعني الخامسة من المنبر ـ هي التي يترجح عندي أيضا ؛ لأن تجاهها في حائط القبلة طراز آخذ من السقف نازل إلى العصابة السفلى الظاهرية ، لكنه انقشر بعضه عند إصلاح العصابة العليا وتبييض الجدار في العمارة التي أدركناها أولا ، وذهب منه ما كان بين العصابتين ، وبعض ما فوق العليا ، وبقي منه ما بين العصابة العليا والسقف ، ثم ذهب بقيته في الحريق الحادث في زماننا ، وبقي موضعه أصباغ ملونة في الجدار من صناعة الأقدمين ، وقد ذهب ذلك عند هدم الجدار القبلي ؛ فالظاهر أنه علامة نهاية المسجد النبوي من هذه الجهة ، خلاف ما سيأتي عن المطري في جعله علامة لنهاية زيادة عثمان رضي‌الله‌عنه ؛ لوجوه : الأول : أني ذرعت من الأسطوان التي المنبر إلى الأسطوان المحاذية لهذا الطراز ؛ فكان ذلك سبعا وثلاثين ذراعا ، فإذا أضفنا ذلك إلى الذرع المتقدم فيما بين الأسطوان التي تلي المنبر وبين الحجرة الشريفة ، وهو نحو الستين ذراعا كما تقدم ، قارب ذلك المائة التي تقدمت الرواية بها.

الثاني : أنه يبعد أن يجعل هذا الطراز لزيادة عثمان رضي‌الله‌عنه كما زعمه المطري ، ويترك التعليم للمسجد الأصلي والاعتناء به أشد. وقد قال ابن زبالة : إن له علامات في الفسيفساء ، والظاهر أن الفسيفساء لما زالت جعل هذا بدلها.

الثالث : أنه سيأت أن عمر لما زاد في المسجد جعل عرضه مائة وعشرين ذراعا ، وأنه لم يزد فيه من جهة المشرق شيئا ؛ فيكون نهاية المسجد في زمنه من جهة المشرق الحجرة الشريفة ، وقد علمت أن من الحجرة الشريفة إلى ما يحاذي الطراز المذكور ينقص عن المائة ، فكيف يكون نهاية زيادة عثمان؟ وعثمان قد زاد أسطوانا من جهة المغرب على زيادة عمر ، فلو كان ذلك الطراز نهاية زيادة عثمان لزم أن يكون عرض المسجد في زمن عمر نحو التسعين ، ولا قائل به.

الرابع : أنه سيأتي أن عثمان رضي‌الله‌عنه لم يزد في جهة المغرب غير أسطوانة واحدة ، وأن زيادة الوليد من المغرب أسطوانتان ، ولا شك أن من الأسطوانة التي تحاذي الطراز المذكور إلى جدار المسجد الغربي خمس أساطين ، فإذا سقط منها ثلاث أساطين لعثمان رضي‌الله‌عنه وللوليد بقي أسطوانتان لزيادة عمر رضي‌الله‌عنه ، وهما يقربان من عشرين ذراعا التي زادها عمر رضي‌الله‌عنه على المائة كما سيأتي.

الخامس : أن موضع المنبر لم يغير كما سيأتي ، ويبعد كل البعد أن يجعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم موضع منبره في طرف مسجده ولا يتوسط أصحابه في حال قيامه.

السادس : أنه سيأتي أن عمر رضي‌الله‌عنه زاد في المسجد شيئا من دار العباس وأن

٢٧٢

ما بقي منها زاد عثمان رضي‌الله‌عنه بعضه ، وما بقي دخل في دار مروان بن الحكم.

وروى يحيى في قصة زيادتها ما يصرح بأنها كانت ملاصقة بجدار المسجد النبوي ، بل روي أنه كان لها ميزاب يصب فيه ، وقد نقل يحيى أنها كانت فيما بين الأسطوان المربعة التي تلي دار مروان بن الحكم ، أي والباب الذي يلي دار مروان بن الحكم ؛ لما تقدم من دخول بعضها في دار مروان ؛ فوجب أن تكون المربعة المذكورة أول دار العباس وآخر المسجد النبوي.

السابع : ما قدمناه من أن المربعة الغربية إذا أطلقت ، فالمراد بها الأسطوانة التي كانت ركن صحن المسجد في المغرب عند نهاية المسقف القبلي قبل زيادة الرواقين الآتيين فيه ، وهي المثمنة اليوم ؛ فهي المرادة بما تقدم عن الجمهور من أن المسجد النبوي كان إلى الفرضتين اللتين في الأسطوانتين اللتين دون المربعتين الغربية والتي في القبر كما نقله ابن زبالة ، ولا شك أن الأسطوانة الخامسة من المنبر في جهة المغرب دون المربعة المذكورة ؛ لأن المربعة المذكورة هي السادسة من المنبر ، فوضح أنها المراد بذلك ، فيكون الجمهور على رواية أن المسجد كان مائة في مائة ، ومما يرجح هذه الرواية أيضا ما تقدم عن المحاسبي من تحديد مؤخر المسجد الأول نقلا عن مالك بعضادة الباب الثاني من باب جبريل ـ وهو باب النساء ـ وما سيأتي من أن باب الرحمة ـ ويعرف بباب عاتكة ـ لم يغيره عمر رضي‌الله‌عنه ، يعني أنه نقله فأخره فقط وجعله في تجاه الباب الأول ، لأنه زاد في المسجد من جهة المغرب ، وبين باب الرحمة وبين الحجرين اللذين ذكر أنهما حد المسجد من جهة الشام تفاوت ظاهر ؛ لتأخره عن موازاتهما كثيرا ، وكأنهما إنما جعلا هناك تميزا لفوهتي بالوعة عندهما الحجران المذكوران هناك ؛ فالذي يترجح في النقد رواية المائة وما ذكرناه من التحديد ، ويحتمل أن ابن النجار لما رأى اختلاف الروايات أراد الأخذ بالأقل لأنه المحقق فذكر التحديد المتقدم ، وتبعه من بعده ، على أنه اعتذر في أول كتابه بغيبة كتبه ، وأن الحفظ قد يزيد وينقص ، ولما اتضح ذلك للمقر الشجاعي شاهين الجمالي ناظر الحرم الشريف النبوي وشاد عمائره وشيخ خدامه اتخذ لأعالي الأسطوانة الخامسة من المنبر من صف الأساطين التي في قبلة المنبر طرازا متصلا بالسقف منقوشا فيه أن ذلك هو الذي استقر عليه الأمر في نهاية المسجد النبوي وحده ، فالله تعالى يوفقه للمداومة على حفظ الحدود ، ويلحقه بالمقر بين الشهود.

ويتفرع على ذلك مسألة ذكرها النووي فقال في شرح مسلم والمناسك وغيرهما : إن الصلاة إنما تتضاعف في المسجد الذي كان في زمنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم دون بقية الزيادات ، ولم يحك غيره ، لكن الخطيب بن حملة نقل عن المحب الطبري أن المسجد المشار إليه في حديث

٢٧٣

المضاعفة هو ما كان في زمنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع ما زيد فيه ، لأخبار وآثار وردت في ذلك ، واستحسنه ابن حملة على ما ذهب إليه النووي في كتبه من التخصيص ، مع أن البرهان ابن فرحون نقل في شرحه لابن الحاجب الفرعي أنه لم يخالف في هذه المسألة غير النووي ، وأن الشيخ محب الدين الطبري نقل في كتابه الإحكام أن النووي رجع عن ذلك ، قال : ونقل أبو عبد الله بن فرحون في شرح مختصر الموطأ أنه وقف على كتاب من كتب المالكية فيه أن مالكا سئل عن ذلك فقال : ما أراه عليه‌السلام أشار بقوله : «في مسجدي هذا» إلا لما سيكون من مسجده بعده ، وأن الله أطلعه على ذلك ، انتهى.

قلت : أما قوله «إنه لم يخالف في ذلك إلا النووي» فممنوع ؛ فقد نقل ذلك ابن الجوزي في الوفاء عن ابن عقيل الحنبلي ، وأما ما نقله عن الإحكام للطبري فقد راجعتها فرأيته ترجم لبيان أن مسجده صلى‌الله‌عليه‌وسلم المشار إليه بالتفضيل هو الموجود في زمنه مع ما زيد فيه ، وأورد بعض الأخبار الآتي ذكرها في آخر الفصل الثاني عشر ، ثم قال : وقد يتوهم بعض من لم يبلغه ذلك قصر الفضيلة على الموجود في زمنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمكان الإشارة ، وقد وقع ذلك لبعض أئمة العصر ، فلما رويت له ما سبق جنح إليه وتلقاه بالقبول ، انتهى.

فكأن ابن فرحون فهم أن المراد من قولهم «بعض أئمة العصر» النووي.

وأما ما حكاه عن مالك فقد نقله الأقشهري في روضته عن عبد الله بن نافع صاحب مالك عن مالك ، ولفظه في أثناء كلام : قيل له ـ أي لمالك ـ فحد المسجد الذي جاء فيه الخبر هو على ما كان في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو على ما هو الآن؟ قال : بل هو على ما هو الآن ، قال : لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبر بما يكون بعده ، وزويت له الأرض فأري مشارقها ومغاربها ، وتحدث بما يكون بعده ، فحفظ ذلك من حفظه في ذلك الوقت ، ونسي ذلك من نسيه ، ولو لا هذا ما استجاز الخلفاء الراشدون المهديون أن يزيدوا فيه بحضرة الصحابة ولم ينكر عليهم ذلك منكر ، انتهى.

قلت : ومتمسك من ذهب إلى التخصيص الإشارة في قوله «مسجدي هذا» ولعله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما جاء بها ليدفع توهم دخول سائر المساجد المنسوبة إليه بالمدينة غير هذا المسجد ، لا لإخراج ما سيزاد فيه ، وقد سلّم النووي أن المضاعفة في المسجد الحرام تعم ما زيد فيه ، فليكن مسجد المدينة كذلك ، كما أشار إليه ابن تيمية ، قال : وهو الذي يدل عليه كلام الأئمة المتقدمين وعملهم ، وكان الأمر عليه في عهد عمر وعثمان رضي‌الله‌عنهما ، فإن كلّا منهما زاد في قبلة المسجد ، وكان مقامه في الصلوات الخمس في الزيادة وكذلك مقام الصف الأول الذي هو أفضل ما يقام فيه ، ويمتنع أن تكون الصلاة في غير مسجده أفضل منها في مسجده ، وأن يكون الخلفاء والصفوف الأول كانوا يصلون في غير مسجده ، قال :

٢٧٤

وما بلغني عن أحد من السلف خلاف هذا ، إلا أن بعض المتأخرين ذكر أن الزيادة ليست من مسجده ، وما علمت له سلفا في ذلك.

وسيأتي في زيادة عمر بن الخطاب ما ورد من الأخبار والآثار المقوية لذلك وليست مسألة الحلف على أن لا يدخل هذا المسجد فزيد فيه من هذا القبيل ، لأن الأيمان مبناها على العرف.

الفصل الثالث

في مقامه الذي كان يقوم به صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصلاة قبل تحويل القبلة ،

وبعد ما جاء في تحويلها

روينا في البخاري عن البراء بن عازب رضي‌الله‌عنه قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب أن يوجه إلى الكعبة ، فأنزل الله تعالى : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) [البقرة : ١٤٤] فتوجه نحو الكعبة وقال السفهاء من الناس وهم اليهود : (ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [البقرة : ١٤٢] فصلى مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجل ، ثم خرج بعد ما صلى ، فمر على قوم من الأنصار في صلاة العصر نحو بيت المقدس فقال : هو يشهد أنه صلّى مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه توجه نحو الكعبة ، فتحرف القوم حتى توجهوا نحو الكعبة.

وأسند يحيى عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا وقف يصلي انتظر أمر الله في القبلة ، وكان يفعل أشياء مما لم يؤمر بها ولم ينه عنها من فعل أهل الكتاب ، قال : فبينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلّي ، فأشار له جبريل : يا محمد صلّ إلى البيت ، وصلّى جبريل عليه‌السلام إلى البيت ، قال : فدار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى البيت ، قال : فأنزل الله تعالى : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها) إلى (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) [البقرة : ١٤٤] قال : فقال المنافقون : حن محمد إلى أرضه وقومه ، وقال المشركون : أراد محمد أن يجعلنا له قبلة ، وأن يجعلنا له وسيلة ، وعرف أن ديننا أهدى من دينه ، وقالت اليهود للمؤمنين : ما صرفكم إلى مكة وتركتم قبلة موسى ويعقوب والأنبياء؟ والله ما أنتم إلا تعبثون ، وقال المؤمنون : لقد ذهب منا قوم ماتوا ما ندري أكنّا نحن وهم على قبلة أم لا؟ فأنزل الله تعالى في ذلك : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ) إلى قوله : (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) [البقرة : ١٤٢ ـ ١٤٣].

وروى ابن زبالة عن عثمان بن عبد الرحمن قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا وقف يصلي انتظر أمر الله في القبلة ، وكان يفعل أشياء مما لم يؤمر بها ولم ينه عنها من فعل أهل

٢٧٥

الكتاب ، فبينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي الظهر في مسجده قد صلّى ركعتين إذ نزل عليه جبريل فأشار إليه أن صلّ إلى البيت ، وصلّى جبريل إلى البيت ، وذكر نحو ما تقدم.

وأسند يحيى عن رافع بن خديج قال : صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ركعتين من الظهر في مسجده بالمسلمين ، وأمر أن يوجّه إلى المسجد الحرام ، فاستدار ، قال رافع : فأتانا آت ونحن نصلي في بني عبد الأشهل فقال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أمر أن يوجه إلى الكعبة ، قال : فأدارنا إمامنا إلى الكعبة ودرنا معه.

وعن ابن عمر قال : بينما نحن في صلاة الصبح بقباء جاءهم رجل فقال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن ، وقد أمر أن يستقبل الكعبة ، ألا فاستقبلوها ، وكانت قبلة الناس إلى الشام ، فاستداروا وتوجّهوا إلى الكعبة ، وهو في الصحيحين بلفظ : كانت وجوههم إلى الشام ، فاستداروا إلى الكعبة ، وفي لفظ : كانوا ركوعا في صلاة الصبح.

وعن عثمان بن محمد بن الأخنس أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى بأصحابه فيه ـ يعني في مسجد القبلتين ـ الظهر ، فلما صلّى ركعتين أمر أن يوجه إلى الكعبة ، فاستدار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الكعبة ، واستقبل الميزاب.

وعنه أيضا نحوه ، وأن الفريضة كانت الظهر ، وأنها يومئذ كانت أربع ركعات.

وعن سعيد بن المسيب قال : صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بيت المقدس سبعة عشر شهرا ، وصرفت القبلة قبل بدر بشهرين ، والثبت عندنا أنها صرفت في الظهر في مسجد القبلتين.

وفي رواية أخرى عنه : صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أن قدم المدينة نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا ، ثم حولت القبلة قبل بدر بشهرين.

وعن كثير بن عبد الله المزني عن أبيه عن جده قال : صرفت القبلة يوم الإثنين النصف من رجب على رأس سبعة عشر شهرا.

وفي مسلم عن البراء بن عازب : صلّيت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا حتى نزلت الآية التي في البقرة : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) [البقرة : ١٤٤] فنزلت بعد ما صلّى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فانطلق رجل من القوم فمر بناس من الأنصار وهم يصلون ، فحدثهم بالحديث ، فولّوا وجوههم قبل البيت.

تاريخ تحويل القبلة

وفي رواية له عنه أيضا : ستة عشر شهرا ، أو سبعة عشر شهرا ، على الشك.

وعند الزمخشري : صرفت القبلة ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مسجد بني سلمة ـ يعني مسجد

٢٧٦

القبلتين ـ وقد صلى بأصحابه ركعتين من صلاة الظهر ، فتحول في الصلاة ، واستقبل الميزاب ، وحول الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال.

وروى ابن أبي حاتم في تفسيره من طريق تويلة بنت أسلم قالت : صليت الظهر والعصر في مسجد بني حارثة ، فاستقبلت مسجد إيلياء ، فصلينا سجدتين : أي ركعتين ، ثم جاءنا من يخبرنا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد استقبل البيت الحرام ، فتحول النساء مكان الرجال ، والرجال مكان النساء ، فصلينا السجدتين الباقيتين إلى البيت الحرام.

قال الحافظ ابن حجر : وهذه القصة المرادة بقوله في الحديث المتقدم «فمر على قوم من الأنصار يصلون في صلاة العصر نحو بيت المقدس» فهؤلاء القوم هم بنو حارثة ، والمار عباد بن بشر ، ووصل الخبر وقت الصبح إلى أهل قباء ، فلا منافاة بين الحديثين.

وسيأتي في مسجد القبلتين أن ابن زبالة نقل أن القبلة صرفت ونفر من بني سلمة يصلون الظهر في مسجد القبلتين ، فأتاهم آت فأخبرهم وقد صلوا ركعتين فاستداروا حتى جعلوا وجوههم إلى الكعبة ، فبذلك سمي مسجد القبلتين.

قال المجد : فعلى هذا كان مسجد قباء أولى بهذه التسمية.

مدة الصلاة إلى بيت المقدس

وعند أبي القاسم القشيري في لطائف التفسير : صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بيت المقدس بعد قدومه المدينة مهاجرا ستة عشر شهرا عن قتادة ، وقيل : سبعة عشر شهرا عن ابن عباس ، وقال أنس : كان تسعة أشهر أو عشرة أشهر ، وقال معاذ بن جبل : ثلاثة عشر شهرا استمالة لقلوب اليهود أن يصلي إلى قبلتهم ربما يرغبون في دينه ، ثم إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كره موافقتهم في أمر القبلة لما قالوا : لو لا أن ديننا حق لما صلّى إلى قبلتنا ، ولما استن بسنتنا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لجبريل : وددت أن ربي صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها ، فقال جبريل : إنما أنا ملك عبد ، لا أملك شيئا ، فسل ربك ، فصعد جبريل السماء ، وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الصحراء نحو أحد يصلي هاهنا ركعتين وهاهنا ركعتين ، ويدعو الله أن يجيز له في ذلك ، فلم يزل كذلك يديم النظر إلى السماء ، حتى دخل ناحية أحد ، فأنزل الله تعالى في رجب بعد زوال الشمس قبل الظهر : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) [البقرة : ١٤٤] الآية ، وصرفت القبلة ، وذلك قبل بدر بشهرين ، وفي السير لابن حبان : حولت بعد سبعة عشر شهرا وثلاثة أيام ، وحديث البراء المتقدم رواه ابن خزيمة في صحيحه «ستة عشر شهرا» على الجزم كرواية مسلم الأولى ، وقال الشيخ شرف الدين الدمياطي : حوّلت القبلة نصف رجب بعد خمسة عشر شهرا ونصف ، ونقل النووي في سير الروضة عن محمد بن حبيب الهاشمي أن التحويل يوم الثلاثاء النصف من شعبان من السنة الثانية. ونقل المجد عن ابن

٢٧٧

حبيب أنها حوّلت في النصف من شعبان في الركعة الثالثة ، وقيل : في صلاة العصر. وعند النحاس بعد بضعة عشر شهرا. وعن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك : صرفت في جمادى ، قال : وهو أولى الأقوال بالصواب. وقال ابن جرير عن معاذ : بعد ثلاثة عشر شهرا من مقدمه المدينة ، قال : وعن أنس عشرة أو تسعة أشهر ، انتهى ما نقله المجد.

وقال ابن سعد : يقال : إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى ركعتين من الظهر في مسجده بالمسلمين ، ثم أمر أن يتوجه إلى المسجد الحرام ، فاستدار ودار معه المسلمون ، ويقال : زار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمّ بشر بن البراء بن معرور في بني سلمة وصنعت له طعاما ، وحانت الظهر فصلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأصحابه ركعتين ، ثم أمر فاستدار إلى الكعبة واستقبل الميزاب ، فسمي مسجد القبلتين. قال ابن سعد : قال الواقدي : هذا أثبت عندنا.

أول صلاة إلى الكعبة

وفي الصحيح أن أول صلاة صلاها ـ أي متوجها إلى الكعبة ـ صلاة العصر.

قال الحافظ ابن حجر : التحقيق أن أول صلاة صلاها في بني الظهر ، وأول صلاة صلاها بالمسجد النبوي العصر. قال : وأسانيد الروايات المتقدمة ـ أعني رواية ثلاثة عشر شهرا وتسعة عشر شهرا ونحوها ـ شاذة. قال : وأما رواية الصحيح فطريق الجمع بين رواية سبعة عشر شهرا وستة عشر ، ورواية الشك في ذلك : أن من جزم بستة عشر لفق من شهر القدوم وشهر التحويل شهرا ، وألغى الأيام الزائدة ، ومن جزم بسبعة عشر شهرا عدهما معا ، ومن شك تردد في ذلك ، وذلك أن القدوم كان في شهر ربيع الأول بلا خلاف ، وكان التحويل في نصف شهر رجب من السنة الثانية على الصحيح ، وبه جزم الجمهور ، ورواه الحاكم بسند صحيح عن ابن عباس ، وقول ابن حبان : «سبعة عشر شهرا وثلاثة أيام» مبني على أن القدوم كان في ثاني عشر ربيع الأول.

وقال الربيع : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ابتداء الهجرة مخيرا في التوجه إلى بيت المقدس أو الكعبة ، إلا أنه أمره الله بالتوجه إلى بيت المقدس ، فكان التوجه إليه فرضا ، وإن كان مخيرا فيه كالمخير في كفارة اليمين أي واحد اختار فهو فرض عليه ، وقال ابن عباس : بل كان الفرض التوجه إلى بيت المقدس ثم نسخ.

وقال ابن العربي وغيره : نسخت القبلة مرتين.

إلى أيّ جهة كانت الصلاة بمكة قبل الهجرة؟

وقال ابن رشد في البيان : ولم يختلف في أن صلاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت بالمدينة إلى بيت المقدس حتى حولت القبلة ، وإنما اختلف في صلاته بمكة قبل قدومه المدينة ، فروى أنها كانت إلى الكعبة ، وروى أنها كانت إلى بيت المقدس ، وروى أنه كان يصلي إلى بيت

٢٧٨

المقدس والكعبة بين يديه ـ أي بين الركنين اليمانيين ـ وحكى ابن عبد البر الاختلاف في صلاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة : هل كانت إلى الكعبة ، أو بيت المقدس؟ ثم قال : وأحسن من ذلك قول من قال : كان يصلي بمكة مستقبل القبلتين يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس.

وروى الطبري وغيره عن ابن عباس قال : لما هاجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة واليهود أكثر أهلها يستقبلون بيت المقدس أمره الله تعالى أن يستقبل بيت المقدس ، ففرحت اليهود ، فاستقبلها سبعة عشر شهرا ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب أن يستقبل قبلة إبراهيم ، فكان يدعو وينظر إلى السماء فنزلت ، وهو ظاهر في أن استقبال بيت المقدس كان بوحي ، لا باجتهاد من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه إنما وقع بعد الهجرة ، لكن أخرج أحمد عن ابن عباس : «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي بمكة نحو بيت المقدس والكعبة بين يديه» فيجمع بأنه لما هاجر أمر بأن يستمر على الصلاة لبيت المقدس.

وروى الطبري أيضا من طريق ابن جريح قال : صلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أول ما صلّى إلى الكعبة ، ثم صرف إلى بيت المقدس وهو بمكة ، وصلّى ثلاث حجج ، وهاجر فصلى إليه بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا ، ثم وجّهه الله إلى الكعبة.

كيف حرّرت قبلة مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟

وقال ابن النجار : وصلّى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه ـ أي : في مسجده ـ إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا ، ثم أمر بالتحول إلى الكعبة ، فأقام رهطا على زوايا المسجد ليعدل القبلة ، فأتاه جبريل عليه‌السلام فقال : يا رسول الله ضع القبلة وأنت تنظر إلى الكعبة ، ثم قال بيده هكذا ، فأماط كل جبل بينه وبينها ، فوضع القبلة وهو ينظر إلى الكعبة لا يحول دون نظره شيء ، فلما فرغ قال جبريل عليه‌السلام هكذا ، فأعاد الجبال والشجر والأشياء على حالها ، وصارت قبلته إلى الميزاب.

وأسند يحيى من طريق ابن زبالة وغيره عن الخليل بن عبد الله الأزدي عن رجل من الأنصار أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقام رهطا على زوايا المسجد ليعدل القبلة ، فأتاه جبريل عليه‌السلام فقال : يا رسول الله ، ضع القبلة وأنت تنظر إلى الكعبة ، ثم قال بيده هكذا ، فأماط كل جبل بينه وبين القبلة ، فوضع تربيع المسجد وهو ينظر إلى الكعبة لا يحول دون نظره شيء ، فلما فرغ قال جبريل عليه‌السلام بيده هكذا ، فأعاد الجبال والشجر والأشياء على حالها ، وصارت قبلته إلى الميزاب.

وعن نافع بن جبير من طرق مرفوعا : ما وضعت قبلة مسجدي هذا حتى رفعت إليّ الكعبة فوضعتها أؤمها.

وعن ابن عجلان قال : وضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبلة مسجده وجبريل قائم ينظر إلى الكعبة ، ثم كشف له ما بينه وبينها.

٢٧٩

وعن ابن شهاب مرفوعا : ما وضعت قبلة مسجدي هذا حتى فرج لي ما بيني وبين الكعبة فوضعتها أؤمها.

وأسند العراقي في ذيله من طريق أبي علي بن شاذان بسنده عن إبراهيم بن دينار عن مالك بن أنس عن زيد بن أنس عن زيد بن أسلم قال : قال ابن عمر : وضع جبريل عليه‌السلام القبلة لرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة ، تفرد به عن مالك ومحمد بن إبراهيم ـ قلت : وهو ثقة.

وفي العتبية : قال مالك : سمعت أن جبريل عليه‌السلام هو الذي أقام لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبلة المسجد مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسجد المدينة ، انتهى.

وأسند ابن زبالة عن أبي هريرة قال : كانت قبلة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الشام ، وكان مصلاه الذي يصلي فيه بالناس إلى الشام في مسجده أن تضع موضع الأسطوان المخلّق اليوم خلف ظهرك ثم تمشي إلى الشام ، حتى إذا كنت بيمنى باب آل عثمان كانت قبلته ذلك الموضع.

قال الذهبي : هذه القبلة كانت في شمالي المسجد ، فلما حولت القبلة بقي حائط القبلة الأولى مكان أهل الصفة ، انتهى. والأسطوانة المخلقة هي التي تدعى أسطوان عائشة رضي‌الله‌عنها فيما قاله المطري ، وسيأتي ما نقله ابن زبالة فيها من أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى إليها المكتوبة بضعة عشر يوما بعد أن حولت القبلة ، ثم تقدم إلى مصلّاه الذي وجاه المحراب في الصف الأوسط ، هذا لفظه بحروفه.

وقوله : «وجاه المحراب» يريد المحراب العثماني الكائن في جدار القبلة.

وقال المطري : إن الحائط القبلي ـ أي الأول ـ كان محاذيا لمصلى النبي (؛ لما ورد أن الواقف في مصلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تكون رمانة المنبر الشريف حذو منكبه الأيمن ، قال : فمقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يغير باتفاق ، وكذلك المنبر لم يؤخر عن منصبه الأول : أي من جهة القبلة ؛ لما سيأتي أنه زيد فيه من جهة الشام ، قال : وإنما جعل هذا الصندوق الذي قبالة مصلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سترة بين المقام وبين الأسطوانات ، انتهى.

وسيأتي في ذكر الجذع الذي كان يخطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليه اختلاف في محله : هل هو عن يمين المصلى الشريف أو عن يساره لجهة القبر الشريف؟

وسيأتي ما عبر به ابن النجار في حكاية الرواية الأولى حيث قال : كان في موضع الأسطوانة المخلّقة التي عن يمين محراب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند الصندوق والرواية الثانية هي المرادة بما أسنده يحيى عن ابن أبي الزناد وغيره من علماء المدينة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يخطب إلى جذع في المسجد كان موضعه عند الأسطوانة المخلقة التي تلي القبر : أي في جهة القبر التي عن يسار الأسطوانة المخلقة التي كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي عندها التي هي عند الصندوق ، هذا لفظه ، والغرض من إيراده هنا قوله : «التي عن يسار الأسطوانة المخلقة ..

٢٨٠