وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى - ج ١

نور الدين علي بن أحمد السّمهودي

وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى - ج ١

المؤلف:

نور الدين علي بن أحمد السّمهودي


المحقق: خالد عبد الغني محفوظ
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3818-9
الصفحات: ٢٩٤

الفرات الرازي عن ثابت بن قيس «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عاده وهو مريض فقال : أذهب الباس ربّ الناس (١) ، عن ثابت بن قيس بن شماس ، ثم أخذ كفا من بطحاء ، فجعله في قدح من ماء ، ثم أمر فصب عليه» وفي الصحيحين حديث «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا اشتكى الإنسان أو كانت به قرحة أو جرح قال بإصبعه هكذا ، ووضع سفيان سبابته بالأرض ثم رفعها ، وقال : بسم الله ، تربة أرضنا ، بريق بعضنا ، يشفي سقيمنا ، بإذن ربنا» ورواه أبو داود بنحوه ، وفي رواية «يقول بريقه ، ثم قال به في التراب : تربة أرضنا» وروى ابن زبالة «أن رجلا أتى به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبرجله قرحة ، فرفع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طرف الحصير ، ثم وضع أصبعه التي تلي الإبهام على التراب بعد ما مسها بريقه ، وقال : بسم الله ، ريق بعضنا ، بتربة أرضنا ، ليشفي سقيمنا ، بإذن ربنا ، ثم وضع أصبعه على القرحة ، فكأنما حل من عقال» وروى أيضا حديث «تراب أرضنا ، شفاء لقرحنا ، بإذن ربنا» وأن أم سلمة كانت تنعت من القرحة تراب الضبة.

ما جاء في أن تمرها شفاء

وفي مسلم حديث «من أكل سبع تمرات مما بين لابتيها حين يصبح لم يضره شيء حتى يمسي» وفي الصحيحين حديث «من تصبّح بسبع تمرات عجوة لم يضره في ذلك اليوم سم ولا سحر» ورواه أحمد برجال الصحيح بلفظ «من أكل سبع تمرات عجوة مما بين لابتي المدينة على الريق لم يضره يومه ذلك شيء حتى يمسي» قال فليح : وأظنه قال «وإن أكلها حين يمسي لم يضره شيء حتى يصبح» ورواه ابن زبالة بلفظ «من تصبح بسبع تمرات من العجوة» لا أعلمه إلا قال «من العالية لم يضره يومئذ سم ولا سحر» وفي صحيح مسلم حديث «إن في عجوة العالية شفاء ، أو إنها ترياق أول البكرة» وروى أحمد برجال الصحيح حديثا فيه «واعلموا أن الكمأة دواء العين ، وأن العجوة من فاكهة الجنة» وروى النسائي وأبو داود الطيالسي والطبراني في الثلاثة بسند جيد حديث «الكمأة من المن ، وماؤها شفاء للعين ، والعجوة من الجنة ، وهي شفاء من السم» وقد صح في سنن أبي داود عن سعد بن أبي وقاص قال «مرضت مرضا ، فأتاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعودني ، فوضع يده بين ثديي حتى وجدت بردها على فؤادي ، فقال : إنك رجل مفئود ، ائت الحارث بن كلدة أخا ثقيف فإنه رجل يتطبب ، فليأخذ سبع تمرات من عجوة المدينة ، فليجأهن (٢) ثم ليلدّك بهن» ورواه الطبراني لكن عن سعد بن أبي رافع.

قوله «فليجأهن» أي فليدقهن ، قال عياض : وقال ابن الأثير فليجأهن أي : فليدقهن ،

__________________

(١) الباس : الشدة ، و ـ العذاب الشديد. و ـ يضرب لكل شيء يخاف منه الشر.

(٢) وجأ التمر : دقّه حتى تلزّج.

٦١

وبه سميت الوجيئة ، وهو تمر يبل بلبن ثم يدق حتى يلتئم (١) ، ومنه الحديث «أنه دعا سعدا فوصف له الوجيئة» وقوله «ثم ليلدّك» أي : يسقيك ، يقال : لدّه باللّدود ، إذا سقاه الدواء في أحد جانبي الفم.

وفي كامل ابن عدي حديث «ينفع من الدؤام أن يأخذ سبع تمرات من عجوة المدينة كل يوم يفعل ذلك سبعة أيام» وفي غريب الحديث للخطابي عن عائشة رضي‌الله‌عنهما «أنها كانت تأمر للدؤام والدوار بسبع تمرات عجوة في سبع غدوات على الريق» والدؤام والدوار : ما يأخذ الإنسان في رأسه فيدومه ، ومنه تدويم الطائر ، وهو : أن يستدير في طيرانه ، قال الخطابي : كون العجوة عوذة من السم والسحر إنما هو من طريق التبرك بدعوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا لأن طبعها يفعل شيئا ، وقال النووي : في تخصيصها دون غيرها وعدد السبع من الأمور التي علمها الشارع ، ولا نعلم نحن حكمتها ؛ فيجب الإيمان بها ، واعتقاد فضلها ، وما ذكره المازري والقاضي في هذا باطل ، وقصدت بذلك التحذير من الاغترار به ، انتهى. وأشار به لقول القاضي في أثناء تعليل ذلك : إنه لتأثير في الأرض أو الهواء ، ولقول المازري : لعل ذلك كان لأهل زمنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة ، أو لأكثرهم ؛ إذ لم يثبت استمرار وقوع الشفاء في زمننا غالبا ، وإن وجد ذلك في الأكثر حمل على أنه أراد وصف غالب الحال ، انتهى.

وقد جعله ابن التين احتمالا ، وزاد عليه آخر أعجب منه ، فقال : يحتمل أن يكون المراد نخلا خاصّا من المدينة لا يعرف الآن ، ويحتمل : أن يكون ذلك خاصّا بزمانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم انتهى.

وهو مردود ؛ لأن سوق الأحاديث وإيراد العلماء لها وإطباق الناس على التبرك بعجوة المدينة وتمرها يرد التخصيص بزمنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أن الأصل عدمه ، ولم تزل العجوة معروفة بالمدينة يأثرها الخلف عن السلف ، يعلمها كبيرهم وصغيرهم علما لا يقبل التشكيك.

وقال الداودي : هي من أوسط التمر كما هو المشاهد اليوم. وقال غيره : هي من أجود تمر المدينة ، ومراده أنها ليست من رديه. وقال ابن الأثير : العجوة ضرب من التمر أكبر من الصّيحاني يضرب إلى السواد ، وهو مما غرسه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده بالمدينة.

وذكر هذا الأخير البزار أيضا ، فلعل الأوداء (٢) التي كاتب سلمان الفارسي أهله عليها وغرسها صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده الشريفة بالفقير أو غيره من العالية كانت عجوة ، والعجوة (٣) توجد بالفقير

__________________

(١) الوجيئة : تمر يدق حتى يخرج نواه ، ثم يبل بلبن أو سمن حتى يلزم بعضه بعضا ، ثم يؤكل.

(٢) الأوداء : صغار الفسيل.

(٣) العجوة : ضرب من أجود التمر بالمدينة.

٦٢

إلى يومنا هذا ، ويبعد أن يكون المراد أن هذا النوع إنما حدث بغرسه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأن جميع ما يوجد منه من غرسه كما لا يخفى.

وروى ابن حبان عن ابن عباس ل «كان أحب التمر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العجوة» وفي حديث ضعيف «خير تمركم البرني ، يخرج الداء ، ولا داء فيه» ورواه ابن شبة بنحوه خطابا لوفد عبد القيس في ثمارهم ، وكذا الحاكم في مستدركه ، وفي مسلم حديث «يا عائشة بيت لا تمر فيه جياع أهله» قالها مرتين أو ثلاثا ، وفيه أيضا حديث «لا يجوع أهل بيت عندهم التمر» وفي الكبير والصغير للطبراني ورجال الصغير رجال الصحيح عن ابن عباس «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أتي بالباكورة من الثمار وضعها على عينيه ثم قال : اللهم كما أطعمتنا أوله فأطعمنا آخره ، ثم يأمر به للمولود من أهله» ولفظ الكبير «كان إذا أتى بالباكورة من التمر قبّلها وجعلها على عينيه» الحديث ، وفي نوادر الحكيم الترمذي عن أنس بن مالك قال «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أتى بالباكورة من كل شيء قبّلها ووضعها على عينه اليمنى ثلاثا ، ثم على عينه اليسرى ثلاثا ، ثم يقول : اللهم» الحديث بنحوه.

وروى البزار بسند فيه ضعيف حديث «يا عائشة إذا جاء الرطب فهنئني» ورويناه في الغيلانيات ، وفيها أيضا حديث «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعجبه أن يفطر على الرطب في أيام الرطب ، وعلى التمر إذا لم يكن رطب ، ويختم بهن ، ويجعلهن وترا ثلاثا أو خمسا أو سبعا» وفيها حديث «كلوا التمر على الريق ؛ فإنه يقتل الدود».

وأنواع تمر المدينة كثيرة ، ذكرنا ما أمكن جمعه منها في الأصل فبلغ مائة وبضعا وثلاثين نوعا : منها النوع المسمى بالصّيحاني ، وقد أسند الصدر إبراهيم بن محمد بن مؤيد الحموي في كتابه فضل أهل البيت عن جابر رضي‌الله‌عنه قال «كنت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما في بعض حيطان المدينة ، ويد علي في يده ، قال : فمررنا بنخل ، فصاح النخل : هذا محمد سيد الأنبياء ، وهذا علي سيد الأولياء أبو الأئمة الطاهرين ، ثم مررنا بنخل فصاح النخل : هذا محمد رسول الله ، وهذا علي سيف الله ، فالتفت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى علي ، فقال له : يا علي سمّه الصيحاني ، فسمي من ذلك اليوم الصيحاني» وهو حديث غريب ؛ فكان هذا سبب تسمية ذلك النوع بهذا الاسم ؛ لأن تلك النخلات كانت منه ، ويحتمل أن يكون المراد تسمية ذلك الحائط بهذا الاسم ، وبالمدينة اليوم موضع بجفاف يعرف بالصيحاني.

وروى بعضهم هذا الحديث عن علي بألفاظ فيها نكارة ، وفي آخره «يا علي سمّ نخل المدينة صيحانيا لأنهن صحن بفضلي وفضلك».

٦٣

الفصل السابع

في سرد خصائصها

وهي كثيرة لا تكاد تنحصر ، وها أنا ذاكر ما حضرني منها الآن وإن شاركتها مكة في بعضه ، فأقول وبالله التوفيق :

الخاصة الأولى : ما تقدمت الإشارة إليه من كونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم خلق من طينتها ، وكذا أبو بكر وعمر رضي‌الله‌عنهما وأكثر الصحابة والسلف ممن دفن بها وروى أن الله تعالى بعث جبريل وميكائيل ليقبضا قبضة من الأرض بقدميه ، فصار بعض الأرض بين قدميه وبعض الأرض موضع أقدامه ، فخلقت النفس مما مس قدم إبليس ؛ فصارت مأوى الشر ، ومن التربة التي لم يصل إليها قدم إبليس أصل الأنبياء والأولياء.

قال في العوارف : وكانت درة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم موضع نظر الله تعالى من قبضة عزرائيل لم يمسها قدم إبليس.

وقيل : لما خاطب الله السموات والأرض بقوله : (ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) [فصلت : ١١] الآية أجاب من الأرض موضع الكعبة ومن السماء ما يحاذيها.

وعن ابن عباس : أصل طينة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من سرة الأرض بمكة ، يعني الكعبة ، وهو مشعر بأن ما أجاب من الأرض درته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن الكعبة دحيت الأرض ؛ فصار صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الأصل في التكوين.

قال في العوارف عقبه : وتربة الشخص مدفنه ، فكان مقتضى ذلك أن يكون مدفنه هناك ، لكن قيل : لما تموج الماء رمى الزبد إلى النواحي ، فوقعت جوهرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ما يحاذي تربته الشريفة بالمدينة ، فكان مكيا مدنيا.

قلت : فلمكة الفضل بالبداية ، وللمدينة بالاستقرار والنهاية.

الثانية : اشتمالها على البقعة التي انعقد الإجماع على تفضيلها على سائر البقاع ، كما تقدم تحقيقه.

الثالثة : دفن أفضل الأمة بها والكثير من الصحابة الذين هم خير القرون.

الرابعة : أنها محفوفة بأفضل الشهداء الذين بذلوا نفوسهم في ذات الله بين يدي نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فكان شهيدا عليهم.

ونقل عياض في المدارك وابن الجوزي في منسكه أن مالكا كان يقول في فضل المدينة : هي دار الهجرة والسنة ، وهي محفوفة بالشهداء ، وبها خيار الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٦٤

الخامسة : أن الله تعالى اختارها دارا وقرارا لأفضل خلقه وأكرمهم عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

السادسة : أن الله تعالى اختار أهلها للنصرة والإيواء.

السابعة : أن سائر البلاد افتتحت بالسيف ، وافتتحت هي بالقرآن ، كما هو مروي عن مالك ، ورفعه ابن زبالة من طريقه.

الثامنة : أن الله تعالى افتتح منها سائر بلاد الإسلام ، حتى مكة المشرفة ، وجعلها مظهر دينه القويم.

التاسعة : ما ذكره عياض من الاتفاق على وجوب الهجرة إليها قبل فتح مكة ، ووجوب سكناها لنصرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومواساته بالأنفس ، قال ومن هاجر قبل الفتح فالجمهور على منعه من الإقامة بمكة بعد الفتح ، ورخص له في الإقامة ثلاثة أيام بعد قضاء نسكه.

العاشرة : أنه يبعث أشراف هذه الأمة يوم القيامة منها ، على ما نقله عياض في المدارك عن مالك في ضمن أشياء في فضل المدينة ، قال وهذا لا يقوله مالك من عند نفسه.

الحادية عشرة : ما تقدم في الأسماء من تسميتها بالمؤمنة والمسلمة ، وإن ترتبتها لمؤمنة ، وأنه لا مانع من أن الله خلق ذلك فيها.

الثانية عشرة : إضافتها إلى الله تعالى في قوله (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً) [النساء ٩٧] على ما تقدم في الأسماء ، وقد جاءت الأرض غير مضافة إلى الله تعالى والمراد بها مكة ، وذلك في قوله تعالى (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ) [الأنفال ٢٦].

الثالثة عشرة : إضافة الله إياها إلى رسوله بلفظ البيت في قوله (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ) [الأنفال ٥] على ما تقدم في الأسماء.

الرابعة عشرة : إقسام الله تعالى بها في قوله (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) [البلد ١] على ما سبق في الأسماء ، أي نحلف لك بهذا البلد الذي شرفته بك ، و «لا» زائدة للتأكيد ، ويدل عليه قراءة الحسن والأعمش «لأقسم».

الخامسة عشرة : أن الله بدأ بها في قوله (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) [الإسراء ٨٠] فمدخل صدق هي ، ومخرجه مكة كما تقدم ، مع أن القياس البداءة بالمخرج لموافقة الواقع. فإن قيل التقديم للاهتمام بأمر المدخل ، قلنا في الاهتمام به كفاية.

السادسة عشرة : تسميتها في التوراة بالمرحومة ونحوه ، ومخاطبة الله إياها كما تقدم.

٦٥

السابعة عشرة دعاؤه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحبها كمكمة وأشد ، وتسميتها بالحبيبة وغيره مما تقدم ، ودعاؤه أن يجعل الله له بها قرارا ورزقا حسنا.

الثامنة عشرة : تحريكه صلى‌الله‌عليه‌وسلم دابته أو إيضاعها إذا أبصر جدرانها عند قدومها ، وأنه كان إذا أقبل من مكة فكان بالأثاية طرح رداءه عن منكبيه وقال «هذه أرواح طيبة» كما تقدم.

التاسعة عشرة : اهتمامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأمر الدعاء لها بالبركة وغير ذلك.

العشرون : تحريمها على لسان أفضل الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه إكراما له ، وكونه لا جزاء فيها على القول به دليل عظيم حرمتها حيث لم يشرع فيها جابر.

الحادية والعشرون تأسيس مسجدها الشريف على يده صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعمله فيه بنفسه ، ومعه خير الأمة المهاجرون الأولون والأنصار المقدمون.

الثانية والعشرون : اختصاصها بالمسجد الذي أنزل الله فيه (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) [التوبة ١٠٨].

الثالثة والعشرون : كون ما بين بيته ومنبره روضة من رياض الجنة ، وفي رواية «ما بين منبري وهذه الحجر» يعني حجره صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسيأتي بيان أن ذلك يعم مسجده صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما هو المشهور بين الناس في تحديد المسجد الشريف ؛ ولهذا قال بعضهم هذا المسجد هو المسجد الذي لا تعرف بقعة في الأرض من الجنة غيره.

الرابعة والعشرون : كون منبره الشريف على ترعة من ترع الجنة ، وأن قوائمه رواتب في الجنة ، وفي رواية «ومنبري على حوضي».

الخامسة والعشرون : ما ورد في مسجده الشريف من المضاعفة الآتي بيانها.

السادسة والعشرون : حديث «من صلّى في مسجدي هذا أربعين صلاة كتب له براءة من النار ، وبراءة من العذاب ، وبرئ من النفاق» رواه الطبراني في الأوسط.

السابعة والعشرون : ما سيأتي أن من خرج على طهر لا يريد إلا الصلاة فيه كان بمنزلة حجة ، وأن الخارج إليه من حين يخرج من منزله فرجل تكتب حسنة ورجل تحط خطيئة.

الثامنة والعشرون : أن إتيان مسجد قباء يعدل عمرة كما سيأتي.

التاسعة والعشرون : حديث «صيام شهر رمضان في المدينة كصيام ألف شهر فيما سواها ، وصلاة الجمعة في المدينة كألف صلاة فيما سواها» فسائر أفعال البر كذلك كما قيل به في مكة ، وبه صرح أبو سليمان داود الشاذلي في الانتصار ، ثم رأيته في الإحياء ، قال إن الأعمال في المدينة تتضاعف ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «صلاة في مسجدي هذا» الحديث ، ثم قال فكذلك كل عمل بالمدينة بألف انتهى ، وقال ابن الرفعة في المطلب وقد ذهب

٦٦

بعض العلماء إلى أن الصيام بالمدينة أفضل من الصلاة ، والصلاة بمكة أفضل من الصيام ، مراعاة لنزول فرضيتهما ، انتهى.

قلت : ويؤخذ من هذه العلة أن كل عبادة شرعت بالمدينة فهي بها أفضل منها بمكة ، ولك أن تعد هذا خاصة مستقلة.

الثلاثون : حديث «لا يسمع النداء في مسجدي هذا ثم يخرج منه إلا لحاجة ثم لا يرجع إليه إلا منافق».

الحادية والثلاثون : تأكد التعلم والتعليم بمسجدها كما سيأتي.

الثانية والثلاثون : اختصاصه بمزيد الأدب وخفض الصوت ؛ لكونه بحضرة سيد المرسلين ، واختصاصه عند بعضهم بمنع أكل الثوم ونحوه من دخوله ؛ لاختصاصه بملائكة الوحي.

الثالثة والثلاثون : أنه لا يجتهد في محرابه ؛ لأنه صواب قطعا ؛ فلا مجال للاجتهاد فيه حتى باليمنة واليسرة ، بخلاف محاريب المسلمين ، والمراد مكان مصلاه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال الرافعي وفي معناه سائر البقاع التي صلّى فيها صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا ضبط المحراب ، قلت وفي ضبطه بغيرها عسر أو تعذر.

الرابعة والثلاثون : أن ما بين منبره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومسجد المصلى روضة من رياض الجنة،وهذا جانب كبير من هذه البلدة.

الخامسة والثلاثون : حديث «أحد على ترعة من ترع الجنة» وحديث «أحد جبل يحبنا ونحبه».

السادسة والثلاثون : حديث «إن بطحان على ترعة من ترع الجنة».

السابعة والثلاثون : وصف العقيق بالوادي المبارك ، وأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحبه ، وفي رواية «يحبنا ونحبه».

الثامنة والثلاثون : حثه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الإقامة بها.

التاسعة والثلاثون : حثه على اتخاذ الأصل بها.

الأربعون : حثه على الموت بها ، والوعد على ذلك بالشفاعة أو الشهادة أو هما.

الحادية والأربعون : حرصه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على موته بها.

٦٧

الثانية والأربعون : كون أهلها أول من يشفع لهم ، واختصاصهم بمزيد الشفاعة والإكرام كما تقدم.

الثالثة والأربعون : بعث الميت بها من الآمنين على ما سيأتي.

الرابعة والأربعون : أنه يبعث من بقيعها سبعون ألفا على صورة القمر يدخلون الجنة بغير حساب ، ومثله في مقبرة بني سلمة ، وتوكل ملائكة بمقبرة البقيع كلّما امتلأت أخذوا بأطرافها فكفئوها في الجنة.

الخامسة والأربعون : بعث أهلها من قبورهم قبل سائر الناس.

السادسة والأربعون : شهادته ـ أو شفاعته ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمن صبر على لأوائها وشدتها.

السابعة والأربعون : وجوب شفاعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمن زاره بها.

الثامنة والأربعون : استجابة الدعاء بها عند القبر الشريف ، ويقال إنه مستجاب عند الأسطوان المخلق ، وعند المنبر ، وفي زاوية دار عقيل بالبقيع ، وبمسجد الفتح بعد صلاة الظهر يوم الأربعاء ، واستجابة الدعاء بمسجد الإجابة ومسجد السقيا وبالمصلى عند القدوم ، وعند بركة السوق في يوم العيد ، وعند أحجار الزيت وبالسوق ، لما سيأتي عند ذكر هذه الأماكن من ورود ذلك عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها.

التاسعة والأربعون : كونها تنفي خبثها.

الخمسون : كونها تنفي الذنوب كما تنفي النار خبث الفضة.

الحادية والخمسون : الوعيد الشديد لمن ظلم أهلها أو أخافهم.

الثانية والخمسون : من أرادها وأهلها بسوء أذابه الله كما يذوب الملح في الماء ، وفي رواية أذابه الله في النار ، ويؤخذ من ترتيب الوعيد على الإرادة مساواة المدينة لحرم مكة في هذا ، وفيه قال تعالى (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) [الحج ٢٥] الآية ، ويتمسك للمساواة أيضا بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كما حرم إبراهيم مكة» فقول ابن مسعود ما من بلدة يؤاخذ العبد فيها بالهم قبل الفعل إلا مكة وتلا الآية مشكل ، وأيضا فالهم العارض الوارد من غير عزم لا مؤاخذة به مطلقا بالاتفاق ، وأما الثابت الذي يصحبه التصميم فالعبد مؤاخذ به بمكة وبغيرها ، وإنما خصوصية الحرم تعظيم العذاب لمن همّ فيه لجرأته ؛ ولذا روى أحمد في معنى الآية بإسناد صحيح مرفوعا «لو أن رجلا همّ فيه بإلحاد وهو بعدن أبين لأذاقه الله عذابا أليما».

الثالثة والخمسون : الوعيد الشديد لمن أحدث بها حدثا أو آوى محدثا ، وتقدم تفسير الحديث بالإثم مطلقا ، وأنه دال على أن الصغيرة بها كبيرة ؛ وللوعيد الشديد في ذلك ؛

٦٨

لأنها حضرة أشرف المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسوء الأدب على بساط الملك ليس كالإساءة في أطراف المملكة.

قال بعض السلف : إياك والمعصية فإن عصيت ولا بد فليكن في مواضع الفجور ، لا في مواضع الأجور ؛ لئلا يتضاعف عليك الوزر ، أو تعجل لك العقوبة.

فإن قيل هذا قول بتضعيف السيئات في الحرم ، والراجح خلافه ؛ لقوله تعالى : (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) [الأنعام : ١٦٠].

قلنا : تحرير النزاع أن القائل بالمضاعفة أراد مضاعفة مقدارها : أي : عظمها ، لا العدد ، فإن السيئة جزاؤها سيئة ، لكن السيئات قد تتفاوت عقوبتها باختلاف الأشخاص والأماكن ، كما أن تقدير كل أحد بما يليق به في الزجر ، فجزء السيئة مثلها ، ومن المماثلة رعاية ما اقترن بها مما دل على جرأة مرتكبها ، ولا تكتب إلا واحدة ، والله أعلم.

الرابعة والخمسون : الوعيد لمن لم يكرم أهلها وأن إكرامهم وحفظهم حق على الأمة ، وأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم شفيع ـ أو شهيد ـ لمن حفظهم فيه.

الخامسة والخمسون : حديث «من أخاف أهل المدينة فقد أخاف ما بين جنبيّ».

السادسة والخمسون : حديث «من غاب عن المدينة ثلاثة أيام جاءها وقلبه مشرب جفوة» (١) وإنه «لا يخرج أحد منها رغبة عنها إلا أخلف الله تعالى فيها خيرا منه» كما في حديث مسلم ، قال المحب الطبري : فيه إشعار بذم الخروج منها ، وذهب بعضهم إلى أنه مخصوص بمدة حياته صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأما بعد وفاته فقد خرج نفر كثير من كبار الصحابة ، وذهب آخرون إلى أنه عام أبدا ، قال الطبري : وهو ظاهر اللفظ ، نعم هو مخصوص بالمستوطن ، لا من نوى الإقامة بها مدة ثم ينقلب إلى وطنه.

السابعة والخمسون : إكرام الله لها بنقل وبائها وتحويل حماها.

الثامنة والخمسون : الاستشفاء بترابها ، وما تقدم في ثمارها.

التاسعة والخمسون : عصمتها من الطاعون.

الستون : عصمتها من الدجال ، وخروج الرجل الذي هو خير الناس ـ أو من خير الناس ـ إليه منها ، وقوله له : أشهد أنك الدجال ، وأنه لا يسلّط عليه بآخرة الأمر ، وبهذا تتميز على مكة ، والسر فيه أن سيد المرسلين ـ وهو حجة الله على العباد ـ بالمدينة.

الحادية والستون : ما في حديث الطبراني من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «وحق على كل مسلم زيارتها».

الثانية والستون : سماعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سلام من سلّم وصلاة من صلّى عليه عند قبره الشريف ، ورده عليه.

__________________

(١) مشرب الرجل : ميله وهواه.

٦٩

الثالثة والستون : اختصاصها بملك الإيمان والحياء ، كما تقدم في الأسماء.

الرابعة والستون : كون الإيمان يأزر إليها.

الخامسة والستون : اشتباكها بالملائكة وحراستهم لها.

السادسة والستون : كونها أول أرض اتخذ بها مسجد لعامة المسلمين في هذه الأمة.

السابعة والستون : كون مسجدها آخر مساجد الأنبياء ، وآخر المساجد التي تشد إليها الرحال ، وكونه أحق المساجد أن يزار كما سيأتي.

الثامنة والستون : كثرة المساجد والمشاهد والآثار بها ، بل البركة عامة منبثة بها ، ولهذا قيل لمالك : أيما أحب إليك المقام هنا يعني المدينة أو بمكة؟ فقال : هاهنا ، وكيف لا أختار المدينة وما بها طريق إلا سلك عليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجبريل عليه‌السلام ينزل عليه من عند رب العالمين في أقل من ساعة؟

التاسعة والستون : ما يوجد بها من رائحة الطيب الزكية ، على ما تقدم في الأسماء.

السبعون : طيب العيش بها ، على ما تقدم هناك أيضا.

الحادية والسبعون : استحقاق من عاب تربتها للتعزير ؛ فقد أفتى مالك فيمن قال «تربة المدينة رديئة» بأن يضرب ثلاثين درة ، وأمر بحبسه ، وكان له قدر ، وقال : ما أحوجه إلى ضرب عنقه ، تربة دفن فيها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يزعم أنها غير طيبة؟

الثانية والسبعون : الوعيد الشديد لمن حلف يمينا فاجرة عند منبرها.

الثالثة والسبعون : استحباب الدخول لها من طريق والرجوع في أخرى ، لما سيأتي في مسجد المعرّس (١).

الرابعة والسبعون : استحباب الاغتسال لدخولها.

الخامسة والسبعون : استحباب الدعاء والطلب من الله الموت بها.

السادسة والسبعون : أنها دار إسلام أبدا ؛ لحديث «إن الشياطين قد يئست أن تعبد ببلدي هذا».

السابعة والسبعون : أنها آخر قرى الإسلام خرابا ، رواه الترمذي وقال : حسن غريب ، ورواه ابن حبان بلفظ «آخر قرية في الإسلام خرابا المدينة».

الثامنة والسبعون : تخصيص أهلها بأبعد المواقيت وأفضلها ؛ تعظيما لأجورهم.

التاسعة والسبعون : ذهب بعض السلف إلى تفضيل البداءة بالمدينة قبل مكة ، وهي مسألة عزيزة ، وممن نص عليها ابن أبي شيبة في مصنفه فروى عن علقمة والأسود وعمرو بن ميمون أنهم بدءوا بالمدينة قبل مكة ، وأن نفرا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا

__________________

(١) المعرّس : المكان ينزل فيه المسافر آخر الليل.

٧٠

يبدؤون بالمدينة ، وفي المناسك الكبير للإمام أحمد رواية ابنه عنه : سئل عمن يبدأ بالمدينة قبل مكة ، فذكر بإسناده عن عبد الرحمن بن يزيد وعطاء ومجاهد قالوا : إذا أردت مكة فلا تبدأ بالمدينة وابدأ بمكة ، فإذا قضيت حجك فامرر بالمدينة إن شئت ، وعن إبراهيم النخعي ومجاهد : إذا أردت مكة للحج والعمرة فاجعل كل شيء لها تبعا ، ثم روى أن نفرا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا يبدؤون بالمدينة إذا حجوا ، يقولون : نبدأ من حيث أحرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قلت : وهذا أرجح ؛ لتفضيل ميقات المدينة ، وإتيان المدينة أولا وصلة إليه ، مع ما فيه من البداءة بزيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإيثارها ، ولعله السبب عند من بدأ بالمدينة ممن تقدم ذكره من التابعين كما قال السبكي. ونقل الزركشي عن العبدي شارح الرسالة من المالكية أنه قال : المشي إلى المدينة لزيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل من الكعبة ومن بيت المقدس ، انتهى. والخلاف فيما إذا لم تكن المدينة على طريقه ؛ لأن مأخذ من رجّح البداءة بمكة المبادرة إلى قضاء الفرض ، ولهذا قال الموفق ابن قدامة : قال أحمد : وإذا حج الذي لم يحج قط ـ يعني من غير طريق الشام ـ لا يأخذ على طريق المدينة ؛ لأني أخاف أن يحدث به حدث ، فينبغي أن يقصد مكة من أقصر الطرق ولا يتشاغل بغيره ، قال السبكي : وهو في العمرة متجه ؛ لإمكان فعلها متى وصل ، وأما الحج فله وقت مخصوص فإذا كان متسعا لم يفت بمروره بالمدينة شيء. قلت : ومع ذلك فهو في الفرض ، ولهذا قال في الفصول : نقل صالح وأبو طالب : إذا حج للفرض لم يمر بالمدينة ؛ لأنه إن حدث به حدث الموت كان في سبيل الحج ، وإن كان تطوعا بدأ بالمدينة ، انتهى. وممن نص على المسألة أيضا الإمام أبو حنيفة على ما نقله أبو الليث السمرقندي ، وقال : إن الأحسن البداءة بمكة.

الثمانون : اختصاص أهلها في قيام رمضان بستّ وثلاثين ركعة ، على المشهور عند الشافعية ، قال الرافعي والنووي : قال الشافعي : رأيت أهل المدينة يقومون بتسع وثلاثين ركعة ، منها ثلاث للوتر ، قال أصحابنا : وليس لغير أهل المدينة ذلك ؛ لشرفهم بمهاجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقبره ، ثم قال الرافعي : وسبب فعل أهل المدينة ذلك أن الركعات العشرين خمس ترويحات ، وكان أهل مكة يطوفون بين كل ترويحتين أسبوعا ، ويصلون ركعتي الطواف أفرادا ، وكانوا لا يفعلون ذلك بين الفريضة والتراويح ولا بين التراويح والوتر ، فأراد أهل المدينة أن يساووهم في الفضيلة ، فجعلوا مكان كل أسبوع ـ أي : مع كل ركعتيه ـ ترويحة ؛ فحصل أربع ترويحات هي ستة عشر ركعة ، انتهى.

ونقل الروياني في البحر هذا السبب عن الشافعي. وقال القاضي أبو الطيب الطبري :

٧١

قال الشافعي : لا يجوز لغير أهل المدينة أن يماروا أهل مكة ولا ينافسوهم لأن الله فضّلهم على سائر البلاد ، انتهى. وحاصل التوجيه أن الحسد في الخير مطلوب ، وهو في الحقيقة غبطة كما حسد المهاجرون ـ لما لم يكن لهم ما يتصدقون به ـ الأنصار فقالوا : ذهب أهل الدثور بالأجور (١) ، فأثبت أهل المدينة هذا العدد بضرب من الاجتهاد ليلحقوا بأهل مكة ، وقد تشارك البلدان في الفضائل حتى اختلف في تفضيل كل منهما على الأخرى ، وجعل لأهل المدينة ما يحصل به ثواب الاعتمار والحج ، وامتازت المدينة بالمهاجر والقبر ، فجعل لأهلها طريق إلى تحصيل تلك الفضيلة السابقة مع إقامتهم بها ، ولعله لو لم يشرع لهم ذلك لحملتهم الرغبة في الخير على الانتقال إلى مكة ، وسكنى المدينة مطلوب ، وأما غيرهم فليس له شيء من هذا الفضل ، فكيف يتأتى له مساواة أهل مكة؟ فلم يشرع لهم ذلك ، هذا وإجماع أهل المدينة حجة عند مالك ، والقيام بهذا العدد بالمدينة باق إلى اليوم إلا أنهم يقومون بعشرين ركعة عقب العشاء ، ثم يأتون آخر الليل فيقومون بستة عشر ركعة ، فوقع لهم خلل في أمر الوتر نبّهنا عليه في كتاب «مصابيح القيام ، في شهر الصيام» وكنت قد ذكرت لهم ما يحصل به إزالة ذلك ، ففعلوه مدة ، ثم غلبت الحظوظ النفسية على بعضهم فعاد الأمر كما كان.

الحادية والثمانون : زيادة البركة بها ، على مكة المشرفة ، وقد قدمنا حديثا يشير إلى أن المدعو به لها ستة أضعاف ما بمكة من البركة ، والمصرح به في الأحاديث «ضعفي ما جعلت بمكة من البركة» وفي بعضها «مثل ما جعلت بمكة من البركة ومع البركة بركتين».

الثانية والثمانون : نقل عن مالك أن خبر الواحد إذا عارضه إجماع أهل المدينة قدم إجماعهم، ولهذا روي حديث خيار المجلس ثم قال : وليس لهذا عندنا حد معلوم ولا أمر معمول به ؛ لما اختص به أهل المدينة من سكناهم مهبط الوحي ومعرفتهم بالناسخ والمنسوخ ، فمخالفتهم تقتضي علمهم بما أوجب ترك العمل من ناسخ أو دليل راجح ، والمحققون على أن البقاع لا أثر لها في ذلك ، وقد بلغ ابن أبي ذئب ـ وهو من أقران مالك ـ مخالفته للحديث فأغلظ في ذلك لأن العصمة إنما تثبت في إجماع جميع الأمة ، ويؤخذ من كلام مالك اختصاص ذلك بعمل أهل ذلك العصر من أهل المدينة.

__________________

(١) أهل الدثور : أصحاب الأموال الكثيرة.

٧٢

الثالثة والثمانون : حديث النسائي والبزار والحاكم واللفظ له «يوشك الناس أن يضربوا أكباد الإبل فلا يجدوا عالما أعلم من عالم المدينة» وقال : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ، وقد كان ابن عيينة يقول : نرى هذا العالم مالك بن أنس ، انتهى. قال الزركشي : وفيما حكاه عن سفيان نظر ؛ لما في صحيح ابن حبان أن إسحاق بن موسى قال : بلغني عن ابن جريح أنه كان يقول : نرى أنه مالك بن أنس ، فذكرت ذلك لسفيان بن عيينة فقال : إنما العالم من يخشى الله ، ولا نعلم أحدا كان أخشى لله من العمري ، قال التوربشتي في شرح المصابيح : يعني عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب ، كان من عباد الله الصالحين المشائين في بلاده وعباده بالنصيحة. بلغنا أنه كان يخرج إلى البادية ليتفقد أهلها شفقة عليهم وأداء الحق النصيحة فيهم ، وقد أخرج الترمذي الحديث وحسّنه ، وتكلم ابن حزم فيه ، ثم قال : ولم يتعين هذا في مالك ؛ لأنه كان في عصره جماعة لا يفضل على واحد منهم ، وكان بالمدينة من هو أجل منه كسعيد بن المسيب ؛ فهذا الحديث أولى به. وقال ابن عيينة : ولو سئل أيّ الناس أعلم؟ لقالوا : سفيان الثوري ، قال ابن حزم : وإن صح هذا الحديث فإنما إذا قرب قيام الساعة وأرز الإيمان إلى المدينة وغلب الدجال على الأرض خلا مكة والمدينة ، وأما حتى الآن فلم يأت صفة ذلك الحديث ؛ لأن الفقه انقطع من المدينة جملة ، واستقر في الآفاق ، انتهى. ولا يخلو عن نزاع.

الرابعة والثمانون : تحريم نقل أحجار حرمها وترابه كما سيأتي بيانه.

الخامسة والثمانون : لو نذر تطييب مسجد المدينة وكذا الأقصى ففيه تردد لإمام الحرمين ؛ لأنا إن نظرنا إلى التعظيم ألحقناهما بالكعبة ، أو إلى امتياز الكعبة بالفضل فلا ، وكلام الغزالي في آخر باب النذر يقتضي اختصاصه بالمسجدين كما فرضناه ، لا في غيرهما من المساجد ، والإمام طرده في الكل ، وحيث كان الملحظ ما ذكر فينبغي أن لا يتوقف فيما لو نذر تطييب القبر الشريف.

السادسة والثمانون : إذا نذر زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لزمه الوفاء بذلك وجها واحدا ، وفي وجوب الوفاء في زيارة قبر غيره وجهان ، قاله ابن كجّ ، وأقره عليه الرافعي والنووي وغيرهما.

السابعة والثمانون : قيام مسجدها مقام المسجد الأقصى كالمسجد الحرام فيما لو نذر الصلاة أو الاعتكاف في الأقصى ؛ فإن الأصح لزومه به ، وأجزأ مسجد المدينة لزيادة فضله ، ولو نذرهما بمسجد المدينة لم يجزه فعل ذلك بالأقصى ويجزيه بالمسجد الحرام.

الثامنة والثمانون : الاكتفاء بزيارة قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمن نذر إتيان مسجد المدينة ، كما قال الشيخ أبو علي تفريعا على القول بلزوم إتيانه كما قاله الشافعي والبويطي وعلى أنه لا بد من ضم قربة إلى الإتيان كما هو الأصح تفريعا على اللزوم ، وعلله الشيخ أبو علي

٧٣

بأن زيارته صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أعظم القربات ، وتوقف في ذلك الإمام من جهة أنها لا تتعلق بالمسجد وتعظيمه ، قال : وقياسه أنه لو تصدق في المسجد أو صام يوما كفاه ، وفيه نظر ، على أن الصحيح ما نص عليه في المختصر من عدم لزوم الإتيان ، وإن كان اللزوم أرجح دليلا ، ورجح الرافعي تفريعا على اللزوم ضم صلاة أو اعتكاف ، وكذا إذا نذر إتيان الأقصى ، فإن نفس المرور لما لم يكن في نفسه مزية انصرف النذر إلى ما يقصد فيه من القرب وبهذا يترجح ما قاله الشيخ أبو علي ، لأن إتيان مسجد المدينة يقصد للصلاة والاعتكاف والزيارة بخلاف غيره.

التاسعة والثمانون : قال ابن المنذر : إذا نذر أن يمشي إلى مسجد الرسول والمسجد الحرام لزمه الوفاء به لأنه طاعة ؛ومن نذر أن يمشي إلى بيت المقدس كان بالخيار : إن شاء مشى إلى المسجد الأقصى ، وإن شاء مشى إلى المسجد الحرام ؛ لحديث أن رجلا قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في مسجد بيت المقدس ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صلّ هنا ، ثلاثا» انتهى. ويعلم مما تقرر في إجزاء مسجد المدينة عن الأقصى في الإتيان والصلاة إجزاؤه هنا كالمسجد الحرام ، والذي اقتضاه كلام البغوي تصحيح عدم لزوم المشي في مسجد المدينة والأقصى ، وهو الذي رجحوه.

التسعون : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أحاديث تحريمها «ولا يحمل فيها سلاح لقتال».

الحادية والتسعون : قوله فيها أيضا : «ولا تلتقط لقطته إلا لمن أشاد بها».

الثانية والتسعون : إذا قلنا بضمان صيدها وقطع شجرها فالصحيح أنه يسلب الصائد كما يسلب قتيل الكفار ، وهذا أبلغ في الزجر من الجزاء.

الثالثة والتسعون : جواز نقل ترابها للتداوي.

الرابعة والتسعون : ظهور نار الحجاز التي أخبر بها صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما حولها ؛لأنها للإنذار ، فاختصت ببلد النذير ، ثم لما بلغت الحرم وكان محرّمه المبعوث بالرحمة خمدت وطفئت ، على ما سيأتي.

الخامسة والتسعون : دعاؤه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالبركة في سوقها.

السادسة والتسعون : ما سيأتي في سوقها من أن الجالب إليه كالمجاهد في سبيل الله.

السابعة والتسعون : أن المحتكر فيه كالملحد في كتاب الله.

الثامنة والتسعون : ما سيأتي في بئر غرس من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «رأى أنه أصبح على بئر من آبار الجنة ، فأصبح على بئر غرس» ورؤيا الأنبياء حق ، عليهم الصلاة والسلام!

التاسعة والتسعون : ما سبق في ثمارها من أن العجوة من الجنة ؛ فقد اشتملت المدينة على شيء من أرض الجنة ومياهها وثمارها ، والله أعلم.

٧٤

الفصل الثامن

في الأحاديث الواردة في تحريمها ، وهي كثيرة

روينا في الصحيحين منها حديث عبد الله بن زيد «إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها» ، وفي لفظ «ودعا لأهلها ، وإني حرمت المدينة كما حرّم إبراهيم مكة» الحديث.

وفي البخاري حديث أبي هريرة رضي‌الله‌عنه «حرم ما بين لابتي المدينة على لساني» قال : وأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بني حارثة فقال : «أراكم يا بني حارثة قد خرجتم من الحرم ، ثم التفت فقال : بل أنتم فيه» وسيأتي بيان منازلهم ، وفيه أيضا عنه : لو رأيت الظباء بالمدينة ترتع ما ذعرتها ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما بين لابتيها حرام» وهو في مسلم بزيادة ، ولفظه «جرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما بين لابتي المدينة» قال أبو هريرة : فلو وجدت الظباء ما بين لابتيها ما ذعرتها ، وجعل اثني عشر ميلا حول المدينة حمى.

وفي مسلم أيضا عن عاصم الأحول : «سألت أنسا أحرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة؟ قال : نعم ، هي حرام : لا يختلى خلاها (١) ، فمن فعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين».

وفيه أيضا حديث رافع بن خديج رضي‌الله‌عنه «إن إبراهيم حرم مكة ، وإني أحرم ما بين لابتيها» يريد المدينة.

وفيه أيضا حديث جابر «إن إبراهيم حرم مكة ، وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها : لا تقطع عضاهها ، ولا يصاد صيدها».

وفيه أيضا من حديث أبي سعيد الخدري «اللهم إن إبراهيم حرم مكة فجعلها حراما ، وإني حرمت المدينة حراما ما بين مأزميها ، أن لا يهراق فيها دم ، ولا يحمل فيها سلاح لقتال ، ولا يخبط (٢) فيها شجرة إلا لعلف» الحديث.

وفيه أيضا من حديث أنس «اللهم إني أحرم ما بين جبليها مثل ما حرم إبراهيم عليه‌السلاممكة».

قلت : المراد بجبليها عير وثور ، وهما المعبر عنهما في الحديث قبله بمأزميها على ما صوبه النووي ، ونسبة تحريم مكة لإبراهيم عليه‌السلام دليل لما ذهب إليه جماعة من أنها لم تزل حلالا كغيرها إلى زمن إبراهيم عليه‌السلام ، فحرمت ، والثاني ـ وصححه النووي ، ونقل عن الأكثرين ـ أنها لم تزل حراما منذ خلق الله السموات والأرض ، ثم أظهر الله

__________________

(١) اختلى : قطع ونزع. الخلا : الرطب من النبات.

(٢) خبط الشجرة بالمخبط : ضربها به ليسقط ورقها.

٧٥

تعالى ذلك على لسان نبيه إبراهيم عليه‌السلام. قال الزركشي : وفيه جمع بني الأحاديث. قلت : الأحكام قديمة ؛ لأنها خطاباته تعالى ، والحادث إنما هو تعلقاتها بالمكلفين ، فإذا كان ظهور تحريمها على لسان إبراهيم عليه‌السلام فذلك أول تعلق الحكم التكليفي ، فما معنى ما يقوله الثاني من تحريمها يوم خلق الله السموات والأرض مع انتفاء التعلق التكليفي حينئذ؟ ويجوز أن يكون بمعنى أن الله تعالى أظهر ذلك لملائكته يوم خلق السموات والأرض وعرفهم به ، وتأخر تعلق التكليف به حتى ظهر على لسان نبيه إبراهيم عليه‌السلام وهذا لا يأباه القول الأول ، بل يسلمه ، وهو حسن ، وبه يجتمع معنى الأحاديث ، ولا يخفى أن خطاب الله تعالى بتحريم المدينة قديم أيضا ، وتأخره من حيث التكليف إلى أن أظهره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس فيه حط لرتبتها ، بل دليل كمالها حيث ادخر الله ذلك حتى جعله على لسان أشرف المرسلين صلوات الله وسلامه عليه ، مع أنهم ذكروا في معنى تحريم إبراهيم لها احتمالين : أحدهما : أنه بأمر الله تعالى له ، والثاني : أنه دعا لها فحرمها الله بدعوته ، ويقال مثله في تحريمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمدينة.

وقوله : «ما بين لابتيها» أي : حرّتيها الشرقية والغربية والمدينة بينهما ، ولها أيضا حرة بالقبلة وحرة بالشام ، لكنهما يرجعان إلى الشرقية والغربية لاتصالهما بهما ، ولهذا جمعها صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلها في اللابتين كما نبه عليه الطبري.

قال النووي : وهو حد الحرم من جهة المشرق والمغرب ، وما بين جبليها بيان لحده من جهة الجنوب والشمال ، قال : ومعنى قوله «ما بين لابتيها» اللابتان وما بينهما ، والمراد تحريم المدينة ولابتيها.

قلت : ويؤيده أن اللابتين شرقا وغربا في محاذاة أحد الجبلين الآتي بيانهما ، وأن منازل بني حارثة في محاذاة اللابة الغربية على ما اقتضاه كلاه المطري فيما قدمناه عنه من الباب الأول في ترجمة أثرب ، والذي ترجح عندي أن منازلهم كانت باللابة الشرقية مما يلي العريض وما قارب ذلك ؛ لأن الإسماعيلي روى الحديث المتقدم بلفظ : «ثم جاء بني حارثة وهم في سند الحرة» أي : الجانب المرتفع منها ، وسيأتي في منازلهم ما يبين أن المراد الحرة الشرقية ، وليس الموضع الذي ذكره المطري في سند واحدة من الحرتين ، والله أعلم. ويؤيد أيضا ما قاله النووي أن البيهقي روى في المعرفة حديث الصحيفة عن علي بلفظ : «إن إبراهيم حرم مكة ، وإني أحرم المدينة ما بين حرتيها وجمامها : لا يختلى خلاها ، ولا ينفر صيدها ، ولا يلتقط لقطتها إلا لمن أشاد بها» يعني : أنشد «ولا

٧٦

يقطع شجرها إلا أن يعلف رجل بعيرا ، ولا يحمل فيها سلاح لقتال» الحديث ، ورواه أحمد كذلك أيضا ، وهو حديث صحيح ، وجمام المدينة ثلاثة كما سيأتي ، وهي مما يلي حرتها الغربية من جهة المغرب والحرة بين الجمام والمدينة.

وروى مسلم حديث الصحيفة بلفظ : «المدينة حرم ما بين عير إلى ثور» والبخاري بلفظ : «المدينة حرم ما بين عاير إلى كذا» وأبو داود بلفظ : «المدينة حرام ما بين عاير إلى ثور» ثم زاد فيه وقال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يختلى خلاها ، ولا ينفر صيدها ، ولا يلقط لقطتها إلا من أشاد بها ، ولا يصلح لرجل أن يحمل فيها السلاح لقتال ، ولا أن يقطع منها شجرة إلا أن يعلف رجل بعيره» ورواه الطبراني برجال موثّقين مختصرا ، ولفظه عن أبي جحيفة أنه دخل على علي رضي‌الله‌عنه فدعا بسيفه ، فأخرج من بطن السيف أدما عربيا ، فقال : ما ترك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا غير كتاب الله الذي أنزل إليه وقد بلغته غير هذا ، فإذا : بسم الله الرحمن الرحيم ، محمد رسول الله قال : «لكل نبي حرم وحرمي المدينة».

الفصل التاسع

في بيان عير وثور

وهما المراد بجبليها كما تقدم.

موقع جبل عير

أما عير ـ بفتح العين المهملة وسكون الياء آخر الحروف بلفظ العير مرادف الحمار ، ويقال : عاير ـ فجبل كبير مشهور في قبلة المدينة بقرب ذي الحليفة ميقات المدينة.

موقع جبل ثور

وأما ثور ـ بالمثلاثة بلفظ الثور فحل البقر ـ فجبل صغير خلف أحدكما سنحققه ، فإنه خفي على جماعة من فحول العلماء فاستشكلوا الحديث ، وقالوا : ليس بالمدينة ثور ، إنما هو بمكة ، ولهذا في أكثر روايات البخاري من عاير إلى كذا ، وفي بعضها من عير إلى كذا ، ولم يبين النهاية ، فكأنه يرى أن ذكر ثور وهم فأسقطه ، وترك بعض الرواة موضع ثور بياضا ليتبين الوهم ، وضرب آخرون عليه.

الاختلاف في وجود جبل ثور بالمدينة

وقال المازري : نقل بعض أهل العلم أن ذكر ثور هنا وهم من الراوي ؛ لأن ثورا بمكة ، والصحيح «إلى أحد».

وقال أبو عبيد القاسم بن سلام : عير وثور جبلان بالمدينة ، وأهل المدينة لا يعرفون

٧٧

بها جبلا يقال له ثور ، وإنما ثور بمكة ، قال : فإذا نرى أن الحديث أصله «ما بين عير إلى أحد».

قلت : وكذا رواه الطبراني برجال ثقات ، بلفظ : «ما بين عير وأحد حرام ، حرّمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» وهو كذلك في رواية لابن زبالة.

وقال الحازمي : الرواية الصحيحة «ما بين عير إلى أحد» وقيل : «إلى ثور» وليس له معنى ، وتكلف بعضهم فقال : إلى بمعنى مع ، كأنه جعل المدينة مضافة إلى مكة في التحريم لأن ثورا بها.

وقال الموفق بن قدامة : يحتمل أن المراد تحريم قدر ما بين ثور وعير اللذين بمكة ، أو سمى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الجبلين اللذين بطرفي المدينة عيرا وثورا ارتجالا ، انتهى. وهو يقتضي إنكار وجود عير بالمدينة أيضا.

وقد قال الزركشي : نقل عياض عن بعضهم أنه ليس بالمدينة ولا ما يقرب منها جبل يعرف بأحد هذين الاسمين ، أعني عيرا وثورا. قال ياقوت في معجمه : وهذا وهم ، فإن عيرا جبل مشهور بالمدينة ، وقال ابن السيد : عير جبل بقرب المدينة ، وعبارة عياض في المشارق : عير وعاير المذكوران في حرم المدينة في أكثر الروايات عير ، وفي حديث علي عاير ، قال الزبير بن بكار : هو جبل بالمدينة ، وقال عمه مصعب : لا يعرف بالمدينة عير ولا ثور ، انتهى.

وقال في المطالع : أكثر رواة البخاري ذكروا عيرا ، وأما ثور فمنهم من كنى عنه بكذا ، ومنهم من ترك مكانه بياضا ، والأصل في هذا التوقف قول مصعب الزبيري : ليس بالمدينة عير ولا ثور ، وأثبت غيره عيرا ، ووافقه على إنكار ثور.

قلت : سيأتي في ترجمة عير من فصل البقاع عن مصعب الزبيري ما يقتضي إثباته له ، وشهرة عير غير خافية بين العلماء ، إنما الغرابة في ثور.

وقال النووي عقب نقل الحازمي المتقدم : ويحتمل : أن ثورا كان اسما لجبل هناك : إما أحد ، وإما غيره ، فخفي اسمه.

وقال صاحب البيان والانتصار : قد صحت الرواية بلفظ ثور ؛ فلا ينبغي الإقدام على توهيم الرواة بمجرد عدم العرفان ، فإن أسماء الأماكن قد تتغير ، أو تنسى ولا يعلمها كثير من الناس ، قال : وقد سألت بمكة عن وادي محسّر وغيره من أماكن تتعلق بالنسك ، فلم أخبر عنها مع تكرر مجيء الناس إليها ، فما ظنك بغيرها؟ وأيضا فقد يكون للشيء اسمان فيعرف أحدهما دون الآخر.

وقال المجد : لا أدري كيف وقعت المسارعة من هؤلاء الأعلام إلى إثبات وهم في

٧٨

الحديث المتفق على صحته ، بمجرد ادعاء أن أهل المدينة لا يعرفون جبلا يسمى ثورا ، وذكر احتمال طرق التغيير في الأسماء والنسيان لبعضها ، قال : حتى إني سألت جماعة من فقهاء المدينة وأمرائها وغيرهم من الأشراف عن فدك ومكانها فكلهم أجابوا بعدم معرفة موضع يسمى بذلك في بلادهم ، مع أن هذه القرية لم تبرح في أيدي الأشراف والخلفاء يتداولونها إلى أواخر الدولة العباسية ، فكيف بجبل صغير لا يتعلق به كبير أمر ، مع أنه معروف بين أهل العلم بالمدينة ، ونقل بعض الحفاظ وصفه بذلك خلفا عن سلف؟ اه.

قلت : قد حكى البيهقي في المعرفة قول أبي عبيد : أهل المدينة لا يعرفون جبلا يقال له ثور ، ثم قال البيهقي : وبلغني عن أبي عبيدة أنه قال في كتاب الجبال : بلغني أن بالمدينة جبلا يقال له ثور ، انتهى.

ونقل المجد في ترجمة عير عن نصر أنه قال : عير جبل يقابل الثنية المعروفة بشعب الجوز ، وثور جبل عند أحد ، انتهى. فدل على أن ما اشتهر في زماننا وقبله من وجود ثور بالمدينة له أصل في الزمن القديم ، وإن خفي على بعضهم ، وقد أخبرني بوجوده جماعة كثيرة من الخواص ، وأروني إياه خلف أحد ، ونقل جماعة عن المحدث أبي محمد عفيف الدين عبد السلام بن مزروع البصري نزيل المدينة المشرفة أنه رآه غير مرة ، وأنه لما خرج رسولا من صاحب المدينة إلى العراق كان معه دليل يذكر له الأماكن والأجبل ، فلما وصلا إلى أحد إذا بقربه جبل صغير ، فسأله : ما اسم هذا الجبل؟ فقال له : يسمى ثورا ، وقد حكى عنه نحو هذا القطب الحلبي في شرح البخاري ، وقال المحب الطبري : أخبرني الثقة الصدوق الحافظ العالم المجاور بحرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبد السلام البصري أن حذاء أحد عن يساره جانحا إلى ورائه جبل صغير يقال له ثور ، وأخبر أنه تكرر سؤاله عنه لطوائف من العرب العارفين بتلك الأرض وما فيها من الجبال ، فكل أخبر أن ذلك الجبل اسمه ثور ، قال الطبري : فعلمنا بذلك أن ما تضمنه الحديث صحيح ، وعدم علم أكابر العلماء به لعدم شهرته وعدم بحثهم عنه ، انتهى.

وقد رد الجمال المطري في تاريخه على من أنكر وجود ثور ، وقال : إنه خلف أحد من شماليه ، صغير مدور ، يعرفه أهل المدينة خلف عن سلف.

وقال الأقشهري : وقد استقصينا من أهل المدينة تحقيق خبر جبل يقال له ثور عندهم ، فوجدنا ذلك اسم جبل صغير خلف جبل أحد يعرفه القدماء دون المحدثين من أهل المدينة ، والذي يعلم حجة على من لا يعلم ، اه.

٧٩

وقال العلامة أبو العباس بن تيمية : عير جبل عند الميقات يشبه العير ، وهو الحمار ، وثور جبل في ناحية أحد ، وهو غير جبل ثور الذي بمكة.

وروى بعض شراح المصابيح أن الله تعالى لما كلم موسى عليه‌السلام على الجبل تقطع ست قطع ، فصارت ثلاث بمكة : حراء ، وثبير ، وثور ، وثلاث بالمدينة : عير ، وثور ، ورضوى ، وكأن ثورا سمي باسم فحل البقر لشبهه به ، وهو إلى الحمرة أقرب ، وقد صح بما قدمناه أن أحدا من الحرم ؛ لأن ثورا حده من جهة الشام كما أن عيرا حده من جهة القبلة ، ويقوم ذلك على الرواية التي فيها ذكر أحد بدل ثور ، لما في ذلك من الزيادة عليها ، وأنها من باب ذكر فرد مما شمله ذلك العموم بحكم العموم فلا تخصص ، مع إفادتها لإدخال ما حاذى أطراف أحد شرقا وغربا ، وما وقع في الشرحين والروضة وغيرهما من التحديد بما بين اللابتين وبما بين عير وأحد مبني على ما تقدم من أن الرواية الصحيحة «أحد» لعدم وجود ثور ؛ فقد اتضح الحال ، ولله الحمد.

الفصل العاشر

في أحاديث تقتضي زيادة الحرم

على ذلك التحديد ، وأنه مقدر ببريد

أعلم أن قوله في حديث مسلم «وجعل اثني عشر ميلا حول المدينة حمى» ظاهر في التحريم لذلك القدر ؛ إذ حول المدينة إنما هو حرمها ، وحمى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي ليس بحرم لم يكن حول المدينة على ما سيأتي بيانه ، ولأن التقي السبكي قال : إن في سنن أبي داود تحديد حرم المدينة ببريد من كل ناحية ، قال : وإسناده ليس بالقوي ، والذي رأيته في أبي داود عن عدي بن يزيد «حمى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كل ناحية من المدينة بريدا بريدا ، لا يخبط شجره ، ولا يعضد إلا ما يساق به الجمل» رواه البزار بنحوه ، ورواه ابن زبالة بلفظ «حرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شجر المدينة بريدا في بريد منها ، وأذن في المسد (١) والمنجدة ومتاع الناضح أن يقطع منه» والمنجدة : عصا الناضح (٢).

وروى المفضل الجندي عن سعد بن أبي وقاص رضي‌الله‌عنه أنه قال : في قصة العبد الذي وجده يعضد ـ أو يخبط ـ عضاها بالعقيق : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : من وجد من يعضد أو يخبط (٣) شيئا من عضاه المدينة بريدا في في بريد فله سلبه ، فلم أكن لأرد شيئا أعطانيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

__________________

(١) المسد : الحبل المضفور المحكم الفتل. و ـ المحور من الحديد تدور عليه البكرة.

(٢) المنجدة : (ج) مناجد : عود ينفش به الصوف أو القطن. و ـ عصا تحث بها الدّابة.

(٣) عضد : جزّ وقطع. العضاة : كل شجر له شوك صغر أو كبر. الواحدة : عضاهة.

٨٠