وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى - ج ١

نور الدين علي بن أحمد السّمهودي

وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى - ج ١

المؤلف:

نور الدين علي بن أحمد السّمهودي


المحقق: خالد عبد الغني محفوظ
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3818-9
الصفحات: ٢٩٤

أحد رغبة عنها إلا أخلف الله فيها خيرا منه ، ألا إن المدينة كالكير تخرج الخبث ، لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الحديد».

وفي الصحيحين : «أمرت بقرية تأكل القرى ، يقولون يثرب وهي المدينة تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد» وفي رواية لابن زبالة : «إن المدينة تنفي خبث الرجال» وفي رواية : «خبث أهلها كما ينفي الكير خبث الحديد». وفي صحيح البخاري حديث : «إنها طيبة تنفي الذنوب كما ينفي الكير خبث الفضة».

وفي الصحيحين قصة الأعرابي الذي جاء من الغد محموما فقال : أقلني بيعتي ، فأبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخرج الأعرابي ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما المدينة كالكير تنفي خبثها وتنصع طيّبها».

قوله : «أقلني بيعتي» أي : انقض العهد حتى أرجع إلى وطني ، وكأنه كان قد بايع على هجرة الإقامة. وقوله : «تنفي خبثها» يحتمل أن يكون بمعنى الطرد والإبعاد لأهل الخبث ، وقصة الأعرابي المذكور ظاهرة فيه ، وخصه ابن عبد البر بزمنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم والظاهر كما قال النووي عدم التخصيص ؛ ففي الصحيح : «لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها» يعني عند ظهور الدجال ، وسيأتي في الفصل الخامس في حديث أحمد وغيره برجال الصحيح قصة خروج من بالمدينة من المنافقين إلى الدجال ، ثم قال : «وذلك يوم التخليص ، ذلك يوم تنفي المدينة الخبث» وقال عمر بن عبد العزيز مشفقا إذ خرج منها لمن معه : أتخشى أن نكون ممن نفت المدينة؟ وقد طهرها الله تعالى ممن كان بها من أرباب الأديان المخالفين لدين الإسلام ، وأهلك من كان بها من المنافقين ، وهؤلاء هم أهل الخبث الكامل ، ومن عداهم من أهل الخبث والذنوب قد يكون طرده وإبعاده إن استمر على ذلك بآخرة الأمر بنقل الملائكة له إلى غيرها من الأرض كما أشار إليه الأقشهري قال : ويكون قوله : «تنفي خبثها ، وتنفي الذنوب» أي أهل ذلك ، على طريقة حذف المضاف ، ويحتمل أن يكون بمعنى طرد أهل الخبث الكامل ، وهم أهل الشقاء والكفر ، لا أهل السعادة والإسلام ؛ لأن القسم الأول ليس قابلا للشفاعة ولا للمغفرة ، وقد وعد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من يموت بها بالشفاعة لهذا وجب انتفاء القسم الأول منها ، ويحتمل أن يكون بمعنى تخليص النفوس من شرهها وميلها إلى اللذات بما فيها من اللأواء والشدة ، ويؤيده رواية «إنها طيبة تنفي الذنوب» الحديث ، ويكون نفيها للذنوب على ظاهره ، سيما وقد اشتملت على عظيم المضاعفات ، وتنوع المثوبات ، وتوالي الرحمات ، وقد قال تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) [هود : ١١٤] مع ما لأهلها من الشفاعة والشهادة الخاصة ، وما بها من تضاعف البركات ، ويحتمل أن يكون بمعنى أنه لا يخفى حال من انطوى فيها على خبث ، بل تظهر طويته كما هو مشاهد بها ، ولم أر الآن من نصّ على هذا الاحتمال ،

٤١

وهو في حفظي قديما ، ويؤيده ما في غزوة أحد في الصحيح من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما خرج إلى أحد رجع ناس من أصحابه ـ أي وهم المنافقون ـ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المدينة كالكير» الحديث ، ولهذا سميت بالفاضحة كما قدمته ، مع أن الذي ظهر لي من مجموع الأحاديث واستقراء أحوال هذه البلدة الشريفة أنها تنفي خبثها بالمعاني الأربعة.

وقوله : «وتنصع» بالفوقانية المفتوحة والنون والمهملتين كتمنع ـ أي : تخلص ، والناصع : الخالص الصافي ، و «طيبها» بفتح الطاء والتشديد منصوبا على أنه مفعول هذا هو المشهور فيه ، والله أعلم.

وعيد من أراد أهلها بسوء

وفي صحيح مسلم من حديث جابر في تحريم المدينة مرفوعا : «ولا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلا أذابه الله في النار ذوب الرصاص ، أو ذوب الملح في الماء».

قال عياض : قوله «في النار» يدفع إشكال الأحاديث التي لم تذكر فيها هذه الزيادة ، ويبين أن هذا حكمه في الآخرة. قال : وقد يكون المراد به أن من أرادها في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كفي المسلمون أمره ، واضمحل كيده كما يضمحل الرصاص في النار. قال : ويحتمل أن يكون المراد من كادها اغتيالا وطلبا لغرتها فلا يتم له أمر ، بخلاف من أتى ذلك جهارا. قال : وقد يكون في اللفظ تقديم وتأخير : أي أذابه الله كذوب الرصاص في النار ، ويكون ذلك لمن أرادها في الدنيا فلا يمهله الله ولا يمكن له سلطانا ، بل يذهبه عن قرب ، كما انقضى شأن من حاربها أيام بني أمية مثل مسلم بن عقبة ، فأهلك في منصرفه منها. ثم هلك يزيد بن معاوية مرسله على أثر ذلك ، وغيرهما ممن صنع صنيعهما ، انتهى.

وهذا الاحتمال الأخير هو الأرجح ، وليس في الحديث ما يقتضي أنه لا يتم له ما أراد منهم ، بل الوعد بإهلاكه ، ولم يزل شأن المدينة على هذا حتى في زماننا هذا لما تظاهرت طائفة العياشي بإرادة السوء بالمدينة الشريفة لأمر اقتضى خروجهم منها حتى أهلك الله تعالى عتاتهم مع كثرتهم في مدة يسيرة.

وقد يقال : المراد من الأحاديث الجمع بين إذابته بالإهلاك في الدنيا وبين إذابته في النار في الأخرى ، والمذكور في هذا الحديث هو الثاني ، وفي غيره الأول ؛ ففي رواية لأحمد برجال الصحيح من جملة حديث : «من أرادها بسوء» يعني المدينة «أذابه الله كما

٤٢

يذوب الملح في الماء» وكذا في مسلم أيضا ، وفي فضائل المدينة للجندي حديث «أيما جبّار أراد المدينة بسوء أذابه الله تعالى كما يذوب الملح في الماء» وفي رواية لمسلم «من أراد أهل هذه البلدة بسوء ـ يعني المدينة ـ أذابه الله تعالى كما يذوب الملح في الماء» في رواية له أيضا «من أراد أهل هذه البلدة بدهم أو بسوء» ، وروى البزار بإسناد حسن حديث : «اللهم اكفهم من دهمهم ببأس» يعني أهل المدينة «ولا يريدها أحد بسوء إلا أذابه الله كما يذوب الملح في الماء».

وقوله : «دهمهم» محركا أي : غشيهم بسرعة ، وقوله في الحديث قبله «بدهم» بفتح أوله وإسكان ثانيه ـ أي بغائلة وأمر عظيم ، ولذا قيل : المراد غازيا مغيرا عليها.

وفي البخاري حديث «لا يكيد أهل المدينة أحد إلا انماع كما ينماع الملح في الماء» وأسند ابن زبالة عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أشرف على المدينة فرفع يديه حتى رؤي عفرة إبطيه ثم قال : «اللهم من أرادني وأهل بلدي بسوء فعجّل هلاكه» وروى الطبراني في الأوسط برجال الصحيح حديث : «اللهم من ظلم أهل المدينة وأخافهم فأخفه وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل منه صرف ولا عدل» وفي رواية لغيره : «من أخاف أهل المدينة أخافه الله يوم القيامة ، وغضب عليه ، ولم يقبل منه صرفا ولا عدلا» وروى النسائي حديث : «من أخاف أهل المدينة ظالما لهم أخافه الله ، وكانت عليه لعنة الله» الحديث ، ولابن حبان نحوه ، وروى أحمد برجال الصحيح عن جابر بن عبد الله رضي‌الله‌عنهما أن أميرا من أمراء الفتنة قدم المدينة ، وكان قد ذهب بصر جابر ، فيل لجابر : لو تنحيت عنه ، فخرج يمشي بين ابنيه ، فنكب ، فقال : تعس من أخاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم! فقال ابناه ، أو أحدهما : يا أبت ، فكيف أخاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد مات؟ فقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من أخاف أهل المدينة فقد أخاف ما بين جنبي».

بسر بن أرطاة يغزو المدينة

قلت : والظاهر أن الأمير المشار إليه هو بسر بن أرطاة.

قال القرطبي : ذكر في رواية ابن عبد البر أن معاوية رضي‌الله‌عنه بعد تحكيم الحكمين أرسل بسر بن أرطأة في جيش ، فقدموا المدينة ، وعاملها يومئذ لعلي رضي‌الله‌عنه أبو أيوب الأنصاري ـ رضي‌الله‌عنه! ـ ففر أبو أيوب ولحق بعلي ، ودخل بسر المدينة ، وقال لأهلها : والله لو لا ما عهد إلى أمير المؤمنين ما تركت فيها محتلما إلا قتلته ، ثم أمر أهل المدينة بالبيعة لمعاوية ، وأرسل إلى بني سلمة فقال : ما لكم عندي أمان ولا مبايعة حتى تأتوني بجابر بن عبد الله ، فأخبر جابر ، فانطلق حتى جاء أم سلمة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لها : ما ذا ترين فإني أخشى أن أقتل ، وهذه بيعة ضلال ، فقالت : أرى أن

٤٣

تبايع ، وقد أمرت ابني عمر بن أبي سلمة أن يبايع ، فأتى جابر بسرا فبايعه ، وهدم بسر دورا بالمدينة ، ثم انطلق.

وفي رواية ستأتي في الفصل الخامس عشر أن أهل المدينة فرّوا يومئذ حتى دخلوا الحرة حرة بني سليم ، والله أعلم.

وفي الكبير للطبراني حديث : «من آذى أهل المدينة آذاه الله ، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، ولا يقبل منه صرف ولا عدل».

وروى ابن النجار حديث : «من أخاف أهل المدينة ظلما أخافه الله ، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا» والأحاديث في هذا الباب كثيرة.

وعيد من أحدث بها حدثا

وفي الصحيحين في أحاديث تحريم المدينة : «فمن أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا» ولفظ البخاري : «لا يقبل منه صرف ولا عدل» قيل : الصرف الفريضة ، والعدل التطوع ، ونقل عن الجمهور ، وقيل : عكسه ، وقيل : الصرف التوبة ، والعدل الفدية ، قيل : والمعنى لا يقبل الله فريضته ونافلته أو توبته قبول رضا ، ولا يجد في القيامة فداء يفتدى به من يهودي أو نصراني ، بخلاف سائر المذنبين ، وقيل غير ذلك ، ومعنى هذا اللعن المبالغة في الإبعاد عن رحمة الله تعالى والطرد عن الجنة أول الأمر لأنه كلعن الكفار.

قال القاضي : ومعنى قوله : «من أحدث فيها حدثا إلى آخره» من أتى فيها إثما أو آوى من أتاه وضمه إليه وحماه ، وآوى بالمد والقصر ، قال : واستدلوا به على أن ذلك من الكبائر ؛ لأن اللعنة لا تكون إلا في كبيرة.

قلت : فيستفاد منه أن إثم الصغيرة بها كإثم الكبيرة بغيرها ؛ لصدق الإثم بها ، بل نقل الزركشي عن مالك رحمه‌الله ما يقتضي شمول الحديث المذكور للمكروه كما بيناه في الأصل ، وذلك لأن الإساءة بحضور الملك ليست كالإساءة في أطراف المملكة ، وفقنا الله تعالى لحسن الأدب في هذه الحضرة الشريفة بمنّه وكرمه!!

٤٤

الفصل الثالث

في الحث على حفظ أهلها ، وإكرامهم ، والتحريض على الموت بها واتخاذ الأصل.

الوصية بحفظ أهلها

روينا في كتاب ابن النجار عن معقل بن يسار قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المدينة مهاجري ، فيها مضجعي ، ومنها مبعثي ، حقيق على أمتي حفظ جيراني ما اجتنبوا الكبائر ، من حفظهم كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة ، ومن لم يحفظهم سقي من طينة الخبال» قيل للمزني : ما طينة الخبال؟ قال : عصارة أهل النار. قلت : قال بعضهم : المراد بالمزني معقل بن يسار ، وتفسير طينة الخبال بذلك رفعه مسلم ، والحديث في الكبير للطبراني بسند فيه متروك ، ولفظه «المدينة مهاجري ومضجعي في الأرض ، حق على أمتي أن يكرموا جيراني ما اجتنبوا الكبائر ، فمن لم يفعل ذلك سقاه الله من طينة الخبال» قلنا : يا أبا يسار ، وما طينة الخبال؟ قال : عصارة أهل النار.

وروى القاضي أبو الحسن علي الهاشمي في فوائده عن خارجة بن زيد عن أبيه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المدينة مهاجري وفيها مضجعي ، ومنها مخرجي ، حق على أمتي حفظ جيراني فيها ، من حفظ وصيتي كنت له شهيدا يوم القيامة ، ومن ضيّعها أورده الله حوض الخبال ، قيل : وما حوض الخبال يا رسول الله؟ قال : حوض من صديد أهل النار».

وروى ابن زبالة عن عطاء بن يسار وغيره حديث : «إن الله جعل المدينة مهاجري ، وبها مضجعي ، ومنها مبعثي ، فحق على أمتي حفظ جيراني ما اجتنبوا الكبائر ، فمن حفظ فيهم حرمتي كنت له شفيعا يوم القيامة ، ومن ضيع فيهم حرمتي أورده الله حوض الخبال». وفي رواية له : «المدينة مهاجري ، وبها وفاتي ، ومنها محشري ، وحقيق على أمتي أن يحافظوا جيراني ما اجتنبوا الكبيرة ، من حفظ فيهم حرمتي كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة».

وفي مدارك عياض قال محمد بن مسلمة : سمعت مالكا يقول : دخلت على المهدي فقال : أوصني ، فقلت : أوصيك بتقوى الله وحده ، والعطف على أهل بلد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجيرانه ؛ فإنه بلغنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «المدينة مهاجري ، ومنها مبعثي ، وبها قبري ، وأهلها جيراني ، وحقيق على أمتي حفظ جيراني ؛ فمن حفظهم فيّ كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة ، ومن لم يحفظ وصيتي في جيراني سقاه الله من طينة الخبال».

وروى مالك في الموطأ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان جالسا وقبر يحفر بالمدينة ، فاطّلع رجل في القبر فقال : بئس مضجع المؤمن! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بئس ما قلت» قال الرجل : إني

٤٥

لم أرد هذا ، إنما أردت القتل في سبيل الله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا مثل للقتل في سبيل الله ، ما على الأرض بقعة أحب إلي من أن يكون قبري بها منها» يعني المدينة ، ثلاث مرات.

وروى ابن شبة في أخبار مكة عن سعيد بن أبي هند قال : سمعت أبي يذكر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كان إذا دخل مكة قال : اللهم لا تجعل منايانا بمكة حتى نخرج منها» ورواه أحمد في مسنده برجال الصحيح عن ابن عمر مرفوعا ، إلا أنه قال : «حتى تخرجنا منها».

وروى مالك والبخاري ورزين العبدري أن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه قال : اللهم ارزقني شهادة في سبيلك ، واجعل موتي في بلد رسولك ، زاد رزين أن ذلك كان من أجلّ (١) دعاء عمر.

وسبق ما جاء في أن الإنسان يدفن في التربة التي خلق منها ؛ فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأكثر أصحابه وأفضلهم خلقوا من تربة المدينة ، وقد ثبت حديث : «من مات بالمدينة كنت له شفيعا يوم القيامة» ورواه البيهقي بلفظ : «من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت ، فمن مات بالمدينة كنت له شفيعا وشهيدا» وفي رواية له : «فإنه من يمت بها أشفع له ، أو أشهد له» وقد ذكر هذه الرواية ابن حبان في صحيحه.

وروى الترمذي وابن حبان في صحيحه وابن ماجه والبيهقي وعبد الحق وصححه حديث «من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها ، فإني أشفع لمن يموت بها» ولفظ ابن ماجه «فإني أشهد» بدل «فإني أشفع» ورواه الطبراني في الكبير بسند حسن ، ولفظه «من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت ؛ فإنه من مات بها كنت له شهيدا ـ أو شفيعا ـ يوم القيامة» ورواه ابن رزين بنحوه ، وزاد «وإني أول من تنشق عنه الأرض ، ثم أبو بكر ، ثم عمر ، ثم آتي أهل البقيع فيحشرون ، ثم أنتظر أهل مكة فأحشر بين أهل الحرمين» وفي رواية لابن النجار «فأخرج أنا وأبو بكر وعمر إلى البقيع فيبعثون ، ثم يبعث أهل مكة».

وروى الطبراني حديث «أول من أشفع له من أمتي أهل المدينة ، ثم أهل مكة ، ثم أهل الطائف» وأخرجه الترمذي بالواو بدل ثم ، وسيأتي في فضل البقيع زيادة تتعلق بذلك.

وبالجملة : فالترغيب في الموت في المدينة لم يثبت مثله لغيرها ، والسكنى بها وصلة إليه ؛ فيكون ترغيبا في سكناها ، وتفضيلا لها على غيرها ، واختيار سكناها هو المعروف من حال السلف ، ولا شك أن الإقامة بالمدينة في حياته صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل إجماعا ، فنستصحب ذلك بعد وفاته حتى يثبت إجماع مثله برفعه.

__________________

(١) أجلّ : أعظم وأقوى.

٤٦

وأسند ابن شبة في أخبار مكة عن إسماعيل بن سالم قال : سألت عامرا عن فتيا أفتى بها حبيب بن أبي ثابت ، فقال : ألا يفتي حبيب نفسه حيث نزل مكة وهي قرية أعرابية ، ولأن أنزل دوران أحب إلي من أن أنزل مكة ، وهي قرية هاجر منها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وعن الشعبي أنه كان يكره المقام بمكة ، ويقول : هي دار أعرابية ، هاجر منها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : ألا يفتي حبيب نفسه حيث يجاور بمكة وهي دار أعرابية ، وقال عبد الرزاق في مصنفه : كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحجون ثم يرجعون ، ويعتمرون ثم يرجعون ، ولا يجاورون.

قلت : ولم أظفر عن السلف بنقل في كراهة المجاورة بالمدينة الشريفة ، بخلاف مكة ، لكن اقتضى كلام النووي في شرح مسلم حكاية الخلاف فيها ، وكأنه قاس المدينة على مكة من حيث إن علة الكراهة وهي خوف الملل وقلة الحرمة للأنس وخوف ملابسة الذنوب لأن الذنب بها أقبح ، ونحوه موجود بالمدينة ، ولهذا قال : والمختار أن المجاورة بهما جميعا مستحبة إلا أن يغلب على ظنه الوقوع في المحذورات المذكورة.

وقال الزركشي عقب نقل كلام النووي : إن الظاهر ضعف الخلاف في المدينة أي : لما قدمناه من الترغيب فيها ، ولأن كل من كره المجاورة بمكة استدل بترك الصحابة الجوار بها ، بخلاف المدينة فكانوا يحرصون على الإقامة بها ، وقد روى الطبراني في الأوسط حديث «من غاب عن المدينة ثلاثة أيام جاءها وقلبه مشرب جفوة» وأسند ابن أبي حثمة حديث «من كان له بالمدينة أصل فليتمسك به ، ومن لم يكن له بها أصل فليجعل له بها أصلا ولو قصرة» قال ابن الأثير : القصرة محركة أصل الشجرة ، أي ولو نخلة واحدة ، والقصرة أيضا : العنق ، وقال الخطابي : القصرة النخلة ، وقرأ الحسن (إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) [المرسلات : ٣٢] وفسروه بأعناق النخل ، ورواه الطبراني في الكبير بلفظه إلى قوله «فليجعل له بها أصلا» وقال عقبه : «فليأتين على الناس زمان يكون الذي ليس له بها أصل كالخارج منها المجتاز إلى غيرها» ورواه ابن شبة أيضا بنحوه ، ثم أسند عن الزهري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تتخذوا الأموال بمكة ، واتخذوها الأموال في دار هجرتكم ؛ فإن المرء مع ماله» وأسند أيضا عن ابن عمر حديث «لا تتخذوا من وراء الروحاء مالا ، ولا تردوا على أعقابكم بعد الهجرة ولا تنكحوا بناتكم طلقاء أهل مكة ، وأنكحوهن بأترابهن فأترابهن» أي : مستويات في السن في ثلاث وثلاثين سنة.

وهذا كله متضمّن للحث على سكنى المدينة وتفضيله على سكنى مكة ، وهي جديرة بذلك ؛ لأن الله تعالى اختارها لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرارا ، وجعل أهلها شيعة له وأنصارا ، وكانت لهم

٤٧

أوطانا ، ولو لم يكن إلا جواره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما زال جبريل يوصيني بالجار» الحديث ، ولم يخص جارا دون جار ، ولا يخرج أحد عن حكم الجار وإن جار ، ولهذا اخترت تفضيل سكناها على مكة ، مع تسليم مزيد المضاعفة لمكة ؛ إذ جهة الفضل غير منحصرة في ذلك ؛ فتلك لها مزيد العدد ، ولهذه تضاعف البركة والمدد ، ولتلك جوار بيت الله ، ولهذه جوار حبيب الله وأكرم الخلق على الله ، سر الوجود ، والبركة الشاملة لكل موجود.

قال عياض في المدارك : قال مصعب : لما قدم المهدي المدينة استقبله مالك وغيره من أشرافها على أميال ، فلما بصر بمالك انحرف المهدي إليه فعانقه وسلّم عليه وسايره ، فالتفت مالك إلى المهدي فقال : يا أمير المؤمنين ، إنك تدخل الآن المدينة فتمر بقوم عن يمينك ويسارك ، وهم أولاد المهاجرين والأنصار ، فسلم عليهم ؛ فإنه ما على وجه الأرض قوم خير من أهل المدينة ، ولا خير من المدينة ، قال : ومن أين قلت ذلك يا أبا عبد الله؟ فقال : إنه لا يعرف قبر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عندهم فينبغي أن يعرف فضلهم على غيرهم ، ففعل المهدي ما أمره به ، فأشار مالك ـ رحمه‌الله! ـ إلى أن المقتضى للتفضيل هو وجود قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها ، ومجاورة أهلها له.

الفصل الرابع

في بعض دعائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لها ولأهلها ، وما كان بها من الوباء ، ونقله

حب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمدينة

روينا في الصحيحين حديث «اللهم حبّب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد» ورواه رزين العبدري والجندي بالواو بدل «أو» مع أن أوفى تلك الرواية بمعنى بل ، وقد صح عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في محبة المدينة ما لم يرد مثله لمكة ؛ ففي صحيح البخاري وجامع الترمذي حديث «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قدم من سفر فنظر إلى جدران المدينة أوضع راحلته (١) ، وإن كان على دابة حركها من حبها» وفي رواية لابن زبالة «تباشرا بالمدينة» ، وفي رواية له «كان إذا أقبل من مكة فكان بالأثاية طرح رداءه عن منكبيه وقال : هذه أرواح طيبة» وقد تكرر دعاؤه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتحبيب المدينة إليه كما سيأتي ، والظاهر أن الإجابة حصلت بالأول ، والتكرير لطلب الزيادة ، وفي كتاب الدعاء للمحاملي وغيره عن أنس رضي‌الله‌عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه «كان إذا قدم من سفر من أسفاره فأقبل على المدينة يسير أتم السير ، ويقول : اللهم اجعل لنا بها قرارا ، ورزقا حسنا».

__________________

(١) أوضع راحلته : حملها على السير السريع.

٤٨

دعاؤه صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمدينة بالبركة

وفي الصحيحين حديث «اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة». وفي مسلم «اللهم بارك لنا في تمرنا ، وبارك لنا في مدينتنا ، وبارك لنا في صاعنا ، وبارك لنا في مدّنا ، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك ، وإني عبدك ونبيك ، وإنه دعاك لمكة ، وأنا أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه» وفيه أيضا «اللهم بارك لنا في مدينتنا ، اللهم بارك لنا في صاعنا ، اللهم بارك لنا في مدنا ، اللهم بارك لنا في مدينتنا ، اللهم اجعل مع البركة بركتين» وفيه أيضا وفي الترمذي حديث «كان الناس إذا رأوا أول الثمرة جاءوا به إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا أخذه قال : اللهم بارك لنا في تمرنا ، وبارك لنا في مدينتنا ، وبارك لنا في صاعنا ، وبارك لنا في مدنا» الحديث ، وهو يقتضي تكرر هذا الدعاء بتكرر ظهور التمرة والإتيان بأولها ، وفي الترمذي ـ وقال : حسن صحيح ـ عن علي رضي‌الله‌عنه «خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى إذا كنا بحرة السقيا التي كانت لسعد بن أبي وقاص ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ائتوني بوضوء ، فتوضأ ثم قال فاستقبل القبلة فقال : اللهم إن إبراهيم كان عبدك وخليلك ، ودعاك لأهل مكة بالبركة ، وأنا عبدك ورسولك أدعوك لأهل المدينة أن تبارك لهم في مدهم وصاعهم مثلي ما باركت لأهل مكة ، مع البركة بركتين». ورواه ابن شبة في أخبار مكة بنحوه ، إلا أنه قال : «حتى إذا كنا بالحرة بالسقيا التي كانت لسعد بن أبي وقاص قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ائتوني بوضوء ، فلما توضأ قام فاستقبل القبلة ثم قال» الحديث بنحوه ، ورواه الطبراني في الأوسط بإسناد جيد ، ولفظه : «خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى إذا كنا عند السقيا التي كانت لسعد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك دعاك لأهل مكة بالبركة ، وأنا محمد عبدك ورسولك وإني أدعوك لأهل المدينة أن تبارك لهم في صاعهم ومدهم مثل ما باركت لأهل مكة ، واجعل مع البركة بركتين» هكذا في النسخة التي وقعت لنا ، ولعله «مثلي» كما في الرواية السابقة ، ويؤخذ منه الإشارة إلى أن المدعو به ستة أضعاف ما بمكة من البركة ، وفي حديث رواه ابن زبالة عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «خرج إلى ناحية من المدينة ، وخرجت معه ، فاستقبل القبلة ورفع يديه حتى إني لأرى بياض ما تحت منكبيه ، ثم قال : اللهم إن إبراهيم نبيك وخليلك دعاك لأهل مكة ، وأنا نبيك ورسولك أدعوك لأهل المدينة ، اللهم بارك لهم في مدهم وصاعهم ، وقليلهم وكثيرهم ، ضعفي ما باركت لأهل مكة ، اللهم من هاهنا وهاهنا وهاهنا ، حتى أشار إلى نواحي الأرض كلها ، اللهم من أرادهم بسوء فأذبه كما يذوب الملح في الماء» وفي الأوسط للطبراني ورجاله ثقات عن ابن عمر قال : «صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الفجر ، ثم أقبل على القوم فقال : اللهم بارك لنا في مدينتنا ، وبارك لنا في مدنا

٤٩

وصاعنا» الحديث ، وفي الكبير له ورجاله ثقات عن ابن عباس نحوه ، وروى أحمد والبزار وإسناده حسن عن جابر قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نظر يوما إلى الشام فقال : اللهم أقبل بقلوبهم ، ونظر إلى العراق فقال : اللهم مثل ذلك ، ونظر قبل كل أفق ففعل ذلك ، وقال : اللهم ارزقنا من ثمرات الأرض ، وبارك لنا في مدنا وصاعنا» وفي الصحيحين حديث «اللهم بارك لهم في مكيالهم ، وبارك لهم في صاعهم ، وبارك لهم في مدهم» قال القاضي في الكلام عليه : البركة هنا بمعنى النمو والزيادة ، وتكون بمعنى الثبات ، فقيل : يحتمل أن تكون هذه البركة دينية ، وهي ما تتعلق بهذه المقادير في الزكاة والكفارات ؛ فتكون بمعنى الثبات لثبات الحكم بها وبقائه ببقاء الشريعة ، ويحتمل أن تكون دنيوية من تكثير الكيل والقدر بهذه الأكيال حتى يكفي منه ما لا يكفي من غيره في غير المدينة ، أو ترجع البركة إلى كثرة ما يكلأ بها من غلاتها وثمراتها ، وفي هذا كله ظهر إجابة دعوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال النووي : الظاهر أن المراد البركة في نفس المكيل في المدينة ، بحيث يكفي المد فيها لمن لا يكفيه في غيرها. قلت : هذا هو الظاهر فيما يتعلق بأحاديث الكيل ، وأما غيرها فعلى عمومه في سائر الأمور الدينية والدنيوية. وروينا في فضائل المدينة للجندي حديث : «اللهم حبّب إلينا المدينة ، كحبنا مكة وأشد ، وصححها لنا ، وبارك لنا في مدها وصاعها ، وانقل حماها ، واجعلها بالجحفة» وروى أحمد برجال الصحيح عن أبي قتادة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «صلى بأرض سعد بأصل الحرة عند بيوت السقيا ، ثم قال : اللهم إن إبراهيم خليلك وعبدك ونبيك دعاك لأهل مكة ، وأنا محمد عبدك ورسولك أدعوك لأهل المدينة مثلي ما دعاك به إبراهيم لمكة ، أدعوك أن تبارك لهم في صاعهم ومدهم وثمارهم ، الله حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة ، واجعل ما بها من وباء بخم» الحديث ، وقوله «بخم» بضم الخاء المعجمة وتشديد الميم ـ مكان قرب الجحفة كما سيأتي في موضعه ، وروى ابن زبالة حديث «لما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة وعك فيها أصحابه» وفيه «فجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المنبر ، ثم رفع يده ، ثم قال : اللهم انقل عنا الوباء» فلما أصبح قال : أتيت هذه الليلة بالحمى ، فإذا بعجوز سوداء ملبّبة في يدي الذي جاء بها ، فقال : هذه الحمى ، فما ترى فيها؟ فقلت : اجعلوها بخمّ».

الدعاء بنقل وبائها

وفي مسلم حديث عن عائشة رضي‌الله‌عنها : «قدمنا إلى المدينة وهي وبية فاشتكى أبو بكر ، واشتكى بلال ، فلما رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شكوى أصحابه قال : «اللهم حبّب إلينا

٥٠

المدينة كما حببت مكة أو أشد ، وصححها ، وبارك لنا في صاعها ومدها ، وحوّل حمّاها إلى الجحفة».

وهو في البخاري بلفظ : «لما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة وعك أبو بكر وبلال ـ رضي‌الله‌عنهما! ـ وكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول :

كلّ امرئ مصبّح في أهله

والموت أدنى من شراك نعله

وكان بلال إذا قلع عنه يرفع عقيرته ويقول :

ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة

بواد وحولي إذخر وجليل

وهل أردن يوما مياه مجنّة

وهل يبدون لي شامة وطفيل

اللهم العن شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء ، ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم حبّب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد ، اللهم بارك لنا في صاعنا وفي مدنا ، وصححها لنا ، وانقل حمّاها إلى الجحفة» قالت : وقدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله ، وكان بطحان يجري نجلا ، تعني ماء آجنا (١).

ورواه في الموطأ بزيادة : «وكان عامر بن فهيرة يقول :

قد ذقت طعم الموت قبل ذوقه

إن الجبان حتفه من فوقه»

ورواه ابن إسحاق بزيادة أخرى ، ولفظه : «لما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة قدمها وهي أوبأ أرض الله من الحمى ، فأصاب أصحابه منها بلاء وسقم ، وصرفه الله عن نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالت : فكان أبو بكر وعامر بن فهيرة وبلال مولى أبي بكر مع أبي بكر في بيت واحد ، فأصابتهم الحمى ، فدخلت عليهم أعودهم ، وذلك قبل أن يضرب الحجاب ، ولهم ما لا يعلمه إلا الله من شدة الوعك ، فدنوت من أبي بكر ، فقلت : كيف تجدك يا أبت؟ أي كيف تجد نفسك ، فقال :

كل امرئ

البيت المتقدم ، فقلت : والله ما يدري أبي ما يقول ، ثم دنوت إلى عامر بن فهيرة ، فقلت : كيف تجدك يا عامر؟ فقال :

لقد وجدت الموت قبل ذوقه

إن الجبان حتفه من فوقه

كل امرئ مجاهد بطوقه

كالثور يحمي جلده بروقه (٢)

قالت : فقلت ما يدري عامر ما يقول ، وقالت : وكان بلال إذا تركته الحمى اضطجع بفناء البيت ثم رفع عقيرته وقال :

__________________

(١) أجن الماء : تغير لونه وطعمه ورائحته ، البطحان : واد بالمدينة.

(٢) الروق : قرن الدابة.

٥١

ألا ليت شعري

البيتين.

ورواه ابن زبالة بلفظ : «لما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة وعك أصحابه ، فخرج يعود أبا بكر ، فوجده يهجر (١) ، فقال : يا رسول الله :

لقد لقيت الموت قبل ذوقه

البيت المتقدم ، فخرج من عنده ، فدخل على بلال فوجده يهجر وهو يقول :

ألا ليت شعري

البيتين المتقدمين ، ودخل على أبي أحمد بن جحش فوجده موعوكا ، فلما جلس إليه قال :

وا حبذا مكّة من وادي

أرض بها تكثر عوّادي

أرض بها تضرب أوتادي

أرض بها أهلي وأولادي

أرض بها أمشي بلا هادي

فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدعا أن ينقل الوباء من المدينة فيجعله بخم.

وفي رواية له أنه «أمر عائشة بالذهاب إلى أبي بكر ومولييه ، وأنها رجعت وأخبرته بحالهم ، فكره ذلك ، ثم عمد إلى بقيع الخيل ـ وهو سوق المدينة (٢) ـ فقام فيه ووجهه إلى القبلة ، فرفع يديه إلى الله فقال : «اللهم حبّب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد ، اللهم بارك لأهل المدينة في سوقهم ، وبارك لهم في صاعهم ، وبارك لهم في مدهم ، اللهم انقل ما كان بالمدينة من وباء إلى مهيعة».

قوله «رفع عقيرته» أي صوته ، وقوله «بواد» روى «بفخ» وهو وادي الزاهر ، والجليل ـ بالجيم ـ الثمام ، ومجنة ـ بكسر الميم وفتحها ـ سوق بأسفل مكة ، وقال الأصمعي : بمر الظهران ، وشامة وطفيل : جبلان يشرفان على مجنة ، قاله ابن الأثير ، قال : ويقال «شابة» بالباء الموحدة ، وهو جبل حجازي ، قال المحب الطبري : وروايته بالباء الموحدة بخط شيخنا الصاغاني ، وكتب عليها صح ، وقال الطبري : والأشهر أنهما جبلان على مراحل من مكة من جهة اليمن ، وقال الخطابي : عينان. وقوله «بطوقه» أي بطاقته ، وقوله «بروقه» أي بقرنه ، و «مهيعة» هي الجحفة أحد المواقيت المشهورة ، وخم : بقربها ، وإنما دعا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنقل الحمى إليها لأنها كانت دار شرك ، ولم تزل من يومئذ أكثر بلاد الله حمى ، قال بعضهم : وإنه ليتقى شرب الماء من عينها التي يقال لها عين خم ، فقلّ من شرب منها إلا حم.

__________________

(١) هجر المريض : هذي في مرضه وفي نومه.

(٢) البقيع : المكان المتسع فيه أشجار مختلفة. و ـ مقبرة أهل البقيع. و ـ هو سوق المدينة.

٥٢

وروى البيهقي حديث عائشة من طريق هشام بن عروة عن أبيه ، وفيه «قال هشام : فكان المولود يولد بالجحفة فلا يبلغ الحلم حتى تضرعه الحمى (١)».

وقال الخطابي : كان أهل الجحفة إذ ذاك يهودا ، وقيل : إنه لم يبق أحد من أهلها إلا أخذته الحمى.

قال النووي : وهذا علم من أعلام نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن الجحفة من يومئذ وبية ، ولا يشرب أحد من مائها إلا حم.

وبطحان : من أودية المدينة كما سيأتي ، والماء الآجن : المتغير الطعم واللون.

الوباء بالمدينة جاهلي قديم

واتفق أهل الأخبار أن الوباء بالمدينة كان شديدا ، حتى روى ابن إسحاق عن هشام بن عروة قال : كان وباؤها معروفا في الجاهلية ، وكان الإنسان إذا دخلها وأراد أن يسلم من وبائها قيل له : انهق ، فينهق كما ينهق الحمار.

وفي دلائل النبوة من طريق هشام عن أبيه عن عائشة قالت : «قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة وهي أوبأ أرض الله ، وواديها بطحان نجل يجري عليه الأثل» قال هشام : وكان وباؤها معروفا في الجاهلية ، وكان إذا كان الوادي وبيا فأشرف عليه الإنسان قيل له : انهق نهيق الحمار ، فإذا فعل ذلك لم يضره وباء ذلك الوادي ، قال الشاعر حين أشرف على المدينة :

لعمري لئن عشّرت من خيفة الرّدى

نهيق الحمار إنني لجزوع

قالت عائشة : فاشتكى أبو بكر ، الحديث.

ثنية الوداع

وروى ابن شبة عن عامر بن جابر قال : كان لا يدخل المدينة أحد إلا من طريق واحد ، من ثنية الوداع ، فإن لم يعشّر بها ـ أي : ينهق كالحمار عشرة أصوات في طلق واحد ـ مات قبل أن يخرج منها ، فإذا وقف على الثنية قيل : قد ودع ، فسميت ثنية الوداع ، حتى قدم عروة بن الورد العبسي ، فقيل له : عشر بها ، فلم يعشر ، وأنشأ يقول :

لعمري لئن عشّرت من خشية الردى

نهاق الحمار إنني لجزوع

ثم دخل فقال : يا معشر يهود ، ما لكم وللتعشير؟ قالوا : إنه لا يدخلها أحد من غير أهلها فلم يعشّر بها إلا مات ، ولا يدخلها أحد من غير ثنية الوداع إلا قتله الهزال ، فلما ترك عروة التعشير تركه الناس ودخلوا من كل ناحية.

__________________

(١) أضرعته الحمّى : أوهنته.

٥٣

تحويل الوباء من دلائل النبوة

وتحويل الوباء من أعظم المعجزات ؛ إذ لا يقدر عليه جميع الأطباء ، وفي البخاري حديث «رأيت امرأة سوداء ثائرة الرأس خرجت من المدينة حتى نزلت مهيعة ، فتأولتها أن وباء المدينة نقل إلى مهيعة» وفي الأوسط للطبراني نحوه ، وفي كتاب ابن زبالة «أصبح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما ، فجاءه إنسان كأنه قدم من ناحية طريق مكة ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل لقيت أحدا؟ قال : لا ، إلا امرأة سوداء عريانة ثائرة الشعر ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : تلك الحمى ، ولن تعود بعد اليوم أبدا» وفيه أيضا حديث : «اللهم حبّب إلينا المدينة ، وانقل وباءها إلى مهيعة ، وما بقي منه فاجعله تحت ذنب مشعط» وحديث : «إن كان الوباء في شيء من المدينة فهو في ظل مشعط». قال المجد : هو جبل أو موضع بالمدينة. قلت : سيأتي عن ابن زبالة في المنازل أن بني حديلة ابتنوا أطمين أحدهما يقال له «مشعط» كان موضعه في غربي مسجد بني حديلة ، وفي موضعه بيت يقال له بيت أتى نبيه ، ثم أورد عقبه الحديث المذكور ، فأفاد أنه هو المراد ، وفيه أيضا حديث : «أصح المدينة من الحمى ما بين حرّة بني قريظة والعريض» وهو يؤذن ببقاء شيء من الحمى بالمدينة ، وأن الذي نقل عنها أصلا ورأسا سلطانها وشدتها ووباؤها وكثرتها بحيث لا يعد ما بقي بالنسبة إليه شيئا ، ويحتمل أنها رفعت أولا بالكلية ، ثم أعيدت خفيفة لئلا يفوت ثوابها كما أشار إليه الحافظ بن حجر ، ويدل له ما روى أحمد برجال الصحيح وأبو يعلى وابن حبان في صحيحه عن جابر : استأذنت الحمى على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : من هذه؟ فقالت : أم ملدم ، فأمر بها إلى أهل قباء ، فلقوا ما لا يعلمه إلا الله تعالى ، فأتوه فشكوا ذلك إليه ، فقال : ما شئتم ، إن شئتم دعوت الله ليكشفها عنكم ، وإن شئتم تكون لكم طهورا ، قالوا : أو تفعل؟ قال : نعم ، قالوا : فدعها» ورواه الطبراني بنحوه ، وقال فيه : «إن شئتم تركتموها وأسقطت بقية ذنوبكم ، قالوا : فدعها يا رسول الله» وروى أحمد ورجاله ثقات حديث : أتاني جبريل بالحمى والطاعون فأمسكت الحمى بالمدينة ، وأرسلت الطاعون بالشام ، فالطاعون شهادة لأمتي ورحمة لهم ورجز على الكفار» والأقرب أن هذا كان في آخر الأمر بعد نقل الحمى بالكلية ، لكن قال الحافظ ابن حجر : لما دخل صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة كان في قلة من أصحابه ، فاختار الحمى لقلة الموت بها على الطاعون لما فيها من الأجر الجزيل ، وقضيتها إضعاف الأجساد ، فلما أمر بالجهاد دعا بنقل الحمى إلى الجحفة ، ثم كانوا من حينئذ من فاتته الشهادة بالطاعون ربما حصلت له بالقتل في سبيل الله ، ومن فاته ذلك حصلت له

٥٤

الحمى التي هي حظ المؤمن من النار ، ثم استمر ذلك بالمدينة ، يعني بعد كثرة المسلمين تمييزا لها على غيرها ، انتهى ، وهو يقتضي عود شيء من الحمى إليها بآخرة الأمر ، والمشاهد في زماننا عدم خلوها عنها أصلا ، لكنه كما وصف أولا ، بخلاف الطاعون ، فإنها محفوظة عنه بالكلية كما سيأتي ، والأقرب أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما سأل ربه تعالى لأمته أن لا يلبسهم شيعا ولا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعه ذلك فقال في دعائه : «فحمى إذا أو طاعونا» أراد بالدعاء بالحمى للموضع الذي لا يدخله طاعون كما سنشير إليه في الفصل الآتي ؛ فيكون ما بالمدينة اليوم ليس هو حمى الوباء ، بل حمى رحمة بدعائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما سنوضحه ، والله أعلم.

الفصل الخامس

في عصمتها من الدجال والطاعون

حراسة المدينة من الدجال والطاعون

روينا في الصحيحين وغيرهما حديث «على أنقاب المدينة ملائكة يحرسونها ، لا يدخلها الطاعون ولا الدجال» وفيهما أيضا حديث «ليس من بلد إلا سيطؤها الدجال ، إلا مكة والمدينة ، ليس نقب من أنقابها إلا عليه ملائكة صافين يحرسونها ، فينزل السبخة ، ثم ترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات ، فيخرج إليه كل كافر ومنافق» وفي رواية «فيأتي سبخة الجرف ، فيخرج إليه كل منافق ومنافقة» وفي البخاري حديث «لا يدخل المدينة رعب المسيح ، لها يومئذ سبعة أبواب على كل باب ملكان» وفي مسلم حديث «يأتي المسيح من قبل المشرق وهمته المدينة حتى ينزل دبر أحد ، ثم تصرف الملائكة وجهه قبل الشام ، وهناك يهلك» وفي الصحيحين «قصة خروج الرجل الذي هو خير الناس ، أو من خير الناس ، من المدينة إلى الدجال إذا نزل بعض سباخها فيقول له : أشهد أنك الدجال الذي حدثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» الحديث بطوله.

قال معمر فيما رواه أبو حاتم : يرون هذا الرجل هو الخضر عليه‌السلام.

وروى أحمد والطبراني في الأوسط ورجال أحمد رجال الصحيح عن جابر بن عبد الله قال : «أشرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على فلق (١) من أفلاق الحرة ونحن معه ، فقال : نعم الأرض المدينة ، إذا خرج الدجال ، على كل نقب من أنقابها ملك لا يدخلها ، فإذا كان ذلك رجفت المدينة بأهلها ثلاث رجفات لا يبقى منافق ولا منافقة إلا خرج إليه ، وأكثرهم ـ يعني من يخرج إليه ـ النساء ، وذلك يوم التخليص ، ذلك يوم تنفي المدينة الخبث كما ينفي

__________________

(١) الفلق : الطريق المطمئن بين الربوتين.

٥٥

الكير خبث الحديد ، يكون معه سبعون ألفا من اليهود ، على كل رجل منهم ساج وسيف محلى ؛ فيضرب قبته بهذا المضرب الذي بمجتمع السيول» الحديث بطوله ، ولفظ الطبراني «يا أهل المدينة ، اذكروا يوم الخلاص ، قالوا : وما يوم الخلاص؟ قال : يقبل الدجال حتى ينزل بذباب ، فلا يبقى في المدينة مشرك ولا مشركة ، ولا كافر ولا كافرة ، ولا منافق ولا منافقة ، ولا فاسق ولا فاسقة إلا خرج إليه ، ويخلص المؤمنون ، فذلك يوم الخلاص» وروى أحمد برجال الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يوم الخلاص ، وما يوم الخلاص؟ ثلاثا ، فقيل له : وما يوم الخلاص؟ قال : يجيء الدجال فيصعد أحدا فيقول لأصحابه :أترون هذا القصر الأبيض؟ هذا مسجد أحمد ، ثم يأتي المدينة فيجد بكل نقب منها ملكا مصلتا ، فيأتي سبخة الجرف ، فيضرب رواقه ، ثم ترجف المدينة ثلاث رجفات ، فلا يبقى منافق ولا منافقة ولا فاسق ولا فاسقة إلا خرج إليه ، فذلك يوم الخلاص» وقال الحافظ ابن حجر : إن أحمد والحاكم أخرجا من رواية محجن بن الأدرع رفعه «يجيء الدجال فيصعد أحدا فيطلع فينظر إلى المدينة فيقول لأصحابه : ألا ترون إلى هذا القصر الأبيض؟ هذا مسجد أحمد ، ثم يأتي المدينة فيجد في كل نقب من أنقابها ملكا مصلتا سيفه» وبقيته بلفظ الحديث المذكور ، إلا أنه قال في آخره : «فتخلص المدينة ، فذلك يوم الخلاص» والمراد بالرواق الفسطاط ، ولابن ماجه من حديث أبي أمامة «ينزل عند الطريق الأحمر عند منقطع السبخة» ولأحمد من حديث ابن عمر «ينزل الدجال في هذه السبخة بمرقناة» أي : ممرها ، وفي عقيق المدينة للزبير بن بكار عن أبي هريرة «ركب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى مجتمع السيول ، فقال : ألا أخبركم بمنزل الدجال من المدينة؟ ثم قال : هذا منزله ، يريد المدينة ، لا يستطيعها ، يجدها متمنطقة بالملائكة ، على كل نقب من أنقابها ملك شاهر سلاحه ، لا يدخلها الدجال ولا الطاعون ، فيزلزل بالمدينة وبأصحاب الدجال زلزلة ، لا يبقى منافق ولا منافقة إلا خرج إليه ، وأكثر من يتبعه النساء ، فلا يعجز الرجل أن يمسك سفيهته».

قلت : يستفاد منه أن المراد من قوله في الأحاديث المتقدمة : فترجف المدينة يعني بسبب الزلزلة ، فلا يشكل بما تقدم من أنه لا يدخل المدينة رعب المسيخ الدجال فيستغنى عما جمع به بعضهم من أن الرعب المنفي هو أن لا يحصل لمن بها بسبب قربه منها خوف ، أو هو عبارة عن غايته ، وهو غلبته عليها ، والمراد بالرجفة إشاعة مجيئه وأن لا طاقة لأحد به ؛ فيتسارع حينئذ عليه من كان يتصف بالنفاق أو الفسق ، قاله الحافظ ابن حجر ، وما قدمناه أولى.

وفي الأوسط للطبراني حديث «ينزل الدجال حذو المدينة ، فأول من يتبعه النساء والإماء» وفي حديث رواه أحمد والطبراني واللفظ له ورجاله ثقات في وصف الدجال «ثم

٥٦

يسير حتى يأتي المدينة ، ولا يؤذن له فيها ، فيقول : هذه قرية ذاك الرجل ، ثم يسير حتى يأتي الشام فيهلكه الله عزوجل عند عقبة أفيق» وروى أبو يعلى حديث الجساسة المشهور في الصحيح بإسنادين أحدهما رجاله رجال الصحيح وزاد فيه «هو المسيح تطوى له الأرض في أربعين يوما ، إلا ما كان من طيبة ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وطيبة المدينة ، ما باب من أبوابها إلا وملك مصلت سيفه يمنعه ، وبمكة مثل ذلك» وفي البخاري والترمذي حديث «المدينة يأتيها الدجال فيجد الملائكة يحرسونها فلا يقربها الدجال ولا الطاعون إن شاء الله تعالى».

وروى أحمد ورجاله ثقات وابن شبة برجال الصحيح حديث «المدينة ومكة محفوفتان بالملائكة ، على كل نقب منها ملك لا يدخلها الدجال ولا الطاعون» ، وروى أحمد مرسلا وابنه متصلا وكذا الطبراني ورجاله ثقات حديث «ذكر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجل خرج من بعض الأرياف ، حتى إذا كان قريبا من المدينة ببعض الطريق أصابه الوباء ؛ ففزع الناس ؛ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إني لأرجو أن لا يطلع علينا نقابها» يعني : المدينة ؛ ونقابها وأنقابها : طرقها وفجاجها ؛ واحدها نقب ، بكسر النون.

وقوله في الرواية المتقدمة «فلا يقربها الدجال ولا الطاعون» فيقتضي جواز دخول الطاعون المدينة ، ويرده الجزم في سائر الأحاديث ، والصواب حفظها منه كما هو المشاهد.

وقد استشكل قرن الدجال بالطاعون مع أن الطاعون شهادة ورحمة فكيف يتمدح بعدمه؟

والجواب من وجوه : أحدها : أن كونه كذلك ليس لذاته ، وإنما المراد ترتب ذلك عليه ، وقد ثبت تفسيره من رواية أحمد «بوخز أعدائكم من الجن» ؛ فيكون الإشارة بذلك إلى أن كفار الجن وشياطينهم ممنوعون من الطعن ، كما أن الدجال ممنوع منها ، ألا ترى أن قتل الكافر المسلم شهادة ، ولو ثبت لمحل أن الكفار لا تسلط عليه لحاز بذلك غاية الشرف ، ثانيها : أن أسباب الرحمة لم تنحصر في الطاعون ، وقد عوضهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنه الحمى حيث اختارها عند ما عرضا عليه كما تقدم ، وهي مطهرة للمؤمن وحظه من النار ، والطاعون يأتي في بعض الأعوام ، والحمى تتكرر في كل حين ، فيتعادلان ، وفيه نظر ؛ لأن تكثير أسباب الرحمة مطلوب ، ولأنه لا يدفع إشكال التمدح بعدمه ، ثالثها : أنه وإن اشتمل

٥٧

على الرحمة والشهادة فقد ورد أن سببه أشياء تقع من الأمة كظهور بعض المعاصي ، وقد روى أحمد بأسانيد حسان وصحاح عن شرحبيل بن حسنة وغيره «أنه ـ يعني الطاعون ـ رحمة ربكم ، ودعوة نبيكم ، وموت الصالحين قبلكم» وروى أحمد أيضا تفسير كونه دعوة نبيكم عن أبي قلابة بأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأل ربه عزوجل ألا يهلك أمته بستة ، فأعطيها ، وسأله ألا يسلط عليهم عدوّا من غيرهم ، فأعطيها ، وسأله ألا يلبسهم شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض ، فمنعه ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعائه : فحمى إذا أو طاعونا» كرره ثلاثا ؛ فقد تضمن الطاعون نوعا من المؤاخذة ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا به ليحصل كفاية إذاقة بعضهم بأس بعض ، ويكون هلاكهم حينئذ بسبب لا يعصون به ، بل يثابون ؛ فحفظ الله تعالى بلد نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الطاعون المشتمل على الانتقام إكراما لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجعل لهم الحمى المضعفة للأبدان عن إذاقة بعضهم بأس بعض والمطهرة لهم ؛ فقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «فحمى إذا» أي : للموضع الذي لا يدخله الطاعون ، بل عصم منه وهو جواره الشريف ، وقوله «أو طاعونا» أي للموضع الذي لم يعصم منه ، وهو سائر البلاد ، هذا ما ظهر لي في فهم هذه الأحاديث ، وهو يقتضي شرف الحمى الواقعة بالمدينة وفضلها ؛ لأنها دعوة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورحمة ربنا أيضا ؛ لأنها من لازم دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأنها جعلت في مقابلة الطاعون الذي هو رحمة لغيرهم ؛ فتكون الحمى رحمة لهم ؛ فهي غير حمى الوباء الذاهبة من المدينة ، رابعها ـ ذكره الحافظ ابن حجر نقلا عن القرطبي ـ وهو أن المعنى لا يدخل إلى المدينة من الطاعون مثل الذي وقع في غيرها كطاعون عمواس (١) ، قال الحافظ ابن حجر : وهو يقتضي أن الطاعون يدخلها في الجملة ، وليس كذلك ؛ فقد جزم ابن قتيبة وتبعه جمع جم من آخرهم النووي بأن الطاعون لا يدخل المدينة أصلا ، ولا مكة أيضا ، لكن نقل جماعة أنه دخل مكة في الطاعون العام سنة تسع وأربعين وسبعمائة ، بخلاف المدينة فلم يذكر أحد قط أنه دخلها أصلا ، ثم ذكر الحافظ ابن حجر الحديث المتقدم المشتمل على ذكر مكة أيضا ، ثم قال : وعلى هذا فالذي نقل أنه وجد بمكة ليس كما ظن ناقله كونه طاعونا ، بل وباء ، وهو أعم من الطاعون ، أو يجاب بجواب القرطبي المتقدم ، قال : ولعله بنى جوابه على أن الطاعون ما ينشأ عن فساد الهوى فيقع به الموت الكثير ، وليس كذلك ؛ ففي الصحيح قول أبي الأسود : قدمت المدينة وهم يموتون بها موتا ذريعا ؛ فهذا وقع بالمدينة وهو وباء ، ولكن الشأن في تسميته طاعونا ، قال : والحق أن المراد بالطاعون في هذه الأحاديث الذي ينشأ

__________________

(١) عمواس : كورة من فلسطين بالقرب من بيت المقدس.

٥٨

عن طعن الجن فيهيج به الدم في البدن فيقتل ، فهذا لم يدخل المدينة قط. قلت : نقل الزركشي عن القرطبي أنه فسر الطاعون بالموت العام الفاشي ، وهو صريح في أنه أراد ما فهمه عنه الحافظ ابن حجر ، ويرده قوله في الحديث المتقدم «حتى إذا كان قريبا من المدينة ببعض الطريق أصابه الوباء فأفزع الناس» فإن المراد فيه بالوباء الطاعون المعروف بعلاماته عندهم ، وإلا فموت الشخص الواحد لا يفزع ولا يسمى موتا عاما ، ويبعد جعل الموت العام بمجرده شهادة ، وقد أخبر بعض الأولياء بمشاهدة الجن يقظة يطعنون الناس في بعض سني الطاعون ، ورأيته أنا كذلك مناما ، ورأيت أن بيني وبينهم حائلا ، فحماني الله منه في تلك السنة ، على أنه لو سلّم أن المراد ما ذكره القرطبي فالإشكال المتقدم باق ؛ إذ يقال : لم لم يكثر بالمدينة وهو رحمة؟ فالحق ما قدمناه ، وهذا ـ كما قال بعضهم ـ من المعجزات العظيمة المستمرة التي هي من أعلام نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن الأطباء بأجمعهم قد عجزوا عن دفع الطاعون عن بلد ما في دهر من الدهور. وقد امتنع الطاعون عن المدينة هذه الدهور الطويلة ، مع أنه يقع بالحجاز الشريف ، ويدخل قرية الينبع وجدة والفرع والصفراء والخيف وغير ذلك من الأماكن القريبة من المدينة ، ولا يدخلها هي كما شاهدنا ذلك في طاعون أواخر سنة إحدى وثمانين وثمانمائة مع أوائل التي بعدها ؛ فإنه عم أكثر الأماكن القريبة من المدينة ، وكثر بجدة ، واختلف في دخوله مكة ، والذي تحققناه كثرة الموت بها في ذلك الزمان ، وكثرت الحمى بالمدينة ، لكن لم يكثر بها موت ، وبالجملة فهي محفوظة منه أتم الحفظ ؛ فلله الحمد والمنة.

الفصل السادس

في الاستشفاء بترابها ، وبتمرها ، وما جاء فيه

ما جاء في أن ترابه شفاء

روينا في كتاب ابن النجار والوفاء لابن الجوزي حديث «غبار المدينة شفاء من الجذام» وفي جامع الأصول لابن الأثير وبيّضا لمخرجه عن سعد رضي‌الله‌عنه قال : «لما رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تبوك تلقاه رجال من المخلّفين من المؤمنين ، فأثاروا غبارا ، فخمر ـ أو فغطى ـ بعض من كان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنفه ، فأزال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اللثام عن وجهه ، وقال : والذي نفسي بيده إن في غبارها شفاء من كل داء» قال : وأراه ذكر «ومن الجذام والبرص» وقد أورده كذلك رزين العبدري في جامعه ، وهو مستند ابن الأثير في إيراده ، قال الحافظ المنذري : ولم أره في الأصول.

٥٩

الاستشفاء بتراب صعيب

وروى ابن رزين أيضا عن ابن عمر نحوه ، إلا أنه قال : «فمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يده فأماطه عن وجهه ، وقال : أما علمت أن عجوة المدينة شفاء من السقم ، وغبارها شفاء من الجذام» ورواه ابن زبالة مختصرا عن صيفي بن أبي عامر ، ولفظه «والذي نفسي بيده إن تربتها لمؤمنة ، وإنها شفاء من الجذام» وروي أيضا عن أبي سلمة : بلغني أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «غبار المدينة يطفي الجذام». قلت : وقد رأينا من استشفى بغبارها من الجذام ، وكان قد أضرّ به كثيرا ؛ فصار يخرج إلى الكومة البيضاء ببطحان بطريق قباء ويتمرغ بها ويتخذ منها في مرقده ، فنفعه ذلك جدّا. وروى ابن زبالة ويحيى بن الحسن بن جعفر العلوي وابن النجار كلاهما من طريقه «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى بلحارث ، فإذا هم روبى (١) ، فقال : ما لكم يا بني الحارث روبى؟ قالوا : أصابتنا يا رسول الله هذه الحمى ، قال : فأين أنتم عن صعيب؟ قالوا : يا رسول الله ما نصنع به؟ قال : تأخذون من ترابه فتجعلونه في ماء ، ثم يتفل عليه أحدكم ويقول : بسم الله ، تراب أرضنا ، بريق بعضنا ، شفاء لمريضنا ، بإذن ربنا ، ففعلوا ، فتركتهم الحمى» قال ابن النجار عقبه : قال أبو القاسم طاهر بن يحيى العلوي : صعيب : وادي بطحان دون الماجشونية ، وفيه حفرة مما يأخذ الناس منه ، وهو اليوم إذا وبأ إنسان أخذ منه. قلت : قد رأيت ذلك في نسخة كتاب يحيى التي رواها ابنه طاهر بن يحيى عنه ، والماجشونية هي الحديقة المعروفة اليوم بالمدشونية ، وقال ابن النجار عقبه : وقد رأيت أنا هذه الحفرة اليوم ، والناس يأخذون منها ، وذكروا أنهم قد جربوه فوجدوه صحيحا ، قال :وأخذت أنا منه أيضا. قلت : وهذه الحفرة موجودة اليوم ، مشهورة سلفا عن خلف ، يأخذ الناس منها وينقلونه للتداوي ، وقد بعثت منها لبعض الأصحاب أخذا مما ذكروه في أخذ نبات الحرم للتداوي ، ثم رأيت الزركشي قد قال : ينبغي أن يستثنى من منع نقل تراب الحرم تربة حمزة رضي‌الله‌عنه ؛ لإطباق السلف والخلف على نقلها للتداوي من الصداع ، فقلت عند الوقوف عليه : أين هو من تراب صعيب لما قدمناه فيه؟ بخلاف ما ذكره إذ لا أصل له ، وذكر المجد أن جماعة من العلماء ذكروا أنهم جربوا تراب صعيب للحمى فوجدوه صحيحا ، قال : وأنا بنفسي سقيته غلاما لي مريضا من نحو سنة تواظبه الحمى ، فانقطعت عنه من يومه ، وذكر المجد أيضا في موضع آخر كيفية الاستشفاء به أنه يجعل في الماء ويغتسل به ، وكذا ذكره الجمال المطري عند ذكر صعيب فقال : وفيه حفرة يؤخذ من ترابها ويجعل في الماء ويغتسل به من الحمى. قلت : فينبغي أن يجعل في الماء ثم يتفل عليه ، وتقال الرقية الواردة ، ثم يجمع بين الشرب والغسل منه ، ويستأنس للغسل بما رويناه عن جزء وأبي مسعود بن

__________________

(١) روبى : (ج) روبان : من فترت نفسه من نعاس ومرض ، فاختلط عقله ورأيه من شدة الإعياء.

٦٠