وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى - ج ١

نور الدين علي بن أحمد السّمهودي

وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى - ج ١

المؤلف:

نور الدين علي بن أحمد السّمهودي


المحقق: خالد عبد الغني محفوظ
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3818-9
الصفحات: ٢٩٤

قلت : وكأنهما إذا توجها نحو البيت الحرام ينزل إليهما الملكان قبل ذهابهما ؛ فلا يخالف ما تقدم ، فالظاهر أن ما ذكره القاضي هو الترك الأول ، وسببه فيما يظهر كائنة الحرة ، وقد تقدم من حديث أبي هريرة أنه قيل له : من يخرجهم منها يا أبا هريرة؟ قال : أمراء السوء ، وروى الشيخان ـ واللفظ لمسلم ـ عن أبي هريرة مرفوعا «يهلك أمتي هذا الحي من قريش ، قالوا : فما تأمرنا؟ قال : لو أن الناس اعتزلوهم».

وروى مسلم عن حذيفة رضي‌الله‌عنه قال : «قام فينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقاما ما ترك شيئا يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدث به ، حفظه من حفظه ونسيه من نسيه» الحديث ، وفي رواية عنه : أخبرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما هو كائن إلى أن تقوم القيامة ، فما من شيء إلا قد سألته ، إلا أني لم أسأله ما يخرج أهل المدينة من المدينة ، وروى الترمذي حديثا «إذا مشت أمتي المطيطا (١) ، وخدمتهم بنات فارس والروم ، رد الله بأسهم بينهم ، وسلط شرارهم على خيارهم». وروى ابن شبة عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : «والذي نفسي بيده ليكونن بالمدينة ملحمة يقال لها الحالقة ، لا أقول حالقة الشعر ، ولكن حالقة الدين ، فاخرجوا من المدينة ولو على قدر بريد».

وروى ابن أبي شيبة عنه أنه قال : اللهم لا تدركني سنة ستين ، ولا إمرة الصبيان ، يشير إلى أن أول الأغيلمة كان في سنة ستين ، وهو كذلك ، كما قاله الحافظ ابن حجر ، فإن يزيد بن معاوية استخلف فيها ، فأشار إلى دولة يزيد وفيها كانت وقعت الحرة ، وتسمى حرة واقم ، وحرة زهرة.

وروى الواقدي في كتاب الحرة عن أيوب بن بشير المعادي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «خرج سفرا من أسفاره ، فلما مر بحرة زهرة وقف واسترجع ، فسيء بذلك من معه ، فظنوا أن ذلك من أمر بسفرهم ، فقال عمر بن الخطاب : يا رسول الله ، ما الذي رأيت؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أما إن ذلك ليس من سفركم هذا ، قالوا : فما هو يا رسول الله قال؟ يقتل في هذه الحرة خيار أمتي بعد أصحابي».

وروي أيضا عن سفيان بن أبي أحمد قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أشرف على بني عبد الأشهل أشار بيده ، فقال : «يقتل بهذه الحرة خيار أمتي» وروي أيضا عن كعب قال : نجد في التوراة أن في حرة شرقي المدينة مقتلة تضيء وجوههم يوم القيامة صنعا» وروى أيضا أنه ذكر عند ابن عباس قتلى الحرة ، فقال ابن عباس : يرحمهم‌الله ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يقتل بحرة زهرة خيار أمتي».

__________________

(١) المطيطاء : التبختر في المشي ومد اليدين.

١٠١

وروى البيهقي في الدلائل خبر أيوب بن بشير المتقدم ، ثم قال : هذا مرسل وقد روي عن ابن عباس في تأويل قوله تعالى : (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها) [الأحزاب : ١٤] قال : لأعطوها ، يعني إدخال بني حارثة أهل الشام على أهل المدينة. ورواه بالسند إلى ابن عباس وقال : إنه مؤكد لمرسل ابن بشير ، وسيأتي في حرة واقم ما رواه ابن زبالة من أن السماء مطرت على عهد عمر رضي‌الله‌عنه ، فخرج مع أصحابه حتى أتوا حرة واقم وشراجها تطرد ، فقال كعب : أما والله يا أمير المؤمنين لتسيلن هذه الشراج بدماء الناس كما تسيل بهذا الماء ، فدنا منه ابن الزبير فقال : يا أبا إسحاق ومتى ذلك؟ فقال : إياك أن تكون على رجلك أو يدك!

وروى ابن زبالة عن كعب أيضا : إنا نجد في كتاب الله : حرة شرقي المدينة يقتل بها مقتله تضيء وجوههم يوم القيامة كما يضيء القمر ليلة البدر.

وقعة الحرة

قلت : وسياق كلام القرطبي يقتضي أنها هي السبب في خروج أهل المدينة المذكور في كلام عياض ؛ فإنه ذكر نحو كلام عياض ، وقال : فلما انتهى حالها ـ يعني المدينة ـ كمالا وحسنا تناقص أمرها إلى أن أقفرت جهاتها ، وتوالت الفتن فيها ؛ فخاف أهلها ، فارتحلوا عنها ، ووجّه يزيد بن معاوية مسلم بن عقبة المري في جيش عظيم من أهل الشام ، فنزل بالمدينة ، فقاتل أهلها ، فهزمهم وقتلهم بحرة المدينة قتلا ذريعا ، واستباح المدينة ثلاثة أيام ، فسميت وقعة الحرة لذلك ، ويقال لها : حرة زهرة ، وكانت الوقعة بموضع يعرف بواقم على ميل من المسجد النبوي ، فقتل بقايا المهاجرين والأنصار وخيار التابعين ، وهم ألف وسبعمائة ، وقتل من أخلاط الناس عشرة آلاف سوى النساء والصبيان ، وقتل بها من حملة القرآن سبعمائة رجل ، ومن قريش سبعة وتسعون قتلوا ظلما في الحرب صبرا ، قال : وقال الإمام الحافظ ابن حزم في المرتبة الرابعة : وجالت الخيل في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالت ، وراثت بين القبر والمنبر أدام الله تشريفها وأكرهوا الناس أن يبايعوا ليزيد على أنهم عبيد له إن شاء باع وإن شاء أعتق ، وذكر له يزيد بن عبد الله بن زمعة البيعة على حكم القرآن والسنة ، فأمر بقتله ، فضربت عنقه صبرا ، وذكر الأخباريون أنها خلت من أهلها ، وبقيت ثمارها للعوافي كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي حال خلائها غذت الكلاب على سواري المسجد ، انتهى كلام القرطبي.

سبب نقمة يزيد بن معاوية على أهل المدينة

وروى الطبراني في خبر طويل عن عروة بن الزبير قال : لما مات معاوية رضي‌الله‌عنه تثاقل عبد الله بن الزبير عن طاعة ابنه يزيد ، وأظهر شتمه ، فبلغ ذلك يزيد ، فأقسم لا

١٠٢

يؤتى به إلا مغلولا ، وإلا أرسل إليه ، فقيل لابن الزبير : ألا نصنع لك أغلالا من فضة تلبس عليها الثوب وتبر قسمه فالصلح أجمل بك؟ قال : فلا أبرّ الله قسمه ، ثم قال :

ولا ألين لغير الحق أسأله

حتى يلين لضرس الماضغ الحجر

ثم دعا إلى نفسه ، فوجه إليه يزيد بن معاوية مسلم بن عقبة المري في جيش أهل الشام ، وأمرهم بقتال أهل المدينة ، فإذا فرغ من ذلك صار إلى مكة ، قال : فدخل مسلم بن عقبة المدينة ، وهرب منه يومئذ بقايا أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعاث فيها ، وأسرف في القتل ، ثم خرج منها ، فلما كان في بعض الطريق مات واستخلف حصين بن نمير الكندي ، ثم ذكر حصاره ابن الزبير ، ورميه بالمنجنيق ، واحتراق الكعبة ، قال : وبلغ حصين بن نمير موت يزيد بن معاوية فهرب.

قلت : وسبب أمر يزيد بقتال أهل المدينة ما ذكره الإمام ابن الجوزي قال : لما دخلت سنة اثنين وستين ولّى يزيد عثمان بن محمد بن أبي سفيان المدينة ، فبعث إلى يزيد وفدا من المدينة ، فلما رجع الوفد أظهروا شتم يزيد ، وقالوا : قدمنا من عند رجل ليس له دين ، يشرب الخمر ، ويعزف بالطنابير ، ويلعب بالكلاب ؛ وإنا نشهدكم أنا قد خلعناه. وقال المنذر : أما وإله لقد أجازني مائة ألف درهم ، ولا يمنعني ما صنع أن أصدقكم عنه ؛ والله إنه يشرب الخمر ، وإنه ليسكر حتى يدع الصلاة ؛ ثم بايعوا لعبد الله بن حنظلة الغسيل ؛ وأخرجوا عثمان بن محمد عامل يزيد ؛ وكان ابن حنظلة يقول : يا قوم ؛ ما خرجنا على يزيد حتى خفت أن نرمى بالحجارة من السماء ؛ والله لو لم يكن معي أحد من الناس لأبليت الله فيه بلاء حسنا ؛ وكانت قصة الحرة سنة ثلاث وستين ؛ وفي هذه السنة أخرج أهل المدينة عامل يزيد المتقدم ذكره.

قلت : وفي كتاب الحرة للواقدي ما ملخصه : أن أول ما هاج أمر الحرة أن ابن ميناء كان عاملا على صوافي (١) المدينة ـ وبها يومئذ صواف كثيرة ـ حتى كان معاوية يجد بالمدينة وأعراضها مائة ألف وسق وخمسين ألف وسق ، ويحصد مائة ألف وسق حنطة ، واستعمل يزيد على المدينة عثمان بن محمد بن أبي سفيان ؛ وأن ابن ميناء أقبل بشرج له من الحرة يريد الأموال التي كانت لمعاوية ؛ فلم يزل يسوقه ولا يصده عنه أحد حتى انتهى إلى بلحارث بن الخزرج ، فنقب النقيب فيهم ، فقالوا : ليس ذلك لك ، هذا حدث وضرر علينا ، فأعلم الأمير عثمان بن محمد بذلك ، فأرسل إلى ثلاثة من بلحارث ، فأجابوه إلى أن يمر به ، فأعلم ابن ميناء فغدا بأصحابه فذبّوهم (٢) ، فرجع إلى الأمير فقال : اجمع لهم

__________________

(١) الصوافي : الأملاك ، والأرض مات أهلها ولا وارث لها. و ـ الضياع كان يستخلصها السلطان لخاصته.

(٢) ذبّ عنه : دفع عنه ومنع.

١٠٣

من قدرت ، وبعث معه بعض جند ، وقال : مر به ولو على بطونهم ، فغدا ابن ميناء متطاولا عليهم ، وعدا من يذبهم من الأنصار ، ورفدتهم قريش (١) فذبوهم حتى تفاقم الأمر ؛ فرجع ولم يعمل شيئا. وكتب عثمان بن محمد إلى يزيد يخبره بذلك ، ويحرضه على أهل المدينة جميعا ؛ فاستشاط غضبا ؛ وقال : والله لأبعثن إليهم الجيوش ، ولأوطئنها الخيل. انتهى.

وقال ابن الجوزي : قال أبو الحسن المدائني ـ وكان من الثقات ـ : أتى أهل المدينة المنبر فخلعوا يزيد ، فقال عبد الله بن أبي عمرو بن حفص المخزومي : قد خلعت يزيد كما خلعت عمامتي ، ونزعها عن رأسه ، إني لأقول هذا وقد وصلني وأحسن جائزتي ، ولكن عدو الله سكر. وقال آخر : قد خلعته كما خلعت نعلي ؛ حتى كثرت العمائم والنعال.

ثم ولوا على قريش عبد الله بن مطيع ؛ وعلى الأنصار عبد الله بن حنظلة. ثم حاصر القوم من كان بالمدينة من بني أمية في دار مروان. فكتب مروان ومن معه إلى يزيد : إنا قد حصرنا ومنعنا العذب ، فيا غوثاه. فوصل الكتاب إليه. فبعث إلى مسلم بن عقبة ـ وهو شيخ كبير ـ فجاء حتى دخل عليه ، وقال له : اخرج وسر بالناس ، فخرج مناديه ، فنادى : أن تسيروا إلى الحجاز على أخذ أعطياتكم كملا ومعونة مائة دينار توضع في يد الرجل من ساعته. فانتدب لذلك اثنا عشر ألف رجل. وكتب يزيد إلى ابن مرجانة أن اغز ابن الزبير ، فقال : لا والله لا أجمعها للفاسق أبدا قتل ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإغزاء البيت وقال يزيد لمسلم : إن حدث بك حادث فاستخلف حصين بن نمير السكوني. وقال له : ادع القوم ثلاثا ، فإن هم أجابوك وإلا فقاتلهم ، وإذا ظهرت عليهم فأبحها ثلاثا بما فيها من مال أو سلاح أو طعام فهو للجند ، فإذا مضت الثلاث فاكفف عنهم ، وانظر علي بن الحسين فاستوص به ، فإنه لم يدخل في شيء مما دخلوا فيه ، فلما بلغ أهل المدينة إقبال الحصين وثبوا على من كان محصورا من بني أمية ، وقالوا : لا نكف عنكم حتى نضرب أعناقكم أو تعطونا عهد الله وميثاقه ألا تبغوا غائلة (٢) ، ولا تدلوا لنا على عورة ، ولا تظاهروا علينا عدوا ، فاعطوهم العهد على ذلك ، فأخرجوهم من المدينة ، فخرجوا حتى لقوا مسلم بن عقبة ، وأرسل إليه مروان ابنه عبد الملك فأشار عليه أن يأتيهم من ناحية الحرة ، وأن ينتظرهم ثلاثا ففعل ، فلما مضت الثلاث قال : يا أهل المدينة ، ما تصنعون؟ قالوا :

__________________

(١) رفدتهم قريش : أعانتهم وساعدتهم على طردهم.

(٢) الغائلة (ج) غوائل : الفساد والشر.

١٠٤

نحارب ، قال : لا تفعلوا وادخلوا في الطاعة ، قالوا : لا نفعل ، وكانوا قد اتخذوا خندقا ، فنزل منهم جماعة ، وحمل ابن الغسل على الخيل حتى كشفها ، وقاتلوا قتالا شديدا ، وجعل مسلم يحرض أصحابه ، وكان به مرض ؛ فنصب له سرير بين الصفين وقال : قاتلوا عن أميركم ؛ وأباح مسلم المدينة ثلاثا يقتلون الناس ويأخذون الأموال ، ورفعوا على النساء ؛ وقاتل عبد الله بن مطيع حتى قتل هو وبنون له سبعة ؛ وبعث برأسه إلى يزيد ؛ فأفزع ما جرى من بالمدينة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ونقل الواقدي أن القوم لما قربوا تشاور أهل المدينة في الخندق خندق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ وشكوا المدينة بالبنيان من كل ناحية ؛ وعملوا في الخندق خمسة عشر يوما ، وكان لقريش ما بين راتج إلى مسجد الأحزاب ، والأنصار ما بين مسجد الأحزاب إلى بني سلمة ، وللموالي ما بين راتج إلى بني عبد الأشهل ، فلما وصل القوم عسكروا بالجرف ، وبعثوا رجالا من رجالهم ، فأحدقوا بالمدينة من كل ناحية ، فما يجدون مدخلا ، والناس متلبسون السلاح قد قاموا على أفواه الخنادق يرمون بالنبل والحجارة ، وجلس مسلم بناحية واقم ، فرأى أمرا هائلا ، فاستعان بمروان وكان وعده بوجه في ذلك لما لقيه بوادي القرى ؛ فخرج مروان حتى جاء بني حارثة ، فكلم رجلا منهم ورغبه في الصنيعة (١) ، وقال : تفتح لنا طريقا فاكتب بذلك إلى يزيد فيصل أرحامكم ، ففتح لهم طريقا من قبلهم حتى أدخل له الرجال من بني حارثة إلى بني عبد الأشهل ، وجاء الخبر عبد الله بن حنظلة وكان بناحية الصورين في أصحابه ، وأقبل عبد الله بن مطيع وكان من ناحية ذباب ، وأقبل ابن هريرة في الموالي يطوف بهم على الخنادق ، وأقبل ابن ربيعة وكان من ناحية بطحان ، فاجتمعوا جميعا من حيث يدخل أهل الشام ، قال محمود بن لبيد : قد حضرت يومئذ ، فإنما أتينا من قومنا بني حارثة ، وكان مروان حين أخرج عمل به عمل قبيح ، فكلم رجلا فأدخله ومعه فارس ثم جعلت الخيل تتحدر على أثره ، وقد وقفنا بني عبد الأشهل فقاتلنا ما وجدنا حتى عاينا الموت وكثرت القوم وتفرق الناس فقتلوا في كل وجه.

وروى الواقدي أيضا أن قصر بني حارثة كان أمانا لمن أراد أهل الشام أن يؤمنوه ، وكانت بنو حارثة آمنين ، وأول دار انتهبت والحرب بعد لم ينقطع دار بني عبد الله الأشهل ، انتهى.

وأخرج ابن أبي خيثمة بسند صحيح إلى جويرية بن أسماء : سمعت أشياخ أهل

__________________

(١) الصنيعة : كل ما عمل من خير أو إحسان. (ج) صنائع.

١٠٥

المدينة يتحدثون أن معاوية رضي‌الله‌عنه لما احتضر دعا يزيد فقال له : إن لك من أهل المدينة يوما ، فإن فعلوا فارمهم بمسلم بن عقبة فإني عرفت نصيحته ، فلما ولي يزيد وفد عليه عبد الله بن حنظلة وجماعة ، فأكرمهم وأجازهم ، فرجع فحرض الناس على يزيد ، وعابه ، ودعاهم إلى خلع يزيد ، فأجابوه ، فبلغ ذلك يزيد ، فجهز إليهم مسلم بن عقبة ، فاستقبلهم أهل المدينة بجموع كثيرة ، فهابهم أهل الشام وكرهوا قتالهم ، فلما نشب القتال سمعوا في جوف المدينة التكبير ؛ وذلك أن بني حارثة أدخلوا قوما من الشاميين من جانب المدينة ، فترك أهل المدينة القتال ، ودخلوا المدينة خوفا على أهليهم ، فكانت الهزيمة ، وقتل من قتل ، وبايع مسلم الناس على أنهم خول (١) ليزيد يحكم في دمائهم وأموالهم وأهليهم بما شاء ، انتهى.

وأخرج يعقوب بن سفيان في تاريخه بسند صحيح عن ابن عباس قال : جاء تأويل هذه الآية على رأس ستين سنة (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها) [الأحزاب : ١٤] يعني إدخال بني حارثة أهل الشام على أهل المدينة في وقعة الحرة ، قال يعقوب : وكانت وقعة الحرة سنة ثلاث وستين ، اه.

قالوا : وكلمات امرأة مسلم بن عقبة في ولدها ، وقالت : أنا مولاتك ، وابني في الأسر ؛ فقال : عجلوه لها ؛ فضربت عنقه وقال : أعطوها رأسه ، أما ترضين ألّا تقتلي حتى تكلمي في ابنك؟!

قلت : وسموه مسرفا لإسرافه في القتل.

ونقل الواقدي في كتاب الحرة أن يزيد دخل على مسرف وكان قد جعله في علية لمرضه ؛ فقال له : لو لا مرضك لكنت أنت صاحب هذا الأمر ، لما أعرف نصيحتك ، قال مسرف : أنشدك الله يا أمير المؤمنين ألا تولي أمرهم غيري ؛ فإني والله أنا صاحبهم ، رأيت في النوم شجرة غرقد تصيح بأغصانها : يا ثارات عثمان ، فأقبلت وجعلت الشجرة تقول : على يدي مسلم بن عقبة ، حتى جئتها فأخذتها ، فعبرت ذلك أني أكون القائم بأمر عثمان ؛ فهم قتلته ، قال يزيد : فسر إليهم على بركة الله ، فأنت صاحبهم ، وانظر إذا قدمت المدينة ، فمن عاقك عن دخولها أو نصب لك حربا فالسيف السيف ، لا تبق فيهم ، وأنهبها ثلاثا ، وأجهز على جريحهم ، واقتل مدبرهم ، وإياك أن تبقي عليهم ، وإن لم يعرضوا لك فامض إلى ابن الزبير.

وروى ابن الجوزي من طريق المدائني عن جويرية أن مسلما نظر إلى قتلى الحرة فقال : لئن دخلت النار بعدها إني لشقي ، وأسر أسرى فحبسهم ثلاثة أيام لم يطعموا ،

__________________

(١) الخول : عطيّة الله من النعم والعبيد والإماء وغيرهم من الأتباع والحشم.

١٠٦

وجاءوا بسعيد بن المسيب فقالوا : بايع ، فقال : أبايع على سيرة أبي بكر وعمر ، فأمر بضرب عنقه ، فشهد رجل أنه مجنون ، فخلى عنه.

عدد القتلى في وقعة الحرة

وعن المدائني أيضا عن شيخ من أهل المدينة قال : سألت الزهري : كم كانت القتلى يوم الحرة؟ قال : سبعمائة من وجوه الناس قريش والأنصار والمهاجرين ، ومن وجوه الموالي وممن لا يعرف من عبد وحر وامرأة عشرة آلاف ، وكانت الوقعة لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين.

وفي كتاب الحرة للواقدي قال : حدثني عبد الله بن جعفر قال : سألت الزهري : كم قتل من الناس يومئذ؟ قال : أما من وجوه الناس فأكثر من سبعمائة من قريش والأنصار ووجوه الموالي ، ثم عدّد علي من قتل حتى ما كنت أرى أنه بقي أحد إلا قتل يومئذ ، ثم قال الزهري : ولقد قتل ممن لا يعرف من الموالي والعبيد والصبيان والنساء أكثر من عشرة آلاف ، ودخلوها لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين.

قلت : وقال القرطبي لليلتين بقيتا من ذي الحجة ، وعن الأقشهري عن أبي معشر والواقدي أنها يوم الأربع لليلتين خلتا من ذي الحجة ، قلت : ولم أره في كتاب الواقدي ، ولعله سبق قلم ، والله أعلم.

وذكر المجد أنهم سبوا الذرية ، واستباحوا الفروج ، وأنه كان يقال لأولئك الأولاد من النساء اللاتي حملن : أولاد الحرة ، قال : ثم أحضر الأعيان لمبايعة يزيد ، فلم يرض إلا أن يبايعوه على أنهم عبيد يزيد ، فمن تلكأ أمر بضرب عنقه ، وجاءوا بعلي بن عبد الله بن عباس ، فقال الحصين بن نمير : يا معشر اليمن عليكم ابن أختكم ، فقام معه أربعة آلاف رجل ، فقال لهم مسلم : أخلعتم أيديكم من الطاعة؟ فقالوا : أما فيه فنعم ، فبايعه على أن ابن عم يزيد ، انتهى.

وعن المدائني أيضا عن محمد بن عمر قال : قال ذكوان مولى مروان : شرب مسلم بن عقبة دواء بعد ما أنهب المدينة ، ودعا بالغداء ، فقال له الطبيب : لا تعجل فإني أخاف عليك إن أكلت قبل أن تكمل الدواء ، قال : ويحك! إنما كنت أحب البقاء حتى أشفي نفسي من قتلة عثمان ، فقد أدركت ما أردت ، فليس شيء أحب إلي من الموت على طهارتي ؛ فإني لا أشك أن الله قد طهّرني من ذنوبي بقتل هؤلاء الأرجاس.

قلت : هذا من عظيم حمقه ، قاتله الله وأشقاه! فإن هذا مما يزيد في عظيم جرمه.

١٠٧

من قتل من الصحابة يوم الحرة

وممن قتل صبرا يومئذ من الصحابة : عبد الله بن حنظلة الغسيل ـ قال ابن حزم : قتل مع ثمانية من بنيه ـ وعبد الله بن زيد حاكي وضوء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعقل بن سنان الأشجعي ـ وكان شهد فتح مكة ، وكان معه راية قومه يومئذ ـ وفيه يقول الشاعر :

ألا تلكم الأنصار تبكي سراتها

وأشجع تبكي معقل بن سنان

ومحمد بن عمرو بن حزم الأنصاري ، وقد ذكر ابن جرير الطبري الإمام أن عبد الله بن الغسيل كان يقول :

بعدا لمن رام الفساد وطغى

وجانب القصد وأسباب الهدى

لا يبعد الرحمن إلا من عصى

ثم تقدم فقاتل حتى قتل ، وقتل معه أخوه لأمه محمد بن ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري ، وأبوه كان خطيب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين ورد وفد تميم ، وجعل مسلم بن عقبة يطوف على القتلى ومعه مروان بن الحكم ، حتى مر على عبد الله بن الغسيل وهو ماد أصبعه السبابة ، فقال مروان : أما والله لئن نصبتها ميتا لطالما نصبتها حيا.

وروى عن محمد بن كعب القرظي قال : قال مروان لعبد الله بن حنظلة الغسيل وقد رآه مشيرا بإصبعه وقد يبست : لئن أشرت بها ميتا لطالما دعوت وتضرعت بها إلى الله تعالى ، فقال رجل من أهل الشام : إن كان هو كما تقول فما دعوتنا إلا لقتل أهل الجنة ، فقال مروان : خالفوا ونكثوا.

وفي الذيل على ابن النجار للعراقي : ذكر محمد بن سعد في الطبقات أن مروان بن الحكم كان يحرض مسلم بن عقبة على أهل المدينة ، وجاء معه معينا له حتى ظفر بهم ، وانتهبت المدينة ، فلما قدم مروان على يزيد شكر له ذلك وأدناه.

وروى ابن الجوزي بسنده إلى سعيد بن المسيب قال : ما أصلي لله تعالى صلاة إلا دعوت على بني مروان.

وبسنده أيضا إليه قال : لقد رابني ليالي الحرة ما في المسجد أحد من خلق الله غيري ، وإن أهل الشام ليدخلون زمرا يقولون : انظروا إلى هذا الشيخ المجنون ، ولا يأتي وقت صلاة إلا سمعت أذانا من القبر ، ثم أقيمت الصلاة فتقدمت فصليت وما في المسجد أحد غيري.

وبسنده أيضا إلى المدائني عن أبي قرة قال : قال هشام بن حسان : ولدت بعد الحرة ألف امرأة من غير زوج.

١٠٨

وعن المدائني أيضا عن أبي عبد الرحمن القرشي عن خالد الكندي عن عمته أم الهيثم بنت يزيد قالت : رأيت امرأة من قريش تطوف ، فعرض لها أسود فعانقته وقبلته ، فقلت : يا أمة الله ، أتفعلين هذا بهذا الأسود؟ فقالت : هو ابني ، وقع علي أبوه يوم الحرة.

ونقل العراقي في ذيله عن شيخه أبي المظفر السمعاني أنه روي بسنده إلى أبي غزية الأنصاري قال : كان قوم من أهل المدينة يجتمعون في مجلس لهم بالليل يسهرون فيه ، فلما قتل الناس قتلوا ونجا منهم رجل فجاء إلى مجلسه فلم يحس منهم أحدا ، ثم جاء الليلة الثانية فكذلك ، ثم جاء الثالثة فكذلك ، فتمثل بهذا البيت :

ألا ذهب الكماة وخلّفوني

كفى حزنا بذكرى للكماة

قال : فنودي من المجلس :

فدع عنك الكماة فقد تولّت

ونفسك فابكها قبل الممات

فكلّ جماعة لا بدّ يوما

يفرّق بينها شعب الشّتات

وروى الطبراني عن أبي هارون العبدي قال : رأيت أبا سعيد الخدري رضي‌الله‌عنه ممعط اللحية (١) ، فقلت : تعبث بلحيتك؟ قال : لا ، هذا ما لقيت من ظلمة أهل الشام ، دخلوا زمن الحرة ، فأخذوا ما كان في البيت من متاع أو خرثي (٢) ، ثم دخلت طائفة أخرى فلم يجدوا في البيت شيئا فأسفوا أن يخرجوا بغير شيء ، فقالوا : أضجعوا الشيخ ، فجعل كل يأخذ من لحيتي خصلة.

حرق مسلم بن عقبة والخلاف فيه

وروي أيضا عن محمد بن سعيد خبرا قال فيه : فلما جاء يزيد خلاف ابن الزبير ودعاؤه إلى نفسه دعا مسلم بن عقبة المري وقد أصابه الفالج وقال : إن أمير المؤمنين ـ يعني أباه ـ عهد إلي في مرضه إن رابني من أهل الحجاز ريب أن أوجهك إليهم ، وقد رابني ، فقال : إني كما ظن أمير المؤمنين ، اعقد لي وعبّ الجيوش ، قال : فورد المدينة فأباحها ثلاثا ، ثم دعا إلى بيعة يزيد على أنهم أعبد له قن في طاعة الله ومعصيته ، فأجابوه إلى ذلك ، إلا رجلا واحدا من قريش أمه أم ولد ، فقال له : بايع ليزيد على أنك عبد في طاعة الله ومعصيته ، قال : بل في طاعة الله ، فأبى أن يقبل ذلك منه ، فقتله ، فأقسمت أمه قسما لئن أمكنها من مسلم حيا أو ميتا أن تحرقه بالنار ، فلما خرج مسلم بن عقبة من المدينة اشتدت علته فمات ، فخرجت أم القرشي بأعبد لها إلى قبر مسلم ، فأمرت به أن ينبش من عند رأسه فلما وصلوا إليه إذا بثعبان قد التوى على عنقه قابضا بأرنبة أنفه

__________________

(١) ممعط اللحية : تساقط شعرها من داء ونحو ذلك.

(٢) الخرثى : أثاث البيت ، أو أردأ المتاع والغنائم.

١٠٩

يمصها ، قال : فكاع (١) القوم عنه ، وقالوا : يا مولاتنا انصرفي فقد كفاك الله شره ، وأخبروها ، فقالت : لأوفين الله بما وعدته ، ثم قالت : انبشوه من عند الرجلين ، فنبشوا ، فإذا بالثعبان لاو ذنبه برجليه ، قال : فتنحت وصلت ركعتين ، ثم قالت : اللهم إنك تعلم أني إنما غضبت على مسلم بن عقبة اليوم لك فخل بيني وبينه ، ثم تناولت عودا فمضت إلى ذنب الثعبان فانسل من مؤخر رأسه فخرج من القبر ، ثم أمرت به ؛ فأخرج من القبر ثم أحرق بالنار.

قلت : وفي كتاب الحرة للواقدي أن الثابت بالبلد عندنا أن مسرفا لما دفن بثنية المشلل (٢) وكانت أم ولد ليزيد بن عبد الله بن ربيعة تسير وراء العسكر بيومين أو ثلاثة حتى جاءها الخبر بذلك ، فانتهت إليه ، فنبشته ثم صلبته على المشلل ، قال الضحاك : فحدثني من رآه مصلوبا يرمى كما يرمى قبر أبي رغال.

وحدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد عن عبد الرحمن بن الحارث قال : والله ما خلصت إليه ، ولقد نبشت عنه ولكنها لما انتهت إلى لحده وجدت أسود من الأساود منطويا على رقبته فاتحا فاه ، فانصرفت عنه.

وقال ابن الجوزي : لما دخلت سنة أربع وستين ـ وقد فرغ مسلم من قتال أهل المدينة ـ سار متوجها إلى مكة ، واستخلف على المدينة روح بن زنباع ، وسار إلى ابن الزبير ؛ فمات في الطريق.

قلت : وذلك مصداق ما جاء في من يقصد أهل المدينة بسوء ؛ فأهلكه الله سريعا.

قال القرطبي : أهلكه الله منصرفه عن المدينة ، ابتلاه الله بالماء الأصفر في بطنه ؛ فمات بقديد بعد الوقعة بثلاث ليال.

وقال الطبري : مات بهرشى بعد الوقعة بثلاث ليال ، وكان لحماقته الموفرة يقول عند موته : اللهم إني لم أعمل عملا قط بعد شهادة أن لا إله إلا الله أحب إلي من قتال أهل المدينة ، ولئن دخلت النار بعدها إني لشقي ، ثم دعا حصين بن نمير السكوني وقال له :أمير المؤمنين ولاك بعدي. فأسرع السير ، ولا تؤخر ابن الزبير ، وأمره أن ينصب المجانيق على مكة ، وقال : إن تعوذوا بالبيت فارمه ، وحاصر مكة أربعة وستين يوما جرى فيها قتال

__________________

(١) كاعوا عنه : ابتعدوا عنه.

(٢) المشلل : جبل يهبط منه إلى قديد.

١١٠

شديد ، وقذفت الكعبة بالمجانيق يوم السبت ثالث ربيع الأول ، وأخذ رجل قبسا في رأس رمح فطارت به الريح فاحترق البيت ، فجاءهم نعي يزيد بن معاوية إهلال ربيع الآخر ، وكان بين الحرة وبين موته ثلاثة أشهر ، وقال القرطبي : دون ثلاثة أشهر ؛ لأنه توفي بالذبحة وذات الجنب في نصف ربيع الأول ، فلقد ذاب ذوب الرصاص ، واجترأ أهل المدينة وأهل الحجاز على أهل الشام ، فذلوا حتى كان لا ينفرد منهم رجل إلا أخذ بلجام دابته فنكس عنها ، فقال لهم بنو أمية : لا تبرحوا حتى تحملونا معكم إلى الشام ، ففعلوا ، ومضى ذلك الجيش حتى دخلوا الشام.

وكانت وقعة الحرة ، وقتل الحسين ، ورمي الكعبة بالمنجنيق من أشنع شيء جرى في أيام يزيد.

وقال عبد الرحمن بن سعيد بن زيد أحد العشرة رضي‌الله‌عنهم :

فإن تقتلونا يوم حرّة واقم

فنحن على الإسلام أول من قتل

ونحن قتلناكم ببدر أذلة

وأبنا بأسلاب لنا منكم نفل

فإن ينج منها عائذ البيت سالما

فكلّ الذي قد نابنا منكم جلل (١)

يعني بعائذ البيت عبد الله بن الزبير.

وهذه الكائنة غير الإغزاء المذكور في حديث البيداء ؛ ولهذا روى ابن شبة عن أبي المهزم عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : يجيء جيش من قبل الشام حتى يدخل المدينة ، فيقتلون المقاتلة ، ويبقرون بطون النساء ، ويقولون : الحبلى في البطن : اقتلوا صبابة الشر ، فإذا علوا البيداء من ذي الحليفة خسف بهم فلا يدرك أسفلهم أعلاهم ولا أعلاهم أسفلهم ، قال أبو المهزم : فلما جاء جيش ابن ذبحة قلنا : هم ، فلم يكونوا هم.

قلت : وقد جاء في بعض الأخبار بيان أن ذلك الجيش جيش السفياني ، يبعثه لقتال المهدي.

وقال يحيى بن سعيد : لم تترك الصلاة في هذا المسجد منذ كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا ثلاثة أيام : يوم قتل عثمان ، ويوم الحرة ، قال مالك : ونسيت الثالث ، وفي العتبية عن مالك أنه بلغه ذلك عن سعيد بن المسيب بمعناه ، قال ابن رشد : واليوم الثالث الذي ذكر مالك أنه نسيه ، قال محمد بن عبد الحكم : هو يوم خرج به أبو حمزة الخارجي ، وكان خروجه ـ فيما ذكروا ـ في دولة مروان بن محمد بن مروان بن الحكم آخر خلفاء بني أمية.

__________________

(١) الجلل : هيّن يسير. و ـ الشيء الكبير العظيم.

١١١

مسير أبي حمزة إلى المدينة

قال خليفة بن خياط : سار أبو حمزة في أول سنة ثلاثين ومائة ، يريد المدينة ، واستخلف على مكة إبراهيم بن الصباح الحميري ، وجعل على مقدمته فلح بن عقبة السعدي ، وخرج أهل المدينة والتقوا بقديد يوم الخميس لتسع خلون من صفر سنة ثلاثين ومائة ، وفلح في ثلاثين ألف فارس ، فقال لهم : خلوا طريقنا فنأتي هؤلاء الذين بغوا علينا وجاروا في الحكم فإنا لا نريد قتالكم ، فأبوا ؛ فقاتلوهم فانهزم أهل المدينة ، وجاءهم أبو حمزة فقال له علي بن الحصين : اتبع هؤلاء القوم ، وأثخن على جريحهم ، فإن لكل زمان حكما ، والإثخان في مثل هؤلاء أمثل ، قال : ما أرى ذلك ، ومضى أبو حمزة إلى المدينة فدخلها يوم الإثنين لثلاث عشر خلت من صفر ، ففي يوم دخوله إياها ـ والله أعلم ـ خلي مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أن يجمع فيه ، وأصيب من قريش يومئذ ثلاثمائة رجل ، ومن آل الزبير اثنا عشر رجلا ، فما سمع الناس بواكي أوجع للقلوب من بواكي قديد ، ما بقي بالمدينة أهل بيت إلا فيهم بكاء ، وقالت نائحة تبكيهم :

ما للزمان وما ليه

أفنى قديد رجاليه

فلأبكينّ سريرة

ولأبكين علانيه

قلت : وذكر الذهبي عن خليفة بن خياط في خبر أبي حمزة هذا ما ملخصه : أن عبد الله بن يحيى الأعور الكندي المسمى طالب الحق ـ بعد أن ملك حضرموت وصنعاء ـ بعث إلى مكة أبا حمزة الخارجي الأباضي المذكور ، فخاف عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك ـ وكان واليا على مكة والمدينة ـ وخذله أهل مكة ، ففارقها في النفر الأول ، وقصد المدينة ، فغلب أبو حمزة على مكة ، ثم سار منها بعد أن استخلف عليها ، فلقي بقديد الجيش الذي أرسله عبد الواحد بن سليمان لقتاله ، فظفر أبو حمزة ، وسار إلى المدينة فدخلها ، وقتل فيها جماعة منهم أربعون رجلا من بني عبد العزى ، وجهز إليه مروان عسكرا ، فلقي بوادي القرى فلحا ، وهو على مقدمة أبي حمزة ، فاقتتلوا ، فقتل فلح وعامة أصحابه ، ثم أدركوا أبا حمزة بمكة ، فقتلوه في خلق من أصحابه ، ثم ساروا لطالب الحق فقتلوه ، انتهى ملخصا.

قلت : ولا يحتمل أن ما نقل عن الأخباريين في الخروج من المدينة إنما كان في هذه الكائنة أو قبل ذلك كله في كائنة بسر بن أرطأة ، فإن القرطبي قال : وذكر أبو عمرو الشيباني قال : لما وجه معاوية رضي‌الله‌عنه بسر بن أرطأة لقتل شيعة علي رضي‌الله‌عنه

١١٢

سار إلى أن أتى المدينة ، فقتل ابني عبيد الله بن العباس رضي‌الله‌عنهما ، وفر أهل المدينة حتى دخلوا الحرة حرة بني سليم ، ولكنه بعيد ، والأقرب ما قدمناه ، والله أعلم.

الفصل السادس عشر

في ظهور نار الحجاز التي أنذر بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فظهرت بأرض المدينة وأطفأها الله تعالى عند وصولها إلى حرمها ، كما سنوضحه.

الأحاديث الواردة في هذه النار

روينا في مسند أحمد برجال ثقات عن أبي ذر قال : أقبلنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرأينا ذا الحليفة ، فتعجل رجال إلى المدينة ، وبات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبتنا معه ، فلما أصبح سأل عنهم ، فقيل : تعجلوا إلى المدينة ، فقال : «تعجلوا إلى المدينة والنساء ، أما إنهم سيدعونها أحسن ما كانت» ثم قال : «ليت شعري متى تخرج نار بأرض اليمن من جبل الوراق تضيء منها أعناق الإبل ببصرى بروكا كضوء النهار» ورواه ابن شبة من غير ذكر «بأرض اليمن» ولفظه «ليتركنها أحسن ما كانت ، ليت شعري متى تخرج نار من جبل الوراق تضيء لها أعناق الإبل ببصرى بروكا كضوء النهار».

وأخرج الطبراني في آخر حديث لحذيفة بن أسد : وسمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من رومان ـ أو ركوبة ـ تضيء منها أعناق الإبل ببصرى».

قلت : وركوبة كما سيأتي : ثنية قريبة من ورقان ، ولعله المراد بجبل الوراق ، قال الحافظ ابن حجر : ورومان لم يذكره البكري. ولعل المراد رومة البئر المعروفة بالمدينة ، ثم نقل عن البكري أن ركوبة بني المدينة والشام ، وسيأتي رده.

وهذه النار مذكورة في الصحيحين في حديث «لا تقوم الساعة حتى تظهر نار بالحجاز» ، ولفظ البخاري : «تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى».

وروى الطبراني بسند فيه ضعيف عن عاصم بن عدي الأنصاري قال : سألنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حدثنا ما قدم ، فقال : «أين حبس سيل؟» قلنا : لا ندري ، فمر بي رجل من بني سليم ، فقلت : من أين جئت؟ فقال : من حبس سيل ، فدعوت بنعلي ، فانحدرت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : يا رسول الله ، سألتنا عن حبس سيل ، فقلنا : لا علم لنا به ، وإنه مر بي هذا الرجل فسألته فزعم أن به أهله ، فسأله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «أين أهلك؟»

١١٣

فقال : بحبس سيل ، فقال : «أخرج أهلك منها ؛ فإنه يوشك أن تخرج منه نار تضيء أعناق الإبل ببصرى».

وحديث : «يوشك نار تخرج من حبس سيل تسير سير بطيئة الإبل ، تسير النهار وتقيم الليل» الحديث أخرجه أحمد وأبو يعلى من رواية رافع بن بشير السلمي عن أبيه. قال الحافظ الهيثمي : رواه أحمد والطبراني ، ورجال أحمد رجال الصحيح ، غير رافع ، وهو ثقة ، انتهى.

وفي مسند الفردوس عن عمر حديث : «لا تقوم الساعة حتى يسيل واد من أودية الحجاز بالنار يضيء له أعناق الإبل ببصرى» وأخرجه ابن عدي في كامله من طريق عمر بن سعيد التنوخي عن ابن شهاب عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن عمر بن الخطاب رفعه ، وعمر بن سعيد ذكره ابن حبان في الثقات ، وكتبه ابن عدي والدارقطني.

بيان أن المدينة يمانية كما أنها حجازية

وقد ظهرت هذه النار بالمدينة الشريفة كما سنبينه ، ولا إشكال في كون المدينة حجازية ، وأما كونها يمانية فقد نص عليه الشافعي. قال البيهقي في المعرفة : قال الشافعي : ومكة والمدينة يمانيتان. قلت : وقد ذكر الشافعي في الأم حديث : «أتاكم أهل اليمن هم ألين قلوبا» الحديث ، ثم روى «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقف على ثنية تبوك فقال : ما هاهنا شام ، وأشار بيده إلى جهة الشام ، وما هاهنا يمن ، وأشار بيده إلى جهة المدينة» هكذا نقلته من الأم بهذا اللفظ ، وهو في مسند الشافعي بلفظ «ما هاهنا شام ، وأشار بيده إلى الشام ، ومن هاهنا يمن ، وأشار بيده إلى جهة المدينة» قال ابن الأثير في شرحه : الغرض منه بيان حد الشام واليمن ، وقد جعل المدينة من اليمن ، اه. والعجب أن النووي قال في فتاويه : مدينة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليست يمانية ولا شامية ، بل هي حجازية ، قال : وهذا لا خلاف فيه بين العلماء ، وكأنه لم يقف على هذا.

وأما حبس سيل فقد قيل : إن حبس ـ بالضم ثم السكون ـ بين حرة بني سليم والسوارقية ، وقد كان إقبال هذه النار من المشرق في جهة طريق السوارقية كما سيأتي ، وقال نصر : حبس سيل ـ بالفتح ـ إحدى حرتي بني سليم. قلت : وأهل المدينة اليوم

١١٤

يسمون السد الآتي وصفه فيما أحدثته هذه النار بالحبس. وفي كلام ياقوت ما يقتضي أنه كان يسمى بالسد قبل هذه النار ؛ فإنه لم يدركها ، ومع ذلك قال : إن أعلى وادي قناة عند السد يسمى بالشظاة ، اه.

وظهور النار المذكورة بالمدينة الشريفة قد اشتهر اشتهارا بلغ حد التواتر عند أهل الأخبار ، وكان ظهورها لإنذار العباد بما حدث بعدها ؛ فلهذا ظهرت على قرب مرحلة من بلد النذير صلوات الله وسلامه عليه ، وتقدمها زلازل مهولة ، وقد قال تعالى : (وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً) [الإسراء : ٥٩] وقال تعالى : (ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ) [الإسراء : ١٦] ولما ظهرت النار العظيمة الآتي وصفها ، وأشفق منها أهل المدينة غاية الإشفاق ، والتجئوا إلى نبيهم المبعوث بالرحمة ، صرفت عنهم ذات الشمال ، وزاحت عنهم الأوجال ، وظهرت بركة تربته صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أمته ، ولعل الحكمة في تخصيصها بهذا المحل ـ مع ما قدمناه من كونه حضرة النذير ـ الرحمة لهذه الأمة فإنها لو ظهرت بغيره وسلطان القهر والعظمة التي هي من آثاره قائم لربما استولت على ذلك القطر ولم تجد صارفا ؛ فيعظم ضررها على الأمة ، فظهرت بهذا المحل الشريف لحكمة الإنذار ، فإذا تمت قابلتها الرحمة فجعلتها بردا وسلاما ، إلى غير ذلك من الأسرار.

ابتداء الزلزلة التي حدثت بالمدينة

وكان ابتداء الزلزلة بالمدينة الشريفة مستهلّ جمادى الآخرة أو آخر جمادى الأولى سنة أربع وخمسين وستمائة ، لكنها كانت خفيفة لم يدركها بعضهم مع تكررها بعد ذلك ، واشتدت في يوم الثلاثاء على ما حكاه القطب القسطلاني ، وظهرت ظهورا عظيما اشترك في إدراكه العام والخاص ، ثم لما كان ليلة الأربعاء ثالث الشهر أو رابعه في الثلث الأخير من الليل حدث بالمدينة زلزلة عظيمة أشفق الناس منها ، وانزعجت القلوب لهيبتها ، واستمرت تزلزل بقية الليل ، واستمرت إلى يوم الجمعة ولها دوي أعظم من الرعد ، فتموج الأرض ، وتتحرك الجدارات ، حتى وقع في يوم واحد دون ليله ثمانية عشر حركة على ما حكاه القسطلاني.

وقال القرطبي : قد خرجت نار بالحجاز بالمدينة ، وكان بدؤها زلزلة عظيمة في ليلة الأربعاء بعد العتمة الثالث من جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة ، واستمرت إلى ضحى النهار يوم الجمعة فسكنت ، وظهرت بقريظة بطرف الحرة ، ترى في صفة البلد العظيم ، عليها سور محيط عليه شراريف وأبراج وموادن ، وترى رجال يقودونها ، لا تمر على جبل إلا دكته وأذابته ، ويخرج من مجموع ذلك مثل النهر أحمر وأزرق له دوي كدوي الرعد ، يأخذ الصخور بين يديه ، وينتهي إلى محط الركب العراقي ، واجتمع من

١١٥

ذلك ردم صار كالجبل العظيم ، فانتهت النار إلى قرب المدينة ، ومع ذلك فكان يأتي المدينة نسيم بارد ، وشوهد لهذه النار غليان كغليان البحر ، وقال لي بعض أصحابنا : رأيتها صاعدة في الهواء من نحو خمسة أيام ، وسمعت أنها رئيت من مكة ومن جبال بصرى ، اه.

وقال النووي : تواتر العلم بخروج هذه النار عند جميع أهل الشام.

ونقل أبو شامة عن مشاهدة كتاب الشريف سنان قاضي المدينة الشريفة وغيره أن في ليلة الأربعاء ثالث جمادى الآخرة حدث بالمدينة في الثلث الأخير من الليل زلزلة عظيمة أشفقنا منها وباتت في تلك الليلة تزلزل ، ثم استمرت تزلزل كل يوم وليلة مقدار عشر مرات ـ وفي كتاب بعضهم أربع عشرة مرة ـ قال : والله لقد زلزلت مرة ونحن حول الحجرة فاضطرب لها المنبر إلى أن سمعنا منه صوتا للحديد الذي فيه ، واضطربت قناديل الحرم الشريف ، زاد القاشاني : ثم في اليوم الثالث ـ وهو يوم الجمعة ـ زلزلت الأرض زلزلة عظيمة ، إلى أن اضطربت منام المسجد ، وسمع لسقف المسجد صرير عظيم ، قال القطب : فلما كان يوم الجمعة نصف النهار ظهرت تلك النار ، فثار من محل ظهورها في الجو دخان متراكم غشى الأفق سواده ، فلما تراكمت الظلمات وأقبل الليل سطع شعاع النار ، فظهرت مثل المدينة العظيمة في جهة المشرق ، والحكمة في ظهورها في يوم الجمعة غير خافية ، ففي الحديث «من أفضل أيامكم يوم الجمعة : فيه خلق آدم ، وفيه قبض ، وفيه النفخة ، وفيه الصعقة ، فأكثروا عليّ من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة عليّ» الحديث ، وفي الحديث أيضا : «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة : فيه خلق آدم ، وفهي أهبط ، وفيه تيب عليه ، وفيه مات ، وفيه تقوم الساعة ، وما من دابة إلا وهي مصيخة حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقا من الساعة ، إلا الجن والإنس ، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه» رواه أبو داود ، وهو اليوم الذي ادخره الله لهذه الأمة ، وأكمل فيه دينهم ؛ فأراد الله أن يخوف عباده فيه بذلك ليردهم إليه ، فتلك النار نعمة في صورة نقمة ، ولهذا وجلت (١) منها القلوب وأشفقت ، وأيقن الناس أن العذاب قد أحاط بهم. قال القاضي سنان : وطلعت إلى الأمير ـ وكان عز الدين منيف بن شيحة ـ وقلت له : قد أحاط بنا العذاب ، ارجع إلى الله ، فأعتق كل مماليكه ، ورد على الناس مظالمهم ـ زاد القاشاني : وأبطل المكس ـ ثم هبط الأمير للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبات في المسجد ليلة الجمعة وليلة السبت ، ومعه جميع أهل المدينة حتى النساء والصغار ، ولم يبق أحد في النخل إلا جاء إلى الحرم الشريف ، وبات الناس يتضرعون

__________________

(١) وجلت منها القلوب : خافت وفزعت.

١١٦

ويبكون ، وأحاطوا بالحجرة الشريفة كاشفين رءوسهم مقرّين بذنوبهم مبتهلين مستجيرين بنبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال القطب : ولما عاين أمير المدينة ذلك أقلع عن المخالفة ، واعتبر ، ورجع عما كان عليه من المظالم وانزجر ، وأظهر التوبة والإنابة ، وأعتق جميع مماليكه ، وشرع في رد المظالم ، وعزم أهل المدينة على الإقلاع عن الإصرار وارتكاب الأوزار ، وفزعوا إلى التضرع والاستغفار ، وهبط أميرهم من القلعة مع قاضيهم الشريف سنان وأعيان البلد ، والتجئوا إلى الحجرة الشريفة ، وباتوا بالمسجد الشريف بأجمعهم حتى النساء والأطفال ؛ فصرف الله تعالى عنهم تلك النار العظيمة ذات الشمال ، ونجوا من الأوجال ، فسارت تلك النار من مخرجها وسالت ببحر عظيم من النار ، وأخذت في وادي أحيليين وأهل المدينة يشاهدونها من دورهم كأنها عندهم ، ومالت من مخرجها إلى جهة الشمال واستمرت مدة ثلاثة أشهر على ما ذكره المؤرخون.

مدة النار

وذكر القطب القسطلاني في كتاب أفرده لهذه النار ، وهو ممن أدركها ، لكنه كان بمكة فلم يشاهدها : أن ابتداءها يوم الجمعة السادس من شهر جمادى الآخرة ، وأنها دامت إلى يوم الأحد السابع والعشرين من رجب ، ثم خمدت ، فجملة ما أقامت اثنان وخمسون يوما ، لكنه ذكر بعد ذلك أنها أقامت منطفية أياما ، ثم ظهرت ، قال : وهي كذلك تسكن مرة وتظهر أخرى ؛ فهي لا يؤمن عودها ، وإن طفئ وقودها ، انتهى ؛ فكأن ما ذكره المؤرخون من المدة باعتبار انقطاعها بالكلية ، وطالت مدتها ليشتهر أمرها فينزجر بها عامة الخلق ويشهدوا من عظمها عنوان النار التي أنذرهم بها حبيب الحق.

قوة النار

وذكر القسطلاني عمن يثق به أن أمير المدينة أرسل عدة من الفرسان إلى هذه النار للإتيان بخبرها ، فلم تجسر الخيل على القرب منها ، فترجل أصحابها وقربوا منها ، فذكروا أنها ترمي بشرر كالقصر ، ولم يظفروا بجلية أمرها ، فجرد عزمه للإحاطة بخبرها ، فذكر أنه وصل منها إلى قدر غلوتين بالحجر ولم يستطع أن يجاوز موقفه من حرارة الأرض وأحجار كالمسامير تحتها نار سارية ومقابله ما يتصاعد من اللهب ، فعاين نارا كالجبال الراسيات ، والتلال المجتمعة السائرات ، تقذف بزبد الأحجار كالبحار المتلاطمة الأمواج ، وعقد لهيبها

١١٧

في الأفق قتاما حتى ظن الظان أن الشمس والقمر كسفا إذ سلبا بهجة الإشراق في الآفاق ، ولو لا كفاية الله كفتها لأكلت ما تقدم عليه من الحيوان والنبات والحجر ، انتهى.

وذكر الجمال المطري ما يخالف بعض هذا ؛ فإنه قال : أخبرني علم الدين سنجر العزي من عتقاء الأمير عز الدين منيف بن شيحة صاحب المدينة قال : أرسلني مولاي الأمير عز الدين بعد ظهور النار بأيام ، ومعي شخص من العرب ، وقال لنا ونحن فارسان : اقربا من هذه النار ، وانظرا هل يقدر أحد على القرب منها ، فإن الناس يهابونها لعظمها ، فخرجت أنا وصاحبي إلى أن قربنا منها ؛ فلم نجد لها حرا ، فنزلت عن فرسي ، وسرت إلى أن وصلت إليها ، وهي تأكل الصخر والحجر ، فأخذت سهما من كنانتي ، ومددت به يدي إلى أن وصل النصل إليها فلم أجد لذلك ألما ولا حرا ، فعرق النصل ولم يحترق العود ، فأدرت السهم وأدخلت فيها الريش فاحترق الريش ولم يؤثر في العود.

وذكر المطري قبل ذلك أنها كانت تأكل كل ما مرت عليه من جبل وحجر ، ولا تأكل الشجر ، قال : وظهر لي في معنى ذلك أنه لتحريم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شجر المدينة ؛ فمنعت من أكل شجرها لوجوب طاعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم على كل مخلوق.

قلت : وذكر القسطلاني أن هذه النار لم تزل مارة على سبيلها حتى اتصلت بالحرة ووادي الشظاة ، وهي تسحق ما والاها ، وتذيب ما لاقاها من الشجر الأخضر والحصى من قوة اللظى ، وأن طرفها الشرقي أخذ بين الجبال فحالت دونه ثم وقفت ، وأن طرفها الشامي ـ وهو الذي يلي الحرم ـ اتصل بجبل يقال له وعيرة على قرب من شرقي جبل أحد ، ومضت في الشظاة الذي في طرفه وادي حمزة رضي‌الله‌عنه ، ثم استمرت حتى استقرت تجاه حرم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فطفئت ، قال : وأخبرني شخص أعتمد عليه أنه عاين حجرا ضخما من حجارة الحرة كان بعضه خارجا عن حد الحرم ، فعلقت بما خرج منه ، فلما وصلت إلى ما دخل منه في الحرم طفئت وخمدت ، انتهى.

وهذا أولى بالاعتماد من كلام المطري ؛ لأن المطري لم يدرك هذه النار وإن أدرك من أدركها ، بخلاف القطب فإنه أدركها ، واعتنى بجمع أخبارها ، وأفردها بالتصنيف ، ولم يقف عليه المطري ، وهذا أبلغ في الإعجاز ، حيث لم تدخل هذه النار حرمه الشريف ؛ إذ هي للإنذار والتخويف وهو نبي الرحمة صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ضوء النار

وقد نقل أبو شامة عن مشاهدة كتاب القاضي سنان الحسيني أن سيل النار انحدر مع وادي الشظاة حتى حاذى جبل أحد ، وكادت النار تقارب حرة العريض وخاف الناس منها خوفا عظيما ، ثم سكن قتيرها الذي يلي المدينة ، وطفئت مما يلي العريض بقدرة الله

١١٨

تعالى ، فرجعت تسير في الشرق ، وهو مؤيد لما ذكره القطب ، ومشاهدة آثارها اليوم تقضي بذلك.

قال المطري : وأخبرني بعض من أدركها من النساء أنهن كن يغزلن على ضوئها بالليل على أسطحة البيوت بالمدينة الشريفة.

وقال القسطلاني : إن ضوءها استوى على ما بطن من القيعان (١) ، وظهر من القلاع ، حتى كأن الحرم النبوي عليه الشمس مشرقة ، وجملة أماكن المدينة بأنوارها محدقة ، ودام على ذلك لهبها حتى تأثر له النيران ، وصار نور الشمس على الأرض تعتريه صفرة ، ولونها من تصاعد الالتهاب يعتريه حمرة ، والقمر كأنه قد كسف من اضمحلال نوره ، قال : وأخبرني جمع ممن توجه للزيارة على طريق المشيان أنهم شاهدوا ضوءها على ثلاثة مراحل للمجدّ ، وآخرون أنهم شاهدوها من جبال ساية.

قلت : نقل أبو شامة عن مشاهدة كتاب الشريف سنان قاضي المدينة أن هذه النار رئيت من مكة ومن الفلاة جميعها ، ورآها أهل ينبع.

قال أبو شامة : وأخبرني بعض من أثق به ممن شاهدها بالمدينة أنه بلغه أنه كتب بتيماء على ضوئها الكتب.

وقال المجد : والشمس والقمر في المدة التي ظهرت بها ما يطلعان إلا كاسفين.

قال أبو شامة : وظهر عندنا بدمشق أثر ذلك الكسوف من ضعف النور على الحيطان ، وكنا حيارى من سبب ذلك ، إلى أن بلغنا الخبر عن هذه النار ، وكل من ذكر هذه النار يقول في آخر كلامه : وعجائب هذه النار وعظمتها يكلّ (٢) عن وصفها البنان والأقلام ، وتجل عن أن يحيط بشرحها البيان والكلام ؛ فظهر بظهورها معجزة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لوقوع ما أخبر به وهي هذه النار ؛ إذ لم تظهر من زمنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبلها ولا بعدها نار مثلها.

هل رؤيت النار ببصرى

وقال القسطلاني : إن جاء من أخبر برؤيتها ببصرى فلا كلام ، وإلا فيحتمل أن يكون ذكر ذلك في الحديث على وجه المبالغة في ظهورها ، وأنها بحيث ترى ، وقد جاء من أخبر أنه أبصرها بتيماء ، وبصرى منها مثل ما هي من المدينة في البعد.

قلت : قد تقدم عن القرطبي أنه بلغه أنها رئيت من جبال بصرى ، وصرح الشيخ عماد الدين بن كثير بما يقتضي أنه أضاءت من هذه النار أعناق الإبل ببصرى ، فقال : أخبرني قاضي القضاة صدر الدين الحنفي قال : أخبرني والدي الشيخ صفي الدين مدرس مدرسة

__________________

(١) القيعان : (ج) قاع ، أرض سهلة مستوية مطمئنة عما يحيط بها من الجبال والآكام ، تنصبّ إليها مياه الأمطار فتمسكها ثم تنبت العشب.

(٢) كلّ : كلولا وكلالة : ضعف وعجز.

١١٩

بصرى أنه أخبره غير واحد من الأعراب صبيحة الليلة التي ظهرت فيها هذه النار ممن كان يحاضره ببلد بصرى أنهم رأوا صفحات أعناق إبلهم في ضوء تلك النار ، فقد تحقق بذلك أنها الموعود بها ، والحكمة في إنارتها بالأماكن البعيدة من هذا المظهر الشريف حصول الإنذار ، ليتم به الانزجار ، كما اتفق لأهل المدينة ، وفي هذا المعنى يقول قائلهم :

يا كاشف الضّرّ صفحا عن جرائمنا

لقد أحاطت بنا يا ربّ بأساء

نشكو إليك خطوبا لا نطيق لها

حملا ونحن بها حقا أحقّاء (١)

زلازلا تخشع الصّمّ الصّلاب لها

وكيف تقوى على الزلزال شمّاء (٢)

أقام سبعا يرجّ الأرض فانصدعت

عن منظر منه عين الشمس عشواء

بحر من النار تجري فوقه سفن

من الهضاب لها في الأرض إرساء

ترمي لها شررا كالقصر طائشة

كأنها ديمة تنصبّ هطلاء

تنشقّ منها بيوت الصخر إن زفرت

رعبا ، وترعد مثل السعف أضواء

منها تكاثف في الجو الدخان إلى

أن عادت الشمس منه وهي دهماء

قد أثرت سعفة في البدر لفحتها

فليلة التم بعد النور عمياء

تحدت النيرات السبع ألسنها

بما تلاقي بها تحت الثرى الماء

وقد أحاط لظاها بالبروج إلى

أن صار يلفحها بالأرض أهواء

فباسمك الأعظم المكنون إن عظمت

منا الذنوب وساء القلب أسواء

فاسمح وهب وتفضل بالرضى كرما

وارحم فكلّ لفرط الجهل خطّاء

فقوم يونس لما آمنوا كشف الت

عذيب عنهم وعمّ القوم نعماء

ونحن أمة هذا المصطفى ، ولنا

منه إلى عفوك المرجو دعّاء

هذا الرسول الذي لولاه ما سلكت

محجة في سبيل الله بيضاء

فارحم وصلّ على المختار ما خطبت

على علا منبر الأوراق ورقاء

مبدأ ظهور النار

قال المؤرخون : وكان ظهور هذه النار من صدر واد يقال له وادي الأحيليين وقال البدر بن فرحون : إنها سالت في وادي أحيليين ، وموضعها شرقي المدينة على طريق السوارقية مسيرة من الصبح إلى الظهر.

قال القطب القسطلاني : ظهرت في جهة المشرق على مرحلة متوسطة من المدينة في

__________________

(١) الحقيق : الحريص.

(٢) الشماء : المراد بها الجبال أو المكان المرتفع.

١٢٠