ترحال في الجزيرة العربية - ج ٢

جون لويس بوركهارت

ترحال في الجزيرة العربية - ج ٢

المؤلف:

جون لويس بوركهارت


المترجم: صبري محمّد حسن
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المركز القومي للترجمة
الطبعة: ١
ISBN: 977-437-388-X
الصفحات: ٢٨٩
الجزء ١ الجزء ٢

صغيرة يحصل عليها خدم المسجد ، فإنهم يسمحون للزوار بالمساعدة فى إشعال المصابيح ، وهناك عدد كبير من الحجاج الأجانب يتطلعون إلى القيام بهذا العمل ، الذى يعتقدون أنه مأجور ، كما أن الطواشية يثنون ويمتدحون من يقومون بهذا العمل ، لكن لا يسمح للزوار بأى حال من الأحوال بالمشاركة فى إشعال المصابيح التى توضع داخل الحجرة. على جوانب المنبر ، وعلى جوانب المحرابين ، يجرى وضع شموع كبيرة ، ويصل سمك الواحدة منها إلى سمك جسم رجل من الرجال ، يصل طول الواحدة منها إلى اثنى عشر قدما ، ويجرى إشعال هذه الشموع فى المساء باستعمال سلم نقال يجرى إسناده عليها أو بالقرب منها. هذه الشموع تأتى من إسطنبول. كانت زوجة محمد على باشا ، التى تصادف أن كانت فى المدينة (المنورة) فى ذلك الوقت ، قد أحضرت شموعا عدة من هذا القبيل على سبيل الهدية للمسجد ، وقد جرى نقل هذه الشموع الضخمة من ينبع إلى المدينة المنورة بصعوبة بالغة.

المسجد النبوى له أربع بوابات : ١) باب السلام ، وكان يسمى باب مروان (نقلا عن السمهودى) ، وفى الركن الجنوبى الشرقى ، يقع الباب الرئيسى ، الذى يضطر الزائر إلى الدخول منه عند زيارته الأولى ؛ وهذا الباب له مدخل عبارة عن عقد ، وهو أبهى بكثير من باب المسجد الحرام فى مكة ، على الرغم من صغر حجمه قياسا على أى باب من أبواب المساجد التى شاهدتها فى الشرق. جانبا هذا الباب مشغولان بالرخام والقراميد الخزفية مختلفة الألوان ، ومن فوق العقد توجد مجموعة من النقوش البارزة ، بأحرف مذهبة كبيرة ، فوق العقد وعلى جانبيه ، وهذه النقوش تضفى على الباب ومدخله منظرا يسترعى الانتباه. وأمام هذا الباب (البوابة) مباشرة توجد نافورة (حوض) صغيرة يجرى ملؤها ، لكى يتوضأ المصلون منها ، إذا لم يفضلوا الوضوء فى المسجد النبوى نفسه ، حيث يجرى توافر الجرار المليئة بالماء ، والتى تستخدم فى الوضوء. ٢) باب الرحمة ، وكان يسمى من قبل باب عتقة ، وهو فى الحائط الغربى ، ويجرى من خلال هذا الباب إدخال جثث الموتى إلى المسجد للصلاة عليها. ٣) باب الجبر ، وغالبا ما يطلق عليه اسم باب جبريل ، ثم ٤) باب النساء،

١٢١

وهو موجود فى الحائط الشرقى ، وهو أقرب الأبواب إلى قبر ستنا فاطمة ، أما الباب الثانى فيوجد على بعد مسافة قصيرة بعد ذلك.

هناك بضع درجات من درج السلم تربط الشوارع المجاورة بالبوابات (الأبواب) ، والسبب فى ذلك أن منطقة المسجد أعلى مما حولها ، وذلك على العكس مما نراه فى مكة. تغلق أبواب المسجد النبوى بعد ثلاث ساعات من غروب الشمس ، وذلك عن طريق فرد هذه الأبواب المبطنة بالحديد ، ولا يجرى فتح هذه الأبواب إلا قبل الفجر بساعة واحدة ، لكن أولئك الذين يودون الصلاة طول الليل فى المسجد ، يستطيعون الحصول على إذن بذلك من الطواشى القائم بالحراسة ، والذى ينام بالقرب من الحجرة. وفى شهر رمضان يظل المسجد النبوى مفتوحا طول الليل.

توجد أبواب عدة فى الجانبين الشمالى الغربى والشمالى ، وهذه الأبواب تفتح على المسجد ، وهى خاصة ببعض المدارس الملحقة بالمسجد النبوى ، لكنها تخلت حاليا عن تميزها السابق. فى هذا الجانب يجلس الشيوخ المعلمون ويتحلق تلاميذهم حولهم على شكل دوائر ، حيث يقوم هؤلاء المعلمون بتعليم الصبية أسس مبادئ القراءة.

شرطة المسجد النبوى ، ومكتب غسل الحجرة ، والمبنى كله ، وكذلك مكتب إضاءة المصابيح إلخ ، كل هذه الأعمال يعهد بها إلى أربعين طواشيّا أو خمسين ، الذين تضمهم مؤسسة شبيهة بمؤسسة الطواشية فى بيت الله فى مكة (المكرمة) ، لكن الطواشية هنا أصحاب قيمة أكبر ؛ بمعنى أن الطواشية هنا يرتدون ملابس أكثر ثراء ، على الرغم من أن هذه الملابس هى من الطراز نفسه الذى يرتديه الطواشية فى الحرم المكى ؛ الطواشية فى المسجد النبوى عادة ما يلبسون شيلانا من الكشمير ، ملابس من أفخر أنواع الحرير الهندى ، ويبدون كما لو كانوا شخصيات مهمة. هؤلاء الطواشية ، إذا ما مروا خلال السوق ، سارع الجميع إلى تقبيل أيديهم ، وهؤلاء الطواشية لهم نفوذ كبير على الشئون الداخلية فى المدينة (المنورة) ، وهم يتسلمون معاشات سنوية كبيرة تصلهم من إسطنبول عن طريق قافلة الحج السورية ؛

١٢٢

كما يحصل هؤلاء الطواشية على نصيب أيضا من الهبات والتبرعات التى تقدم للمسجد ، كما يتلقون هبات وعطايا من الحجاج الأثرياء ، هذا بالإضافة إلى ما يحصل عليه هؤلاء الطواشية من أتعاب من الزوار الذين يزورون الحجرة. هؤلاء الطواشية يعيشون سويا فى واحد من أفخم أحياء المدينة (المنورة) ، ويقع فى الناحية الشرقية من المسجد ، ويقال إن منازلهم مؤثثة تأثيثا فاخرا أفخم بكثير من أثاث بقية سكان المدينة (المنورة). والكبار من هؤلاء الطواشية يتزوجون من إماء سوداوات أو حبشيات.

الطواشية السود ، تراهم ضعفاء على العكس من طواشية أوروبا ، وملامحهم توحى بالخشونة الشديدة ، ولا تميز فيهم سوى العظام البارزة ، وأيدى هؤلاء الطواشية ، تشبه أيدى الهياكل العظيمة ، ومظهرهم العام مثير للاشمئزاز الشديد. وهم يخفون ضعفهم باستعمال الملابس السميكة ، ومع ذلك تتبدى للرائى ملامحهم وسماتهم العظيمة بشكل واضح ، وعلى نحو يتمكن معه من ينظر إليهم يعرفهم منذ الوهلة الأولى. صوت هؤلاء الطواشية لا يعتريه التغيير ، لكنه لا يمكن أن يصل إلى حد الشبه بصوت الأنثى ، وهذا الصوت ينال إعجاب الكثيرين من المغنين الإيطاليين.

كبير الطواشية يطلقون عليه اسم شيخ الحرم ، وهو أيضا شيخ الجامع ، كما أنه يعد أيضا الشخصية الرئيسية فى المدينة (المنورة) ؛ إذ إن مرتبته أعلى من مرتبة الأغا ، أو شيخ الطواشية فى مكة (المكرمة). رئيس أو شيخ الطواشية هذا ، يوفد من قبل إسطنبول ، وعادة ما يكون عضوا فى بلاد السنيور الكبير الذى يوفده إلى المدينة (المنورة) على سبيل العقاب أو النفى ، متبعا فى ذلك الأسلوب الذى يجرى اتباعه مع الباشوات عند ما يرسلون إلى جدة. شيخ الحرم الحالى ، كان يشغل منصب الكسلار أجاسى ، أو مسئول نساء الإمبراطور سليم ، وتلك واحدة من الاتهامات الأولى الموجهة للبلاط. وأنا لا أستطيع القطع إن كانت شهرة وظيفته السابقة ، والتى يحتفظ بها أعيان الطرق طوال الحياة ، حتى عند ما يجرى تجريدهم منها ، أم شهرة شيخ الحرم هى التى أكسبت هذا الرجل أهميته ، لكن الرجل كان دوما

١٢٣

يجرى تقديمه على طوسون باشا ، الذى كان يحمل رتبة باشا جدة ، وبثلاثة شرائط ، يزاد على ذلك ، أن طوسون باشا كان يقبل يد الشيخ عند ما يلتقيه ، ولقد رأيته بعينى وهو يفعل ذلك فى المسجد. يزاد على ذلك أن شيخ الحرم هذا له بلاط يجرى تكوينه بالطريقة التى يجرى بها تكوين بلاط (حاشية) الباشا ، لكنها أقل عددا من حاشية الباشا. وقد أورد دهسون فى كتابه وصفا دقيقا لملابس شيخ الحرم ؛ ملبس هذا الرجل مكون من بليس (*) جميل وفاخر ، من فوق ثوب حريرى مطرز ، وخنجر مرصع بالماس ، معلق فى وسطه ، وقبعة عالية على رأسه. كان لدى شيخ الحرم الحالى حوالى عشرة خيول ، وشيخ الحرم عند ما يخرج ، يمشى أمامه بعض خدم المسجد ، أو إن شئت فقل : بعض فراشى المسجد ، المسلحين بهراوات غليظة.

كان الوهابيون يحترمون شخص شيخ الحرم ؛ عند ما استولى سعود على المدينة (المنورة) ، سمح له ولعدد كبير من الطواشية ، بالانسحاب إلى ينبع ، ومعه زوجاته ، وأمتعته كلها ، وأشياءه الثمينة ، لكنه رفض استقبال شيخ آخر للحرم ، وهنا قام الطواشية باختيار واحد من بينهم ليكون رئيسا عليهم ، إلى أن تم بعد ثمانى سنوات ، إرسال شيخ الحرم الحالى عن طريق إسطنبول ، لكن نفوذ شيخ الحرم الحالى على شئون المدينة (المنورة) قلّ إلى حد بعيد ، وتحول الرجل إلى مجرد ظل لما كان عليه.

أى واحد من طواشية المسجد النبوى يستاء ويتضايق إذا ما وصفه أحد بهذه الصفة ، واللقب المعتاد الذى يطلق على أى واحد من الطواشية هو «أغا» ، وكبير هؤلاء الأغاوات يحمل لقب «سعادتكم» ، شأنه شأن أى باشا من الباشاوات ، أو شريف مكة.

إلى جانب هؤلاء الطواشية ، يضم المسجد بين خدمه عددا من سكان المدينة ؛ هذا النوع من الخدم يسمون فراشين ، وهذا الاسم يعنى أن مهمة هؤلاء الخدم ، هى المحافظة على نظافة المسجد ، وفرش البسط والسجاجيد. البعض منهم يحضرون إلى

__________________

(*) البليس : معطف أو سترة طويلة مبطنة أو مزركشة الأطراف بالفراء. (المترجم)

١٢٤

المسجد النبوى لإشعال المصابيح ، وتنظيف أرضية المسجد ، وذلك بالتعاون مع الطواشية ، بعض هؤلاء الأغاوات ليسوا سوى وظائف عاطلة ، يضاف إلى ذلك أن بعضا من أهل المدينة (المنورة) ينتمون إلى هذه الفئة. وأنا ليس لدىّ علم بطريقة الحصول على هذه الوظيفة ، لكنى أعتقد أنها تشترى من شيخ الحرم. واسم كل فراش من الفراشين يدرج ضمن القائمة التى ترسل كل عام إلى إسطنبول ، والجميع يشاركون فى الهبات والعطايا التى تتلقاها المدينة (المنورة) من العاصمة من ناحية ، ومن الإمبراطورية التركية كلها ، من ناحية أخرى ، والتى يخصص جزء كبير منها للفراشين. قد يبدو أن وظيفة الفراش من الوظائف الوراثية ، أو أنها تنتقل من الأب إلى الابن. ويقدر عدد الفراشين بحوالى خمسمائة فراش ، لكن دهسون يقول إن زيادة عدد الفراشين جاء بناء على التذرع بذريعة تقسيم كل فئة إلى حصة النصف ، ثم إلى الثلث ، ثم إلى الثمن ، وما يتبقى بعد ذلك يعطى لمن يصبح عضوا جديدا بين هؤلاء الفراشين ؛ هذا اللقب (فراش) حصل عليه كثير من الحجاج الأجانب ، الذين ينتشرون فى سائر أنحاء الإمبراطورية ، والذين يرون أن حملهم لذلك اللقب يعد من باب التكريم.

كثير من هؤلاء الفراشين يعملون أيضا أدلاء ، كما يمارسون أيضا مهنة الدعاء للغائب وهى مهنة مربحة جدا. الحجاج الذين يجيئون إلى المدينة (المنورة) يتعرفون على بعض هؤلاء الفراشين ، ليكونوا مرشدين لهم فى الأماكن المقدسة. وعند ما يعود هؤلاء الحجاج إلى أوطانهم ، تتكون لديهم قاعدة دينية ، يرسلون بمقتضاها مبلغا من المال كل عام إلى هؤلاء الفراشين ، الذين يقومون بالدعاء لهم ، أمام شباك الحجرة وهذه المبالغ النقدية ، التى يجرى لفها فى أوراق صغيرة مختومة بالشمع ، وعليها عنوان المرسل إليه ، يجرى جمعها فى كل مقاطعة من مقاطعات الأناضول ، أو إن شئت فقل تركيا الأوروبية ، ليجرى إرسالها من الأناضول إلى المدينة (المنورة) بواسطة كاتب صرّة إسطنبول ، الذى يرافق قافلة الحج ، ويرأس إدارتها المالية. بعض هؤلاء الفراشين يحتكرون مدنا ومقاطعات بكاملها ، ويجرى تقديم مواطنى هذه البلدان

١٢٥

والمقاطعات ، الذين يمرون على المدينة (المنورة) ، إلى أولئك الفراشين عن طريق أبناء وطنهم. يزاد على ذلك أن مراسلى الحجاج الآخرين ينتشرون فى سائر أنحاء الإمبراطورية ، والأرباح التى يجنيها هؤلاء الفراشين من هذه المهنة ، والتى تشبه الأرباح التى يجنيها القساوسة الروم الكاثوليك نظير القراءات والصلوات التى يقدمونها ، تصل إلى مبالغ كبيرة جدا ؛ لقد بلغنى أن بعض الفراشين الرئيسيين لدى الواحد منهم ما يتردد بين أربعمائة مراسل وخمسمائة مراسل موزعين أو منتشرين فى سائر أنحاء تركيا ، وأن هذا الفراش يتلقى من كل واحد من هؤلاء المراسلين حافزا ماليا سنويا لا يقل عن سكوين (*) بندقى واحد.

عدد الفراشين وعدد الأدلاء كبير جدا. يضاف إلى ذلك أن مهام العمل الذى يكلفون به يمكن أداؤه بسهولة كبيرة ، إلى حد أن القسم الأكبر من هؤلاء الفراشين والأدلاء يكادون يكونون عاطلين عن العمل. أثناء الحكم الوهابى ، توقفت بقاشيش وهدايا هؤلاء الفراشين ، ومع تناقص وصول الحجاج ، قلت تلك البقاشيش والعطايا فترة طويلة من الزمن ، إلى حد أنه على الرغم من استعادة الاتصال عن طريق القوافل فإن الميل إلى تقديم ذلك البقشيش وتلك العطايا بدأ يخبو ويكاد يختفى تماما.

الوهابيون يمنعهم مذهبهم من زيارة قبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو الوقوف أمام الحجرة والدعاء بطلب شفاعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولما كان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عندهم مجرد إنسان فان ، فذلك يعنى أن قبره عندهم لا يستحق أى قدر من التبجيل. يضاف إلى ذلك أن المذهب الوهابى الدينى صارم ومتشدد ، الأمر الذى أغرى سعود بنقل كنوز الحجرة ، التى ظنوا أنها لا يجدر بها ولا تصلح ، من حيث الوقار والتواضع ، لتزيين أى قبر من القبور. ترك سعود القبر وحده دون مساس ، وراح فجأة ينفس عن مشاعر أهل الجزيرة العربية الوطنية من ناحية ، وعن وخزات ضميره من الناحية الأخرى ، ذلك الضمير

__________________

(*) يصح فيه أيضا «زكشين» : وهو نقد ذهبى إيطالى وتركى قديم. (المترجم)

١٢٦

الذى لم يستطع تخليص نفسه من الانطباعات السابقة ؛ لم يزل سعود الغطاء القماشى المقصّب عن القبر ، ولم يزل أيضا الستارة التى تلف القبر. يقال إن الأحلام أزعجته أو كفت يده عن المقدسات ، واحترم سعود أيضا قبر ستنا فاطمة بالقدر نفسه ، لكنه من ناحية أخرى ، حطم وبلا استثناء ، بنايات المقبرة العامة كلها ، التى دفن فيها الكثيرون من الصحابة والأولياء ، كما دمر شواهد القبور وأحجارها الزينية ، اعتقادا من الرجل أن حجرا بسيطا يكفى تماما لستر جثمان الميت.

والوهابيون عند ما يحرمون زيارة القبور ، لم يعنوا مطلقا وقف زيارة المسجد. هذا المبنى الذى بناه النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بعد هجرته الشريفة من مكة ، وهو الذى أرسى الأسس الأولى للإسلام ؛ لذا عده الوهابيون أهم وأقدس بقاع الأرض ، بعد بيت الله الحرام فى مكة كان سعود قد أصدر فى مرة من المرات أوامره بعدم السماح للحجاج الأتراك ، الذين ظلوا يتوافدون من ينبع إلى قبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى بعد توقيف قوافل الحج المنتظمة ، بدخول المدينة المنورة ، وقد أمر سعود بذلك لمنع ما أسماه دعاءهم الوثنى ؛ وهذا الإجراء كان من الصعب تنفيذه دون استبعاد هؤلاء الحجاج أو الزوار من المسجد النبوى ، كان من رأى سعود أن ذلك المنع أو التحريم لا يصلح فرضه بالقوة ؛ ولذلك آثر سعود إبعاد الحجاج أو الزوار عن المدينة بحجة أن سلوك بعض الحجاج غير السوى هو الذى حتم القيام بهذا المنع. كان سعود نفسه ، ومعه أتباعه يقومون فى معظم الأحيان بزيارة المسجد الشريف ، وفى معاهدة السلام التى أبرمها عبد الله ، ولد سعود ، مع طوسون باشا فى عام ١٨١٥ م ، ورد النص صراحة على حتمية السماح للوهابيين بزيارة مسجد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وليس قبره) دون إزعاج أو مضايقة.

زيارة المسجد النبوى عند المسلمين المخلصين هى مجرد عمل من أعمال الحسنات ولا علاقة لها بمناسك الحج المفروضة على المؤمنين ، ولكن هذه الزيارة شأنها شأن زيارة المسجد الأقصى ، وزيارة قبر سيدنا إبراهيم فى حبرون ، هى من الأشياء المقبولة عند الله (سبحانه وتعالى) ، وأنها تمحو كثيرا من الخطايا ، كما أنها تدخل الزائر ، فى الوقت نفسه ، ضمن شفاعة النبى للناس عند الله (سبحانه وتعالى) ،

١٢٧

ويقال إن من يصلى أربعين صلاة فى المسجد النبوى ينجو من عذاب جهنم. ونظرا لأن الرسل والقديسين يكونون أكثر تفضيلا عند الإله (سبحانه وتعالى) نفسه ، الذى لا يقبل أى شىء غير الضمير النقى أو التوبة الخالصة ، وبذلك لا يكون من السهل إرضاؤه ؛ من هنا تصبح زيارة المدينة المنورة لها القيمة والقدر نفسه الذى لزيارة بيت الله فى مكة (المكرمة) ؛ من هنا يتوافد الزائرون وكلهم حماس وشغف على ضريح النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أكثر من تدافعهم على الكعبة (المشرفة). وطوال العام تتوافد على المدينة المنورة جموع الزائرين من سائر أنحاء العالم الإسلامى ، عن طريق ينبع. ويبدو أن المقربين هم أكثر الناس حماسا لزيارة المسجد النبوى ؛ هؤلاء الزائرين الذين يحضرون إلى المدينة المنورة من بينهم من يرغب فى زيارة قبر الإمام مالك بن أنس وهو موجود فى المدينة المنورة ، ومالك هو مؤسس المذهب المالكى الذى يتبعه المغاربة. الحرم المكى تزوره الحاجّات يوميا ، إذ إن لهن مكانا خاصا بهن فى الحرم ، وعلى العكس من ذلك ، هناك من يقول إن دخول النساء إلى المسجد النبوى يعد أمرا غير لائق. أما هؤلاء الذين يأتون إلى المدينة المنورة من بلاد بعيدة فيقمن بزيارة قبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أثناء الليل ، بعد صلاة العشاء ، فى حين لا تجرؤ النساء المقيمات فى المدينة المنورة على الاقتراب حتى من عتبة المسجد ؛ قالت لى صاحبة المنزل العجوز ، التى كانت تعيش فى هذا المكان منذ خمسين عاما ، مؤكدة إنها لم تدخل محيط ذلك المكان سوى مرة واحدة فى حياتها كلها ، وإن النساء المنحلات هن اللاتى يجرؤن على أداء الصلاة فى ذلك المكان. على العموم ، يندر أن ترى النساء فى المساجد فى الشرق ، على الرغم من التصريح لهن بالدخول ، ونحن لا نلتقى إلا نادرا سوى قلة قليلة من النساء اللاتى يذهبن إلى المساجد ، كما هو الحال فى مسجد الأزهر فى القاهرة ، حيث تذهب النساء ليشكرن الله العلى القدير ، على أفضاله عليهن. والنساء حتى فى بيوتهن يندر أن يؤدين الصلاة ، اللهم باستثناء النساء كبيرات السن ، يزاد على ذلك أن مسألة قيام المرأة بأداء الصلاة يعد إنجازا غير طبيعى ، وكذلك حفظ المرأة عن ظهر قلب بعض سور القرآن. لما كانت المرأة فى الشرق تعد من المخلوقات المتدنية ، التى ينكر بعض علماء تفسير القرآن مسألة دخولهن الجنة ، فإن الأزواج لا يهتمون كثيرا

١٢٨

بمسألة مراعاتهن للطقوس الدينية ، كما أن الكثيرات منهن يستأن من هذه العملية ، لأنها ترفع النساء إلى مرتبة المساواة مع الرجل ، ويجب أن نلاحظ هنا ، أن المرأة يمكن أن تصبح زوجة سيئة ، إذا ما تجرأت على المطالبة بالاحترام الذى تستحقه جراء انتظامها فى الصلاة ومداومتها عليها.

هذا المسجد خلو من حمام الحمى ، وذلك على العكس من مكة المكرمة ، لكن كمية البسط والسجاجيد المفروشة فى المسجد النبوى ، والتى يجلس عليها أناس شديدى القذارة ، بجوار الحجاج الذين يرتدون أفضل الثياب ، لقد أصبح المسجد مكانا مفضلا لملايين من الحيوانات الأخرى الأقل ضررا من الحمام ، والتى تشكل طاعونا فظيعا للزائرين ، الذين ينقلون هذه الحيوانات إلى منازلهم ، الأمر الذى يجعل هذه المنازل عامرة بالأمراض الطفيلية.

لما كان المسجد النبوى أصغر من المسجد المكى ، ولما كان المسجد النبوى يخضع أيضا لنظام بوليسى صارم عن طريق الطواشية ، فإنه لا يعانى كثيرا من الشحاذين والعاطلين الذين تقل أعدادهم فى المسجد النبوى. وهنا يجب أن نعترف بأن قبر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يقذف كثيرا من الرعب والخوف فى قلوب أهل المدينة المنورة ، كما يثير عندهم أيضا الكثير من الاحترام والتوقير وذلك على العكس من الكعبة عند أهل مكة ؛ هذا الإحساس هو الذى يمنع أهل المدينة (المنورة) من الاقتراب من قبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفى أذهانهم أفكار لاعبة ، أو لمجرد تمضية الوقت ؛ هذا يعنى أن الناس هنا فى المسجد النبوى يولونه المزيد من الوقار والتقدير ، وذلك على العكس من أولئك الذين يرتادون أو يزورون بيت الله الحرام.

وكما هو الحال فى مكة ، نجد هنا فى المدينة (المنورة) عددا من الخطباء ، والأئمة ، والمؤذنين ، وبعض الأشخاص الآخرين المنتمين إلى هيئة العلماء ، ملحقين بالمسجد النبوى. يقال إن علماء المسجد النبوى أكثر علما من نظرائهم فى مكة ، وإن علماء الأزمان السابقة تركوا مؤلفات قيمة. ومع ذلك ، فإن ظاهر العلم هنا فى المدينة المنورة ، أقل مما هو فى مكة (المكرمة). أثناء زيارتى للمسجد ، لم أر قط

١٢٩

أحدا من المواطنين فى الوقت الراهن يدرس أى نوع من المعارف ، ولم أر سوى قلة قليلة من الحجاج الأتراك وهم يشرحون بعض الكتب مستخدمين فى ذلك لغتهم الخاصة بهم ، ولا يستمع إليهم سوى قلة قليلة من رواد المسجد ، ويروحون يجمعون من المستمعين مبالغ من المال تعينهم على تكاليف رحلة العودة إلى وطنهم. وهذا هو طوسون باشا ، العضو الوحيد من بين أفراد أسرته الذى لا يعد من الموحدين المتشددين ، يداوم على حضور تلك المحاضرات ، وكان يجلس مع الأفراد الآخرين ضمن الدائرة التى ينتظمون فيها. قيل لى إن بعض المحاضرات العامة يجرى إلقاؤها فى المدرسة التى يسمونها الحمدية ، لكنى لم تتح لى فرصة تأكيد هذه الحقيقة. وأنا لا أظن أن فى الإمبراطورية الإسلامية مدينة بحجم المدينة (المنورة) لا يجرى فيها إلقاء المحاضرات فى المساجد ، يزاد على ذلك ، أن هناك دلائل على أن ذلك كان هو الحال التى كانت عليه المدينة المنورة ، فى الأزمان السابقة ، وأن هذه الدلائل تتمثل فى كثير من المنشآت الدينية التى أنشئت خصيصا لهذا الغرض ، والتى لا يزال العلماء يحصلون على خبراتها وعطاياها دون القيام بالواجبات المطلوبة منهم.

الحرم ، أو إن شئت فقل : الحرم المدنى ، شأنه شأن الحرم المكى ، له أوقاف كثيرة وسناهيات (*) كثيرة فى سائر أنحاء الإمبراطورية التركية. دخل الحرم النبوى السنوى يجرى تقسيمه بين الطواشية ، والعلماء ، والفراشين. أما المصروفات اليومية الخاصة بالإضاءة والصيانة ، فتكون على حساب الجميع. فيما عدا الأشياء الثمينة الموجودة فى الحجرة ، لا توجد أية كنوز مالية فى المسجد ، وتلك ميزة مزدوجة عند أهل المدينة (المنورة) ، الذين تحصل طائفة كبيرة منهم على دخل مريح ، فى الوقت الذى يكون فيه أهل المدينة (المنورة) كلها فى مأمن من الخطر والعراك الداخلى ، الذى كان يمكن أن يحدث لو علموا أن الاستيلاء على المسجد يمكن أن يعود عليهم بمبالغ كبيرة. لقد ولت وانتهت فى الشرق تلك الأيام ، التى كان الناس فيها يضعون كنزا ثمينا فى مكان مقدس حماية لذلك الكنز من السرقة والسلب والنهب. هذا يعنى أن أصغر المبالغ

__________________

(*) السّناهية : بتشديد السين وضمها ، المرتب السنوى الذى يحصل الإنسان عليه مدى الحياة. (المترجم)

١٣٠

التى تأتى من المؤسسات العامة ، إنما يجرى إنفاقها على الفقراء ، أو فى أغراض البر والتقوى المخصصة لها ؛ هذه المبالغ تستخدم فى إشباع رغبات جماعة من المنافقين العاطلين ، الذين ليس لهم فى اكتساب شىء من المعرفة السطحية ، سوى التطلع إلى المشاركة فى المكاسب غير الشرعية التى تئول إلى رعاة أو سدنة تلك المؤسسات.

المسجد النبوى ، شأنه شأن البنايات العامة ، فى سائر أنحاء الشرق يصعب الوصول إليه نظرا لوجود المساكن الخاصة على جميع الأجناب ، والهدف من ذلك هو ترك شارع واحد مفتوح ، فى بعض هذه الأجزاء ، وبين جدران المسجد ، فى حين نجد المنازل مبنية فى بعض الأماكن الأخرى ، فى مواجهة جدران المسجد ، بل وتخفيها أيضا. هناك ثلاث مآذن أو خمس (لا أدرى بالضبط) مقامة على أجناب المبنى المختلفة ، ويقال إن واحدة من تلك المآذن الخمس ، تقع أو مبنية فى المكان نفسه الذى كان يقف عليه بلال الحبشى مؤذن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وأنا أورد فيما يلى نقلا عن السمهودى مؤرخ المدينة (المنورة) ، تاريخا موجزا للمسجد النبوى :

«بنى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسجد المدينة المنورة بنفسه ، ولذلك يسمى مسجده ، أو إن شئت فقل : مسجد النبى. عند ما وصل النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة المنورة ، التى كانت فى ذلك الوقت بلدا مفتوحة من بلاد العرب ويسمونها يثرب (ومن ثم المدينة) ، بعد فراره من مكة ، وبعد أن تأكد من وجوده بين الأصدقاء ، أقام مسجدا صغيرا ، فى المكان الذى بركت فيه ناقته صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى البلدة ، بعد أن اشترى الأرض من أصحابها ، وسوّر ذلك المكان بسور من اللبن ، وسقفه بجريد النخل ، واستخدم جذوع النخيل لتكون بمثابة الأعمدة الحاملة لذلك السقف ، هذا المبنى ، سارع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى توسعته بعد أن وضع أساسه الحجرى. وبدلا من المحراب الذى يبنى فى المساجد لتحديد الاتجاه الذى يتعين على المؤمنين أن يولوا وجوههم شطره عند أداء الصلاة ، قام سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوضع حجر كبير ، جرى فى البداية وضعه فى الناحية الشمالية ، أى فى اتجاه القدس ، ثم جرى بعد ذلك وضعه فى اتجاه كعبة مكة ، فى العام الثانى للهجرة ، وذلك عند ما تغيرت القبلة القديمة».

١٣١

«وسع عمر بن الخطاب المسجد النبوى بجدران من اللبن وسعف النخيل ، واستخدم أعمدة من اللبن بدلا من جذوع النخل ، وبنى أول ما بنى جدارا حول الحجرة ، أو إن شئت فقل : المكان الذى دفن فيه جثمان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند وفاته ، والذى كان مسورا فى بداية الأمر بجريد النخل ، وجرى توسيع الميدان الذى تحيط به الجدران ، بأن أصبح طول ذلك الميدان مائة وأربعين رمحا وعرضه حوالى مائة وعشرين رمحا ، وكان ذلك فى عام ١٧ ه».

«(سيدنا) عثمان هو الذى بنى جدران الحجر المجوف ؛ هذا يعنى أن (سيدنا) عثمان حدد فى عام ٢٩ ه‍ الأعمدة اللبنية ، وقوى الأعمدة الجديدة بدعامات من الحديد ، وهو أيضا الذى صنع سقف المسجد النبوى من الخشب الهندى الثمين الذى يسمونه الساج. وجرى توسيع صحن المسجد ؛ إذ أصبح طول الصحن مائة وستين رمحا وعرضه مائة وخمسين رمحا ، وجرى فتح ست بوابات فى صحن المسجد».

«فى العام ٩١ الهجرى ، قام الوليد بن عبد الملك الذى يرجع الفضل إليه فى دمشق فى بناء المسجد الجميل المسمى المسجد الأموى ، قام بتوسعة مسجد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فى ذلك الحين ، كانت المنازل التى كانت مساكن لزوجات محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبناته وقريباته تقع بالقرب من الحجرة ، خارج حدود المسجد ، التى يوجد فيها بوابات خاصة لتلك المنازل. على الرغم من المعارضة الكبيرة التى واجهت الوليد بن عبد الملك ، فقد أجبر هؤلاء النساء على ترك منازلهن ، مقابل أسعار مرضية وعادلة ، ثم قام وليد بهدم تلك المنازل ، وتوسعة جدار المسجد النبوى فى تلك المنطقة. قام الإمبراطور الإغريقى ، الذى كان مسالما للوليد بن عبد الملك ، فى ذلك الوقت ، بإرسال بعض العمال من القسطنطينية إلى المدينة ، هؤلاء العمال ساعدوا فى إنشاء المبنى الجديد لذلك المسجد (*) ؛ ونظرا لأن الكثيرين من هؤلاء العمال كانوا من المسيحيين ،

__________________

(*) يقول المقريزى فى حديثه عن الملوك الذين أدوا فريضة الحج : إن الإمبراطور اليونانى (الذى لم يذكر اسمه) أرسل إلى الوليد مائة عامل وهدية قيمتها حوالى مائة ألف مثقال من الذهب ، مع أربعين حملا من الأحجار المقطّعة ، لاستعمالها فى عمل المنمنمات.

١٣٢

فقد تصرفوا ـ على حد ما بلغنا ـ على نحو غير لائق ، وقد سقط على واحد من هؤلاء العمال ، حجر أدى إلى قتله ، عند ما حاول تدنيس قبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ هذا الحجر سقط على ذلك الرجل من السقف. وجرى وضع أعمدة من الحجر فى المسجد ، وجرى تزيين أو طلاء الجزء العلوى من تلك الأعمدة بالذهب ، كما جرى أيضا تجليد الجدران بالرخام المزين بأشكال مختلفة ، كما جرى أيضا طلاء جزء من تلك الجدران بالذهب ، وبذلك يكون المسجد قد تم تجديده تماما».

«فى عام ١٦٠ ه‍ ، قام الخليفة المهدى بتوسعة أخرى ؛ إذ أصبح طول صحن المسجد حوالى مائتين وأربعين رمحا ، وبقى المسجد على حاله هذا طوال قرون عدة».

«الحاكم بأمر الله ، ملك مصر الذى لم يكن سوىّ العقل أوفد واحدا من مبعوثيه لتدمير الحجر الأسود فى الكعبة كما قام أيضا بمحاولة فاشلة ، لأخذ قبر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مسجد المدينة المنورة ، ونقله إلى القاهرة. فى عام ٥٥٧ ه‍ ، وفى عهد الملك العادل نور الدين ، ملك مصر ، تنكر مسيحيان ، واكتشف أمرهما فى المدينة المنورة ؛ هذان المسيحيان حفرا ممرا تحت سطح الأرض ، من منزل من المنازل المجاورة إلى الحجرة فى المسجد النبوى ، وسرقا منها أشياء غالية القيمة ، وعند ما جرى تعذيب هذين المسيحيين ، اعترفا بأنهما أرسلا من قبل ملك إسبانيا للقيام بهذه السرقة ، ودفع الرجلان حياتهما ثمنا لفعلتهما. قام السلطان نور الدين بعد ذلك بعمل خندق حول الحجرة ، وملأ ذلك الخندق بالرصاص منعا لأية محاولات تكون من هذا القبيل».

«فى عام ٦٥٤ ه‍ ، وقبل أشهر قليلة من ثورة بركان بالقرب من المدينة المنورة ، اندلع حريق فى المسجد ، الذى احترق تماما ، ولم يبق منه سوى أرض المسجد ، ولكن المصاحف الموضوعة فى الحجرة لم تصب بسوء. وقد عزا الناس ذلك الحادث إلى الشيعة الفارسيين من بنى الحسين ، الذين كانوا رعاة وسدنة لقبر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفى العام التالى أعيد بناء المسجد على نفقة كل من الخليفة المعتصم بالله ، ابن المنتصر بالله ، وإمام اليمن ، المظفّر شمس الدين يوسف ، واكتمل إنشاء المسجد على نفقة الظاهر بيبرس ، سلطان مصر فى عام ٦٥٧ ه‍. جرى بناء القبة فوق

١٣٣

الضريح فى عام ٦٧٨ ه‍ ، وقام ملوك عدة من ملوك مصر بتحسين المبنى وتوسعته ، إلى أن دمر المسجد مرة ثانية فى عام ٦٨٦ ه‍ ، عند ما احترق بفعل النيران الناجمة عن البرق ، وجاء التدمير كاملا فى هذه المرة ؛ فقد دمّرت الجدران كلها ، كما دمرت أيضا بعض جدران الحجرة ، كما دمّر السقف أيضا ، وسقط حوالى مائة وعشرين عمودا ، لكن النار لم تقرب القبر الموجود داخل الحجرة. وقام قايتباى ، ملك مصر فى ذلك الحين ، والذى تدين له المدينة المنورة ، والحجاز ببعض الأشغال العامة ، بإعادة بناء المسجد بكامله بالشكل الذى هو عليه الآن فى عام ٨٩٢ ه‍. وقد أرسل قايتباى من مصر ثلاثمائة عامل لهذا الغرض ، وجرى إخلاء الغرفة من الأنقاض ، وعثر الرجال على ثلاثة قبور داخل الغرفة ، مليئة بالزبالة والنفاية ، ولكن مؤلف هذا التاريخ ، الذى دخل الغرفة بنفسه ، لم ير أى أثر للقبور ، وجرى تحديد الموقع الأصلى لقبر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصعوبة بالغة ، وأعيد بناء جدران الغرفة ، وأحيطت بالقضبان الحديدية ، أو السّور الحديدى الموجود حاليا ، وجرى توزيع البوابات لتكون على النحو التى هى عليه حاليا ، وجرى إرسال منبر جديد من القاهرة للمسجد النبوى على سبيل الهدية ، وأعيد المسجد من جديد إلى الشكل الذى هو عليه حاليا. واعتبارا من ذلك التاريخ راحت قلة قليلة من السلاطين العثمانيين يدخلون بعض التحسينات الطفيفة على ذلك المسجد».

البساتين والمزارع

سبق أن قلنا : إن البساتين والمزارع تحيط بالمدينة المنورة من ثلاث جهات بكل ضواحيها ، وقلنا أيضا : إن المدينة المنورة ، من ناحية الشرق ومن ناحية الجنوب تمتد إلى مسافة ستة أميال أو ثمانية ، وهذه البساتين والمزارع ، فى معظمها ، عبارة عن بيارات نخيل وحقول لزراعة القمح والشعير ، ومزارع القمح والشعير عادة ما تكون محاطة بأسوار من الطوب اللبن ، وتحتوى أيضا على منازل صغيرة يقيم فيها الزراع. ومنازل هؤلاء الزراع التى تجاور المدينة مباشرة ، جيدة البناء ، وعادة ما يكون لها

١٣٤

شرفات محمولة على أعمدة ، وغرف للجلوس تجاور المنازل ، كما أن لكل بيت خزانا للماء مبطن بالحجر يقع أمام المنزل. هذه المنازل هى بمثابة المنتجات الصيفية لكثير من عائلات المدينة المنورة ، التى اعتادت على تمضية شهرين من أشهر الصيف فى هذه المنتجعات. قلة قليلة فقط من بيارات النخيل ، باستثناء تلك البيارات المنتشرة فى الحقول ، هى التى تحيط بها الأسوار ، والسواد الأعظم من هذه البيارات لا تروى إلا من مياه السيول ومياه الأمطار. والبساتين نفسها شديدة الانخفاض ، ويجرى حفر التربة فى منتصف هذه البيارات ، وتكويم ناتج الحفر حول الجدران ، حتى يمكن استعمال الفراغ الناتج فى الزراعة ، على شكل حفرة عمقها حوالى عشرة أقدام أو اثنى عشر قدما عن مستوى سطح السهل ، والناس يلجأون إلى هذه الأعماق ابتغاء للتربة الأصلح والأنسب ، فقد تعلم هؤلاء الزراع من التجربة أن الطبقة العليا تكون مشبعة بالملح ، وأقل صلاحية للزراعة ، عن التربة السفلى. لا وجود للصناعات المهمة فى أى مكان من المدينة المنورة ؛ قسم كبير من الأراضى قاحل ، وفى أماكن الحقول الزراعية ، لا وجود للاقتصاد فى ثقافة أصحاب هذه الحقول. هناك كثير من الحقول الجرداء ، يضاف إلى ذلك ، أن ملوحة التربة تحول دون نمو البذور ، ويقال إن الأرض فى اتجاه قرية قباء ، وخلفها ، وفى اتجاه الجنوب والشرق ، عبارة عن تربة جيدة ، وخالية من الأملاح ، وإن الأرض فى هذه المنطقة قيمتها أعلى من قيمة الأرض القريبة من المدينة ، التى رأيتها بعد سقوط الأمطار ، وهى مغطاة تماما ولأيام عدة بقشرة من الملح ، ناتجة إما عن تبخر المياه ، أو ناتجة على شكل أبخرة من التربة نفسها ، وبخاصة فى الأجزاء الأكثر ارتفاعا التى لا تصلها المياه.

القسم الأكبر من هذه البساتين والمزارع من أملاك أهل المدينة المنورة ، يضاف إلى ذلك أن العرب الذين يزرعون هذه البساتين والمزارع (والذين يسميهم الناس «النواخلة» ) معظمهم من الفلاحين. يزاد على ذلك ، أن ملكية البساتين إما عبارة عن ملكية خاصة وإما عبارة عن وقف ، والبساتين يقال لها ملك ، إذا ما كانت مملوكة للأفراد ، والبساتين يقال لها وقف ، إذا ما كانت تابعة للمسجد النبوى ، أو تابعة لأية

١٣٥

مدرسة من المدارس ، أو مؤسسات البر والتقوى ، التى تقوم على أمر زراعة هذه البساتين ، بعقود طويلة الأجل ، تمنح لأهل المدينة المنورة ، الذين يقومون أيضا بإعادة تأجير هذه البساتين بعقود قصيرة الأجل للزارع. هؤلاء المستأجرين لا يدفعون ضرائب من أى نوع كان. هذا يعنى عدم فرض أى نوع من أنواع ضرائب الأرض ، أو ما يسمونه الميرى ، وهذا نوع من الحصانة ، أرى أن واحات الحجاز الخصبة كلها كانت تتمتع به قبل الغزو الوهابى ، ومع ذلك ، نرى أن الوهابيين قاموا بعد استيلائهم على المدينة المنورة مباشرة ، بفرض ضريبة على الأرض طبقا للقوانين المعمول بها فيما بينهم ؛ قام الوهابيون بتقييم الحقول ، لا باستعمال إنتاجها من القمح ، وإنما طبقا لإنتاجها من التمر ، وعدد أشجار النخيل فى كل حقل من الحقول وبما يتناسب مع خصوبة التربة ، كما جرى تقييم التربة أيضا فى ضوء إنتاجها من القمح ، ومن كل إردب من التمر كان جباة الضرائب الوهابيين يأخذون حصة نوعية أو نقدية ، طبقا للسعر السائد عند التحصيل. هذه القواعد تسببت فى كراهية أهل المدينة المنورة للوهابيين ، لكن أهل مكة لم يكرهوا الوهابيين ؛ لأنهم لم يكن لديهم حقول أو مزارع حتى يمكن فرض ضرائب عليها ، وكذلك الأماكن التى جرى فيها الاستغناء عن الضريبة المفروضة ، أو التى جرى التخلى عنها للشريف الحاكم القديم للمدينة ، كما سبق أن أوضحنا. يضاف إلى ذلك ، أن المكيين مارسوا التجارة ، التى استطاعوا عن طريقها جنى بعض الأرباح فى كل الأحوال ، أما أهل المدينة المنورة على العكس من ذلك فهم تجار صغار ، واعتمادهم يكون على الحجاج بدرجة كبيرة ، وعلى التبرعات السنوية التى تأتى من تركيا ، أو من الممتلكات التركية ، وقد أجبر سكان المدينة المنورة إجبارا تاما على التخلى عن التبرعات التركية السنوية من ناحية والحد من العوائد التى تأتى من الممتلكات التركية ؛ ونظرا لأن الوهابيين أعربوا عن مزيد احترامهم للقبر الشريف لبيت الله فى مكة ، فنحن لا نجد مدعاة للدهشة ، عند ما يمجد أهل المدينة المنورة اسم الوهابيين ، وينعتونهم بكل النعوت والصفات الطيبة.

١٣٦

الإنتاج الرئيسى للحقول (*) الموجودة حول المدينة المنورة ، هو القمح والشعير ، وبعض البرسيم ، والفاكهة ، والتمر بصفة أساسية ؛ يزرع الشعير بكميات أكبر من القمح ، كما يشكل الخبز المصنوع من الشعير المكون الرئيسى فى الطعام عند الطبقات الفقيرة ، ويجرى حصاد الشعير فى منتصف شهر مارس. ومحصول الشعير ونباتاته هزيلان ، لكن نوعية الشعير ممتازة ، ويباع الشعير فى أسواق المدينة المنورة بسعر أعلى من سعر الشعير المصرى بنسبة خمسة عشر بالمئة.

بعد حصاد الشعير ، تظل الأرض بلا زراعة إلى الموسم التالى ؛ والسبب فى ذلك ، أنه على الرغم من توفير مياه الرى فى الآبار (**) ، فإن التربة تبلغ من الضعف حدا لا تقوى معه على إنتاج محصول ثان ، والناس هنا لا يعرفون زراعة الشوفان ، كما لا يعرفونه أيضا فى أى مكان آخر من أماكن الحجاز. وأشجار الفاكهة لا توجد إلا على جانب قرية قباء بصفة خاصة. يقال إن الرمان والعنب يجودان هنا فى المدينة المنورة ، وبخاصة الرمان ، هنا أيضا توجد بعض أنواع الخوخ ، والموز ، وفى بساتين قرية قباء تجرى زراعة البطيخ ، والخضراوات ، والسبانخ ، واللفت ، والكراث ، والبصل ، والجزر ، والفول ، ولكن بكميات صغيرة جدا. وشجرة النبق شجرة شائعة جدا فى سهول المدينة المنورة ، وفى الجبال المحيطة بها أيضا ، والناس يجلبون كمية كبيرة من ثمار النبق لبيعها فى السوق فى شهر مارس ؛ حيث تجعله الطبقات الفقيرة ركنا أساسيا من غذائها ، لكن التمور هى المنتج الرئيسى فى المدينة المنورة ؛ هذا التمر يذيع صيته بحكم جودته وامتيازه فى المناطق المجاورة للمدينة المنورة وفى سائر أنحاء الجزيرة العربية كلها. النخيل موجود فى الحقول المسوّرة ، ويجرى رى النخيل عند رى البذور التى تبذر فى الأرض ، أو فى السهول المفتوحة ، حيث يجرى رى النخيل من مياه المطر فقط ، ثمار أو بالأحرى تمور النخيل المزروع فى السهول المفتوحة ، على

__________________

(*) الحقول هنا : يسميها الناس «بلاد» (وجمعه بلدان) : وواحده «بلد».

(**) كل بستان أو حقل له بئره الخاصة ، التى يجرى رفع الماء منها بواسطة الحمير ، والبقر ، أو الإبل باستعمال دلاء مصنوعة من الجلد. وأنا لا أظن أن هناك حقولا لا تروى ريا منتظما ، كما أن البذور لا تترك لاحتمالية سقوط الأمطار.

١٣٧

الرغم من عدم وفرتها ، فهى عالية القيمة. أعداد كبيرة من هذا النخيل تنمو نموا بريا فى السهول ، لكن كل نخلة من هذا النخيل لها مالكها الخاص. أحجام هذا النخيل ، بشكل عام ، أصغر من أحجام النخيل المصرى ، التى تتغذى من تربة البلاد الخصبة ، كما تتغذى أيضا بمياه النيل ، لكن ثمار هذا النخيل أحلى بكثير من ثمار النخيل المصرى ، فضلا عن رائحة تمور المدينة المنورة أفضل من مثيلتها المصرية.

أتى كثير من الرحالة على ذكر الأشياء التى تصنع من كل جزء من أجزاء النخلة ؛ هذا يعنى أن النخلة غالية وعزيزة على العربى المستقر ، مثلما الجمل عزيز على البدوى ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى واحد من أحاديثه ، يقارن الرجل الفاضل بهذه الشجرة الطيبة. «أنه يقف مرفوع الهامة أمام ربه ؛ يستلهم فى كل حركة من حركاته الوحى الذى يأتيه من أعلى ، ويكرس حياته كلها لرفاهية إخوانه» (*). أهل الحجاز شأنهم شأن المصريين ، يستفيدون من سعف النخيل ، ومن اللحاء الداخلى والخارجى لجذع النخلة ، كما يستفيدون أيضا من المادة الشبيهة باللحم والتى توجد فى المنطقة التى تتصل الجريدة فيها بجذع النخلة ، وهم يستفيدون أيضا من نوى الثمار ، بأن يجعلوه علفا لماشيتهم ، وهم ينقعون نوى التمر مدة يومين فى الماء ، إلى أن يلين بعض الشىء ، ثم يقدمونه بعد ذلك علفا للإبل ، والبقر ، والأغنام بدلا من الشعير ، ويقال إن النوى قيمته الغذائية أكبر من القيمة الغذائية للشعير. هناك محلات فى المدينة المنورة ، لا يباع فيها سوى نوى التمر ، ويجرى استخدام الشحاذين بصفة دائمة فى جمع النوى من الشوارع الرئيسية. وفى منطقة نجد ، يطحن العرب النوى للغرض نفسه ، لكن عملية الطحن هذه لا تجرى فى الحجاز.

هناك أنواع كثيرة من التمور فى المدينة المنورة ، وفى وديانها المثمرة ؛ كل مكان فى المدينة المنورة يتميز بنوع خاص من التمور ، لا ينمو إلا فى هذه المنطقة بالذات. وقد بلغنى أن حوالى مائة صنف من التمور ينمو نخيلها فى المنطقة القريبة من المدينة ،

__________________

(*) راجع أيضا المزمور الأول ، ل «وسوف يكون مثل شجرة مزروعة بجوار أنهار الماء».

١٣٨

ولكن مؤرخ المدينة المنورة يأتى على ذكر مائة وثلاثين صنفا من هذه التمور ، والجبلى واحد من هذه الأصناف ، وهو أرخص هذه الأنواع ، وأنا أعتقد أن هذا الصنف من التمور هو الأكثر انتشارا وشيوعا فى منطقة الحجاز ، والحلوة صنف آخر من هذه التمور ، وهناك أيضا الحلية ، وهو نوع صغير جدا من التمور ، ولا يزيد حجم الواحدة منه على حبة التوت ، وقد اشتق اسم هذا النوع من التمور من حلاوته المفرطة الزائدة عن الحد ، التى تضارع حلاوة التين الذى يأتى من سميمة ، وهذا النوع من التمر شبيه بتين سميمة الذى تتكون له قشرة سكرية عند ما يجف. سكان المدينة المنورة يروون أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحدث معجزة بذلك الصنف من التمر ؛ فقد غرس محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نواة من نوى ذلك التمر ، فى الأرض ، وعلى الفور نمت تلك النواة وأصبح لها جذر ، وكبرت ، وأثمرت أمامهم ، كل ذلك خلال خمس دقائق ، وأمام أعينهم ، وهناك معجزة أخرى يحكى الناس عنها ، وأنها خاصة بذلك النوع من التمور الذى يسمونه السيهانى ، وأن نخلة من ذلك النخيل خاطبت النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصوت عال قائلة «سلام عليكم» عند ما مر عليها ، وتمر البرمى هو أصح هذه الأنواع ، نظرا لأنه أسهل أنواع التمور هضما ؛ هذا الصنف من التمور كان مفضلا عند (سيدنا) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الذى نصح العرب بأكل سبع حبات منه كل صباح قبل تناول الإفطار. وتمر الجلبى هو أشد هذه التمور ندرة ، ويصل طول الواحدة منه حوالى ثلاث بوصات ، أما عرضها فيصل إلى ما يقرب من بوصة واحدة ، وله مذاق مقبول تماما على الرغم من أنه ليس بدرجة حلاوة تمر الحلية ، ويبدو أن هذا الصنف من التمور ينمو بصعوبة بالغة ؛ إذ لا يوجد من أشجاره أو بالأحرى نخيل هذا الصنف سوى مائة نخلة فقط ، على أكثر تقدير ، لذا فإن هذا النوع من النخيل أقل خصوبة من الأنواع الأخرى. هذا النوع من النخيل لا ينمو فى أى مكان آخر فى الحجاز ، لكنه ينمو هنا فى المدينة المنورة وفى بيارات ينبع النخل ، وسعر تمر البرمى يقدر بعشرين بارة للكيلة الواحدة ؛ والكيلة مكيال يقدر بحوالى مائة وعشرين تمرة ، فى حين يباع تمر الجلبى بواقع عشرين بارة لكل ثمانى تمرات ، وتمر الجلبى عليه طلب كبير من الحجاج ، الذين يقدمونه هدايا لأصدقائهم باعتباره قادما من مدينة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويجرى تعبئه

١٣٩

صناديق صغيرة من تمر الجلبى ، بحيث يتسع الصندوق لمائة تمرة ، استعدادا لنقلها إلى مناطق أخرى غير المدينة المنورة.

التمر هو المادة الغذائية الرئيسية عند الطبقات الدنيا من أهل المدينة المنورة ، وهم ينتظرون موسم الحصاد بفارغ الصبر ، ويكون ذلك الموسم محفوفا بكثير من الفرح والمرح شأنه شأن موسم حصاد الكروم فى أوروبا ، وإذا ما تدهور المحصول ، وقد يحدث ذلك فى بعض الأحيان ، نظرا لأن النخيل لا يعرف عنه أنه يمكن أن يعطى محصولا وفيرا على امتداد ثلاث سنوات متتالية ، أو عند ما يسطو عليه الجراد ، الأمر الذى يجعل الحزن والوجوم يتملك الناس جميعا ، كما لو كان ذلك إيذانا بالمجاعة وتخوفا منها.

هناك نوع من أنواع التمور فى المدينة المنورة يظل محتفظا بلونه الأخضر على الرغم من حلاوته ونضجه ، وعلى الرغم من جفافه أيضا. هناك نوع آخر من التمور يظل محتفظا بلونه الأصفر اللامع ، هذه الأنواع من التمور يجرى لضمها فى خيوط ، ويجرى بيعها فى سائر أنحاء الحجاز ، حيث يطلق الناس عليه هناك اسم قلايد الشام ، أو إن شئت فقل عقود الشمال ، يضاف إلى ذلك أن الأطفال الصغار يطوقون أعناقهم بتلك القلائد. بشاير التمور يأكلها الناس فى بداية شهر يونيو ، والتمور فى هذه الفترة يطلق الناس عليها اسم رطب ، لكن حصاد التمر يكون فى نهاية شهر يونيو ، لكن التمر فى مصر يتأخر حصاده شهرا ، أى أن الناس يحصدونه فى شهر يوليو. والتمر يقدمه العرب بأشكال مختلفة ؛ فقد يسلقونه فى الحليب ، وقد يحمرونه مع شىء من الزبد ، أو قد يحولونه إلى سائل غليظ القوام عن طريق غليه فى الماء ، الذى يصب عليه شىء من عسل النحل ، والعرب يقولون إن الزوجة الصالحة تقدم لزوجها ، طوال شهر كامل ، طبقا من التمر جرى إعداده بطرق مختلفة.

هذه البساتين تشيع فيها شجرة معروفة للناس جميعا هى شجرة الأثل ، وهو نوع من نبات الطرفاء ، يزرعه الناس طمعا فى أخشابه الصلبة ، التى يستعملها

١٤٠