ترحال في الجزيرة العربية - ج ٢

جون لويس بوركهارت

ترحال في الجزيرة العربية - ج ٢

المؤلف:

جون لويس بوركهارت


المترجم: صبري محمّد حسن
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المركز القومي للترجمة
الطبعة: ١
ISBN: 977-437-388-X
الصفحات: ٢٨٩
الجزء ١ الجزء ٢

عدة ضد ذلك الحسّان ، لكن السلطان لم تكن لديه القوة الكافية لعزل هذا الرجل وعند ما كانت القافلة تصل إلى المدينة المنورة ، قادمة من سوريا ، كان ذلك الحسان القلعى ، يكشف عن مواقف تنم عن أن رؤساء هذه القافلة غير قادرين على أن يضروه بشىء. كان الرجل يضع كثيرا من العقبات أمام رؤساء القافلة ، والناس هنا يعزون إليه مسألة إجبار القافلة التى عزمت ـ بعد الغزو الوهابى للمدينة ـ على القيام برحلة إلى مدينة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

عند ما بدأ الوهابيون يغيرون على مدن الحجاز ، ويجردون قواتهم على المدينة المنورة ، كان رد حسّان القلعى لا يزال عنيفا وقاسيا ، وخلال العامين أو الثلاثة التى سبقت استيلاء الوهابيين على المدينة المنورة ، لم يضع حسان القلعى حدا لمظالمه ، وكان غالبا ما ينزل أقسى العقوبات بأولئك الأشخاص الذين يتصادف ضحكهم فيما بينهم وبين أنفسهم ، أثناء مرور هذا الرجل ، من منطلق أن ذلك العرج الخفيف كان هو مدعاة لمرح هؤلاء الناس وفرحهم. أثناء الليل كان العرب العاملين فى خدمة ذلك الحسّان يسطون على المحلات والدكاكين ، وبخاصة أن هؤلاء العرب كانوا يتجولون فى الشوارع على شكل جماعات كبيرة ، وبالتالى يستحيل مقاضاة مثل هذه الجماعات. وعند ما أدرك حسان القلعى استحالة المحافظة على المدينة المنورة من هجوم الوهابيين ، وبعد استسلام البدو وأهل مكة نفسها للوهابيين ، تخلى عن مكانه لسعود ، شريطة أن يستمر هو فى منصب القيادة ، جاء ذلك على شكل وعد جرى الوفاء به من جانب سعود ، وترتب على ذلك وضع حامية وهابية فى القلعة ، وهنا أجبر أغا الحرم ، وكل الأتراك المقيمين فى المدينة المنورة على مغادرة المدينة ، التى بقى فيها ذلك الأغا طوال سنوات عدة كأنه مجرد ظل أو خيال لا أكثر ولا أقل ، وبقى حسان القلعى محافظا على المدينة المنورة ، فى ظل الحكم الوهابى. وعند ما وجد حسان أنه عاجز عن التصرف على النحو الظالم الذى كان عليه من قبل ، راح يتظاهر بالولاء الكامل للوهابيين ، وراح يقهر السكان ، ويفرض عليهم أقصى درجات القسوة ، بحجة نشر مبادئ المذهب الوهابى. لم يول سعود المدينة المنورة احتراما أكثر من احترامه لمكة

١٨١

المكرمة ؛ فقد تخلى سعود عن دخل مكة ، نظرا لأنها كانت فى أيدى شريف مكة ، إضافة إلى أن أهل مكة جرى إعفاؤهم من الزكاة ، التى كان الرعايا الوهابيون الآخرون يدفعونها لرئيسهم ، الذى تخلى عن هذا الحق لصالح الشريف غالب. هذا النظام القائم على التراضى والمراضاة لم يجر اتباعه فى المدينة المنورة ، وهنا بدأ أهل المدينة الذين لم يسبق لهم أن عرفوا معنى الضريبة أو الرسوم ، اللهم باستثناء بعض المبالغ التافهة ، بدءوا يحسون بالقهر الشديد ، وبدأ حسان القلعى ، مع جباة ضرائب سعود يفرضون الضرائب على الناس بكل شدة وصرامة.

توقفت قوافل الحج فى تلك المرحلة ، ولم يصل لأداء الحج عن طريق ينبع سوى عدد قليل من الحجاج ، وبعد ذلك مباشرة حرّم أو منع سعود مرور قوافل الحجاج الأتراك إلى المدينة المنورة ، وجرى بناء على ذلك منع وصول الصرّة. فى ظل هذه الظروف بدأ أهل المدينة يستشعرون الضغوط الشديدة فى ذلك الزمن ، وغضبوا من الوهابيين وازدادوا حنقا عليهم ، ويمكن الوقوف على المزيد من تفاصيل هذا الموضوع فى حملة محمد على باشا.

عند ما جهز محمد على باشا لأول مرة حملة على الوهابيين ، جرى وضع حامية كبيرة فى المدينة المنورة ، وكانت تلك الحامية مكونة من البدو المولعين بالحرب ، وبخاصة بدو نجد وبدو المناطق الجنوبية ، بقيادة المضيّان ، الذى عينه سعود شيخا لقبيلة حرب. كشف حسّان القلعى عن تحمس كبير للقضية أو المصلحة العامة ، وبعد إنزال الهزيمة بطوسون باشا لأول مرة ، تأكد حماس حسان القلعى من جديد ، فى موقفه الذى وقفه فى المدينة المنورة ، لكن عند ما عاد طوسون فى المرة الثانية ومعه قوات كبيرة ، سارع حسان القلعى ، فى ضوء توقعه لانتصار طوسون ، إلى التفاوض معه بطريقة سرية ، وحصل منه على وعد باستمراره فى منصبه ، شريطة أن يسهل للعثمانيين مسألة الاستيلاء على المدينة المنورة. وعند ما وصل العثمانيون إلى أبواب المدينة المنورة ، انضم حسان القلعى إليهم ، واستقبله أحمد بونابرت ، القائد التركى ، بحفاوة وتكريم كبيرين ، وجرى بعد ذلك مباشرة الهجوم على المدينة ، أما القلعة فقد

١٨٢

جرى الاستيلاء عليها عن طريق الاستسلام ، لكن بعد أن تم قمع الجماعة الوهابية تماما فى هذه المناطق ، جرى القبض على كل من المضيان ، الذى سبق أن وعد بأن يظل مطلق السراح ، وحسّان القلعى ، وجرى إرسالهما عن طريق القاهرة إلى إسطنبول ، ليلقيا المصير ، الذى يستحقه حسان القلعى ، على الرغم من أن جرائمه لا يمكن أن تسوغ له خيانة أولئك الذين ألقوا القبض عليه.

عقب الأحداث السابقة مباشرة ، عاد أغا الحرم ، وهو من رجال السلطان سليم ، إلى المدينة المنورة واسترد سلطته ، لكن القيادة الحقيقية أصبحت بيد المحافظ التركى. وفى أواخر عام ١٨١٤ م ، وصل طوسون باشا إلى المدينة المنورة بصفته محافظا لها ، وذلك من باب التمهيد لحملته التى أزمع شنها على نجد ، لم يكن حكم طوسون سيئا ، لأنه كان صاحب نوايا طيبة ، علاوة على حب السكان له لكرمه وتدينه ، لكن إجراءات طوسون كانت تتسم بالحمق والغباء ؛ فقد أخاف طوسون البدو ، وتسبب فى هربهم عند ما استولى على إبلهم ، وبذلك يكون قد تسبب فى قطع الإمدادات والتموينات عن المدينة ، وتسبب فى خلق عجز فى سائر أنواع المؤن ، والضروريات الأخرى ، وسرعان ما بدأ جنود طوسون يرتكبون الأخطاء والمخالفات ، التى أهمل أو تغاضى عن القضاء عليها عن طريق إنزال العقوبات بمن يرتكبونها. بعد رحيل طوسون باشا ، وصل والده محمد على باشا إلى المدينة المنورة فى شهر إبريل من عام ١٨١٥ م ، وبحكم عدالته المبنية على الخبرة والتجربة ، سارع على الفور باتخاذ الإجراءات المناسبة لإصلاح الأخطاء التى ارتكبها ولده.

وهنا تظل المدينة المنورة تحت حكم قائد تركى ، وقد شغل هذا المنصب طوال أشهر قلائل ذلك الاسكتلندى توماس كيث ، أو إن شئت فقل : إبراهيم أغا ، الذى سبقت الإشارة إليه باعتباره مسئول الخزانة مع طوسون باشا. أغا الحرم لديه حوالى ستين جنديا أو ثمانين ، وهم عبارة عن خليط من الأتراك ، والعرب ، والمغربين ، ومن أهل المدينة المنورة ؛ هذا يعنى أن الشئون الدينية وكل الأمور المتعلقة بالمسجد النبوى كانت كلها فى يدى ذلك الأغا. يجىء القاضى فى المرتبة الثانية بعد أغا الحرم ،

١٨٣

وكان القاضى فى ذلك الوقت من الوهابيين ، وقد أجبر على التقاعد فى نهاية المطاف.أما شيخ الأشراف ، أو إن شئت فقل : السادات ، فقد ظل يحظى باحترام كبير ، هو وشيوخ متعددون آخرون ، من شيوخ المدينة المنورة ، وأنا أعتقد أولا وقبل كل شىء ، أن أهل المدينة المنورة يكرهون حكامهم الحاليين ، أقصد الأتراك ، بدرجة أقل من كراهية بقية سكان الحجاز لهم ، وذلك على الرغم من عدم إحداث نوع من المصالحة الحقيقية بينهم.

قبل الغزو الوهابى ، كان شريف مكة يحتفظ هنا فى المدينة المنورة ، بموظف صغير ، تتمثل مهمته فى استلام بعض الرسوم البسيطة التى كانت مفروضة على الخضروات ، واللحوم ، والمؤن الأخرى التى يجرى جلبها إلى السوق. تلك كانت الضريبة الوحيدة المفروضة على أهل المدينة المنورة ، بل إنها كانت بمثابة البقية الباقية من السلطة التى كانت لشريف مكة على المدينة المنورة ، التى ضاعت واختفت تماما فى الأيام الأخيرة. هذا يعنى أن الشريف غالب لم تعد له سلطة من أى نوع كان على المدينة المنورة ، لكنى أرى ، على الرغم من عدم تأكدى من ذلك ، أنه لا يزال يتمتع بالسلطة الاسمية ، أو بلقب رئيس المدينة المنورة ، فى أضعف الأحوال ، يضاف إلى ذلك أن وجود المدينة المنورة تحت قيادة شريف مكة إنما يجعلها ـ فى نظر الباب العالى ـ جزءا من الحجاز.

يضاف إلى ذلك أن كثيرا من الكتاب العرب المحترمين يؤكدون أن المدينة المنورة تشكل جزءا من نجد ، وليس من الحجاز ، وأن المدينة المنورة بالشكل التى هى عليه ، إنما تقع على الجانب الشرقى من سلسلة الجبال الكبيرة ، ويبدو أن هذا الرأى يقوم على أساس سليم ، إذا ما أخذنا بعين اعتبارنا مسألة الحدود الطبيعية ، لكن إذا ما سحبنا ذلك المصطلح على الساحل ، وعلى كل من مكة والمدينة المنورة ، نجد أن المدينة المنورة تشكل جزءا من الحجاز ، وذلك على الرغم من أن بدو الداخل يعطون لهذه التسمية دلالة مختلفة تماما.

١٨٤

مناخ المدينة المنورة وأمراضها

اكتشفت أن مناخ المدينة المنورة ، خلال شهور الشتاء ، يكون أبرد من نظيره فى مكة المكرمة. الناس هنا لا يعرفون الجليد أو الثلوج ، على الرغم من أن البعض قالوا لى إنهم يتذكرون أنهم شاهدوا الثلج والجليد فى الجبال المجاورة لهم ، والأمطار ليس لها فترات محددة من فصل الشتاء ، لكنها تسقط على فترات ، وتكون الأمطار على شكل عواصف عاتية ، قد تستمر يوما واحدا ، أو يومين على أكثر تقدير ، وقد يمر فصل الشتاء كله دون أن يسقط المطر سوى مرة واحدة ، فقط ، الأمر الذى يترتب عليه حدوث جفاف شديد. يقول أهل المدينة المنورة إن ثلاث زخات أو أربع من المطر أمر ضرورى لرى التربة ، يزاد على ذلك ، أن مياه السيول تغرق أجزاء كثيرة من البلاد وبخاصة أراضى الرعى أو المراعى إن صح التعبير ، التابعة للبدو. يضاف إلى ذلك أن الأمطار المستمرة التى تدوم طوال أسبوع كامل ، أو أطول من ذلك ، كما هو الحال فى سوريا ، هذه الأمطار لا تعرفها المدينة المنورة ؛ بعد كل زخة من زخات المطر ، التى تستمر مدة أربع وعشرين ساعة ، تصفو السماء ، وبذلك يسود طقس ربيعى جميل يستمر أسابيع عدة. آخر العواصف التى تصيب المدينة المنورة فى شهر إبريل ، ومع ذلك فإن نوبات الوابل التى تسقط بين الحين والآخر ، تعد أمورا متكررة الحدوث فى منتصف فصل الصيف.

أهل المدينة المنورة ، هم وكثير من الأجانب ، يؤكدون أن حرارة الصيف فى المدينة المنورة أشد منها فى أى مكان آخر من أماكن الحجاز ، وأنا لم أستطع التأكد من ذلك. سبق أن قلت إن الطابع الملحى لكل من التربة والماء ، وكذلك برك المياه الراكدة حول المدينة ، وكذلك الأبخرة الناتجة عن بيارات النخيل فى ضواحى المدينة المنورة ، كل ذلك يجعل هواء المدينة المنورة غير مناسب للصحة إلى حد ما.

الحمى بأشكالها المختلفة هى الأكثر شيوعا هنا ، الأمر الذى يجعل السواد الأعظم من أهل المدينة معرضين للإصابة بها ، ولا مفر من إصابة الأغراب بها إذا ما أقاموا فى المدينة المنورة فترة طويلة ، وبخاصة فى فصل الربيع. وقد أكد لى يحيى أفندى ، طبيب طوسون باشا ، عند ما كنت مريضا ، أنه يعالج ثمانين شخصا

١٨٥

مصابين بالحمى ، ويبدو أن يحيى أفندى قد وفق فى شفاء هؤلاء المرضى ولم يكن موفقا فى شفائى أنا. كل أشكال الحمى هنا من النوع المتقطع ، ويحاط المرضى بعد شفائهم من الحمى برعاية كبيرة ؛ إذ يخشى الناس من معاودة الحمى لهم. بعد أن خرجت من سكنى بعد شفائى ، وجدت الشوارع تغص بأعداد كبيرة من المتماثلين للشفاء ، الذين يدل مظهرهم دلالة واضحة على الأعداد الكبيرة التى كانت تعانى مثلى تماما. هذه الأشكال من الحمى إذا لم يتم شفاؤها خلال مدة محددة ، فإنها غالبا ما تسبب إحداث تورمات مؤلمة فى المعدة ، وفى القدمين ، ولا تزول هذه التورمات بسهولة. أهل المدينة المنورة لا يهتمون بالحمى المتقطعة ، التى اعتادوا عليها ، الأمر الذى يندر أن يودى بحيواتهم ، لكن الأمر مختلف تماما مع الغرباء. فى بعض فصول العام تشكل الحمى المتقطعة وباء فى المدينة ، إذ يقال إن حوالى ثمانين شخصا ماتوا فى غضون أسبوع واحد ، ولكن الحالات التى من هذا القبيل تعد أمورا نادرة الحدوث.

يقال إن مرض الدوسنتاريا يندر حدوثه هنا ، وتشيع هنا الشكوى من الأمراض الباطنية ومن المرارة. ويبدو أن معدل الوفيات هنا فى المدينة المنورة ، أعلى من أى مكان آخر من الأماكن التى زرتها فى الشرق ؛ كنت أقيم فى مسكن قريب من أحد أبواب المسجد النبوى ، وكان يجرى إدخال جثث الموتى من هذا الباب للصلاة عليها قبل دفنها ، وكنت أسمع وأنا على فراش المرض الناس وهم يقولون : «لا إله إلا الله» وهم يدخلون جثث الموتى أو يخرجونها من المسجد. طوال مقامى وحجزى الذى دام ثلاثة أشهر بسبب مرضى فى المدينة المنورة كانت تمر على نافذتى يوميا جثة أو جثتان من جثث الموتى. وإذا ما أخذت معدل ثلاث جثث فى اليوم الواحد ، كان يجرى إدخالها إلى المسجد من خلال هذا الباب ، والأبواب الأخرى ، علاوة على العرب الفقراء الذين يموتون فى الضواحى ، والذين يجرى الصلاة عليهم فى المسجد الواقع فى ضاحية المناخ ، سنجد أن عدد الوفيات يقدر بحوالى ألف ومائتى نسمة سنويا ، فى هذه المدينة الصغيرة ، التى يبلغ إجمالى عدد سكانها فى نظرى بما يتراوح بين ستة عشر ألف نسمة

١٨٦

أو عشرين ألف نسمة ؛ نسبة الوفيات هذه لا يمكن تعويضها عن طريق المواليد ، ولا بد أنها تسببت منذ زمن بعيد فى خلخلة عدد سكان المدينة المنورة ، اللهم إلا إذا كان وصول الأجانب يعوض هذا الخلل بصورة مستمرة. من بين هذا العدد من السكان ، أرى أن حوالى عشرة آلاف أو اثنى عشر ألفا هم من سكان المدينة الأصليين ، أما الباقون فهم من الضواحى.

الرحلة من المدينة المنورة إلى ينبع

فى اليوم الحادى والعشرين من شهر إبريل من عام ١٨١٥ م. تجمعت قافلتنا الصغيرة عصر ذلك اليوم ، بالقرب من البوابة الخارجية للمدينة ، وعند الساعة الخامسة مساء مررنا من خلال البوابة التى سبق أن دخلت منها ، عند ما وصلت المدينة المنورة قبل ثلاثة أشهر ، فى ذلك الوقت كنت بصحة جيدة وروح معنوية عالية ، وكنت غارقا فى الآمال المعلقة على استكشاف أجزاء مجهولة ومهمة من الصحراء أثناء عودتى إلى مصر ، لكنى منهك بسبب المرض ، ومكتئب ، ولا أرغب فى أى شىء سوى الوصول إلى مكان عامر بالود ومفيد للصحة ، يمكن لى فيه استرداد صحتى وعافيتى. الأرض المفضية إلى المدينة على هذا الجانب أرض صخرية ، وهذه المنطقة تبعد عن المدينة مسير ثلاثة أرباع الساعة ، والطريق فيه منزل منحدر قصير ، تحفه الصخور من الجانبين ، وممهد لتسهيل مرور القوافل. كنا نسير فى اتجاه الجنوب الغربى ثم التحول جنوبا بعد ذلك. وفى خلال ساعة من الزمن وصلنا مجرى سيل يسمونه وادى العقيق ، الذى استقبل خلال الأمطار التى سقطت مؤخرا كمية كبيرة من المياه التى وصلت إليه من الجبال المجاورة ، الأمر الذى حول ذلك الوادى إلى ما يشبه نهرا واسعا عميقا ، عجزت إبلنا عن محاولة عبوره أو تجاوزه. ونظرا لأن الجو كان صحوا ، فقد توقعنا تناقص مياه ذلك الوادى تناقصا كبيرا فى اليوم التالى ، ولذلك خيمنا على ضفة ذلك النهر فى مكان يسمونه المدرّجة. فى المدرّجة هذه ، توجد قرية صغيرة مهدّمة ، كانت مبانيها مبنية بناء جيدا باستعمال الأحجار ، وكان لهذه القرية بركة صغيرة ،

١٨٧

أو إن شئت فقل : خزان صغير ، وبئر مهدّمة بالقرب من ذلك الخزان. سكان هذه القرية يزرعون بعض الحقول على ضفة وادى العقيق ، لكن تحرش البدو بهم هو الذى جعلهم يمتنعون عن زراعة الأرض.

وادى العقيق شهير بالشعراء العرب (*). تنمو بعض أشجار العاشور على ضفاف وادى العقيق ، وكانت تلك الأشجار مزهرة تماما فى ذلك الوقت. صحبنا إلى هذه المسافة البعيدة بعض من أهل المدينة المنورة ، وذلك من باب التحية والتقدير لذلك المفتى الذى جاء من مكة (المكرمة) فى زيارة للمدينة المنورة ، وكان عائدا إلى موطنه فى ذلك التاريخ ، وكان ينوى الافتراق عن قافلتنا عند مدينة صفراء. كان بصحبة ذلك المفتى خيام كثيرة ونساء كثيرات أيضا ، أما بقية زملائى المسافرين فكانوا من التجار الصغار فى المدينة المنورة ، وكانوا ذاهبين إلى جدة لانتظار وصول السفن الهندية ، وكان من بين هؤلاء التجار تاجر ثرى من مسقط ، كنت قد التقيته من قبل فى مكة ، عند ما كان يؤدى فريضة الحج ؛ كان بصحبة ذلك التاجر عشرة جمال كانت تحمل حريم ذلك الرجل ، وأطفاله ، وخدمه وأمتعته ، وكان ينفق فى كل محطة من المحطات مبالغ من المال على سبيل الإحسان. كان ذلك الرجل ، بكل المعايير عربيا سخيا وجديرا بالاحترام.

اليوم الثانى والعشرون من شهر إبريل. تناقص السيل وعبرناه فى فترة العصر. سرنا مدة ساعة واحدة فى واد ضيق ، تتبعنا خلالها مجرى السيل نحو الأعلى ، وبعد مرور ساعة ونصف الساعة تركنا مجرى السيل ، وانفتح السهل أمامنا فى اتجاه

__________________

(*) يقول بعض الناس : إن هذا السيل يفرغ نفسه فى الأرض المنخفضة نفسها التى يسمونها الغابة ، أو إن شئت فقل زغابة ، التى تقع غربى المدينة المنورة ، فى الجبال التى تفرغ فيها السيول المحيطة ماءها. يقول هؤلاء الناس أيضا : إن الحصن العربى الذى يطلقون عليه اسم قصر المراجل يقع على ضفاف هذا السيل فى اتجاه الشرق ، ومن قصر المراجل هذا يعبر السيل المنطقة المسماة بالناقية متجها إلى الغابة. وعلى بعد مسير حوالى خمسة أميال من المدينة المنورة ، توجد محطة من محطات الحج يسمونها ذى الحليفة وتقع على ضفاف وادى العقيق ، وفيها قلعة صغيرة وبركة ، أعيد بناؤها فى العام ٨٦١ الهجرى. ولعل المقصود بذلك هو المدرّجة.

١٨٨

الشرق ، والسهل فى هذه المنطقة يطلق الناس عليه اسم السلسلة ، كان طريقنا فى السهل يتجه صوب الغرب ثم الجنوب ثم الغرب مرة ثانية. كانت الصخور المنتشرة فى هذا القسم من السهل من النوع الجيرى ، وبعد انقضاء ثلاث ساعات ونصف الساعة دخلنا الجبل من جديد ، وواصلنا مسيرنا فى وديانه ، ورحنا ننزل ببطء من فوق الجبل ، واستمر ذلك النزول الليل بكامله ، ومع طلوع النهار مررنا بالسهل الذى يطلق الناس عليه هنا اسم الفريش ، وهو المكان الذى خيمت فيه فى اليوم السابق لوصولى إلى المدينة المنورة ، وتوقفنا للراحة بعد مضى اثنتى عشرة ساعة ونصف الساعة ، فى الجزء العلوى من وادى الشهداء. (*)

اليوم الثالث والعشرون من شهر إبريل. بعد أن أنزلنا أمتعتنا ، انهمر مطر غزير مصحوب بصوت رعدى وومضات برقية فظيعة ، وإن هى إلا لحظات حتى فاض الوادى عن آخره ، وهنا رأينا أن من الأوفق تمضية النهار كله هنا فى هذا المكان ، ولذت بخيمة من خيام ذلك التاجر المسقطى. توقفت العاصفة فى فترة العصر ، وبدأنا مسيرنا عند الساعة الثانية مساء ، وبعد مرور ساعة من الزمن من تجاوزنا مقبرة الشهداء ، أتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الذين يقال إن أربعين منهم مدفونون فى هذه المقابر ، واصلنا مسيرنا ببطء نازلين إلى الوادى ، فى الاتجاه جنوب جنوب غرب. وفى أعالى وادى الشهداء ، بدأت تطالعنا صخور الجرانيت ، وكانت السلاسل العليا من تلك الصخور جيرية الطابع ، وبعد مضى خمس ساعات خرجنا من الوادى ، وفى الليل تجاوزنا سهول شعب الحال ونازية ، وبعد أن أمضينا ثلاث عشرة ساعة ونصف الساعة سائرين ، توقفنا وخيمنا فى الجبال ، فى الوادى الواسع الذى يسمونه وادى مضيق ، الذى يقع على الطريق الواصل بين نازية والجديدة ، التى تبعد مسير ساعتين عن نازية ، والتى سبق أن مررت بها أثناء الليل فى رحلتى السابقة. بلغنى أن هذه

__________________

(*) مسافات هذه الرحلة لا تتفق تماما مع المسافات التى أوردتها عند حضورى إلى المدينة المنورة ، لكنى أفضل الحديث عن هذه المسافات طبقا لما ورد فى يومياتى.

١٨٩

الجبال الواقعة بين المدينة المنورة والبحر الأحمر ، بل والمنطقة الشمالية كلها ، يكثر فيها الماعز الجبلى كما تكثر فيها الفهود أيضا.

اليوم الرابع والعشرون من شهر إبريل. قلة قليلة من عرب بنى سالم يقومون بزراعة الذرة فى بعض الحقول ، التى يروونها من عين من الماء الجارى الذى ينساب عبر فتحة بين الجبال ، مكونا بذلك أحواضا كثيرة ، وشلالات جميلة ـ وهذا أفضل نوع من الماء شربته بعد أن غادرت جبال الطائف. استأنفنا مسيرنا من هذه المنطقة فى فترة العصر ، وصادفنا أمطارا غزيرة كثيرة بدءا من وقت الظهيرة إلى غروب الشمس. كانت القافلة تضم كثيرا من المرضى وكثيرا ممن لا يزالون فى فترة النقاهة ، وبخاصة النساء اللاتى كن جميعا يشتكين. وأنا شخصيا داهمتنى نوبة حمى شديدة أثناء الليل ، عاودتنى اليوم واستمرت معى إلى أن وصلت بلدة ينبع ، كانت الحمى شديدة الوقع علىّ ، إذ كانت مصحوبة بالعرق الشديد أثناء الليل ، والمصحوب برعشة مع بداية طلوع النهار ، ولما كانت القافلة لا تستطيع التوقف بسببى أو من أجلى ، فلم تتهيأ لى فرصة تغيير ملابسى الداخلية. يضاف إلى ذلك ، أننا اضطررنا إلى التخييم فى أرض رطبة ، ونظرا لقلة عدد الجمّالة بالنسبة إلى كمية الأمتعة ، فقد اضطررت إلى المساعدة فى عملية تحميل الأمتعة ، وسبب ذلك أن مرافقى كان واحدا من أسوأ الناس طبعا ، ومن أكسل الكسالى الذين التقيتهم بين أفراد هذه الأمة.

سرنا فى واد متعرج مدة ساعتين ونصف الساعة إلى أن وصلنا الخيف ، التى هى بداية وادى الجديدة ، محل إقامة رئيس الموقع التركى ، الذى سألنا إن كنا نحمل أخبارا له من مركز الرئاسة ؛ فقد مضى على رئيس الموقع هذا حوالى أسبوعين لم يسمع خلالهما أى شىء عما يدور فى المدينة المنورة ؛ ذلك أنه طوال الحملة التركية على الحجاز ، لم يجر إنشاء خدمة بريدية منتظمة فى أى مكان من أماكن الحجاز. كان طوسون باشا نفسه يترك فى كثير من الأحيان ولشهور عدة فى المدينة المنورة ، وهو لا يعلم شيئا عن أحوال الجيش الذى يقوده والده ، يضاف إلى ذلك أن محمد على باشا نفسه كان يتلقى معلوماته الاستخباراتية من كل من مكة (المكرمة) وجدة عن

١٩٠

طريق القوافل العادية ، كانت البرقيات والمراسلات السريعة أمورا نادرة ، ولم يكن هناك اتصال برى بين القاهرة ومكة. لم يكن ذلك قاصرا على هذا الجانب وحده وإنما امتد أيضا إلى بعض تفاصيل العمليات الحربية الأخرى ؛ هذا يعنى أن القادة العسكريين الأتراك يكشفون عن افتقارهم إلى النشاط أو إن شئت فقل : بعد النظر ، الأمر الذى يجعل البدو يفاجئونهم ولا بد أن يعرض عملياتهم للفشل إذا ما واجهوا عددا يقظا لكنه لا يتفوق عليهم عددا.

كان معسكر الجنود فى الخيف غارقا تماما فى مياه السيول ، بل إن الوادى على اتساعه كان غارقا فى مياه السيول التى كانت على شكل نهر جار سريع. وبدون توقف هنا أو هناك تخطينا بلدة الجديدة بعد مرور ثلاث ساعات ونصف الساعة ، كما تجاوزنا أيضا بلدة الدار الحمراء ، التى كان سكانها قد استزرعوا حقولا جديدة ، بعد أن مررت على هذه المنطقة فى شهر يناير ، ونحن الآن فى شهر إبريل. كانت الأمطار الغزيرة توحى بمحصول وفير فى ذلك العام ، وكان السؤال المتكرر على ألسنة كل أولئك الذين كنا نمر عليهم ، حول ما إذا كانت المنطقة الفلانية أو العلانية قد غمرتها مياه السيول ، فى الجزء العلوى من البلاد. لقد وصلنا بلدة الصفراء بعد سبع ساعات ، وعندها انفصلت عن القافلة الجماعة المكية التى كانت مرافقة للقافلة ، وسبب انفصال هذه الجماعة هو أنها كانت قد استأجرت إبلها إلى هذه المسافة فقط ، نظرا لأنهم سوف يستأجرون إبلا أخرى لتكملة الرحلة إلى مكة ، ومع ذلك قامت الإبل التى كانت تحمل هذه الجماعة بمرافقتنا إلى ينبع. معروف أن الإبل المستخدمة فى عملية النقل وفى الحمل فيما بين الساحل والمدينة المنورة ، تنتمى كلها إلى قبيلة بنى حرب.

بقينا دقائق معدودات فى بلدة الصفراء ، وكان الوقت حوالى منتصف الليل ، شربنا خلالها شيئا من القهوة فى واحد من دكاكين البلدة ، ثم واصلنا مسيرنا فى اتجاه الغرب ، عن طريق سبق أن سلكته وأنا فى طريقى إلى الصفراء قادما من مكة (المكرمة). كان جانبا هذا الوادى الضيق الذى كنا ننزل إليه عامرين بمزارع النخيل الكثيفة المتواصلة. وبعد تسع ساعات ونصف الساعة تجاوزنا قرية يسميها الناس هنا

١٩١

الوسيط ، وقد بناها أهلها بين بيارات النخيل ، وفيها بساتين مترامية الأطراف وعامرة بأشجار الفاكهة. والماء موجود بعد كل خطوة على شكل آبار أو عيون ، ويبدو أن هذا الطريق أقصر من الطريق الذى يمر عبر الوادى. كان الطريق الذى يمر من فوق الجبل صخريا ومنحدرا ؛ ولذلك اضطرنا مرشدونا إلى السير على أقدامنا ، وحاولت بصعوبة بالغة الوصول إلى القمة متحملا مشاق السير وآلامه ، ومن القمة عن طريق منحن أقل وعورة ، وبعد مضى اثنتى عشرة ساعة ، نزلنا من جديد إلى طريق الوادى ، بالقرب من قرية صغيرة يسمونها الجديد. هذا الجبل الذى تجاوزناه يطلق الناس عليه اسم ثنية الوسيط. وهنا وجدنا أن الوادى الذى تركناه على يميننا بدأ يأخذ اتجاها دائريا ، ويشمل قرى أخرى كثيرة سمعت الناس يقولون عنها ما يلى : الحسينة (وهى الأقرب للوسيط) ، ثم إلى الأسفل منها توجد قرية الفراع ، والبركة فى المنطقة القريبة من الجديد. المنطقة الواقعة خلف الوسيط عبارة عن واد هو جزء من وادى بدر ولكنه يرتفع عنه متجها صوب الصفراء. قرية الجديد يقل فيها النخيل تماما كما تقل فيها الحقول أيضا ؛ الجديد تقع فى سهل ، تمر خلاله السيول ، بعد أن تروى المزارع التى فى أعالى الوادى. واصلنا مسيرنا فى ذلك السهل مدة ساعة واحدة من الزمن ، فى اتجاه شمال ٥٠ غرب. وبعد مسير دام ثلاث عشرة ساعة دخلنا إلى سلسلة من الجبال ، تمتد فى اتجاه الغرب ، وهى السلسلة نفسها التى سبقت الإشارة إليها فى رحلتى إلى المدينة المنورة ، وهذه السلسلة تتفرع متجهة غربا ، من السلسلة الرئيسية الكبيرة القريبة من بير الشيخ. كان طريقنا يمر عبر واد رملى واسع ، فيه بعض الانحناءات القليلة ، التى أوصلتنا إلى بدر ، بعد مسير مضن ومتعب دام أربع عشرة ساعة ونصف الساعة.

اليوم الخامس والعشرون من شهر إبريل. بدر حنين كما يسميها الناس هنا ، هى بلدة صغيرة ، منازلها مبنية من اللبن والحجر ، وشكلها جميل ، على الرغم ، أن هذه المنازل أقل عددا من منازل بلدة الصفراء. وبدر يحيط بها جدار بائس مبنى من اللبن ، ومحطم فى كثير من أجزائه. وهناك نهير غزير يفيض منسابا خلال البلدة ،

١٩٢

وهذا النهير ينبع من سلسلة الجبال التى تجاوزناها ، وهو يجرى فى مجرى حجرى ؛ هذا النهير يروى بيارات نخيل شاسعة ، فيها بساتين وحقول على الجانب الجنوبى الغربى من المكان ، وعلى الرغم من أننا كنا على بعد مسافة لا بأس بها من منبع ذلك النهير فإن ماءه لا يزال فاترا. يقول العصمى ، مؤرخ مكة إن الغورى سلطان مصر ، بنى مستودعا أو خزانا مائيا جميلا فى بدر ، ليشرب منه الحجيج ، لكنى لم أر ذلك الخزان ، وأنا ليس لدىّ ما يفيد وجود مثل هذا الخزان.

تقع بلدة بدر فى سهل محاط من ناحيتى الشمال والشرق بجبال منحدرة ، أما التلال الصخرية فتحيط بذلك السهل من ناحية الجنوب ، وفى الناحية الغربية نجد تلالا من الرمال المتحركة. والحج يجعل من بلدة بدر محطة من محطاته ، وقد عثرنا على المكان الذى يخيم فيه الحجاج بجانب بوابة البلدة مباشرة ، وكان ذلك قبل أربعة أشهر ، ولا يزال المكان فيه بقايا جثث الإبل ، وخرق الملابس ، وبقايا الأوانى المكسّرة ، إلخ. بدر شهيرة فى التاريخ العربى ، بسبب المعركة التى خاضها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى هذه المنطقة ، فى العام الثانى الهجرى ، ضد قوة أكبر من قوته مكونة من عرب قريش ، الذين جاءوا بصحبة قافلة ثرية كان ينتظر وصولها إلى سوريا ، وكان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد نصب لتلك القافلة كمينا فى هذه المنطقة. وعلى الرغم من مرضى الشديد ، خرجت بصحبة حجاج مسقط لمشاهدة ميدان القتال ، الذى أوصلنا إليه رجل من أهل بلدة بدر. جنوب المدينة ، وعلى بعد مسافة ميل تقريبا ، وعند سفح التلال ، توجد بعض المقابر لثلاثة عشر رجلا من أتباع النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصدقائه ، سقطوا شهداء فى هذا المكان. مقابر هؤلاء الشهداء عبارة عن أكوام من الطين ، المحاطة بصفوف من الأحجار السائبة ، وهذه المقابر كلها قريبة من بعضها البعض. كان القرشيون ، على حد قول مرشدنا ، يتخذون لأنفسهم مواقع فوق التل الواقع خلف المقابر ، فى حين قسم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوته الصغيرة إلى جزأين ، تقدم هو نفسه بقسم منهما إلى السهل ليكون صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى مواجهة العدو ، وأوكل شأن القسم الاحتياطى إلى على بن أبى طالب ، الذى صدرت له الأوامر بأن يتخذ لنفسه موقعا على التل الرملى الموجود فى الجانب الغربى.

١٩٣

هذه المعركة لم تكن لتحسم دون تدخل من السماء ؛ حينما بعث الله لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثة آلاف من الملائكة ، وعلى رأسهم جبريل عليه‌السلام. كان الثلاثة عشر شخصا الذين سبقت الإشارة إليهم قد قتلوا فى الجولة الأولى. واختبأ النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بسبب الضغط خلف صخرة كبيرة ، انفتحت عنوة لكى تسترة وتحتويه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومكنته من الوصول إلى أصحابه ، وقام محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالهجوم مرة ثانية ، وانتصر بفضل المعونة السماوية ، لم يخسر أى رجل من رجاله ، على الرغم من قتل سبعين من أعدائه فى هذا المكان. وقد تسببت حفنة من الحصى ، أو إن شئت فقل التراب ، التى ألقاها (أو التى ألقاها الله «سبحانه وتعالى» حسب الرواية القرآنية) على أعدائه ، فى هرب هؤلاء الأعداء. بعد أن استولى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على موقع الأعداء ، ارتاح صلى‌الله‌عليه‌وسلم قليلا فوق صخرة من الصخور ، الصخرة والحجرة موجودتان وواضحتان ، وفى كل الأحوال ، تخدمان غرضا واحدا طيبا ، هو استثارة إحساس الإحسان فى الزائر تجاه فقراء بدر ، الذين يتجمعون عند الصخرة كلما وصلت إليها قافلة من القوافل. كان موقع قوة (سيدنا) علىّ على التل البعيد ، أو إن شئت فقل موقع جماعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم القريبة من العدو ، وكذلك السهل الواقع خلف ذلك التل ، أو بالأحرى المكان الذى استأنفت منه القافلة السورية مسارها أثناء المعركة ، هذان الشيئان كانا يشرحان أو يفسران الآيات القرآنية التى تقول : (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) (سورة الأنفال : الآية رقم ٤٢). لكنى لم أستطع فهم الآية ، طبقا لتفسيرها المعتاد ، وأنا أميل إلى الاعتقاد بأن كلمة «ركب» التى يعدها المفسرون مرادفا للقافلة ، تجعلنا نعتقد أن الخيالة الذين كانوا تحت قيادة (سيدنا) على ، على الرغم من أنهم كانوا فوق التل ، فإنهم قياسا على بدر نفسها كانوا فى موقع منخفض ، أى أن الأرض كانت منحدرة انحدارا خفيفا. وجدنا هنا كثيرا من القباب الصغيرة التى دمرها الوهابيون. أثناء عودتنا إلى القرية ، مشينا من ناحيتها الجنوبية ، التى جلس فيها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات مرة معرضا لأشعة

١٩٤

الشمس ، ودعا الله (سبحانه وتعالى) أن يرسل عليه غمامة تظله ، ولبّى الله (سبحانه وتعالى) له تلك الرغبة على الفور ، والمسجد اسمه مشتق من السحاب. والمسجد هنا أفضل بناء وأكثر اتساعا فى مكان من هذا القبيل.

وسوق بدر فيه السلع نفسها التى فى سوق الصفراء. فيه بعض من البطيخ ، الذى تنتجه البساتين والحدائق ، معروض للبيع. اشترى التاجر المسقطى ، دون سابق معرفة أو علم ، خمسة أرطال من بلسم مكة (المكرمة) ، أى كل البلسم الذى كان متبقيا فى السوق ، على أمل أن يقدم هذه الكمية كلها هدية لإمام مسقط. هذا البلسم كان مغشوشا وهو البلسم نفسه الذى شاهدته من قبل فى سوق الصفراء. سكان بدر الأصليون عبارة عن بدو من قبيلة صبح ، التى تنتمى إلى قبيلة حرب ، والتى استوطن بعض أفرادها هذا المكان. بعض آخر من الناس لهم دكاكين هنا فى بدر ، ويعودون عند ما يأتى المساء إلى خيام عوائلهم فى الجبال المجاورة. وبدر مكان يتردد عليه كل من البدو والمسافرين ، والطلب عال على المساكن فى بدر ، والمحل الصغير فى السوق يؤجر بحوالى عشرين دولارا فى العام. بعض أسر الأشراف تقيم هنا فى بدر ، ويحصلون من الحجيج عند المرور على نوعيات معينة من الضرائب أو المكوس.

فى المساء جاءت المئات من إبل البدو لتسقى من النهير الموجود فى بدر ، وكانت تلك الإبل بصحبة النساء بصفة خاصة ، اللاتى دخلن فى حوار معنا. بنو حرب المقيمون فى كل من الجديدة ، والصفراء ، وبدر يزوجون بناتهم للأغراب وحتى للمستوطنين ، وهناك قلة قليلة من الجنود الأتراك ، جذبهم جمال بعض البدويات ، فأقاموا فى بدر وتزوجوا من تلك البدويات الجميلات ؛ وهذا واحد من هؤلاء الأتراك ، وهو أرنؤطى الأصل ، يتكلم العربية ، واعتاد منذ صغره على الحياة البرية لمتسلقى الجبال المحاربين ، عقد عزمه على مرافقة زوجته الشابة إلى الجبل. هناك أعداد هائلة من النسور فى الجبال المجاورة لبلدة بدر. والناس هنا يطلقون على النسر اسم «رخم» ، وكانت المئات من تلك النسور تحوم حولنا ، بل إن البعض منها كان ينزل إلى الأرض ويخطف اللحم من أطباقنا.

١٩٥

اليوم السادس والعشرون من شهر إبريل. أمضينا هنا يوم أمس بكامله. بقى بعض من أهل بدر يحرسون قافلتنا طوال الليل نظير حصولهم على مجاملة صغيرة. المكان هنا عامر باللصوص ، وكنا قد خيمنا خارج بوابة البلد. غادرنا بدر فى المساء وسرنا فى اتجاه شمالى ٤٥ غرب ، وبعد أن سرنا مدة ثلاثة أرباع الساعة ، وصلنا إلى سلسلة التلال الرملية سالفة الذكر ، التى يطلقون على أعلى قممها اسم جوز على ، تخليدا للمكان الذى احتله (سيدنا) على أثناء معركة بدر. مشينا فى تلك التلال الرملية مدة نصف الساعة بصعوبة بالغة ؛ إذ كانت الرمال عميقة جدا ، ثم نزلنا بعد ذلك إلى السهل الغربى الذى يمتد إلى أن يصل إلى البحر ، الذى يمكن الوصول إليه من بدر خلال مسير ليلة واحدة ، وفى هذه المنطقة يوجد ميناء صغير ، يقع جنوبى ينبع ، ويسمونه البريك ، وتتردد عليه حركة ملاحية كبيرة. كان السهل الذى دخلناه من الاتجاه غرب ١ شمال عامرا بالأجمات والأشجار المنخفضة. أثناء مسيرنا فى الليل رأينا نيران مخيمات بدوية متباينة. التقينا أيضا حاجّين زنجيين ، كانا قد بدءا مسيرهما من ينبع وحدهما ، وكانا بحاجة ماسة إلى الماء ، أعطيناهما لحما وأسقيناهما ، ووجهناهما إلى مخيمات البدو. أمثال هذين المسافرين يسلكون طريقهم عبر الصحراء بلا بوصلة ؛ هذا يعنى أنهما يتحدد لهما الطريق والمسار قبل بداية الرحلة ، ثم يسلكون ذلك الطريق بعد ذلك ، على شكل خط مستقيم يسيرون فيه ليلا ونهارا إلى أن يصلوا إلى محطات وصولهم. بعد أن سرنا مدة عشر ساعات بدءا من نجد ، بدأنا نخيم مع طلوع النهار فى جزء من السهل تنمو فيه أشجار السنط المنخفضة ويطلق الناس عليه اسم عضيبة.

اليوم السابع والعشرون من شهر إبريل. وجدت نفسى فى حال سيئ فى صباح هذا اليوم. فقد انتابتنى نوبة غثيان وقئ شديدة ، وعرق شديد جعل الليلة الأخيرة أشد وأبشع وأقسى الليالى التى خبرتها فى أسفارى كلها ، ودارت مشادة بينى وبين مرشدى حول مسألة الطعام ، الأمر الذى زاد من تأثير الحمى علىّ فى ذلك اليوم ، والذى ربما أسهم فيه ذلك الاسترخاء العصبى الذى مررت به مؤخرا. عن يمينى هنا ، وفى اتجاه الشمال ، وعلى بعد مسير حوالى ست ساعات ، أرى سلسلة من الجبال المرتفعة

١٩٦

التى تمتد متجهة صوب البحر ، وبالقرب منى أرى سلسلة جبلية منخفضة عن السلسلة السابقة وتمتد فى الاتجاه نفسه. السهل الذى خيمنا فيه عبارة عن سهل رملى ، يغطيه الحصى والزلط الصغير. واصلنا مسيرنا بعد الظهر. وعلى امتداد مسير دام أربع ساعات ونصف الساعة ، فى الاتجاه شمال غرب ثم شمال ، لم نر أى نوع من الشجر ؛ بدأت النباتات التى تعيش على الماء المالح توحى إلينا بأننا أصبحنا على مقربة من البحر ، وبعد أن قطعنا مسافة أكبر قليلا ، بدأنا نلاحظ أن الأرض تغطيها قشرة من الملح ، كما لاحظنا أيضا تشبع الهواء بأبخرة البحر. وبعد انتهاء سبع ساعات ونصف الساعة ، عثرنا أيضا على بعض الأشجار فى السهل ، هذه الأشجار كانت تتخللها بقع مغطاة بقشرة من الملح. وبعد أربع عشرة ساعة ، شاهدنا ينبع مع مطلع الشمس ، وبعد أن ركبنا دوابنا لمدة خمس عشرة ساعة ونصف الساعة ، وبسرعة شديدة البطء ، وصلنا إلى بوابة ينبع ، وأمام البوابة مباشرة عبرنا مدخلا من مداخل الميناء ، كان الجزر ظاهرا فى مياه البحر ، وكان الماء يصل أثناء المد إلى مسافة كبيرة داخل اليابسة.

ينبع

لم أعثر بسهولة على مكان لى فى واحدة من الوكالات أو بالأحرى الخانات الموجودة فى ينبع ، والسبب فى ذلك أن تلك الخانات كانت مليئة بالجنود الذين صدرت لهم الأوامر بالعودة إلى القاهرة ، بعد الحملة الأخيرة التى قاموا بها على الوهابيين ، وبالتالى وصلوا إلى ينبع قادمين إليها من كل من جدة ومكة (المكرمة) ، وعلاوة على هؤلاء الجنود كان هناك أيضا عدد كبير من الحجاج ، الذين كانوا ينتوون بعد العودة من المدينة المنورة ، الإبحار إما إلى السويس أو القصير. كانت زوجة محمد على باشا من بين هؤلاء الحجاج ، وكانت قد وصلت إلى ينبع قادمة من المدينة (المنورة) ، وكانت هناك أربع سفن على أهبة الاستعداد لنقل حاشية هذه السيدة ، ومرافقاتها وأمتعتها. بعد أن وضعت أمتعتى فى غرفة متجددة الهواء ، فى شرفة أحد الخانات ، توجهت إلى الميناء كى أستفسر عن السفر إلى مصر ، وسرعان ما عرفت أن

١٩٧

ذلك أمر مستحيل فى ذلك التوقيت. كانت هناك تعليمات صارمة تقضى بعدم نقل أى أحد سوى الجنود ، الذين كانوا قد شغلوا بالفعل ثلاث سفن أو أربع ، والتى كانت جاهزة للإبحار ، وكان من بين هؤلاء الجنود ما يزيد على ألف وخمسمائة شخص ، من بينهم عدد كبير من الحجاج الأتراك ، الذين جرى تمريرهم على أنهم جنود ، بعد أن تسلحوا وارتدوا ثياب الجنود ، كل أولئك كانوا ينتظرون الانتقال عن طريق السفن إلى مصر.

بينما كنت أنتظر فى واحدة من المقاهى القريبة من الميناء ، مرت علىّ ثلاث جنازات بفارق زمنى قصير بين الواحدة والأخرى ، وعند ما عبرت عن دهشتى لذلك ، عرفت أن كثيرا من الناس كانوا قد ماتوا خلال تلك الأيام القلائل ؛ بسبب الشكوى من الحمى. عند ما كنت فى بدر ، بلغنى أن هناك حمى خبيثة منتشرة فى ينبع ، لكنى لم ألق بالا لذلك التقرير. وخلال الفترة المتبقية من النهار شاهدت كثيرا من الجنازات الأخرى ، لكنى لم يدر بخلدى أية فكرة عن الأسباب ، إلى أن دخل الليل ، وأويت إلى غرفتى فى الدور العلوى ، والتى كانت تطل على جزء كبير من ينبع ، وهنا رحت أسمع فى كل الاتجاهات ، أصواتا لا حصر لها تقطع القلب بسبب ولولتها وصياحها ؛ وهذه الولولة وذلك الصياح الذى يفطر القلوب يكون مصاحبا لرحيل صديق أو قريب ، وهنا عاجلتنى فكرة راحت تلح على ذهنى ، مفادها أن ذلك ربما كان وباء الطاعون ، حاولت دون جدوى ، طرد مخاوفى والتخلص منها ، أو تصريفها عن طريق النوم ، لكن الصياح المخيف أبقانى مستيقظا الليل بطوله. عند ما نزلت فى الصباح الباكر إلى صالة الخان ، التى كان كثير من العرب يشربون فيها القهوة ، وأوصلت إلى هؤلاء العرب مخاوفى ، وما إن أتيت على ذكر كلمة الطاعون حتى بادرونى بالاستعاذة ، وراحوا يسألونى عما إذا كنت جاهلا بالحقيقة التى مفادها أن الله (سبحانه وتعالى) قد أبعد ذلك المرض عن أراضى الحجاز المقدسة؟ الجدل الذى من هذا القبيل لا يسمح بأى حوار منطقى ، وهنا خرجت من الوكالة ، أو بالأحرى الخان ، ورحت أبحث عن بعض المسيحيين اليونانيين ، الذين كنت قد التقيت الكثيرين منهم فى اليوم السابق ،

١٩٨

فى الشارع التقيت ببعضهم ، وحصلت منهم على معلومات كاملة عن المخاوف التى كانت تراودنى. كان وباء الطاعون قد بدأ ينتشر منذ حوالى عشرة أيام ، وكان فى الوقت نفسه على أشده فى القاهرة ، وقد استثار ذلك موجة من الغضب العارم بين الناس طوال أشهر عدة ؛ فى السويس على سبيل المثال ، مات عدد كبير من السكان ؛ من ميناء السويس أبحرت باخرتان محملتان بالمصنوعات القطنية ، ومعهما فيروس الطاعون الذى انتقل عن طريقهما إلى جدة ، لينتقل من جدة إلى ينبع. لم يشهد الحجاز قبل ذلك أية حالة من حالات الطاعون ، كما أن ذاكرة البشر لا تعى حتى ولو حالة واحدة من حالات الطاعون ، يزاد على ذلك أن المواطنين لم يقتنعوا بإمكانية حدوث ذلك حتى ولو مرة واحدة ، وبخاصة عند ما أعاد الوهابيون غزو المدينتين المقدستين مرة ثانية. لم يحدث أن كان الاتصال مع مصر فى أى وقت من الأوقات أفضل مما هو عليه حاليا ، ومن ثم لم تكن مسألة انتقال ذلك الوباء إلى الحجاز من قبيل المفاجآت. فى الوقت الذى كانت تموت فيه حوالى خمس عشرة نفس يوميا ، لم يصدق أهل المدينة ينبع أن المرض كان هو وباء الطاعون ، وذلك على الرغم من ظهور أعراض الصفراء على أجساد الموتى ، فضلا أيضا عن سرعة انتشار المرض ، الذى يندر أن يزيد على ثلاثة أيام أو أربعة ، كل ذلك كان يمكن أن يكون بمثابة أسباب مقنعة بأن ذلك الوباء إنما هو وباء الطاعون. وبعد خمسة أيام أو ستة من وصولى بدأ يتزايد معدل الوفيات ، إلى أن أصبح معدل الوفيات اليومى يتردد بين أربعين نفسا وخمسين نفسا يوميا ، الأمر الذى يعد معدلا خطيرا وسط عدد من السكان يقدر بما يتراوح بين خمسة آلاف وستة آلاف نسمة. وهنا أصيب سكان ينبع بموجة من الذعر والفزع ، قلة قليلة من الناس هم الذين كانوا يميلون إلى الصبر على الخطر مثلما يفعل الأتراك فى أى مكان آخر من الشرق ، ولذلك نجد أن السواد الأعظم من سكان ينبع هربوا إلى العراء والخلاء ، الأمر الذى أدى إلى أن أصبحت ينبع بلدا مهجورا ، ومع ذلك طارد المرض الهاربين ، الذين كانوا يخيمون بالقرب من بعضهم البعض ، الأمر الذى أعجزهم عن إيجاد علاج لذلك الوباء ، ولذلك عاد الكثيرون منهم إلى ينبع من جديد ، والتمسوا لأنفسهم العذر فى هربهم بأن قالوا : «من باب رحمة الله أنه يرسل علينا هذا المرض ،

١٩٩

لينبهنا إلى وجوده (سبحانه وتعالى) ، ومع ذلك ، فنحن غير مدركين لتفاهتنا ، ونحس كأننا لا نستحق رحمة الله ، ومن ثم نظن أن من الأفضل نكران تلك الرحمة ، فى الوقت الراهن ، ومن ثم نهرب منها» : هذا الجدل سمعته يتكرر مرارا. لو كنت بكامل قوتى ، لكنت قد حذوت ، وبلا أدنى شك ، حذو أولئك الذين فروا إلى الصحراء ، لكنى كنت أعانى وهنا شديدا وغير قادر على القيام بأى مجهود مهما كان صغيرا. خطر ببالى أنى ربما استطعت الهرب من ذلك المرض ، إذا ما عزلت نفسى داخل سكنى ، وزاد فى داخلى أمل الشوق إلى السفر سريعا إلى مصر ، ومع ذلك ، فقد خدعت فى ذلك الأمل. خطر ببالى أن تقديم بعض الهدايا القليلة ، مع شىء من الرشوة ، قد يمكننى من العثور على وسيلة تساعدنى على الإبحار بشكل أو بآخر ، لكن اتضح أن السفن التى كانت على وشك الإبحار كانت مزدحمة بالمسافرين ، وعامرة بالجنود المرضى ، الأمر الذى يجعل من البقاء فى المدينة الموبوءة أفضل من السفر على هذا النحو. بعد ذلك بأيام قلائل ، بلغنى أن قاربا صغيرا مفتوحا ، خال من الجنود ، كان على وشك الإبحار إلى القصير ، وعلى الفور وافقت على الإبحار على ظهره ؛ لكن إبحار ذلك القارب كان يتأخر من يوم إلى آخر ، إلى أن جاء اليوم الخامس عشر من شهر مايو ، الذى غادرت فيه ينبع بصفة نهائية ، بعد ثمانية عشر يوما أمضيتها فى ذلك البلد (ينبع) وسط وباء الطاعون.

ربما كان حالى الصحى السيئ ، والحمى المستمرة التى تملكتنى ، وكنت أؤدى عملى وأنا أعانى منها ، ربما كان ذلك سببا كافيا لبقائى على قيد الحياة ؛ والسبب فى ذلك ، أنى على الرغم من حرصى الشديد ، كنت معرضا للعدوى فى كثير من الأحيان. كان شارع ينبع الرئيسى عامرا بالمرضى ، الذين يعانون من سكرات الموت ، ويسألون الناس إحسانا ؛ فى فناء الخان الذى كنت أنزل فيه ، كان هناك رجل عربى يعانى من سكرات الموت ، وكان صاحب الوكالة ، أو بالأحرى الخان ، هو الآخر قد توفيت أخته وابن من أبنائه ، وراح يحكى لى وهو جالس على السجادة كيف توفى ولده فى الليلة السابقة بين ذراعية. كان حرص عبدى قد فاق احتياطاتى كلها إلى حد بعيد ، وبعد أن افتقدت ذلك العبد لأيام عدة ، رحت أتساءل ذات صباح عن أسباب تغيب ذلك

٢٠٠