ترحال في الجزيرة العربية - ج ٢

جون لويس بوركهارت

ترحال في الجزيرة العربية - ج ٢

المؤلف:

جون لويس بوركهارت


المترجم: صبري محمّد حسن
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المركز القومي للترجمة
الطبعة: ١
ISBN: 977-437-388-X
الصفحات: ٢٨٩
الجزء ١ الجزء ٢

الرجل ، الذى أبلغنى أنه ذهب ليشارك فى غسل جثث الموتى. كان الفقراء الذين وافتهم المنية أثناء الليل ، قد جرى نقلهم فى الصباح فى نعوش إلى شاطئ البحر حتى يجرى غسلهم قبل الصلاة عليهم فى المسجد ، وكان عبدى قد رأى أن يشارك فى الأجر من خلال القيام بهذا العمل ، الذى أوكل لعدد كبير من الحجاج الزنوج الذين تصادف وجودهم فى ينبع. كنت أرغب أن يبقى ذلك العبد فى المنزل ، مستقبلا ، فى تلك الساعة ، كى يجهز لى طعام الإفطار ، لكنى لم استطع منعه من الخروج فى أوقات أخرى ؛ نظرا لأنى كنت أستطيع الاستغناء عن خدماته فى تلك الأوقات ، يضاف إلى ذلك أن الإنسان بوسعه المرور فى السوق دون أن يلمس أولئك المصابين بالعدوى ، أو حتى أولئك الذين يكونون على اتصال وثيق بأولئك المرضى.

إحساسى بالخطر الذى يتهددنى تزايد كثيرا عما كان عليه ، ولكنى هنا أجد نفسى قد تخلصت كثيرا من ذلك الخطر. بعد الأيام الأربعة أو الخمسة الأولى وجدتنى أتعايش مع فكرة الطاعون ورحت أقارن الأعداد الصغيرة التى تموت كل يوم بإجمالى العدد المتبقى من السكان ، يزاد على ذلك أن الأعداد الكبيرة من الأصحاء ، على الرغم من صلاتهم الوثيقة بالمصابين أو الميتين ، أزالت إلى حد بعيد كل مخاوفى من احتمال انتقال المرض عن طريق العدوى ، والمعروف أن الأمثال لها تأثيرات كبيرة على الأذهان ، الأمر الذى جعلنى أنظر إلى الأجانب الذين فى ينبع وأراهم غير مهتمين بالأمر ، وقد جعلنى ذلك أخجل من نفسى عند ما وجدتنى أقل شجاعة من هؤلاء الأجانب ، مع ذلك كان المرض يبدو كأنه واحد من أسوا أشكال الطاعون ، هذا يعنى أن قلة قليلة من أولئك الذين كانوا يصابون بالمرض هم الذين وصلوا إلى بر النجاة ، وقد لاحظت الشىء نفسه فى جدة. لم يستعمل العرب أى نوع من الدواء لعلاج ذلك المرض ، سمعت عن بعض الناس الذين لجأوا إلى الحجامة ، وعن أناس آخرين شفوا من ذلك المرض بعد أن لفوا حول أعناقهم شرائط لاصقة ، لكن هاتين الوسيلتين لم تكونا من بين الوسائل الأخرى الشائعة بين الناس ، ونظرا لأن الناس هنا اعتادوا على دفن الموتى خلال ساعات قلائل ، فقد شاهدت ، أثناء مقامى فى ينبع ، شخصين قيل إنهما ميتان ودفنا أحياء ؛ فقد أوحت الغيبوبة التى دخل فيها هذان الشخصان ، إلى الناس

٢٠١

فى ذروة شدة أزمة الطاعون ، بأنهما قد ماتا وفارقا الحياة ودفنهما الناس أحياء ، وقد كشف واحد منهما عند ما كان الناس يضعونه فى القبر عن بعض علامات الحياة ، وبالتالى أمكن إنقاذه ، أما جثمان الشخص الآخر ، الذى رآه الناس عند ما كانوا يفتحون القبر بعد أيام عدة من وفاته ، لدفن جثمان أحد أقاربه ، فكان غارقا فى الدماء فى منطقة اليدين والوجه ، كما وجد الكفن ممزقا ، بفعل المحاولات التى بذلها الميت وهو يحاول الخروج من القبر ، وعند ما رأى الناس ذلك قالوا : إن الشيطان شوه جسده بعد أن فشل فى إيذاء روحه.

انتبه محافظ ينبع ـ من باب الحرص ـ إلى أهمية عدم نشر الأرقام الحقيقية لعدد الوفيات ، لكن الدعاء المهيب : «لا إله إلا الله ، «الذى يدل على مرور جنازة أحد المسلمين ، كان يتناهى إلى الأسماع من كل مكان ومن كل حى من أحياء بلدة ينبع ، وأنا بنفسى أحصيت اثنين وأربعين دعاء من هذا القبيل فى يوم واحد فقط.

يتحول الطاعون عند الفقراء إلى مناسبة حقيقية ؛ ذلك أن الأسر القادرة تذبح خروفا عند ما يموت أحد أفرادها ، كما تذبح أيضا خروفا ثانيا فى اليوم التالى للوفاة ، ويجرى دعوة كل النساء والرجال إلى منزل الميت فى هذين اليومين. تدخل النساء بيت المتوفى ويحتضنّ ويعزين إناث أسرة المتوفى ، معرضات أنفسهن من حين لآخر للإصابة بالعدوى. هذه العادة ، أكثر من العادات الأخرى ، هى المسئولة عن سرعة انتشار الطاعون فى السواد الأعظم من البلدان الإسلامية ؛ والسبب فى ذلك أن الطاعون إذا ما أصاب أو تفشى فى عائلة من العائلات ، يصعب جدا ألا ينتقل إلى كل المنطقة المجاورة لتلك العائلة.

يشيع بين الأوروبيين بل وبين المسيحيين الشرقيين أيضا اعتقاد مفاده أن دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمنع اتخاذ الإجراءات الاحتياطية ضد الطاعون ، لكن ذلك اعتقاد خاطئ. هذا الدين يحرم على أتباعه تحاشى المرض إذا ما دخل مدينة أو بلدا من البلدان ، لكن هذا الدين يحذر أتباعه أيضا من دخول أى مكان ينتشر فيه وباء الطاعون ، وتأسيسا على ذلك فإن هذا الدين يمنع الأفراد من عزل أنفسهم فى المنازل ، كما يمنعهم أيضا

٢٠٢

من قطع تواصلهم واتصالهم ببقية الناس فى المدينة المصابة ، لأن ذلك يكون شبيها بالفرار من الطاعون ؛ ومع ذلك فإن الدين الإسلامى يحبذ إجراءات الحجر الصحى ويوصى بها ، وذلك من باب منع استيراد المرض ، أو نقله إلى الغرباء والأجانب عند وصولهم إلى المدينة. الإيمان بالقضاء والقدر متأصل وراسخ فى عقول دول الشرق كلها ، «وأن من يموتون بسبب الطاعون هم شهداء». هذا الرأى الشائع عام بين المسلمين ، وهم يعتقدون أن ملك الموت الخفى ، المسلح برمح ، يلمس الضحايا الذين سيصابون بالطاعون ، ومن هنا يعتقد الناس أن الشيطان اتخذ لنفسه موقعا فى ذلك المكان ، لكى يجرح أولئك الذين يمرون عليه ، من هنا نجد العرب يسلكون طريقا دائريا ، تحاشيا لعدوهم ، على الرغم من أنهم كانوا على قناعة من سرعة خطوه وقدرته على اللحاق بهم أينما ذهبوا.

مسألة هروب المسيحيين والفرنجة من المرض عن طريق حبس أنفسهم فى منازلهم لا تعدو أن تكون مجرد دليل عكسى طفيف ، والتأخير فى اتباع هذه الإجراءات غالبا ما يتسبب فى إحداث معدل وفيات طفيف بين أهل ينبع ، والحالات التى من هذا القبيل يجرى الاستشهاد بها فيما بعد فى التدليل على حماقة محاولة الاعتراض على العناية الإلهية ، زد على ذلك ، أن بعض المسيحيين الشرقيين الذين يأخذون بالمعايير التركية ، ويتأثرون بمفاهيم القضاء والقدر ، يعتقدون أيضا أن مسألة اتخاذهم للإجراءات الوقائية الخاصة بسلامتهم أمر تافه وسطحى. يتهاون الأتراك فى كثير من واجباتهم الدينية ، إلى الحد الذى قد لا يجعل من الصعب عليهم تبنى بعض الأفكار العقلانية ، ومع ذلك لا يمكن لأحد من هؤلاء الأتراك اتخاذ أية إجراءات خاصة ، نظرا لاقتناع الجميع بحماقة مثل هذه الإجراءات والتصرفات وعدم فعاليتها. لو لم يكن ذلك هو واقع الحال منذ زمن طويل لتمكن الأتراك من اكتشاف الوسائل التى تمكنهم من الوقاية من المرض ، وذلك على الرغم من تدينهم الشكلى ؛ وهذا هو ما يفعله العرب حاليا فى الحجاز ، ولأمكن لعلمائهم التوصل إلى الفتاوى والنصوص الشرعية المساندة لذلك الذى أمكنهم التوصل إليه بفضل حسهم الطيب. هناك حديث شريف يقول ما معناه :

٢٠٣

«اهرب من الوباء هروبك من الأسد». المسألة مختلفة فيما يتعلق بوسائل منع انتقال الطاعون ، بواسطة إنشاء محاجر صحية نظامية ، وهذا الإجراء يقع كله على عاتق الحكومة. معروف أن دول البربر ، أشد الدول تمسكا بالدين قد تبنت ذلك النظام واتبعته ، وترتب على ذلك تنفيذ قوانين الحجر الصحى تنفيذا صارما فى الموانئ التابعة لهذه الدول ، على النحو الذى تطبق فيه هذه القوانين فى الموانئ الأوروبية وبخاصة على الشواطئ الشمالية للبحر الأبيض المتوسط. مسألة عدم تنفيذ أو اتباع نظام مماثل فى تركيا أمر يثير الكثير من القلق البالغ ، وربما تكون الدوافع المصلحية هى السبب الرئيسى وليس التعصب. أنا بنفسى لم أزر إسطنبول أو موانئ الأرخبيل ، لكنى أعلم أن من السهل على محافظى سوريا وكذلك محافظى مصر استعمال سلطاتهم فى إدخال منظومة الحجر الصحى وتطبيقها على الشواطئ ، وألا يخافوا أو يخشوا معارضة رعاياهم ، زد على ذلك أن حكومات سوريا يمكن إرشادها إلى مثل هذه الأمور عن طريق الباب العالى ، ولن توافق هذه الحكومات على إنشاء منظومة الحجر الصحى بدون تفويض بذلك من رئاستها ، لكن محمد على باشا كان يتصرف تصرفا مباشرا وتلقائيا وعلى العكس من أوامر الباب العالى ، حتى فى المسائل المتعلقة بمسألة المصلحة المالية الخاصة بالسيادة ، ونحن لا نرى أن الخوف من إغضاب سيده كان هو السبب الوحيد الذى منعه من الانصياع إلى النصائح الودية المتكررة التى كان الباب العالى يسديها إلى محمد على بخصوص الدول الأوروبية ، يزاد على ذلك أن مبادئ محمد على الدينية العائمة والسائبة كانت معروفة تماما إلى الحد الذى لا يجعلنا نسلم بأن التعصب هو الذى منع الرجل من الاستسلام لتوسلات تلك الدول.

وعلى امتداد أربع سنوات متتالية ، وبالتحديد فى الفترة من عام ١٨١٢ م إلى عام ١٨١٦ م التى كان الطاعون يستعر خلالها منتشرا خلال فصل الربيع من كل عام ، كان محمد على باشا نفسه ، ومعه أسرته وكبار موظفيه يعزلون أنفسهم فى قصورهم مهتمين بذلك العزل اهتماما فائقا ، كاشفين بذلك عن المزيد من الفضائح أمام الشعب أكثر مما لو أسسوا محاجر صحية تحكمها قوانينها الخاصة ، ومن باب رغبة محمد على باشا ، فى أن ينظر الأوروبيون إليه باعتباره ليبراليا فى فكره ، ومتجنبا الإساءات

٢٠٤

والأضرار بكل أنواعها ، أصدر الرجل أوامره فى العامين الميلاديين ١٨١٣ و ١٨١٤ بإنشاء حجر صحى فى مدينة الإسكندرية ، لكن الطريقة والأسلوب المخزى الذى نفذ به ذلك الحجر ، أثبت إثباتا قاطعا أن الرجل لم تكن لديه الرغبة الحقيقية فى تأمين مواطنيه من مخاوف العدوى ، بل وصل الأمر إلى حد التخلى عن هذا الموضوع تخليا تاما. أودت بى تحرياتى ، هى وآراء كثير من الأتراك الذين يحكمون على ما تتخذه حكومتهم من إجراءات حكما أكثر صوابا ودقة ، مما ضاعف من قناعتى بأن الباشا الكبير هو وباشاواته ، يصبرون على الطاعون فى ممتلكاتهم لأن تعدد الوفيات وكثرتها يملأ أكياس نقودهم بالأموال ، وفيما يتعلق بمصر ، أرى أن هذا السبب كان حقيقيا وبلا منازع ، بل إنه كان السبب الرئيسى.

معروف أن المدن التجارية التى من قبيل القاهرة ، والإسكندرية ، ودمياط تعج بالتجار الأجانب ، والأغراب الذين يفدون على هذه المدن من كل أصقاع الشرق ليقيموا فيها ، والقانون ينص ، على أن ممتلكات الأفراد الذين لا يكون لهم ورثة مباشرون يطالبون بتلك الممتلكات ، يجب أن تئول إلى بيت المال ؛ تلك الخزانة ، التى كانت تخدم من قبل أغراضا وأهدافا مفيدة للشعب والرعايا ، لكنها أصبحت الآن تحت إمرة الحكام والمحافظين وحدهم ؛ هذا يعنى أن ازدياد معدل الوفيات يتسبب فى وضع مبالغ كبيرة بين أيدى هؤلاء الحكام والمحافظين ، وهذا يعنى أن كل وال من ولاة الأحياء فى أية بلدة من البلدان يتحتم عليه ، فى ظل أشد العقوبات ، إبلاغ الحكومة عن أى غريب أو أى فرد يكون بلا ورثة ، وتوافيه المنية فى حى أى وال من هؤلاء الولاة ؛ أموال مثل هؤلاء المتوفين لا يتم الاستيلاء عليها بهذه الطريقة وحسب ، وإنما يجرى الاستيلاء أيضا على ممتلكات أولئك الأشخاص الذين يكون لهم ورثة ، ولكنهم متغيبون فى بعض البلدان الأجنبية ، والذين ليست لهم امتيازات أخرى ، غير التقدم بالشكوى التى لا طائل من ورائها إلى الحاكم أو المحافظ نفسه ، الذى يحول دخل بيت المال إلى مصلحته الخاصة. أبشع أنواع الظلم ترتكب بحق ممتلكات المتوفين ، وفى فترات انتشار الطاعون ، ففى هذه المناسبات يشارك كل من القاضى ومن معه من فريق العلماء ، وكبار الموظفين ، بل حتى صغار الموظفين ، الكل يشاركون فى هذا السلب والنهب غير

٢٠٥

الشرعى ، وبالطريقة نفسها تجرى مصادرة ممتلكات الموظفين العسكريين ، وكثير من الجنود عقب وفاتهم. وبحسبة بسيطة نجد أن الطاعون الذى أتى فى مصر على أرواح ما يتردد بين ثلاثين ألفا وأربعين ألف نسمة فى مدينة القاهرة وحدها ، أضاف إلى خزائن الباشا حوالى عشرين ألف كيس (صرّة) ، أو إن شئت فقل : عشرة ملايين قرش ، وهذا المبلغ كفيل بخنق أى نوع من المشاعر الإنسانية فى قلوب الأتراك.

مسألة تناقص عدد السكان ومن ثم تناقص المداخيل المنتظمة ، مسألة لا تخطر ببال الحاكم التركى ، الذى لا يحسب سوى النتائج المباشرة المترتبة على أى حادث من الأحداث ، شريطة أن يضمن لنفسه السلامة ، ولثروته النمو والزيادة ، ولكن دونما نظر إلى مصير رعاياه ، ونظرا لأن الطاعون يندر أن ينتشر فى الأرض المفتوحة ، ومن ثم لا يحرم الأرض الزراعية من عمالها ، فإن ذلك يجعل الباشاوات فى مأمن من الخوف من ذلك الطاعون ؛ هذا يعنى أن أى باشا من الباشاوات لن يقتنع مطلقا بأن السياسة والإنسانية يحتمان إزالة أسباب الطاعون ، إلا بعد أن يرى بنفسه إقليما من الأقاليم أو منطقة من المناطق وقد تخلخل سكانها من ناحية وأن الحقول التى تعود عليه بالمداخيل قد هجرها العاملون فيها (*).

الأمر يبدو كأن إسطنبول والقاهرة كانتا مستودعين للطاعون فى الشرق ، وأنهما كانتا تصدران ذلك الوباء إلى بعضهما البعض ، وإلى البلدان المجاورة أيضا ، وأنا هنا أجدنى عاجزا عن تحديد الوسيلة التى كان من الممكن على الدول الأوروبية أن تقنع الباشا الكبير بها لكى يتخذ الإجراءات الكفيلة بالمحافظة على سلامة عاصمته ، وبالتالى ضمان سلامة سكان تركيا الأوروبية والأناضول ، لكنى لا يخامرنى شك فى

__________________

(*) يظهر بشكل واضح إهمال حكومة مصر فى المحافظة على حياة رعاياها فى إهمالها لمرض الجدرى وعدم العمل على معالجته ؛ حيث كان ينتشر على شكل وباء فى الوجه القبلى ، شأنه فى ذلك شأن الطاعون ، الذى لا ينتشر إلا نادرا فى الوجه القبلى ، يزاد على ذلك أن العروض المتعددة التى قدمت لمحمد على باشا بشأن مسألة التحصين ضد الجدرى لم تلق منه أذنا صاغية ، ولو كلف محمد على باشا نفسه مؤونة السؤال لعرف أن بلدة إسنا الصغيرة وقع فيها فى عام ١٨١٣ م ما يزيد على مائتين وخمسين شخصا ، من الكبار والصغار ، فرائس لمرض الجدرى ، الذى ازداد عنفوانه فى هذه البلدان عنها فى أوروبا.

٢٠٦

أن تقديم احتجاج قوى من جانب الحكومة الإنجليزية كان يمكن أن يقنع الباشا ـ باشا مصر ـ بالانصياع لذلك النداء الإنسانى ، وبذلك تفيد منه كل من مصر وسوريا وكذلك الممتلكات الإنجليزية فى البحر الأبيض المتوسط.

كان الخراب والدمار الناتجين عن الطاعون يرثى لهما فى جدة أكثر منهما فى ينبع ؛ كان متوسط الوفيات بسبب الطاعون فى جدة يقدر بحوالى مائتين وخمسين شخصا يوميا. وترتب على ذلك هروب أعداد كبيرة من سكان جدة إلى مكة ، ظنا منهم أنهم سيكونون فى مأمن من الطاعون عند ما يقيمون فى هذه المدينة المقدسة ، لكنهم كانوا يحملون المرض معهم عند ما انتقلوا إلى تلك المدينة ، كما توفى بعض السكان المكيين أيضا ، على الرغم من أن ذلك العدد كان أقل بكثير بالمقارنة مع الوفيات فى جدة. زد على ذلك أن قاضى جدة ، وهو عربى ، هرب هو الآخر إلى مكة ، وبصحبته العلماء كلهم ، ولكن حسّان باشا ، الذى كان محافظا للمدينة المقدسة فى ذلك الحين ، أمره وهو على فراش الموت ، بالعودة فورا إلى مهام وظيفته ، ومات الرجل وهو فى طريق عودته إلى جدة. كان السوق التجارى الرئيسى فى جدة مهجورا تماما ، وكانت بعض الأسر قد أصابها الخراب والدمار الكامل. ونظرا لوجود عدد كبير من التجار الأجانب فى جدة ، فقد أدى ذلك إلى زيادة مداخيل خزانة محمد على باشا زيادة كبيرة ، وقد عرفت من بعض شهود العيان ، أن المهمة الوحيدة فى ذلك الوقت كانت تتمثل فى نقل جثث الموتى إلى المدافن من ناحية ، ونقل ممتلكات الموتى ومقتنياتهم القيمة إلى منزل آمر المدينة. خلت المدينة المنورة من الطاعون ، وحدث الشىء نفسه فى الأرض الواقعة بين ينبع وجدة.

سآتى هنا على ذكر عادة خاصة بالعرب ، عند ما بلغ الطاعون ذروته فى ينبع ، اقتاد السكان ناقة فى موكب طاف كل أنحاء بلدة ينبع ، وكانت الناقة مزينة بكل أنواع الزينات ، والريش ، والأجراس إلخ إلخ ، وعند ما وصل الموكب إلى المقابر ، ذبحوا الناقة وألقوا بلحمها للنسور والكلاب. كانوا يتطلعون إلى أن يجد الطاعون المنتشر فى سائر أنحاء البلد لنفسه ملاذا فى جسم الناقة ، وأنهم عند ما ذبحوها اعتقدوا أنهم

٢٠٧

يمكن أن يتخلصوا من ذلك المرض بصفة نهائية. كان كثير من العقلاء العرب يسخرون من هذه الفكرة ، لكن كان فيها شىء من الفائدة ، من منطلق أنها بثت الشجاعة فى قلوب أفراد الطبقات الدنيا.

مدينة ينبع مقامة على الجانب الشمالى لواحد من الخلجان العميقة ، التى تستخدم فى رسو السفن ، وهذا الخليج تحميه عند مدخله من الرياح الشديدة جزيرة ، والسفن فى هذا الخليج تقف قريبة من الشاطئ ، كما أن الميناء واسع على نحو يسمح باستقبال أكبر الأساطيل. هناك خليج صغير متفرع عن الخليج الكبير ، الأمر الذى يجعل ذلك الخليج الصغير يقسم مدينة ينبع إلى قسمين ؛ القسم الأكبر من هذين القسمين هو ما يطلق عليه اسم ينبع ، أما القسم الثانى ، وهو على الجانب الغربى ، فهو ما يطلق الناس عليه اسم القاد ، ولا يسكن فيه سوى الذين يعملون فى البحر. القسمان يطلان على البحر من ناحية ، ويحيط بهما من الناحية الأخرى ، جدار مشترك طويل ومبنى على نحو أفضل من جدران ميناء جدة ، وجدران الطائف والمدينة المنورة. هذا الجدار تتخلله أبراج كثيرة ، وقد بنى ذلك الجدار عن طريق الجهود المشتركة من قبل السكان أنفسهم ، باعتبار ذلك الجدار من المتاريس الدفاعية فى وجه الوهابيين ، وقد جرى تدمير الجدار القديم ، ولم يتبق منه سوى جزء صغير هو الذى يحيط بجزء من مدينة ينبع. الجدار الجديد يضم مساحة تكاد تكون ضعف المساحة التى تحتلها المنازل ، والجدار أو السور الجديد يترك بينه وبين مساكن المدينة قطعة أرض كبيرة خالية على شكل مربع يستخدمها الناس مقبرة لدفن الموتى ، كما تضم أماكن لتخييم القوافل ، ولتدريب القوات ، أو قد تترك خالية مثل الأرض اليباب. هذا الجدار أو السور يحتاج إلى حامية كبيرة للدفاع عنه فى كل مواضعه ، وسكان ينبع المسلحون لا يكفون عن القيام بهذه المهمة ، لكن المهندسين الشرقيين يقيّمون التحصينات وقوتها من خلال الحجم وليس بأية وسائل أخرى ؛ ومن هذا المنطلق جرى بناء سور سميك ، وخندق عميق على الحدود الخارجية لمدينة الإسكندرية القديمة ، الأمر الذى يحتاج إلى حوالى خمسة وعشرين ألفا من الرجال للدفاع عنه.

٢٠٨

ينبع لها بوابتان : واحدة منهما فى اتجاه الشرق والأخرى فى الناحية الشمالية ؛ إحدى هاتين البوابتين تسمى باب المدينة والأخرى الباب المصرى. منازل ينبع أسوأ من حيث البناء عن منازل المدن الأخرى فى منطقة الحجاز ؛ أبنية هذه المنازل عشوائية إلى حد أن سطح الأحجار التى تبنى بها تلك المنازل تكون بحاجة إلى سحق تلك الأحجار حتى تصبح ناعمة السطح والملمس. الصخور المبنية منها تلك المنازل صخور كلسية ، مليئة بالأحافير ، ولونها أبيض ساطع ، الذى يتسبب فى إيذاء العين بصفة خاصة. معظم المنازل مكون من دور أرضى فقط. المكان كله خال من المبانى الكبيرة اللهم باستثناء ثلاثة مساجد أو أربعة سيئة البناء ، وقلة قليلة من الخانات (الوكالات) شبه مهدّمة ، ومنزل المحافظ على شاطئ البحر ، (وهو أيضا مبنى متواضع).

ينبع مدينة عربية تماما ؛ إذ لا يوجد فيها سوى قلة قليلة من الأجانب ؛ بعضهم من الهنود الذين لهم جاليات كثيرة فى مكة وفى جدة ، وفى المدينة المنورة ، هنا فى ينبع لا يوجد سوى هنديين أو ثلاثة هنود من أصحاب الدكاكين ، التجار فى ينبع كلهم من العرب ، باستثناء قلة قليلة من الأتراك ، الذين يقيمون إقامة مؤقتة فى ينبع. السواد الأعظم من السكان ينتمون إلى بدو قبيلة جهينة الموجودين فى المناطق المجاورة لمدينة ينبع (والتى تمتد شمالا بطول شاطئ البحر) ، عدد كبير من هؤلاء السكان البدو تحولوا إلى سكان مستقرين ؛ هذا يعنى أن عائلات كثيرة من الأشراف ، ومن مكة بصفة خاصة ، اختلطت بهؤلاء السكان. المستوطنون فى مدينة ينبع ، أو بالأحرى أولئك الذين يطلق عليهم اسم الينبعاويين ، لا يزالون يعيشون ويرتدون ثياب البدو ، هؤلاء يلبسون الكوفية ، التى هى عبارة عن منديل مقلّم باللونين الأخضر والأصفر ، وهو مصنوع من الحرير ، ويغطى به هؤلاء المستوطنون رؤوسهم ، كما يرتدون أيضا عباءات (بشوت) بيضاء ، ومن تحتها ثوب مصنوع من الكتان الأبيض ، أو من القطن الملون ، أو من الحرير ، وهم يتحزمون فوق ذلك الثوب بحزام من الجلد. طعام هؤلاء السكان ، وأسلوب حياتهم وسلوكياتهم وعاداتهم كلها سلوكيات وعادات بدوية. لكل فرع من أفرع قبيلة جهينة الموجودة فى ينبع شيخه الخاص به ، وهذه الأفرع تتشاجر

٢٠٩

مع بعضها البعض عند ما تخيم فى الأراضى المفتوحة ، لكنها تلتزم بتقاليد وقوانين واحدة فى هذه المشاجرات كلها من ناحية وفى مسألة الثأر من ناحية أخرى.

المهنة الرئيسية التى يمتهنها الينبعاويون هى التجارة والملاحة ، وينبع فيها حوالى أربعين سفينة أو خمسين ، مستخدمة فى سائر أنحاء التجارة فى البحر الأحمر ، ويعتمد تشغيل هذه السفن على سكان ينبع ، أو على العبيد. الاتصال بين ينبع ومصر أمر دائم فى كثير من الأحيان. هنا عدد كبير من سكان ينبع مقيمون فى كل من السويس والقصير ، والبعض منهم مقيمون أيضا فى القاهرة وفى قنا فى الوجه القبلى ، وهم فى هذه المناطق يمارسون التجارة مع ينبع. بعض آخر من أهل ينبع يتاجرون أيضا مع أهل الحجاز ، ومع شواطئ البحر الأحمر وصولا إلى المويلح ؛ هؤلاء السكان يقايضون فى مخيماتهم البضائع والمؤن التى يجرى جلبها من مصر بالماشية ، والزبد ، والعسل ، وهم يعيدون بيع هذه السلع عقب عودتهم إلى ينبع محققين بذلك أرباحا كبيرة.

أهل ينبع ليسوا متمدنين ، وفى بعض الأحيان قد يسلكون سلوكا وقحا على نحو يفوق أهل مكة أو جدة ، لكنهم على العكس من ذلك تتسم سلوكياتهم بالنظام ، كما أنهم لا يدمنون الرذيلة مثل أهل مكة أو جدة ، وهم بصورة عامة يتفوقون على باقى أهل الحجاز بأنهم يحملون اسما يحترمه الناس. وعلى الرغم من عدم وجود أفراد شديدى الثراء فى ينبع فإنهم جميعا يتمتعون بمزيد من النعمة والرخاء والوفرة عن أهل مكة. العائلات المحترمة فى ينبع كلها لها منازل ريفية كبيرة فى الوادى المثمر الذى يطلقون عليه اسم ينبع النخل أو إن شئت فقل : ينبع قارة أو ينبع البر ، التى تبعد عن هنا مسافة مسير تقدر بحوالى ست ساعات أو سبع ، وتقع عند سفح الجبال فى الاتجاه الشمالى الشرقى. هذا الوادى يشبه كلا من وادى الجديدة ووادى الصفراء (*) ، وتوجد أشجار النخيل والحقول الزراعية. يصل طول هذا الوادى إلى

__________________

(*) هناك طريق وعر يربط ينبع النخل بالجديدة ، وهذا الطريق يمتد عبر الجبال الموجودة فى شمال الطريق الرئيسى.

٢١٠

ما يقدر بمسير حوالى سبع ساعات ، وفيه أكثر من عشرة هجر (كفور) ، منتشرة على جانب الجبل. الكفر الرئيسى من بين هذه الكفور هو ما يطلق عليه اسم السويقة ، أى السوق ، وهو المكان الذى يقيم فيه شيخ الجهين ، الذى يقر بدو الجهين بمشيخته ، كما يقر بهذه المشيخة أيضا أهل ينبع.

وادى ينبع لا يزرعه سوى الجهين ، الذين تحولوا إلى مستوطنين ، يبقون فى الوادى طوال العام ، أو قد يستأجرون بعض العمال الذين يتركونهم فى مزارعهم ، فى حين يظلوا هم مخيمين فى الجبل ، ولا يقيمون فى الوادى إلا فى موسم حصاد التمر ، الذى يحتم على ملاك البساتين البقاء مدة شهر فى الوادى لحين الانتهاء من الحصاد. يزرع الناس كل أنواع الفواكه فى ذلك الوادى ، ويجرى تزويد سوق ينبع بتلك الفواكه والثمار ، وقد بلغنى أن منازل الوادى مبنية من الحجر ، وأن شكل هذه المنازل أحسن من شكل منازل الجديدة ، والينبعاويون يعدون هذا الوادى المكان الرئيسى لسكناهم ، وأن بلدة ينبع هى والميناء تنتميان إلى ذلك الوادى باعتبارهما مستوطنتين من المستوطنات. طريق الحج المصرى يمر بمدينة ينبع النخل ، ومن ينبع النخل يواصل الحج مسيره ليلة واحدة إلى أن يصل إلى بلدة بدر ؛ هذا يعنى أن قافلة الحج المصرية لا تلمس ميناء ينبع مطلقا ، على الرغم من أن كثيرا من أفراد القافلة يسلكون أثناء عودتهم من مكة طريقا يبدأ من مستوره إلى ينبع ، للقيام ببعض المعاملات التجارية ، ثم ينضمون إلى القافلة بعد مسير يوم كامل ، فى منطقة تقع فى شمالى ينبع.

تتمثل تجارة ينبع بصفة أساسية فى المؤن والتموينات ؛ هذا يعنى أن المنطقة ليس فيها مخازن أو مستودعات كبيرة للبضائع ؛ لكن الدكاكين فيها بعض الملبوسات الهندية والمصرية معروضة للبيع ، أصحاب السفن فى ينبع ليسوا تجارا كما هو الحال فى الجديدة ، وإنما هم هنا فى ينبع من الحمّالين ، ومع ذلك فهم يستثمرون أرباحهم بصورة دائمة فى بعض المضاربات التجارية. حرفة تجارة النقل إلى المدينة المنورة هى الشغل الشاغل لعدد كبير من السكان ، والتجار كلهم لهم وكلاء يمثلونهم بين عرب ينبع.

٢١١

فى وقت السلم ، تبدأ القافلة المسافرة إلى المدينة المنورة كل أسبوعين ، ولكن هذه القافلة أصبحت تقوم كل شهر بعد النقص الحاد فى عدد الإبل. هناك بطبيعة الحال نقل عن طريق البر بين كل من جدة ومكة ، وأحيانا يكون هناك نقل إلى بلدة الوجه والمويلح ، وهاتان المحطتان من المحطات المحصنة الخاصة بالقافلة المصرية على البحر الأحمر. أهل ينبع مهربون جسورون ، ولا تدخل سفينة من سفنهم الميناء إلا بعد أن يكونوا قد هربوا جزءا كبيرا من حمولتها إلى البر عن طريق السرقة ، وذلك من باب تحاشى الجمارك الكبيرة. يدخل الميناء أثناء الليل جماعات الواحدة منها تضم عشرين رجلا مسلحا أو ثلاثين ، لا هدف لهم سوى عملية التهريب ، وإذا ما انكشف أمرهم راحوا يقاومون موظفى الجمرك عن طريق القوة.

الحدود الخارجية لينبع جرداء تماما ، ولا يرى أحد فيها الأشجار أو الخضرة داخل الأسوار أو خارجها. والأرض فى المنطقة الواقعة خلف الأرض المالحة ، المجاورة للبحر ، نجد أن السهل تغطيه الرمال ، ويستمر ذلك السهل إلى أن يتصل بالجبال. فى الشمال الشرقى نشاهد جبلا عاليا ، ومن هذا الجبل تتفرع سلسلة كبيرة تسير فى الاتجاه الغربى نحو بلدة بدر. وأنا أرى أن هذا هو جبل ردوه الذى يأتى الجغرافيون العرب على ذكره فى كثير من الأحيان. وهذا هو السمهودى يقول : إن جبل ردوه هذا يبعد مسير يوم واحد عن ينبع ، ومسير أربعة أيام عن المدينة المنورة. وعلى بعد مسير ساعة واحدة فى شرق المدينة توجد مجموعة من آبار المياه الحلوة ، يطلقون عليها اسم العسيلية ، التى تستخدم مياهها فى رى حقول البطيخ. البدو يخيمون فى هذه المنطقة فى بعض الأحيان ؛ فى ذلك الوقت كان هناك آلاى من الخيالة الأتراك الذين نصبوا خيامهم بالقرب من هذه الآبار.

ينبع فيها آبار عدة لكن ليس فيها خزانات للماء. ماء الشرب يجرى الحصول عليه من خزانات كبيرة ، تبعد مسير حوالى خمس دقائق عن بوابة المدينة ، حيث يجرى تجميع مياه الأمطار. وقد جرى حفر قنوات صغيرة عبر السهول المجاورة ، لتوصيل مياه المطر إلى تلك الخزانات. هذه الخزانات واسعة ، ومبطنة جيدا ، لأنها مستودعات

٢١٢

تحت الأرض ، والواحد من هذه المستودعات كفيل بمد مدينة ينبع بالماء طوال أسابيع عدة. هذه الخزانات أو المستودعات مملوكة لعائلات بعينها ، قام أسلافها ببناء هذه الخزانات ، ويبيعون ماءها ، بأسعار محددة ، من قبل الحاكم (المحافظ) الذى يحصّل ضريبة هو الآخر من أصحاب هذه الآبار. مياه هذه الآبار أفضل من مياه الآبار الأخرى التى فى سائر أنحاء الحجاز ، التى لا يحاول السكان فيها إنشاء أو تأسيس مثل هذه الخزانات. والمطر عند ما يسقط على ينبع يعانى منه سكانها معاناة شديدة ، ويضطرون إلى ملء قرابهم من آبار العسيلية البعيدة.

كانت ينبع ملحقة على حكومة شريف مكة ، الذى كان يتحتم عليه اقتسام عائدات الجمارك مع الباشا التركى فى جدة. لكن الشريف غالب كان يدخل هذه العائدات فى خزانته الخاصة ، وكان يحتفظ فى ينبع بوزير ، أو إن شئت فقل : محافظ ، ومعه حرس يقدر بحوالى خمسين رجلا أو ستين. لم تكن لذلك الوزير سلطة سوى جمع المتحصلات الجمركية ، فى حين كان سكان المدينة يخضعون لحكم شيوخهم ، وكان شعب ينبع يتمتع بقدر أكبر من الحرية أكثر من أهل مكة وجدة. لم تكن قبيلة جهينة القوية دمية فى يدى الشريف غالب ، وعند ما كان أحد من أهل ينبع يستشعر سوء المعاملة ، كان يهرب إلى أقاربه فى الصحراء الذين كانوا يمارسون شيئا من الضغط على بعض رجال الشريف أو على القوافل إلى أن ينصلح الحال.

عند ما هاجم سعود ـ الرئيس الوهابى ـ الأجزاء الشمالية من الحجاز ، كان يستهدف فى المقام الأول إخضاع بدو قبيلة بنى حرب الكبيرة وقبيلة جهينة ، وقد سهّل هذا الأمر على سعود وجود كراهية وعداء مستحكمين بين القبيلتين ، اللتين كانتا فى عراك وحرب مستمرة مع بعضهما بعضا. بعد أن أخضع سعود قبيلة جهينة ، استقبلت ينبع النخل حامية وهابية ، ثم قام سعود بالهجوم على ينبع للمرة الأولى فى عام ١٨٠٢ م مستخدما فى ذلك قوة كبيرة ، ظلت مخيمة أمام مدينة ينبع طوال أسابيع عدة ، محاولة اقتحام المدينة. بعد انسحاب سعود قام الينبعاويون ببناء سور قوى جديد حول مدينة ينبع ، وذلك بناء على أوامر من الشريف غالب ، الذى فرض على أهل ينبع تحمل كامل

٢١٣

تكلفة ذلك السور. بعد استسلام الشريف غالب شخصيا لقوة سعود الكبرى والأقوى ، ظلت ينبع صامدة ومتماسكة بضعة أشهر. بعد أن جهز سعود جيشا قويا للهجوم على ينبع ، وبعد هروب الوزير (المحافظ) ، قام أهل ينبع بإرسال رسالة إلى سعود ، واستسلموا له واعتنقوا مذهبه الدينى. لم يضع الوهابيون حامية فى المدينة ، وظل الشريف غالب محتفظا بنفوذه فى المدينة ، لكن جابى الضرائب الوهابى اتخذ لنفسه مقرا فى مدينة ينبع ، وهنا أحس السكان ، الذين لم يتعودوا من قبل الخضوع لأى نوع من الضغوط أو الضرائب ، باستثناء الرسوم الجمركية ، بعنف الضغوط التى بدأت حكومة الوهابيين تمارسها عليهم.

فى خريف عام ١٨١١ م ، وعند ما نزل الجيش التركى بقيادة طوسون باشا لأول مرة على أرض مدينة ينبع ، أعرب أهلها عن رغبتهم الأكيدة فى التخلص من نير حكم الشريف غالب والحكم الوهابى ، وهنا هرب ضباط الشريف غالب ومعهم الضباط الوهابيون الذين كانوا فى مدينة ينبع فى ذلك الوقت ، وبعد استعراض سطحى للمقاومة طوال اليومين الأولين ، من قبل القائد المعين من قبل الشريف غالب ، الذى لم يكن معه سوى عدد قليل جدا من الجنود ، والذى اكتشف وتأكد أيضا من عدم رغبة السكان فى خوض القتال ، بعد كل ذلك فتحت مدينة ينبع أبوابها ، ولاقت بعض المصاعب من الجنود الأتراك الهمجيين. واعتبارا من ذلك التاريخ أصبحت هناك حامية تركية فى المدينة ، وهكذا تحولت ينبع إلى ميرة (*) ، أو بالأحرى مستودعات لتزويد الجيش بالطعام ؛ والمقصود بالجيش هنا هو القوات التركية التى كانت تحارب العدو فى المنطقة المجاورة لمدينة ينبع. ونظرا لأن الجنود ، لم يكونوا على مقربة من الباشا أو ولده فقد راحوا يتصرفون على نحو فوضوى غير ملتزم ، لم يكونوا ليفعلوه لو أنهم كانوا تحت أعين وبصر الباشا أو ولده ، مثلما كان الحال فى جدة أو مكة. فقد راح كل بمباشى ، أو بالأحرى كل قائد سرية ، من السرايا التى نزلت إلى أرض ينبع ،

__________________

(*) الميرة : نظام أو مكان لتزويد الجيش بالطعام. (المترجم)

٢١٤

يتخذ لنفسه ، أثناء مقامه فى المدينة ، منصب المحافظ (حاكم المدينة) ؛ فى حين كان المحافظ الحقيقى أو الفعلى ، سليم أغا ، مجرد شىء هامشى. وقد وقعت بعض المشاجرات أثناء مقامى فى ينبع ، الأمر الذى أغضب سكان المدينة ؛ فقد قام ضابط تركى بفتح النار ، من مسدسه ، فى الشارع فى فترة الظهيرة ، على شاب عربى ، سبق أن لفت انتباهه إلى بعض الأعمال المشينة ، وارتكب ذلك الضابط التركى عملية القتل هذه بتباه كبير ، وذلك من باب الثأر والانتقام من ذلك الشاب لأنه رفض مقترحات ذلك الضابط ، ثم لجأ الضابط بعد ذلك إلى مركز رئاسة البمباشى طلبا للحماية ، والذى استنفرت قواته للوقوف فى وجه الغضب الشعبى ، وسارع أقارب القتيل إلى الذهاب إلى المدينة المنورة ليطلبوا من محمد على باشا القصاص من القاتل ، ولكنى غادرت ينبع قبل البت فى ذلك الأمر.

أهل ينبع كلهم مسلحون ، على الرغم من عدم تبدى ذلك للناس ، والواحد منهم يحمل عادة عصا غليظة فى يده. قلة قليلة من أهل ينبع هم الذين يقتنون الخيول ؛ الجهاينة المقيمون فى ينبع النخل لديهم سلالات جيدة من الخيول النجدية. كل أسرة من الأسر لديها عدد من الحمير التى يستخدمها الناس فى جلب الماء إلى المدينة. افتقار الناس هنا إلى الخدم أكثر حدة عنه فى مدن الحجاز الأخرى. أهل ينبع لا يوافقون على امتهان الأعمال الوضيعة ، وبخاصة إذا ما كانوا قادرين على تسيير حيواتهم بطرق وأساليب بديلة. الحجاج المصريون ، الذين يبقون على الشاطئ بعد أداء فريضة الحج ، يضطرون أمام احتياجهم للمال اللازم لعودتهم إلى بلدهم ، إلى العمل شيالين ، وعمال ، وحطابين ، وسقائين إلخ ، لقد شاهدت بنفسى رجلا يتقاضى قرشا ونصف القرش نظير حمولة لمسافة تقدر بحوالى خمسمائة ياردة ، لينقلها ذلك الحمّال من الشاطئ إلى منزل من المنازل.

ينبع هى أرخص بلدان الحجاز ، فيما يتعلق بالمؤن والتموينات ؛ ونظرا لوجود الماء بكثرة فى هذه المدينة ، ونظرا أيضا لأن جوها هو الأفضل من جو جدة من الناحية الصحية ، فإن الإقامة فيها تصبح أمرا مقبولا اللهم إلا باستثناء جحافل الذباب

٢١٥

التى تكثر فى منطقة الساحل. ولا يخرج أحد من أهل ينبع إلا وفى يده مروحة من القش لكى يهش بها ذلك الذباب ، ويستحيل أن يتناول الناس طعامهم دون ابتلاع شىء من ذلك الذباب مع الطعام ، وبخاصة أن ذلك الذباب يدخل الفم عند ما يفتحه صاحبه لتناول الطعام. الناس يشاهدون جحافل الذباب وهى تمر فوق المدينة ؛ هذه الجحافل الذبابية تحط حتى على السفن التى تبحر خارجة من الميناء ، وتبقى على ظهر السفينة طوال الرحلة.

الرحلة من ينبع إلى القاهرة

أبحرت من ميناء ينبع فى صباح اليوم الخامس عشر من شهر مايو ، فى سمبوك ، أو إن شئت فقل : قارب كبير مفتوح متجه إلى ميناء القصير ، ليجرى تحميله بالقمح من هناك ؛ كان ريس السمبوك واحدا من أبناء مالك السمبوك ، وهو من مواطنى مدينة ينبع. كنت قد اتفقت معه على نقلى أنا وعبدى من ينبع إلى القصير نظير مبلغ خمس دولارات ، فى الوقت الذى كان الحاج الواحد يدفع أجرا مقداره دولارين فقط ، فى حين كان يدفع الفقير والخادم دولارا واحدا. كانت الحكومة تعطى أصحاب السفن نصف دولار فقط عن نقل الجندى الواحد. ولما كان آمر ينبع له نصيب فى ذلك السمبوك ، فقد سمح له بالإبحار دون أن يحمل معه بعضا من الجنود ، وكان الريس قد أبلغنى أن هناك حوالى عشرة مسافرين من العرب على ظهر السمبوك ، وعند ما اضطرنى الريس إلى دفع دولارين زيادة على الأجر المعتاد ، فقد سمح لى بمكان صغير أحتفظ به لنفسى خلف الدّفة. وعند ما ركبت على ظهر السمبوك اكتشفت أن الريس خدعنى ؛ فقد كان هناك ما يزيد على ثلاثين مسافرا معظمهم من السوريين والمصريين ، كانوا جميعهم متزاحمين على ظهر القارب ، ولم يدفعوا جميعا سوى ما يقرب من عشرة دولارات. وكان الريس ، هو وأخوه الأصغر منه ، والقبطان والخادم ، كل أولئك كانوا يجلسون فى المكان الذى سبق أن وعدنى به الريس ووافقت عليه. مسألة العودة إلى ينبع ، موطن الموت ، لم تكن أمرا محمودا ، وبعد أن وجدت عدم

٢١٦

وجود مظاهر للطاعون على ظهر السمبوك ، استسلمت لقدرى ومصيرى دون جدل لا طائل من ورائه. أقلعت السفينة على الفور وراحت تسير بمحاذاة الشاطئ. عند ما دخل المساء وجدت أن موقفى ازداد سوءا عما كنت أتوقعه عند ما ركبت على ظهر المركب ؛ ففى عنبر القارب كان يرقد حوالى ستة من المرضى ، كان اثنان منهما يهذيان هذيانا فظيعا ؛ كان شقيق الريس صغير السن قد حصل على أجر نظير رعايته للمرضى ، والأدهى أن ذلك الشقيق كان يجلس على المقعد المجاور لمقعدى ، ومات واحد من هذين المريضين فى اليوم التالى ، وجرى إلقاء الجثة فى البحر من فوق ظهر المركب. لم يعد هناك شك فى أن الطاعون كان على ظهر السمبوك ، على الرغم من إصرار البحارة بأن المرض الموجود ليس هو الطاعون. فى اليوم الثالث ، أحس الصبى الصغير ، شقيق الريس بآلام شديدة فى الرأس ، وعند ما داهمه الطاعون أصر على إنزاله على الشاطئ ، كنا فى ذلك الوقت فى خليج صغير ، استسلم الريس لرجاء أخيه ، واتفق مع أحد البدو الموجودين على الشاطئ ، على نقله على جمله إلى ينبع.أنزلناه إلى البر ، ولا أعرف ماذا حدث له بعد ذلك. الاحتياط الوحيد الذى يمكن اتخاذه تحسبا للعدوى هو أن أقوم بوضع أمتعتى حولى ، مستهدفا بذلك رسم دائرة عازلة أستطيع فيها التحرك مستريحا وبلا مصاعب ، ولكن على الرغم من كل ذلك وجدتنى مضطرا إلى الاتصال فى كل لحظة بطاقم المركب. من يمن الطالع أن المرض لم ينتشر ؛ إذ لم يمت من بيننا سوى شخص واحد فقط ، وجاءت وفاته فى اليوم الخامس من مغادرتنا لينبع ، وذلك على الرغم من إصابة مسافرين كثيرين بالمرض ، لم أستطع أن أجزم أنه الطاعون ؛ نظرا لأنى لم أتمكن من فحص الجثث ، لكن كل ما كان حولى كان يقتادنى إلى ذلك الاعتقاد. ربما كان دوار البحر المستمر والقىء الذى تملك المسافرين ، عملية صحية من عمليات الطبيعة. وفيما يتعلق بى أنا شخصيا فقد كنت فى حالة صحية متدنية طوال الرحلة ، وكنت أستشعر الألم فى أحيان كثيرة ، والذى تزايد بفعل انعدام وسائل الراحة على السفينة (السمبوك). كانت نفسى قد بدأت تعاف الأطعمة كلها ، فيما عدا الثريد ؛ كنا كلما دخلنا ميناء من الموانئ ، أقوم بشراء خروف من البدو ، على أمل الحصول على طبق من الحساء ، وعن طريق توزيع

٢١٧

اللحم بين المسافرين على المركب ، أحصل منهم على الدعاء والتمنيات الطيبة ، الأمر الذى جعلهم يحسنون معاملتى فى كل صغيرة وكبيرة ، واستطعت بذلك أيضا الحصول على عونهم ومساعدتهم لى ، عند ما كنت أحتاج إلى رفع المظلة فى الصباح ، أو عند ما كنت أملأ قربة الماء عند ما نكون على الشاطئ.

الملاحة هنا ، هى من القبيل نفسه الذى سبق أن تناولته بالوصف فى رحلتى من سواكن إلى جدة ؛ كنا ندخل ميناء مع حلول كل مساء ولم نكن نبحر مطلقا أثناء الليل ، ولكننا كنا نستأنف إبحارنا مع طلوع النهار ، وعند ما كنا نعرف أنه ليس فى طريقنا خليج صغير أو ميناء قريب يمكن أن نصله قبل غروب الشمس فى ظل الرياح السائدة ، كنا نتوقف فى بعض الأحيان فى مرسى من المراسى عقب صلاة الظهر مباشرة. ومن سوء طالعنا أن قارب السمبوك كان قد تم سحبه بسبب هياج البحر وارتفاع أمواجه فى رحلة من الرحلات السابقة ، ومن هنا تعذر علينا النزول إلى الشاطئ ، اللهم إلا باستثناء الأماكن التى كنا نجد فيها سفنا أخرى ، كنا نستقل قواربها ؛ نظرا لأننا عادة ما نرسوا فى مياه عميقة. البحارة هنا كشفوا عن جبنهم الكبير ، مثلما فعل أندادهم فى سواكن فى مناسبة سابقة ؛ كلما زاد هبوب الريح طوى البحارة الأشرعة ، يزاد على ذلك أن تخوف البحارة من العواصف يجعلهم يلجأون إلى أى ميناء من الموانئ ، أضف إلى ذلك أننا لم نكن نقطع فى اليوم الواحد مسافة تزيد على ما يتردد بين خمسة وعشرين ميلا وخمسة وثلاثين. لم يكن على ظهر المركب من الماء شىء سوى برميل خشبى كبير ، ولم يكن به من الماء سوى ما يكفى البحارة مدة ثلاثة أيام فقط. كان لكل بحار من البحارة قربة خاصة به ، وعند ما كنا نصل إلى مسقى من المساقى ، كان البدو يجيئون إلينا ويبيعون لنا الماء الذى فى قرابهم. فى بعض الأحيان يحدث أن ترسو السفينة فى خليج من الخلجان ، يكون بعيدا عن آبار الماء ، أو قد يمنع البحارة من مغادرة المركب بسبب الريح المعاكسة ؛ الأمر الذى يجعل طاقم المركب يعانى معاناة شديدة من العطش لافتقارهم الماء.

٢١٨

طوال الأيام الثلاثة الأولى كنا نبحر بمحاذاة الشاطئ الرملى ، الأجرد وغير المأهول بالسكان والذى تمتد فيه الجبال مسافة كبيرة نحو الداخل. وعلى امتداد رحلة برية وبحرية من ينبع مقدارها مسير ثلاثة أيام ، وذلك على حد قول الناس هنا ، يقع فى نهاية هذه الرحلة جبل يطلق الناس عليه هنا اسم جبل الحسّانى ، الذى يمتد إلى مسافة قريبة من شاطئ البحر ، ومن شاطئ البحر تمتد فى اتجاه الشمال سلسلة الجبال المنخفضة ، فى المنطقة المجاورة للساحل ، وهذه المنطقة لا يسكنها سوى عدد قليل من البدو. مخيمات قبيلة جهينة تمتد إلى أن تصل إلى هذه السلسلة من الجبال المنخفضة ، هذه المخيمات تمتد فى شمال هذه الجبال ، إلى أن تصل إلى محطة الحج التى يطلقون عليها اسم الوجه ، أو «الوش» حسبما ينطقها الناس هنا ؛ وهذه المنطقة هى المنازل التى يقيم فيها بدو الحطيم (ويصح فيه أيضا «الهتيم»). توجد جزر عدة أمام جبل الحسّانى ، والبحر فى هذه المنطقة عامر بالمناطق الضحلة والصخور المرجانية ، التى تكاد تلامس سطح الماء ؛ ألوان هذه الصخور البركانية المتباينة هى التى تجعل الناظر إليها من بعيد يحسها وكأنها قوس قزح. فى فصل الربيع وبخاصة بعد سقوط المطر ، يقوم بعض بدو الساحل بالإقامة على هذه الجزر الصغيرة ، وكلما توفر المرعى أدى ذلك إلى بقاء البدو فيها ، هؤلاء البدو جميعهم لديهم قوارب صغيرة وهم صيادون مهرة. وهم يملحون السمك ، إما فى قواربهم إلى مدينة ينبع أو إلى القصير ، أو قد يبيعونه للسفن التى تمر عليهم. إحدى هذه الجزر اسمها الحرّة ، وهى تنتمى إلى بنى عبس ، التى كانت فى يوم من الأيام واحدة من القبائل البدوية القوية ، لكنها حاليا ليست سوى بضع عائلات ، تعيش مختلطة مع بنى الحطيم ، ولا تحظى بالاحترام والتقدير ، شأنها فى ذلك شأن بدو الحطيم الذين تعيش بينهم هذه العائلات. هناك على جزيرة أخرى من هذه الجزر قبر لأحد الصالحين ، اسمه الشيخ حسّان المرابط ، وحول هذا القبر توجد بعض المبانى القليلة المنخفضة ، وبعض الأكواخ أيضا ؛ فى هذه المنطقة تستقر أسرة بدوية حطيمية هى التى تقوم على سدانة ذلك القبر وخدمته ورعايته. ولما كان خط سير السفن العربية قريب من هذه الجزيرة ،

٢١٩

فإن بحارة هذه السفن غالبا ما يرسلون قاربا فيه شىء من القمح لمن يقيمون فى تلك الجزيرة ، أو قد يرسلون إليهم شيئا من الزبد ، والبسكويت ، والبن ، نظرا لأنهم يعدون الشيخ حسان هذا راعيا لهذه البحار. عند ما أبحرنا بالقرب من هذه الجزيرة ، صنع ريس المركب الذى كنا على ظهره رغيفا كبيرا من الخبز ، وسواه فى الجمر الناتج عن النار ، وأعطى كل من كان على ظهر السمبوك لقمة من ذلك الرغيف ، من باب تكريم وتشريف ذلك الولى ، وبعد أن تناولنا تلك اللقمات قدم الرجل لكل واحد منا كوبا من القهوة.

البحارة العرب ، بصفة عامة ، يؤمنون بالخرافات إلى حد بعيد ، وهم ينظرون إلى بعض المسارات نظرة خوف وفزع ؛ لا لأن هذه المسارات أخطر من غيرها ، وأنما لأنهم يعتقدون أن الأرواح الشريرة تسكن فيما بين الشعاب المرجانية ، وأنها قد تسحب السفن إلى المناطق الضحلة ، وتسبب لها الارتطام ؛ ولهذا السبب نفسه ، يواظب البحارة بصورة مستمرة بعد كل ميل ، على إلقاء حفنة من الأطعمة فى البحر ، قبل أن يجلسوا لتناول الطعام ؛ ظنا منهم أن ساكنى البحر يتعين أن يحصلوا أيضا على طعامهم ، وإلا اعترضوا طريق المركب وعرقلوا مسيرها. نسى ريس المركب ذات يوم ، أن يفعل هذا الشىء ، لكنه عند ما تذكر ذلك ، أمر بخبز رغيف طازج ، وألقاه فى البحر.

كنا نلتقى كل يوم سفنا قادمة من مصر ، كانت ترسو فى ذلك الخليج ، ويصل عدد هذه السفن فى المساء إلى ثلاث سفن أو أربع. فى المناسبات التى من هذا القبيل تدور المشاجرات حول الماء ، وكانت السفن تضطر إلى البقاء يوما أو يومين قبل أن يحضر البدو كمية كافية من الماء إلى الشاطئ. الزبد ، والحليب ، والعسل والأغنام والماعز ، والسمك المملح والحطب ، وأغصان الأراك وعيدانه التى يصنع البدو منها المساويك ، كل هذه الأشياء متوفرة وتجرى مقايضتها بالقمح أو التبغ. البدو لصوص جسورون ، بل إنهم يسبحون فى الماء ليصلوا إلى السفن أثناء الليل ، لكى يترقبوا الفرصة عند ما تسنح لهم بسرقة شىء من الأشياء. الماء على الشاطئ كله سيئ للغاية ، اللهم باستثناء كل من الوجه وضبا. والوجه التى تبعد مسافة مسير ثلاثة أيام فى اتجاه

٢٢٠