ترحال في الجزيرة العربية - ج ٢

جون لويس بوركهارت

ترحال في الجزيرة العربية - ج ٢

المؤلف:

جون لويس بوركهارت


المترجم: صبري محمّد حسن
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المركز القومي للترجمة
الطبعة: ١
ISBN: 977-437-388-X
الصفحات: ٢٨٩
الجزء ١ الجزء ٢

فى الشارع أن يشق طريقه عنوة عبر هذه الجموع ، لم يتبق فى مكة سوى بعض الشحاذين الذين كانوا يرفعون أصواتهم فى اتجاه المنازل التى كانوا يظنون أنها ما زالت عامرة بالسكان. كانت الزبالة والنفايات تغطى الشوارع ، ولم يكن أحد يود رفع هذه النفايات. كانت أطراف المدينة عامرة بجثث الإبل النافقة ، وكانت الرائحة المنبعثة منها ، تجعل الهواء نفاذا وخانقا حتى فى وسط المدينة ، الأمر الذى أسهم بالقطع فى انتشار الأمراض السائدة فى هذه المدينة. كانت جثث متعددة ملقاة بالقرب من مستودعات الحج ، وكان العرب الذين يسكنون فى هذه المنطقة من مكة لا يجرؤن على الخروج منها دون أن يدسوا فى أنوفهم قطعا صغيرة من القطن ، وكانوا يحملون هذه القطع مربوطة إلى خيوط تتدلى من أعناقهم (*). لم يكن ذلك نهاية المطاف ؛ نظرا لأن المكيين يبدءون فى ذلك الوقت نزح مجارير وطرنشات منازلهم ، ويتكاسلون على نحو يجعلهم لا يحملون تلك الفضلات الآدمية إلى ما وراء أطراف المدينة ، وإنما يكتفون بحفر حفرة فى الشارع ليضعوا فيها تلك الفضلات الآدمية ، وغالبا ما تكون هذه الحفر أمام أبواب المنازل ، ثم يغطون تلك الحفر بطبقة من التراب والطين ، ومن السهولة بمكان تخيل النتائج التى يمكن أن تترتب على ذلك.

تبدأ فى ذلك الوقت احتفالات الختان ؛ إذ يجرى الاحتفال بهذه المناسبة بعد الحج مباشرة ، أى عند ما يخلو المكيون لأنفسهم ، وقبل أن ينفق الناس المبالغ التى جمعوها من موسم الحج ، لكنى شاهدت طقوس أكثر من موكب للمختتنين. هذه أعداد من الحجاج ، الذين أصابهم الإعياء بسبب الطريق ، أو جراء الإصابة بالبرد نتيجة ارتداء ملابس الإحرام ، كل هؤلاء كانوا عاجزين عن مواصلة رحلة العودة إلى بلادهم ،

__________________

(*) العرب بشكل عام ، بل وحتى البدو أكثر حساسية من الأوروبيين لأقل قدر ممكن من الرائحة النفاذة ، ولعل هذا هو السبب الرئيسى وراء عدم دخول البدو أية بلدة من البلدان ، بدون كمامة أو لثام ، يضعونه على أنوفهم. والعرب والبدو لديهم اعتقاد مفاده أن الروائح الكريهة تؤثر على الصحة وذلك عن طريق الدخول من فتحتى الأنف إلى الرئتين ، ولعل هذا ، دونا عن الإحساس الناتج عن تشمم الرائحة الكريهة ، هو السبب الرئيسى وراء تغطية البدو لأنوفهم بأطراف عمائمهم ، أثناء مرورهم فى الشوارع.

٦١

هذا يعنى أنهم يبقون فى مكة أملا فى استعادة صحتهم وقوتهم ، لكنهم يلقون ربهم هنا فى أغلب الأحيان ، وإذا ما كان لهم رفيق أو قريب معهم ، فإنه يحمل معه متعلقات الميت ، نظير دفع أتعاب للقاضى والشريف باعتبارهما وارثى هذا الميت ، يضاف إلى ذلك أن هذه الموروثات تكون غير ذات بال. وأنا عند ما غادرت مكة ، كان لا يزال فيها حوالى ألف حاج ، كان الكثيرون منهم يودون تمضية عام كامل فى المدينة المقدسة ، ويحضروا موسم الحج فى العام التالى ، بعض آخر من هؤلاء الحجاج يمددون إقامتهم لشهور قلائل فقط.

عند مغادرة مكة ، يجب القيام بطواف الوداع والسعى بين الصفا والمروة. والحجاج يقومون بهذين المنسكين عند ما يستعدون للرحيل ، بعدها يركبون إبلهم ، وفى هذه اللحظة تكون فريضة الحج قد انتهت.

الرحلة من مكة إلى المدينة (المنورة)

فى اليوم الخامس عشر من شهر يناير من عام ١٨١٥ م ، تركت مكة مع قافلة صغيرة من قوافل الحجاج المتجهين لزيارة قبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كانت القافلة مكونة من خمسة عشر جملا ، مملوكة لبعض بدو قبيلة الريشه وقبيلة زبيد : الذين يؤثرون مصاحبة إبلهم بأنفسهم ، أو يرسلوا معها عبيدا بدلا عنهم. كنت قد استأجرت جملين أحدهما لنقلى والآخر لنقل عبدى ومعه أمتعتى وعفشى ، وكما هى عادة الحجازيين دفعت الأجر مقدما ، بواقع مائة وثمانين قرشا للجمل الواحد. وقد صحبنى إلى خارج المدينة دليلى السياحى ، الذى كنت راضيا عنه تماما ، على الرغم من عدم خلوه من الرذائل سالفة الذكر ، صحبنى الرجل إلى سهل الشيخ محمود ، الذى تجمعت فيه الإبل ، والذى انطلقت القافلة منه عند الساعة التاسعة مساء. الرحلة إلى المدينة شأنها شأن الرحلة من مكة إلى جدة ، تجرى أثناء الليل ، الأمر الذى يجعلها أكثر فائدة للمسافر ، لكنها فى فصل الشتاء تكون أقل راحة عن رحلات النهار.

٦٢

بعد أن تقدمت القافلة مسير ساعة وربع الساعة (*) ، تجاوزنا منطقة العمرة ، والطريق فى هذه المنطقة ممهد فى بعض أجزائه باستعمال الأحجار الكبيرة ، وبخاصة فى المطالع. مررنا خلال وديان من الرمل الثابت ، بين سلاسل غير منتظمة من التلال المنخفضة ، التى تنمو فيها بعض الأعشاب وبعض أشجار السنط. كان الطريق مستويا ، باستثناء مسافات قصيرة قليلة منه.

بعد خمس ساعات من مغادرتنا مكة ، مررنا على مبنى مخرّب يطلقون عليه اسم الميمونية ، يحتوى على رفات أحد الأولياء ، وكانت قبة هذا القبر قد دمرت بواسطة الوهابيين. يوجد بالقرب من هذا القبر بئر ماء يسر ، وبركة أو إن شئت فقل خزان مبنى من الحجر ، وكان هناك منزل صغير ملحق بالقبر يستعمله المسافرون. خلال الساعات الست الأولى من سفرنا من مكة كان الطريق يتجه صوب الشمال الغربى ، إلى أن وصلنا إلى تل منحدر يتعذر على القوافل تجاوزه ، ولذلك يممنا وجهنا شطر أقصى الشمال الغربى إلى وادى فاطمة ، الذى وصلناه بعد مسير دام ثمانى ساعات من مكة ، أى مع بزوغ خيوط الفجر الأولى.

فى اليوم السادس عشر من شهر يناير. نزلنا فى المكان الذى تستريح فيه قوافل الحج فى اليوم السابق لوصول هذه القوافل إلى مكة ، وهذا المكان فى جزء من أجزاء وادى فاطمة ، ويطلقون عليه اسم وادى الجموم. وادى فاطمة عبارة عن أرض منخفضة ، تكثر فيها عيون الماء والآبار ، يمتد شرق شمال شرق إلى مسافة تقدر بمسير أربع ساعات أو خمس إلى أن يكاد يتصل بوادى الليمون. والناس يطلقون هنا على الطرف الغربى من وادى فاطمة اسم مدوع. وإلى الغرب من المكان الذى قصدناه للراحة ، نجد أن وادى فاطمة ينتهى بعد مسير ساعة ونصف الساعة ؛ إذ يبلغ إجمالى طول وادى فاطمة حوالى مسير ست ساعات. والجانب الغربى من وادى فاطمة هو بمثابة المزارع الرئيسية ، ومن الناحية الشرقية لا يزرع من الوادى سوى بعض المناطق

__________________

(*) كنت قد اشتريت ساعة من مكة ، كما حصلت أيضا على بوصلة جيدة من السفينة الإنجليزية فى جدة.

٦٣

القليلة ؛ كان الوادى من ذلك الجانب يمثل سهلا يصل عرضه إلى أميال عدة ، تغطيه الأعشاب ، وتحيط به من الجانبين تلال جرداء مرتفعة ، لكن الطرف الشرقى من الوادى يقال إنه منزرع زراعة جيدة. وادى فاطمة هذا له أسماء مختلفة فى كثير من أجزائه ، ولكن أهل جدة وأهل مكة يعرفون وادى فاطمة باسم الوادى ليس إلا. المؤرخون العرب يطلقون عليه اسم وادى مرّ. وفيما بين وادى فاطمة وهدا ، (المحطة التى يطلق عليها هذا الاسم فى طريق جدة) يوجد المكانان اللذان يسميان السراوات والركانى. (راجع العصمى)

الأراضى المنزرعة من وادى فاطمة مكونة فى الأصل من أراضى النخيل ، التى تزود أسواق المدن المجاورة بالتمور ، وبالخضروات التى تنقل أثناء الليل فى قفف صغيرة على ظهور الحمير إلى مكة وجدة. كما يزرع القمح والشعير أيضا بكميات صغيرة فى وادى فاطمة ، ولما كان الوادى عامرا بالمياه ، فذلك يرجح أنه أكثر إنتاجا مما هو عليه فى الوقت الراهن ، ومع ذلك فإن أهل الحجاز لا يميلون عموما إلى العمل اليدوى. بالقرب من المكان الذى نزلنا فيه ، يجرى نهير صغير ، ينساب من ناحية الشرق ، ويصل عرضه إلى حوالى ثلاثة أقدام وعمقه حوالى قدمين ويجرى فى مجرى تحت سطح التربة ، ومغلف بالحجر المكشوف أو غير المغطى لمسافة قصيرة ، وهذه هى المنطقة التى تأخذ القوافل منها احتياجاتها من الماء ، الذى هو أكثر فتورا من ماء زمزم فى مكة ، كما أن مذاقه أفضل كثيرا من مذاق ماء زمزم. بالقرب من هذا النهير توجد بنايات إسلامية عدة مهدمة ، كما يوجد خان كبير أيضا ، ونقلا عن الفاسى ، كان يوجد من قبل فى هذه المنطقة مسجد اسمه مسجد الفتح. وفيما بين نخيل التمور توجد بعض أكواخ العرب ، يقيم فيها المزارعون الذين يعملون فى هذه الأرض ، وبخاصة أولئك الذين ينتمون إلى قبيلة اللهيّان ، وأكثر هؤلاء الناس ثراء ينتمون إلى قبيلة أشراف مكة ، الذين يطلق عليهم اسم ذوى بركات ، الذين يعيشون فى هذه المنطقة عيشة البدو فى خيام وأكواخ. هؤلاء المزارعون لديهم أعداد صغيرة من الماشية ، وأبقار هؤلاء المزارعين صغيرة الحجم مثل أبقار أهل الحجاز ، ولكل بقرة منها سنام

٦٤

على كتفها. ويتميز وادى فاطمة أيضا بأشجار الحناء التى تنمو بأعداد كبيرة ، ولهذه الأشجار زهور جميلة طيبة الرائحة ، يجرى طحنها إلى مسحوق يستعمله أهل الشرق فى صبغ أكفهم وكعوب أقدامهم ، أو أظافر أصابعهم وأرجلهم. والحناء التى تجلب من وادى فاطمة يجرى بيعها للحجاج فى مكة فى أكياس صغيرة مصنوعة من الجلد ، ويصطحب بعض الحجاج شيئا من هذه الحناء معهم إلى أوطانهم ، ليقدموها هدية لأقاربهم من النساء. وأنا أرى أن المرجح هو أن آل عاد الذين ورد ذكرهم عند بطليموس كانوا يسكنون هذا الوادى (وادى ، عاد).

اكتشفنا فى المكان الذى توقفنا فيه جماعة تضم حوالى عشرين خادما وجمالا ممن ينتمون إلى الجيش التركى فى مكة ، والذين غادروا هذا المكان سرا هربا من الخطر الذى فرضه محمد على باشا على الأشخاص الذين ينطبق عليهم وصف هؤلاء القوم. كانت هذه الجماعة بلا مؤن أو تموينات ، ولم يكن معهم من المال شىء ، لكنهم عند ما علموا أن هناك قافلة سوف تتجه إلى المدينة (المنورة) ، رأوا أن بوسعهم مرافقة تلك القافلة إلى المدينة (المنورة) أيضا. بعض أفراد هذه الجماعة ، وهم من المصريين ، كانوا يودون الذهاب إلى ينبع ، بعض آخر كانوا من السوريين ، رسموا خطة للعودة إلى بلادهم عبر الصحراء عن طريق الحجاز ، على أن يتسولوا طول الطريق فى مخيمات البدو ؛ نظرا لأنهم لم يكن معهم من المال ما يدفعونه أجرا لعودتهم عن طريق البحر إلى ميناء السويس.

غادرنا مكان توقفنا عند الساعة الثالثة بعد الظهر ، وبعد ما أنفقنا ساعة فى عبور الوادى قاصدين جانبه الشمالى ، ومن ذلك الجانب الشمالى ، بدأ طريق الحج الذى سلكناه ، يرتفع ارتفاعا هينا لينا بين التلال ، عبر وديان مليئة بأشجار السنط ، فى اتجاه شمالى ٤٠ غربى. صخور هذه المنطقة كلها من الجرانيت الرمادى اللون وأحمر اللون أيضا. وبعد مضى ساعتين ، وجدنا الأرض تتسع أمامنا ويقل عدد الأشجار ، وبدأ اتجاه الطريق يتحول إلى شمال غرب. وعند غروب الشمس ، كنت قد تقدمت قليلا أمام القافلة ، ونظرا لأنى كنت متعبا ، فقد جلست أرضا ورحت أنتظر

٦٥

وصول القافلة ، وفجأة زحف علىّ خمسة من البدو من الأدغال المحيطة بى وخطفوا فجأة عصاى ، سلاحى الوحيد ، التى كانت موضوعة على الأرض من خلفى. قال لى رئيسهم ، إننى بلا أدنى شك ، هارب من الجيش التركى ، وبالتالى فأنا جائزة لهم. لم أقاومهم ، لكنى عند ما وجدت أنهم أقل تصميما وتشددا من البدو ، خلصت إلى أنهم خائفين إلى حد ما ، وهنا قلت لهم : إنى حاج وإنى تابع لقافلة كبيرة يرافقها بدو قبيلة حرب لحراستها ، قلت لهم ذلك على أمل أن ينتظروا قليلا قبل أن يستوقفونى ، علهم يتأكدوا من حقيقة وصول القافلة ، وأخبرتهم أيضا أن من الأفضل لهم ألا يمارسوا معى أى نوع من العنف ؛ نظرا لأن مرشدينا سوف يعرفون المعتدين ويبلغون عنهم ، وبذلك يمكن أن يطالهم عقاب من بيده الأمر ، تأكدت أنهم لم ينتووا إيذائى ، ولم يتملكنى الخوف ، وبخاصة أنى لم أكن أرتدى سوى لباس السفر ولم يكن معى من المال سوى بضعة دولارات ، هذا إذا ما بلغ السيل الزبى. قام أحدهم ، وهو رجل كبير السن ، بالنصح لهم بالانتظار قليلا ؛ إذ ليس من اللياقة تحمل النتائج المترتبة على سرقة حاج من الحجاج. طوال هذا الحوار ، كنت أنظر قلقا إلى قدوم القافلة ، لكن يبدو أن القافلة كانت قد توقفت مدة ربع الساعة ، حتى يتمكن المسافرون من أداء صلاة العشاء ، وهذا تقليد يومى ، كنت أنا أجهله. جاء هذا التأخير فى غير مصلحتى ، وكنت أتوقع فى كل لحظة ، أن يقوم هؤلاء اللصوص بتجريدى من ملابسى ، وهنا بدأنا نسمع وقع أقدام الإبل ، وهنا تراجع البدو فجأة مثلما جاءوا.

وعلى الرغم من أن الطريق من مكة إلى المدينة (المنورة) كان آمنا على القوافل غير المسلحة ، التى من قبيل قافلتنا ، فإن من يضلون الطريق أو يشردون يكونون دوما معرضين للأخطار ، ولو لا الفزع والرعب ، الذى دب فى قلوب البدو ، قبل أيام قلائل ، بسبب انتصار محمد على باشا على الوهابيين ، لكنت قد عوقبت عقابا شديدا على جرأتى على السير وحيدا. سرنا القسم الأكبر من الليل ، فى سهل زلطى أكثر منه رملى ، تنمو فيه أشجار العشور بين أشجار السنط ، التى سبق أن أتيت على ذكرها فى أسفارى فى بلاد النوبة. هذا الجزء من البلاد يسميه الناس البركة ، وبعد سبع ساعات توقفنا فى القارة.

٦٦

اليوم السابع عشر من شهر يناير : نمنا ساعات قليلة أثناء الليل ، وهذا أمر نادر الحدوث فى مثل هذه الرحلات. القارة عبارة عن سهل من الصوّان الأسود ، وفيه تلال منخفضة على بعد مسافة كبيرة فى اتجاه الشرق ، كما أن فى هذا السهل قلة قليلة من الأشجار الشوكية ، لكنه ليس فيه ماء. اندهشت كثيرا للشبه الكبير بين هذا السهل وبين الصحراء النوبية ، الواقعة إلى الجنوب من شقراء ، وعلى الرغم من أننا كنا فى منتصف الشتاء فإن الحرارة كانت شديدة طوال فترة الصباح أثناء وجودنا فى قارة. لم يكن لدى أى أحد من أفراد القافلة أية خيمة من الخيام ، وكنت أنا الوحيد الأكثر تعرضا وانكشافا عن الآخرين ؛ إذ كان الآخرون راكبين إما فى شبرية أو فى شقدوف ، وهما نوعان من سرج الإبل المغطاة ، التى تحمى الناس بعض الشىء من أشعة الشمس ، سواء أكانتا فوق الجمل أم على الأرض ، والشبرية تتسع لشخص واحد ، أما الشقدوف فيتسع لشخصين ـ كل واحد منهما على جانب من جانبى الجمل. لكنى كنت أفضل دوما الركوب فوق الإبل المحملة ، من منطلق أن ذلك مريح أكثر ؛ إضافة إلى أن ذلك كان يضفى علىّ المزيد من الطابع العربى ، فضلا عن أن ذلك يمكننى من الركوب والنزول دون عون من أحد ، ودون إيقاف الجمل ، وهذا أمر بالغ الصعوبة وبخاصة عند ما يكون الجمل محملا بشبرية أو شقدوف ، إذ يتعين أن يحافظ الراكبان على التوازن بصورة مستمرة.

فى هذا اليوم وطدت معرفتى برفاقى فى القافلة ؛ وسبب ذلك أن القوافل الصغيرة تحتم أن يكون الجميع على ود مع بعضهم البعض. كان أفراد القافلة من أهل جزيرة الملايو ، أو بالأحرى حسبما يطلق الناس عليهم فى الشرق ، من جاوه ، ولكن يستثنى منهم تلك القلة القليلة التى من ساحل ملقا ، وكلهم من الرعايا البريطانيين ، ومواطنى سومطرة ، وجاوه ، وساحل ملبار. أهل الملايو ، يواظبون على الحج بصفة دائمة ، وغالبا ما يحضرون معهم زوجاتهم ، اللاتى كان ثلاثة منهن ضمن قافلتنا الصغيرة. كثير من هؤلاء الناس يبقون سنوات عدة فى مكة ، لدراسة القرآن والشريعة ،

٦٧

وهم يعرفون بين الهنود فى الحجاز بأنهم هم الأكثر التزاما ، بنسك أو بالأحرى بطقوس دينهم. قلة قليلة من أهل الملايو هؤلاء هم الذين يتكلمون العربية بطلاقة ، لكنهم جميعا يقرأون القرآن ، بل إنهم حتى أثناء السفر يشغلون أنفسهم بدراسة القرآن وحفظه. وهم يقللون من مصاريف رحلة الحج عن طريق بيع العود ، وأفضل أنواع العود ، على حد قولهم ، هو ذلك الذى يطلقون عليه اسم الماوردى ، الذى يتكلف الرطل فى بلادهم ما بين ثلاثة دولارات وأربعة دولارات ، ويبيعونه فى مكة بما يتراوح بين عشرين وخمسة وعشرين دولارا للرطل الواحد. ملامح أهل الملايو العريضة وسماتهم الطويلة ، وجباههم البارزة ، وقامتهم القصيرة المتينة ، وأسنانهم المتحللة ، التى تتناقض تناقضا تاما مع أسنان العرب التى تشبه اللؤلؤ ، هذه الملامح تميز هؤلاء الناس فى كل مكان على الرغم من أنهم يرتدون الملابس التى يرتديها الهنود. أما نساؤهم اللاتى يتحركن بلا حجاب ، فيرتدين ثيابا ومناديل (طراحات) من الحرير المقلم ، الذى يصنع فى بلاد الصين. أهل الملايو هؤلاء ، كانوا يبدون أصحاب عادات متأصلة وطبع هادئ ، لكنهم جشعون إلى حد بعيد ، وقد تبدى احتياجهم إلى الإحسان من خلال معاملتهم للهاربين المعدمين الذين انضموا إلى القافلة فى وادى فاطمة. عاش أهل الملايو هؤلاء ، طوال الرحلة على الأرز المسلوق فى الماء ، بلا أى زبد ، الذى يعد أمرا نادرا تماما فى الحجاز ، لكنهم كانوا يحبون ذلك الزبد ؛ وسبب ذلك أن العديد منهم ، كانوا يرجون عبدى أن يعطيهم فى السر شيئا من الزبد ، لكى يحيقوا به طبق الأرز المسلوق. ولما كان هؤلاء الناس من الأثرياء ، فإن الجشع وحده يكون هو السبب وراء تناول هذا النوع من الطعام ، لكنهم كانوا يعاقبون عقابا شديدا عند ما يلعنهم البدو ، الذين كانوا يتوقعون ، بطبيعة الحال ، مشاركتهم طعامهم ، ولكنهم لم يكونوا يغلبوا أهل الملايو فى مسألة تناول ذلك الأرز المسلوق فى الماء. كانت أوعيتهم المصنوعة من النحاس الأحمر من إنتاج الصين ، وبدلا من الإبريق الذى يستعمله أهل الشرق فى الغسل وفى الوضوء ، كانوا يحملون معهم أباريق الشاى الصينية.

٦٨

طوال هذه الرحلة سنحت لى فرص كثيرة للوقوف على رأى أهل الملايو فى الحكومة الإنجليزية وفى تصرفات الإنجليز ، الذين يشغلون فى الوقت الحالى مناصب السادة بين أهل الملايو ، وقد اكتشف البريطانيون عداء أهل الملايو لهم عداء لدودا ، وأن أهل الملايو كانوا ناقمين تماما على سلوكيات البريطانيين وبخاصة شربهم للنبيذ ، فضلا عن أن الجنسين عند الإنجليز يختلطان ببعضهما البعض فى الاتصالات الاجتماعية ، ولم يوجه أحد منهم الاتهام إلى عدالة الحكومة التى كانوا يقارنونها بالقمع الذى يمارسه أمراؤهم الوطنيون ، وعلى الرغم من أن أهل الملايو كانوا يطلقون الكنى والنعوت نفسها على البريطانيين التى يطلقها المسلمون المتشددون فى كل مكان على الأوروبيين ، فإنهم لم ينسوا أن يضيفوا : «ومع ذلك فإن حكمهم طيب». ولقد استرقت السمع إلى كثير من هذه الحوارات ، التى كانت تدور بين الهنود فى كل من جدة ومكة ، والتى كانت تدور أيضا بين البحارة العرب الذين يتجرون مع بومباى وسورات ، وكان فحوى هذا الأمر كله يتمثل فى كراهية المسلمين للإنجليز ، على الرغم من أنهم يحبون أسلوبهم فى الحكم.

غادرنا مكان التوقف لنيل قسط من الراحة عند الساعة العاشرة مساء ، ورحنا نواصل المسير عبر سهل قارة ، فى اتجاه الشمال ٤٠ غرب. وبعد انقضاء ثلاث ساعات مررنا بمبنى مهدم كان يستخدم من قبل فى تزويد المسافرين بالماء. لم أر تلالا فى اتجاه الغرب ، على مدد شوفى. السهل فى هذه المنطقة عامر بالأشجار الكبيرة والأعشاب الكثيفة. واصلنا المسير عبر السهل طيلة ست ساعات ، إلى أن وصلنا إلى نهاية هذا السهل ، وهنا يبدأ السهل فى الصعود المتدرج نحو واد غابى متسع ؛ فى هذا الوادى الغابى توجد بئر يسمونها بئر عصفان ، وهى بئر كبيرة وعميقة ، مبطنة بالحجر ، ينساب فيها ينبوع من الماء الطيب عند قاعها ، وهذه البئر محطة من محطات الحج. هنا طريق آخر يمتد من وادى فاطمة إلى عصفان ، إلى مسافة أربعة أميال فى اتجاه الشرق. مررنا بتلك البئر دون توقف ، وهنا نجد أن السمهودى ، مؤرخ المدينة (المنورة) يأتى على ذكر قرية فى عصفان ، فيها عين ماء يطلقون عليها اسم عوله ؛

٦٩

هذا المكان ليس فيه أية قرى حاليا. بعد مضى سبع ساعات يتبدى لنا ممر صاعد شديد الضيق بين الصخور ، لا يسمح سوى بمرور جمل واحد. أدت السيول التى تنهمر على هذا الممر الضيق فى فصل الشتاء إلى تدمير الطريق ، وامتلائه بالكتل الحجرية الكبيرة الحادة ، وفى هذه المنطقة يبدو طريق الحج كأنه معزول عن الصخر ، ولكن ظلمة الليل كانت حالكة على نحو لم يتمكن أحد معه من رؤية الأشياء رؤية واضحة. بعد مضى ثمانى ساعات وصلنا إلى قمة ذلك المنحدر ، حيث توجد بناية صغيرة ، وربما كانت تلك البناية قبرا لشيخ (ولى) من الأولياء ، عند هذه البناية الصغيرة عبرنا سهلا واسعا ، رمليا فى بعض أجزائه ، وصلصالى ورملى فى جزء آخر منه ، وتنمو فيه الأشجار والأعشاب. بعد أربع عشرة ساعة وقبيل طلوع الفجر ، مررنا بخيمة بدوى صغير ، بالقرب من قرية يسمونها خوليس. توقفنا مرات عدة وقفات قصيرة أثناء الليل ، وشببنا النار طلبا لشىء من الدفء.

تقع قرية خوليس فى سهل واسع ، يرى الرائى بيارات النخيل فى أجزاء كثيرة منه ، كما أن فيه أيضا حقولا يزرع فيها الذرة ، والبامية ، والدّخن. تتناثر فى هذا السهل هجر (كفور) عدة ، وهى تندرج ضمن الاسم خوليس ، أكبر هذه الهجر ، يطلق الناس عليها اسم السوق. وبالقرب من السوق هذه ينبع نهير صغير مثل النهر الذى فى وادى فاطمة ، ويجرى جمع ماء هذا النهر فى بركة صغيرة تقع خارج القرية ، وهى مدمرة الآن ، وتستعمل فى رى السهل. بالقرب من هذه البركة يوجد بعض أنقاض سبيل من الأسبلة (*). استنادا إلى قطب الدين ، نجد أن البركة هى والسبيل ، بناهما قايتباى سلطان مصر فى العام ٨٨٥ الهجرى. فى ذلك الوقت كان فى خوليس أمير خاص بها ، وهذا الأمير كان من الشخصيات القوية جدا فى الحجاز. شاهدت كثيرا من الماشية ، والأبقار ، والأغنام ، لكن العرب كانوا يشتكون من أن مزارعهم كانت تعانى من الجفاف ، لعدم سقوط المطر ، على الرغم من دخول

__________________

(*) السبيل عبارة عن مبنى صغير مفتوح ، عادة ما يكون بالقرب من عين من عيون المياه ، والمسافرون يؤدون الصلاة عند هذه الأسبلة ، وينالون قسطا من الراحة.

٧٠

فصل الأمطار تماما. ويبدو أن ماء النهير لم يكن كافيا لرى المناطق الزراعية كلها ، إضافة إلى أن كمية المياه كانت أقل أيضا مما هو مطلوب ؛ والسبب فى ذلك أن نصف هذه الكمية من المياه كانت تضيع بسبب الإهمال ، عن طريق التسرب من القنوات الضيقة.

قرية السوق تشمل حوالى خمسين منزلا ، وكلها مبنية من الطين ، وهى بيوت منخفضة ، والشارع الرئيسى فى هذه القرية توجد على جانبيه مجموعة من الدكاكين التى يمتلكها أهل خوليس ، ويتردد عليها كل البدو المقيمين فى المناطق المجاورة. السلعة الرئيسية التى تباع فى خوليس هى التمر ، الذى تمتلئ به الدكاكين ، بعض الدكاكين الأخرى تبيع الذرة ، والشعير ، والعدس ، والبصل (والعدس والبصل يأتيان من مصر) ، والأرز ، وبعض السلع التموينية الأخرى ، لكن هذه الدكاكين لا تبيع القمح ؛ نظرا لأن بدو هذا الجزء من البلاد لا يستعملون هذا النوع من الحبوب ، كانت تلك الدكاكين تبيع أيضا التوابل ، وقلة قليلة من العقاقير ، كما كانت تبيع أيضا لحاء بعض الأشجار الذى كان يستخدم فى دبغ الجلود التى تستخدم فى صنع قراب الماء ، وفى تخليص الزبد من الحليب. لم يكن الحليب موجودا فى تلك القرية مخافة أن يطلق على أحد من أهلها اسم بائع اللبن (الحليب). بالقرب من النهر يوجد مسجد عتيق ، بالقرب من أشجار الجمّيز الضخمة ، وجدت فى ذلك المسجد حاجّين من دارفور جرى تجريدهما أو بالأحرى سلب حاجياتهما فى الليلة السابقة ، والقروش البسيطة التى كانت معهما ، وكانا قد كسباها يوم أن كانا فى مكة ، وقد حاول أحدهما الدفاع عن نفسه ، فأوسعوه ضربا ، وهذان الدارفوريان يودان العودة إلى جدة ، وأن يحاولا استعادة ما خسراه عن طريق العمل أشهر عدة فى ذلك البلد. كان واحد من البدو الذين نهبوا هذين الدار فوريّين يدخن غليونه فى القرية ، لكنهما لم يكن لديهما دليل على تلك السرقة وذلك النهب والسلب ، الأمر الذى جعلهما عاجزين من مقاضاة الرجل.

خوليس هى المقر الرئيسى لقبيلة زبيد العربية ، وزبيد هذه فرع من بنى حرب ، كما أن قرية خوليس تعد مقر إقامة شيخ زبيد. القسم الأكبر من زبيد هم من البدو ، يضاف

٧١

إلى ذلك أن الكثيرين من أولئك الذين يزرعون الأرض ، يمضون جزءا من العام فى خيام ينصبونها فى الصحراء ، مستهدفين بذلك رعى ماشيتهم على العشب البرى. ويختلط مع هذه القبيلة فى خوليس بعض العائلات القليلة من بنى عمر (ويصح فيه أيضا عامر) (*) الذين هم فرع آخر من حرب.

قبل الغزو التركى ، كانت العملة المعتادة فى هذا السوق هى الذرة ، لكن فى هذه الأيام يتعامل الناس بالقروش والبارات. خوليس ، ترسل فى معظم الأحيان قوافل صغيرة إلى جدة ، التى تبعد عن هذا المكان رحلة تقدر بمسير يومين طويلين ، أو إن شئت فقل : ثلاث رحلات من رحلات القوافل. قيل لى إن الجبال المحيطة بقرية خوليس يسكنها البدو. وعلى بعد مسير حوالى ثلاث ساعات ، فى الاتجاه الشمالى الشرقى ، يوجد واد خصيب يسمونه وادى الخوار ، الشهير بمزارع الموز المتعددة ، الذى يجرى منه تزويد أسواق كل من مكة وجدة بهذا النوع من الثمار.

الثامن عشر من شهر يناير : بعد أن ملأنا قراب الماء ، واصلنا مسيرنا عند الساعة الثالثة بعد الظهر ، وكان اتجاه مسيرنا شمال ٢٠ شرق عبر سهل من السهول. وبعد مسير ساعتين وصلنا إلى تل عال ، يطلقون عليه اسم ثنية خوليس ، وكان الجانب المنحدر من هذه الثنية مغطى تماما بالرمل ، الذى كانت إبلنا تمشى فيه بصعوبة بالغة فوق قمة هذه الثنية شاهدنا بعض الأنقاض لمبان كبيرة متهدمة ، يضاف إلى ذلك أن الطريق على جانبى التل تحده الأسوار ، منعا لتراكم الرمال. كان الطريق مغطى ببقايا جثث الإبل ، التى هى من مخلفات قوافل الحج فى الزمن الماضى. وعند ما صعدنا الجانب الثانى ، ظهر أمامنا سهل فى اتجاه الشمال والشرق ، عند مدد الشوف. فى الاتجاه نحو شمال شرق شاهدنا جبالا عالية ، تبعد عنا مسافة تقدر بما يتردد بين عشرين ميلا وثلاثين ميلا ، وبعد أن نزلنا فى السهل ، سرنا فى الاتجاه شمال ١٠ غرب ، وبعد ثلاث ساعات ونصف الساعة ، تحول السهل الزلطى إلى سهل رملى

__________________

(*) يجب عدم الخلط بين بنى عامر وعمر ، التى هى قبيلة أخرى من حرب.

٧٢

عامر بأشجار الطرفاء (الأثل) ، التى تجود فى الرمال ، وفى المواسم شديدة الجفاف ، فى حين تذوى من حولها الحياة النباتية الأخرى ؛ أشجار الطرفاء هذه لا تفقد خضرتها مطلقا ، ومن بين الأشجار الأكثر شيوعا فى صحراء الجزيرة العربية ، بدءا من الفرات إلى مكة ، كما تكثر أشجار الطرفاء أيضا فى الصحراء النوبية ، وأطراف الطرفاء الصغيرة تعد طعاما ممتازا للإبل. عند الساعة الرابعة والربع ، أو بالأحرى بعد مرور أربع ساعات وربع الساعة ، اكتشفنا أن الطريق تغطيه طبقة من الملح ، أو بالأحرى قشرة من الملح ، مما يدل على قرب المنطقة من البحر ، واعتبارا من هذه المنطقة بدأ طريقنا يتشعب فى اتجاهات مختلفة.

طبقا لما هو شائع فى الحجاز ، نجد أن الإبل تمشى فى صف واحد ، بحيث تربط الإبل التى فى الخلف فى أذيال الإبل التى تسير فى الأمام ، والعربى الذى يركب فى بداية القافلة هو المسئول عن قيادة القطيع ، لكنه فى كثير من الأحيان يروح فى النوم ، شأنه فى ذلك شأن رفاقه الذين يسيرون خلفه ، وهنا يسير الجمل الذى يحمله على هواه لا على هوى راكبه ، وغالبا ما يسفر ذلك عن أن تضل القافلة طريقها. بعد مسير دام اثنتى عشرة ساعة ، نزلنا فى واحدة من محطات الحج التى يسمونها قلّية ، كما يطلقون عليها أيضا اسم قبيبة. يزاد على ذلك أن كل بقعة فى سهول الجزيرة العربية لها اسم محدد ، ومثل هذه المناطق المحددة تحتاج إلى عينى البدوى وخبرته التى تميز منطقة صغيرة عن أخرى ، من هنا نجد أن مختلف أنواع العشب والمراعى فى تلك الأماكن تعد عونا كبيرا فى محاولة تمييز المواقع بعضها عن بعض ؛ والبدو عند ما يودون ذكر منطقة من هذه المناطق أو موقعا من هذه المواقع ، عند بعض رفاقهم ، عند ما لا يكونون عارفين لاسم هذا الموقع ، يعمدون إلى الإشارة إلى تلك المنطقة أو الموقع بالأعشاب والنباتات التى تنمو فيه ، وهذا يتجلى فى أقوال البدو التى من قبيل : أبو شيخ ، وأبو عجال ، إلخ.

بعد مسير ساعتين من المكان الذى نلنا فيه قسطا من الراحة ، وفى اتجاه الشمال الشرقى ، يوجد ماء ، وبيارة نخيل صغيرة ، وبلغنى أن البحر يبعد عن هذه

٧٣

المنطقة مسيرا يتردد بين ست ساعات إلى ثمانى ساعات. وتواصلت رؤيتنا للجبال على امتداد يتراوح بين عشرين ميلا وثلاثين ميلا فى اتجاه الشرق ، قمم هذه الجبال كانت حادة ، تمثل قمما منحدرة منعزلة. هذه الجبال تسكنها قبيلة عتيبة ، التى كانت تسكن فى القرن السابع عشر ، على حد قول العصمى ، وادى فاطمة. ظهرت فى الصباح بعض نساء البدو ، ومعهن قطعان تعد على أصابع اليد الواحدة من الأغنام والماعز الهزيلة ، التى كانت تبحث عن الأعشاب القليلة. لم يسقط المطر فى هذا السهل ، الأمر الذى أدى إلى ذبول كل أنواع العشب ، ومع ذلك لم يجرؤ هؤلاء البدو على البحث عن المرعى فى الأراضى المجاورة أو الجبال المجاورة ؛ والسبب فى ذلك أن هذه الأراضى وهذه الجبال لم تكن ضمن زمام الأراضى التابعة للقبيلة ، وهنا يجب أن نلاحظ أنه فى حال الجفاف ، يقوم الرعاة بمراقبة حدود أراضى القبيلة مراقبة صارمة. خرجت بصحبة الأفراد من أهل الملايو لملاقاة هؤلاء النساء ، ونطلب منهن شيئا من الحليب ؛ كان أهل الملايو قد أخذوا معهم نقودا ليدفعوا ثمن الحليب ، أما أنا فكنت قد ملأت جيبى بالبسكويت للغرض نفسه. البدويات رفضن أخذ ثمن للحليب وقلن إنهن لم يعتدن بيع الحليب ، لكنى عند ما أعطيتهن هدية من البسكويت ، ملأن وعائى الخشبى بالحليب مقابل تلك الهدية. أثناء مرور الحج ، تتوافد هؤلاء البدويات من جميع النواحى لأنهن يعرفن ميول وعادات الجنود المصاحبين للقافلة ، لعمليات السلب والنهب.

اليوم التاسع عشر من شهر يناير. غادرنا قلّية ، عند الساعة الواحدة والنصف مساء ، وواصلنا مسيرنا عبر السهل ، وفى غضون ثلاث ساعات ، وصلنا إلى مجموعة من التلال الخفيضة من الرمال المتحركة ، وبعد مضى أربع ساعات ، وصلنا إلى سهل حجرى ، عبارة عن كتل من الصخر مبعثرة على الطريق ، كان اتجاهنا شمال ٢٥ غرب ، وبعد انتهاء الساعة التاسعة ، توقفنا أثناء الليل بالقرب من قرية رابغ ؛ إذ كان طريقنا مستويا طول الوقت. هناك ثلاث هجر أو أربع ، تفصلها عن بعضها البعض مسافات قصيرة ، لكنها تندرج تحت الاسم رابغ ؛ الهجرة الرئيسية من بين هذه الهجر ، شأنها شأن قرية خوليس ، تتميز باسم السوق الذى يضاف إلى اسمها. السهل المجاور لهذه

٧٤

المنطقة زراعى ، وبذلك نجد أن بيارات النخيل تجعل من رابغ مكانا مرموقا على هذا الطريق. بعض أشجار التمر الهندى تنمو بين النخيل ، وكان ثمرها الأخضر ناضجا ويسر الناظرين. تنمو فى مكة أيضا أشجار قليلة من أشجار التمر الهندى ، وهذه الثمار ناضجة فى الوقت الحالى. كانت الأمطار قد سقطت هنا مؤخرا ، وكانت الأرض محروثة فى سائر الأنحاء. محاريث هؤلاء العرب التى تجرها الثيران أو الإبل ، تشبه تلك المحاريث التى وصفها نيبور ، وأنا أعتقد أن هذه المحاريث من النوع الذى يستخدم فى الحجاز وفى اليمن (*). تمتاز رابغ بأن فيها عددا من الآبار ، وماء هذه الآبار كله صالح للشرب : قرب رابغ من البحر ، وقد علمت أنها تبعد عن البحر مسافة ستة أميال أو سبعة ، على الرغم من أن النخيل يحجب منظرها ، وهذا القرب هو الذى جعل كثيرا من سفن البلاد تقصدها طلبا للماء. بدو هذا الساحل من الصيادين المهرة ، وهم يحضرون الأسماك المملحة إلى رابغ من موانئ بعيدة ، ويمكن العثور على هذه الأسماك المملحة بكميات كبيرة فى السوق ، ويقبل أطقم بحارة السفن العربية على شراء هذا النوع من الأسماك ، ليستهلكوا قسما كبيرا منه ، ثم ينقلوا الجزء المتبقى إلى مصر أو إلى جدة. سكان رابغ هم ـ كما سبق أن قلت ـ من قبيلتى عامر وزبيد ، مع التركيز على الزبيد. فى الجبال المقابلة ، فى الناحية الشرقية ، يعيش بنو عوف ، الذين هم قبيلة أخرى من قبيلة حرب ، والحجاج الذين يفدون بطريق البحر من مصر إلى جدة ، يتحتم عليهم الإحرام من المنطقة المقابلة لرابغ ، الأمر الذى يجعل الحجاج يحرمون إما على الشاطئ وإما على ظهر المركب.

وقع حادث هنا ، كشف عن غياب البر والإحسان تماما بين رفاقنا من أهل الملايو. كان هناك كثير من أهل الملايو الفقراء ، الذين عجزوا عن استئجار جمل يركبونه ، الأمر الذى جعلهم يتبعون رفاقهم سيرا على الأقدام ، لكن نظرا لطول رحلاتنا الليلية ،

__________________

(*) أنا لا يمكن أن أتصور السبب الذى جعل بطليموس يضع نهرا فى الطريق ما بين مكة وينبع ؛ نظرا لأنه لا يوجد نهر يصرف ماءه فى البحر فى أى مكان من الحجاز ، وفى فصل الشتاء تندفع سيول كثيرة نازلة من الجبال.

٧٥

فقد وصل هؤلاء الفقراء بعد ساعة أو ساعتين من توقفنا فى فترة الصباح ، واليوم جرى إحضار واحد منهم بمصاحبة اثنين من بدو العوف ، وقالا لنا إنهما عثرا عليه ضالا فى الصحراء ، وإنه وعدهما بعشرين قرشا إذا ما أرشداه إلى القوافل ، وإنهما توقعا أن يدفع عنه أصدقاؤه هذا المبلغ ، والرجل يبدو لهما معدما وليس معه من النقود شىء. وعند ما اكتشف هذان العوفيان أن أحدا منا لن يدفع هذا المبلغ أو حتى الجزء الأصغر منه ، وأن الجميع أنكروا معرفتهم لذلك الرجل ، الذى قالوا إنه التحق بالقافلة فى مكة دون أن يعرف أحد أقل القليل عنه ، وهنا صرح البدويان أنهما يتعين عليهما تجريده من الملابس التى يرتديها ، ويحتفظان به أسيرا عندهم فى خيامهم ، إلى أن تمر جماعة أخرى من أهل الملايو ، لعلهم يخلصونه ويدفعوا المبلغ ، وعند ما كانت القافلة تهم بالتحرك ، أمسك البدويان بالرجل ، وحملاه إلى مسافة قريبة من الغابة. وأصيب الرجل بالرعب والفزع على نحو أفقده القدرة على الكلام ، وتركهما يقتادانه ، دون أدنى مقاومة من جانبه. لم يكن مرشدونا أندادا للعوف ، والعوف يخشاهم الناس لطبيعتهم المحبة للحرب من ناحية والشراسة من الناحية الأخرى ، لم يكن هناك قاض فى قرية رابغ ، حتى يمكن اللجوء إليه ، وكان البدويان أصحاب حق شرعى على ذلك الرجل الذى أسراه. وأنا لو كنت قد دفعت المبلغ الذى يطلبه هذان البدويان لما كنت قد أتيت عملا كبيرا من أعمال الكرم والبر ، لكنى كنت أرى أن هذا العمل واجب على رفاقنا من أبناء الملايو ، ولذلك حاولت جاهدا إقناعهم بدفع المبلغ. واقع الأمر أنى لم ألتق أحدا غليظ القلب مثل هؤلاء الرجال ؛ فقد أعلنوا جميعهم أنهم لا يعرفون الرجل ، وأنهم ليسوا على استعداد لقبول أية نفقات إضافية من أجله. كانت الإبل محمّلة ، وركب الجميع وكان قائد القافلة على وشك السير ، وعند ما انفجر التعيس موضوع الحوار معبرا عن أحزانه وآلامه. كنت أنتظر هذه اللحظة. واعتمادا على الاحترام الذى كنت أحظى به فى القافلة جراء الاعتقاد بأنى حاج من أولئك المقربين إلى محمد على باشا وجيشه ، واعتمادا أيضا على حسن نية مرشدينا ، التى أرسيتها بفضل توزيع الأطعمة والأغذية عليهم من باب الكرم اعتبارا من لحظة مغادرتنا مكة ، تقدمت وأمسكت بجمل قائد القافلة ، وجعلته يبرك أرضا ، وصحت متعجبا بأن القافلة

٧٦

يجب ألا تمضى قبل إطلاق سراح ذلك الرجل ، وهنا رحت أنتقل من جمل إلى جمل ، ورحت ألعن أهل الملايو ونساءهم تارة ، وأحيى البعض منهم تارة أخرى ، وحصلت من كل جمل من جمال أهل الملايو مبلغ عشرين بارة (أى ما يعادل ثلاث بنسات) ، وبعد صراع طويل جمعت عشرين قرشا. أخذت هذا المبلغ إلى البدويين اللذين بقيا على بعد مسافة منا ومعهما الأسير ، ورحت أشرح لهما حاله التعيس وأتوسل إليهما بشرف قبيلتهما ، وحاولت إقناعهما أن يأخذا عشرة قروش ، وطبقا للمعايير التركية كان من حقى أن أضع العشرة قروش الأخرى فى جيبى نظير تعبى ، لكنى أعطيت القروش العشرة لذلك الجاوى التعيس ، الأمر الذى كان له وقع ثقيل على بنى جلدة ذلك الرجل ، وترتب على ذلك أن قام أهل الملايو هؤلاء بنبذ هذا الرجل من جماعتهم ، وأصبح الرجل فى عهدتى إلى أن وصلنا المدينة (المنورة) ، وطوال إقامته فيها كنت أنوى تزويد هذا الرجل بأجر عودته إلى ينبع ، لكنى وقعت فريسة للمرض فور دخولى المدينة (المنورة) ، ولذلك لم أعرف ما حدث لهذا الرجل بعد ذلك.

كان عدد كبير من الحجاج قد راحوا يستجدون الناس إحسانا فى سوق قرية رابغ. هؤلاء الفقراء ، عند ما يبدءون الرحلة من مكة إلى المدينة (المنورة) مع قافلة من القوافل الكبيرة ، يتخيلون أنهم قادرون على تحمل متاعب تلك الرحلة ، ويعلمون أيضا أن السفر مع القافلة ، سيجعلهم يحصلون من الحجاج المحسنين على الطعام والماء ، لكن المسيرات الليلية الطويلة سرعان ما تهد قواهم ، وبالتالى يتأخرون فى الطريق ، وبعد كثير من التعطيل والحرمان يضطرون إلى مواصلة رحلتهم أملا فى أن تتهيأ لهم فرص جديدة. هذا واحد من الأفغان انضم إلى قافلتنا ؛ كان رجلا مسنا ، وقوته خارقة للعادة ، فقد قطع الطريق كله من كابول إلى مكة سيرا على الأقدام ، وعقد العزم على العودة بالطريقة نفسها. ندمت لأنه لم يكن يعرف العربية ، على الرغم من أنه كان رجلا ذكيا وألمعيا ، وكان يمكن أن يعطينى بعض المعلومات المهمة عن بلده.

اليوم العشرون من شهر يناير. غادرنا رابغ عند الساعة الرابعة بعد الظهر. كان طريقنا شمال ٨ غرب ، فى منطقة الصوان حالك السواد ، الذى تتخلله بعض التلال

٧٧

الرملية ، التى كانت تنمو عليها أشجار قليلة العدد ، ونظرا لأننا لم نأخذ قسطا من الراحة خلال اليومين الأخيرين ، فقد غلبنى النوم وأنا فوق جملى ، وهنا يمكننى القول ، إنه بعد ركوب استمر اثنتى عشرة ساعة ، فى أرض عامرة بالتلال والرمال ، نزلنا عن دوابنا فى مستورة ، التى هى واحدة من محطات الحج. فى مستورة وجدت بئرين كبيرتين وعميقتين ، ومبطنتين بالحجر ، وتعطيان كمية غزيرة من المياه الصالحة الطيبة بالقرب من هاتين البئرين شاهدت قبرا لولى من الأولياء يدعى الشيخ مادلى ، الذى قام الوهابيون بتدمير قبره. وعلى بعد حوالى عشرة أميال شرقى هذا القبر يوجد جبل عال ، يطلقون عليه جبل أيوب ، الذى تعلو قمته سلسلة الجبال الأخرى التى هو جزء منها ؛ وجبل أيوب هذا مغطى فى بعض أجزائه بالأشجار. هذا الجبل تسكنه قبيلة عوف. الطريق بكامله من قلّيه إلى هذا المكان خطر بسبب حوادث السرقة التى يقترفها هؤلاء البدو ، يضاف إلى ذلك أن أية قافلة من القوافل لا تمر بهذا المكان دون أن تخسر بعض أحمالها أو شيئا من إبلها. فى زمن الوهابيين كان ذلك الطريق آمنا تماما ؛ إذ كان شيوخ قبيلة حرب مسئولين عن أحداث السرقة التى تقع فى أراضيهم. مع ذلك لم يستطع الوهابيون كسر شوكة قبيلة عوف فى الجبال التى كانوا يعيشون فيها ، والدليل على استقلال هؤلاء العوف يتجلى فى الشعر الطويل ، وذلك على العكس من المفهوم الوهابى الذى أرسى حكما مفاده حلق شعر الرأس.

وجدنا عند بئرى مستورة ، عدة قطعان من الإبل والأغنام التى كان الرعاة والراعيات العوفيات يسقينها من هاتين البئرين. اشتريت من هؤلاء الرعاة والراعيات حملا صغيرا نظير بضعة قروش قليلة وشىء من التبغ ، وقسمت ذلك الحمل على مرشدينا وعلى أولئك الذين كانوا يرافقوننا سيرا على الأقدام. جاء المرافقون لنا من أهل الملايو يسألون عن نصيبهم ، وليفهمونى أن البدو الذين كانوا معنا ، كفونى مؤونة الرد عليهم ، عند ما قاموا بزجرهم وتأنيبهم. شاهدت قبورا عدة بالقرب من البئرين ، وعرفت أن الوهابيين احترموا هذه القبور ؛ والسبب فى ذلك أنهم لم يعتدوا على القبور الخالية من الزينة والبهرج.

٧٨

اليوم الحادى والعشرون من شهر يناير. بدأنا مسيرنا عند الساعة الثالثة مساء. كان السهل الذى عبرناه إما من الصوان وإما فيه بعض المواقع الصلصالية الصالحة للزراعة ، وكانت وجهتنا صوب الشمال. بعد أن مضينا عبر السهل الرملى ، الذى تغطيه أشجار الأراك ، وأمضينا فى ذلك العبور حوالى ساعتين ونصف الساعة ، أصبح جبل أيوب يبعد عنا مسافة تقدر بحوالى ستة أميال ، ومن بعده تبدأ سلسلة من الجبال المنخفضة ، التى تمتد موازية للطريق. عندئذ تركنا طريق الحج الكبير ، الذى يبدأ عند هذه المنطقة ، فى الاتجاه الغربى ، لنواصل مسيرنا بعد ذلك فى اتجاه الجبال شمال ١٥ شرق لنصل بعد ذلك إلى صفراء سالكين إليها طريقا قريبا. وبعد مسير استمر ثلاث عشرة ساعة ، خلال أرض غير مستوية وعامرة بالتلال المنخفضة ، توقفنا قبيل طلوع النهار فى سهل رملى بالقرب من البئر التى يسمونها بير الشيخ ، ولعلنا لاحظنا ، أن مسيراتنا الليلية كانت طويلة جدا ، لكن معدل سير الإبل كان بطيئا جدا ؛ إذ كانت سرعة الإبل لا تزيد على ميلين فى الساعة الواحدة أو كل ساعتين وربع الساعة. بير الشيخ هذه عبارة عن بئر يصل عمقها إلى ما يتردد بين ثلاثين قدما وأربعين قدما ، وقطرها حوالى خمسة عشر قدما ومبطنة بالحجر الصلب ؛ هذه البئر من عمل هؤلاء الرجال الذين أحسوا بالقلق على راحة المسافرين إلى الأراضى المقدسة ، وذلك على العكس من الرؤساء الحاليين ، والحاج عند ما يكون متعجلا يسلك هذا الطريق فى بعض الأحيان ، لكن جرت العادة أن يسافر الحاج عن طريق بدر ، ذلك المكان الذى تتوالى عليه القافلتان المصرية والسورية ، وهما فى طريقهما إلى مكة ، بفارق يوم واحد أو يومين على أكثر تقدير ، والمعروف أن موعدى قيام هاتين القافلتين محدد. كنا فى هذه المرحلة قد اقتربنا من سلسلة الجبال الكبيرة ، التى كانت عن يميننا منذ أن تركنا خوليس ؛ سلسلة من هذه الجبال تقع على بعد أميال قليلة شمال بير الشيخ ، وتمتد ناحية الغرب فى اتجاه البحر ، وعند نهاية هذه السلسلة تقع بلدة بدر. التقينا بعض البدو عند بير الشيخ أيضا ؛ هؤلاء البدو كانوا من قبيلة بنى سالم ، أو بالأحرى السوالمة. واشترى مرشدونا منهم خروفا شووه فى مجبة ؛ والمجبة عبارة

٧٩

عن حفرة تحفر فى الرمل ، وتبطن بأحجار صغيرة ، يجرى تسخينها ، ويوضع اللحم فوق هذه الأحجار ثم يغطى بعد ذلك بالجمار وجلد الخروف المبتل ثم تغلق بعد ذلك بالرمل والطين. وفى غضون ساعة ونصف الساعة ، يطهى اللحم وينضج ، وبذلك تصبح نكهته لذيذة نظرا لأنه لم يفقد شيئا من عصارته.

اليوم الثانى والعشرون من شهر يناير. تركنا منطقة البئر عند الساعة الثالثة والنصف مساء. وكان اتجاهنا شمال ١٠ غرب وكان الطريق صاعدا إلى أرض غير مستوية ، وخلال ساعة ونصف الساعة دخلنا الجبال من منطقة الزاوية التى تشكل سلسلة الجبال سالفة الذكر ضلعا من ضلعيها ، فى حين يشكل الفرع الآخر سالف الذكر ، والممتد ناحية بدر ، ضلعها الثانى. أما الجبل الشرقى الذى يمتد موازيا لهذه الزاوية ، فيطلق الناس عليه اسم جبل صبح ، وهؤلاء الصبح فرع من بنى حرب ؛ جبال الصبح هذه تحتوى على وديان خصبة كثيرة ، ينمو فيها نخيل التمور ، كما تزرع فيها أيضا الذرة. فى هذه المنطقة يمكن العثور على شجرة البلسم المكية ، كما توجد فى هذه المنطقة أيضا شجرة السنا مكى ، أو بالأحرى شجرة السنا العربية ، التى تصدرها القافلة السورية ، ويجرى الحصول عليها من هذه المنطقة فقط. والناس هنا يصفون المرور خلال الأجزاء الداخلية من هذا الجبل ، بأنه شديد الخطورة ، ويعجز الوهابيون عن فرضه على المقيمين. وقد انسحبت أسر عدة من قبائل حرب الأخرى إلى هذه الجبال ، وأخذوا معهم ماشيتهم وحاجياتهم كلها ، ليكونوا بعيدين عن متناول سلطة ابن سعود وسلطانه. وإذا كان بدو الحجاز كلهم قد خضعوا للممتلكات الوهابية ، فإن الصبح هم القبيلة الوحيدة التى نجحت فى الدفاع عن أراضيها ، وأكدت استقلالها.

بعد مسير دام ست ساعات ونصف الساعة ، بدأ الطريق يصعد بين تلال صخرية منخفضة ، وبعد مضى سبع ساعات ونصف الساعة دخلنا وادى زجاج ، الذى هو واد صاعد صعودا هينا لينا ، وعامر بالصخور المفككة السائبة ، وعامر بأشجار السنط. ازداد هذا الوادى ضيقا مع مواصلة سيرنا فيه ، وازداد الشّعب انحدارا وصعوبة على

٨٠