ترحال في الجزيرة العربية - ج ٢

جون لويس بوركهارت

ترحال في الجزيرة العربية - ج ٢

المؤلف:

جون لويس بوركهارت


المترجم: صبري محمّد حسن
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المركز القومي للترجمة
الطبعة: ١
ISBN: 977-437-388-X
الصفحات: ٢٨٩
الجزء ١ الجزء ٢

العرب فى صناعة وعمل السروج الخاصة بالإبل ، كما يصنعون منه أيضا تلك الأوعية التى تتطلب تداولا قويا.

فى البساتين يندر أن تكون الأرض مستوية تماما ، ولا تستمر الزراعة بسبب وجود أكوام الحجارة ، وفى الجانب الشمالى الغربى وكذلك فى الجانب الغربى من المدينة المنورة ، نجد أن السهل بكامله صخرى إلى الحد الذى تبوء معه بالفشل كل المحاولات التى تبذل من أجل تحسين الزراعة ، والتربة هنا من النوع الصلصالى ، المخلوط بكمية كبيرة من الطباشير والرمل ويميل لونها إلى اللون الرمادى ، وفى بعض الأجزاء الأخرى تتكون التربة من الرمل الأصفر ، ومن مادة أخرى شبيهة بالتربة الطينية ، ويجرى بيع قطع صغيرة مخروطية الشكل من هذه التربة الشبيهة بالتربة الطينية ، طول القطعة الواحدة حوالى بوصة ونصف البوصة ، ومجففة فى الشمس ، ويبيع الناس هذه القطع معلقة فى شريط ، لزوار المدينة المنورة. يقول الناس : إن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم شفى واحدا من بنى الحارث ، وآخرين كثيرين ، من الحمى وذلك عن طريق غسل أجسام هؤلاء المرضى بالماء المذاب فيه شىء من هذه التربة ، ومن هنا يتطلع الحجاج إلى العودة إلى أوطانهم وهم يحملون معهم تذكارا لتلك المعجزة. هذا النوع من الطين يجرى الحصول عليه من مكان يطلقون عليه اسم المدشونية ، ويقع بالقرب من المدينة المنورة.

الأماكن الصخرية كلها ، وكذلك السلسلة المنخفضة من سلسلة الجبال الشمالية كلها مغطاة بطبقة من الصخور البركانية ؛ لون هذه الطبقة هو اللون الأسود المشوب بالزرقة ، وهذه الطبقة مسامية إلى حد بعيد ، ومع ذلك فهى ثقيلة وصلبة ، وليست لامعة مثل صخور الشلاكن ، وتحتوى فى كثير من الأحيان على مواد بيضاء صغيرة فى مسامها ، ويصل حجم كل منها إلى حجم رأس الدبوس ، وأنا لم يسبق لى مطلقا أن رأيت مثل هذه المواد على شكل بللورات. والسهل لونه أسود تماما ، وسبب ذلك هو هذه الصخرة ، والقطع الصغيرة التى تنتشر فوقها. وأنا لم أعثر على حمم بركانية على الرغم من أن طبيعة الأرض تثبت بشكل قاطع قرب هذه المنطقة من أحد البراكين. لو كانت صحتى أفضل مما كنت عليه ، لقمت بجولة إلى المناطق البعيدة من بساتين

١٤١

المدينة المنورة ، بحثا عن عينات من المعادن الأرضية ، لكن الأيام الأولى من مقامى فى المدينة المنورة انقضت فى عمل مخطط للمدينة ، وجمع معلومات عن سكانها ، وبعد ذلك وجدت نفسى عاجزا تماما عن القيام بأى مجهود بدنى. اكتشفت بعد عودتى إلى القاهرة ، وعند ما كنت أقرأ وصف المدينة المنورة ، الذى اشتريته من البلدة نفسها (والذى لم أستطع العثور على مثله فى مكة ، كما لم أستطع العثور على وصف لمكة فى الحجاز ، على الرغم من المحاولات التى بذلتها فى ذلك الاتجاه) ، عثرت على تاريخ لزلزال وثورة بركان حدثت فى منطقة قريبة جدا من المدينة المنورة ، فى منتصف القرن الثالث عشر تقريبا ، وبعد أن تحريت ذلك الأمر عرفت من رجل من أهل المدينة المنورة ، كان مقيما فى القاهرة ، أن مكان مجرى الحمم البركانية لا يزال موجودا ، على بعد مسير ساعة فى شرقى المدينة. أذكر أننى أثناء مقامى فى المدينة المنورة ، أبديت لمرافقى ملاحظة ، عن رغبتى فى مصاحبته لى أثناء ذهابى إلى جبل أحد ، وقلت له : إن المنطقة تبدو كما لو كانت أحرقت بالنار ، ولكنى تلقيت منه ردا بلا معنى ، ولم أعثر بعد ذلك فى المدينة على أية إشارة أو معلومة يمكن أن تقودنى إلى افتراض مفاده أنى كنت على وشك الوقوف على ظاهرة طبيعية مهمة جدا.

وأنا أرى أن مسألة إدراج بعض المقتطفات من ذلك الكتاب الذى سبقت الإشارة إليه ، والتى تتصل بمسألة ثورة البركان ، أمر جدير باهتمام القارئ ، ولذلك فأنا أورد هذه المقتطفات (*).

__________________

(*) «فى غرة شهر جمادى الآخرة ، من عام ٦٥١ ه‍ أحس الناس بزلزال خفيف فى المدينة ، وفى اليوم الثالث من الشهر نفسه ، حدثت هزة أخرى أكثر قوة ، وكان ذلك عند الساعة الثانية صباحا ، واستيقظ سكان المدينة على هزات عنيفة متكررة ، وتزايد عنف هذه الهزات طوال فترة الصباح ، واستمرت تلك الهزات على فترات متقطعة إلى يوم الجمعة الموافق اليوم السادس من شهر جمادى الآخرة. تداعى كثير من المنازل والجدران. فى صباح يوم الجمعة سمع الناس صوت رعد شديد. وعند الظهر اشتعلت النار. من المكان الذى انبعثت منه النار من الأرض ، ارتفع الدخان فى بداية الأمر وأدى إلى إظلام السماء إظلاما تاما. فى الناحية الشرقية من المدينة ، وفى أواخر النهار ، كان الناس يرون ـ

١٤٢

هذه الرواية تحتم تتبع مجرى هذه الحمم البركانية على بعد مسير ساعة واحدة شرقى المدينة المنورة ، يضاف إلى ذلك أن البقايا البركانية التى تغطى المنطقة المتاخمة للمدينة المنورة هى والسهل الواقع غربى المدينة المنورة أيضا ، يرجح أنها ترجع إلى فورات بركانية سابقة لذلك البركان ؛ والسبب فى ذلك أن أحدا لم يقل شيئا عن الأحجار التى قذفها ذلك البركان إلى مسافة بعيدة ، أو عن السهل الواقع غربى المدينة المنورة ، والذى يطلقون عليه اسم وادى العقيق ، الذى يبعد حوالى ثلاثة أميال عن المدينة المنورة ، هذا السهل تغطيه البقايا البركانية سالفة الذكر. وأنا لا يخامرنى شك فى حدوث

__________________

ـ ألسنة اللهب رأى العين ، شاهد الناس كتلة هائلة من النار ، كانت على شكل مدينة أو بلدة كبيرة ، لها جدران وفيها حصون ومآذن ، كانت ترتفع فى اتجاه السماء ، وانبثق من بين ألسنة اللهب هذه نهر من النار الحمراء والنار الزرقاء ، مصحوبا بصوت الرعد. كانت الأمواج الحارقة تحمل أمامها صخورا كاملة ، وراحت تكوم تلك الصخور على شكل جبال صغيرة على بعد مسافات قصيرة. كان ذلك النهر يقترب من المدينة المنورة ، لكن العناية الإلهية أرسلت نسيما باردا ، أوقف تقدم النهر عند هذا الحد فى ذلك الجانب.أمضى سكان المدينة تلك الليلة فى المسجد النبوى ، وأدى انعكاس الضوء الناتج عن النار إلى إضاءة الليل وتحويله إلى نهار. تحول مسار ذلك النهر النارى إلى الاتجاه الشمالى ، لينتهى بعد ذلك عند الجبل الذى يسميه الناس جبل ويره ، الذى يقع فى الوادى المسمى وادى الشطحات ، الذى يقع على مقربة من جبل أحد فى الناحية الشرقية [جبل أحد يبعد حوالى ميلين ونصف الميل عن المدينة المنورة]. استمرت تلك النيران طيلة خمسة أيام وبقى النهر مشتعلا طيلة ثلاثة أشهر. لم يستطع أحد أن يقترب من ذلك النهر بسبب الحرارة الشديدة. دمر ذلك النهر الصخور كلها ، لكن (على حد قول المؤرخ) نظرا لأن هذه هى أرض المدينة المنورة المقدسة ، التى أمر فيها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعدم قطع الأشجار فى نطاق مسافة محددة ، فقد أنقذ ذلك النهر الأشجار التى صادفته فى طريق تقدمه. كان إجمالى طول النهر يقدر بحوالى أربعة فراسخ ، أو إن شئت فقل اثنى عشر ميلا ، وكان عرضه حوالى أربعة أميال ، أما عمقه فكان يتردد بين ثمانية أقدام وتسعة أقدام. امتلأ وادى شطحات عن آخره ، ولا يزال الناس يرون ذلك المكان من ذلك الوادى ، الذى تجمعت فيه الحمم البركانية ، ويطلقون عليه اسم السد. كان الناس يشاهدون ألسنة اللهب من ينبع ومن مكة. استطاع أعرابى من تيماء (تلك البلدة الصغيرة الواقعة فى الصحراء الشمالية الشرقية ، على بعد مسافة تتردد بين مسير ستة أيام وثمانية أيام من المدينة المنورة) كتابة رسالة أثناء الليل فى الضوء المنعكس عن هذه النيران إلى هذه المسافة البعيدة».

«فى هذا العام نفسه ، فاض نهر دجلة فيضانا عارما ، أدى إلى تدمير نصف مدينة بغداد ، وبانتهاء ذلك العام احترق مسجد المدينة المنورة احتراقا كاملا».

كان العرب مستعدين للإقرار بمثل هذا الحريق ؛ لأنهم تذكروا قول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لن يجىء يوم القيامة ، إلا بعد ظهور حريق فى الحجاز ، وسوف يؤدى ذلك الحريق إلى رؤية رقاب الإبل فى البصرة».

١٤٣

براكين مماثلة فى أجزاء أخرى كثيرة من تلك السلسلة الجبلية. يضاف إلى ذلك أن وجود عدد كبير من ينابيع المياه الحارة فى كل محطة من محطات الطريق المؤدى إلى مكة تؤكد صدق هذا التحذير.

أنا هنا معنى بجزء من المقطوعة التى أوردتها فى الهامش الأخير ، الأمر الذى يجعلنى أسوق الملاحظة التالية. استنادا إلى قول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن ذلك الجزء من أراضى المدينة المنورة الذى يحيط بها على شكل دائرة قطرها اثنا عشر ميلا ، ويقع فى الناحية الجنوبية منها جبل عيرة ، وجبل ثور فى الناحية الشمالية (جبل ثور هذا ، عبارة عن جبل صغير يقع خلف جبل أحد) باعتباره حدا من حدود المدينة المنورة ، يجب أن يكون هو الآخر حراما ومقدسا ؛ بمعنى أنه لا يمكن أن يقتل فيه أحد ، اللهم باستثناء المعتدين ، والأعداء ، وبحيث يكون ذلك من باب الدفاع عن النفس ، وضد الكفار الذين يدنسون هذا المكان ، يضاف إلى ذلك أن الصيد وقطع الأشجار محرم فى هذا المكان أيضا. هذا الحرم ، منحى جانبا فى الوقت الراهن ؛ إذ يجرى قطع الأشجار ، وقتل الصيد ، كما تحدث معارك دامية فى المدينة نفسها وفى المنطقة المجاورة لها ، ولما كان أتباع الأديان الأخرى من غير المسلمين ، غير مسموح لهم بدخول بوابات المدينة المنورة ، فإن أمثلة عدة على ذلك الدخول ، وقفت عليها بنفسى طوال مقامى فى المدينة المنورة (وعند ما كنت مقيما أيضا فى ينبع) ، وقام بها مسيحيون يونانيون ، كانوا مستخدمين فى ميرة (*) جيش طوسون باشا عند ما كان مخيما فى نطاق مرمى نيران المدينة المنورة ، قبل رحيل القوات إلى مركز رئاسة الباشا ، التى كانت انئذ فى بلدة القصيم.

وصف بعض أماكن الزيارة

فى اليوم التالى لإنهاء الحاج لمناسكه الأولى فى المسجد النبوى وعند قبر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يقوم الحاج عادة بزيارة مقبرة المدينة المنورة ، من باب تذكر الأولياء والصالحين

__________________

(*) الميرة : منظومة إمداد الجيش بالطعام. (المترجم)

١٤٤

الكثيرين المدفونين فى هذه المقبرة. هذه المقبرة تقع خلف أسوار المدينة مباشرة بالقرب من بوابة باب الجمعة ، هذه المقبرة يطلق الناس عليها اسم البقيع ؛ البقيع عبارة عن مربع تقدر مساحته بمئات الخطوات ، محاط بجدار ، يتصل بضاحية المدينة المنورة من الجانب الأيمن ، والبقيع محاطة من الجوانب الأخرى ببيارات النخيل. وإذا ما أخذنا بعين اعتبارنا قدر الشخصيات المقدسة المدفونة فى هذه المقبرة ، نجد أنها مكان وضيع قياسا على قدر هؤلاء الموتى. هذه المقبرة ليس فيها قبر واحد جيد ، وليس فيها أى شاهد من شواهد القبور التى تحمل النقوش والكتابات ، ونجد بدلا عن تلك الشواهد أكواما من الطين لها حواف من الأحجار السائبة الموضوعة حول تلك الأكوام. الوهابيون متهمون بتشويه هذه المقابر ؛ والشاهد على ذلك هو بقايا القباب الصغيرة والبنايات الصغيرة ، التى كانت من قبل تغطى قبر (سيدنا) عثمان ، وقبر العباس ، وقبر السيدة فاطمة ، وكذلك عمّات محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم اللاتى دمرت قبورهن بأيدى الوهابيين ، لكن الوهابيين لم يقربوا القبور البسيطة الأخرى المبنية من الحجر ، وهذا هو ما فعله الوهابيون أيضا فى كل من مكة والأماكن الأخرى. هذا المظهر المذرى لهذه الجبانة لا بد أنه كان على هذه الشاكلة قبل مجىء الوهابيين ، ويجب أن يعزى ذلك إلى عقول أهل المدينة الفارغة ، الذين لا يميلون إلى الصرف على تكريم رفات الشهيرين من أبناء بلدهم. المكان كله عبارة عن أكوام غير منتظمة من الطين ، وحفر واسعة ، وأكوام من النفايات ، ولا يوجد فى المقبرة كلها حجر واحد من أحجار شواهد القبور. الحاج يقوم بزيارة بعض القبور ، وعند ما يقف أمام قبر من هذه القبور ، يردد دعاء للموتى. كثير من الأشخاص ، يجعلون همهم الأول تمضية يوم كامل بالقرب من كل قبر من هذه القبور الرئيسية ، وهم يفرشون مناديلهم انتظارا للحجاج القادمين لزيارة هذه المقابر ، وهذا العمل يعد حكرا على بعض الفراشين وعائلاتهم التى قسمت هذه القبور فيما بينها ، الأمر الذى يجعل كل واحد منهم يلتزم بالمكان المحدد له ، أو قد يرسل خادمه لينوب عنه.

أبرز الشخصيات المدفونة فى البقيع هى إبراهيم ، ولد (سيدنا) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الذى توفى صغيرا ، وفاطمة ابنة سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك استنادا إلى رأى

١٤٥

الكثيرين ، بالإضافة إلى بعض نساء النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بالإضافة أيضا إلى بعض بناته ، وأمه فى الرضاعة ، وفاطمة ، بنت أسد ، وأم (سيدنا) على ، والعباس بن عبد المطلب ، وعثمان بن عفان ، أحد الخلفاء الراشدين ، الذى جمع القرآن الكريم ، والشهداء ، على حد قول الناس هنا ، الذين قتلهم جيش الكفار بقيادة يزيد بن معاوية ، فى عام ٦٠ ه‍ (البعض يرجح أن ذلك كان فى عام ٦٢ ه‍) ، الذى جاء من سوريا ، ونهب المدينة وسلبها ، بعد أن اعترف أهلها بعبد الله بن حنتلة رئيسا عليهم ، أما الحسين بن على المدفون جسده هنا ، فقد أرسل رأسه إلى القاهرة ، وجرى دفنه فى المسجد الجميل الذى يسمونه مسجد الحسين. الإمام مالك بن أنس من بين المدفونين أيضا فى البقيع (مؤسس المذهب المالكى). واقع الأمر أن المدينة المنورة عامرة برفات كبار الصالحين ، الأمر الذى جعل الناس ينسون أهمية كل صالح من هؤلاء الصالحين ، فى حين أن رفات واحد فقط من هؤلاء الصالحين كفيل بذيوع صيت أية مدينة أخرى من المدن الإسلامية ، وسوف أورد هنا الصيغة التى يتلوها الزائرون على أرواح الموتى من الصالحين ، وسوف أدون هنا ذلك الذى يردده الزائر ويداه مرفوعتان أمام وجهه بعد أن يؤدى صلاة قصيرة من ركعتين على قبر عثمان بن عفان : «السلام عليك يا عثمان! السلام عليك يا صديق المصطفين! السلام عليك يا جامع القرآن! رضى الله عنك! وجعل الله الجنة مثوى لك ، ومقاما! وأنا أقر فى هذا المكان ، وبالقرب منك يا عثمان ، من هذا اليوم وإلى يوم القيامة ، أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله».

سكان المدينة المنورة يدفنون موتاهم فى البقيع وفى قبور مماثلة لقبور أهل العلم والخلفاء والصالحين ، ويجرى غرس جريد النخيل فوق القبور ، ويغير ذلك الجريد كل عام ، فى موسم رمضان ، عند ما تقوم العائلة بزيارة قبور الأقارب ، التى يبقون بجوارها أياما عدة.

زيارة إلى جبل أحد ـ يعد جبل أحد واحدا من المزارات الرئيسية فى المدينة المنورة ، وجبل أحد فيه أيضا قبر (سيدنا) حمزة عم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. جبل أحد يشكل

١٤٦

جزءا من سلسلة جبلية كبيرة متفرعة وممتدة داخل السهل الشرقى ، على نحو يجعلها تكاد تكون منعزلة تماما ، وهو يبعد عن المدينة المنورة مسافة تقدر بمسير ثلاثة أرباع الساعة. فى العام الرابع الهجرى ، وبعد أن حدد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم منزله فى المدينة المنورة ، قامت قريش الوثنية بقيادة أبى سفيان ، بغزو هذه الأجزاء ، واتخذت من جبل أحد موقعا لها. خرج محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المدينة وحارب فى جبل أحد ، فى ظل تفاوت كبير فى القوات ، وخاض أعتى المعارك التى شارك فيها. قتل فى هذه المعركة عمه حمزة ، ومعه خمسة وسبعون من أصحابه ، وجرح محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم شخصيا ، لكنه قتل بحربته واحدا من أشجع رجال الجانب المعادى ، وحقق فى النهاية الانتصار الكامل على الأعداء. والزيارة إلى جبل أحد تتمحور حول زيارة قبر (سيدنا) حمزة ، وخمسة وسبعين شهيدا كما يسميهم الناس هنا.

مشيت سيرا على الأقدام مع مرشدى ، عن طريق البوابة السورية ، وبصحبتنا بعض الزوار الآخرين ؛ والسبب فى ذلك هو الخوف من الذهاب إلى ذلك المكان على انفراد ، وذلك من باب تحاشى اللصوص من البدو ، زيارة جبل أحد عادة ما تتم فى أيام الخميس. تجاوزنا مكان تخييم قافلة الحج السورية ، ومررنا أيضا على الآبار المتعددة ، والخزانات شبه المهدمة ، المبطنة بالحجر ، التى تستخدم فى إمداد الحجاج بالماء طوال مقامهم الذى يدوم ثلاثة أيام فى هذا المكان ، وهم فى طريقهم فى الذهاب والعودة من مكة. وعلى مقربة من مخيم القافلة السورية ، هناك كشك جميل ، عليه قبة ، وشبه مهدم فى الوقت الحالى ، ويسميه الناس القورين ، وهو المكان الذى عادة ما ينزل فيه رئيس القافلة بصورة مؤقتة. الطريق اعتبارا من هذه المنطقة ممهد تماما ، والنخيل يتناثر هنا وهناك ، وهناك مواقع كثيرة يقوم الناس بزراعتها عند ما تسقط الأمطار الغزيرة. وعلى بعد مسافة حوالى ميل من المدينة يوجد مبنى مقام من الأحجار والصخور ، يصلى الناس فيه صلاة قصيرة تذكارا لارتداء محمد لدرعه ، عند ما ذهب للاشتباك مع العدو. بعد ذلك ، هناك حجر كبير ، يقال إن (سيدنا) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم اتكأ عليه دقائق معدودات وهو فى طريقه إلى أحد ، وهنا يطلب من الزائر أن يضغط بظهره على هذا الحجر ، ثم يقرأ الفاتحة.

١٤٧

عند ما وصلنا جبل أحد ، مررنا بمجرى سيل ملىء بالماء إلى عمق حوالى قدمين ، وقادم من الشرق أو الجنوب الشرقى ، وهذا الماء عبارة عن بقايا ماء المطر الذى انهمر على المنطقة قبل خمسة أيام. هذا السيل يطفح فى بعض الأحيان على نحو يصعب تجاوزه أو عبوره ، الأمر الذى يسفر عن إغراق المناطق المحيطة بمياه ذلك السيل. فى الناحية الشرقية ، من هذا السيل ، نجد أن الأرض المؤدية إلى الجبل جرداء ، ووعرة ، وصخرية وفيها مطلع خفيف ، يقع على منحدره مسجد ، يحيط به حوالى عشرة منازل مهدمة ، كانت فى يوم من الأيام بيوتات لمتعة الأثرياء من الناس ، من أهل المدينة ، بالقرب من هذه المنازل المهدمة يوجد خزان مياه ملىء بمياه السيل. والمسجد عبارة عن مبنى مربع الشكل صغير الأبعاد ومبنى من الحجر. كان الوهابيون قد أطاحوا بقية ذلك المسجد ، لكنهم أبقوا على القبر. والمسجد يضم قبر (سيدنا) حمزة ، وقبور كبار رجالاته الذين قتلوا معه فى معركة أحد ، وبخاصة مصعب بن عمير ، جعفر بن شماس ، وعبد الله بن جحش. المقابر موجودة فى فناء مكشوف ، وهى مثل مقابر البقيع عبارة عن أكوام من الطين ، حولها بعض الأحجار السائبة ، وبجوار هذه القبور يوجد مصلىّ صغير ، يستخدم مسجدا ، ويصلى الزائر ركعتين هنا ، ثم يتقدم الحاج بعد ذلك صوب المقابر ، حيث يقرأ سورة ياسين ، أو سورة الإخلاص أربعين مرة ، ويجرى بعدها طلب شفاعة حمزة هو وأصحابه عند المولى (سبحانه وتعالى) ، وأن يعطى الله الحاج وعائلته الدين ، والصحة ، والغنى ، وأن يدمر الله كل الأعداء. ويجرى عادة ، دفع شىء من النقود عند كل ركن من الأركان ، لسدنة وخدم المسجد والقبور ، وإلى المؤذن والإمام ، إلخ.

مع الاقتراب أكثر من جبل أحد ، توجد قبة صغيرة تحدد المكان الذى رمى فيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحجر فى إحدى المعارك ، الأمر الذى أدى إلى إسقاط أربع من أسنانه الأمامية ، وجعله يسقط على الأرض. (*) وظنت جماعته أنه قتل ، وعلى مقربة من تلك

__________________

(*) أوردت هذه الرواية هنا ، على الرغم من عدم موافقة مؤرخى النبى عليها.

١٤٨

القبة ، التى جرى تدميرها مثل سائر القباب الأخرى ، توجد مقابر اثنى عشر آخرين من أتباع النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الذين قتلوا فى المعركة. هذه القبور جميعها تكون أكوما عدة من الأحجار والنفايات ، التى لا يمكن تمييز القبور من خلالها. وهنا يجرى الدعاء للموتى ، مع قراءة الآية القرآنية التى تقول : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) ؛ هذه الآية لا تزال تستخدم فى أيامنا هذه ، لتشجيع الجنود الأتراك فى معاركهم مع الأوروبيين.

يتكون جبل أحد من صخر جرانيتى متعدد الألوان ؛ عثرت فى أجناب هذا الجبل أيضا على الحجر الصوّان ، لكنى لم أعثر على صخور بركانية. الجبل بكامله طوله حوالى أربعة أميال ، من الغرب إلى الشرق. ولما كان جبل أحد مسرحا للمعركة الشهيرة ، التى أسهمت إسهاما كبيرا فى جماعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودينه الجديد ؛ لذا فليس من الغرابة فى شىء أن يكون محطا لهذا التوقير العجيب. وأهل المدينة المنورة يعتقدون أن جبل أحد سوف ينقل إلى الجنة فى يوم القيامة ، وأن البشر عند ما يمثلون أمام الخالق (سبحانه وتعالى) للحساب ، سوف يجمّعوا على جبل أحد ، باعتبار أنه المكان المفضل. وجبل عيرة ، سالف الذكر والذى يقع فى الجنوب الغربى من المدينة المنورة ، سيلقى مصيرا لا يحسد عليه. ونظرا لأن جبل عيرة أنكر الماء على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الذى ضل طريقه ذات مرة بين وديان هذا الجبل ، الأمر الذى أدى إلى ظمأ النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسوف يعاقب على بخله ، بإلقائه فى جهنم فجأة.

يزور أهل المدينة المنورة جبل أحد فى كثير من الأحيان وينصبون خيامهم فى المنازل المدمرة ، التى يبقون فيها أياما قلائل ، وبخاصة أولئك الذين يكونون فى فترة النقاهة ، والذين نذروا أثناء مرضهم ، أن يذبحوا شاة تكريما لحمزة ، إذا ما شفوا من أمراضهم. وأهل المدينة المنورة يتوافدون مرة واحدة فى العام (غالبا ما تكون فى شهر يوليو) على شكل جموع كبيرة ، على جبل أحد ، ويبقون هناك مدة ثلاثة أيام ، كما لو كانت تلك الأيام الثلاثة هى أيام مولد. هناك أسواق منتظمة فى جبل أحد ، يضاف إلى ذلك أن زيارة أحد تشكل وسيلة من وسائل التسلية فى المدينة المنورة.

١٤٩

قورة ـ يزور الحجاج فى هذه القرية المجاورة لأحد المكان الذى نزل فيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ما جاء من مكة ، وهو يقع فى جنوب المدينة المنورة ، ويبعد عنها مسير ثلاثة أرباع الساعة. الطريق إلى قورة يمر خلال سهل عامر بالنخيل ، ويغطى الرمل الأبيض أجزاء كبيرة منه. على بعد مسير نصف ساعة من المدينة تبدأ البساتين ، التى تغطى مساحة تقدر بحوالى أربعة أميال إلى خمسة أميال على شكل دائرة ، مشكّلة بذلك ربما أخصب البقاع وأنسبها فى شمالى الحجاز. أشجار الفاكهة على اختلاف أنواعها (فيما عدا أشجار التفاح ، والكمثرى التى لا ينمو أى منها فى الجزيرة العربية) ؛ وهذه الأشجار تزرع فى البساتين التى يسوّرها أصحابها بالحوائط ويروونها من آبار عدة ، والمدينة المنورة تحصل على وارداتها من الفاكهة من هذه البساتين التى تنمو فيها أشجار الليمون ، والبرتقال ، والرمان ، والموز ، والأعناب ، والخوخ ، والمشمش ، وأشجار التين ، وكلها تزرع فيما بين أشجار النخيل وأشجار النبق ، مشكلة بذلك بيارات كثيفة كما هو الحال فى سوريا ومصر ، فى حين تجعل ظلال هذه الأشجار من قباء مقاما طيبا. يشيع نبات الخروع هنا أيضا. وقرية قباء من القرى التى يزورها أهل المدينة المنورة فى كثير من الأحيان ؛ الجماعات تقضى فترة النهار فى هذه القرية بصورة مستمرة ، وينقل الناس المرضى إليها كى يستفيدوا من جوها البارد غير الحار.

يقع مسجد قباء وسط هذه البيارات ، ومعه حوالى ثلاثين منزلا أو أربعين. ومسجد قباء عبارة عن بناية متواضعة ، ومتحللة إلى حد بعيد. داخل هذا المسجد توجد مزارات عدة ، يصلى الزائر عند كل منها ركعتين ، ويردد دعاء لتكريم المكان. نحن نشاهد هنا فى البداية مبرك الناقة ، البقعة ذاتها من أرض المسجد التى بركت عليها الناقة التى ركبها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أثناء هجرته من مكة ؛ كانت الناقة قد بركت نهائيا ولم تقم مرة أخرى ، إيذانا لصاحبها بالوقوف فى هذا المكان ، قبل دخوله المدينة المنورة. ومن باب تقديس ذلك المكان أسس محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسجد بنفسه ، مستخدما فى ذلك أحجارا سائبة ، تحولت بعد ذلك إلى مبنى عادى فى العام التالى ، بواسطة بنو عامر بن عوف ، لكن المبنى الحالى حديث البناء. بعد ذلك ، يرى الحاج

١٥٠

المكان الذى وقف عليه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات مرة ، بعد الانتهاء من الصلاة ، ورأى منه مكة رؤية واضحة ، كما رأى أيضا كل ذلك الذى كان القرشيون يفعلونه فى مكة ، ثم يرى الحاج بعد ذلك ، المكان الذى نزل فيه الوحى على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالآيات ذات الصلة بأهل قباء والتى تقول : (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) ١٠٨ التوبة. فى هذه الآية ، نجد إشارة إلى النظافة الشخصية غير العادية عند أهل قباء ، وبخاصة فيما يتصل بعملية الوضوء.

لم أشاهد أية نقوش أو كتابات فى هذا المسجد ، اللهم باستثناء تلك النقوش التى هى عبارة عن أسماء للحجاج الذين كتبوا هذه الأسماء على الجدران والحوائط المدهونة باللون الأبيض ، وهذه عملية يغرم بها الرحالة الشرقيون ، شأنهم فى ذلك شأن السائحين الأوروبيين ، وغالبا ما يضيف الرحال أو السائح إلى اسمه بعضا من أبيات الشعراء الشهيرين ، أو آيات من آيات القرآن. مسجد قباء يشكل بهوا ضيقا من أبهاء الأعمدة ، التى تحيط بصحن مفتوح يقع فيه مبرك الناقة ، ومن فوقه قبة صغيرة ، يصل ارتفاعها إلى حوالى ستة أقدام. أثناء خروجنا من المسجد ، حاصرنا جمهور من الشحاذين. وعلى مقربة من المسجد ، وبين المنازل يوجد مصلّى صغير ، يطلق الناس عليه اسم مسجد على ، تكريما (لسيدنا) على رضي‌الله‌عنه ، ابن عم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وبالقرب من مسجد على ، وفى بستان من البساتين ، توجد بئر عميقة يسمونها العين الزرقاء ، فيها مصلّى صغير بنى عند فتحة تلك البئر. كانت هذه البئر أثيرة عند محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقد اعتاد الجلوس بين الأشجار مع أصحابه وأتباعه ، ليتمتع برؤية الماء وهو ينساب على شكل نهر أو مجرى شفاف ورائق ؛ وهذا الشىء إلى يومنا هذا يسترعى وبشدة انتباه مواطنى الشرق ، وإذا ما أضفنا إلى ذلك شجرة وارفة الظلال ، فلربما تحول ذلك إلى المنظر الطبيعى الوحيد الذى يعجبهم. حدث ذات مرة ، عند ما كان النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالسا فى هذا المكان أن سقط خاتم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى البئر ، ولم يعثر عليه قط مرة ثانية ، وفرضية وجود الخاتم فى ذلك البئر إلى يومنا هذا ، هى التى جعلت تلك البئر شهيرة ، ماء هذه البئر مالح فى الأساس ومذاقه كبريتى إلى حد ما ، لكنه يفقد ذلك المذاق الكبريتى عند ما ينساب فى المجرى. ماء هذه البئر

١٥١

يجرى تجميعه مع مياه العيون الأخرى المتعددة فى قناة واحدة هى التى تمد المدينة المنورة بالماء ، وهذه القناة تظل ممتلئة بالماء بفضل الإمدادات المائية التى تصل إليها من قنوات متباينة تحمل ماء الآبار. عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه هو أول من أوصل العين بالمدينة المنورة ، لكن القناة الحالية ، شقت على نفقة السلطان سليمان ، بن السلطان سليم الأول فى عام ٩٧٣ ه‍ على وجه التقريب ؛ وهذه القناة عبارة عن مجرى شديد الصلابة تحت سطح الأرض. هذه القناة ، هى وقناة مكة (المكرمة) هما أعظم عجيبتان معماريتان فى الحجاز. يقع بالقرب من مسجد قباء مبنى أقامه السلطان مراد للدراويش. وعلى بعد مسافة قصيرة خلف القرية ، على الطريق المؤدى إلى المدينة المنورة ، يوجد مصلّى صغير ، اسمه مسجد الجمعة ، تخليدا للمكان الذى التقى عنده أهل المدينة المنورة (سيدنا) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند وصوله إلى المدينة.

القبلتين. فى الناحية الشمالية الغربية من المدينة المنورة ، وعلى بعد مسير ساعة واحدة ، يوجد مزار يحمل هذا الاسم. يقال إن هذا المزار مكون من عمودين غشيمين (لأنى لم أره شخصيا) ، وإن ذلك المكان هو الذى غير فيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم القبلة ، وكان ذلك فى الشهر السابع عشر بعد الهجرة ، كان أتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هم والبدو اليهود حتى ذلك الوقت يولون وجوههم شطر القدس باعتبارها القبلة ، ولكن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم حولها ناحية الكعبة ، التى تشير إليها هذه الآية من آيات القرآن :(قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ، هذه الآية وردت لإقناع المسلمين ، أنهم حيثما يولون وجوههم ، فى صلاتهم ، فإن الله يكون أمامهم. بالقرب من هذا المكان يوجد مصلّى قديم مدمر.

ما أسلفناه هو عبارة عن المزارات والأماكن التى يزورها الحجاج. المنطقة المحيطة بقباء وفى الاتجاه الجنوبى الشرقى من المدينة ، عبارة عن أماكن لا تقل جمالا عن قباء ، ويتخذ أهل المدينة من تلك الأماكن منتجعات للتسلية والترفية البرىء ، لكن فى اعتقادى أنه ليست هناك أية قرية أخرى يمكن مشاهدتها ، اللهم باستثناء بعض المنازل المنعزلة المبعثرة بين أشجار النخيل.

١٥٢

سكان المدينة المنورة

سكان المدينة المنورة ، شأنهم شأن سكان مكة ، القسم الأكبر منهم غرباء ، انجذبوا إلى المدينة المنورة بفعل قبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمكاسب التى يضمنها لمجاوريه ، لكن قلة قليلة من العرب العاديين ، الذين يعدون أحفادا أو خلفا لتلك الأسر التى عاشت فى المدينة المنورة ، عند ما هاجر إليها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قادما من مكة ، هم الباقين حاليا فى مدينة الرسول ، وعلى العكس من ذلك نجد فى المدينة المنورة جاليات من كل حدب وصوب فى الإمبراطورية الإسلامية ، شرقا وغربا. قيل لى إن السكان العرب الأصليين ، الذين يطلق عليهم المؤلفون المسلمون اسم الأنصار ، والذين كانوا فى بداية الأمر مكونين من قبيلتى الأوس والخزرج ، لم يتبق منهم سوى عشر عائلات هم الذين يستطيعون تتبع سلالتهم النسبية ، والعالمين تماما بتقاليدهم وموروثاتهم ؛ أهل هذه الأسر من الفقراء ، ويعيشون من العمل فلاحين فى الضواحى وفى البساتين. عدد الأشراف المنحدرين عن الحسن رضي‌الله‌عنه حفيد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كبير جدا ، لكن السواد الأعظم من هؤلاء الأشراف ليسوا أصلا من هذا المكان ، هذا يعنى أن أسلاف هؤلاء الأشراف جاءوا إلى المدينة المنورة من مكة ، خلال الحروب التى شنها الأشراف للاستيلاء على المدينة المنورة. هؤلاء الأشراف ينتمون إلى طبقة العلماء ، وقلة قليلة منهم هم من العسكريين ، شأنهم شأن أشراف مكة ، ويعيشون هنا فى المدينة المنورة. من بين هؤلاء الأشراف ، هناك قبيلة صغيرة من بنى حسين ، منحدرة عن (سيدنا) الحسين شقيق الحسن. يقال إن هذه القبيلة الصغيرة كانت على درجة كبيرة من القوة فى المدينة المنورة ، وإنهم خصصوا لأنفسهم القسم الأكبر من الدخل الناتج عن المسجد النبوى. فى القرن الثالث عشر (وذلك نقلا عن السمهودى) كان الأشراف هم أصحاب امتياز قبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لكنهم فى الوقت الراهن قل عددهم وأصبح مقصورا على حوالى عشر عائلات ، ما زالت من بين أعيان المدينة المنورة وكبرائها ومن أثرى أثريائها. هؤلاء الأشراف يشغلون حيا خاصا بهم ، ويحصلون على أرباح كبيرة من الحجاج الفارسيين بصفة خاصة عند ما يمرون على المدينة المنورة. يعتقد البعض أن هؤلاء الأشراف مهرطقين ، ويعتنقون المذهب العلوى الفارسى ، وأنهم

١٥٣

يمارسون طقوس هذا المذهب الشيعى فى السر ، على الرغم من اتباعهم للطقوس السنية فى العلن. هذا التقرير عام وشائع جدا ، ويؤكده عدد كبير من الناس المحترمين ، الأمر الذى لا يجعل هذا التقرير محطا للشكوك ، لكن بنى حسين لهم نفوذ كبير فى المدينة المنورة ، هذا النفوذ يلتزم من الناحية الشكلية بالطقوس والمبادئ الأصولية ، الأمر الذى لا يؤدى إلى مضايقتهم أو إزعاجهم.

يشاع بين الناس أن بقايا الأنصار وأعداد كبيرة من العرب الفلاحين الذين يزرعون البساتين والحقول المجاورة للمدينة المنورة يعتنقون المذهب نفسه ، وأن هؤلاء الناس الذين يطلق عليهم اسم النواخلة (هذا الاسم يعنى أن هؤلاء الناس يعيشون بين النخيل) أعدادهم كبيرة ومحبون للحرب. هؤلاء النواخلة كانوا يشكلون مقاومة صعبة فى وجه الوهابيين ، كما أثبتوا دوما فى الصراعات المدنية أنهم أقوى من أهل الحضر. يقال إن هؤلاء النواخلة هم أحفاد أتباع يزيد بن معاوية ، الذى استولى على المدينة المنورة وسلبها ونهبها بعد ستين عاما من الهجرة. هؤلاء النواخلة لا يتزوجون إلا من بعضهم ، وتتبدى بينهم روح السلاح فى كل الأحوال. الكثيرون منهم يعتنقون المذهب الشيعى عند ما يكونون فى بيارات نخيلهم ، لكنهم يتحولون إلى سنة عند ما يحضرون إلى المدينة. البعض منهم يعيش فى الضواحى ، وهم يحتكرون مهنة الجزارة ، وقد سمعت أثناء المشاجرات بعض الناس يسبونهم بأنهم مذهبيون وروافض ، دون أن ينكر أحد منهم هذه السّبّة. فى الصحراء الشرقية ، وبعد رحلة تقدر بمسير أربعة أيام من المدينة المنورة ، تعيش قبيلة بدوية كاملة ، يسمونها بنى على ، وهذه القبيلة كلها من سلالة فارسية ، والمدهش أننا نجد البقعتين الأكثر تشددا فى الدين الإسلامى مطوقتين : إحداهما مطوقة بأتباع زيد ، والأخرى مطوقة بأتباع على ، دون بذل أية محاولة لزحزحتهما عن مكانيهما.

توجد بين العائلات القديمة فى المدينة المنورة قلة قليلة من أحفاد العباسيين ، الذين وصلوا إلى حد الفقر المدقع ، والناس يطلقون عليهم هنا اسم الخالفية ، بمعنى أنهم منحدرون عن الخلفاء.

١٥٤

السواد الأعظم من سكان المدينة المنورة ، من أصول أجنبية ، وعرقهم متباين تماما كما هو الحال فى مكة ، ولا ينقضى عام دون انضمام بعض المستوطنين الجدد إلى هذه الفئة من السكان ، يزاد على ذلك أن أية قافلة من قوافل الحج لا تمر بالمدينة المنورة إلا وتترك وراءها قلة قليلة من مسافريها ، الذين يتوقفون فى بداية الأمر بهدف البقاء مدة عام أو عامين فقط فى المدينة ، لكنهم يواصلون العيش والبقاء فيها بصفة دائمة. هناك عدد كبير من خلف أولئك الأتراك الذين يعيشون فى شمالى تركيا ، لكن القسم الأكبر من سكان المدينة المنورة ترجع أصولهم إلى البلدان الجنوبية من الجزيرة العربية مثل اليمن وحضر موت ، ومن سوريا ومن مصر ، كما أن هناك عددا كبيرا أيضا من الباربارى. كان مرشدى يدعى الشيخ سعد الدين الكردى ، نظرا لأن والد والده كان كرديا استقر فى المدينة المنورة ؛ كان صاحب المنزل الذى كنت أنزل فيه يدعى سيد عمر ، وهو شريف من أشراف قبيلة اليفاعلى اليمنية ، الذين جاء أسلافهم إلى المدينة المنورة قبل مئات السنين. هناك أيضا بعض الهنود المقيمين فى المدينة المنورة ، لكن أعداد الهنود فى المدينة أقل منهم فى مكة. الهنود ، كما هو حالهم فى مكة ، يعملون فى المدينة المنورة فى مجال العقاقير ، أو يمتلكون محلات صغيرة ، لكنى أرى أن الهنود فى المدينة ليس من بينهم أحد يعمل فى مجال تجارة الجملة. والهنود يلتزمون بلباسهم الوطنى وسلوكياتهم الوطنية أيضا ، ويشكلون جالية صغيرة ، ويندر أن يتزوجوا من غير الهنود أو يختلطوا بالسكان الآخرين.

أفراد مختلف الجنسيات الذين استقروا فى المدينة المنورة واستوطنوها ، تحولوا فى الجيل الثانى والثالث إلى أعراب فيما يتعلق بالسمات والشخصية ، ومع ذلك يسهل تمييزهم عن المكيين ؛ أهل المدينة ليسوا ذوى بشرة سمراء مثل أهل مكة ، وبذلك فهم يشكلون حلقة مباشرة أو وسيطة ، إن صح التعبير ، بين أهل الحجاز وسكان شمالى سوريا. ملامح أهل المدينة أوضح إلى حد ما ، ولحاهم أكثر كثافة ، وأجسامهم أقوى وأمتن من أجسام أهل مكة ، لكن الوجه ، وتقاسيمه ، وكذلك الملامح كل ذلك سواء عند أهل المدينة وأهل مكة.

١٥٥

لباس أهل المدينة المنورة يشبه اللباس التركى أكثر من لباس أهل الجنوب ، قلة قليلة جدا من سكان المدينة المنورة هم الذين يرتدون البدن ، أو إن شئت فقل العباءة الوطنية العربية التى ليس لها أكمام ، لكن الفقراء من سكان المدينة يلبسون أيضا ثيابا طويلة ، عليها جبّة ، أو إن شئت فقل : عباءة خارجية مصنوعة من القماش ، أو قد يرتدون بدلا عن هذه الجبة ، عباءة ، أو لباسا أبيض يشيع لبسه فى سوريا وفى سائر أنحاء الصحراء. يشيع فى المدينة المنورة أكثر من مكة ، استعمال الطربوش التونسى أحمر اللون ، إذ يلبس أفراد الطبقات الدنيا طواق بيضاء ونعالا. أما الميسورون من الناس فيلبسون عباءات بيضاء اللون مصنوعة من قماش جيد ، كما يلبسون ملابس جيدة ، وفى فصل الشتاء ، يلبسون بليسا جيدا ، يجرى إحضاره من إسطنبول عن طريق القاهرة ، وقد لاحظت أن هذا البليس يشيع ارتداؤه فى شهرى يناير وفبراير ، وهو الفصل الذى يكون فيه الجو باردا على نحو أكبر بكثير مما ينتظره أو يتوقعه الأوروبيون فى صحراوات الجزيرة العربية. ويمكن القول بشكل عام : إن أهل المدينة المنورة أفضل من المكيين فى مسألة اللباس ، على الرغم من أنهم أقل من المكيين من حيث النظافة ، لكن الزى الوطنى لا وجود له هنا ، وبخاصة فى فصل الشتاء البارد ، نجد أن الطبقات الدنيا يسترون أنفسهم بأى نوع من الألبسة التى يمكن أن يحصلوا عليها بأسعار رخيصة من مزادات علنية ، وقد يصل الأمر إلى حد أن ترى مواطنا يرتدى لباسا من ثلاثة بلدان أو أربعة ، قد نرى شخصا يرتدى زيا عربيا يصل إلى منطقة الوسط من جسمه ، ويضع على صدره وكتفيه لباسا شبيها بلباس الجندى التركى. الأثرياء من الناس يستعرضون الألبسة ، ويتبارون مع بعضهم البعض فى فخامة مثل هذا اللباس. شاهدت مجموعة جديدة من الملابس ، حتى بعد انتهاء مواسم الأعياد ، وبكميات أكبر بكثير مما رأيته فى أماكن أخرى من الشرق. وكما هو الحال فى مكة ، لا يرتدى الأشراف هنا الثياب الخضراء ، وإنما يضعون على رءوسهم عمائم من الموسلين الأبيض ، ويستثنى من ذلك هؤلاء الذين جاءوا من شمالى تركيا ، واستوطنوا المدينة المنورة مؤخرا ، والذين لا يزالون يرتدون الوشاح الدال على تميزهم.

١٥٦

قبل مجىء الوهابيين ، وعند ما كان السكان يتقاتلون قتالا دمويا فيما بينهم ، كانوا يمشون وكل واحد منهم مسلح بجنبيه ، أو بالأحرى سكين أو خنجر عربى معقوف ، أما الآن فلا يوجد سوى قلة قليلة من هؤلاء الناس ، لكن كل واحد منهم ، من أعلاهم إلى أدناهم يحمل فى يده عصا طويلة ثقيلة. والأثرياء من الناس يصنعون لعصيهم رءوسا من الفضة ، بعض آخر من الناس يجعلون لتلك العصى أسنانا من حديد ، وبذلك يحولون العصا إلى سلاح رهيب ، يستخدمه العرب بمهارة فائقة. النساء فى المدينة المنورة يرتدين ملابس مثل ملابس النساء فى مكة ، والطبقات الدنيا ترتدى ملابس زرقاء اللون ، أما الطبقات العليا فيرتدين ملايات من الحرير.

البدو المستقرين فى ضواحى المدينة المنورة أو فى المدينة نفسها يلبسون ألبسة مثل تلك الألبسة التى يرتديها البدو فى الصحراء السورية ؛ قميص ، وعباءة ، وكيسيه على الرأس ، وحزام من الجلد ، معلق فيه سكين ونعله فى القدمين.

يضاف إلى ذلك أن الذين استوطنوا المدينة المنورة أصبحوا يشكلون عرقا متميزا ، وبالتالى فهم لا يخالطون بقية أهل المدينة. وهم لا يزالون يحتفظون بلباسهم الوطنى ، ولغتهم الوطنية ، وعاداتهم الوطنية ، ويحيون فى منازلهم كما لو كانوا يعيشون فى خيام فى الصحراء ، وربما كان بدو الجزيرة العربية ، دونا عن سائر أمم الشرق كلها ، هم أولئك الذين يتخلون عن عاداتهم الوطنية فى شىء كثير من التردد. ونحن نشاهد فى كل من سوريا ومصر ، وكذلك فى الحجاز ، مستوطنات تحول أهلها إلى زرّاع منذ قرون مضت ، ومع ذلك ، لم يكتسب هؤلاء السكان سوى القليل جدا من عادات الفلاحين وتقاليدهم ، ولا يزالون يتفاخرون بأصلهم البدوى وسلوكياتهم البدوية أيضا.

أهل المدينة المنورة ليس لديهم سبل لكسب العيش مثل المكيين. وعلى الرغم من أن هذه المدينة لا تخلو مطلقا من الحجاج الأجانب ، فإن تدفقهم ليس بالقدر الذى يجعل مكة مزدحمة بالسكان طوال أشهر عدة من العام الواحد ، الأمر الذى يجعل منها سوقا لكل بلاد الشرق. الحجاج الذين يأتون إلى المدينة المنورة يندر أن يكونوا تجارا ، أو إنهم لا يذهبون إلى المدينة المنورة للتجارة فى أضعف الأحوال ، وبالتالى

١٥٧

يلجأ هؤلاء الحجاج إلى ترك أمتعتهم الثقيلة على الشاطئ. يزاد على ذلك أن التجار السوريين الذين يرافقون القافلة الكبيرة نادرا ما يلجأون إلى الاتجار ، اللهم إلا باستثناء بعض أحمال الإبل من التبغ والفاكهة المجففة. هذا يعنى أن تجارة المدينة المنورة مقصورة على الاستهلاك المحلى ، وإمداد البدو المجاورين لها بالملابس والسلع التموينية. هذه الملابس هى والسلع الغذائية تصل عن طريق ينبع ولا تأتى إلا من مصر. لا يقيم أحد من التجار الكبار فى المدينة المنورة ؛ هذا يعنى أن التجارة هى تجارة تجزئة ليس إلا ، يزاد على ذلك أن هؤلاء الذين يملكون رؤوس الأموال ، إنما يستعملونها فى التجارة من سوريا ومصر ، اللتين لا يوجد بهما مؤسسات عامة مثل البنوك أو النقابات التجارية ، الأرصدة الوطنية ، التى يستطيع صاحب رأس المال ، أن يجنى منها فائدة على أمواله. القانون التركى يحرم تحريما شديدا مسألة الفائدة على الأموال ، وحتى إن توافرت مثل هذه المؤسسات ، فلن تكون هناك الحكومة أو تلك الفئة من الناس التى يمكن أن يعهد الناس إليهم بأموالهم الكثيرة ، يزاد على ذلك أن استثمار رأس المال فى الأراضى والعقارات تكتنفه مخاطر كثيرة. (*) والطريقة المعتادة هنا هى الدخول فى مشاركة مع مختلف صغار التجار أو إن شئت فقل : تجار التجزئة ، والحصول منهم على جزء من حصتهم وأرباحهم ، لكن هذا النظام يسبب كثيرا من القلق باعتباره

__________________

(*) بناء على المرسوم الذى أصدره محمد على باشا فى عام ١٨١٣ م ، أصبحت مسألة شراء الأرض فى مصر أمرا غير قابل للتنفيذ ؛ وسبب ذلك أن هذا المرسوم يحتم على الملتزمين (ملاك الأراضى الذين يشاركون فى امتلاك القرى والأراضى والذين كانوا يكونون طبقة تعيش على العائدات التى يحصلون عليها من هذه الأراضى) الحصول على دخولهم السنوية من أراضيهم عن طريق خزانة الباشا. هؤلاء الملتزمين عانوا معاناة شديدة من مختلف أنواع الظلم والإذلال ، وصدر إعلان باعتبار الأراضى كلها ملكا للحكومة ، أو بالأحرى ملكا لمحمد على نفسه ، الذى يعطى الأرض للفلاحين لزراعتها بشروطه الخاصة. حدث مؤخرا أن جرى حرمان الفلاحين الذين كانوا يزرعون خمسة آلاف فدان فى قرية دامكور القريبة من القاهرة من عقود الإيجار الخاصة بالأراضى التى أعلن أنها أصبحت ملكية عامة ؛ نظرا لأن الباشا أراد أن يزرع فيها برسيما لخيوله. ملكية الأرض فى سوريا أيضا تخضع مالكها لكثير من المضايقات ؛ فهو يتعرض للعسف من جانب حاكم المنطقة ومن جانب الجنود الذين يمرون عليها ، ومالك الأرض يعانى أيضا من جور الباشوات على مستحقاته ، وبخاصة أن هؤلاء الباشوات يجورون على الفلاحين أكثر من الملتزمين ، والملتزم إذا لم يراقب الفلاحين ، يجرى تجريده من أرباحه كلها.

١٥٨

شكلا من أشكال التجارة من ناحية وضرورة إمساك دفاتر بصورة مستمرة مع الشركاء ، ومراقبتهم بصورة مستمرة. الربا سائد هنا بين الناس ، ويجرى فى القاهرة دفع نسبة أرباح سنوية تتردد بين ثلاثين فى المائة وخمسين فى المائة ، لكن قلة قليلة من التجار الأتراك هم الذين يلجأون إلى مثل هذه الممارسات ، التى ينظر الناس إليها على أنها من الأعمال المشينة. والربا هنا يكاد يكون مقصورا على اليهود ، وعلى المسيحيين المنبوذين من أوروبا ، وربما كان السبب الوحيد ، وراء الحال المؤسف للمجتمع الشرقى فى الوقت الحالى ، والذى له تأثير كبير على عقول الناس وعلى سعادتهم ، يتمثل فى اضطرار هؤلاء الناس إلى الاستمرار فى حيواتهم العملية العامرة بالمؤامرات وبالفرص أيضا. يزاد على ذلك أن الآمال التى تحدو المواطن الأوروبى ، وتطلعه إلى التمتع فى كبره بعائد الجهود التى بذلها فى مطلع حياته ، كل ذلك غير معروف للمواطن الشرقى ، الذى لا يجلب عليه تقاعده سوى الخطر ، الناجم عن ظهوره كرجل ثرى فى عينى الحاكم الجشع ، والمعروف أن النفوذ والتأثير المزدوج لكل من الحكومة التركية والدين الإسلامى هما اللذان أديا إلى هذا النفاق العام ، الأمر الذى يندر معه وجود مسلم واحد (الذى يوحى مظهره الهادئ ـ وهو يدخن غليونه متكئا على الأريكة ـ لمن يراه بأنه راض تماما وغير مبال) لا يعانى من آلام الحسد والحقد ، والجشع ، والطموح ، أو الخوف من ضياع ثروته التى حصل عليها بطريق غير سوى.

الرحالة الذين يمرون بالشرق مر الكرام ، دون أن يعرفوا اللغة ، ودون الاختلاط إلا بأولئك الذين لا يهمهم سوى منح الشخصية أو الطابع الحقيقى ، ينخدعون دوما بأبهة الأتراك ، وسلوكياتهم الأبدية ، وخطبهم المحكمة ، على الرغم من أن احتقارهم وسخريتهم من ذلك الفرنسى الذى يتظاهر بعد الإقامة أشهرا قلائل فى إنجلترا ، وبعد جهله الكامل باللغة الإنجليزية ، بأنه يعرف الشخصية الإنجليزية والدستور الإنجليزى أيضا ، متناسيا أن من السهل جدا على أى فرنسى الحكم على أية أمة من الأمم الأوروبية المجاورة له ، لكن يصعب على مثل هذا الأوروبى الحكم على الأمم الشرقية ، التى تختلف سلوكياتها ، وأفكارها ، وآرائها ، عن سلوكياته ، وأفكاره ، وآرائه الأوروبية.

١٥٩

أما فيما يخصنى أنا شخصيا ، فإن مقامى الطويل بين الأتراك ، والسوريين ، والمصريين يجعلنى أصرح قائلا : إن هؤلاء الناس يفتقرون إلى الفضيلة ، والشرف والعدل ، وإنهم ليسوا أتقياء بمعنى الكلمة ، وإنهم أقل إحسانا وصبرا ، وإن الأمانة لا تتوفر إلا فى فقرائهم أو بلهائهم ، والتركى ، قد يعرف ما هو صحيح وما يستحق الثناء ، لكنه يترك الممارسة للغير ، وعلى الرغم من أن هذا التركى تلفظ شفتاه معايير طيبة ، فإنه يحاول إقناع نفسه بأنه يتصرف طبقا لما تنص عليه تلك المعايير. من هنا نجد التركى يظن أو يحسب أنه مسلم بمعنى الكلمة ، نظرا لأنه لا يترك المواظبة على صلوات بعينها ، أو وضوء بعينه ، وإنه يطلب العفو دائما من الله (سبحانه وتعالى).

فى المدينة المنورة ينشغل أشخاص متعددون بالمعاملات التجارية الصغيرة ، المتعلقة بالتموينات بصفة خاصة. بعض أشكال النقل مربحة فى المدينة المنورة ، وسبب ذلك أن المدينة تعتمد حركاتها التموينية على القوافل التى تأتى من ينبع ، وهذه القوافل يستحيل أن تنظم مواعيدها ، وهذا الأمر يؤدى بدوره إلى تقلب الأسعار ؛ والنتيجة السيئة التى تترتب على ذلك ، تتمثل فى نجاح تجار الغلال فى بعض الأحيان فى فرض نوع من الاحتكار ، يؤدى إلى انعدام وجود الحبوب لدى تجار التجزئة ، واقتصار وجودها فقط على مخازنهم ، والقوافل إذا ما تأخر وصولها طويلا ، أدى ذلك إلى ارتفاع أسعار القمح ارتفاعا باهظا ، ونظرا لأن كبار شخصيات المدينة يكونون هم المعنيون بمثل هذا الارتفاع ، فإن ذلك يندر أن يؤدى إلى تدخل القضاة فى هذه العملية.

بعد تجارة التموينات تأتى التجارة مع البدو المحيطين بالمدينة المنورة ، وهذه التجارة هى الأهم ، وسبب ذلك أن البدو هم الذين يمدون المدينة بالزبد ، والعسل (الذى يعد سلعة شديدة الأهمية فى المطبخ الحجازى) ، والأغنام ، والفحم النباتى الذى يبادلونه بالقمح والملابس. يزاد على ذلك أن وصول البدو للمدينة المنورة يعد غير منتظم إلى حد بعيد ، وإذا ما تصادف أن تحاربت قبيلتان ، أدى ذلك إلى بقاء المدينة تحت رحمة قلة قليلة من التجار الكبار ، الذين يتصادف أن يكون لديهم مخزون كبير

١٦٠