الكشف والبيان - ج ٨

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ٨

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

(إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٥٦) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (٥٧) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٥٨) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٩) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (٦٠) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (٦١) سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٦٢) يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (٦٣) إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (٦٤) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٦٥) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (٦٦) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (٦٧) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (٦٨))

(إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ) قراءة العامة بنصب التاء وقرأ ابن عبّاس : وَمَلائِكَتُهُ بالرفع عطفا على محلّ قوله : (اللهَ) قبل دخول إنّ ، نظيره قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى) (١) وقد مضت هذه المثلة. (يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) أي يثنون ويترحّمون عليه ويدعون له. وقال ابن عبّاس : يتبرّكون. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ) ترحّموا عليه وادعو له (وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) وحيّوه بتحية الإسلام.

أخبرنا عبد الله بن حامد ، عن المطري ، عن علي بن حرب ، عن ابن فضيل ، عن يزيد بن أبي زياد ، وأخبرنا أبو الحسن بن أبي الفضل العدل ، عن إسماعيل بن محمد الصفّار ، عن الحسين بن عروة ، عن هشيم بن بشير ، عن يزيد بن أبي زياد ، وحدّثنا عبد الرحمن بن أبي ليلى ، حدّثني كعب بن عجرة قال : لمّا نزلت (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ) ... قلنا : يا رسول الله قد علمنا السلام عليك ، فكيف الصلاة عليك؟ قال : «قل : اللهم صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد» [٢١] (٢).

وأخبرنا عبد الله بن حامد الوزّان ، عن مكي بن عبدان ، عن عمّار بن رجاء عن ابن عامر ، عن عبد الله بن جعفر ، عن يزيد بن مهاد ، عن عبد الله بن خباب ، عن أبي سعيد الخدري قال : قلنا : يا رسول الله هذا السلام قد علمنا ، فكيف الصلاة عليك؟

__________________

(١) سورة المائدة : ٦٩.

(٢) مسند أحمد : ١ / ١٦٢ ، سنن الدارمي : ١ / ٣٠٩.

٦١

قال : «قولوا اللهم صلّ على محمّد عبدك ورسولك كما صلّيت على إبراهيم ، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم» [٢٢] (١).

وأخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف الفقيه ، عن مكي بن عبدان عن محمد بن يحيى قال : فيما قرأت على ابن نافع ، وحدّثني مطرف ، عن مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن محمد بن عمرو بن حرم ، عن أبيه ، عن عمرو بن سليمان الزرقي ، أخبرني أبو حميد الساعدي أنّهم قالوا : يا رسول الله كيف نصلّي عليك؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قولوا : اللهم صلّ على محمّد وأزواجه وذرّيته كما صلّيت على آل إبراهيم ، وبارك على محمّد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنّك حميد مجيد» [٢٣] (٢).

وبإسناده عن مالك عن نعيم ، عن عبد الله بن المجمر ، عن محمد بن عبد الله بن زيد الأنصاري ، عن أبي مسعود الأنصاري أنّه قال : أتانا رسول الله صلّى الله عليه ونحن جلوس في مجلس سعد بن عبادة ، فقال له بشير بن [سعد] (٣) : أمرنا الله أن نصلّي عليك يا رسول الله ، فكيف نصلّي عليك؟ فسكت رسول الله صلّى الله عليه حتّى تمنّينا أنّه لم يسأله ، ثمّ قال : «قولوا اللهم صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم ، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنّك حميد مجيد ، والسلام كما قد علمتم» [٢٤] (٤).

وأخبرنا عبد الله بن حامد بقراءتي عليه قال : أخبرنا محمّد بن خالد بن الحسن ، عن داود ابن سليمان ، عن عبد بن حميد قال : أخبرني أبو نعيم عن المسعودي ، عن عون ، عن أبي فاختة ، عن الأسود قال : قال عبد الله : إذا صلّيتم على النبي صلّى الله عليه فأحسنوا الصلاة عليه ، فإنّكم لا تدرون لعلّ ذلك يعرض عليه ، قالوا : فعلّمنا ، قال : قولوا : اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على سيّد المرسلين وإمام المتّقين وخاتم النبيّين محمد عبدك ورسولك ، إمام الخير وقائد الخير ورسول الرحمة ، اللهم ابعثه مقاما محمودا يغبطه به الأوّلون والآخرون ، اللهم صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد.

أخبرنا عبد الخالق بن علي قال : أخبرني أبو بكر بن جنب عن يحيى بن أبي طالب عن يزيد بن هارون قال : أخبرني أبو معاوية ، عن الحكم بن عبد الله بن الخطّاب ، عن أمّ الحسن ،

__________________

(١) مسند أحمد : ٣ / ٤٧ ، وصحيح البخاري : ٧ / ١٥٧.

(٢) مسند أحمد : ٥ / ٤٢٤.

(٣) في نسخة أصفهان : عبد الله.

(٤) مسند أحمد : ٥ / ٢٧٤ ، وسنن الدارمي : ١ / ٣١٠.

٦٢

عن أبيها قالوا : يا رسول الله أرأيت قول الله تعالى : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) فقال النبي عليه‌السلام : هذا من العلم المكنون ، ولو أنّكم سألتموني عنه ما أخبرتكم به ، إنّ الله تعالى وكّل بي ملكين فلا أذكر عند عبد مسلم فيصلّي عليّ إلّا قال ذانك الملكان : غفر الله لك ، وقال الله تعالى وملائكته جوابا لذينك الملكين : آمين ، ولا أذكر عند عبد مسلم فلا يصلّي عليّ إلّا قال ذانك الملكان ، لا غفر الله لك ، وقال الله وملائكته جوابا لذينك الملكين : آمين.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ) يعني بمعصيتهم إيّاه ومخالفتهم أمره. وقال عكرمة : هم أصحاب التصاوير الذين يرومون تكوين خلق مثل خلق الله عزوجل ، وفي بعض الأخبار يقول الله جلّ جلاله : ومن أظلم ممّن أراد أن يخلق مثل خلقي فليخلق حبّة أو ذرّة ، وقال عليه‌السلام : لعن الله المصوّرين (١). وقال ابن عبّاس : هم اليهود والنصارى والمشركون ، فأمّا اليهود فقالوا : (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) وقالوا : (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ). وقالت النصارى : (الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) و (ثالِثُ ثَلاثَةٍ). وقال المشركون : الملائكة بنات الله ، والأصنام شركاؤه.

قال قتادة : في هذه الآية ما زال أناس من جهلة بني آدم حتى تعاطوا أذى ربّهم ، وقيل : معنى (يُؤْذُونَ اللهَ) يلحدون في أسمائه وصفاته ، وقال أهل المعاني : يؤذون أولياء الله مثل قوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) (٢) وقول رسول الله صلّى الله عليه حين قفل من تبوك فبدا له أحد : هذا جبل يحبّنا ونحبّه ، فحذف الأهل ، فأراد الله تعالى المبالغة في النهي عن أذى أوليائه فجعل أذاهم أذاه.

(وَرَسُولَهُ) قال ابن عبّاس : حين شج في وجهه وكسرت رباعيته وقيل له : (شاعِرٌ) و (ساحِرٌ) و (مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ). وروى العوفي عنه : أنّها نزلت في الذين طعنوا على النبي عليه‌السلام في نكاحه صفيّة بنت حيي بن أخطب، وقيل : بترك سنّته ومخالفة شريعته.

(لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً. وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا) من غير أن عملوا ما أوجب الله أذاهم (فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً).

قال الحسن وقتادة : إيّاكم وأذى المؤمن فإنّه حبيب ربّه ، أحبّ الله فأحبّه ، وغضب لربّه فغضب الله له ، وإنّ الله يحوطه ويؤذي من آذاه. وقال مجاهد : يعني يقفونهم ويرمونهم بغير ما عملوا. وقال مقاتل : نزلت في عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه ، وذلك أنّ ناسا من المنافقين كانوا يؤذونه ويسمعونه. وقيل : في شأن عائشة. وقال الضحّاك والسدي والكلبي : نزلت في الزّناة الذين كانوا يمشون في طرق المدينة يتّبعون النساء إذا تبرّزن بالليل لقضاء حوائجهنّ ، فيرون

__________________

(١) صحيح البخاري : ٦ / ١٨٨ ، والدر المنثور ١ / ٣٦٧.

(٢) سورة يوسف : ٨٢.

٦٣

المرأة فيدنون منها ، فيغمزونها ، فإن سكتت اتّبعوها ، وإن زجرتهم انتهوا عنها ، ولم يكونوا يطلبون إلّا الإماء ، ولم يكن يومئذ تعرف الحرّة من الأمة ولأنّ زيّهن كان واحدا ، إنّما يخرجن في درع واحد وخمار الحرّة والأمة ، فشكون ذلك إلى أزواجهنّ فذكروا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه. فأنزل الله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) ... ثمّ نهى الحرائر أن يتشبهنّ بالإماء ، فقال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ) أي يرخين أرديتهن وملاحفهن فيتقنّعن بها ، ويغطّين وجوههن ورؤوسهن ليعلم أنّهنّ حرائر فلا يتعرّض لهنّ ولا يؤذين.

قوله : (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللهُ غَفُوراً) لما سلف منهن من ترك السنن (رَحِيماً) بهنّ إذ سترهنّ وصانهنّ. قال ابن عبّاس وعبيدة : أمر الله النساء المؤمنات أن يغطّين رؤوسهنّ ووجوههنّ بالجلابيب ويبدين عينا واحدة. قال أنس : مرّت جارية بعمر بن الخطّاب متقنّعة فعلاها بالدرّة وقال : يا لكاع أتشبهين بالحرائر؟ ألقي القناع.

قوله عزوجل : (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) فجور ، يعني الزناة (وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ) بالكذب والباطل ، وذلك أنّ ناسا منهم كانوا إذا خرجت سرايا رسول الله صلّى الله عليه يوقعون في الناس أنّهم قتلوا وهزموا ، وكانوا يقولون : قد أتاكم العدوّ ونحوها.

وقال الكلبي : كانوا يحبّون أن يفشوا الأخبار ، و (أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا) ...

(لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) لنولعنّك ونحرشنّك بهم ، ونسلطنّك عليهم. (ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلاً) أي لا يساكنونك في المدينة إلّا قليلا حتّى يخرجوا منها (مَلْعُونِينَ) مطرودين ، نصب على الحال ، وقيل : على الذم (أَيْنَما ثُقِفُوا) أصيبوا ووجدوا (أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً). قال قتادة : ذكر لنا أنّ المنافقين أرادوا أن يظهروا لما في قلوبهم من النفاق ، فأوعدهم الله في هذه الآية فكتموه.

وأنبأني عبد الله بن حامد الأصفهاني عن عبد الله بن جعفر النساوي ، عن محمد بن أيّوب عن عبد الله بن يونس ، عن عمرو بن شهر ، عن أبان ، عن أنس قال : كان بين رجل وبين أبي بكر شيء ، فنال الرجل من أبي بكر ، فغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتّى غمر الدّم وجهه ، فقال : «ويحكم ، ذروا أصحابي وأصهاري ، احفظوني فيهم لأنّ عليهم حافظا من الله عزوجل ، ومن لم يحفظني فيهم تخلّى الله منه ، ومن تخلّى الله منه يوشك أن يأخذه» [٢٥].

(مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً).

(سُنَّةَ اللهِ) أي كسنّة الله (فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً. يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً. إِنَّ اللهَ لَعَنَ

٦٤

الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً. خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً).

قوله : (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) ظهرا لبطن حين يسحبون عليها. وقراءة العامّة بضمّ التاء وفتح اللام على المجهول. وروي عن أبي جعفر بفتح التاء واللام على معنى يتقلّب. وقرأ عيسى بن عمر (نقلب) بضم النون وكسر اللّام. (وُجُوهُهُمْ) نصبا.

(يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) في الدنيا (وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا) قادتنا ورؤسانا في الشرك والضلالة. وقرأ الحسن وابن عامر وأبو حاتم (ساداتنا) جمع بالألف وكسر التاء على جمع الجمع (فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا. رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ) أي مثلي عذابنا (وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) قرأ يحيى بن وثاب وعاصم (كَبِيراً) بالباء وهي قراءة أصحاب عبد الله.

وقرأ الباقون بالثاء ، وهي اختيار أبي حاتم وأبي عبيد ، ثمّ قالا : إنّا اخترنا الثاء لقوله : (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) (١) وقوله : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (٢) فهذا يشهد للكثرة.

وأخبرني أبو الحسين عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد بن يحيى قال : سمعت أبا الحسن عبد الله بن محمد بن جعفر بن شاذان البغدادي من حفظه إملاء يقول : سمعت محمد بن الحسن ابن قتيبة العسقلاني بعسقلان ورملة أيضا يقول : سمعت محمد بن أبي السري يقول : رأيت في المنام كأنّي في مسجد عسقلان وكان رجلا يناظرني وهو يقول : (وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) وأنا أقول كثيرا فإذا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان في وسط المسجد منارة لها باب ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقصدها فقلت : هذا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : السلام عليك يا رسول الله ، استغفر لي ، فأمسك عنّي فجئت عن يمينه فقلت : يا رسول الله ، استغفر لي فأعرض عنّي ، فقمت في صدره فقلت : يا رسول الله حدّثنا سفيان بن عيينة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله : أنّك ما سئلت شيئا قط فقلت : لا ، فتبسّم ، ثمّ قال : «اللهمّ اغفر له» ، فقلت : يا رسول الله ، إنّي وهذا نتكلّم في قوله : (وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) وهو يقول : (كَبِيراً) وأنا أقول : «كثيرا» ، قال : فدخل المنارة وهو يقول : كثيرا إلى أن غاب صوته عنّي. [٢٦] ، يعني بالثاء.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً (٦٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (٧١) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (٧٢) لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٣))

__________________

(١) سورة البقرة : ١٥٩.

(٢) سورة البقرة : ١٦١.

٦٥

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ) فطهّره الله سبحانه (مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً) كريما مقبولا ذا جاه ، واختلفوا فيما آذوا به موسى.

فأخبرنا محمّد بن عبد الله بن حمدون قال : أخبرني أبو حامد بن الشرفي ، عن محمد ويحيى بن عبد الرحمن بن بشير وأحمد بن يوسف قالوا : أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرني أبو بكر المطيري قال : أخبرني أبو جعفر أحمد بن عبد الله بن يزيد المؤدب ، عن عبد الرزاق ، عن معمر عن همام بن منبه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلّى الله عليه قال : «كان بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى سوأة بعض ، وكان موسى عليه‌السلام يغتسل وحده ، فقالوا : والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلّا أنّه آدر (١) ، فذهب مرّة يغتسل وحده فوضع ثوبه على الحجر ففرّ الحجر بثوبه فجمح في أثره يقول : ثوبي حجر ، ثوبي حجر حتى نظر بنو إسرائيل إلى سوأة موسى فقالوا : والله ما بموسى من بأس ، فقام الحجر من بعد ما نظروا إليه ، فأخذ ثوبه وطفق بالحجر ضربا» [٢٧] (٢).

قال أبو هريرة : إنّ بالحجر ندبا ستّة أو سبعة أثر ضرب موسى عليه‌السلام.

وروى الحسن وابن سيرين عن أبي هريرة في هذه الآية قال : قال رسول الله صلّى الله عليه : «إنّ موسى كان رجلا حيّيا ستيرا لا يكاد يري من جلده شيئا يستحيي منه ، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل فقالوا : ما يستر هذا الستر إلّا من عيب بجلده ، إمّا برص وإمّا برص وإمّا أدرة ، فأراد الله أن يبرئه ممّا قالوا : وإنّ موسى خلا يوما وحده ، فوضع ثوبه على حجر ثمّ اغتسل ، فلمّا فرغ من غسله أقبل على ثوبه ليأخذه بعد الحجر بثوبه ، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر ، وجعل يقول : ثوبي حجر ثوبي حجر ، حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل ، فنظروا إلى أحسن الناس خلقا وأعدلهم صورة ، وإنّ الحجر قام فأخذ ثوبه فلبسه ، فطفق بالحجر ضربا ، وقال الملأ : قاتل الله أفّاكي بني إسرائيل فكانت براءته التي برّأه الله منها» [٢٨] (٣).

وقال قوم : كان إيذاؤهم إيّاه ادّعاءهم عليه قتل أخيه هارون.

أخبرني عقيل بن محمد بن أحمد الفقيه أنّ المعافى بن زكريا القاضي أخبره عن محمد بن جرير بن يزيد الطبري ، حدّثني علي بن مسلم الطوسي ، عن عبّاد عن سفيان بن حصين ، عن الحكم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عبّاس ، عن علي بن أبي طالب في قول الله تعالى : (كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى ...) قال : صعد موسى وهارون الجبل فمات هارون ، فقال بنو إسرائيل : أنت قتلته ، وكان أشدّ حبّا لنا منك وألين لنا منك ، فآذوه بذلك ، فأمر الله الملائكة فحملته حتى مرّوا به على

__________________

(١) آدر : مصدره الادرة : رجل آدر يعني عفل وهي نفخة في الخصية.

(٢) صحيح البخاري : ١ / ٧٣ ، وصحيح مسلم : ٧ / ٩٩.

(٣) مسند أحمد : ٢ / ٥١٥ ، والمصنف لابن أبي شيبة : ٧ / ٤٥٥.

٦٦

بني إسرائيل ، وتكلّمت الملائكة بموته حتى عرف بنو إسرائيل أنّه مات ، فبرّأه الله من ذلك ، فانطلقوا به فدفنوه ، فلم يطّلع على قبره أحد من خلق الله إلّا الرّخم فجعله الله أصمّ أبكم.

وقال أبو العالية : هو أنّ قارون استأجر مومسة لتقذف موسى عليه‌السلام بنفسها على رأس الملأ ، فعصمها الله منه وبرّأ موسى من ذلك وأهلك هارون.

وقد مضت هذه القصّة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) أي حقّا قصدا. ابن عبّاس : صوابا.

قتادة ومقاتل : عدلا. المؤرخ : مستقيما. عكرمة : هو قول : (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ). ابن حيان : يعني قولوا في شأن زينب وزيد سديدا ولا تنسبوا رسول الله صلّى الله عليه إلى ما لا يحمل. (يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً).

قوله : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ) قيل : كان العرض على أعيان هذه الأشياء ، فأفهمهنّ الله خطابه وأنطقهنّ. وقيل : عرضها على من فيها من الملائكة.

وقيل : عرضها على أهلها كلّها دون أعيانها ، وهذا كقوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) (١) [أي أهلها].

(فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها) مخافة وخشية لا معصية ومخالفة ، وكان العرض تخييرا لا إلزاما (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) واختلفوا في الأمانة ، فقال أكثر المفسّرين : هي الطاعة والفرائض التي فرضها الله على عباده ، عرضها على السماوات والأرض والجبال ، إن أدّوها أثابهم وإن ضيّعوها عذّبهم ، فكرهوا ذلك وأشفقوا من غير معصية ، ولكن تعظيما لدين الله أن لا يقوموا بها وقالوا : لا ، نحن مسخّرات لأمرك لا نريد ثوابا ولا عقابا.

فقال الله تعالى لآدم : إنّي عرضت الأمانة على السماوات والأرض والجبال فلم يطقنها ، فهل أنت آخذها بما فيها؟ قال : يا ربّ وما فيها؟ قال : إن أحسنت جزيت ، وإن أسأت عوقبت ، فتحمّلها آدم صلوات الله عليه وقال : بين أذني وعاتقي ، فقال الله تعالى : أمّا إذا تحمّلت فسأعينك فاجعل لبصرك حجابا ، فإذا خشيت أن تنظر إلى ما لا يحلّ لك فأرخ عليه حجابه واجعل للسانك لحيين وغلقا ، فإذا خشيت فأغلق ، واجعل لفرجك لباسا فلا تكشفه على ما حرّمت عليك.

قالوا : فما لبث آدم إلّا مقدارا ما بين الظهر والعصر حتى أخرج من الجنّة. وقال مجاهد : الأمانة الفرائض وحدود الدين. وأبو العالية : هي ما أمروا به ونهوا عنه. وقال زيد بن أسلم وغيره : هي الصوم والغسل من الجنابة وما يخفى من شرائع الدين.

أنبأني عقيل بن محمد ، عن المعافى بن زكريا ، عن محمد بن جرير الطبري ، عن محمد بن خالد العسقلاني عن عبد الله بن عبد المجيد الحنفي قال : أخبرنا أبو العوام القطان عن قتادة

__________________

(١) سورة يوسف : ٨٢.

٦٧

وأبان بن أبي عبّاس عن خليد العصري عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلّى الله عليه : خمس من جاء بهنّ يوم القيامة مع إيمان دخل الجنّة : من حافظ على الصلوات الخمس على وضوئهن وركوعهن وسجودهنّ ومواقيتهنّ ، وأعطى الزكاة من ماله عن طيب نفس ـ وكان يقول : [وأيم] الله لا يفعل ذلك إلّا مؤمن ـ وأدّى الأمانة.

قالوا : يا أبا الدرداء ، وما أداء الأمانة؟ (١) قال : الغسل من الجنابة. قال : الله عزوجل لم يأتمن ابن آدم على شيء من دينه غيره (٢).

وبه عن ابن جرير عن ابن بشّار ، عن عبد الرحمن ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن أبيّ بن كعب قال : من الأمانة أنّ المرأة ائتمنت على فرجها.

وقال عبد الله بن عمر بن العاص : أول ما خلق الله تعالى من الإنسان فرجه ، وقال : هذه أمانة استودعتكها. فالفرج أمانة ، والأذن أمانة ، والعين أمانة ، واليد أمانة ، والرجل أمانة ، ولا إيمان لمن لا أمانة له.

وقال بعضهم : هي أمانات الناس ، والوفاء بالعهد ، فحق على كل مؤمن ألّا يغش مؤمنا ، ولا معاهدا في شيء قليل ولا كثير ، وهي رواية الضحاك عن ابن عباس ، وقال السدي بإسناده : هي ائتمان آدم ابنه قابيل على أهله وولده ، وخيانته إياه في قتل أخيه ـ وذكر القصة إلى أن قال ـ : قال الله عزوجل لآدم : يا آدم هل تعلم أنّ لي في الأرض بيتا؟ قال : اللهم لا.

قال : فإن لي بيتا بمكة فأته. فقال آدم للسماء : «احفظي ولدي بالأمانة» [٢٩] ، فأبت ، وقال للأرض فأبت ، وقال للجبال فأبت ، وقال لقابيل فقال : نعم تذهب وترجع تجد أهلك كما يسرك. فانطلق آدم عليه‌السلام ، فرجع وقد قتل قابيل هابيل ، فذلك قوله عزوجل : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ) يعني قابيل حين حمل أمانة آدم ثم لم يحفظ له أهله.

وقال الآخرون : (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) يعني آدم. ثم اختلفت عباراتهم في معنى (الظلوم) و (الجهول) ؛ فقال ابن عباس والضحاك : (ظَلُوماً) لنفسه (جَهُولاً) غرّا بأمر الله وما احتمل من الأمانة. قتادة : (ظَلُوماً) للأمانة (جَهُولاً) عن حقها. الكلبي : (ظَلُوماً) حين عصى ربه ، (جَهُولاً) لا يدري ما العقاب في تركه الأمانة. الحسين بن الفضل : (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) عند الملائكة لا عند الله.

(لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً).

__________________

(١) في المصدر : قيل : يا نبي الله

(٢) تفسير الطبري : ٢٢ / ٦٨ مورد الآية ، وكنز العمال : ١٥ / ٨٨٧ ح ٤٣٥١٣ ، ومجمع الزوائد : ١ / ٤٧.

٦٨

سورة سبأ

أخبرنا ابن المقرئ عن ابن مطيرة عن إبراهيم بن شريك عن أحمد بن يونس عن سلام بن سليم عن هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة سبأ لم يبق نبي ولا رسول إلّا كان يوم القيامة له رفيقا ومصافحا» [٣٠] (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٩))

قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) وهو الوصف بالجميل على جهة التعظيم (الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) كما هو له في الدنيا ؛ لأنّ النعم كلها في الدارين منه ، (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ).

قوله : (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) يدخل ويغيب فيها من الماء والموادّ والحيوانات ، (وَما يَخْرُجُ مِنْها)

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ٨ : ١٩٠.

٦٩

من النبات ، (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) من الأمطار ، (وَما يَعْرُجُ) يصعد (فِيها) : من الملائكة وأعمال العباد ، (وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ).

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) الساعة ، ثم عاد جلّ جلاله إلى تمجيده والثناء على نفسه ، فقال عز من قائل : (عالِمِ الْغَيْبِ) ، اختلف القراء فيها ، فقرأ يحيى والأعمش وحمزة والكسائي : (علّام الغيب) بخفض الميم على وزن فعال ، وهي قراءة عبد الله وأصحابه. قال الفراء : وكذلك رأيتها في مصحف عبد الله (علّام).

وقرأ أهل مكة والبصرة وعاصم بجر الميم على مثال فاعل ردا على قوله ، وهي اختيار أبي عبيد فيه ، وفي أمثاله يؤثر النعوت على الابتداء.

وقرأ الآخرون (عالمُ) رفعا بالاستئناف ؛ إذ حال بينهما كلام.

(لا يَعْزُبُ) يغيب ويبتعد (عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ) : وزن نملة ، وهذا مثل ؛ لأنه سبحانه لا يخفى عليه ما هو دون الذرة. (فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ * لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ. وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا) عملوا في إبطال أدلّتنا والتكذيب بكتابنا (مُعاجِزِينَ) : مسابقين يحسبون أنهم يفوتوننا.

قال ابن زيد : جاهدين ، وقرأ : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ) (١).

(أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) ، قرأ ابن كثير ويعقوب وعاصم برواية حفص والمفضل (أَلِيمٌ) بالرفع على نعت ال (عذاب). غيرهم بالخفض على نعت ال (رجز). قال قتادة : الرجز أسوأ العذاب ، ومثله في الجاثية (٢) (وَيَرَى) يعني : وليرى (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) يعني : مؤمني أهل الكتاب : عبد الله بن سلام وأصحابه ، وقال قتادة : هم أصحاب محمد عليه‌السلام.

(الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) يعني : القرآن (هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي) يعني : القرآن (إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) وهو الإسلام.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) منكرين للبعث متعجبين منه : (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ) : يخبركم ، يعنون : محمدا عليه‌السلام (إِذا مُزِّقْتُمْ) : قطعتم وفرقتم (كُلَّ مُمَزَّقٍ) وصرتم رفاتا (إِنَّكُمْ) بالكسر على الابتداء والحكاية ، مجازة يقول لكم : (إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ).

(أَفْتَرى) ألف الاستفهام دخلت على ألف الوصل لذلك نصب (عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) : جنون؟ قال الله تعالى : (بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ

__________________

(١) سورة فصلت : ٢٦.

(٢) يعني قوله تعالى : (لهم عذاب من رجز أليم) سورة الجاثية : ١١.

٧٠

أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) فيعلموا أنهم حيث كانوا ، فإن أرضي وسمائي محيطة بهم ، لا يخرجون من أقطارها ، وأنا لقادر عليهم ولا يعجزونني؟

(إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) قطعة. قراءة العامة بالنون في الثلث ، وقرأ الأعمش والكسائي كلها بالياء وهو اختيار أبي عبيد قال : لذكر الله عزوجل قبله (١).

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) تائب مقبل على ربه راجع إليه بقلبه.

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١))

قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ) مجازه وقلنا : يا جبال (أَوِّبِي مَعَهُ) : سبحي معه إذا سبح. قال أبو ميسرة : هو بلسان الحبشة ، وقال بعضهم : هو التفعيل من الإياب ، أي ارجعي معه بالتسبيح. فهذا معنى قول قتادة وأبي عبيد ، وقال وهب بن منبّه : نوحي معه.

(وَالطَّيْرَ) تساعدك على ذلك ، قال : وكان إذا نادى بالنياحة أجابته الجبال بصداها وعكفت الطير عليه من فوقه ، فصدى الجبال الذي يسمعه الناس من ذلك اليوم.

ويقال : إن داود كان إذا سبح الله جعلت الجبال تجاوبه بالتسبيح نحو ما يسبح. ثم إنه قال ليلة من الليالي في نفسه : «لأعبدن الله تعالى عبادة لم يعبده أحد بمثلها» ، فصعد الجبل ، فلما كان في جوف الليل وهو على الجبل دخلته وحشة ، فأوحى الله سبحانه إلى الجبال أن آنسي داود قال : فاصطكت الجبال بالتسبيح والتهليل ، فقال داود في نفسه : «كيف يسمع صوتي مع هذه الأصوات؟» فهبط عليه ملك فأخذ بعضده حتى انتهى به إلى البحر ، فركله برجله فانفرج له البحر ، فانتهى به إلى الأرض فركلها برجله فانفرجت له الأرض ، حتى انتهى به إلى الحوت فركلها برجله فتنحت عن صخرة فركل الصخرة برجله فانفلقت فمزجت منها دودة تنشز ، فقال له الملك : إن ربك يسمع نشيز هذه الدودة في هذا الموضع.

وقال القتيبي : أصله من التأويب في السير ، وهو أن يسير النهار كله وينزل ليلا.

قال ابن مقبل :

لحقنا بحي أوّبوا السير بعد ما

دفعنا شعاع الشمس والطرف مجنح

كأنه أراد ادأبي النهار كله بالتسبيح معه ، وقيل : سيري معه كيف يشاء : (وَالطَّيْرَ) قراءة العامة بالنصب ، وله وجهان :

__________________

(١) راجع تفسير القرطبي : ١٤ / ٢٦٤.

٧١

أحدهما بالفعل ، مجازه : وسخرنا له الطير ، مثل قولك : (أطعمته طعاما وماء) تريد : وسقيته ماء ، والوجه الآخر النداء كقولك : يا عمرو والصلت أقبلا ، نصبت الصلت ؛ لأنه إنما يدعى بيائها فإذا فقدتها كان كالمعدول عن جهته ، فنصب ، وقيل : مع الطير ، فتكون الطير مأمورة معه بالتأويب.

وروي عن يعقوب بالرفع ؛ ردا على الجبال أي (أَوِّبِي مَعَهُ) أنت والطيرُ ، كقول الشاعر :

ألا يا عمرو والضحاك سيرا

فقد جاوزتما خمر الطريق (١)

يجوز نصب الضحاك ورفعه.

قوله : (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) فذكر أن الحديد كان في يده كالطين المبلول والعجين والشمع ، يصرفه بيده كيف يشاء من غير إدخال نار ولا ضرب بحديد ، وكان سبب ذلك على ما روي في الأخبار أن داود عليه‌السلام لما ملك بني إسرائيل كان من عادته أن يخرج للناس متنكرا ، فإذا رأى رجلا لا يعرفه ، تقدم إليه يسأله عن داود ، فيقول له : «ما تقول في داود وإليكم هذا ؛ أي رجل هو؟» فيثنون عليه ويقولون : خيرا فينا هو.

فبينا هو في ذلك يوما من الأيام إذ قيّض الله ملكا في صورة آدمي ، فلما رآه داود تقدم إليه على عادته فسأله ، فقال له الملك : نعم الرجل هو لولا خصلة فيه. فراع داود ذلك وقال : «ما هي يا عبد الله؟» قال : إنه يأكل ويطعم عياله من بيت المال. قال : فتنبه لذلك ، وسأل الله تعالى أن يسبب له سببا يستغني به عن بيت المال فيتقوت منه ويطعم عياله ، فألان الله له الحديد فصار في يده مثل الشمع ، وعلمه صنعة الدروع ، وكان يتخذ الدروع وإنه أول من اتخذها.

فيقال : إنه كان يبيع كل درع منها بأربعة آلاف ، فيأكل ويطعم عياله منها ويتصدق منها على الفقراء والمساكين ، ويقال أيضا : إنما ألان الحديد في يده لما أعطي من القوّة.

(أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ) دروعا كوامل واسعات (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) ، أي لا تجعل المسامير دقاقا فتغلق ولا غلاظا فتكسر الحلق. فكان يفعل ذلك : وهو أول من اتخذ الدروع ، وكانت قبل ذلك صفائح ، والسرد : صنعة الدرع ، ومنه قيل لصانعها : السراد والزراد والدرع المسرودة ، قال أبو ذويب :

وعليهما مسرودتان قضاهما

داود أو صنع السوابغ تبّع

وأصله الوصل والنظم ، ومنه قيل للخرز : سرد وللأشفى مسرد وسراد. قال الشماخ :

كما تابعت سرد العنان الخوارز

__________________

(١) جامع البيان للطبري : ٢٢ / ٨١.

٧٢

وسرد الكلام.

(وَاعْمَلُوا) يعني داود وآله (صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

(وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (١٤))

قوله : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ) قراءة العامة بنصب الحاء ، أي وسخرنا لسليمان الريح ، وروى أبو بكر والمفضل عن عاصم بالرفع على جر حرف الصفة. (غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها) من انتصاف النهار إلى الليل مسير (شَهْرٌ) ، فجعل [ما] (١) تسير به في يوم واحد مسيرة شهرين ، وقال وهب : ذكر لي أن منزلا بناحية دجلة مكتوب فيه كتابة [كتبها] (٢) بعض صحابة سليمان عليه‌السلام ، إما من الجن وإما من الإنس بحرّ نزلناه وما بنيناه ، مبنيا وجدناه غدوناه من إصطخر فقلناه ونحن رائحون منه إن شاء الله فبائتون بالشام.

قال الحسن : لما شغلت نبي الله سليمان بن داود الخيل حتّى فاتته صلاة العصر غضب لله فعقر الخيل ، فأبدله الله تعالى مكانها خيرا وأسرع له ، تجري بأمره كيف يشاء (غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) وكان يغدو من إيليا فيقيل بإصطخر ثم يروح منها فيكون رواحها بكابل.

وقال ابن زيد : كان له عليه‌السلام مركب من خشب ، وكان فيه ألف ركن في كل ركن ألف بيت يركب معه فيه من الجن والإنس تحت كل ركن ألف شيطان يرفعون ذلك المركب ، فإذا ارتفع أتت الريح الرخاء فسارت به وبهم ، يقيل عند قوم بينه وبينهم شهر ويمسي عند قوم بينه وبينهم شهر ، فلا يدري القوم إلّا وقد أظلهم معه الجيوش.

ويروى أن سليمان عليه‌السلام سار من أرض العراق غاديا فقال بمدينة مرو ، وصلّى العصر بمدينة بلخ تحمله وجنوده الريح ويظلهم الطير ، ثم سار من مدينة بلخ متخللا بلاد الترك ، ثم جازهم إلى أرض الصين يغدو على مسيرة شهر ويروح على مثله. ثم عطف يمنة عن مطلع الشمس على ساحل البحر حتى أتى أرض القندهار ، وخرج منها إلى مكران وكرمان ثم جازها حتى أتى أرض فارس فنزلها أياما وغدا منها فقال بكسكر ، ثم راح إلى الشام ، وكان مستقره

__________________

(١) زيادة اقتضاها السياق.

(٢) في المخطوط : كتبه.

٧٣

بمدينة تدمر ، وقد كان أمر الشياطين قبل شخوصه من الشام إلى العراق ، فبنوها له بالصفاح والعمد والرخام الأبيض والأصفر ، وفي ذلك يقول النابغة :

ألا سليمان إذ قال الإله له

قم في البرية فاحددها عن الفند

وخيس الجن إني قد أذنت لهم

يبنون تدمر بالصفاح والعمد (١)

ووجدت هذه الأبيات منقورة في صخرة بأرض كسكر ، أنشأها بعض أصحاب سليمان بن داود عليهما‌السلام :

ونحن ولا حول سوى حول ربنا

نروح إلى الأوطان من أرض تدمر

إذا نحن رحنا كان ريث رواحنا

مسيرة شهر والغدوّ لآخر

أناس شروا لله طوعا نفوسهم

بنصر ابن داود النبي المطهّر

لهم في معالي الدين فضل ورفعة

وإن نسبوا يوما فمن خير معشر

متى يركبوا الريح المطيعة أسرعت

مبادرة عن شهرها لم تقصّر

تظلهم طير صفوف عليهم

متى رفرفت من فوقهم لم تنفر

قوله : (وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) : وأذبنا له عين النحاس أسيلت له ثلاثة أيام كما يسيل الماء ، وكانت بأرض اليمن ، وإنما ينتفع الناس اليوم بما أخرج الله لسليمان.

(وَمَنْ يَزِغْ) : يمل ويعدل (عَنْ أَمْرِنا) الذي أمرناه به من طاعة سليمان (نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ) في الآخرة. عن أكثر المفسرين ، وقال بعضهم : في الدنيا ، وذلك أن الله تعالى وكّل بهم ملكا بيده سوط من نار فمن زاغ عن أمر سليمان ضربه ضربة أحرقته.

(يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ) : مساجد ومساكن وقصور ، والمحراب : مقدم كل مسجد ، ومجلس وبيت. قال عدي :

كدمى العاج في المحاريب أو

كالبيض في الروض زهره [مستنير] (٢)

وكان مما عملوا له من ذلك بيت المقدس ، وقصته وصفته على ما ذكره أهل البصر بالسير أن الله تعالى بارك في نسل إبراهيم عليه‌السلام حتى جعلهم في الكثرة غاية لا يحصون ، فلما كان زمن داود عليه‌السلام لبث فيهم ثلاثين سنة بأرض فلسطين ، وهم كل يوم يزدادون كثرة ، فأعجب داود بكثرتهم فأمر بعدّهم ، فكانوا يعدون زمانا من الدهر حتى أيسوا وعجزوا أن يحيط علمهم بعدد بني إسرائيل ، فأوحى الله إلى داود : «إني قد وعدت أباك إبراهيم يوم أمرته بذبح

__________________

(١) تفسير الطبري : ١٣ / ١٢١ ؛ وتفسير القرطبي : ١٤ / ٢٦٩.

(٢) كذا في مصادر التفسير ، انظر تفسير الطبري : ٣ / ٢٣٣٥ : ٤٤٧ ، ٨ : ٣٨٢ ، وهو الصحيح وزنا ، وفي المخطوط : مستكبر.

٧٤

ولده فصدقني وائتمر أمري أن أبارك له في ذريته ، حتى يصيروا أكثر من عدد نجوم السماء وحتى لا يحصيهم العادّون ، وإني قد أقسمت أن أبتليهم ببلية يقل منها عددهم ويذهب عنك إعجابك بكثرتهم» وخيّره بين أن يعذبهم بالجوع والقحط ثلاث سنين ، وبين أن يسلط عليهم عدوهم ثلاثة أشهر ، وبين أن يرسل عليهم الطاعون ثلاثة أيام.

فجمع داود بني إسرائيل وأخبرهم بما أوحى الله إليه وخيره فيه ، فقالوا : أنت أعلم بما هو أيسر لنا وأنت نبينا فانظر لنا ، غير أن الجوع لا صبر لنا [عليه] وتسليط العدو أمر فاضح ، فإن كان لا بد فالموت. فأمرهم داود عليه‌السلام أن يتجهزوا للموت ، فاغتسلوا وتحنطوا ولبسوا الأكفان وبرزوا إلى الصعيد بالذراري والأهلين ، وأمرهم أن يضجّوا إلى الله تعالى ويتضرعوا إليه لعله (١) يرحمهم ، وذلك في صعيد بيت المقدس قبل بناء المسجد. قال : وارتفع داود عليه‌السلام فوق الصخرة فخرّ ساجدا يبتهل إلى الله تعالى فأرسل الله فيهم الطاعون. فأهلك منهم في يوم وليلة ما لم يتفرغوا من دفنهم إلّا بعد مدة شهرين. فلما أصبحوا من اليوم الثاني سجد داود وسجدوا معه إلى طلوع الشمس فلم يرفعوا رؤوسهم حتى كشف الله عنهم الطاعون.

قالوا : فلما أن شفّع الله تعالى داود في بني إسرائيل في ذلك المكان جمع داود بني إسرائيل بعد ثلاثة فقال لهم : «إن الله سبحانه قد منّ عليكم ورحمكم فجددوا له شكرا». فقالوا : كيف تأمرنا. قال : «آمركم أن تتخذوا من هذا الصعيد الذي رحمكم فيه مسجدا لا يزال فيه منكم وممن بعدكم ذاكر».

فلما أرادوا البناء جاء رجل صالح فقير يختبرهم ليعلم كيف إخلاصهم في ثبوتهم فقال لبني إسرائيل : إنّ لي فيه موضعا أنا محتاج إليه ولا يحل لكم أن تحجبوني عنه. فقالوا له : يا هذا ما أحد في بني إسرائيل إلّا وله في هذا الصعيد حق مثل حقك ، فلا تكن أبخل الناس ولا تضايقنا فيه. فقال : أنا لا أعرف حقي وأنتم لا تعرفون. فقالوا له : إما إن ترضى وتطيب نفسا ، وإلّا أخذناه كرها. فقال لهم : أو تجدون ذلك في حكم الله وفي حكم داود؟

قال : فرفعوا خبره إلى داود فقال : «أرضوه». فقالوا : بكم نأخذه يا نبي الله؟ قال : «خذوه بمائة شاة». فقال الرجل : زد. فقال داود : «بمائة بقر». قال : زد. قال : «مائة إبل». قال : زدني فإنّ ما تشتريه لله تعالى. فقال داود : «أما إذا قلت هذا ، فاحتكم أعطكه» فقال : تشتري مني بحائط مثله زيتونا ونخلا وعنبا. قال : «نعم». فقال : تشتريه لله فلا تبخل. قال : «سل ما شئت أعطكه ، وإن شئت أؤاجرك نفسي» قال : وتفعل ذلك يا نبي الله؟ قال : «نعم إذا شئت». قال : أنت أكرم على الله من ذلك ، ولكنك تبني حوله جدارا مشرفا ثم تملؤه ذهبا ، وإن شئت ورقا. قال داود : «هو هين».

__________________

(١) في المخطوط زيادة : «أن».

٧٥

فالتفت الرجل إلى بني إسرائيل وقال : هذا هو التائب المخلص. ثم قال لداود : يا نبي الله لئن يغفر الله لي ذنبا واحدا أحبّ إلي من كل شيء وهبته لي ، ولكني كنت أجرّبكم.

فأخذوا في بناء بيت المقدس ، وكان داود عليه‌السلام ينقل لهم الحجارة على عاتقه وكذلك خيار بني إسرائيل حتى رفعوه قامة. فأوحى الله تعالى إلى داود عليه‌السلام : «إنّ هذا بيت مقدّس وإنك رجل سفاك للدماء فلست ببانيه إذا لم أقضي ذلك على يدك ، ولكن ابن لك أملكه بعدك اسمه سليمان ، أسلّمه من سفك الدماء وأقضي إتمامه على يده ، وذلك صيته وذكره لك باقيا» (١).

فصلوا فيه زمانا ، وداود يومئذ ابن سبع وعشرين ومائة سنة ، فلما صار من أبناء أربعين ومائة سنة توفّاه الله واستخلف سليمان. فأحبّ بناء بيت المقدس ، فجمع الجن والشياطين وقسم عليهم الأعمال فخص كل طائفة منهم بعمل يستصلحها له. فأرسل الجن والشياطين في تحصيل الرخام والمها الأبيض الصافي من معادنه ، وأمر ببناء المدينة بالرخام والصفاح ، وجعلها اثني عشر ربضا ، وأنزل كل ربض منها سبطا من الأسباط وكانوا اثني عشر سبطا.

فلما فرع من بناء المدينة ابتدأ في بناء المسجد ، فوجّه الشياطين فرقا ، يستخرجون الذهب والفضة والياقوت من معادنها والدر الصافي من البحر ، وفرقا يقلعون الجواهر والحجارة من أماكنها ، وفرقا يأتونه بالمسك والعنبر ، فأتي من ذلك بشيء لا يحصيه إلّا الله تعالى ، ثم أحضر الصنّاعين وأمرهم بنحت تلك الحجارة المرتفعة وتصييرها ألواحا ، وإصلاح تلك الجواهر وثقب اليواقيت واللئالئ فكانوا يعالجونها ، فتصوّت صوتا شديدا لصلابتها ، فكره سليمان تلك الأصوات. فدعا الجن وقال لهم : «هل عندكم حيلة في نحت هذه الجواهر من غير تصويت؟».

فقالوا : يا رسول الله ، ليس في الجن أكثر تجارب ، ولا أكثر علما من صخر العفريت ، فأرسل إليه من يأتيك به. فطبع سليمان خاتمه طابعا ـ وكان يطبع للشياطين بالنحاس ، ولسائر الجن بالحديد ـ وكان إذا طبع أحد هما بخاتمه لمع ذلك كالبرق الخاطف ، فكان لا يراه أحد : جني ولا شيطان إلّا انقاد له بإذن الله عزّت قدرته.

فأرسل الطابع مع عشرة من الجن فأتوه وهو في بعض جزائر البحور ، فأروه الطابع ، فلما نظر إليه كاد يصعق خوفا ، فأقبل مسرعا مع الرسل حتى دخل على سليمان عليه‌السلام. فسأل سليمان رسله عما أحدث العفريت في طريقه. فقالوا : يا رسول الله إنه كان يضحك بعض الأحايين من الناس. فقال له سليمان عليه‌السلام : «ما رضيت بتمردك عليّ في ترك المجيء إليّ طائعا حتى صرت تسخر بالناس؟».

__________________

(١) بتفاوت في تفسير مجمع البيان : ٨ / ٢٠٣.

٧٦

فقال : يا نبي الله إني لم أسخر منهم غير أن ضحكي كان تعجّبا مما كنت أسمع وأرى في طريقي. فقال سليمان : «وما ذاك؟».

قال : اعلم أني مررت برجل على شط نهر ومعه بغلة يريد سقيها ومعه جرة يريد أن يستقي فيها ، فسقى البغلة وملأ الجرة ، ثم أراد أن يقضي حاجته فشد البغلة بإذن الجرة فنفرت البغلة وجرت الجرة فكسرتها ، فضحكت من حمق الرجل حيث توهم أن الجرة تحبس البغلة (١).

ومررت برجل وهو جالس عند إسكاف يستعمله في إصلاح خف له ، فسمعته يشترط معه أن يصلحه بحيث يبقى معه أربع سنين ونسي نزول الموت به قبله ، فضحكت من غفلته وجهله.

ومررت بعجوز تتكهن وتخبر الناس بما لا يعلمون من أمر السماء ، وقد كنت عهدت رجلا دفن في موضع فراشها ذهبا كثيرا في الدهور الخالية ، فرأيتها تموت جوعا وتحت فراشها ذهب كثير لا تعلم بمكانه ، ثم تخبر الناس عن أمر السماء فضحكت منها.

ومررت برجل في بعض المدن ، وقد كان به داء فيما قيل فأكل البصل فبرأ من دائه ، فصار يتطبّب للناس ، فكان لا يأتيه أحد يسأله عن علّة إلّا أمره بأكل البصل وإنه لأضرّ شيء ، حتى إنّ ضره ليصل إلى الدماغ ، فضحكت منه.

ومررت ببعض الأسواق فرأيت الثوم وهو أفضل الأدوية كلّها يكال كيلا ، ورأيت الفلفل وهو أحد السموم القاتلة يوزن وزنا فضحكت من ذلك.

ومررت بناس قد جلسوا يبتهلون إلى الله تعالى ويسألونه المغفرة والرحمة ، فملّ منهم قوم وقاموا ، وجاء آخرون وجلسوا فرأيت الرحمة قد نزلت عليهم ، فأخطأت الذين كانوا من أهل المجلس ، وغشيت الذين جاءوا فجلسوا ، فضحكت ؛ تعجبا للقضاء والقدر.

قالوا : فقال سليمان له : هل عرفت في كثرة تجاربك وجولاتك في البر والبحر شيئا تنحت به هذه الجواهر فتلين فيسهل نحتها وثقبها فلا تصوت؟ فقال : نعم يا نبي الله ، أعرف حجرا أبيض كاللبن يقال له السامور غير أني لا أعرف معدنه الذي هو فيه ، وليس في الطير شيء هو أحيل ولا أهدى من العقاب. فمر بعقاب أن تجعل فراخه في صندوق حجر معه ليلة ، ثم تسرّح ذلك العقاب وتترك فراخه في الصندوق فإنه سيأتي بذلك الحجر فيضرب به ظهر الصندوق حتى ينقبه به ليصل إلى فراخه.

قال : فأمر سليمان بعقاب مع فراخه فجعله في صندوق من حجر يوما وليلة ، ثم سرح العقاب دون الفراخ ، فمرّ العقاب وجاء بذلك الحجر بعد يوم وليلة ، وثقب به الصندوق حتى

__________________

(١) تاريخ الطبري : ٥ / ١٣٦.

٧٧

وصل إلى فراخه. فوجه سليمان مع العقاب نفرا من الجن حتى أتوه به منه قدر ما علم أن فيه كفاية ، واستعمل ذلك في أدوات الصناعين ، فسهل عليهم نحتها من غير تصويت وهو الحجر الذي يستعمل في نقش الخواتيم وثقب الجواهر إلى اليوم ، وهو حجر عزيز ثمين.

قال : فبنى سليمان عليه‌السلام المسجد بالرخام الأبيض والأصفر والأخضر ، وعمّده بأساطين المها الصافي ، وسقفه بألواح الجواهر الثمنية وفصّص سقوفه وحيطانه باللآلئ واليواقيت وسائر الجواهر ، وبسط أرضه بألواح الفيروزج ، فلم يكن يومئذ بيت في الأرض أبهى ولا أنور من ذلك المسجد ، كان يضيء في الظلمة كالقمر ليلة البدر.

فلما فرغ منه جمع إليه أخيار بني إسرائيل فأعلمهم أنه بناه لله وأنّ كل شيء فيه خالص لله ، واتخذ ذلك اليوم الذي فرغ منه عيدا.

وقالوا : من أعاجيب ما اتخذ سليمان عليه‌السلام ببيت المقدس أن بنى بيتا وطيّن حائطه بالخضرة وصقله ، فكان إذا دخله الورع البرّ استبان خياله في ذلك الحائط أبيض ، وإذا دخله الفاجر استبان فيه خياله أسود. فارتدع عند ذلك كثير من الناس عن الفجور والخيانة.

ونصب في زاوية من زوايا المسجد عصا أبنوس ، فكان من مسها من أولاد الأنبياء لم يضره مسها ، ومن مسها من غيرهم احترقت يده.

وروى الأوزاعي عن ربيعة بن يزيد عن عبد الله بن الديلمي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس سأل ربه ثلاثا فأعطاه اثنين وأنا أرجو أن يكون قد أعطاه الله الثالثة : سأله حكما يصادف حكمه فأعطاه إياه ، وسأله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه ، وسأله أن لا يأتي هذا البيت أحد يصلي فيه ركعتين إلّا خرج من ذنوبه كهيئة يوم ولدته أمه وأنا أرجو أن يكون قد أعطاه ذلك» [٣١] (١).

قالوا : فلم يزل بيت المقدس على ما بناه سليمان عليه‌السلام حتى غزا نبوخذ نصر فخرب المدينة وهدمها ، ونقض المسجد ، وأخذ ما كان في سقوفه وحيطانه من الذهب والفضة والدر والياقوت وسائر الجواهر ، فحمله معه إلى دار مملكته من أرض العراق.

قال سعيد بن المسيب : لما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس تغلّقت أبوابه ، فعالجها سليمان فلم تنفتح ، حتى قال في دعائه : «بصلوات أبي داود إلّا فتحت الأبواب».

ففتحت ففرغ له سليمان عشرة آلاف من قرّاء بني إسرائيل : خمسة آلاف بالليل ، وخمسة آلاف بالنهار ، فلا تأتي ساعة من ليل ولا نهار إلّا والله يعبد فيها.

__________________

(١) المستدرك : ٢ / ٤٣٤ ، مع تفاوت يسير.

٧٨

(وَتَماثِيلَ) أي صور ، كانوا يعملون التماثيل من نحاس وصفر وشبه وزجاج ورخام في المساجد تماثيل الملائكة والنبيين الصالحين ؛ لكي إذا رآهم الناس مصورين عبدوا عبادتهم.

(وَجِفانٍ) أي قصاع ، واحدها جفنة (كَالْجَوابِ) كالحياض التي يجبى فيها الماء ، أي يجمع ، واحدها جابية.

قال الأعشى ميمون بن قيس :

تروح على آل مخلق جفنة

كجابية الشيخ العراقي تفهق

أخبرنا أبو بكر الحمشاوي قال : أخبرني أبو بكر القطيعي إبراهيم بن عبد الله بن مسلم قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم قال : حدثنا سهل السرّاج قال : سمعت الحسن يقول : (وَجِفانٍ كَالْجَوابِ) مثل حياض الإبل ، ويقال : إنه كان يجتمع على جفنة واحدة ألف رجل يأكلون بين يديه.

(وَقُدُورٍ راسِياتٍ) : ثابتات لا يحوّلن ولا يحركن من أماكنهن لعظمتهن ، ولا ينزلن ولا يعطلن وكانت باليمن ، ومنه قيل للجبال : رواسي (اعْمَلُوا) أي وقلنا : اعملوا (آلَ داوُدَ شُكْراً) مجازه : (اعْمَلُوا) بطاعة الله يا (آلَ داوُدَ شُكْراً) له على نعمه ، و (شُكْراً) في محل المصدر.

(وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) أرسل حمزة (الياء) وفتحها الباقون. قال القرظي : الشكر : تقوى الله والعمل بطاعته.

وحدثونا عن محمد بن يعقوب قال : حدثنا الحصر بن أبان قال : حدّثنا سيار قال : حدّثنا جعفر بن سليمان قال : سمعت ثابتا يقول : كان داود نبي الله عليه‌السلام قد جزّأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم يكن بأي ساعة من ساعات الليل والنهار إلّا وإنسان من آل داود قائم يصلي ، فعمهم الله تعالى في هذه الآية (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً).

(فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ) قال المفسرون : كان سليمان عليه‌السلام يتحرز في بيت المقدس السنة والسنتين والشهر والشهرين ، وأقل من ذلك وأكثر ، يدخل فيه طعامه وشرابه ، فأدخله في المرة التي مات فيها وكان بدوّ ذلك أنه لم يكن يوم يصبح فيه إلّا نبتت في بيت المقدس شجرة فيسألها : «ما اسمك؟» فتقول الشجرة : اسمي كذا وكذا ، فيقول لها : «لأيّ شيء أنت؟» فتقول : لكذا وكذا ، فيأمر بها فتقطع. فإن كانت نبتت لغرس غرسها وإن كانت لدواء كتب.

فبينما هو يصلي ذات يوم إذ رأى شجرة بين يديه ، فقال لها : «ما اسمك؟». قالت : الخروبة. قال : «ولأيّ شيء نبتّ؟» قالت : لخراب هذا المسجد. فقال سليمان : «ما كان الله ليخربه وأنا حي ، أنت التي على وجهك هلاكي ، وخراب بيت المقدس». فنزعها وغرسها في حائط له ثم قال : «اللهم عمّ على الجن موتي حتى يعلم الإنس أنّ الجن لا يعلمون الغيب» ـ

٧٩

وكانت الجن تخبر الإنس أنهم يعلمون من الغيب أشياء وإنهم يعلمون ما في غد ـ ثم دخل المحراب فقام يصلي متكئا على عصاه فمات.

قال ابن زيد : قال سليمان لملك الموت : «إذا أمرت بي فاعلمني». قال : فأتاه فقال : «يا سليمان قد أمرت بك ، وقد بقيت لك سويعة».

فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحا من قوارير ليس له باب ، فقام يصلي واتكأ على عصاه ، فدخل عليه ملك الموت فقبض روحه وهو متّكئ على عصاه.

وفي رواية أخرى : أنّ سليمان عليه‌السلام قال ذات يوم لأصحابه : «قد آتاني الله من الملك ما ترون ، وما مرّ عليّ يوم في ملكي بحيث صفا لي من الكدر ، وقد أحببت أن يكون لي يوم واحد يصفو لي إلى الليل ، ولا أغتم فيه ولكن ذلك اليوم غدا».

فلما كان من الغد دخل قصرا له وأمر بإغلاق أبوابه ، ومنع الناس من الدخول عليه ، ورفع الأخبار إليه لئلا يسمع ذلك اليوم شيئا يسوؤه ، ثم أخذ عصاه بيده ، وصعد فوق قصره واتكأ على عصاه ينظر في ممالكه ، إذ نظر إلى شاب حسن الوجه عليه ثياب بيض قد خرج عليه من جانب من جوانب قصره ، فقال : «السلام عليك يا سليمان». فقال : «وعليك السلام ، كيف دخلت هذا القصر ، وقد منعت من دخوله؟ أما منعك البوّاب والحجّاب؟ أما هبتني حيث دخلت قصري بغير إذني؟» فقال : «أنا الذي لا يحجبني حاجب ، ولا يدفعني بوّاب ولا أهاب الملوك ، ولا أقبل الرشا وما كنت لأدخل هذا القصر بغير إذن» قال سليمان : «فمن أذن لك في دخوله؟» قال : «ربه».

فارتعد سليمان وعلم أنه ملك الموت ، فقال له : «أنت ملك الموت؟» قال : «نعم» ، قال : «فبمّ جئت؟».

قال : «جئت لأقبض روحك». قال : «يا ملك الموت هذا يوم أردت أن يصفو لي ولا أسمع فيه ما يغمني». قال : «يا سليمان ، إنّك أردت يوما يصفو لك فيه عيشك حتى لا تغتم فيه ، ذلك اليوم لم يخلق في أيام الدنيا فارض بقضاء ربك فإنه لا مرد له».

قال : «فامض لما أمرت به».

فقبض ملك الموت روحه وهو متكئ على عصاه. قالوا : وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه ومصلاه أينما كان ، فكان للمحراب كوى بين يديه وخلفه ، وكان الشيطان الذي يريد أن يخرج يقول : ألست جليدا إن دخلت فخرجت من ذلك الجانب ، فيدخل حتى يخرج من الجانب الآخر. فدخل شيطان من أولئك فمر ولم يسمع صوت سليمان ، ثم رجع فلم يسمع ، ثم رجع فوقع في البيت فلم يحترق فنظر إلى سليمان وقد سقط ميتا ، فخرج فأخبر الناس أن سليمان قد مات ، ففتحوا عنه فأخرجوه ووجدوا منسأته ـ وهي العصا بلسان الحبشة ـ قد أكلتها الأرضة ،

٨٠