الكشف والبيان - ج ٨

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ٨

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

١
٢

٣
٤

سورة الأحزاب

مدنية ، وهي خمسة آلاف وسبعمائة وتسعون حرفا ،

وألف ومائتان وثمانون كلمة ، وثلاث وسبعون آية.

أخبرني محمد بن القاسم بن أحمد بقراءتي عليه قال : حدّثنا عبد الله بن أحمد بن جعفر قال : أخبرني أبو عمرو الحميري وعمرو بن عبد الله البصري قالا : قال محمد بن عبد الوهاب العبدي ، عن أحمد بن عبد الله بن يونس ، عن سلام بن سليم ، عن هارون بن كثير ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن [أبي أمامة] عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلّى الله عليه : «من قرأ سورة الأحزاب وعلّمها أهله وما ملكت يمينه أعطي الأمان من عذاب القبر» [١] (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٣) ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥))

قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ) الآية نزلت في أبي سفيان بن حرب ، وعكرمة بن أبي جهل ، وأبي الأعور عمرو بن [أبي] سفيان السلمي ، وذلك أنّهم قدموا المدينة فنزلوا على عبد الله بن أبي رأس المنافقين بعد قتال أحد ، وقد أعطاهم النبيّ صلّى الله عليه الأمان على أن يكلّموه ، فقام معهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح وطعمة بن أبيرق ، فقال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعنده عمر ابن الخطّاب : ارفض ذكر آلهتنا اللات والعزّى ومنات وقل : إنّ لها شفاعة ومنفعة لمن عبدها وندعك وربّك ، فشقّ على النبي صلّى الله عليه قولهم ، فقال عمر بن الخطّاب : ائذن لنا يا رسول

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ٨ / ١١٥.

٥

الله في قتلهم ، فقال النبي عليه‌السلام : «إنّي قد أعطيتهم الأمان» [٢] ، فقال عمر بن الخطّاب : اخرجوا في لعنة الله وغضبه ، فأمر النبيّ صلّى الله عليه عمر أن يخرجهم من المدينة فأنزل الله عزوجل (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ]) (١) [٣].

(وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) من أهل مكّة يعني أبا سفيان وأبا الأعور وعكرمة (وَالْمُنافِقِينَ) عبد الله بن أبي وعبد الله بن سعد وطعمة بن أبيرق.

(إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً. وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) بالياء. أبو عمرو ، وغيره بالتاء.

(وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) أخبرني ابن فنجويه ، عن موسى بن علي [عن الحسن ابن علويه] ، عن إسماعيل بن عيسى ، عن المسيب ، عن شيخ من أهل الشام قال : قدم على رسول الله صلّى الله عليه وفد من ثقيف فطلبوا إليه أن [يمتعهم] باللات والعزّى سنة وقالوا : لتعلم قريش منزلتنا منك ، فهمّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك (٢) ، فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ) الآيات.

قوله : (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) نزلت في أبي معمر جميل [بن معمر] بن حبيب بن عبد الله الفهري ، وكان رجلا لبيبا حافظا لما يسمع ، فقالت قريش : ما حفظ أبو معمر هذه الأشياء إلّا وله قلبان. وكان يقول : إنّ لي قلبين أعقل بكلّ واحد منهما أفضل من عقل محمّد ، فلمّا كان يوم بدر وهزم المشركون وفيهم يومئذ أبو معمر تلقّاه أبو سفيان بن حرب ، وهو معلّق إحدى نعليه بيده والأخرى في رجله ، فقال له : يا أبا معمر ما حال الناس؟ قال : انهزموا ، قال : فما بالك إحدى نعليك في يدك والأخرى في رجلك ، فقال له أبو معمر : ما شعرت إلّا أنّهما في رجلي ، فعرفوا يومئذ أنّه لو كان له قلبان لما نسي نعله في يده (٣).

وقال الزهري ومقاتل : هذا مثل ضربه الله للمظاهر من امرأته ، وللمتبنّي ولد غيره ، يقول : فكما لا يكون لرجل قلبان كذلك لا تكون امرأة المظاهر أمّه حتى يكون له أمّان ، ولا يكون ولد أحد ابن رجلين.

قوله : (وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي) قرأ أبو جعفر وأبو عمر وورش اللَّاء بغير مدّ ولا همز ، ممدودة مهموزة بلا ياء ، نافع غير ورش وأيّوب ويعقوب والأعرج ، وأنشد :

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي : ٢٣٦.

(٢) معاذ للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يهمّ بذلك ، إما لأنه لا ينطق عن الهوى ، وإما لأنه ينافي التوحيد فكيف يرضى بعبادة غير الله تعالى.

(٣) مجمع البيان : ٨ / ١١٧.

٦

من اللّاء لم يحججن يبغين حسبة

ولكن ليقتلن البريء المغفّلا (١)

وقرأ أهل الكوفة والشام بالمدّ والهمز وإثبات الياء واختاره أبو عبيد للإشباع واختلف فيه ، عن ابن كثير وكلّها لغات معروفة (تُظاهِرُونَ) بفتح التاء وتشديد الظاء شامي. بفتح التاء وتخفيف الظاء كوفي غير عاصم ، واختاره أبو عبيد بضمّ التاء وتخفيف الظاء وكسر الهاء عاصم والحسن.

قال أبو عمرو : هذا منكر لأنّ المظاهرة من التعاون والآية نزلت في أوس بن الصامت بن قيس بن أصرم أخي عبادة ، وفي امرأته خولة بنت ثعلبة بن مالك يقول الله تعالى : ما جعل نساءكم اللاتي تقولون : هنّ علينا كظهور أمّهاتنا في الحرام كما تقولون ، ولكنّها منكم معصية وفيها كفّارة وأزواجكم لكم حلال ، وسنذكر القصّة والحكم في سورة المجادلة إن شاء الله.

قوله : (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ) يعني من تبنّيتموه (أَبْناءَكُمْ) نزلت في زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي من بني عبد ودّ ، كان عبدا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأعتقه وتبنّاه قبل الوحي ، وآخى بينه وبين حمزة بن عبد المطّلب في الإسلام ، فجعل الفقير أخا للغني ليعود عليه ، فلمّا تزوّج النبي صلّى الله عليه زينب بنت جحش الأسدي وكانت تحت زيد بن حارثة ، فقالت اليهود والمنافقون : تزوج محمّد امرأة ابنه وهو ينهى الناس عنها ، فأنزل الله عزوجل هذه الآيات وقال : (ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) ولا حقيقة له ، يعني قولهم : زيد ابن محمّد (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ. ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) الذين ولدوهم (هُوَ أَقْسَطُ) أعدل (عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) أي فهم إخوانكم (فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ) إن كانوا محرريكم وليسوا ببنيكم.

أنبأني عقيل بن محمد الجرجاني ، عن المعافى بن زكريا ، عن محمد بن جرير قال : حدّثني يعقوب بن إبراهيم ، عن ابن علية عن عيينة بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، قال : قال أبو بكر : قال الله تعالى : (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ) فأنا ممّن لا يعرف أبوه ، وأنا من إخوانكم في الدين. قال : قال أبي إنّي لأظنّه لو علم أنّ أباه كان حمارا لانتمى إليه (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) قبل النهي ، فنسبتموه إلى غير أبيه ، وقال قتادة : يعني أن تدعوه لغير أبيه وهو يرى أنّه كذلك (وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) فنسبتموه إلى غير أبيه بعد النهي ، وأنتم تعلمون أنّه ليس بابنه. ومحلّ ما في قوله : (ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) خفض ردّا على (ما) التي في قوله : (فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) ومجازه : ولكن في (ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من ادّعى إلى غير أبيه أو إلى غير أهل نعمته فعليه (لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)» [٤] (٢).

__________________

(١) لسان العرب : ١٥ / ٤٤٥ ، تفسير القرطبي : ٥ / ١٠٨.

(٢) صحيح مسلم : ٤ / ١١٥ بتفاوت ، سنن ابن ماجة : ٢ / ٩٠٥ ، سنن أبي داود : ٢ / ٥٠٢.

٧

وأخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون ، عن أحمد بن محمد بن الحسن ، عن محمد بن يحيى قال : أخبرني أبو صالح ، حدّثني الليث ، حدّثني عبد الرحمن بن خالد ، عن ابن شهاب ، عن عروة بن الزبير وعمرة بنت عبد الرحمن ، عن عائشة أنّ أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ـ كان ممّن شهد بدرا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ تبنّى سالما وأنكحه ابنة أخيه هند بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة ، وهو مولى لامرأة من الأنصار فتبنّاه ، كما تبنّى رسول الله صلّى عليه زيدا وكان من تبنّى رجلا في الجاهلية دعاه الناس إليه وورث من ميراثه حتّى نزلت (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) الآية.

(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٦) وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (٨))

قوله عزوجل : (النَّبِيُّ أَوْلى) أحقّ (بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أن يحكم فيهم بما شاء فيجوز حكمه عليهم.

قال ابن عبّاس وعطا : يعني إذا دعاهم النبيّ عليه‌السلام إلى شيء ودعتهم أنفسهم إلى شيء كانت طاعة النبيّ أولى بهم من طاعة أنفسهم ، وقال مقاتل : يعني طاعة النبي عليه‌السلام أولى من طاعة بعضكم لبعض ، وقال ابن زيد : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) كما أنت أولى بعبدك ، فما قضى فيهم من أمر ، جار ، كما أنّ كلّ ما قضيت على عبدك جار. وقيل : إنّه عليه‌السلام أولى بهم في إمضاء الأحكام وإقامة الحدود عليهم لما فيه من مصلحة الخلق والبعد من الفساد. وقيل : إنّه أولى بهم في الحمل على الجهاد وبذل النفس دونه ، وقالت الحكماء : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) ، لأنّ أنفسهم تدعوهم إلى ما فيه هلاكهم ، والنبيّ يدعوهم إلى ما فيه نجاتهم ، وقال أبو بكر الورّاق : لأنّ النبيّ يدعوهم إلى العقل ، وأنفسهم تدعوهم إلى الهوى ، وقال بسام بن عبد الله العراقي : لأنّ أنفسهم تحترس من نار الدّنيا ، والنبيّ يحرسهم من نار العقبى.

وروى سفيان عن طلحة عن عطاء عن ابن عبّاس أنّه كان يقرأ (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) وهو أب لهم.

وروى سفيان عن عمرو عن بجالة أو غيره قال : مرّ عمر بن الخطّاب بغلام وهو يقرأ في المصحف (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ، وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) وهو أب لهم. فقال : يا غلام حكّها. قال : هذا مصحف أبي ، فذهب إليه فسأله ، فقال : إنّه كان يلهيني القرآن ويلهيك الصفق

٨

في الأسواق. وقال عكرمة : أخبرت أنّه كان في الحرف الأوّل : وهو أبوهم.

أخبرني أبو عبد الله بن فنجويه الدينوري قال : أخبرني أبو بكر بن مالك القطيعي ، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل ، عن أبي قال : أخبرني أبو عامر وشريح قالا : قال [فليح] بن سليمان ، عن هلال بن علي عن عبد الرحمن بن أبي عميرة ، عن النبيّ صلّى الله عليه ، قال : «ما من مؤمن إلّا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة ، اقرؤا إن شئتم (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) فأيّما مؤمن هلك (١) وترك مالا فليرثه عصبته من كانوا ، وإن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فإنّي أنا مولاه» [٥] (٢).

(وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) يعني كأمّهاتهم في الحرمة ، نظيره قوله تعالى : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) (٣) أي كالسماوات ، وإنّما أراد الله تعالى تعظيم حقّهن وحرمتهن ، وإنّه لا يجوز نكاحهن لا في حياة النبيّ صلّى الله عليه إن طلّق ولا بعد وفاته ، هنّ حرام على كلّ مؤمن كحرمة أمّه ، ودليل هذا التأويل أنّه لا يحرم على الولد رؤية الأمّ ، وقد حرّم الله رؤيتهنّ على الأجنبيين ، ولا يرثنّهم ولا يرثونهنّ ، فعلموا أنّهن أمّهات المؤمنين من جهة الحرمة ، وتحريم نكاحهنّ عليهم.

روى سفيان ، عن خراش ، عن الشعبي ، عن مسروق قال : قالت امرأة لعائشة : يا أمّاه ، فقالت : أنا لست بأمّ لك إنّما أنا أمّ رجالكم.

قوله : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) يعني في الميراث.

قال قتادة : كان المسلمون يتوارثون بالهجرة ، وكان لا يرث الأعرابي المسلم من المهاجر شيئا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وخلط المؤمنين بعضهم ببعض فصارت المواريث بالملك والقرابات.

وقال الكلبي : آخى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين الناس ، وكان يؤاخي بين الرجلين ، فإذا مات أحدهما ورثه الباقي منهما دون عصبته وأهله ، فمكثوا بذلك ما شاء الله حتّى نزلت هذه الآية : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الذين آخى رسول الله بينهم (وَالْمُهاجِرِينَ) فنسخت هذه الآية الموارثة بالمؤاخاة والهجرة ، وصارت للأدنى فالأدنى من القرابات ، وقيل : أراد إثبات الميراث بالإيمان والهجرة.

ثمّ قال : (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) يعني : إلّا أن توصوا لذوي قرابتكم من

__________________

(١) في المصدر : مات.

(٢) مسند أحمد : ٢ / ٣٣٤ ، وصحيح البخاري : ٣ / ٨٥ ط. اسلامبول ١٤٠١ ه‍.

(٣) سورة آل عمران : ١٣٣.

٩

المشركين فتجوز الوصية لهم ، وإن كانوا من غير أهل الإيمان والهجرة ، وهذا قول محمد بن الحنفية وقتادة وعطاء وعكرمة. وقال ابن زيد ومقاتل : يعني : إلّا أن توصوا لأوليائكم من المهاجرين. وقال مجاهد : أراد بالمعروف النصرة وحفظ الحرمة لحقّ الإيمان والهجرة (كانَ ذلِكَ) الذي ذكرت من أنّ (أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) ، وأنّ المشرك لا يرث المسلم (فِي الْكِتابِ) في اللوح المحفوظ (مَسْطُوراً) مكتوبا. وقال القرظي : في التوراة.

قوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ) على الوفاء بما حمّلوا ، وأن يبشر بعضهم ببعض ويصدّق بعضهم بعضا. (وَمِنْكَ) يا محمّد (وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) وإنّما خصّ هؤلاء الخمسة بالذكر في هذه الآية لأنّهم أصحاب الشرائع والكتب وأولو العزم من الرسل وأئمّة الأمم.

(وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) أخبرنا الحسين بن محمد ، عن عبيد الله بن أحمد بن يعقوب المقرئ ، عن محمد بن محمد بن سليمان الباغندي ، عن هارون بن محمد بن بكار ، عن أبيه عن سعيد يعني ابن بشير ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه قال : «كنت أوّل النّبيّين في الخلق ، وآخرهم في البعث» [٦] (١) ، قال : وذلك قول الله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) فبدأ به صلّى الله عليه قبلهم. (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (١٣) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (١٤) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً (١٥) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧))

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) الآية ، وذلك حين حوصر المسلمون مع رسول الله صلّى الله عليه أيّام الخندق (إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ) يعني الأحزاب ، قريش وغطفان

__________________

(١) الدر المنثور : ٥ / ١٨٤.

١٠

ويهود بني قريظة والنضير (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً) يعني الصبا. قال عكرمة : قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب : انطلقي بنصر رسول الله صلّى الله عليه ، فقالت الشمال : إنّ الحرة لا تسري بالليل ، فكانت الريح التي أرسلت عليهم هي الصبا.

قال رسول الله صلّى الله عليه : نصرت بالصبا ، وأهلكت عاد بالدبور (١).

(وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) وهم الملائكة ولم تقاتل يومئذ (وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) قال المفسّرون : بعث الله تعالى عليهم بالليل ريحا باردة ، وبعث الملائكة فقلعت الأوتاد ، وقطعت أطناب الفساطيط ، وأطفأت النيران ، وأكفأت القدور ، وجالت الخيل بعضها في بعض ، فأرسل الله عليهم الرعب ، وكثر تكبير الملائكة في جوانب عسكرهم ، حتّى كان سيّد كلّ حيّ يقول : يا بني فلان هلمّ إليّ فإذا اجتمعوا عنده قال : النجا النجا أتيتم ، لما بعث الله عليهم من الرعب فانهزموا من غير قتال.

أنبأني محمد بن القاسم الفارسي قال : أخبرني أبو الحسن السليطي قال : أخبرني المؤمل ابن الحسن ، عن الفضل بن محمد الأشعراني (٢) عن عمرو بن عون ، عن خالد بن عبد الله ، عن أبي سعد سعيد بن عبد الرحمن البقّال ، عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه وأنبأني عقيل بن محمد ، عن المعافى بن زكريا ، عن محمد بن جرير الطبري ، عن محمد بن حميد الرازي ، عن سلمة ، حدّثني محمد بن يسار ، عن يزيد بن زياد ، عن محمد بن كعب القرطي قالا : قال فتى من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان : يا أبا عبد الله ، رأيتم رسول الله صلّى الله عليه وصحبتموه؟ قال : نعم يا بن أخي ، قال : وكيف كنتم تصنعون؟ قال : والله لقد كنّا نجهد ، قال الفتى : والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض ، ولحملناه على أعناقنا ، ولخدمناه وفعلنا وفعلنا.

فقال حذيفة : يا بن أخي والله لقد رأيتني ليلة الأحزاب مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالخندق في ليلة باردة ، لم أجد قبلها ولا بعدها بردا أشدّ منه ، فصلّى رسول الله صلّى الله عليه هونا من الليل ثمّ التفت إلينا فقال : «من يقوم فيذهب إلى هؤلاء القوم فيأتينا بخبرهم أدخله الله الجنّة» [٧] (٣).

فما قام منّا رجل ، ثمّ صلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هونا من الليل ، ثمّ التفت إلينا فقال مثله ، فسكت القوم وما قام منّا رجل. ثمّ صلّى رسول الله صلّى الله عليه هونا من الليل ، ثمّ التفت إلينا فقال : من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم على أن يكون رفيقي في الجنّة؟ فما قام رجل من شدّة الخوف وشدّة الجوع وشدّة البرد ، فلمّا لم يقم أحد ، دعاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : يا حذيفة ، فلم يكن لي بدّ من القيام حين دعاني ، فقلت : لبّيك يا رسول الله ، وقمت حتى أتيته وإنّ

__________________

(١) مسند أحمد : ٢ / ٢٢٨ ، صحيح البخاري : ٢ / ٢٢.

(٢) في نسخة أصفهان : الشعراني.

(٣) كنز العمال : ١٠ / ٤٤٩ ، الدر المنثور : ٥ / ١٨٥.

١١

جنبيّ لتضطربان ، فمسح رأسي ووجهي ثمّ قال : ائت هؤلاء القوم حتّى تأتيني بخبرهم ، ولا تحدثنّ شيئا حتّى ترجع إليّ.

ثمّ قال : اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته ، فأخذت سهمي وشددت على أصلابي ، ثمّ انطلقت أمشي نحوهم كأنّي أمشي في حمّام ، فذهبت فدخلت في القوم ، وقد أرسل الله عليهم ريحا فقطّعت أطنابهم وقلعت أبنيتهم وذهبت بخيولهم ، ولم تدع شيئا إلّا أهلكته ، وأبو سفيان قاعد يصطلي ، فأخذت سهمي فوضعته في كبد قوسي ، فذكرت قول النبيّ صلّى الله عليه : لا تحدثنّ حدثا حتى ترجع ، فرددت سهمي في كنانتي.

فلمّا رأى أبو سفيان ما تفعل الريح وجنود الله بهم ، لا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناء قام فقال : يا معشر قريش ليأخذ كلّ رجل منكم بيد جليسه فلينظر من هو؟ فأخذت بيد جليسي فقلت من أنت؟ قال : سبحان الله أما تعرفني أنا فلان بن فلان ، فإذا هو رجل من هوازن.

فقال أبو سفيان : يا معشر قريش إنّكم والله ما أصبحتم بدار مقام ، لقد هلك الكراع والخفّ وأخلفتنا بنو قريظة ، وبلغنا عنهم الذي نكره ، ولقينا من هذه الريح ما ترون ، فارتحلوا فإنّي مرتحل ثمّ قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه ثمّ ضربه فوثب به على ثلاث فما أطلق عقاله إلّا وهو قائم.

وسمعت غطفان بما فعلت قريش فاستمروا راجعين إلى بلادهم ، وهزم الله الأحزاب فذلك قوله : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) قال : فرجعت إلى رسول الله صلّى الله عليه كأني أمشي في حمّام ، فأخبرته الخبر فضحك عليه‌السلام حتّى بدت أنيابه في سواد الليل قال : وذهب عنّي الدفء فأدناني النبيّ عليه‌السلام فأنامني عند رجليه وألقى عليّ طرف ثوبه ، وألزق صدري ببطن قدمه.

قوله تعالى : (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ) يعني من فوق الوادي من قبل المشرق ، وعليهم مالك بن عوف النضيري وعيينة بن حصن الفزاري في ألف من غطفان ومعهم طليحة بن خويلد الأسدي في بني أسد وحيي بن أخطب في يهود بني قريضة (وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) يعني من بطن الوادي من قبل المغرب ، وهو أبو سفيان بن حرب في قريش ومن تبعه ، وأبو الأعور عمرو بن سفيان السلمي من قبل الخندق. وكان الذي جر غزوة الخندق ، فيما قيل إجلاء رسول الله صلّى الله عليه بني النضير عن ديارهم.

قال محمد بن إسحاق : حدّثني يزيد بن رومان مولى آل الزبير ، عن عروة بن الزبير ومن لا أتّهم ، عن عبيد الله بن كعب بن مالك ، وعن الزهري ، وعن عاصم بن قتادة وعن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، وعن محمد بن كعب القرظي ، وعن غيرهم من علمائنا ، دخل

١٢

حديث بعضهم في بعض ، قالوا : كان من حديث الخندق أنّ نفرا من اليهود منهم سلام بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وهوذة بن قيس وأبو عمّار الوائلي في نفر من بني النضير ونفر من بني وائل وهم الذين حزّموا الأحزاب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، خرجوا حتى قدموا على قريش بمكّة ، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقالوا : إنّا سنكون معكم عليه حتّى نستأصله ، فقالت لهم قريش : يا معشر اليهود ، إنّكم أهل الكتاب الأوّل والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد ، فديننا خير أم دينه؟

قالوا : بل دينكم خير من دينه ، وأنتم أولى بالحقّ منهم ، قال : فهم الذين أنزل الله فيهم : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) إلى قوله : (وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً) (١) فلمّا قالوا ذلك لقريش سرّهم ما قالوا ، ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأجمعوا لذلك ، واستعدّوا له ، ثمّ خرج أولئك النفر من اليهود حتّى جاءوا غطفان من قيس بن غيلان فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأخبروهم أنّهم سيكونون معهم عليه ، وأنّ قريشا قد بايعوهم على ذلك ، وأجمعوا فيه ، فأجابوهم ، فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب ، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر في بني فزارة ، والحريث بن عون بن أبي جارية المرّي في بني مرّة ، ومسعود بن جبلة بن نويرة بن طريف بن شحمة بن عبد الله بن هلال بن خلاوة بن أشجع بن زيد بن غطفان فيمن تابعه من قومه من أشجع ، فلمّا سمع بهم رسول الله صلّى الله عليه وبما أجمعوا له من الأمر ضرب الخندق على المدينة وكان الذي أشار على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالخندق سلمان الفارسي ، وكان أوّل مشهد شهده سلمان مع رسول الله صلّى الله عليه ، وهو يومئذ حرّ. وقال : يا رسول الله إنّا كنّا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا ، فعمل فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون معه حتى أحكموه.

وقد ذكرنا حديث سلمان في صفة حفر الخندق في سورة آل عمران قالوا : فلمّا فرغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الخندق أقبلت قريش حتّى نزلت بمجتمع الأسيال من دونه من الجرف والغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تابعهم من بني كنانة وأهل تهامة ، وأقبلت غطفان ومن تابعهم من أهل نجد حتى نزلوا [بذنب نقمى] إلى جانب أحد.

وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون حتّى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف من المسلمين ، فضرب هنالك عسكره ، والخندق بينه وبين القوم ، وأمر بالنساء والذراري فرفعوا في الآطام ، وخرج عدوّ الله حيي بن أخطب النضيري حتى أتى كعب بن أسد القرظي صاحب عقد بني قريظة وعهدهم ، وكان قد وادع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على قومه وعاهده على ذلك ، فلمّا سمع كعب بحيي بن أخطب غلق دونه حصنه فاستأذن عليه فأبى أن يفتح له فنادى حيي : يا كعب افتح

__________________

(١) سورة النساء : ٥١. ٥٥.

١٣

لي ، فقال : ويحك يا حيي ، إنّك امرؤ ميشوم ، إنّي قد عاهدت محمّدا فلست بناقض ما بيني وبينه ، ولم أر منه إلّا وفاء وصدقا.

قال : ويحك افتح لي أكلّمك. قال : ما أنا بفاعل. قال : والله إن غلقت دوني إلّا على حشيشتك أن آكل معك منها ، فاحفظ الرجل ففتح له. فقال : يا كعب ، ويحك جئتك بعزّ الدهر ، وبحر طم ، جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من دونه ، وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب مقمي إلى جانب أحد ، قد عاهدوني وعاقدوني أن لا يبرحوا حتى يستأصلوا محمّد ومن معه.

فقال له كعب بن أسد : جئتني والله بذلّ الدهر ، بمجهام قد اهراق ماؤه يرعد ويبرق وليس فيه شيء ، فدعني ومحمّدا وما أنا عليه ، ولم أر من محمّد إلّا صدقا ووفاء.

فلم يزل حيي بن أخطب بكعب يقبله في الذروة والغارب حتى يسمح له على أن أعطاه عهدا من الله وميثاقا ، لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمّدا أن أدخل معك في حصّتك حتى يصيبني ما أصابك ، فنقض كعب بن أسد عهده وبرئ ممّا كان عليه فيما بينه وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فلمّا انتهى إلى رسول الله صلّى الله عليه الخبر وإلى المسلمين ، بعث رسول الله صلّى الله عليه سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس أحد بني عبد الأشهل وهو يومئذ سيّد الأوس وسعد بن عبادة بن دليم أحد بني ساعدة بن كعب بن الخزرج وهو يومئذ سيّد الخزرج ، ومعهما عبد الله بن رواحة أخو الحارث بن الخزرج ، وخوات بن جبير أخو بني عمرو بن عوف.

فقال : انطلقوا حتى تنظروا أحقّ ما بلغنا عن هؤلاء القوم؟ فإن كان حقّا فالحنوا إليّ لحنا نعرفه ولا تفتّوا أعضاد الناس ، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس ، فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم وقالوا : من رسول الله؟ وقالوا : لا عقد بيننا وبين محمّد ولا عهد ، فشاتمهم سعد بن عبادة وشاتموه ، وكان رجلا فيه حدّ فقال له سعد بن معاذ : دع عنك مشاتمتهم فما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة ، ثمّ أقبل سعد وسعد ومن معهما إلى رسول الله صلّى الله عليه فسلّموا عليه ثمّ قالوا : عضل والقارة أي كغدر عضل والقارة بأصحاب رسول الله صلّى الله عليه أصحاب الرجيع خبيب بن عدي وأصحابه.

فقال رسول الله صلّى الله عليه : الله أكبر ، أبشروا يا معشر المسلمين. وعظم عند ذلك البلاء واشتدّ الخوف وأتاهم عدوّهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتى ظنّ المؤمنون كلّ ظنّ ، ونجم النفاق من بعض المنافقين حتى قال لهم معتب بن قشير أخو بني عمرو بن عوف : كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر ، وأحدنا لا يقدر على أن يذهب إلى الغائط (١)

__________________

(١) بطوله في تفسير الطبري : ٢١ / ١٥٧. ١٥٩ ، مورد الآية.

١٤

(ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) حتى قال أوس بن قبطي أحد بني حارثة : يا رسول الله إنّ بيوتنا بعورة من العدو وذلك على ملأ من رجال قومه ، فأذن لنا فلنرجع إلى ديارنا فإنّها خارجة من المدينة.

فأقام رسول الله صلّى الله عليه وأقام المشركون عليه بضعا وعشرين ليلة قريبا من شهر ، ولم يكن بين القوم حرب إلّا الرمي بالنبل والحصى ، فلمّا اشتدّ البلاء على الناس ، بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى عيينة بن حصين وإلى الحارث بن عوف وهما قائدا غطفان فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، تجرى بينهم وبينه الصلح حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ، فذكر ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لسعد بن معاذ وسعد بن عبادة واستشار هما فيه. فقالا : يا رسول الله أشيء أمرك الله به لا بدّ لنا من العمل به أم أمر تحبّه فتصنعه أم شيء تصنعه لنا؟ قال : لا بل لكم والله ما أصنع ذلك ، إلّا إنّي رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحد وكالبوكم من كلّ جانب ، فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم.

فقال له سعد بن معاذ : يا رسول الله قد كنّا نحن وهؤلاء القوم على شرك بالله وعبادة الأوثان ، لا نعبد الله ولا نعرفه ، وهم ولا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلّا قري أو بيعا ، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وأعزّنا بك نعطيهم أموالنا؟! ما لنا بهذا من حاجة ، والله لا نعطيهم إلّا السيف حتّى يحكم الله بيننا وبينهم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه : فأنت وذاك ، فتناول سعد الصحيفة فمحا ما فيها من الكتاب ثمّ قال : ليجهدوا علينا.

فأقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون على حالهم والمشركون يحاصروهم ولم يكن بينهم قتال إلّا أنّ فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ودّ بن أبي قيس أخو بني عامر بن لؤي وعكرمة بن أبي جهل وهبيرة بن أبي وهب المخزوميان ونوفل بن عبد الله وضرار بن الخطاب ومرداس أخو بني محارب بن فهر قد تلبّسوا للقتال وخرجوا على خيلهم ، ومرّوا على بني كنانة.

فقال : بنو الحارث : يا بني كنانة ، فستعلمون اليوم من الفرسان ، ثمّ أقبلوا حتى وقفوا على الخندق ، فلمّا رأوه قالوا : والله إنّ هذه لمكيدة ، ما كانت العرب تكيدها ثمّ تيمّموا مكانا من الخندق ضيّقا فضربوا خيولهم فاقتحموا منه فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع.

وخرج علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه في نفر من المسلمين حتى أخذ عليهم الثغرة التي أقحموا منها خيلهم وأقبلت الفرسان نحوهم ، وقد كان عمرو بن عبد ود قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة فلم يشهد أحدا ، فلمّا كان يوم الخندق خرج معلما ليري مكانه ، فلمّا وقف هو وخيله قال له علي : يا عمرو ، إنّك كنت تعاهد الله ، لا يدعوك رجل من قريش إلى خلّتين إلّا أخذت منه إحداهما. قال : أجل. قال : فإنّي أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام. قال : لا حاجة لي بذلك. قال : فإنّي أدعوك إلى النزال. قال : ولم يا بن أخي؟ فإنّي والله ما أحبّ أن أقتلك.

١٥

قال علي رضي‌الله‌عنه : ولكنّي والله أحبّ أن أقتلك ، فحمي عمرو عند ذلك فاقتحم عن فرسه فعقره أو ضرب وجهه وأقبل على عليّ فتناولا وتجاولا وقتله عليّ رضي‌الله‌عنه.

وخرجت خيله منهزمة حتى اقتحمت من الخندق هاربة (١) ، وقتل مع عمرو رجلان : منبه بن عثمان بن عبيد بن السباق بن عبد الدار ، أصابه سهم فمات منه بمكّة ، ونوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي ، وكان قد اقتحم الخندق فتورّط فيه فرموه بالحجارة ، فقال : يا معشر العرب قتلة أحسن من هذه ، فنزل إليه عليّ فقتله فغلب المسلمون على جسده ، فسألوا رسول الله صلّى الله عليه أن يبيعهم جسده فقال رسول الله صلّى الله عليه : لا حاجة لنا في جسده ولا ثمنه فشأنكم به ، فخلّى بينهم وبينه.

قالت عائشة أمّ المؤمنين : كنّا يوم الخندق في حصن بني حارثة ، وكان من أحرز حصون المدينة ، وكانت أمّ سعد بن معاذ معنا في الحصن ، وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب فمرّ سعد بن معاذ وعليه درع مقلصة قد خرجت منها ذراعه كلّها وفي يده حربته وهو يقول :

لبّث قليلا يشهد الهيجا حمل

لا بأس بالموت إذا حان الأجل (٢)

فقالت أمّه : الحق يا بني فقد والله أخرت ، قالت عائشة : فقلت لها : يا امّ سعد والله لوددت أنّ درع سعد كانت أسبغ ممّا هي ، وخفت عليه حيث أصاب السهم منه ، قالت : فرمي سعد يومئذ فقطع منه الأكحل ، وزعموا أنّه لم ينقطع من أحد قطع إلّا لم يزل يفيض دما حتى يموت ، رماه حيان بن قيس بن الغرقة أحد بني عامر بن لؤي ، فلمّا أصابه قال : خذها فأنا ابن الغرقة فقال سعد : غرق الله وجهك في النار ، ثمّ قال سعد : اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها ، فإنّه لا قوم أحبّ إليّ من أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك ، فكذّبوه وأخرجوه ، وإن كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعله لي شهادة ولا تمتني حتى تقرّ عيني من بني قريظة ، وكانوا حلفاءه ومواليه في الجاهلية.

وروى محمد بن إسحاق بن يسار ، عن يحيى بن عبادة بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه عبادة قال : كانت صفية بنت عبد المطّلب في قارع حصن حسّان بن ثابت قالت : وكان حسّان معنا فيه مع النساء والصبيان.

قالت صفية : فمرّ بنا رجل من اليهود فجعل يطوف بالحصن وقد حاربت بنو قريظة وقطعت

__________________

(١) وفي ذلك اليوم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لمبارزة علي لعمرو بن ود أفضل من أعمال أمتي إلى يوم القيامة ، وفي لفظ : لضربة علي خير من عبادة الثقلين ، راجع مستدرك الصحيحين : ٣ / ٣٢ ، وكنز العمال : ٦ / ١٥٨ ، والسيرة الحلبية : ٢ / ٣٤٩.

(٢) البداية والنهاية : ٤ / ١٢٣.

١٦

ما بينها وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنّا ، ورسول الله والمسلمون في [نحور] عدوّهم لا يستطيعون أن ينصرفوا إلينا عنهم إذا أتانا آت. قالت : فقلت : يا حسّان إنّ هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن وإنّي والله ما آمنه أن يدلّ على عورتنا من ورائنا من اليهود ، وقد شغل عنّا رسول الله صلّى الله عليه وأصحابه فانزل إليه فاقتله.

فقال : يغفر الله لك يا بنت عبد المطلب ، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا. قالت : فلمّا قال ذلك لي ولم أر عنده شيئا احتجزت ثمّ أخذت عمودا ثمّ نزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتّى قتلته فلمّا فرغت منه ، رجعت إلى الحصن فقلت : يا حسّان انزل إليه فاسلبه فإنّه لم يمنعني من سلبه إلّا أنّه رجل ، قال : ما لي بسلبه من حاجة يا بنت عبد المطلب.

قالوا : وأقام رسول الله صلّى الله عليه وأصحابه في ما وصف الله عزوجل من الخوف والشدّة لتظاهر عدوّهم عليهم وإتيانهم من فوقهم ومن أسفل منهم ، ثمّ إنّ نعيم بن مسعود بن عامر بن [أنيف] بن ثعلبة بن قنفذ بن هلال بن حلاوة بن أشجع بن زيد (١) بن غطفان أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال : يا رسول الله إنّي قد أسلمت وإنّ قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت ، فقال له رسول الله صلّى الله عليه : إنّما أنت فينا رجل واحد ، فخذّل عنّا إن استطعت فإنّ الحرب خدعة.

فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة ، وكان لهم نديما في الجاهلية ، فقال لهم : يا بني قريظة ، قد عرفتم ودّي إيّاكم وخاصّة ما بيني وبينكم ، قالوا : صدقت لست عندنا بمتّهم ، فقال لهم : إنّ قريشا وغطفان جاءوا لحرب محمّد ، وقد ظاهرتموهم عليه ، وإنّ قريشا وغطفان ليسوا [كهيئتكم] ، البلد بلدكم به أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم لا تقدرون على أن تحولوا عنه إلى غيره ، وإنّ قريشا وغطفان أموالهم وأبناؤهم ونساؤهم بغيره ، وإن رأوا نهزة وغنيمة أصابوها ، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ، والرجل ببلدكم لا طاقة لكم به إن خلا بكم ، فلا تقاتلوا القوم حتى تأخذوا رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن يقاتلوا معكم محمّدا حتى تناجزوه ، فقالوا : لقد أشرت برأي ونصح. ثمّ خرج حتى أتى قريشا فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش : يا معشر قريش قد عرفتم ودّي إيّاكم وفراقي محمّدا ، وقد بلغني أمر رأيت أنّ حقّا عليّ أن أبلّغكموه نصحا لكم فاكتموا عليّ. قالوا : نفعل.

قال : تعلمون أنّ معشر اليهود قد ندموا على ما صنعوا في ما بينهم وبين محمد ، وقد أرسلوا إليه ، أن قد ندمنا على ما فعلنا ، فهل يرضيك عنّا أن نأخذ من القبيلتين من قريش وغطفان رجالا من أشرافهم [فنعطيكم] فتضرب أعناقهم ، ثمّ نكون معك على من بقي منهم؟

فأرسل إليهم أن نعم ، فإن بعث إليكم اليهود يلتمسون منكم رهنا من رجالكم فلا تدفعوا

__________________

(١) في تاريخ الطبري (٢ / ٢٤٢) : ريث.

١٧

إليهم منكم رجلا واحدا ، ثمّ خرج حتّى أتى غطفان فقال : يا معشر غطفان أنتم أصلي وعشيرتي وأحبّ الناس إليّ ولا أراكم تتّهموني ، قالوا : صدقت ، قال : فاكتموا عليّ قالوا : نفعل ، ثمّ قال لهم مثل ما قال لقريش وحذّرهم ما حذّرهم ، فلمّا كانت ليلة السبت في شوّال سنة خمس ، وكان ممّا صنع الله برسوله ، أرسل أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان ، فقالوا لهم : إنّا لسنا بدار مقام ، قد هلك الخف والحافر ، فاغدوا للقتال حتّى نناجز محمّدا ونفرغ ممّا بيننا وبينه.

فأرسلوا إليهم : إنّ اليوم السبت ، وهو يوم لا يعمل فيه شيئا ، وكان قد أحدث بعضنا فيه حدثا فأصابه ما لم يخف عليكم ولسنا مع ذلك بالذي نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمّدا ، فإنّا نخشى إن [ضرستكم] الحرب واشتدّ عليكم القتال تسيروا إلى بلادكم ، وتتركونا والرجل في بلدنا ولا طاقة لنا بذلك من محمّد.

فلمّا رجعت إليهم الرسل بالذي قالت بنو قريظة ، قالت قريش وغطفان : تعلمون والله إنّ الذي حدّثكم نعيم بن مسعود لحقّ ، فأرسلوا إلى بني قريظة ، إنّا والله لا ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا ، فإن كنتم تريدون القتال ، فاخرجوا فقاتلوا.

فقالت بنو قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا : إنّ الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحقّ ، ما يريد القوم إلّا أن تقاتلوا ، فإن وجدوا فرصة انتهزوها ، وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم وخلّوا بينكم وبين الرجل في بلادكم ، فأرسلوا إلى قريش وإلى غطفان : إنّا والله لا نقاتل معكم حتّى تعطونا رهنا ، فأبوا عليهم وخذل الله بينهم ، وبعث الله تعالى عليهم الريح في ليال شاتية شديدة البرد ، حتّى انصرفوا راجعين (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

قال الله تعالى : (وَإِذْ زاغَتِ) مالت (الْأَبْصارُ) وشخصت (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) فزالت عن أماكنها حتى بلغت الحلوق من الفزع (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) فأمّا المنافقون فظنّوا أنّ محمّدا وأصحابه سيغلبون ويستأصلون ، وأمّا المؤمنون فأيقنوا أنّ ما وعدهم الله حقّ [من] أنّه سيظهر دينه (عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (١).

واختلف القرّاء في قوله : (الظُّنُونَا) و (الرَّسُولَا) و (السَّبِيلَا) ، فأثبت الألفات فيها وصلا ووقفا ، أهل المدينة والشام وأيّوب وعاصم برواية أبي بكر ، وأبو عمر برواية ابن عبّاس. والكسائي برواية قتيبة ، قالوا : إنّ ألفاتها ثابتة في مصحف عثمان وسائر مصاحف البلدان. وقرأها أبو عمرو في سائر الروايات وحمزة ويعقوب بغير (ألف) في الحالين على الأصل.

وقرأ الباقون بالألف في الوقف دون الوصل ، واحتجّوا بأنّ العرب تفعل ذلك في قوافي

__________________

(١) بطوله في تفسير القرطبي : ١٤ / ١٣٥. ١٣٨ مورد الآية ، وتاريخ الطبري : ٢ / ٢٤٣.

١٨

أشعارهم ومصاريعها فتلحق بالألف في موضع الفتح عند الوقوف ولا تفعل ذلك في حشو الأبيات ، فحسن إثبات الألف في هذه الحروف لأنّها رؤوس الآي تمثيلا لها بالقوافي.

قوله عزوجل : (هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ) أي اختبروا ومحّصوا ليعرف المؤمن من المنافق (وَزُلْزِلُوا) وحرّكوا وخوّفوا (زِلْزالاً) تحريكا (شَدِيداً) وقرأ عاصم الجحدري (زَلْزالاً) بفتح الزاي وهما مصدران.

(وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) يعني معتب بن قشير وأصحابه (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) شكّ وضعف اعتقاد (ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً. وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) أي من المنافقين وهم أوس بن قبطي وأصحابه ، وقال مقاتل : هم من بني سالم (يا أَهْلَ يَثْرِبَ) يعني المدينة. وقال أبو عبيدة : يثرب اسم أرض ، ومدينة الرسول عليه‌السلام في ناحية منها. (لا مُقامَ لَكُمْ) قراءة العامّة بفتح الميم ، أي لا مكان لكم تقيمون فيه. وقرأ السّلمي بضم الميم ، أي لا إقامة لكم ، وهي رواية حفص عن عاصم (فَارْجِعُوا) إلى منازلكم أمروهم بالهرب من عسكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال ابن عبّاس : قالت اليهود لعبد الله بن أبي وأصحابه من المنافقين : ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيدي أبي سفيان وأصحابه فارجعوا إلى المدينة فرجعوا (وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَ) في الرجوع إلى منازلهم وهم بنو حارثة بن الحرث (يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) أي هي خالية [ضائعة] وهي ممّا يلي العدوّ ، وإنّا نخشى عليها العدوّ والسرّاق. وقرأ ابن عبّاس وأبو رجاء العطاردي عَوِرَةٌ ، بكسر الواو يعني قصيرة الجدران فيها خلل وفرجة ، والعرب تقول : دار فلان عورة ، إذا لم تكن حصينة ، وقد اعور الفارس إذا بدا فيه خلل الضرب ، قال الشاعر :

متى تلقهم لا تلقى في البيت معورا

ولا الضيف مفجوعا ولا الجار مرملا (١)

قال الله تعالى : (وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً. وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ) يقول لو دخل عليهم هؤلاء الجيوش الذين يريدون قتالهم المدينة (مِنْ أَقْطارِها) جوانبها ونواحيها ، واحدها قطر وفيه لغة أخرى قطر وأقطار.

(ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ) الشرك (لَآتَوْها) قراءة أهل الحجاز بقصر الألف ، أي لجاءوها وفعلوها ورجعوا عن الإسلام وكفروا ، وقرأ الآخرون بالمدّ ، أي لأعطوها. وقالوا : إذا كان سؤال كان إعطاء (وَما تَلَبَّثُوا بِها) وما احتبسوا عن الفتنة (إِلَّا يَسِيراً) ولأسرعوا الإجابة إليها طيبة بها أنفسهم ، هذا قول أكثر المفسّرين ، وقال الحسن والفراء : وما أقاموا بالمدينة بعد إعطاء الكفر إلّا قليلا حتى يهلكوا (وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ) أي من قبل غزوة الخندق

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٤ / ١٤٨.

١٩

(لا يُوَلُّونَ) عدوّهم (الْأَدْبارَ).

وقال يزيد بن دومان : هم بنو حارثة همّوا يوم أحد أن يفشلوا مع بني سلمة ، فلمّا نزل فيهم ما نزل عاهدوا الله أن لا يعودوا لمثلها أبدا ، فذكر الله لهم الذي أعطوه من أنفسهم ، وقال قتادة : هم ناس كانوا قد غابوا عن واقعة بدر ورأوا ما أعطى الله أهل بدر من الكرامة والفضيلة فقالوا : لئن أشهدنا الله قتالا لنقاتلنّ ، فساق الله ذلك إليهم في ناحية المدينة.

وقال مقاتل والكلبي : هم سبعون رجلا بايعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة العقبة ، وقالوا له : اشترط لربّك ولنفسك ما شئت ، فقال النبي عليه‌السلام : «اشترط لربّي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأشترط لنفسي أن تمنعوني ممّا تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأولادكم وأموالكم ، قالوا : فإذا فعلنا ذلك فما لنا يا رسول الله؟ قال : لكم النصر في الدّنيا والجنّة في الآخرة» [٨] (١) قالوا : قد فعلنا ، فذلك عهدهم.

(وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً) قوله عزوجل : (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ) الذي كتب عليكم (وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً) إلى آجالكم ، والدنيا كلّها قليل.

(قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً) هزيمة (أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً) نصرة (وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً).

(قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٨) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٩) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (٢٠) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً (٢١) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (٢٢) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٢٣) لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٤) وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (٢٥) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (٢٦) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢٧))

__________________

(١) مجمع الزوائد : ٦ / ٤٨.

٢٠