الكشف والبيان - ج ٨

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ٨

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

(بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) أخبرنا أبو بكر عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن علي الجمشاذي الفقيه ، بقراءتي عليه ، حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك القطيعي ، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل. حدثني أبي ، حدثنا عبد الله بن نمير الكوفي ، حدثنا حجاج بن دينار الواسطي ، أخبرنا ابن فنجويه ، حدثنا هارون بن محمد بن هارون ، حدثنا السريّ ، حدثنا أبو النضر ، حدثنا عنبسة بن عبد الواحد القريشي ، عن الحجاج بن دينار ، عن أبي غالب ، عن أبي أمامة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه ، إلّا أتوا الجدل ، ثمّ قرأ : (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ)» [١٩٩] (١).

(إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) يعني آية أو عبرة وعظه لبني إسرائيل. (وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ) لأهلكناكم وجعلنا بدلا منكم. (مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) يعني يكونون خلفا منكم فيعمرون الأرض ويعبدونني ويطيعونني.

(وَإِنَّهُ) يعني عيسى عليه‌السلام. (لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) بنزوله يعلم قيام الساعة ويستدل على ذهاب الدّنيا وإقبال الآخرة.

أخبرنا ابن فنجويه ، حدثنا طلحة بن محمد وعبيد الله بن أحمد ، قالا : حدثنا أبو بشر بن مجاهد ، حدثنا فضل بن الحسن ، حدثنا عبيد الله بن معاد ، حدثنا أبي ، عن عمران بن جرير ، قال : سمعت أبا نضرة يقرأ (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) ، قال : هو عيسى ، وبإسناده عن ابن مجاهد ، حدثني عبد الله بن [عمر] بن سعد ، حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب ، حدثنا خالد بن الحرث ، حدثنا أبو مكي ، عن عكرمة (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) ، قال : ذلك عيسى عليه‌السلام.

وقرأ ابن عباس وأبو هريرة وقتادة ومالك بن دينار والضحاك وَإِنَّهُ لَعَلَمٌ لِلسَّاعَةِ بفتح العين واللام ، أي إمارة وعلامة ، وفي الحديث : ينزل عيسى بن مريم على ثنية بالأرض المقدسة ، يقال لها : أفيق ، بين ممصّرتين وشعر رأسه دهين وبيده حربة يقتل بها الدجال. فيأتي بيت المقدس والنّاس في صلاة العصر ، والإمام يؤم بهم فيتأخر الإمام ، فيتقدّمه عيسى ويصلي خلفه على شريعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثمّ يقتل الخنزير ، ويكسر الصليب ، ويخرب البيع والكنائس ، ويقتل النصارى. إلّا من آمن به.

وقال قوم : الهاء في قوله : (وَإِنَّهُ) كناية عن القرآن ، ومعنى الآية وإنّ القرآن (لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) يعلمكم قيامها ويخبركم بأحوالها وأهوالها ، وإليه ذهب الحسن.

(فَلا تَمْتَرُنَّ بِها) فلا تشكنّ بها أي فيها. (وَاتَّبِعُونِ. هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلا يَصُدَّنَّكُمُ)

__________________

(١) مسند أحمد : ٥ / ٢٥٦.

٣٤١

ولا يصرفنّكم (الشَّيْطانُ) عن دين الله. (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَلَمَّا جاءَ عِيسى) بني إسرائيل. (بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ) بالنبوة. (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) من أحكام التوراة.

(فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ * فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ) اليهود والنصارى. (مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) كفروا وأشركوا كما في سورة مريم. (مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ * هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * الْأَخِلَّاءُ) على المعصية في الدنيا. (يَوْمَئِذٍ) يوم القيامة. (بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ).

المتحابين في الله على طاعة الله.

أخبرنا عقيل بن محمد إنّ أبا الهرج البغدادي القاضي أخبرهم ، عن محمد بن جرير ، حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، عن أبي إسحاق ، إنّ عليا رضي‌الله‌عنه قال في هذه الآية : خليلان مؤمنان وخليلان كافران ، فمات أحد المؤمنين ، فقال : يا ربّ إنّ فلان كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك ، ويأمرني بالخير ، وينهاني عن الشرّ ، ويخبرني إنّي ملاقيك. يا ربّ فلا تضلّه بعدي واهده ، كما هديتني ، وأكرمه كما أكرمتني.

وإذا مات خليله المؤمن جمع بينهما ، فيقول : ليثني أحدكما على صاحبه. فيقول : يا ربّ انه كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك ، ويأمرني بالخير وينهاني عن الشرّ ، ويخبرني أنّي ملاقيك ، فيقول : نعم الأخ ، ونعم الخليل ، ونعم الصاحب.

قال : ويموت أحد الكافرين ، فيقول : إنّ فلان كان ينهاني عن طاعتك وطاعة رسولك ، ويأمرني بالشّر ، وينهاني عن الخير ويخبرني إنّي غير ملاقيك.

فيقول : بئس الأخ ، وبئس الخليل ، وبئس الصاحب.

(يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (٧١) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (٧٣) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (٧٧) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٨) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠))

(يا عِبادِ) أي فيقال لهم يا عبادي. (لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) أخبرنا عقيل بن محمد ، أخبرنا المعافا بن زكريا ، أخبرنا محمد بن جرير. أخبرنا ابن عبد الأعلى ،

٣٤٢

حدثنا المعتمر ، عن أبيه ، قال : سمعت إنّ الناس حتّى يبعثون ليس منهم أحد إلّا فزع ، فينادي مناد : (يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) فيرجوها الناس كلّهم. قال : فيتبعها.

(الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ) فينكس اهل الأديان رؤسهم غير المسلمين.

(ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ) تسرون وتنعمون. (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ) بقصاع واحدتها صفحة.

(مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ) أباريق مستديرة الرؤوس ليست لها آذان ولا خراطم ، واحدها كوب. قال الأعشى :

صريفيّة طيّب طعمها

لها زبد بين كوب ودنّ (١)

أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه ، حدثنا أبو بكر بن مالك القطيعي ، حدثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل ، حدثني أبي ، حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا السكوني عبد الحميد بن عبد العزيز ، حدثنا الأشعث الضرير ، عن شهر بن حوشب ، عن أبي هريرة. قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ أدنى أهل الجنّة منزلة لمن له سبع درجات هو على السادسة وفوق السابعة ، وإنّ له لثلاثمائة خادم ، ويغدي ويراح عليه كل يوم ثلاثمائة صحيفة» ، ولا أعلمه إلّا قال : «من ذهب في كل صحيفة لون ليس في الأخرى ، وإنّه ليلذ أوله كما يلذ آخره ، ومن الأشربة ثلاثمائة إناء ، في كلّ إناء لون ليس في الأخرى ، وإنّه ليلذ أوله كما يلذ آخره ، وإنّه ليقول يا ربّ لو أذنتني لأطعمت أهل الجنّة ، وسقيتهم لا ينقص مما عندي شيء إنّ له من الحور العين لاثنين وسبعين زوجة ، سوى زوجته في الدّنيا ، وإنّ الواحدة منهنّ ليأخذ مقعدها قدر ميل من الأرض» [٢٠٠] (٢).

أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه الدينوري ، حدثنا ابن حبش المقري ، حدثنا ابن رنجويه ، حدثنا سلمة ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن إسماعيل بن أبي سعيد ، إنّ عكرمة أخبره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ أدنى أهل الجنّة منزلة وأسفلهم درجة ، رجل لا يدخل الجنّة بعده أحد ، يفتح له بصره مسيرة مائة عام في قصور من ذهب وخيام من لؤلؤ ليس منها موضع شبر ، إلّا معمور يغدى عليه ويراح سبعين ألف صحيفة من ذهب ، ليس منها صحيفة إلّا وفيها لون ليس في الأخرى مثله» [٢٠١] (٣).

«شهوته في آخرها كشهوته في أولها ، لو نزل به جميع أهل الدنيا لوسع عليهم مما أعطي لا ينقص ذلك مما أوتي شيئا» [٢٠٢] (٤).

__________________

(١) لسان العرب : ٩ / ١٩٢.

(٢) مسند أحمد : ٢ / ٥٣٧ ، مجمع الزوائد : ١٠ / ٤٠٠.

(٣) المصنف لعبد الرزاق : ١١ / ٤٢٤.

(٤) المصنف لعبد الرزاق : ١١ / ٤٢٤. الحديث واحد

٣٤٣

(وَفِيها) في الجنّة. (ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ) قرأ أهل المدينة والشام وحفص عن عاصم (تَشْتَهِيهِ) بالهاء وكذلك هي في مصاحفهم.

(وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ) أخبرنا عقيل بن محمد ، أخبرنا المعافا بن زكريا ، أخبرنا محمد بن جرير ، حدثنا ابن يسار ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان ، عن علقمة بن مرثد ، عن ابن سابط ، إنّ رجلا قال : يا رسول الله إنّي أحبّ الخيل ، فهل في الجنة خيل؟.

فقال : «إنّ يدخلك الله الجنّة فلا تشاء أن تركب فرسا من ياقوتة حمراء تطير بك في أي الجنّة شئت ، إلّا ركبت» [٢٠٣] (١).

فقال : إعرابي يا رسول الله إنّي أحبّ الإبل ، فهل في الجنّة إبل؟. فقال : «يا إعرابي إن يدخلك الله الجنّة إن شاء الله. كان لك فيها ما اشتهت نفسك ولذت عيناك» [٢٠٤] (٢).

وبه عن ابن جرير ، حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا عمر بن عبد الرحمن الأياد ، عن محمد ابن سعد الأنصاري ، عن أبي ظبية السلمي ، قال : إنّ السرب من أهل الجنّة لتظلهم السحابة ، فتقول : ما أمطركم؟. فما يدعو داع من القوم بشيء إلّا مطرتهم ، حتّى إنّ القائل منهم ليقول : أمطرينا (كَواعِبَ أَتْراباً).

وبه عن ابن جرير ، حدثنا موسى بن عبد الرحمن ، حدثنا زيد بن الحبان بن الرّيان ، أخبرنا معاوية بن صالح ، حدثني سليمان بن عامر ، قال : سمعت أبا أمامة يقول : إنّ الرجل من أهل الجنّة ليشتهي الطائر وهو يطير ، فيقع منفلقا نضيجا في كفه ، فيأكل منه حتّى تنتهي نفسه ، ثمّ يطير ، ويشتهي الشراب فيقع الإبريق في يده فيشرب منه ما يريد ثمّ يرجع إلى مكانه.

(وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ).

أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه ، حدثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك ، حدثنا محمد بن إبراهيم ابن زياد الطيالسي الرازي ، حدثنا محمد بن حسان الأزرق ، حدثنا ريحان بن سعيد ، حدثنا عباد ابن منصور ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أبي أسماء الرحبي ، عن ثوبان ، إنّه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا ينزع رجل من أهل الجنّة من ثمرها إلّا أعيد في مكانها مثلاها (٣)».

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ) المشركين. (فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ * وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) ليمتنا ربّك فنستريح ، فيجيبهم مالك بعد ألف سنة : (قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) مقيمون في العذاب.

__________________

(١) مسند أحمد : ٥ / ٣٥٢.

(٢) مسند أحمد : ٥ / ٣٥٢.

(٣) الدر المنثور : ١ / ٣٨.

٣٤٤

أخبرنا ابن فنجويه الدينوري ، حدثنا ابن حبش المقري ، حدثنا ابن الفضل ، حدثنا جعفر ابن محمد الدنقاي الضبي ، حدثنا عاصم بن يوسف اليربوعي ، حدثنا قطبة بن عبد العزيز السعدي ، عن الأعمش ، عن سمر بن عطية ، عن شهر بن حوشب ، عن أمّ الدرداء ، عن أبي الدرداء ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يلقى على أهل النّار الجوع حتّى يعدل ما هم فيه من العذاب ، فيستغيثون فيغاثون بطعام (مِنْ ضَرِيعٍ لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) ، فيستغيثون بالطعام فيغاثون بطعام ذي غصة فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالشراب فيستغيثون بالشراب فيدفع إليهم الحميم بكلاليب الحديد فإذا دنت من وجوههم شوت وجوههم فإذا دخلت بطونهم قطعت ما في بطونهم ، فيقولون ادعوا خزنة جهنم ، فيقولون ألم تك تأتكم رسلكم بالبينات؟ (قالُوا : بَلى ، قالُوا : فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) ، قال : فيقولون ادعوا مالكا ، فيدعون : (يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) ، فيجيبهم (إِنَّكُمْ ماكِثُونَ)»! [٢٠٥] (١).

قال : فقال الأعمش : أنبئت إنّ بين دعائهم وبين إجابته إياهم ألف عام.

أخبرنا ابن فنجويه ، حدثنا هارون بن محمد بن هارون ، حدثنا محمد بن عبد العزيز ، حدثنا القاسم بن يونس الهلالي ، حدثنا قطبة بن عبد العزيز يعني السعدي ، عن الأعمش ، عن سمر بن عطية ، عن شهر بن حوشب ، عن أم الدرداء ، عن أبي الدرداء ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ونادوا يا مال ليقض علينا ربّك» [٢٠٦]. باللام (٢).

(لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ * أَمْ أَبْرَمُوا) أحكموا. (أَمْراً) في المكر برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) محكمون.

(أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ. بَلى) نسمع ونعقل (وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) يعني الحفظة.

(قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (٨١) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥) وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (٨٨) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٨٩))

__________________

(١) سنن الترمذي : ٤ / ١٠٨.

(٢) صحيح البخاري : ٦ / ٣٨ ، تفسير القرطبي : ١٦ / ١١٦.

٣٤٥

(قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) يعني (إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ) في قولكم وبزعمكم ، فأنا أول الموحدين المؤمنين بالله في تكذيبكم والجاحدين لما قلتم من إنّ له ولدا. قاله مجاهد.

وقال ابن عباس : يعني ما كان للرّحمن ولد وأنا أول الشاهدين له بذلك والعابدين له ، جعل بمعنى النفي والجحد ، يعني ما كان وما ينبغي له ولد. ثمّ ابتداء (فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) ، وقال السدي : معناه ، (قُلْ : إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا) أول من عبده بأنّ له ولد ، ولكن لا ولد له ، وقال قوم من أهل المعاني : معناه ، (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ. فَأَنَا أَوَّلُ) الآنفين من عبادته.

ويحتمل أن يكون معناه ما كان للرحمن ولد. ثم قال : (فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) الآنفين من هذا القول المنكرين إنّ له ولدا. يقال عبد إذا أنف وغضب عبدا. قال الشاعر :

ألا هويت أم الوليد وأصحبت

لما أبصرت في الرأس مني تعبد (١)

وقال آخر :

متى ما يشاء ذو الود يصرّم خليله

ويعبد عليه لا محالة ظالما (٢)

أخبرنا عقيل بن محمد إجازة ، أخبرنا أبو الفرج ، أخبرنا محمد بن جرير ، حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، حدثنا ابن أبي ذئب محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة ، عن ابن قشط ، عن نعجة بن بدر الجهني إنّ امرأة منهم دخلت على زوجها ـ وهو رجل منهم أيضا ـ فولدت في ستة أشهر فذكر ذلك زوجها لعثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه وأمر بها ترجم ، فدخل عليه علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه فقال : إنّ الله تعالى يقول في كتابه : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) (٣) وقال : (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) قال : فو الله ما عبد عثمان رضي‌الله‌عنه أن بعث إليها ترد. قال عبد الله بن وهب : ما استنكف ولا أنف (٤) (سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) يكذبون. (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا) في باطلهم. (وَيَلْعَبُوا) في دنياهم. (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ * وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) يعني يعبد في السّماء ويعبد في الأرض. (وَهُوَ الْحَكِيمُ) في تدبير خلقه.

(الْعَلِيمُ) بصلاحهم.

__________________

(١) جامع البيان للطبري : ٢٥ / ١٣١.

(٢) جامع البيان للطبري : ٢٥ / ١٣١.

(٣) سورة الأحقاف : ١٥.

(٤) تفسير ابن كثير : ٤ / ١٤٦.

٣٤٦

(وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِ).

اختلف العلماء في معنى هذه الآية. فقال قوم : (مِنْ) في محل النصب وأراد بـ (الَّذِينَ يَدْعُونَ) عيسى وعزير والملائكة ، ومعنى الآية : ولا يملك عيسى وعزير والملائكة الشّفاعة إلّا لـ (مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِ) فآمن على علم وبصيرة ، وقال آخرون : (مِنْ) في وضع رفع و (الَّذِينَ يَدْعُونَ) الأوثان والمعبودين من دون الله. يقول : ولا يملك المعبودون من دون الله الشفاعة إلّا لـ (مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِ) وهم عيسى وعزير والملائكة يشهدون بالحقّ.

(وَهُمْ يَعْلَمُونَ) حقيقة ما شهدوا. (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) عن عبادته. (وَقِيلِهِ) يعني قول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم شاكيا إلى ربّه. (يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ).

واختلف القراء في قوله : (قِيلِهِ) ، فقرأ عاصم وحمزة (وَقِيلِهِ) بكسر اللام على معنى (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) وعلم قيله ، وقرأ الأعرج بالرفع ، أي وعنده قيله ، وقرأ الباقون بالنصب وله وجهان : أحدهما : (أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) ونسمع قِيلَهُ والثاني : وقال : قِيلَهُ.

(فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ) نسختها آية القتال ، ثمّ هددهم.

(فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) بالتاء أهل المدينة والشام وحفص ، واختاره أيوب وأبو عبيد ، الباقون بالياء.

٣٤٧

سورة الدخان

مكّية ، وهي تسع وخمسون آية ، وثلاثمائة

وست وأربعون كلمة ، وألف وأربعمائة وواحد وثمانون حرفا

أخبرنا محمّد بن القاسم ، حدثنا محمّد بن عبد الله ، حدثنا الحسن بن سفيان ، حدثنا محمّد بن يزيد ، حدثنا زيد بن حباب ، أخبرنا الحسين بن محمّد بن فنجويه ، حدثنا يحيى بن محمد بن يحيى ، حدثنا أبو عيسى بن علي الختلي ، حدثنا أبو هاشم الرفاعي ، حدثنا زيد بن الحباب ، حدثنا عمر بن عبد الله بن أبي السري عن يحيي بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة الدّخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك» [٢٠٧] (١).

أخبرنا محمد بن القاسم ، حدثنا عبد الله بن محمد بن علي ، حدثنا السّراج ، حدثنا أبو يحيى ، حدثنا كثير بن هشام ، عن هشام بن المقدام ، عن الحسن ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ (حم) الّتي يذكر فيها الدّخان في ليلة الجمعة ، أصبح مغفورا له» [٢٠٨] (٢).

أخبرنا عبد الرّحمن بن إبراهيم بن محمد الطبراني بها ، حدثنا أبو علي الرقاء ، أخبرنا أبو منصور سليمان بن محمد بن الفضل ، حدثنا طالوت بن عباد ، حدثنا فضال بن كثير حي ، قال : أتيت أبا أمامة ، فقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من قرأ (حم) الدّخان ليلة الجمعة ـ يوم الجمعة ـ بنى الله له بيتا في الجنّة» [٢٠٩] (٣).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦) رَبِّ

__________________

(١) سنن الدارمي : ٤ / ٢٣٧.

(٢) مسند أبي يعلى : ١١ / ٩٤.

(٣) مجمع الزوائد : ٢ / ١٦٨.

٣٤٨

السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦))

(حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ. إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) قال قتادة وابن زيد : هي (لَيْلَةُ الْقَدْرِ) ، أنزل الله تعالى القرآن (فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) من أم الكتاب إلى السّماء الدّنيا ، ثمّ أنزله على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الليالي والأيام ، وقال الآخرون : هي ليلة النصف من شعبان.

أخبرنا الحسين بن محمّد فنجويه ، حدثنا عمر بن أحمد بن القاسم ، حدثنا إبراهيم المستملي الهستجاني ، حدثنا أبو حصين بن يحيى بن سليمان ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا أبو بكر بن أبي سبره ، عن إبراهيم بن محمد ، عن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، عن أبيه ، عن علي بن أبي طالب «رضي‌الله‌عنه» قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا كان ليلة النصف من شعبان ، قوموا ليلتها وصوموا يومها ، فإنّ الله تعالى ينزل لغروب الشمس إلى سمّاه الدّنيا فيقول : ألّا مستغفر فأغفر له ، ألّا مسترزق فأرزقه ، ألّا مبتلى فأعافيه ، ألّا مبتلى فأعافيه ، ألّا كذا ، ألّا كذا ، ألّا كذا ، حتّى يطلع الفجر، (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ)» [٢١٠] (١).

(فِيها يُفْرَقُ) يفصل. (كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) محكم. قال الحسن ومجاهد وقتادة : يبرم في ليلة القدر من شهر رمضان كلّ أجل وعمل وخلق ورزق ، وما يكون في تلك السنة ، وقال أبو عبد الرّحمن السلمي : يدبر أمر السنة في ليلة القدر ، وقال هلال بن نساف : كان يقال : انتظروا القضاء في شهر رمضان.

وقال عكرمة : في ليلة النصف من شعبان ، يبرم فيه أمر السنة ، وينسخ الأحياء من الأموات ، ويكتب الحاج ، فلا يزاد فيهم أحد ، ولا ينقص منهم أحد.

يدل عليه ما أخبرنا عقيل بن محمد ، أخبرنا أبو الفرج القاضي ، أخبرنا محمد بن جبير ، حدثني عبيد بن آدم بن أبي إياس ، حدثني أبي ، حدثنا الليث ، عن عقيل بن خالد ، عن ابن شهاب ، عن عثمان بن محمد بن المغيرة الأخنس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان. حتّى أنّ الرجل لينكح ويولد له ، وقد خرج أسمه في الموتى» [٢١١] (٢).

(أَمْراً) أي أنزلنا أمرا. (مِنْ عِنْدِنا) من لدنا ، وقال الفراء : نصب على معنى نفرق كل

__________________

(١) كنز العمال : ١٢ / ٣١٤ ، ح ٣٥١٧٧.

(٢) كنز العمال : ١٥ / ٦٩٤ ، ح ٤٢٧٨٠.

٣٤٩

أمر فرق وأمرا. (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى عبادنا. (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) وقيل : أنزلناه رحمة ، وقيل : أرسلناه رحمة ، وقيل : الرحمة.

(إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) كسر أهل الكوفة (بائه) ردا على قوله (مِنْ رَبِّكَ) ، ورفعه الآخرون ردا على قوله (هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) وإن شئت على الابتداء.

(إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) إنّ الله (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) فأيقنوا إنّ محمدا رسوله ، وإنّ القرآن تنزيله. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ. رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ فَارْتَقِبْ) فانتظر. (يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ).

اختلفوا في هذا الدّخان ، ما هو ، ومتى هو ، فروى الأعمش ومسلم بن صبيح ، عن مسروق ، قال : كنا عند عبد الله بن مسعود جلوسا ، وهو مضطجع بيننا ، فأتاه رجل ، فقال : يا أبا عبد الرّحمن ، إنّ قاصا عند أبواب كنده ، يقص ويقول في قوله تعالى : (يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) إنّه دخان يأتي يوم القيامة ، فيأخذ بأنفاس الكفّار والمنافقين وأسماعهم وأبصارهم ، ويأخذ المؤمنين منه شبه الزكام ، فقام عبد الله وجلس ، وهو غضبان ، فقال : يا أيّها الناس اتقوا الله ، من علم شيئا فليقل ما يعلم ، ومن لا يعلم ، فليقل الله أعلم ، فأن الله تعالى ، قال لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) (١) وسأحدثكم عن ذلك : أنّ قريشا لما أبطأت عن الإسلام ، واستعصت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا عليهم ، فقال : «اللهم سبع سنين كسني يوسف (٢)» [٢١٢]. فأصابهم من الجهد والجوع ما أكلوا الجيف والعظام والميتة والجلود ، وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء فلا يرون إلّا الدخان من ظلمة أبصارهم من شدة الجوع ، فأتاه أبو سفيان بن حرب ، فقال : يا محمد إنّك حيث تأمر بالطاعة وصلة الرحم ، وإنّ قومك قد هلكوا فادع الله لهم فإنّهم لك مطيعون.

فقال الله تعالى : فقالوا : (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ) فدعا فكشف عنهم ، فقال الله تعالى : (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ) إلى كفركم. (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) فعادوا فانتقم الله منهم يوم بدر ، فهذه خمس قد مضين : الدخان ، واللزام ، والبطشة ، والقمر ، والرّوم.

وقال الآخرون : بل هو دخان يجيء قبل قيام السّاعة ، فيدخل في أسماع الكفّار والمنافقين ، حتّى تكون كالرأس الحنيذ ، ويعتري المؤمن منهم كهيئة الزكام ، وتكون الأرض كلّها كبيت أوقد فيه وليس فيه خصاص.

__________________

(١) سورة ص : ٨٦

(٢) صحيح ابن حبان : ١٤ / ٥٤٩ تفاوت بسير.

٣٥٠

قالوا : ولم يأت بعد ، وهو آت وهذا قول ابن عباس وابن عمير والحسن وزيد بن علي ، يدل عليه ما أنبأني عقيل بن محمد ، أخبرنا المعافا بن زكريا ، أخبرنا محمد بن جرير ، حدثنا عصام بن داود الجراح ، حدثنا أبي ، حدثنا سفيان بن سعيد ، حدثنا منصور بن المعتمر عن ربعي ابن حراش ، قال : سمعت حذيفة بن اليمان يقول ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ أول الآيات الدخان ونزول عيسى ابن مريم ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق النّاس إلى المحشر تقيل معهم إذا قالوا» [٢١٣] (١).

قال حذيفة : يا رسول الله ما الدخان؟ فتلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية : (يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوما وليلة. أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكام ، وأما الكافر كمنزلة السكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره.

وبه عن ابن جرير ، حدثنا يعقوب ، حدثنا ابن عليه ، عن ابن جريح ، عن عبد الله بن أبي مليكة ، قال : غدوت على ابن عباس ذات يوم ، فقال : ما نمت الليلة حتّى أصبحت. قلت : لم؟

قال : قالوا : طلع الكوكب ذو الذنب فخشيت أن يكون الدّخان قد طرق فما نمت حتّى أصبحت.

(رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ * أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى) من أين لهم للتذكير والاتعاظ بعد نزول البلاء وحلول العذاب. (وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ) محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ) يعلمه بشر. (مَجْنُونٌ * إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ) إلى كفركم ، وقال قتادة : عائدون في عذاب الله.

(يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى) وهو يوم بدر. (إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) هذا قول أكثر العلماء ، وقال الحسن : هو يوم القيامة.

وروي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قال ابن مسعود : (الْكُبْرى) يوم بدر وأنا أقول هي يوم القيامة.

(وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا

__________________

(١) كنز العمال : ١٤ / ٢٥٩ ، ح ٣٨٦٤٥.

٣٥١

مُنْظَرِينَ (٢٩) وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (٣٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧))

(وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) على الله وهو موسى بن عمران عليه‌السلام ، وقيل : شريف وبسيط في قومه. (أَنْ أَدُّوا) أن ادفعوا. (إِلَيَّ عِبادَ اللهِ) يعني بني إسرائيل فلا يعذبهم. (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) على الوحي.

(وَأَنْ لا تَعْلُوا) تطغوا وتبغوا. (عَلَى اللهِ) فتعصوه وتخالفوا أمره. (إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) برهان مبين فتوعدوه بالقتل. فقال : (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ) يقتلون ، وقال قتادة : (تَرْجُمُونِ) بالحجارة. ابن عباس : يشتمون ويقولون هو ساحر. (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ) فخلوا سبيلي غير مرجوم باللسان ولا باليد.

(فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) مشركون ، فقال سبحانه : (فَأَسْرِ بِعِبادِي) بني إسرائيل. (لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) يتبعكم فرعون وقومه.

(وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً) إذا قطعته أنت وأصحابك رهوا ساكنا على حالته وهيئته الّتي كان عليها حين دخلته. (إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ).

واختلفت عبارات المفسرين عن معنى الرهو فروى الوالبي عن ابن عباس (رَهْواً) ، قال : سمتا. العوفي عنه : هو أن يترك كما كان. كعب : طريقا. ربيع : سهلا. ضحاك : دمثا. عكرمة :يابسا جزرا ، وقيل جذاذا. قتادة : طريقا يابسا ، وأصل الرهو في كلام العرب السكون. قال الشاعر :

كأنما أهل حجر ينظرون متى

يرونني خارجا طيرا يناديد (١)

طيرا رأت بازيا نضح الدماء به

وأمه خرجت رهوا إلى عيد

يعني عليها سكون.

(كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ) مجلس (كَرِيمٍ) شريف وإنّما سماه كريما لأنّه مجلس الملوك ، قاله مجاهد وسعيد بن جبير ، وقالا : هي المنابر ، وقال قتادة : الكريم الحسن.

__________________

(١) جامع البيان للطبري : ٢٥ / ١٥٨.

٣٥٢

(وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ) ناعمين فاكهين أشرين بطرين معجبين. (كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ) بني إسرائيل. نظيره قوله : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ) (١) الآية.

(فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) وذلك إن المؤمن إذا مات بكت عليه السّماء والأرض أربعين صباحا ، وقال عطاء : في هذه الآية بكاءها حمرة أطرافها ، وقال السدي : لما قتل الحسين بن علي «رضي‌الله‌عنهما» بكت عليه السّماء ، وبكاؤها حمرتها (٢).

حدثنا خالد بن خداش ، عن حماد بن زيد ، عن هشام ، عن محمد بن سيرين. قال : أخبرونا إنّ الحمرة الّتي مع الشفق لم تكن ، حتّى قتل الحسين رضي‌الله‌عنه (٣).

أخبرنا ابن بكر الخوارزمي ، حدثنا أبو العياض الدعولي ، حدثنا أبي بكر بن أبي خثيمة ، وبه عن أبي خثيمة ، حدثنا أبو سلمة ، حدثنا حماد بن سلمة ، أخبرنا سليم القاضي ، قال : مطرنا دما أيام قتل الحسين (٤).

أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه ، حدثنا أبو علي المقري ، حدثنا أبو بكر الموصلي ، حدثنا أحمد بن إسحاق البصري ، حدثنا مكي بن إبراهيم ، حدثنا موسى بن عبيدة الرمدني ، أخبرني يزيد الرقاشي ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنّه قال : «ما من عبد إلّا له في السّماء بابان : باب يخرج منه رزقه ، وباب يدخل منه عمله وكلامه ، فإذا مات فقداه وبكيا عليه وتلا هذه الآية : (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ)» (٥) ، وذلك إنّهم لم يكونوا يعملون على الأرض عملا صالحا تبكي عليهم ، ولم يصعد إلى السّماء من كلامهم ولا من عملهم كلام طيب ولا عمل صالح فتفقدهم فتبكي.

أخبرنا عقيل بن محمد : إنّ المعافا بن زكريا أخبره ، عن محمد بن جرير ، حدثنا يحيى بن طلحة ، حدثنا عيسى بن يونس ، عن صفوان بن عمر ، عن شريح بن عبيد الحضرمي : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا ، ألّا لا غربة على مؤمن ، ما مات مؤمن في غربة غابت عنه فيها بواكيه ، إلّا بكت عليه السّماء والأرض». ثمّ قرأ رسول الله عليه‌السلام: (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) ، ثمّ قال : «إنّهما لا تبكيان على الكافر» [٢١٤] (٦).

(وَما كانُوا مُنْظَرِينَ * وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ) قتل الأبناء واستحياء

__________________

(١) سورة الأعراف : ١٣٧.

(٢) تفسير الطبري : ٢٥ / ١٦٠ ح ٢٤٠٧٢ ، وتفسير القرطبي : ١٦ / ١٤١.

(٣) تفسير القرطبي : ١٦ / ١٤١ ، والصواعق المحرقة : ١٩٤.

(٤) المصدر السابق ، وذخائر العقبي : ١٤٥ ، والجرح والتعديل للرازي : ٤ / ٢١٦ رقم ٩٤١.

(٥) تفسير ابن كثير : ٤ / ١٥٣.

(٦) الدر المنثور : ٦ / ٣٠.

٣٥٣

النساء. (مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ * وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ) يعني مؤمني بني إسرائيل.

(عَلى عِلْمٍ) منّا لهم. (عَلَى الْعالَمِينَ) يعني عالمي زمانهم (وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ) قال قتادة : نعمة بيّنة حين فلق لهم البحر وظلّل (عَلَيْهِمُ الْغَمامَ) وأنزل (١) (عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى).

وقال ابن زيد : ابتلاهم بالرخاء والشدة ، وقرأ : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) (٢).

(إِنَّ هؤُلاءِ) يعني مشركي مكّة. (لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ) بمبعوثين بعد موتنا. (فَأْتُوا بِآبائِنا) الّذين ماتوا. (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) إنّا نبعث أحياء بعد الموت.

(أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ) قال قتادة : هو تبّع الحميري ، وكان سار بالجيوش حتّى حيّر الحيرة ، وبنى سمرقند ، وكان إذا كتب ، كتب باسم الّذي يملك برا وبحرا وضحا وريحا.

وذكر لنا إنّ كعبا يقول : ذمّ الله قومه ولم يذمّه ، وكانت عائشة «رضي‌الله‌عنها» تقول : لا تسبوا تبّعا فإنه كان رجلا صالحا ، وقال سعيد بن جبير : هو الّذي كسا البيت.

أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه ، حدثنا أبو بكر بن محمد القطيعي ، حدثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل ، حدثنا أبي ، حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا أبو زرعة عمرو بن جابر ، عن سهل بن سعد ، قال : سمعت النبي عليه‌السلام يقول : «لا تسبوا تبّعا ، فإنّه قد كان أسلم» [٢١٥] (٣).

أخبرنا ابن فنجويه الدينوري ، حدثنا عبيد الله بن محمد بن شنبه ، حدثنا محمد بن علي سالم الهمذاني ، حدثنا أبو الأزهر أحمد بن الأزهر النيسابوري ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن ابن أبي ذيب ، عن المقبري ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أدري تبّع نبيا كان أم غير نبي» [٢١٦] (٤).

(وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم الخالية الكافرة.

(أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ).

(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا

__________________

(١) وفي المخطوط : أنزلنا ، وهو خطأ.

(٢) سورة الأنبياء : ٣٥.

(٣) مسند أحمد : ٥ / ٣٤٠.

(٤) عون المعبود : ١٢ / ٢٨١ ، تفسير ابن كثير : ٤ / ١٥٦.

٣٥٤

يَعْلَمُونَ (٣٩) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (٤٧) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (٥٠) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (٥٣) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (٥٩) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ * ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ * يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً) لا يدفع ابن عم عن ابن عمه ولا صديق عن صديقه.

(وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ) اختلف النحاة في محل (مَنْ) فقال بعضهم : محله رفع بدلا من الاسم المضمر في (يُنْصَرُونَ) ، وإن شئت جعلته ابتداء وأضمرت خبره ، يزيد (إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ) فنغني عنه ونشفع له ، وإن شئت جعلته نصبا على الاستثناء والانقطاع ، عن أول الكلام يريد اللهم (إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ) الفاجر وهو أبو جهل بن هشام.

أنبأني عقيل بن حمد ، أخبرنا المعافا بن زكريا ، أخبرنا محمد بن جرير ، حدثني أبو السائب ، حدثني أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن همام بن الحارث ، قال : كان أبو الدرداء يقرئ رجلا (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ) فجعل الرجل يقول : طعام اليتيم ، فلما أكثر عليه أبو الدرداء فرآه لا يفهم. قال : قل (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ) طعام الفاجر.

(كَالْمُهْلِ يَغْلِي) بالياء ابن كثير وحفص ، ورويس جعل الفعل غيرهم بالتاء لتأنيث الشجرة.

(فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ خُذُوهُ) يعني الأثيم. (فَاعْتِلُوهُ) فأدخلوه وادفعوه وسوقوه الى النّار. يقال : عتله يعتله عتلا إذا ساقه بالعنف والدفع والجذب. قال الفرزدق :

ليس الكرام بنا حليك أباهم

حتّى تردّ إلى عطية تعتل (١)

أي ساق دفعا وسحبا ، وفيه لغتان : كسر التاء ، وهي قراءة أبي جعفر وأبي مرو وأهل الكوفة ، وضمها وهي قراءة الباقي.

__________________

(١) جامع البيان للطبري : ٢٥ / ١٧٢.

٣٥٥

(إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ) وهو الماء الّذي قال الله تعالى : (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ) (١) ثمّ يقال له : (ذُقْ) هذا العذاب. (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) في قومك. (الْكَرِيمُ) بزعمك ، وذلك إنّ أبا جهل. قال : ما بين حبليها رجل أعز ولا أكرم مني. فيقول له الخزنة هذا على طريق الاستخفاف والتحقيق.

وقراءة العامة (إِنَّكَ) بكسر الألف على الابتداء ، وقرأ الكسائي بالنصب على معنى لأنّك.

(إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) تشكون ولا تؤمنون به فقد لقيتموه فذوقوه. (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ) قرأ أهل المدينة والشام بضم (الميم) من المقام على المصدر أي في إقامة ، وقرأ غيرهم بالفتح أي في مكان كريم.

(فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ) وهو ما رقّ من الديباج. (وَإِسْتَبْرَقٍ) وهو ما غلظ منه معرّب. (مُتَقابِلِينَ كَذلِكَ) وكما أكرمناهم بالجنان والعيون واللباس كذلك أكرمناهم بأن. (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ) وهي النساء النقيات البياض ، قال مجاهد : يحار فيهن الطرف من بياضهنّ وصفاء لونهنّ ، بادية سوقهنّ من وراء ثيابهنّ ، ويرى الناظر وجهه في كبد إحداهن كالمرآة من رقة الجلد وصفاء اللون.

ودليل هذا التأويل إنّها في حرف ابن مسعود (بعيس عين) وهي البيض ومنه قيل للإبل البيض عيس ، وواحده بعير أعيس ، وناقة عيساء ، وقيل : الحور الشديدات بياض الأعين ، الشديدات سوادها ، واحدها أحور ، والعين جمع العيناء ، وهي العظيمة العينين.

أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد بن عبد الله الطبري الحاجّي ، حدثنا أبو علي الحسن ابن إسماعيل بن خلف الخياط ، حدثنا أبو بكر محمد بن الحسين بن الفرج ، حدثنا محمد بن عبيد بن عبد الملك ، حدثنا محمد بن يعلي أبو علي الكوفي ، حدثنا عمر بن صبيح ، عن مقاتل بن حيان ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مهور الحور العين قبضات التمر وفلق الخبز» [٢١٧] (٢).

أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه ، حدثنا محمد بن عمر بن إسحاق ، عن حبش ، حدثنا عبد الله بن سليمان بن الأشعث ، حدثنا أيوب بن علي ـ يعني الصباحي ـ حدثنا زياد بن سيار ـ مولى لي ـ عن عزة بنت أبي قرصافة ، عن أبيها قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إخراج القمامة من المسجد مهور الحور العين» [٢١٨] (٣).

(يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ) اشتهوها. (آمِنِينَ) من نفادها وعدمها في بعض الأزمنة ومن

__________________

(١) سورة الحج : ١٩.

(٢) تفسير القرطبي : ١٦ / ١٥٣.

(٣) تفسير القرطبي : ١٦ / ١٥٣.

٣٥٦

غائلتها ومضرّتها ، وقال قتادة : (آمِنِينَ) من الموت والأوصاب والشيطان.

(لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) يعني سوى الموتة الأولى وبعدها وضع (إلا) موضع بعد كقوله : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) (١). يعني بعد ما قد فعل آباؤكم وسواه ، وهذا كما يقول في الكلام : ما ذقت اليوم طعاما سوى ما أكلته أمس.

(وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ * فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * فَإِنَّما يَسَّرْناهُ) سهلناه ، كناية عن غير مذكور.

(بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ فَارْتَقِبْ) فانتظر الفتح والنصر من ربّك. (إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) بزعمهم قهرك.

__________________

(١) سورة النساء : ٢٢.

٣٥٧

سورة الجاثية

مكيّة ، وهي سبع وثلاثون آية ، وأربعمائة وثمان وثمانون كلمة ،

وألفان ومائة وواحد وتسعون حرفا

أخبرنا أبو الحسن محمد بن القاسم الفقيه ، أخبرنا أبو عمرو محمد بن جعفر العدل ، حدثنا إبراهيم بن شريك بن الفضل ، حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس ، حدثنا سلام بن سليم ، حدثنا هارون بن كثير ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن أبي أمامة ، عن أبي بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ (حم) الجاثية ستر الله عورته وسكن روعته عند الحساب» [٢١٩] (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٩) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (١١) اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١٥) وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٦) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٢١))

(حم * تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ٩ / ١١٨.

٣٥٨

وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ).

قرأ حمزة والكسائي ويعقوب بكسر التاء من آيات وكذلك الّتي بعدها ردا على قوله : (لَآياتٍ) وقرأ الباقون برفعها على خبر حرف الصفة.

(لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ) يعني الغيث سماه رزقا لأنّه سبب أرزاق العباد وأقواتهم (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ. فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ). أي بعد حديث الله وكلامه. (وَآياتِهِ) وحججه ودليله. (يُؤْمِنُونَ) قرأ أهل الكوفة بالتاء ، وأختلف فيه عن عاصم ويعقوب عنهم بالياء.

(وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ) كذّاب. (أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها. فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ * وَإِذا عَلِمَ) يعني قوله (مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً. أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) نزلت في أبي جهل وأصحابه. (مِنْ وَرائِهِمْ) أمامهم. (جَهَنَّمُ) نظيره في سورة إبراهيم عليه‌السلام. (وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا) من الأموال. (شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ) يعني الأوثان.

(وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ هذا) القرآن. (هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) من عذاب موجع.

(اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ* وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ... فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً).

أخبرنا ابن فنجويه الدينوري ، حدثنا طلحة وعبد الله ، قالا : حدثنا ابن مجاهد ، حدثني ابن أبي مهران ، حدثني أحمد بن يزيد ، حدثنا شبابة ، عن أبي سمبلة ، عن عبد العزيز بن علي القريشي ، حدثنا محمد بن عبد الله بن أيوب الثقفي ، عن عثمان بن بشير ، قال : سمعت ابن عباس يقرأ : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) جَمِيعاً مَنُّهُ مفتوحة (الميم) ، مرفوعة (النون) ، وبه رواية ، عن ابن عمر ، قال : سمعت مسلمة يقرأ : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) جَمِيعاً مَنُّهُ مفتوحة (الميم) مرفوعة (النون) وهي مشددة ، (والهاء) مضمومة.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) أي لا يخافون وقائع الله ولا يبالون نقمه ، قال ابن عباس ومقاتل : نزلت في عمر بن الخطاب صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك أنّ رجلا من بني غفار كان يشتمه فهمّ عمر أن يبطش به ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وأمره بالعفو.

أخبرنا الحسين بن محمد بن عبد الله ، حدثنا موسى بن محمد بن علي بن عبد الله ، حدثنا الحسن بن علوية ، حدثنا إسماعيل بن عيسى العطار ، حدثنا محمد بن زياد الشكري ، عن ميمون ابن مهران ، عن ابن عباس ، قال : لما نزلت هذه الآية (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) (١).

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٤٥.

٣٥٩

قال يهودي بالمدينة يقال له فنحاص : احتاج ربّ محمد.

قال : فلما سمع بذلك عمر بن الخطاب اشتمل على سيفه وخرج في طلبه. فجاء جبريل إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : إنّ ربّك يقول : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) ، وأعلم إنّ عمر بن الخطاب قد اشتمل على سيفه وخرج في طلب اليهودي». فبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في طلبه ، فلما جاءه ، قال : «يا عمر خرج سيفك؟». قال : صدقت يا رسول الله ، أشهد أنّك أرسلت بالحقّ ، قال : «فإنّ ربّك يقول : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) (١)» [٢٢٠].

قال : لا جرم والّذي بعثك بالحقّ لا يرى الغضب في وجهي.

قال القرظي والسدي : نزلت في ناس من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أهل مكّة كانوا في أذى شديد من المشركين ، قبل أن يؤمروا بالقتال فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنزل الله تعالى هذه الآية ثمّ نسختها آية القتال.

(لِيَجْزِيَ قَوْماً) بفتح الياءين وكسر الزاء ، وقرأ أبو جعفر بضم الياء الأولى وجزم الثانية ، قال أبو عمرو : وهو لحن ظاهر ، وقال الكسائي : وهذه ليجري الجزاء قوما ، وقرأ الباقون بفتح الياءين على وجه الخبر عن الله تعالى ، واختاره أبو عبيده وأبو حاتم لذكر الله تعالى قبل ذلك.

(بِما كانُوا يَكْسِبُونَ * مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها. ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ * وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) الحلالات ، يعني المن والسلوى. (وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ) يعني أحكام التوراة.

(فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ. إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ) سنة وطريقة. (مِنَ الْأَمْرِ) من الدّين.

(فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) يعني مراد الكافرين الجاهلين ، وذلك حين دعي إلى دين آبائه.

(إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً) إن اتبعت أهواءهم. (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ * هذا) يعني هذا القرآن. (بَصائِرُ) معالم. (لِلنَّاسِ) في الحدود والأحكام يبصرون بها.

(وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا) اكتسبوا. (السَّيِّئاتِ) يعني الكفر والمعاصي.

(أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً) قرأ أهل الكوفة نصبا واختاره أبو عبيدة ، وقال : معناه نجعلهم سواء ، وقرأ الآخرون بالرفع على الابتداء والخبر ، واختاره أبو حاتم ، وقرأ الأعمش وَمَماتَهُمْ بنصب التاء على الظرف ، أي في.

(مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) بئس ما يقضون ، قال المفسرون : معناه المؤمن في

__________________

(١) أسباب نزول الآيات : ٢٥٤.

٣٦٠