الكشف والبيان - ج ٨

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ٨

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

وقال مقاتل : (حُبَّ الْخَيْرِ) يعني المال وهي الخيل التي عرضت عليه (عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) يعني الصلاة ، نظيرها (لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) (١) ، (حَتَّى تَوارَتْ) يعني الشمس ، كناية عن غير مذكور.

كقول لبيد :

حتّى إذا ألقت يدا في كافر (٢)

يعني الشمس (بِالْحِجابِ) وهو جبل دون قاف بمسيرة سنة ، تغرب الشمس من ورائها.

(رُدُّوها) كرّوها (عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) أي فأقبل يمسح سوقها وأعناقها بالسيف ، وينحرها تقربا بها إلى الله سبحانه وطلبا لرضاه ، حيث اشتغل بها عن طاعته ، وكان ذلك قربانا منه ومباحا له ، كما أبيح لنا ذبح بهيمة الأنعام.

وقال قوم : معناه حبسها في سبيل الله ، وكوى سوقها وأعناقها بكيّ الصدقة.

ويقال للكيّة على الساق : علاظ ، وللكيّة على العنق : دهاو.

وقال الزهري وابن كيسان : كان يمسح سوقها وأعناقها ، ويكشف الغبار عنها حبا لها.

وهي رواية ابن أبي طلحة عن ابن عبّاس.

(وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ) هذه قصة محنة نبي الله سليمان وسبب زوال ملكه مدة ، واختلفوا في سبب ذلك.

فروى محمّد بن إسحاق عن بعض العلماء قال : قال وهب بن منبه : سمع سليمان بمدينة في جزيرة من جزائر البحر يقال لها صيدون ، بها ملك عظيم الشأن لم يكن للناس إليه سبيل لمكانه في البحر ، وكان الله قد أتى سليمان في ملكه سلطانا لا يمتنع عليه شيء في بر ولا بحر ، إنما يركب إليه [إذا ركب على] الريح ، فخرج إلى تلك المدينة تحمله الريح على ظهر الماء حتى نزل بها بجنوده من الجنّ والإنس ، فقتل ملكها واستقام فيها وأصاب فيما أصاب بنتا لذلك الملك يقال لها : جرادة ، لم ير مثلها حسنا وجمالا ، واصطفاها لنفسه ودعاها إلى الإسلام ، فأسلمت على جفاء منها وقلة ثقة ، وأحبها حبا لم يحبه شيئا من نسائه ، وكانت على منزلتها عنده ، لا يذهب حزنها ولا يرقأ دمعها ، فشق ذلك على سليمان فقال لها : ويحك ما هذا الحزن الذي لا يذهب والدمع الذي لا يرقأ؟

قالت : إن أبي أذكره وأذكره ملكه وما كان فيه وما أصابه فيحزنني ذلك.

__________________

(١) سورة النور : ٣٧.

(٢) الصحاح للجوهري : ٢ / ٨٠٨ ، وعجز البيت : وأجن عورات الثغور ظلامها.

٢٠١

فقال سليمان : فقد أبدلك الله به ملكا هو أعظم من ملكه ، وسلطانا أعظم من سلطانه ، وهداك للإسلام وهو خير من ذلك كله.

قالت : إن ذلك لكذلك ، ولكنني إذا ذكرته أصابني ما ترى من الحزن ، فلو أنك أمرت الشياطين فصوّروا صورته في داري التي أنا فيها أراها بكرة وعشيا ، لرجوت أن يذهب ذلك حزني ، وأن يسلّى عني بعض ما أجد في نفسي.

فأمر سليمان الشياطين فقال : مثّلوا لها صورة أبيها في دارها حتّى لا تنكر منه شيئا.

فمثّلوا لها حتّى نظرت إلى أبيها بعينه ، إلّا أنّه لا روح فيه ، فعمدت إليه حين صنعوه فأزّرته وقمّصته وعمّمته ، وردّته بمثل ثيابه التي كان يلبس ، ثم كانت إذا خرج سليمان من دارها تغدوا عليه في ولائدها حتّى تسجد له ويسجدن معها كما كانت تصنع به في ملكه ، وتروح كل عشية بمثل ذلك ، وسليمان لا يعلم بشيء من ذلك أربعين صباحا وبلغ ذلك آصف بن برخيا ، وكان صدّيقا وكان لا يرد عن باب سليمان أيّ ساعة أراد دخول شيء من بيوته ، حاضرا كان [سليمان] أو غائبا ، فأتاه فقال : يا نبي الله كبرت سني ، ودق عظمي ، ونفد عمري ، وقد حان مني الذهاب ، وقد أحببت أن أقوم مقاما قبل الموت ، أذكر فيه من مضى من أنبياء الله ، وأثني عليهم بعلمي فيهم ، وأعلم الناس بعض ما كانوا يجهلون من كثير من أمورهم.

فقال : افعل.

فجمع له سليمان الناس ، فقام فيهم خطيبا ، فذكر من مضى من أنبياء الله ، فأثنى على كل نبي بما فيه وذكر ما فضّله الله به ، حتّى انتهى إلى سليمان فقال : ما كان أحلمك في صغرك ، وأورعك في صغرك ، وأفضلك في صغرك ، وأحكم أمرك في صغرك ، وأبعدك من كل ما يكره في صغرك ، ثم انصرف.

فوجد سليمان في نفسه من ذلك حتّى ملأه غضبا ، فلما دخل سليمان داره أرسل إليه فقال : يا آصف ذكرت من مضى من أنبياء الله ، وأثنيت عليهم خيرا في كل زمانهم وعلى كل حال من أمرهم ، فلما ذكرتني جعلت تثني عليّ بخير في صغري ، وسكت عمّا سوى ذلك من أمري في كبري فما الذي أحدثت في آخر عمري؟

قال : إن غير الله ليعبد في دارك منذ أربعين صباحا في هوى امرأة.

فقال : في داري؟

فقال : في دارك.

قال : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) ، لقد علمت أنك ما قلت الذي قلت إلّا عن شيء بلغك.

ثم رجع سليمان إلى داره فكسّر ذلك الصنم ، وعاقب تلك المرأة وولائدها ، ثم أمر بثياب

٢٠٢

الطهرة فأتى بها ـ وهي ثياب لا يغزلها إلّا الأبكار ولم تمسها امرأة رأت الدم ـ فلبسها ثم خرج إلى فلاة من الأرض وحده ، وأمر برماد ففرش له ، ثم أقبل تائبا إلى الله عزوجل حتّى جلس على ذلك الرماد وتمعك فيه بثيابه تذللا لله سبحانه وتضرعا إليه ، يبكي ويدعو ويستغفر ممّا كان في داره ويقول فيما يقول : رب ماذا ببلائك عند آل داود أن يعبدوا غيرك وأن يقرّوا في دورهم وأهاليهم عبادة غيرك.

فلم يزل كذلك يومه ذلك حتى أمسى ، ثم يرجع إلى داره ، وكانت أم ولد له يقال لها : الأمينة ، كان إذا دخل مذهبه أو أراد إصابة امرأة من نسائه وضع خاتمه عندها حتّى يتطهر ، وكان لا يلبس خاتمة إلّا وهو طاهر ، وكان ملكه في خاتمه ، فوضعه يوما من تلك الأيام عندها كما كان يضعه ثم دخل مذهبه ، فأتاها الشيطان صاحب البحر وكان اسمه : صخر ، على صورة سليمان لا ينكر منه شيئا.

فقال : يا أمينة خاتمي.

فناولته إياه فجعله في يده ثم خرج حتّى جلس على سرير سليمان ، وعكفت عليه الطير والجن والانس ، وخرج سليمان فأتى الأمينة ، وقد غيرت حاله وهيبته عند كل من رأى فقال : يا أمينة خاتمي.

فقالت : ومن أنت؟

قال : أنا سليمان بن داود.

فقالت : كذبت لست بسليمان وقد جاء سليمان وأخذ خاتمه وهو جالس على سريره في ملكه.

فعرف سليمان أن خطيئته قد أدركته ، فخرج فجعل يقف على الدار من دور بني إسرائيل فيقول : أنا سليمان بن داود. فيحثون عليه التراب ويسبونه ويقولون : انظروا إلى هذا المجنون أي شيء يقول يزعم أنه سليمان بن داود.

فلما رأى سليمان ذلك عمد إلى البحر فكان ينقل الحيتان لأصحاب البحر إلى السوق ، فيعطونه كل يوم سمكتين فإذا امسى باع إحدى سمكتيه بأرغفة وشوى الأخرى فأكلها ، فمكث بذلك أربعين صباحا ، عدة ما كان عبد ذلك الوثن في داره ، فأنكر آصف وعظماء بني إسرائيل حكم عدو الله الشيطان في تلك الأربعين اليوم.

فقال آصف : يا معشر بني إسرائيل هل رأيتم من اختلاف حكم ابن داود ما رأيت؟

قالوا : نعم.

قال : أمهلوني حتّى أدخل على نسائه فأسألهن : هل أنكرن منه في خاصة أمره ، ما أنكرناه في عامة أمر الناس وعلانيته؟

٢٠٣

فدخل على نسائه فقال : ويحكن هل أنكرتن من أمر ابن داود ما أنكرناه؟

فقلن : أشدّه ما يدع امرأة منّا في دمها ، ولا يغتسل من جنابة.

فقال : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) (إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ).

ثم خرج إلى بني إسرائيل فقال : ما في الخاصة أعظم ممّا في العامة. فلما قضى أربعون صباحا طار الشيطان عن مجلسه ، ثم مرّ بالبحر فقذف الخاتم فيه ، فبلعته سمكة وأخذها بعض الصيادين ، وقد عمل له سليمان صدر يومه ذلك حتّى إذا كان العشي أعطاه سمكته وأعطى السمكة التي أخذت الخاتم ، وخرج سليمان بسمكتيه فباع التي ليس في بطنها الخاتم بالأرغفة ، ثم عمد إلى السمكة الأخرى فبقرها ليشويها ، فاستقبله خاتمه في جوفها فأخذه فجعله في يده ، ووقع ساجدا وعكفت عليه الطير والجنّ وأقبل عليه الناس ، وعرف الذي كان دخل عليه لما كان أحدث في داره ، فرجع إلى ملكه وأظهر التوبة من ذنبه وأمر الشياطين فقال : ائتوني بصخر.

فطلبته له الشياطين حتّى أخذ له فأتى به فجاءت له صخرة ، فأدخله فيها ثم شد عليه أخرى ثم أوثقها بالرصاص والحديد ، ثم أمر به فقذف في البحر.

فهذا حديث وهب بن منبه (١).

قال السديّ في سبب ذلك : كان لسليمان عليه‌السلام مائة امرأة ، وكانت امرأة منهنّ يقال لها : جرادة ، وهي أبرّ نسائه وآمنهن عنده ، فكان إذا أحدث أو أتى حاجة ، نزع خاتمه ولم يأتمن عليه أحدا من الناس غيرها ، فجاءته يوما من الأيام فقالت له : إن أخي بينه وبين فلان خصومة ، وأنا أحب أن تقضي له إذا جاءك.

فقال : نعم. ولم يفعل ، فابتلي بقوله وأعطاها خاتمه ودخل المخرج فخرج الشيطان في صورته ، فقال لها : هات الخاتم.

فأعطته ، فجاء حتّى جلس على مجلس سليمان ، وخرج سليمان بعده فسألها أن تعطيه خاتمه.

فقالت : ألم تأخذه قبل؟

قال : لا. وخرج من مكانه تائها ، ومكث الشيطان يحكم بين الناس أربعين يوما.

قال : فأنكر الناس حكمه ، فاجتمع قرّاء بني إسرائيل وعلمائهم ، فجاؤا حتّى دخلوا على نسائه ، فقالوا : إنّا قد أنكرنا هذا ، فإن كان سليمان فقد ذهب عقله ، وأنكرنا أحكامه ، فبكى النساء عند ذلك قال : فأقبلوا يمشون حتّى أتوه فأحدقوا به ثم نشروا التوراة فقرءوها ، فلما قرءوا

__________________

(١) بطوله في تاريخ الطبري : ١ / ٣٥١ ـ ٣٥٤.

٢٠٤

التوراة طار من بين أيديهم حتّى وقع على شرفة والخاتم معه ، ثم طار حتّى ذهب إلى البحر فوقع الخاتم منه في البحر فابتلعته حوت.

قال : فأقبل سليمان في حاله التي كان فيها ، حتّى انتهى إلى صياد من صيادي البحر وهو جائع وقد اشتد جوعه ، فاستطعمه من صيدهم ، وقال : إني أنا سليمان.

فقام إليه بعضهم فضربه بعصا فشجه.

قال : فجعل يغسل دمه وهو على شاطئ البحر ، فلام الصيادون صاحبهم الذي ضربه ، وقالوا : بئس ما صنعت حين ضربته.

فقال : إنه زعم أنه سليمان. فأعطوه سمكتين ممّا قد مذر عندهم ، فلم يشغله ما كان به من الضرب ، حتّى قام إلى شط البحر فشق بطونهما وجعل يغسلهما ، فوجد خاتمه في بطن إحداهما فأخذه فلبسه ، فردّ الله عليه ملكه وبهاءه ، وجاءت الطير حتّى حامت عليه ، فعرف القوم أنه سليمان ، فقاموا يعتذرون مما صنعوا.

فقال : ما أحمدكم على عذركم ولا ألومكم على ما كان منكم هذا أمر كان لا بدّ منه.

ثم جاء حتّى أتي ملكه وأمر حتّى أتى بالشيطان الذي أخذ خاتمه ، وجعله في صندوق من حديد ثم أطبق عليه ، وأقفل عليه بقفل وختم عليه بخاتمه ثم أمره فألقي في البحر ، وهو كذلك حيّ حتّى الساعة (١).

وفي بعض الروايات : أن سليمان لما افتتن ، سقط الخاتم من يده وكان فيه ملكه ، فأخذه سليمان فأعاده إلى يده فسقط من يده ، فلما رآه سليمان لا يثبت في يده أيقن بالفتنة ، وأن آصف قال لسليمان : إنك مفتون بذنبك والخاتم لا يتماسك في يدك أربعة عشر يوما.

ففرّ إلى الله تائبا من ذنبك ، وأنا أقوم مقامك وأسير في عالمك وأهل بيوتك بسيرتك ، إلى أن يتوب الله عليك ويردك إلى ملكك.

ففرّ سليمان هاربا إلى ربّه ، وأخذ أصف الخاتم فوضعه في يده فثبت ، وأن الجسد الذي قال الله تعالى : (وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً) كان هو أصف كاتبا لسليمان ، وكان عنده علم من الكتاب ، فأقام أصف في ملك سليمان وعالمه يسير بسيرته ويعمل بعمله أربعة عشر يوما ، إلى أن رجع سليمان إلى منزله تائبا إلى الله سبحانه وردّ الله عليه ملكه ، فقام أصف من مجلسه وجلس سليمان على كرسيه ، وأعاد الخاتم في يده فثبت فيها.

وأخبرنا شعيب بن محمّد قال : أخبرنا مكي بن عبدان قال : أخبرنا أحمد بن الأزهر قال :

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٤ / ٣٨ ، وتاريخ الطبري : ١ / ٣٥٤.

٢٠٥

حدثنا روح بن عبادة قال : حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب : أن سليمان بن داود احتجب عن الناس ثلاثة أيام ، فأوحى الله عزوجل إليه : أن يا سليمان احتجبت عن الناس ثلاثة أيام فلم تنظر في أمور عبادي ، ولم تنصف مظلوما من ظالم.

وذكر حديث الخاتم وأخذ الشيطان إياه كما رويناه (١).

وقال في آخره : قال علي : فذكرت ذلك للحسن فقال : ما كان الله عزوجل يسلطه على نسائه (٢).

وقال بعض المفسرين : كان سبب فتنة سليمان أنه أمر أن لا يتزوج امرأة [إلّا] من بني إسرائيل ، فتزوج امرأة من غيرهم فعوقب على ذلك.

وقيل : ان سليمان لما أصاب ابنة ملك صيدون أعجب بها ، فعرض عليها الإسلام فأبت وامتنعت فخوّفها سليمان.

فقالت : إن أكرهتني على الإسلام قتلت نفسي.

فخاف سليمان أن تقتل نفسها ، فتزوج بها وهي مشركة ، وكانت تعبد صنما لها من ياقوت أربعين يوما في خفية من سليمان إلى أن أسلمت ، فعوقب سليمان بزوال ملكه أربعين يوما (٣).

وقال الشعبي في سبب ذلك : ولد لسليمان ابن ، فاجتمعت الشياطين وقال بعضهم لبعض : إن عاش له ولد لم ننفك مما نحن فيه من البلاء والسحرة ، فسبيلنا أن نقتل ولده أو نحيله.

فعلم سليمان بذلك فأمر السحاب حتّى حملته الريح وغدا ابنه في السحاب خوفا من معرة الشيطان ، فعاقبه الله لخوفه من الشيطان ، ومات الولد فألقى ميتا على كرسيّه ، فهو الجسد الذي قال الله سبحانه : (وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ).

وقيل : هو ان سليمان قال يوما : لأطوفن الليلة على نسائي كلهن ، حتّى يولد لي من كل واحدة منهن ابن فيجاهد في سبيل الله. ولم يستثن ، فجامعهن كلهن في ليلة واحدة ، فما خرج له منهن إلّا شق مولود ، فجاءت به القابلة والقته على كرسي سليمان.

فذلك قوله عزوجل : (وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً) وهو ما أخبرنا عبد الله بن حامد عن آخرين قالوا : حدثنا ابن الشرقي ، قال : حدثنا محمّد بن عقيل وأحمد بن حفص قالا : حدثنا حفص قال : حدثني إبراهيم بن طهمان عن موسى بن عقبة ، قال : اخبرني أبو الزناد عن عبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة

__________________

(١) بطوله في تاريخ دمشق : ٢٢ / ٢٤٨ ط. دار الفكر.

(٢) الدر المنثور : ٥ / ٣١٢.

(٣) انظر تفسير القرطبي : ١٥ / ١٩٩.

٢٠٦

قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قال سليمان بن داود لأطوفنّ الليلة على سبعين امرأة ، كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله. فقال له صاحبه : قل إن شاء الله. فلم يقل : إن شاء الله. فطاف عليهن فلم تحمل منهن إلّا امرأة واحدة جاءت بشق رجل ، والذي نفس محمّد بيده لو قال : إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون» [١١٦] (١) فذلك قوله عزوجل : (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ).

قال مقاتل : فتن سليمان بعد ملك عشرين سنة ، وملك بعد الفتنة عشرين سنة.

(وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً) أيّ شيطانا ، عن أكثر المفسرين.

واختلفوا في اسمه ، فقال مقاتل وقتادة : اسمه صخر بن عمر بن عمرو بن شرحبيل وهو الذي دل سليمان على الألماس حين أمر ببناء بين المقدس وقيل له : لا يسمعن فيه صوت حديد ، فأخذوا الألماس فجعلوا يقطعون به الحجارة والجواهر ولا تصوت ، وكان سليمان إذا أراد أن يدخل الخلاء والحمام لم يدخل بخاتمه ، فدخل الحمام وذكر القصة في أخذ الشيطان الخاتم.

قال : وكان فيهم رجل يشبهونه بعمر بن الخطاب في القوة فقال : أما والله لأجربنّه ، فقال : يا نبي الله ـ وهو لا يرى أنه نبي الله ـ أرأيت أحدنا تصيبه الجنابة في الليلة الباردة فيدع الغسل عمدا حتّى تطلع الشمس ، أترى عليه بأسا؟ قال : لا. فرخص له في ذلك ، وذكر الحديث.

وروى أبو إسحاق عن عمارة بن عبد عن علي رضي‌الله‌عنه قال : بينما سليمان جالس على شاطئ البحر وهو يلعب بخاتمه ، إذ سقط في البحر وكان ملكه في خاتمه.

وروى حماد بن سلمة عن عمر بن دينار عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كان نقش خاتم سليمان بن داود لا إله إلّا الله محمّد رسول الله» [١١٧] (٢).

رجع إلى حديث علي قال : فانطلق سليمان وخلّف شيطانا في أهله وأتى عجوزا فآوى إليها فقالت له العجوز : أن شئت ان تنطلق فاطلب فأكفيك عمل البيت وإن شئت أن تكفيني البيت وانطلق والتمس.

قال : فانطلق يلتمس ، فأتى قوم يصيدون السمك فجلس إليهم فنبذوا إليه سمكات ، فانطلق بهن حتّى أتى العجوزة ، فأخذت تصلحه فشقت بطن سمكة ، فإذا فيها الخاتم فأخذته وقالت لسليمان : ما هذا؟ فأخذه سليمان فلبسه ، فأقبلت الشياطين والجنّ والإنس والطير والوحوش ، وهرب الشيطان

__________________

(١) صحيح البخاري : ٣ / ٢٠٩ ، وصحيح مسلم : ٥ / ٨٧.

(٢) كنز العمال : ١١ / ٤٩٨ ح ٣٢٣٣٧ ، وتذكرة الموضوعات : ١٠٨.

٢٠٧

الذي خلّف في أهله ، فأتى جزيرة في البحر فبعث إليه الشياطين فقالوا : لا نقدر عليه ، ولكنه يرد علينا في الجزيرة في كل سبعة أيام يوما ، لا نقدر عليه حتّى يسكر.

قال : فنزح ماءها وجعل فيها خمرا. قال : فجاء يوم وروده فإذا هو بالخمر فقال : والله إنك لشراب طيب إلّا أنك تصبين (١) الحليم وتزيدين الجاهل جهلا.

ثم رجع حتّى عطش عطشا شديدا ثم أتاها فقال : إنك لشراب طيب إلّا أنك تصبين الحليم وتزيدين الجاهل جهلا.

قال : ثم شربها حتّى غلبته على عقله ، ثم أروه الخاتم فقال : سمع وطاعة (٢).

قال : فأتى به سليمان فأوثقه ثم بعث به إلى جبل ، فذكروا أنه جبل الدخان الذي يرون من نفسه ، والماء الذي يخرج من الجبل هو بوله.

وقال السدي : اسم ذلك الشيطان اسمذي وقيل خبفيق.

وقال مجاهد : اسمه آصف.

أخبرنا أبو صالح بن أبي الحسن البيهقي الفقيه قال : أخبرنا أبو حاتم التميمي قال : حدثنا أبو الأزهر العبدي قال : حدثنا روح بن عبادة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد (وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً) قال : شيطانا يقال له : آصف. قال له سليمان : كيف تفتنون الناس؟

قال : أرني خاتمك أخبرك. فلما أعطاه نبذه آصف في البحر ، فساح سليمان فذهب ملكه وقعد آصف على كرسيّه ومنعه الله سبحانه نساء سليمان فلم يقربهن ، وأنكر الناس أمر سليمان ، وكان سليمان يستطعم فيقول : أتعرفونني؟ أنا سليمان فيكذبونه حتّى أعطته امرأة يوما حوتا فبطّ بطنه ، فوجد خاتمه في بطنه فرجع إليه ملكه وفرّ آصف فدخل البحر. وقيل : إن الجسد هو آصف ابن برخيا الصدّيق ، وقد مضت القصة.

وقيل : هو الولد الميت الذي غدا في السحاب.

وقيل : هو الولد الناقص الخلق.

وقيل : معنى قوله : (وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً) أن سليمان ضرب بعلّة أشرف منها على الموت ، حتّى صار جسدا في المثل بلا روح ، وقد وصف المريض المضني بهذه الصفة ، فيقال كالجسد الملقى ولم يبق منه إلّا جسده وتقدير الآية (وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً).

__________________

(١) في بعض المصادر : تطيشين.

(٢) تفسير الطبري : ٢٢ / ١٨٧.

٢٠٨

وأما صفة كرسي سليمان

فروي ان سليمان لما ملك بعد أبيه ، أمر باتخاذ كرسي ليجلس عليه للقضاء ، وأمر بأن يعمل بديعا مهولا ، بحيث إن لو رآه مبطل أو شاهد زور ارتدع وتهيّب.

قال : فعمل له كرسي من أنياب الفيل ، وفصصوه بالياقوت واللؤلؤ والزبرجد وأنواع الجواهر ، وحففوه بأربع نخلات من ذهب شماريخها الياقوت الأحمر والزمرد الأخضر ، على رأس نخلتين منها طاوسان من ذهب وعلى رأس الآخرين نسران من ذهب بعضها مقابل لبعض ، وقد جعلوا من جنبتي الكرسي أسدين من الذهب ، على رأس كل واحد منهما عمود من الزمرد الأخضر ، وقد عقدوا على النخلات أشجار كروم من الذهب الأحمر ، واتخذوا عناقيدها من الياقوت الأحمر ، بحيث أظل عريش الكروم النخل والكرسي.

قال : وكان سليمان إذا أراد صعوده وضع قدميه على الدرجة السفلى ، فيستدير الكرسي كله بما فيه دوران الرحى المسرعة ، وتنشر تلك النسور والطواويس أجنحتها ويبسط الأسدان أيديهما فيضربان الأرض بأذنابهما ، وكذلك يفعل في كل درجة يصعدها سليمان ، فإذا استوى بأعلاه أخذ النسران اللذان على النخلتين تاج سليمان فوضعاه على رأس سليمان ، ثم يستدير الكرسي بما فيه ويدور معه النسران والطاوسان والأسدان مائلات برءوسها إلى سليمان ينضحن عليه من أجوافها المسك والعنبر ثم تناولت حمامة من ذهب قائمة على عمود من جوهر من أعمدة الكرسي التوراة ، فيفتحها سليمان ويقرأها على الناس ويدعوهم إلى فصل القضاء ، ويجلس عظماء بني إسرائيل على كراسي الذهب المفصصة وهي ألف كرسي عن يمينه ، ويجيء عظماء الجنّ ويجلسون على كراسي من الفضة عن يساره وهي ألف كرسي حافين جميعا ، به ثم تحف بهم الطير تظلهم ، ويتقدم إليه الناس للقضاء ، فإذا دعى بالبينات وتقدمت الشهود لإقامة الشهادات ، دار الكرسي بما فيه من جميع ما حوله دوران الرحى المسرعة ، ويبسط الأسدان أيديهما ويضربان الأرض بأذنابهما وينشر النسران والطاوسان أجنحتهما ، فيفزع منه الشهود ويدخلهم من ذلك رعب شديد ، فلا يشهدون إلّا بالحق (١).

(قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي) ذنبي (وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ).

وقال ابن كيسان : أي لا يكون لأحد.

(مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) المعطي.

قال عطاء بن أبي رباح : يريد هب لي ملكا لا أسلبه في باقي عمري كما سلبته في ماضي عمري.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٥ / ٢٠٢.

٢٠٩

وقال مقاتل بن حيان : كان سليمان ملكا ولكنه أراد بقوله (لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) تسخير الرياح والطير ، يدل عليه ما بعده.

وقيل : إنما سأل ذلك ليكون آية لنبوته ودلالا على رسالته ومعجزا لمن سواه.

وقيل : إنما سأل ذلك ليكون علما له على المغفرة وقبول التوبة ، حيث أجاب الله سبحانه وتعالى دعاءه ورد إليه ملكه وزاد فيه.

وقال عمر بن عثمان الصدفي : أراد به ملك النفس وقهر الهوى.

يؤيده ما أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا محمّد بن خالد قال : حدثنا داود بن سليمان قال : حدثنا عبد بن حميد قال : أخبرنا عبد الله بن يزيد قال : حدثنا عبد الرحمن بن زياد الأفريقي قال : حدثنا سلمان بن عامر الشيباني قال : بلغني أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أرأيتم سليمان وما أعطاه الله من ملكه؟ فإنه لم يرفع طرفه إلى السماء تخشعا لله عزوجل حتّى قبضه الله عزوجل» [١١٨] (١).

وأخبرنا شعيب بن محمّد قال : أخبرنا مكي بن عبدان قال : حدثنا أبو الأزهر قال : حدثنا روح بن عبادة قال : حدثنا هشام عن الحسن أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قد عرض لي الشيطان في مصلاي الليلة كأنه هرّكم هذا ، فأخذته فأردت أن أحبسه حتّى أصبح ، فذكرت دعوة أخي سليمان رب (هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) فتركته» [١١٩] (٢).

ومنه عن روح عن شعبة عن محمّد بن زياد قال : سمعت أبا هريرة قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن عفريتا من الجن جعل يتقلب عليّ البارحة ليقطع عليّ صلاتي وأن الله عزوجل أمكنني منه [فرعته] (٣) فلقد هممت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتّى يصبح فتنظرون إليه كلكم ، فتذكرت قول سليمان : ربّ (هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) فردّه الله عزوجل خاسئا» [١٢٠] (٤).

(فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً) ليّنة رطبة (حَيْثُ أَصابَ) حيث أراد وشاء ، بلغة حمير.

تقول العرب : أصاب الصواب وأخطأ الجواب ، أي أراد الصواب.

قال الشاعر :

__________________

(١) المصنف لابن أبي شيبة : ٨ / ١١٨.

(٢) الدر المنثور : ٥ / ٣١٣.

(٣) كذا في المخطوط : وفي المصادر : (فأخذته) و (فذعته) و (فانتهرته)

(٤) مسند أحمد : ٢ / ٢٩٨ ، وصحيح البخاري : ٤ / ١٣٦.

٢١٠

أصاب الكلام فلم يستطع

فأخطأ الجواب لدى المفصل (١)

(وَالشَّياطِينَ) أي وسخرنا له الشياطين (كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ) يستخرجون له اللئالئ من البحر ، وهو أول من استخرج اللؤلؤ من البحر (وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) يعني مشدودين في القيود واحدها صفد (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ) فأعط ، من قوله سبحانه : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) (٢).

وتقول العرب : منّ عليّ برغيف ، أي أعطانيه.

قال الحسن : إن الله عزوجل لم يعط أحدا عطية إلّا جعل فيها حسابا ، إلّا سليمان فإن الله سبحانه أعطاه عطاء هنيئا فقال : (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ).

(أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) قال : إن أعطى أجر وان لم يعط لم يكن عليه تبعة.

قال مقاتل : هو في أمر الشياطين ، خذ من شئت منهم في وثاقك لا تبعة عليك فيما تتعاطاه.

(وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى) قربة (وَحُسْنَ مَآبٍ) مصير.

(وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ).

قال مقاتل : كنيته أبو عبد الله.

(إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) بتعب ومشقة وبلاء وضر.

قال مقاتل : (بِنُصْبٍ) في الجسد (وَعَذابٍ) في المال.

وفيه أربع لغات : (نُصُب) بضمتين وهي قراءة أبي جعفر ، و (نَصَب) بفتح النون والصاد وهي قراءة يعقوب و (نَصْب) بفتح النون وجزم الصاد وهي رواية هبيرة عن حفص عن عاصم ، و (نصب) بضم النون وجزم الصاد وهي قراءة الباقين.

واختلفوا في سبب ابتلاء أيوب :

فقال وهب : استعان رجل أيوب على ظلم يدرأه عنه ، فلم يعنه فابتلي.

وروى حيان عن الكلبي : أن أيوب كان يغزوا ملكا من الملوك كافرا ، وكانت مواشي أيوب في ناحية ذلك الملك ، فداهنه ولم يغزه فابتلي.

وقال غيرهما : كان أيوب كثير المال فأعجب بماله فابتلى.

(ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) الأرض ، أي ادفع وحرك (هذا مُغْتَسَلٌ).

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٥ / ٢٠٥ ، تفسير الثعالبي : ٥ / ٦٩.

(٢) سورة المدّثّر : ٦.

٢١١

ثم نبعث له عين أخرى باردة فقال : هذا (بارِدٌ وَشَرابٌ وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ * وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً) أي حزمة من الحشيش (فَاضْرِبْ بِهِ) امرأتك (وَلا تَحْنَثْ) في يمينك (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)

(وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (٤٨) هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (٥٤) هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠))

(وَاذْكُرْ عِبادَنا).

قرأه العامة : بالألف.

وقرأ ابن كثير : (عبدنا) على الواحد ، وهي قراءة ابن عبّاس.

أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمّد بن يوسف الفقيه قال : أخبرنا أحمد بن محمّد بن يحيى ابن بلال قال : حدثنا يحيى بن الربيع المكي قال : حدثنا سفيان بن عيينة عن عمر بن عطاء عن ابن عبّاس أنه كان يقرأ : واذكر عبدنا إبراهيم ويقول : إنما [ذكر] إبراهيم ثم ولده بعده (وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي) ذوي القوة في العبادة (وَالْأَبْصارِ) التبصر في العلم والدين (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ).

قرأ أهل المدينة مضافا وهي رواية هشام عن الشام.

وقرأ الآخرون : بالتنوين على البدل (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ * وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ * هذا) الذي ذكرت (ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ * جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ * مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ * وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ) لذات مستويات على ملاذ امرأة واحدة بنات ثلاث وثلاثين سنة ، واحدها ترب (هذا ما تُوعَدُونَ) بالتاء.

ابن كثير وأبو عمر والباقون : بالياء.

(لِيَوْمِ الْحِسابِ) أي في يوم الحساب.

قال الأعشى :

٢١٢

المهينين ما لهم لزمان السوء

حتّى إذا أفاق أفاقوا (١)

أي في زمان السوء (إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ) هلاك وفناء (هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ) الكافرين (لَشَرَّ مَآبٍ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها) يدخلونها (فَبِئْسَ الْمِهادُ * هذا) أيّ هذا العذاب (فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ).

قال الفراء : رفعت الحميم والغساق بـ (هذا) مقدما ومؤخرا ، والمعنى هذا حميم وغساق فليذوقوه ، وإن شئت جعلته مستأنفا وجعلت الكلام فيه مكتفيا كاملا قلت : هذا فليذوقوه ثم قلت منه حميم وغساق.

كقول الشاعر :

حتّى إذا ما أضاء الصبح في غلس

وغودر البقل ملوي ومحصود (٢)

واختلف القراء في قوله : (وَغَسَّاقٌ) ، فشددها يحيى بن وثاب وحمزة والكسائي وخلف وحفص وهي قراءة أصحاب عبد الله ، وخففها الآخرون.

قال الفراء : من شدد جعله اسما على فعّال نحو الخبّاز والطبّاخ. ومن خفف [جعله] اسما على فعال نحو العذاب.

واختلف المفسرون فيه :

فقال ابن عبّاس : هو الزمهرير يحرقهم ببرده كما تحرقهم النار.

وقال مجاهد ومقاتل : هو [الثلج] البارد الذي قد انتهى برده ، أي يريد هو المبين بلغة الطحارية وقد بلغه النزل.

محمّد بن كعب : هو عصارة أهل النار.

قتادة والأخفش : هو ما يغسق من قروح الكفرة والزناة بين لحومهم وجلودهم ، أيّ تسيل.

قال الشاعر :

إذا ما تذكرت الحياة وطيبها

وإلي جرى دمع من العين غاسق (٣)

(وَآخَرُ) قرأ أهل البصرة ومجاهد : (وأخر) بضم الألف على جمع أخرى ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ، لأنه نعته بالجمع فقال : أرواح مثل الكبرى والكبر.

وقرأ غيرهم : على الواحد (وَآخَرُ).

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٥ / ٢٢٠ ، لسان العرب : ١٠ / ٣١٧.

(٢) جامع البيان للطبري : ٢٣ / ٢١٠.

(٣) تفسير القرطبي : ١٥ / ٢٢٢.

٢١٣

(مِنْ شَكْلِهِ) مثله (أَزْواجٌ) أصناف من العذاب والكناية في شكله راجعة إلى العذاب في قوله (هذا).

وأما قوله (هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ) قال ابن عبّاس : هو أن القتادة إذا دخلوا النار ثم دخل بعدهم الأتباع قالت الخزنة للقادة (هذا) يعني الاتباع (فَوْجٌ) جماعة (مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ) النار ، أيّ داخلوها كما دخلتم.

فقالت السادة : (لا مَرْحَباً بِهِمْ) يعني بالأتباع (إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ) كما صليناها ، فقال الاتباع للسادة : (بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا) أيّ شرعتم وسننتم الكفر لنا (فَبِئْسَ الْقَرارُ) أي قرارنا وقراركم ، والمرحب والرحب السعة ، ومنه رحبة المسجد.

قال أبو عبيدة : يقول العرب للرجل : لا مرحبا بك ، أي لا رحبت عليك الأرض ، أيّ اتسعت.

وقال القتيبي : معنى قولهم : مرحبا وأهلا وسهلا ، أي أتيت رحبا وسعة ، وأتيت سهلا لا حزنا ، وأتيت أهلا لا غرباء ، فأنس ولا تستوحش ، وهي في مذهب الدعاء كما تقول : لقيت خيرا ، فلذلك نصب (١).

قال النابغة :

لا مرحبا بغد ولا أهلا به

إن كان تفريق الأحبة في غد (٢)

(قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤) قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠))

(قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا) أي شرّعه وسنّه (فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ) على عذابنا.

وقال ابن مسعود : يعني حيات وأفاعي.

(وَقالُوا) يعني صناديد قريش وهم في النار (ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ) في دار الدّنيا ، يعني فقراء المؤمنين (أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا).

__________________

(١) غريب الحديث لابن قتيبة : ١ / ٢٠٠.

(٢) لسان العرب : ١٥ / ١١٧.

٢١٤

قرأ أهل العراق إلّا عاصما وأيوب : بوصل الألف ، واختاره أبو عبيد قال : من جهتين :

إحداهما : أنّ الاستفهام متقدم في قوله : (ما لَنا لا نَرى رِجالاً).

والأخرى : أنّ المشركين لم يكونوا يشكون في اتخاذهم المؤمنين في الدّنيا سخريا ، فكيف يستفهمون عمّا قد عملوه. ويكون على هذه القراءة بمعنى بل.

وقرأ الباقون : بفتح الألف وقطعها على الاستفهام وجعلوا (أم) جوابا لها مجازا : (أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا) في الدّنيا وليسوا كذلك ، فلم يدخلوا معنا النار.

(أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ) فلا نراهم وهم في النار ، ولكن احتجبوا عن أبصارنا.

وقال الفراء : هو من الاستفهام الذي معناه التعجب والتوبيخ ، فهو يجوز باستفهام ويطرحه.

وقال ابن كيسان : يعني أم كانوا خيرا منّا ولا نعلم نحن بذلك ، فكانت أبصارنا تزيغ منهم في الدّنيا فلا نعدهم شيئا.

أخبرنا أبو بكر الحمشادي قال : أخبرنا أبو بكر القطيعي قال : حدثنا إبراهيم بن عبد الله ابن مسلم قال : حدثنا عصمة بن سليمان الجرار عن يزيد عن ليث عن مجاهد (وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ).

قال : صهيب وسلمان وعمّار لا نراهم في النار (أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا) في الدّنيا (أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ) في النار (إِنَّ ذلِكَ) الذي ذكرت (لَحَقٌ) ثم بيّن فقال : (تَخاصُمُ) أي هو تخاصم (أَهْلِ النَّارِ) ومجاز الآية : أن تخاصم أهل النار في النار لحق (قُلْ) يا محمّد لمشركي مكة (إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ) مخّوف (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ * رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ * قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ) يعني القرآن.

عن ابن عبّاس ومجاهد وقتادة ، وروى معمر عنه يوم القيامة ، نظيرها (عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) (١).

(أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ * ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ) في شأن آدم وهو قولهم حين قال الله سبحانه لهم : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) (٢) الآية هذا قول أكثر المفسرين.

وروى ابن عبّاس عن النبي عليه‌السلام قال : «قال ربّي : أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى يعني الملائكة؟

__________________

(١) سورة النبأ : ١ ـ ٢.

(٢) سورة البقرة : ٣٠.

٢١٥

فقلت : لا.

قال : اختصموا في الكفارات والدرجات ، فأما الكفارات : فإسباغ الوضوء في السبرات ، ونقل الأقدام إلى الجماعات ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة : وأما الدرجات : فإفشاء السلام ، واطعام الطعام ، والصلاة بالليل والناس نيام» [١٢١] (١).

(إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ).

قال الفراء : ان شئت جعلت (أَنَّما) في موضع رفع ، كأنك قلت : ما يوحى إليّ إلّا الإنذار ، وإن شئت جعلت المعنى ما يوحى إليّ إلّا لأني نذير مبين.

وقرأ أبو جعفر (إنما) بكسر الألف ، لأن الوحي قول.

(إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨))

(إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ * فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ * قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) وفي تحقيق الله سبحانه وتعالى التنشئة في اليد ، دليل على أنه ليس بمعنى النعمة والقوة والقدرة ، إنما هما وصفان من صفات ذاته.

قال مجاهد : اليد هاهنا بمعنى التأكيد ، والصلة مجاز لما خلقت ، كقوله سبحانه : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) (٢) أي ربك ، وهذا تأويل غير قوي ، لأنه لو كان بمعنى الصلة فكان لإبليس أن يقول : إن كنت خلقته فقد خلقتني. وكذلك في القدرة والنعمة ، لا تكون لآدم في الخلق مزية على إبليس وقد مضت هذه المسألة عند قوله : (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا) (٣).

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٥ / ٢٢٦.

(٢) سورة الرحمن : ٢٧.

(٣) سورة يس : ٧١.

٢١٦

قال : العرب تسمي الاثنين جميعا لقوله سبحانه (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا) (١) ، وقوله (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢) قال : هما رجلان وقال : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) (٣).

(أَسْتَكْبَرْتَ) ألف الاستفهام تدخل على ألف الخبر (أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ) المتكبرين على السجود كقوله سبحانه : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) (٤). (قالَ) إبليس (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قالَ فَاخْرُجْ مِنْها) أي من الجنّة.

وقيل : من السماوات.

وقال الحسن وأبو العالية : أيّ من الخلقة التي أنت فيها.

قال الحسين بن الفضل : وهذا تأويل صحيح ، لأن إبليس تجبّر وافتخر بالخلقة ، فغيّر الله تعالى خلقه فاسودّ بعد ما كان أبيضا وقبح بعد ما كان حسنا وأظلم بعد أن كان نورانيا.

(فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) مطرود معذّب (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ * قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) وهو النفخة الأولى (قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ).

قرأ مجاهد والأعمش وعاصم وحمزة وخلف : برفع الأول ونصب الثانية على معنى فأنا الحقّ أو فمنّي الحق ، وأقول الحق.

وقال الباقون : بنصبهما.

واختلف النحاة في وجهيهما ، قيل : نصب الأول على الإغراء والثاني بإيقاع القول عليه.

وقيل : هو الأول قسم ، والثاني مفعول مجاز قال : فبالحق وهو الله عزوجل أقسم بنفسه (وَالْحَقَّ أَقُولُ).

وقيل : إنه أتبع قسما بعد قسم.

وقال الفراء وأبو عبيد : معناهما حققا لم يدخل الألف واللام ، كما يقال : الحمد لله وأحمد الله ، هما بمعنى واحد.

وقرأ طلحة بن مصرف : فالحق والحقِّ بالكسر فهما على القسم.

وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول : سمعت أبا بكر بن عبدش يقول : هو مردود إلى ما قبله

__________________

(١) سورة الحج : ١٩.

(٢) سورة النور : ٢.

(٣) سورة التحريم : ٤.

(٤) سورة القصص : ٤.

٢١٧

ومجازه : فبعزتك وبالحق والحق قال الله سبحانه : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ) أيّ من نفسك وذريتك (وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ * قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) أيّ على تبليغ الوحي ، كناية عن غير مذكور (مِنْ أَجْرٍ) قال الحسين بن الفضل : هذه الآية ناسخة لقوله (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (١).

(وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) المتقولين القرآن من تلقاء نفسي.

أخبرنا ابن فنجويه قال : حدثنا أحمد بن محمّد بن إسحاق البستي قال : حدثنا أحمد بن عمير بن يوسف قال : حدثنا محمّد بن عوف قال : حدثنا محمّد بن المصفى قال : حدثنا حنوة بن سريج بن يزيد قال : حدثنا أرطاة بن المنذر عن ضمرة بن حبيب عن سلمة بن مقبل قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «للمتكلف ثلاث علامات : ينازع من فوقه ، ويتعاطى ما لا ينال ، ويقول فيما لا يعلم» [١٢٢] (٢).

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدثني السنّي قال : حدثني عبد الله بن محمّد بن جعفر قال : حدثنا أحمد بن يحيى الصوفي قال : حدثنا شعيب بن إبراهيم قال : حدثنا سيف بن عمر الضبي عن وائل بن داود عن يزيد البهي عن الزبير بن العوام قال : نادى منادي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم أغفر للذين يدعون أموات امتي ولا يتكلفون إلّا أني بريء من التكلف وصالحوا أمتي» [١٢٣] (٣).

وأخبرني الحسين قال : حدثنا ابن شيبة قال : حدثنا عبد الله بن محمّد بن وهب قال : حدثنا إبراهيم بن عمرو بن بكر السكسكي ببيت المقدس قال : حدثنا أبي قال : حدثنا إبراهيم بن [........] (٤) علية الزهري عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه أنه صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس من أتاه الله عزوجل علما فليتق الله وليعلّمه الناس ولا يكتمه ، فإنه من كتم علما يعلمه كان كمن كتم ما أنزل الله تعالى على نبيّه وأمره أن يعلمه الناس ، ومن لم يعلم فليسكت وإياه أن يقول ما لا يعلم فيهلك ويصير من المتكلفين ويمرق من الدين ، وأن الله عزوجل قال : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) من أفتى بغير السنّة فعليه الإثم.

وأخبرني الحسن قال : حدثنا السنيّ قال : أخبرنا أبو خليفة قال : حدثنا محمّد بن خبير

__________________

(١) سورة الشورى : ٢٣.

(٢) تفسير القرطبي : ١٥ / ٢٣١.

(٣) انظر : تذكرة الموضوعات : ٦٧.

(٤) كلام غير مقروء.

٢١٨

العبدي قال : أخبرنا سفيان الثوري عن الأعمش عن منصور عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال : يا أيها الناس من علم شيئا فليقل به ومن لم يعلم شيئا فليقل الله أعلم ، فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم : الله أعلم وأن الله عزوجل قال لنبيّه : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) ، (إِنْ هُوَ) ما هو يعني القرآن (إِلَّا ذِكْرٌ) عظة (لِلْعالَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ).

قال قتادة : يعني بعد الموت.

وابن عبّاس : يعني يوم القيامة.

٢١٩

سورة الزمر

مكية ، إلا قوله سبحانه : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا) الآية. وهي أربعة آلاف

وتسعمائة وثمانية أحرف ، وألف ومائة واثنتان وسبعون كلمة ، وخمس وسبعون آية

أخبرنا ابن المقرئ قال : أخبرنا ابن مطر قال : حدثنا ابن شريك قال : حدثنا ابن يونس قال : حدثنا أبو سليمان قال : حدثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة الزمر لم يقطع الله رجاءه ، وأعطاه ثواب الخائفين» [١٢٤] (١).

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدثنا ابن حمدان قال : حدثنا ابن ماهان قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا حماد بن يزيد عن مروان أبي لبابة مولى عبد الرحمن بن زياد عن عائشة رضي‌الله‌عنها قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ كل ليلة ببني إسرائيل والزمر.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣) لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٤) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ

__________________

(١) انظر : تفسير مجمع البيان.

٢٢٠