الكشف والبيان - ج ٨

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ٨

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

الشعاب والكهوف يأكل من نبات الأرض وثمار الشجر ، وهم في طلبه قد وضعوا عليه العيون ، يتوقعون أخباره ويجتهدون في أخذه ، والله سبحانه وتعالى يستره ويدفع عنه. فلما تمّ له (١) سبع سنين أذن الله تعالى في إظهاره عليهم وشفاء غيظه منهم ، فأمرض الله سبحانه ابنا لأجب ـ وكان أحبّ ولده إليه ، وأعزهم عليه ، وأشبههم به ـ فأدنف حتى يئس منه ، فدعا صنمه بعلا ـ وكانوا قد فتنوا ببعل وعظموه ، حتى جعلوا له أربعمائة سادن فوكلوهم به وجعلوهم أمناءه ، فكان الشيطان يدخل في جوف الصّنم فيتكلّم بأنواع الكلام ، وأربعمائة يصغون بآذانهم إلى ما يقول الشيطان ، ويوسوس إليهم الشيطان بشريعة من الضلال فيكتبونها للناس فيعملون بها ، ويسمونهم الأنبياء.

فلما اشتدّ مرض ابن الملك طلب إليهم الملك أن يتشفعوه إلى بعل ويطلبوا لابنه من قبله الشفاء والعافية فدعوه (٢) فلم يجبهم ، ومنع الله بقدرته الشيطان عن صنمهم فلم يمكنه الولوج في جوفه ولا الكلام (٣) ، وهم مجتهدون في التضرع إليه وهو لا يزداد إلّا خمودا (٤). فلما طال عليهم ذلك قالوا لأجب : إنّ في ناحية الشام آلهة أخرى ، وهي في العظم مثل إلهك ، فابعث إليها الأنبياء ليشفعوا لك إليها ، فلعلّها أن تشفع لك إلى إلهك بعل ، فإنه غضبان عليك ، ولو لا غضبه عليك لكان قد (٥) أجابك وشفى لك ابنك.

قال أجب : ومن أجل ماذا غضب عليّ ، وأنا أطيعه وأطلب رضاه منذ كنت ، لم أسخطه ساعة قط؟ قالوا : من أجل أنك لم تقتل إلياس ، وفرطت فيه حتى نجا سليما ، وهو كافر بإلهك ، يعبد غيره ، فذلك الذي أغضبه عليك. قال أجب : وكيف لي أن أقتل إلياس يومي هذا ، وأنا مشغول عن طلبه بوجع ابني؟ فليس لإلياس مطلب ، ولا يعرف له موضع فيقصد ، فلو عوفي ابني تفرّغت لطلبه ، ولم يكن لي همّ ولا شغل غيره حتى آخذه فاقتله ، فأريح إلهي منه وأرضيه.

قال : ثم إنه بعث أنبياءه الأربعمائة ليشفعوا إلى الآلهة (٦). التي بالشام ، ويسألوها أن تشفع إلى صنم الملك ليشفي ابنه. فانطلقوا حتى إذا كانوا بحيال الجبل الذي فيه إلياس ، أوحى الله سبحانه إلى إلياس أن يهبط من الجبل ويعارضهم ويستوقفهم ويكلمهم ، وقال له : «لا تخف فإني سأصرف عنك شرّهم ، وألقي الرّعب في قلوبهم» فنزل إلياس من الجبل ، فلما لقيهم استوقفهم ، فلما وقفوا ، قال لهم : «إنّ الله سبحانه أرسلني إليكم وإلى من وراءكم ، فاسمعوا أيّها القوم رسالة ربكم لتبلغوا صاحبكم ، فارجعوا إليه وقولوا له : إنّ الله يقول لك : ألست تعلم يا أجب

__________________

(١) من عرائس المجالس.

(٢) من عرائس المجالس وفي المخطوط : فدعوهم.

(٣) من عرائس المجالس.

(٤) في عرائس المجالس : لا يزداد بذلك إلّا ألما وجهدا.

(٥) من عرائس المجالس ، وفي المخطوط لقد ، بدل لكان قد.

(٦) من عرائس المجالس ، وفي المخطوط : الهون.

١٦١

أنّي (أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) إله بني إسرائيل الذي خلقهم ورزقهم وأحياهم وأماتهم ، أفجهلك وقلة علمك حملك على أن تشرك بي ، وتطلب الشفاء لابنك من غيري ممن لا يملكون لأنفسهم شيئا إلّا ما شئت؟ إنّي حلفت باسمي لأغيظنّك في ابنك ولأميتنه في فوره هذا حتى تعلم أنّ أحدا لا يملك له شيئا دوني».

فلما قال لهم هذا رجعوا ، وقد ملئوا منه رعبا ، فلما صاروا إلى الملك قالوا له ذلك وأخبروه بأن إلياس انحط عليهم وهو رجل نحيف طويل (١) ، قد قشف وقحل وتمعط شعره وتقشر جلده ، عليه جبّة من شعر وعباءة قد خللها على صدره بخلال ، فاستوقفنا ، فلما صار معنا قذفت له في قلوبنا الهيبة والرعب ، وانقطعت ألسنتنا ، ونحن في هذا العدد الكبير وهو واحد ، فلم نقدر على أن نكلّمه ونراجعه ونملأ أعيننا منه ، حتى رجعنا إليك ، وقصّوا عليه كلام إلياس ، فقال أجب : لا ينتفع بالحياة ما كان إلياس حيّا ، ما الذي منعكم أن تبطشوا به حين لقيتموه وتوثقوه وتأتوني به ، وأنتم تعلمون أنه طلبي وعدوّي؟ فقالوا : قد أخبرناك ما الذي منعنا منه ومن كلامه والبطش به. قال أجب : ما يطاق إذن إلياس إلّا بالمكر والخديعة.

فقيّض له خمسين رجلا من قومه من ذوي القوة والبأس ، وعهد إليهم عهده وأمرهم بالاحتيال عليه (٢) والاعتناء به ، وأن يطمعوه في أنهم قد آمنوا به هم ومن وراءهم ليستنيم إليهم ويغترّ بهم فيمكنهم من نفسه ، فيأتوا به ملكهم. فانطلقوا حتى ارتقوا ذلك الجبل الذي فيه إلياس عليه‌السلام ، ثم تفرّقوا فيه وهم ينادونه بأعلى أصواتهم ، ويقولون : يا نبي الله ابرز لنا وأشرف (٣) بنفسك فإنا قد آمنا بك وصدقناك ، وملكنا أجب وجميع قومنا ، وأنت آمن على نفسك ، وجميع بني إسرائيل يقرءون عليك السلام ويقولون : قد بلّغتنا رسالة ربك وعرفنا ما قلت وآمنا بك ، وأجبناك إلى ما دعوتنا فهلمّ إلينا ، فأنت نبينا ورسول ربنا ، فأقم بين أظهرنا واحكم فينا ، فإنا ننقاد لما أمرتنا وننتهي عما نهيتنا ، وليس يسعك أن تتخلف عنا مع إيماننا وطاعتنا ، فتداركنا وارجع إلينا ، وكلّ هذا كان منهم مماكرة وخديعة.

فلما سمع إلياس مقالتهم وقعت بقلبه ، وطمع في إيمانهم وخاف الله ، وأشفق من سخطه إن هو لم يظهر ولم يجبهم بعد الذي سمع منهم ، فلمّا أجمع على أن يبرز لهم ، رجع إلى نفسه فقال : «لو أنّي دعوت الله سبحانه وتعالى وسألته أن يعلمني ما في أنفسهم ويطلعني على حقيقة أمرهم» ، وذلك أنّ الله سبحانه وفقه وألهمه التوقّف والدعاء والتحرز ، فقال : «اللهم إن كانوا صادقين فيما يقولون فائذن لي في البروز إليهم ، وإن كانوا كاذبين فاكفنيهم وارمهم بنار تحرقهم».

__________________

(١) من عرائس المجالس ، وفي المخطوط : طوال.

(٢) من عرائس المجالس ، وفي المخطوط : له.

(٣) من عرائس المجالس ، وفي المخطوط : امنن.

١٦٢

فما استتمّ قوله حتى حصبوا بالنار من فوقهم أجمعين.

قال : وبلغ أجب وقومه الخبر فلم يرتدع من همه بالسوء ، واحتال ثانيا في أمر إلياس ، وقيّض فئة أخرى مثل عدد أولئك ، أقوى منهم وأمكن من الحيلة والرأي فأقبلوا حتى توغلوا [في] تلك الجبال. متفرقين ، وجعلوا ينادون : يا نبي الله إنا نعوذ بالله وبك من غضب الله وسطواته ، إنا لسنا كالذين (١) أتوك قبلنا ، إنّ أولئك فرقة نافقوا وخالفوا (٢) ، فصاروا إليك ليكيدوا بك من غير رأينا ولا علمنا (٣) ، وذلك أنهم حسدونا وحسدوك وخرجوا إليك سرا ، ولو علمنا بهم لقتلناهم ولكفيناك مؤونتهم ، والآن فقد كفاك ربك أمرهم وأهلكهم بسوء نياتهم وانتقم دونك منهم. فلما سمع إلياس مقالتهم دعا الله بدعوته الأولى ، فأمطر عليهم النار فاحترقوا عن آخرهم.

وفي كل ذلك ابن الملك في البلاء الشديد من وجعه كما وعده الله سبحانه وتعالى على لسان نبيّه إلياس ، لا يقضى عليه فيموت ولا يخفف عنه من عذابه ، فلما سمع الملك بهلاك أصحابه ثانيا إزداد غضبا إلى غضب ، وأراد أن يخرج في طلب إلياس بنفسه إلّا أنه شغله عن ذلك مرض (٤) ابنه ، فلم يمكنه ، فوجه نحو إلياس الكاتب المؤمن الذي هو كاتب امرأته ، رجاء أن يأنس به إلياس ، فينزل معه وأظهر للكاتب أنه لا يريد بإلياس سوءا ، وإنما أظهر له ذلك لما اطّلع عليه من إيمانه ، وأنّ الملك مع اطلاعه على إيمانه كان مغضيا عنه فيه ؛ لما هو عليه من الأمانة والكفاءة والحكمة وسداد الرأي والبصر (٥) بالأمور ـ فلما وجّهه نحوه أرسل معه (٦) فئة من أصحابه ، وأوعز إليهم (٧) دون الكاتب أن يوثقوا إلياس ويأتوه به إن أراد التخلف عنهم ، وإن جاء مع الكاتب واثقا به آنسا لمكانته لم يوحشوه ولم يرّوعوه. ثم أظهر للكاتب الإنابة ، وقال له : إنه قد آن لي أن أتوب واتّعظ ، وقد أصابتنا بلايا من حريق أصحابنا ، والبلاء الذي فيه ابني ، وقد عرفت أنّ ذلك بدعوة إلياس ، ولست آمن أن يدعو على جميع من بقي منا فنهلك بدعوته ، فانطلق لنا إليه وأخبره أنا قد تبنا وأنبنا ، وإنّه لا يصلحنا في توبتنا ، وما نريد من رضا ربنا وخلع أصنامنا إلّا أن يكون إلياس بين أظهرنا ، يأمرنا وينهانا ، ويخبرنا بما يرضي ربنا.

قال : وأمر قومه فاعتزلوا الأصنام وقال له : أخبر إلياس أنّا قد خلعنا آلهتنا التي كنا نعبد

__________________

(١) من عرائس المجالس ، وفي المخطوط : كالذي.

(٢) من عرائس المجالس ، وفي المخطوط : خالفتنا.

(٣) من عرائس المجالس ، وفي المخطوط : علم.

(٤) من عرائس المجالس.

(٥) في عرائس المجالس : البصارة.

(٦) من عرائس المجالس ، وفي المخطوط : أرسله.

(٧) من عرائس المجالس ، وفي المخطوط : الفئة.

١٦٣

وأرجأنا أمرها حتى ينزل إلياس إلينا فيكون هو الذي يحرقها ويهلكها ، وكان ذلك مكرا من الملك. فانطلق الكاتب والفئة حتى علا الجبل الذي فيه إلياس ، ثم ناداه ، فعرف إلياس صوته ، فتاقت نفسه إليه وأنس به (١) ، وكان مشتاقا إلى لقائه.

قال : وأوحى الله سبحانه وتعالى إلى إلياس أن انزل إلى أخيك الصالح ، فالقه وجدد العهد به. فنزل إليه وسلم عليه وصافحه وقال له : ما الخبر؟ فقال المؤمن : إنه بعثني إليك هذا الجبار الطاغية وقومه ، ثم قصّ عليه ما قالوا ، ثم قال له : إني لخائف إن رجعت إليه ولست معي أن يقتلني ، فمرني بما شئت أفعله وأنتهي إليه ، وإن شئت انقطعت إليك فكنت معك وتركته ، وإن شئت جاهدته معك ، وإن شئت ترسلني إليه بما تحبّ فأبلغه رسالتك ، وإن شئت دعوت ربك فجعل لنا من أمرنا فرجا ومخرجا.

قال : فأوحى الله سبحانه إلى إلياس أنّ كلّ شيء جاءك منهم مكر وكذب ليظفروا بك ، وإنّ أجب إن أخبرته رسله أنّك قد لقيت هذا الرجل ولم يأت بك إليه اتهمه وعرف أنه قد داهن (٢) في أمرك فلم يأمن أن يقتله فانطلق معه ، فإنّ انطلاقك معه عذره وبراءته عند أجبّ ، وإنّي سأشغل عنكما أجب ، فأضاعف على ابنه البلاء حتى لا يكون له همّ غيره ثم أميته على شرّ حال ، فإذا مات هو فارجع عنه ولا تقم.

قال : فانطلق معهم حتى قدموا عليه شدّد الله الوجع على ابنه وأخذ الموت يكظمه فشغل الله بذلك أجب وأصحابه عن إلياس ، ورجع إلياس سالما إلى مكانه. فلما مات ابن أجب ، وفرغوا من أمره وقلّ جزعه ، انتبه لإلياس وسأل عنه الكاتب الذي جاء به ، فقال : ليس لي به علم وذلك أنه شغلني عنه موت ابنك والجزع عليه ولم أكن أحسبك إلّا وقد استوثقت منه. فأضرب عنه أجب وتركه لما كان فيه من الجزع على ابنه.

فلما طال الأمر على إلياس ملّ المكث (٣) في الجبال والمقام بها واشتاق إلى العمران والناس ، نزل من الجبل وانطلق حتى نزل بامرأة من بني إسرائيل ، وهي أمّ يونس بن متّى ذي النون ، فاستخفى عندها ستة أشهر ويونس بن متى يومئذ مولود يرضع ، وكانت أمّ يونس تخدمه بنفسها وتواسيه بذات يدها ولا تدّخر عنه كرامة تقدر عليها.

قال : ثم إنّ إلياس سئم ضيق البيوت بعد تعوده فسحة الجبال دوحها فأحبّ اللّحوق بالجبال ، فخرج وعاد إلى مكانه ، فجزعت أمّ يونس لفراقه [وأوحشها] (٤) فقده ثم لم تلبث إلّا

__________________

(١) من عرائس المجالس ، وفي المخطوط : بمكانه.

(٢) من عرائس المجالس ، وفي المخطوط : كاهن.

(٣) من عرائس المجالس ، وفي المخطوط : الكون.

(٤) من عرائس المجالس ، وفي المخطوط : وأوحشتها.

١٦٤

يسيرا حتى مات ابنها حين فطمته ، فعظمت مصيبتها فيه ، فخرجت في طلب إلياس فلم تزل ترقى الجبال وتطوف فيها حتى عثرت عليه ووجدته فقالت له : إني قد فجعت بعدك بموت ابني فعظمت فيه مصيبتي واشتد لفقده بلائي وليس لي ولد غيره فارحمني وادع ربك جل جلاله ليحيي لي ابني ويجبر مصيبتي ، وإني قد تركته مسجّى لم أدفنه ، وقد أخفيت مكانه. فقال لها إلياس : «ليس هذا مما أمرت به ، وإنما أنا عبد مأمور أعمل بما يأمرني ربي ، ولم يأمرني بهذا» فجزعت المرأة وتضرعت ، فأعطف الله سبحانه قلب إلياس لها ، فقال لها : «ومتى مات ابنك؟» قالت : منذ سبعة أيام.

فانطلق إلياس معها وسار سبعة أخرى حتى انتهى إلى منزلها فوجد ابنها يونس بن متّى ميتا منذ أربعة عشر يوما ، فتوضأ وصلّى ودعا فأحيا الله يونس بن متّى بدعوة إلياس. فلما عاش وجلس ، وثب إلياس وانصرف وتركه وعاد إلى موضع ما كان فيه. فلما طال عصيان قومه ضاق بذلك إلياس ذرعا وأجهده البلاء ، قال : فأوحى الله سبحانه إليه بعد سبع سنين وهو خائف مجهود : «يا إلياس ما هذا الحزن والجزع الذي أنت فيه؟ ألست أميني على وحيي ، وحجّتي في أرضي ، وصفوتي من خلقي؟ فسلني أعطك فإني ذو الرحمة الواسعة والفضل العظيم» قال : «تميتني فتلحقني بآبائي فإني قد مللت بني إسرائيل وملّوني ، وأبغضتهم فيك وأبغضوني». فأوحى الله سبحانه إليه : «يا إلياس ، ما هذا باليوم الذي أعري منك الأرض وأهلها ، وإنما قوامها وصلاحها بك وأشباهك وإن كنتم قليلا ، ولكن تسألني فأعطيك».

قال إلياس : «فإن لم تمتني يا إلهي فأعطني ثاري من بني إسرائيل». قال الله سبحانه : «وأي شيء تريد أن أعطيك يا إلياس؟» قال : «تمكّنني من خزائن السماء سبع سنين فلا تنشأ عليهم سحابة إلّا بدعوتي ، ولا يمطر عليهم سبع سنين قطرة إلّا بشفاعتي ، فإنهم لا يذلّهم إلّا ذلك». قال الله سبحانه وتعالى : «يا إلياس ، أنا أرحم بخلقي من ذلك وإن كانوا ظالمين». قال : «فستّ سنين». قال : «أنا أرحم بخلقي من ذلك وإن كانوا ظالمين».

قال : «فخمس سنين». قال : «أنا أرحم بخلقي من ذلك وإن كانوا ظالمين ، ولكنّي أعطيك ثأرك ثلاث سنين ، أجعل خزائن المطر بيدك ، ولا تنشأ عليهم سحابة إلّا بدعوتك ، ولا ينزل عليهم قطرة إلّا بشفاعتك». قال إلياس : «فبأي شيء أعيش؟» قال : «أسخّر لك جنسا من الطير ينقل إليك طعامك وشرابك من الريف والأرض التي لم تقحط».

قال إلياس : «قد رضيت».

قال : فأمسك الله عنهم المطر حتى هلكت الماشية والدواب والهوام والشجر ، وجهد

١٦٥

الناس جهدا شديدا ، وإلياس على حالته مستخف من قومه يوضع له الرزق حيثما كان ، وقد عرفه بذلك قومه ، فكانوا إذا وجدوا ريح الخبز في البيت قالوا : لقد دخل إلياس هذا المكان ، فطلبوه ولقي منهم أهل ذلك المنزل شيئا.

قال ابن عباس : أصاب بني إسرائيل ثلاث سنين القحط ، فمرّ إلياس بعجوز ، فقال لها : هل عندك طعام؟ فقالت : نعم ، شيء من دقيق وزيت قليل. قال : فدعا بهما ودعا فيه بالبركة ومسّه حتى ملأ جرابها دقيقا وملأ خوابيها زيتا ، فلمّا رأى بنو إسرائيل (١) ذلك عندها قالوا : من أين لك هذا؟ قالت : مرّ بي رجل من حاله كذا وكذا فوصفته بصفته ، فعرفوه وقالوا : ذلك إلياس ، فطلبوه فوجدوه فهرب منهم.

ثم إنه آوى ليلة إلى بيت امرأة من بني إسرائيل لها ابن يقال له : اليسع بن أخطوب وكان (٢) به ضر ، فآوته وأخفت أمره ، فدعا له فعوفي من الضر الذي كان به ، واتّبع اليسع إلياس فآمن به وصدّقه ولزمه ، وكان يذهب به حيثما ذهب ، وكان إلياس قد أسنّ وكبر ، وكان اليسع غلاما شابا.

ثم إن الله سبحانه أوحى إلى إلياس : «إنك قد أهلكت كثيرا من الخلق ممن لم يعص سوى بني إسرائيل من البهائم والدواب والطير والهوام والشجر يحبس المطر من بني إسرائيل».

فيزعمون ـ والله أعلم ـ أنّ إلياس قال : «يا ربّ دعني أكن أنا الذي أدعو لهم به ، وآتيهم بالفرج مما هم فيه من البلاء الذي أصابهم لعلّهم أن يرجعوا وينزعوا عمّا هم عليه من عبادة غيرك». قيل له : «نعم».

فجاء إلياس إلى بني إسرائيل فقال لهم : «إنكم قد هلكتم جوعا وجهدا ، وهلكت البهائم والدواب والطير والهوام والشجر لخطاياكم ، وإنكم على باطل وغرور ، فإن كنتم تحبون أن تعلموا ذلك فاخرجوا بأصنامكم [تلك] (٣) فإن استجابت لكم فذلك كما تقولون ، وإن هي لم تفعل علمتم أنكم على باطل فنزعتم ، ودعوت الله ففرج عنكم ما أنتم فيه من البلاء».

قالوا : أنصفت.

فخرجوا بأوثانهم فدعوها فلم تستجب لهم ولم يفرّج عنهم ما كانوا فيه من البلاء ، ثم قالوا لإلياس عليه‌السلام : يا إلياس إنا قد هلكنا فادع الله لنا. فدعا لهم إلياس ومعه اليسع بالفرج عنهم مما هم فيه ، وأن يسقوا ، فخرجت سحابة مثل الترس على ظهر البحر ، وهم ينظرون ،

__________________

(١) قوله : رأى بنو إسرائيل ، من عرائس المجالس ، وفي المخطوط : رأواه.

(٢) من عرائس المجالس.

(٣) في المخطوط : ذلك.

١٦٦

فأقبلت نحوهم وطبقت الآفاق ، ثم أرسل الله تعالى عليهم المطر وأغاثهم وحييت بلادهم. فلما كشف الله عنهم الضر نقضوا العهد ، ولم ينزغوا عن كفرهم ، ولم يقلعوا عن ضلالتهم ، وأقاموا على حيث ما كانوا عليه ، فلما رأى إلياس ذلك دعا ربه عزوجل أن يريحه منهم ، فقيل له ـ فيما يزعمون ـ انظر يوم كذا وكذا ، فاخرج فيه إلى موضع كذا ، فما جاءك من شيء فاركبه ولا تهبه.

فخرج إلياس ومعه اليسع بن أحطوب ، حتى إذا كان بالموضع الذي أمر ، أقبل فرس من نار حتى وقف بين يديه ، فوثب عليه إلياس ، فانطلق به الفرس ، فناداه اليسع : يا إلياس ، ما تأمرني؟ فقذف إليه بكسائه من الجوّ الأعلى ، وكان ذلك علامة استخلافه إياه على بني إسرائيل ، فكان ذلك آخر العهد به ، ورفع الله سبحانه إلياس من بين أظهرهم ، وقطّع عنه لذّة المطعم والمشرب ، وكساه الرّيش ، فكان إنسيّا ملكيّا ، أرضيّا سماويّا ، وسلّط الله تعالى على أجب الملك وقومه عدّوا لهم ، فقصدهم من حيث لم يشعروا بهم حتى رهقهم ، فقتل أجب ملكهم وأزبيل امرأته في بستان مزدكي ، فلم تزل جيفتاهما ملقاتين في تلك الجنينة حتى بليت لحومهما ورمت عظامهما.

ونبّأ الله سبحانه بفضله اليسع ، وبعثه رسولا إلى بني إسرائيل وأوحى إليه وأيده بمثل ما أيّد به عبده إلياس ، فآمنت به بنو إسرائيل ، فكانوا يعظّمونه وينتهون إلى أمره ، وحكم الله تعالى فيهم قائم إلى أن فارقهم اليسع.

أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا أبو بكر بن مالك القطيعي قال : حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : حدّثنا الحسن بن عبد العزيز الجدوي عن ضمرة عن السدي بن يحيى عن عبد العزيز بن أبي رواد قال : إلياس والخضر عليهما‌السلام يصومان شهر رمضان بيت المقدس ، ويوافيان الموسم في كلّ عام.

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن ماجة قال : حدّثنا الحسن بن أيوب قال : حدّثنا عبد الله بن أبي زياد قال : حدّثنا يسار قال : حدّثنا بشر بن منصور قال : حدّثني سعيد بن أبي سعيد البصري قال : قال حدّثني العلاء البجلي عن زيد مولى عون الطفاوي عن رجل من أهل عسقلان كان يمشي بالأردن عند نصف النهار ، فرأى رجلا فقال : يا عبد الله من أنت؟ قال : فجعل لا يكلمني ، قلت : يا عبد الله من أنت؟ قال : «أنا إلياس» قال : فوقعت عليّ رعدة ، فقلت : ادع الله يرفع عني ما أجد حتى أفهم حديثك وأعقل عنك. قال : فدعا لي بثماني دعوات : «يا برّ يا رحيم يا حنان يا منان يا حي يا قيوم» ، ودعوتين بالسريانية لم أفهمهما.

قال : ورفع الله عنّي ما كنت أجد ، فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها بين يدي ، قال : فقلت له : يوحى إليك اليوم؟ قال : «منذ بعث الله سبحانه محمدا رسولا فإنه ليس يوحي إليّ» قال : قلت له : كم الأنبياء اليوم أحياء؟ قال : «أربعة ، اثنان في الأرض ، واثنان في السماء ، في

١٦٧

السماء عيسى وإدريس ، وفي الأرض إلياس والخضر». قلت : كم الأبدال؟ قال : «ستون رجلا ، خمسون منهم من لدن عريش مصر إلى شاطئ الفرات ، ورجل بالمصيصية ورجلان بعسقلان وسبعة في سائر البلدان ، كلّما أذهب الله بواحد ، جاء الله بآخر ، بهم يدفع عن الناس وبهم يمطرون». قلت : فالخضر أين يكون؟ قال : «في جزائر البحر». قلت : فهل تلقاه؟ قال : «نعم».

قلت : أين؟ قال : «بالموسم» قلت : فما يكون من حديثكما؟ قال : «يأخذ من شعري وآخذ من شعره».

قال : وذاك حين كان بين مروان بن الحكم وبين أهل الشام القتال ، فقلت : فما تقول في مروان بن الحكم؟ قال : «ما تصنع به؟ رجل جبّار عات على الله سبحانه ، القاتل والمقتول والشاهد في النار». قال : قلت : فإني قد شهدت فلم أطعن برمح ولم أرم بسهم ولم أضرب بسيف ، وأنا أستغفر الله عزوجل من ذلك المقام أن أعود إلى مثله أبدا.

قال : «أحسنت ، هكذا فكن».

قال : فأني وإياه قاعدان ، إذ وضع بين يديه رغيفان أشد بياضا من الثلج ، أكلت أنا وهو رغيفا وبعض آخر ثم رفع فما رأيت أحدا وضعه ولا أحدا رفعه. قال : وله ناقة ترعى في وادي الأردن ، فرفع رأسه إليها فما دعاها حتى جاءت فبركت بين يديه فركبها ، قلت : أريد أن أصحبك. قال : «إنك لا تقدر على صحبتي». قلت : إني خلوّ ، ما لي زوجة ولا عيال. قال : «تزوج وإياك والنساء الأربع : إياك والناشز والمختلعة والملاعنة والمبارية (١) ، وتزوّج ما بدا لك من النساء». قال : قلت : إني أحبّ لقاءك. قال : «إذا رأيتني فقد لقيتني (٢)» ، ثم قال : «إني أريد أن أعتكف في بيت المقدس في شهر الله المبارك رمضان» [١٠٣].

قال : ثم حالت بيني وبينه شجرة ، فو الله ما أدري كيف ذهب ، فذلك قوله عزوجل : (وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ)

(قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ * أَتَدْعُونَ) أتعبدون (بَعْلاً)؟ وهو اسم صنم لهم كانوا يعبدونها ، ولذلك سمّيت مدينتهم بعلبك ، وقال مجاهد وعكرمة والسدّي : البعل الرب بلغة أهل اليمن ، وهي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قال ابن عباس : وسألت أعرابيا يقول : لآخر : من بعل هذه الناقة؟ يعني صاحبها. قال الفراء : هي بلغة هذيل.

(وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ) ، فلا تعبدونه : (اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) ، قرأ حمزة والكسائي وخلف ويعقوب بنصب الهاء والبائين على البدل ، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم ورواية حفص عن عاصم ، وقرأ الآخرون برفعها على الاستئناف.

(فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) في العذاب والنار (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) من قومه فإنهم

__________________

(١) في عرائس المجالس : المبرزة.

(٢) من عرائس المجالس ، وفي المخطوط : رأيتني.

١٦٨

[ناجون من النار] (١) (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) قرأ ابن محيص وشيبة سلام على إلياسين موصلا.

وقرأ ابن عامر ونافع ويعقوب (آل ياسين) بالمدّ. الباقون : (إِلْ ياسِينَ) بالقطع والقصر ، فمن قرأ آل ياسين بالمد ، فإنه أراد آل محمد عن بعضهم ، وقيل : أراد إلياس ، وهو أليق بسياق الآية ، ومن قرأ (إِلْ ياسِينَ) فقد قيل : إنها لغة في إلياس مثل إسماعيل وإسماعين وميكائيل وميكائين ، وقال الفراء : وهو جمع ، أراد إلياس وأتباعه من المؤمنين كقولهم : الأشعرون والمكيون وقال الكسائي : العرب تثني وتجمع الواحد كقول الشاعر :

قدني من نصر الخبيبين قدي

وإنما هو أبو خبيب عبد الله بن الزبير.

وقال الآخر :

جزاني الزهدمان جزاء سوء

وإنما هو زهدم ، وفي حرف عبد الله (وإن إدريس لمن المرسلين ، وسلام على ادراسين).

(إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ * ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ * وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ) ، أي على آثارهم ومنازلهم ، (مُصْبِحِينَ) : وقت الصباح ، (وَبِاللَّيْلِ) أيضا تمرّون ، وهاهنا تمّ الكلام ، ثم قال (أَفَلا تَعْقِلُونَ) ، فتعتبروا؟

(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (١٤٨) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨) سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٠) فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣) وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى

__________________

(١) كلمة غير مقروءة ، والظاهر ما أثبتناه.

١٦٩

حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٢))

(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ). هرب (إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) ، قال ابن عباس ووهب : كان يونس عليه‌السلام قد وعد قومه العذاب فلما تأخر العذاب عنهم خرج كالمنشور (١) منهم ، فقصد البحر وركب السفينة ، فاحتبست السفينة ، فقال الملّاحون : هاهنا عبد أبق من سيّده ، وهذا رسم السفينة إذا كان فيه آبق لا تجري. فاقترعوا ، فوقعت القرعة على يونس ، فقالوا : ألا نلقيه في الماء؟ واقترعوا ثانيا وثالثا فوقعت القرعة على يونس ، فقال : «أنا الآبق» وزجّ نفسه في الماء ، فذلك قوله سبحانه : (فَساهَمَ) : فقارع ، والمساهمة : إلقاء السهام على جهة القرعة. (فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) المقروعين المخلوعين المغلوبين.

(فَالْتَقَمَهُ) : فابتلعه والتقمه (الْحُوتُ) وأوحى الله سبحانه إليه أنّي جعلت بطنك سجنا ولم أجعله لك طعاما ، (وَهُوَ مُلِيمٌ) مذنب ، قد أتى بما يلام عليه.

(فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) المنزّهين الذاكرين لله سبحانه قبل ذلك في حال الرخاء ، وقال ابن عباس : من المصلين ، وقال مقاتل : من المصلحين المطيعين قبل المعصية ، وقال وهب : من العابدين ، وقال سعيد بن جبير : يعني قوله (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (٢) وقال الحسن : ما كانت له صلاة في بطن الحوت ولكنه قدم عملا صالحا ، (لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) لصار بطن الحوت قبرا له إلى يوم القيامة.

(فَنَبَذْناهُ) : طرحناه (بِالْعَراءِ) قال الكلبي : يعني وجه الأرض. مقاتل بن حيان : يعني ظهر الأرض. مقاتل بن سليمان بالبراري من الأرض. الأخفش بالفناء الفراء بالأرض الواسعة.

السدّي : بالساحل ، وأصل العراء الأرض الخالية عن الشجر والنّبات ، ومنه قيل للمتجرد :

عريان. قال الشاعر :

[ترك الهام ... بالعراء

صار للخير حاصر العبقا] (٣)

(وَهُوَ سَقِيمٌ) عليل كالفرخ الممغط ، واختلفوا في المدة التي لبث يونس عليه‌السلام في بطن الحوت ، فقال مقاتل بن حيان : ثلاثة أيام. عطاء : سبعة أيام ، ضحاك : عشرين يوما.

السدي والكلبي ومقاتل بن سليمان : أربعين يوما.

__________________

(١) كذا في المخطوط.

(٢) سورة الأنبياء : ٨٧.

(٣) هكذا في الأصل.

١٧٠

(وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ) أي له ، وقيل : عنده ، كقوله : (لَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ) (١) أي عندي (شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) قال ابن مسعود : يعني القرع. ابن عباس والحسن ومقاتل هو كل نبت يمتد وينبسط على وجه الأرض ، ولا يبقى على الشتاء وليس له ساق نحو القثاء والبطيخ والقرع والحنظل. سعيد ابن جبير : هو كل شيء ينبت ثمّ يموت من عامه ، وقيل : هو يفعيل من (قطن بالمكان) إذا أقام به إقامة زائل لا إقامة ثابت ، وقال مقاتل بن حيان : وكان يستظل بالشجرة ، وكانت وعلة تختلف إليه فيشرب من لبنها ، (وَأَرْسَلْناهُ) يجوز أن يكون من حبسه في بطن الحوت ، تقدير الآية وقد أرسلناه ، ويجوز أن يكون بعده ، ويجوز أن يكون إلى قوم آخرين. (إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) قال ابن عباس : معناه ويزيدون ، قال الشاعر :

فلما اشتد أمر الحرب فينا

تأملنا رياحا أو رزاما (٢)

أي ورزاما ، وقال مقاتل : بل يزيدون.

واختلفوا في مبلغ الزيادة على مائة ألف ؛ فقال ابن عباس ومقاتل : عشرون ألف. الحسن والربيع : بضع وثلاثون ألفا ، ابن حيان : سبعون ألفا ، (فَآمَنُوا) عند معاينة العذاب ، (فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) انقضاء آجالهم.

(فَاسْتَفْتِهِمْ) : فسل يا محمد أهل مكة (أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ) ؛ وذلك أن جهينة وبني سلمة بن عبد الدار زعموا أنّ الملائكة بنات الله ، (أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ) : حاضرون خلقنا إياهم ، نظيره قوله : (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) (٣).

(أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ * أَصْطَفَى). قرأ العامة بقطع الألف ؛ لأنه ألف استفهام دخلت على ألف الوصل فحذفت ألف الوصل وبقيت ألف الاستفهام مفتوحة على حالها مثل (أَسْتَكْبَرْتَ) (٤) و (أَسْتَغْفَرْتَ) (٥) و (أَذْهَبْتُمْ) (٦) ونحوها.

وقرأ أبو جعفر ونافع في بعض الروايات (الكاذبون اصطفى) موصولة على الخبر والحكاية عن قول المشركين ، مجازه : (لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللهُ) ويقولون (أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ) ثم رجع إلى الخطاب : (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَفَلا تَذَكَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ) : برهان بيّن على أنّ الله ولدا (فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) : فجعلوا

__________________

(١) سورة الشعراء : ١٤.

(٢) تفسير القرطبي : ١٤ / ٢٩٩.

(٣) سورة الزخرف : ١٩.

(٤) سورة ص : ٧٥.

(٥) سورة المنافقون : ٦.

(٦) سورة الأحقاف : ٢٠.

١٧١

الملائكة بنات الله ، فسمّي الملائكة جنّا لاختبائهم عن الأبصار ، هذا قول مجاهد وقتادة ، وقال ابن عباس : قالوا لحيّ : من الملائكة ـ يقال لهم : الجنّ ومنهم إبليس ـ بنات الله.

قال الكلبي : قالوا (لعنهم الله) : بل تزوّج من الجن فخرج منها الملائكة ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، وقال الحسن : أشركوا الشيطان في عبادة الله فهو النسب الذي جعلوه.

(وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ) يعني قائلي هذا القول (لَمُحْضَرُونَ) في النار.

(سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) ؛ فإنهم من النار ناجون. (فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ) يعني الأصنام (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) أي مع ذلك (بِفاتِنِينَ) : بمضلّين (إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) أي إلّا من هو في علم الله وإرادته سيدخل النار.

أخبرني ابن فنجويه قال حدّثنا ابن شنبه قال : حدّثنا الفربابي قال : حدّثنا أبو بكر بن شنبه قال : حدّثنا عبد الله بن إدريس عن عمر بن ذر قال : قدمنا على عمر بن عبد العزيز فذكر عنده القدر ، فقال عمر بن عبد العزيز : لو أراد الله ألّا يعصى ما خلق إبليس وهو رأس الخطيئة ، وإن في ذلك لعلما من كتاب الله ، وجهله من جهله وعرفه من عرفه ، ثم قرأ (فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ * ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ * إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) ، وقد فصلت هذه الآية بين الناس.

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبه قال : حدّثنا الفربابي قال : حدّثنا إسحاق بن موسى الأنصاري قال : حدّثنا أنس بن عياض قال : حدّثني أبو سهيل نافع بن مالك بن أبي عامر قال : قال لي عمر بن عبد العزيز (من فيه إلى أذني) : ما تقول في الذين يقولون لا قدر؟ قال : أرى أن يستتابوا ، فإن تابوا وإلّا ضربت أعناقهم. قال عمر بن عبد العزيز : ذلك الرأي فيهم والله لو لم يكن إلّا هذه الآية الواحدة لكفى بها : (فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ * ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ * إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ).

(ما مِنَّا إِلَّا لَهُ) يعني إلّا من له (مَقامٌ مَعْلُومٌ) : مكان مخصوص في العبادة. قال ابن عباس : ما في السماوات موضع شبر إلّا وعليه ملك مصلّ أو مسبح ، وقال أبو بكر : الوراق : (إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) يعبد الله عليه ، كالخوف والرجا ، والمحبة والرضا ، وقال السدي : يعني في القربى والمشاهدة.

(وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) في الصلاة ، (وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ * وَإِنْ كانُوا) وقد كادوا يعني أهل مكة (لَيَقُولُونَ) لام التأكيد : (لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ) : كتابا مثل كتبهم ، (لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ * فَكَفَرُوا بِهِ) فيه اختصار تقديره : فلما أتاهم ذلك الكتاب كفروا به. نظيره قوله : (أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) (١).

__________________

(١) سورة الأنعام : ١٥٧.

١٧٢

(فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) ، وهذا وعيد لهم.

(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ) ، وهي قوله : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) (١).

(إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ) قال ابن عباس : يعني الموت ، وقال مجاهد : يعني يوم بدر ، وقيل : إلى يوم القيامة ، وقال مقاتل بن حيان : نسختها آية القتال.

(وَأَبْصِرْهُمْ). أنظر إليهم إذا عدوا ، وقيل : أبصر حالهم بقليل ، وقيل : انتظرهم (فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) ما أنكروا : (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) وذلك أنّ رسول الله عليه‌السلام لما أوعدهم العذاب ، قالوا : (مَتى هذَا الْوَعْدُ)؟ فأنزل الله سبحانه هذه الآية.

(فَإِذا نَزَلَ) العذاب (بِساحَتِهِمْ) : بناحيتهم وفنائهم (فَساءَ) : فبئس (صَباحُ الْمُنْذَرِينَ) : الكافرين.

أخبرنا أبو عبد الله بن محمد بن عبد الله الزاهد قال : أخبرنا أبو العباس السراح قال : حدّثنا محمد بن رافع قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمّر عن قتادة عن أنس في قوله : (فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ) قال : لما أتى النبي صلّى الله عليه خيبر فوجدهم حين خرجوا إلى زرعهم ومعهم مساحيهم ، فلما رأوه ومعه الجيش نكصوا ، فرجعوا إلى حصنهم ، فقال النبي عليه‌السلام : «الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم (فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ)» [١٠٤] (٢).

(وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ * وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) تأكيد للأولى.

(سُبْحانَ رَبِّكَ) ـ إلى آخر السورة ـ أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا عمر بن الخطاب قال : حدّثنا أبو مسلم : حدّثنا محمد بن إسماعيل بن محمد بن أسد بن عبد الله الأصفهاني قال : حدّثنا أسيد بن عاصم قال : حدّثنا أبو سفيان بن صالح بن مهران قال : حدّثنا نعمان قال : حدّثنا أبو العوام عن قتادة عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلّى الله عليه : «إذا سلمتم عليّ فسلّموا على المرسلين ؛ فإنما أنا رسول من المرسلين» (٣) [١٠٥].

قال أبو العوام : كان قتادة يذكر هذا الحديث إذا تلا هذه الآية : (سُبْحانَ رَبِّكَ) إلى آخر السورة.

وأخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا موسى بن محمد قال : حدّثنا الحسن بن علوية قال : حدّثنا إسماعيل بن عيسى قال : حدّثنا المسيب قال : حدّثنا مطرف عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد

__________________

(١) سورة المجادلة : ٢١.

(٢) كتاب المسند للشافعي : ٣١٨.

(٣) جامع البيان للطبري : ٢٣ / ١٣٩.

١٧٣

الخدري قال : كان رسول الله صلّى الله عليه يقول قبل أن يسلّم : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١).

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال : حدّثنا إبراهيم بن سهلويه قال : حدّثنا علي بن محمد الطنافسي قال : حدّثنا وكيع عن ثابت بن أبي صفية عن الأصبغ بن نباتة عن علي رضي‌الله‌عنه قال : «من أحبّ أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة ، فليكن آخر كلامه من مجلسه (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)» [١٠٦] (٢).

[أخبرنا ابن فنجويه ، أخبرنا الحسن المخلدي المقرئ عن أبي الحسن علي بن أحمد عن أبي [عثمان] البصري عن أبي خليفة [الجمحي عن] عبد المؤمن عن إبراهيم بن إسحاق [عن عبد الصمد] عن صالح بن مسافر قال : قرأت على عاصم بن أبي النجود سورة والصافات فلما أتيت على آخرها سكت ، فقال : لم؟ اقرأ.

فقلت : قد ختمت ، قال إني فعلت كما فعلت على أبي عبد الرحمن السلمي ، فقال أبو عبد الرحمن : كذلك قال لي عليّ وقال لي : قل : آذنتكم بأذانة المرسلين ولتسئلن (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) (٣).

__________________

(١) مجمع الزوائد : ١٠ / ١٠٣.

(٢) الأذكار النووية : ٢٩٩ ح ٨٨٩.

(٣) هكذا وجد هذا الخبر في هامش المخطوط.

١٧٤

سورة ص

وهي ثلاثة آلاف وسبعة وستون حرفا ، وسبعمائة

واثنتان وثلاثون كلمة ، وثمانية وثمانون آية.

من كتاب ثواب الأعمال : أخبرنا إبراهيم قال : حدّثنا سلام في إسناده قال : ومن قرأ سورة ص كان له من الأجر مثل جبل سخّره الله لداود عشرة حسنات ، وعصم من أن يصرّ على ذنب صغير أو كبير (١).

حدّثنا إبراهيم بن محمّد بن الحسن قال : حدّثنا أبو الربيع قال : حدّثنا ابن وهب قال : حدّثني العطاف بن خلد عن عبد الرّحمن بن حرملة عن برد مولى سعيد بن المسيب : إنّ ابن المسيّب كان لا يدع أن يقرأ كل ليلة ص.

قال العطاف : فلقيت عمران بن محمّد بن سعيد بن المسيب فسألته عن ذلك.

قال : بلغني أنّه ما من عبد يقرأها كلّ ليلة إلّا اهتز له العرش.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (٣) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (٧))

(ص) قرأ العامة بالجزم ، واختلفوا في معناه.

فقال الكلبي : عن أبي صالح ، سئل جابر بن عبد الله وابن عباس عن (ص) فقالا : لا ندري.

وقال عكرمة : سأل نافع الأزرق عبد الله بن عباس عن (ص) فقال : كان بحرا بمكّة وكان عليه عرش الرّحمن ، إذ لا ليل ولا نهار.

__________________

(١) نقله الطبرسي في مجمع البيان : ٨ / ٣٤٠ ، عن أبي بن كعب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

١٧٥

سعيد بن جبير : (ص) بحر يحيي الله به الموتى بين [النفختين].

الضحّاك : صدق الله. مجاهد : فاتحة السّورة. قتادة : اسم من أسماء القرآن. السدّي : قسم أقسم الله سبحانه وتعالى به ، وهو اسم من أسماء الله عزوجل. وهي رواية الوالبي عن ابن عبّاس.

محمد بن كعب القرظي : هو مفتاح أسماء الله ، صمد ، وصانع المصنوعات ، وصادق الوعد.

وقيل : هو اسم السّورة ، وقيل : هو إشارة إلى صدود الكفّار من القرآن.

وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق : صادِ بخفض الدّال ، من المصادّاة ، أي عارض القرآن بعملك وقابله به ، واعمل بأوامره ، وانته عن نواهيه.

وقرأ عيسى بن عمر صادَ بفتح الدّال ، ومثله قافَ ونونَ ، لاجتماع السّاكنين ، حرّكها إلى أخف الحركات.

وقيل : على الإغراء.

وقيل في (ص) : إنّ معناه صاد محمّد قلوب الخلق واستمالها حتّى آمنوا به.

(وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) قال ابن عباس ومقاتل : ذي البيان.

الضحاك : ذي الشرف ، دليله قوله عزوجل : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ).

وقيل : ذي ذكر الله عزوجل.

واختلفوا في جواب القسم ، فقال قتادة : موضع القسم قوله : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا) كما قال سبحانه : (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا). وقال الأخفش جوابه قوله : (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ) كقوله عزوجل : (تَاللهِ إِنْ كُنَّا ...) وقوله : (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ إِنْ كُلُّ نَفْسٍ). وقيل : قوله : (إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ).

وقال الكسائي : قوله : (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ).

وقيل : مقدم ومؤخر تقديره (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) (وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ).

وقال الفراء : (ص) معناها وجب وحقّ ، فهي جواب لقوله (وَالْقُرْآنِ) كما تقول : [نزل] والله.

وقال القتيبي من قال جواب القسم (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا) قال : «بل» إنما تجيء لتدارك كلام ونفي آخر ، ومجاز الآية أن الله أقسم بـ (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) ويعني حمية جاهلية وتكبر.

١٧٦

(وَشِقاقٍ) يعني خلاف وفراق.

(كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا) بالأيمان والاستغاثة عند نزول العقوبة وحلول النقمة بهم.

(وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) وليس بوقت فرار ولا بر.

وقال وهب : (وَلاتَ) بلغة السريانية إذا أراد السرياني أن يقول وليس يقول : ولات.

وقال أئمة أهل اللغة : (وَلاتَ حِينَ) مفتوحتان كأنّهما كلمة واحدة ، وإنّما هي «لا» زيدت فيها التاء كقولهم : ربّ وربّت ، وثمّ وثمّت.

قال أبو زيد الطائي :

طلبوا صلحنا ولات أوان

فأجبنا أن ليس حين بقاء (١)

[وقال] آخر :

تذكّرت حبّ ليلى لات حينا

وأمسى الشيب فقطع القرينا (٢)

وقال قوم : إن التاء زيدت في حين كقول أبي وجزة السعديّ :

العاطفون حين ما من عاطف

والمطعمون زمان ما من مطعم (٣)

وتقول العرب : تلان بمعنى الآن ، ومنه حديث ابن عمر سأله رجل عن عثمان رضي‌الله‌عنه فذكر مناقبه ثم قال : اذهب بها تلان إلى أصحابك يريد الآن (٤).

وقال الشاعر :

تولى قبل يوم بين حمانا

وصلينا كما زعمت تلانا (٥)

فمن قال : إن التاء مع «لا» قالوا : قف عليه لأن بالتاء [...] (٦).

وروى قتيبة عن الكسائي أنّه كان يقف : ولاه ، بالهاء ، ومثله روي عن أهل مكة ، ومن قال : إن التاء مع حين. قالوا : قف عليه ولا ، ثم يبتدئ تحين مناص. وهو اختيار أبي عبيد قال : لأني تعمّدت النظر إليه في الأمام مصحف عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه عنه فوجدت التاء متصلة مع حين قد ثبتت : «تحين» (٧).

__________________

(١) لسان العرب : ١٣ / ٤٠.

(٢) لسان العرب : ١٥ / ٤٦٨.

(٣) تاج العروس : ٩ / ١٨٨ ، وتفسير القرطبي : ٥ / ١٤٨.

(٤) تفسير القرطبي : ١٥ / ١٤٧ ـ ١٤٩.

(٥) لسان العرب : ١٣ / ٤٣.

(٦) كلمة غير مقروءة.

(٧) أنظر المصدر السابق.

١٧٧

وقال الفراء : النوص بالنون التأخر ، والبوص بالباء التقدم. وجمعهما امرؤ القيس في بيت فقال :

أمن ذكر ليلى إذ نأتك تنوص

فتقصر عنها خطوة وتبوص (١)

فمناص مفعل من ناص مثل مقام.

قال ابن عباس : كان كفار مكة إذا قاتلوا فاضطروا في الحرب قال بعضهم لبعض : مناص ، أي اهربوا وخذوا حذركم ، فلما نزل بهم العذاب ببدر قالوا : مناص ، فأنزل الله سبحانه (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ).

(وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ. أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً).

وذلك أن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه أسلم فشق ذلك على قريش وفرح به المؤمنون ، فقال الوليد بن المغيرة للملأ من قريش ، وهم الصناديد والأشراف ، وكانوا خمسة وعشرين رجلا ، الوليد بن المغيرة وهو أكبرهم سنّا ، وأبو جميل ابن هشام ، وأبي وأميّة ابنا خلف ، وعمر بن وهب بن خلف ، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وعبد الله بن أميّة والعاص بن وائل ، والحرث بن قيس ، وعدي بن قيس ، والنضر بن الحرث ، وأبو البحتري بن هشام ، وقرط بن عمرو ، وعامر بن خالد ، ومحرمة بن نوفل ، وزمعة بن الأسود ، ومطعم بن عدي ، والأخنس بن سريق ، وحويطب ابن عبد العزى ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج ، والوليد بن عتبة ، وهشام بن عمر بن ربيعة ، وسهيل بن عمرو ، فقال لهم الوليد بن المغيرة : امشوا إلى أبي طالب. فأتوا أبا طالب فقالوا له : أنت شيخنا وكبيرنا ، وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء ، وإنّا أتيناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك. فأرسل أبو طالب إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدعاه فقال له : يا ابن أخ هؤلاء قومك يسألونك السواء فلا تمل كل الميل على قومك.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وماذا يسألوني؟» فقال : يقولون ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا وندعك وإلهك.

فقال النبي عليه‌السلام : «أتعطونني كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم؟» فقال أبو جهل : لله أبوك لنعطينكها وعشر أمثالها.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قولوا (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ)» (٢) [١٠٧]. فنفروا من ذلك وقاموا وقالوا : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) كيف يسع الخلق كلهم إله واحد.

__________________

(١) الصحاح للجوهري : ٣ / ١٠٣١.

(٢) أسباب نزول الآيات : ٢٤٧.

١٧٨

(إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) أي عجيب.

قال مقاتل : بلغة أزد شنوه.

قال أهل اللغة : العجيب والعجاب واحد كقولك كريم وكرام وكبير وو كبار وطويل وطوال وعريض وعراض وسكين حديد وحداد.

أنشد الفراء :

كحلقة من أبي رماح

تسمعها لاهة الكبار

وقال آخر :

نحن أجدنا دونها الضرابا

إنّا وجدنا ماءها طيابا (١)

يريد طيبا.

وقال عباس بن مرداس : تعدوا به سلمية سراعه. أي سريعة.

وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وعيسى بن عمر : عجّاب بالتشديد. وهو المفرط في العجب.

فأنشد الفراء :

آثرت إدلاجي على ليل جرّة

هضيم الحشا حسانة المتجرد (٢)

وأنشد أبو حاتم :

جاءوا بصيد عجّب من العجب

أزيرق العينين طوال الذنب (٣)

(وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا) يعني إلى أبي طالب فأشكوا إليه ابن أخيه (وَاصْبِرُوا) واثبتوا (عَلى آلِهَتِكُمْ) نظيرها في الفرقان (لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها) (٤).

(إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ) أي لأمر يراد بنا (ما سَمِعْنا بِهذا) الذي يقول محمّد (فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ).

قال ابن عبّاس والقرظي والكلبي ومقاتل : يعنون النصرانية ، لأن النصارى تجعل مع الله إلها.

__________________

(١) لسان العرب : ١ / ٥٦٦.

(٢) لسان العرب : ٢ / ٢٧٢.

(٣) تاريخ دمشق : ٧ / ٤٢٢ ط. دار الفكر.

(٤) سورة الفرقان : ٤٢.

١٧٩

وقال مجاهد وقتادة : يعنون ملة قريش ، ملة زماننا هذا (١).

(إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) القرآن (مِنْ بَيْنِنا) قال الله عزوجل : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي) أيّ وحيي.

(أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (١١) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (١٥) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦) اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠) وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١))

(بَلْ لَمَّا) أي لم (يَذُوقُوا عَذابِ) ولو ذاقوه لما قالوا هذا القول (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ) نعمة (رَبِّكَ) يعني مفاتيح النبوة ، نظيرها في الزخرف (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) (٢) أي نبوة ربك (الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ * أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ) أي فليصعدوا في الجبال إلى السماوات ، فليأتوا منها بالوحي إلى من يختارون ويشاؤن ، وهذا أمر توبيخ وتعجيز.

وقال الضحاك ومجاهد وقتادة : أراد بالأسباب : أبواب السماء وطرقها.

(جُنْدٌ) أي هم جند (ما هُنالِكَ) أي هنالك و (ما) صلة (مَهْزُومٌ) مغلوب ، ممنوع عن الصعود إلى السماء (مِنَ الْأَحْزابِ) أي من جملة الأجناد.

وقال أكثر المفسرين : يعني أن هؤلاء الملأ الذين يقولون هذا القول ، جند مهزوم مقهور وأنت عليهم مظفر منصور.

قال قتادة : وعده الله عزوجل بمكة أنّه سيهزمهم ، فجاء تأويلها يوم بدر من الأحزاب ، أيّ كالقرون الماضية الذين قهروا وأهلكوا ، ثم قال معزّا لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ) قال ابن عبّاس : ذو البناء المحكم.

__________________

(١) انظر : تفسير القرطبي : ١٥ / ١٥٢.

(٢) سورة الزخرف : ٣٢.

١٨٠