الكشف والبيان - ج ٨

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ٨

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

أخبرنا أبو عثمان سعيد بن محمد ، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن رجاء ، حدثنا الحسن بن سفيان ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا وكيع ، عن ابن أبي داود (١) ، عن الضحاك ، قال : ما تعلّم رجل القرآن ثمّ نسيه إلّا بذنب ، ثمّ قرأ (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) ، ثمّ قال : وأي مصيبة أعظم من نسيان القرآن (٢). وقال الحسن في هذه الآية : هذا في الحدود.

(وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) هربا. (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ) يعني السّفن ، واحدتها جارية وهي السائرة في البحر ، قال الله تعالى : (حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) (٣).

(فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) أي الجبال ، مجاهد : القصور ، واحدها علم.

وقال الخليل بن أحمد : كلّ شيء مرتفع عند العرب فهو علم.

قالت الخنساء ترثي أخاها صخرا :

وإنّ صخرا لتأتمّ الهداة به

كأنّه علم في رأسه نار (٤)

(إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ) ثوابت وقوفا (عَلى ظَهْرِهِ) أي على ظهر الماء.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * أَوْ يُوبِقْهُنَ) يهلكهنّ. (بِما كَسَبُوا) أي بما كسب أصحابها وركبانها من الذنوب. (وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) فلا يعاقب عليها ويعلم.

قرأ أهل المدينة والشام بالرفع على الاستئناف كقوله في سورة براءة : (وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) (٥) ، وقرأها الآخرون نصبا على الصرف كقوله تعالى : (وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (٦) صرف من حال الجزم إلى النصب استحقاقا وكراهة لعوال الجزم ، كقول النابغة :

فإن يهلك أبو قابوس يهلك

ربيع النّاس والشهر الحرام

ونمسك بعده بذناب عيش

أجبّ الظهر له سنام (٧)

وقال آخر :

لا تنه عن خلق وتأتي مثله

عار عليك إذا فعلت عظيم (٨)

__________________

(١) في تفسير القرطبي : رواد.

(٢) المصنف لابن أبي شيبة : ٧ / ١٦٢ ، وتفسير القرطبي : ١٦ / ٣٠ ، وتفسير ابن كثير : ٤ / ١٢٦.

(٣) سورة الحاقة : ١١.

(٤) بلاغات النساء : ٣١ ، مجمع البحرين : ٢ / ٥٨٩.

(٥) سورة التوبة : ١٥.

(٦) سورة آل عمران : ١٤٢.

(٧) جامع البيان للطبري : ٢٥ / ٤٦.

(٨) الصحاح : ٣ / ١١٧٤.

٣٢١

(وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) محيد عن عقاب الله تعالى. (فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ) من رياش الدّنيا وقماشها. (فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) وليس من زاد المعاد. (وَما عِنْدَ اللهِ) من الثواب. (خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ).

قرأ يحيى بن رئاب وحمزة والكسائي وخلف هاهنا وفي سورة النجم (كبير) على التوحيد وفسروه الشرك عن ابن عباس ، وقرأ الباقون (كَبائِرَ) بالجمع في السورتين ، وقد بينا اختلاف العلماء في معنى «الكبائر» والفواحش. قال السدّي : يعني الزنا ، وقال مقاتل : موجبات الخلود.

(وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) يتجاوزون ويتحملون.

(وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣) وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (٤٨) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠))

(وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) ، وقيل هذه الآيات نزلت في أبي بكر الصديق رضي‌الله‌عنه. حين لامه النّاس على إنفاق ماله كلّه ، وحين شتم فحلم.

أخبرنا ابن فنجويه ، حدثنا عبيد الله بن محمد بن شنبه ، حدثنا إسحاق بن صدقة ، حدثنا عبد الله بن هاشم ، حدثنا سيف بن عمر ، عن عطية ، عن أيوب ، عن علي رضي‌الله‌عنه قال : اجتمع لأبي بكر رضي‌الله‌عنهما مال مرة فتصدق به كلّه في سبيل الخير ، فلامه المسلمون وخطّأه الكافرون ، فأنزل الله تعالى : (فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) ... إلى قوله : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ)

٣٢٢

خص به أبا بكر وعم به من اتبعه.

(وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) ينتقمون من ظالميهم من غير أن يعتدوا.

وقال مقاتل : هذا في المجروح ينتصر من الجارح فيقتص منه. قال إبراهيم : في هذه الآية كانوا يكرهون أن يستذلوا فإذا قدروا عفو له.

(وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) سمي الجزاء باسم الابتداء وإن لم يكن سيئة لتشابههما في الصورة. قال ابن نجيح : هو أن يجاب قائل الكلمة القبيحة بمثلها ، فإذا قال : أخزاه الله. يقول له : أخزاه الله ، وقال السدّي : إذا شتمك بشتمة فاشتمه بمثلها من غير أن تعتدي.

أخبرنا ابن فنجويه ، حدثنا ابن حنش المقري ، حدثنا أبو القاسم بن الفضل ، حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن يحيى بن أبي عمر ، قال سفيان بن عيينة : قلت لسفيان الثوري : ما قوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) أن يشتمك رجل فتشتمه؟ ، أو أن يفعل بك فتفعل به؟ فلم أجد عنده شيئا فسألت هشام بن حجير عن هذه الآية ، فقال : الجارح إذا جرح تقتص منه وليس هو أن يسبك فتسبه.

وقال سفيان : وكان ابن شبرمة يقول : أليس بمكّة مثل هشام بن حجير (فَمَنْ عَفا) فلم ينتقم.

قال ابن عباس : فمن ترك القصاص (وَأَصْلَحَ) ، وقال مقاتل : وكان العفو من الأعمال الصالحة فأجره على الله.

قال ابن فنجويه العدل ، حدثنا محمد بن الحسن بن بشر ، أخبرنا أبو العباس محمد بن جعفر بن ملاس الدمشقي ، حدثنا أبو عبد الله أحمد بن إبراهيم بن بشر القريشي ، حدثنا زهير بن عباد المدائني ، حدثنا سفيان بن عينية عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا كان يوم القيامة ، نادى مناد من كان له على الله أجر ، فليقم ، قال : فيقوم عنق كثير. قال : فقال : ما أجركم على الله ، فيقولون : نحن الّذين عفونا عمّن ظلمنا ، وذلك قوله تعالى : (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) فيقال لهم : ادخلوا الجنّة بإذن الله» [١٨٧] (١).

(إِنَّهُ) إنّ الله (لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ). قال ابن عباس : الّذين يبدءون بالظلم. لقوله تعالى : (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ. فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ).

مبتدئين به. (وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ).

فلم يكاف. (إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) وحزمها. (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ) يهديه أو يمنعه من عذاب الله.

__________________

(١) الدر المنثور : ٦ / ١١.

٣٢٣

(وَتَرَى الظَّالِمِينَ) الكافرين. (لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ) رجوع إلى الدّنيا.

(مِنْ سَبِيلٍ وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها) أي على النّار (خاشِعِينَ) خاضعين متواضعين (مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) ذليل قد خفي من الذّلّ. قاله ابن عباس ، وقال مجاهد وقتادة والسدّي والقرظي : سارقو النظر.

واختلف العلماء باللغة في وجه هذه الآية ، فقال يونس : من بمعنى الياء ، مجازه : بطرف خفيّ ، أي ضعيف من الذل والخوف ، وقال الأخفش : الطرف العين ، أي ينظرون من عين ضعيفة ، وقيل : إنّما قال : (مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) لأنه لا يفتح عينه إنّما ينظر ببعضها ، وقيل معناه : ينظرون إلى النّار بقلوبهم لأنّهم يحشرون عميا ، والنظر بالقلب خفيّ.

(وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ) دائم. (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ. وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) طريق للوصول (١) إلى الحقّ في الدّنيا والجنّة في العقبى ، قد انسدت عليه طرق الخير. (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ) بالإيمان والطاعة. (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ. ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ) معقل. (يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) منكم يغير ما بكم.

(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً. إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ. وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ * لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً) فلا يكون له ولد ذكر.

أخبرنا الحسين بن محمّد بن فنجويه ، حدثنا الفضل بن الفضل الكندي ، حدثنا محمد بن الحسين الفرج ، حدثنا أحمد بن الخليل القومي ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا حكيم بن حزام أبو سمير ، عن مكحول ، عن واثلة بن الأسقع ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ من يمن المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذّكر ، وذلك إنّ الله تعالى يقول : (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ). ألا ترى إنّه بدأ بالإناث قبل الذّكور» [١٨٨] (٢).

(وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) فلا يكون له أنثى. (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً) يجمع بينهما فيولد له الذّكور والإناث. تقول العرب : زوّجت وزوجت الصغار بالكبار. أي قرنت بعضها ببعض.

أخبرنا ابن فنجويه ، حدثنا طلحة وعبيد ، قالا : حدثنا ابن مجاهد ، حدثنا الحسين بن علي ابن العباس ، حدثنا سهل بن عثمان ، حدثنا عبيد الله ، عن إسماعيل بن سلمان ، عن أبي عمر ،

__________________

(١) في المخطوط : إلى الوصول.

(٢) كنز العمال : ١٦ / ٦١١ / ح ٤٦٠٤٦ ، وتفسير القرطبي : ١٦ / ٤٨ بتفاوت في المصدرين.

٣٢٤

عن ابن الحنيفة في قوله تعالى : (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً). قال : التوائم.

(وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) فلا يلد ولا يولد له.

أخبرنا الحسين بن محمد بن الحسين ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا الحسن بن علوية ، حدثنا إسماعيل بن عيسى ، حدثنا إسحاق بن بشر ، في قول الله تعالى : (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) قال : نزلت في الأنبياء عليهم‌السلام ثمّ عمّت ، (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً) يعني لوطا عليه‌السلام لم يولد له ذكر إنّما ولد له ابنتان. (وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) ويعنى إبراهيم عليه‌السلام لم يولد له أنثى (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً) يعني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولد له بنون وبنات (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) يعني يحيى وعيسى عليهم‌السلام.

(إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ).

أخبرنا أبو محمد الحسين بن أحمد بن محمد المخلدي إملاء ، أخبرنا أبو نعيم عبد الملك ابن محمد بن عدي ، حدثنا عمار بن رجاء وعلي بن سهل بن المغيرة ، قالا : حدثنا علي بن الحسن بن شقيق ، أخبرنا ابن فنجويه ، حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا ابن وهب ، حدثنا إبراهيم بن سعيد ، حدثنا علي بن الحسن بن شقيق ، حدثنا أبو حمزة السّكري المروزي ، عن إبراهيم الصائغ عن حماد بن أبي سليمان ، عن إبراهيم النخعي ، عن الأسود ، عن عائشة «رضي‌الله‌عنها».

قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ أولادكم هبة [الله] لكم (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) [فهم] وأموالهم لكم إذا احتجتم إليها» [١٨٩] (١).

قال علي بن الحسن : سألني يحيى بن معين عن هذا الحديث (٢).

(وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (٥٣))

(وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ) الآية وذلك إنّ اليهود قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيا كما كلمه موسى ونظر إليه؟ فإنّا لا نؤمن لك حتّى تفعل ذلك. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لم (٣)

__________________

(١) نصب الراية : ٣ / ٥٦٩ ، والدر المنثور : ٦ / ١٢ ، وفيه : فهم وأموالكم.

(٢) كذا في المخطوط ، ولم نجده في المصادر ، وعلي بن الحسن هو ابن شقيق راوي الحديث.

(٣) أسباب نزول الآيات : ٢٥٢ ، زاد المسير : ٧ / ٨٧.

٣٢٥

ينظر موسى إلى الله» [١٩٠] فأنزل الله تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ).

(إِلَّا وَحْياً) يوحي إليه كيف يشاء إما بالإلهام أو في المنام. (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) بحيث يسمع كلامه ولا يراه كما كلم موسى عليه‌السلام (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً). إليه من ملائكة ، إما جبريل وإما غيره. (فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ).

قرأ شيبة ونافع وهشام (أَوْ يُرْسِلُ) برفع اللام على الابتداء (فَيُوحِي) بإسكان الياء ، وقرأ الباقون بنصب اللام والياء عطفا بهما على محلّ الوحي لأنّ معناه وما كان لبشر أن يكلمه الله إلّا أن يوحي أو يرسل.

(إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ * وَكَذلِكَ) أي وما أوحينا إلى سائر رسلنا كذلك. (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا). قال الحسن : رحمة. ابن عباس : نبوة. السدّي : وحيا. الكلبي : كتابا. ربيع : جبريل. ملك بن دينار : يعني القرآن ، وكان يقول : يا أصحاب القرآن ماذا زرع القرآن في قلوبكم فإنّ القرآن ربيع القلوب كما الغيث ربيع الأرض.

(ما كُنْتَ تَدْرِي) قبل الوحي. (مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) يعني شرائع الإيمان ومعالمه.

وقال أبو العالية : يعني الدعوة إلى الإيمان ، وقال الحسين بن الفضل : يعني أهل الإيمان من يؤمن ومن لا يؤمن ، وقال محمد بن إسحاق بن جرير : الإيمان في هذا الموضع الصلاة.

دليله قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) (١).

(وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً) وحّد الكتابة وهما اثنان : الإيمان والقرآن ؛ لأن الفعل في كثرة أسمائه بمنزلة الفعل ، ألا ترى إنّك تقول إقبالك وإدبارك يعجبني فيوحّدوه وهما اثنان.

وقال ابن عباس : (وَلكِنْ جَعَلْناهُ) يعني الإيمان ، وقال السدّي : يعني القرآن.

(نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا. وَإِنَّكَ لَتَهْدِي) لترشد وتدعوا. (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان ، حدثنا أحمد بن محمد بن شاذان ، حدثنا الحسين بن محمد ، حدثنا صالح بن محمد ، قال : سمعت أبا معشر يحدّث ، عن سهل بن أبي الجعداء وغيره. قال : احترق مصحف فلم يبق إلّا قوله سبحانه وتعالى : (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) وغرق مصحف فامتحى كلّ شيء فيه إلّا قوله : (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ).

__________________

(١) سورة البقرة : ١٤٣.

٣٢٦

سورة الزخرف

مكّية ، وهي تسع وثمانون آية ، وثمانمائة وثلاث وثلاثون كلمة ،

وثلاثة آلاف وأربعمائة حرف

أخبرنا ابن المقري ، أخبرنا ابن مطر ، حدثنا ابن شريك ، حدثنا ابن يونس ، حدثنا سلام بن سليم ، حدثنا هارون بن كثير ، عن زيد بن أسلم عن أبيه ، عن أبي أمامة الباهلي ، عن أبي بن كعب. قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة الزّخرف كان ممن يقال له يوم القيامة : (يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) ادخلوا الجنّة (بِغَيْرِ حِسابٍ)» [١٩١] (١). قوله تعالى :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١١) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤) وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥))

(حم * وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا). أي أنزلناه وسميناه وبيّناه ووصفناه.

كقوله تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ) (٢) ، وقوله : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) (٣) ، وقوله : (جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) (٤) ، وقوله تعالى :

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ٩ / ٦٦.

(٢) سورة المائدة : ١٠٣.

(٣) سورة الزخرف : ١٩.

(٤) سورة الحجر : ٩١.

٣٢٧

(أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِ) (١). كلّها بمعنى الوصف والتسمية ويستحيل أن يكون بمعنى الخلق. (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ) يعني هذا الكتاب. (فِي أُمِّ الْكِتابِ) يعني اللوح المحفوظ الّذي عند الله تعالى منه ينسخ ، وقال قتادة : أصل الكتاب وجملته.

أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان ، أخبرنا مكي بن عيدان ، حدثنا عبد الله بن هاشم بن حيان ، حدثنا يحيى بن سعيد القطان ، حدثنا هاشم الدستوائي ، حدثني القاسم بن أبي يزه ، حدثني عروة بن عامر القريشي ، قال : سمعت ابن عباس يقول : إنّ أول ما خلق الله تعالى القلم وأمره أن يكتب ما يريد أن يخلق والكتاب عنده ثمّ قرأ (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً). اختلفوا في معناه. فقال قوم : أفنضرب عنكم العذاب ونمسك ونعرض عنكم ونترككم فلا نعاقبكم على كفركم ، وهذا قول مجاهد والسدي ، ورواية الوالبي عن ابن عباس. قال : أفحسبتم إنّه يصفح عنكم ولما تعقلوا ما أمرتم به ، وقال آخرون : معناه أفنمسك عن إنزال القرآن ونتركه من أجل أنّكم لا تؤمنون به فلا ننزله ولا نكرره عليكم ، وهذا قول قتادة وابن زيد.

وقال قتادة : والله لو كان هذا القرآن رفع حين ردّه أوائل هذه الأمة لهلكوا ، ولكن الله تعالى عاد بعائدته ورحمته فكرره عليهم ودعاهم إليه عشرين سنة. أو ما شاء الله من ذلك.

وقال الكلبي : أفنترككم سدى لا نأمركم ولا ننهاكم. الكسائي : أفنطوي عنكم الذكر طيّا ، فلا تدعون ولا توعظون.

وهذا من فصيحات القرآن ، والعرب تقول لمن أمسك عن الشيء وأعرض عنه : ضرب عنه صفحا ، والأصل في ذلك إنّك إذا أعرضت عنه ولّيته صفحة عنقك ، قال كثير :

صفوحا فما تلقاك إلا بخيلة

فمن ملّ منها ذلك الوصل ملّت (٢)

أي معرضة بوجهها ، وضربت عن كذا وأضربت ، إذا تركته وأمسكت عنه.

(أَنْ كُنْتُمْ) قرأ أهل المدينة والكوفة إلّا عاصما أن تكتب الألف على معنى إذ. كقوله : (وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٣) ، وقوله : (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) (٤).

وقرأ الآخرون بالفتح على معنى لأنّ كنتم أرادوا على معنى المضي كما يقول في الكلام : أسبّك إن حرمتني ، يريد إذا حرمتني. قال أبو عبيدة : والنّصب أحبّ إليّ ؛ لأنّ الله تعالى عاتبهم على ما كان منهم وعلمه قبل ذلك من فعلهم.

__________________

(١) سورة التوبة : ١٩.

(٢) غريب الحديث : ٢ / ١٦٨ ، لسان العرب : ٢ / ٥١٥.

(٣) سورة البقرة : ٢٧٨.

(٤) سورة النور : ٣٣.

٣٢٨

(قَوْماً مُسْرِفِينَ) مشركين متجاوزين أمر الله. (وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ وَما يَأْتِيهِمْ). أي وما كان يأتيهم. (مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) كاستهزاء قومك بك. يعزّي نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً) قوة. (وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) صفتهم وسنتهم وعقوبتهم.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ) أي بمقدار حاجتكم إليه. (فَأَنْشَرْنا) فأحيينا. (بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً. كَذلِكَ) أي كما أحيينا هذه البلدة الميتة بالمطر كذلك. (تُخْرَجُونَ) من قبوركم أحياء.

(وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ) الأصناف. (كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) ذكر الكناية لأنّه ردها إلى ما ، وقال الفراء : أضاف الظهور إلى الواحد لأنّه ذلك الواحد في معنى الجمع كالجند والجيش والرهط والخيل ونحوها من أسماء الجيش.

(ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) أي مطبقين ضابطين قاهرين وهو من القرآن ، كأنّه أراد وما كنا مقاومين له في القوة.

(وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) لمنصرفون في المعاد.

أخبرنا ابن فنجويه الدينوري ، حدثنا سعيد بن محمد بن إسحاق الصيرفي ، حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شنبه ، حدثنا محمد بن عمران بن أبي ليلى ، حدثنا أبي عن ابن أبي ليلى ، عن الحكم ، عن علي بن ربيعة ، عن علي رضي‌الله‌عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إنّه كان إذا وضع رجله في الركاب ، قال : «بسم الله» فإذا استوى على الدابة. قال : «الحمد لله على كلّ حال (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ)» [١٩٢] ، وكبّر ثلاثا وهلل ثلاثا (١).

وقال قتادة : في هذه الآية يعلمكم كيف تقولون إذا ركبتم في الفلك والأنعام تقولون : (وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) (٢).

(وَجَعَلُوا) يعني هؤلاء المشركين (لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً) أي نصيبا وبعضا.

وقال مقاتل وقتادة : عدلا وذلك قولهم للملائكة هم بنات الله تعالى.

(إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ).

(أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧) أَوَمَنْ

__________________

(١) كتاب الدعاء للطبراني : ٢٤٨.

(٢) سورة المؤمنون : ٢٩.

٣٢٩

يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩) وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٢٠) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٢٤) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٢٥) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٣٠) وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢) وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥))

(أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ) أخلصكم وخصصكم. (بِالْبَنِينَ) نظيره قوله تعالى : (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً) (١).

(وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً) يعني البنات. دليلها في النّحل (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) من الحزن والغيظ.

(أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا) قرأها أهل الكوفة بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين على غير تسمية الفاعل. أي يربي غيرهم يَنْشَؤُا بفتح الياء وجزم النون وتخفيف الشين ، أي ينبت ويكبر.

(فِي الْحِلْيَةِ) في الزينة ، يعني النساء. قال مجاهد : رخّص للنساء في الحرير والذهب ، وقرأ هذه الآية.

أخبرنا عبد الله بن حامد ، أخبرنا محمد بن الحسين الزعفراني ، حدثنا يحيى بن جعفر بن أبي طالب ، حدثنا محمد بن عبيد ، حدثنا عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن سعيد بن أبي هند ، عن أبي موسى الأشعري ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الذهب والحرير حرام على ذكور أمتي ، حلّ لأناثهم» [١٩٣] (٢).

__________________

(١) سورة الإسراء : ٤٠.

(٢) فتح الباري : ١٠ / ٢٥٠ ، منتخب مسند عبد بن حميد : ١٩٣.

٣٣٠

(وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ) للحجة من ضعفهنّ وسفههنّ. قال قتادة في هذه الآية : قلما تتكلم امرأة بحجّتها إلّا تكلمت الحجة عليها ، وفي مصحف عبد الله (وهو في الكلام غير مبين).

وقال بعض المفسرين : عني بهذه الآية أوثانهم الّتي كانوا يعبدونها ويجلّونها ويزينونها وهي لا تتكلم ولا تنبس. قال ابن زيد : هذه تماثيلهم الّتي يضربونها من فضة وذهب ، وينشئونها في الحلية يتعبدونها. في محلّ من ثلاثة وجوه : الرفع على الابتداء. والنصب على الإضمار ، مجازه : (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا) يجعلونه ربّا أو بنات الله ، والخفض ردّا على قوله : (مِمَّا يَخْلُقُ) وقوله : بما صرت ...

(وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) قرأ أبو عمرو وأهل الكوفة عباد الرحمن بالألف والياء! ، وأختاره أبو عبيد قال : لأن الإسناد فيها أعلى ولأنّ الله تعالى إنما كذبهم في قوله : «بنات الله» فأخبر إنّهم عبيده وليسوا بناته ، وهي قراءة ابن عباس.

أخبرنا محمد بن نعيم ، أخبرنا الحسين بن أيوب ، أخبرنا علي بن عبد العزيز ، أخبرنا القاسم بن سلام ، حدثنا هيثم عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، إنّه قرأها (عِبادُ الرَّحْمنِ).

قال سعيد : فقلت لابن عباس : إنّ في مصحفي عبد الرّحمن. فقال : امسحها واكتبها (عِبادُ الرَّحْمنِ) ، وتصديق هذه القراءة ، قوله (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) (١) ، وقرأ الآخرون عند الرّحمن بالنون واختاره أبو حاتم ، قال : لأن هذا مدح ، وإذا قلت : (عِبادُ الرَّحْمنِ) وتصديقها قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) (٢).

(أَشَهِدُوا) أحضروا (خَلْقَهُمْ) حتّى يعرفوا إنّهم أناث ، وقرأ أهل المدينة أُشْهِدُوا على غير تسمية الفاعل أي أحضروا. (خَلْقَهُمْ) حين خلقوا. (سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ) على الملائكة إنّهم بنات الله (وَيُسْئَلُونَ) عنها.

(وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) يعني الملائكة في قول قتادة ومقاتل والكلبي ، وقال مجاهد : يعني الأوثان ، وإنّما لم يعجل عقوبتنا على عبادتنا إياها لرضا منا بعبادتها. قال الله تعالى : (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) فيما يقولون (إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) يكذبون.

(أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ) أي من قبل هذا القرآن. (فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ * بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) دين. (وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) وقراءة العامة (أُمَّةٍ) بضم الألف ، وهي

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٢٦.

(٢) سورة الأعراف : ٢٠٦.

٣٣١

الدين والملة ، وقرأ عمر بن عبد العزيز ومجاهد أِمَّةٍ بكسر الألف واختلفوا في معناها ، فقيل : هي الطريقة والمقصد من قولهم أممت ، وقيل : هي النعمة. قال عدي بن زيد : ثمّ بعد الفلاح والملك والأمة وأريهم هناك القبور ، وقيل : هما لغتان بمعنى واحد.

(وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) مستنون متبعون.

(قالَ) قراءة العامة على الأمر ، وقرأ ابن عامر على الخبر ومثله روى حفص بن عاصم.

أَوَلَوْ جاءَكُمْ بالألف أبو جعفر. الباقون (جِئْتُكُمْ) على الواحد. (بِأَهْدى) بدين أصوب. (مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ. قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ * فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ) أي بريء ، ولا يثنّى البراء ولا يجمع ولا يؤنث لأنّه مصدر وضع موضع النعت ، وفي قراءة عبد الله (بريء) بالياء. (مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) خلقني ، ومجاز الآية : (إِنَّنِي بَراءٌ) من كلّ معبود (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) إلى دينه. (وَجَعَلَها) يعني هذه الكلمة والمقالة (كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) قال مجاهد وقتادة : يعني (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) ، وقال القرظي : يعني وجعل وصية إبراهيم الّتي أوصى بها بنيه باقية في نسله وذريته وهي الّتي ذكرها الله تعالى في سورة البقرة : (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ) (١) ، وقال ابن زيد : يعني قوله : (أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٢) وقرأ (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ) (٣).

(لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) من كفرهم إلى الطاعة ويتوبون (بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ) في الدّنيا فلم أهلكهم ولم أعاجلهم بالعقوبة على كفرهم. (حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُ) القرآن ، وقال الضحاك : الإسلام. (وَرَسُولٌ مُبِينٌ) يبين لهم الأعلام والأحكام وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُ) القرآن (قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ). يعني من إحدى القريتين ولم يختلفوا في القريتين إنّهما مكّة والطائف ، واختلفوا في الرجلين من هما. قال ابن عباس : الوليد بن المغيرة من مكّة وكان يسمى ريحانة قريش ، وحبيب بن عمرو بن عمير الثقفي من الطائف.

وقال مجاهد : عتبة بن الربيع من مكّة وابن عبد ياليل الثقفي من الطائف. قتادة : هما الوليد بن المغيرة المخزومي ، وأبو مسعود عروة بن مسعود الثقفي ، وقال السدي : الوليد بن المغيرة وكنانة بن عبد عمرو بن عمير.

__________________

(١) سورة البقرة : ١٣٢.

(٢) سورة البقرة : ١٣١.

(٣) سورة الحج : ٧٨.

٣٣٢

قال الله سبحانه وتعالى : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) نبوته وكرامته فيجعلونها لمن شاءوا. (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فجعلنا هذا غنيا وهذا فقيرا وهذا ملكا وهذا مملوكا ، وقرأ ابن عباس وابن يحيى (معايشهم) (وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) أي ليسخّر الأغنياء بأموالهم الأجراء الفقراء بالعمل ويستخدمونهم ليكون بعضهم لبعض سبب المعاش في الدّنيا ، هذا بماله وهذا بأعماله ؛ هذا قول السدي وابن زيد ، وقال قتادة والضحاك : يعني ليملك بعضهم بعضا فهذا عبد هذا ، وقيل : يسخر بعضهم من بعض ، وقيل : يتسخر بعضهم بعضا.

(وَرَحْمَتُ رَبِّكَ) يعني الجنّة (خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) في الدنيا من الأموال (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) مجتمعين على الكفر فيصيروا كلّهم كفّارا. هذا قول أكثر المفسرين ، وقال ابن زيد : يعني : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) في طلب الدّنيا واختيارها على العقبى.

(لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ) وقرأ أبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو وحميد ويحيى بن وثاب سَقْفاً بفتح السين على الواحد ومعناه الجمع اعتبارا بقوله : (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) (١) ، وقرأ الباقون بضم السين والقاف على الجمع. يقال سقف وسقّف مثل رهن ورهّن. قال أبو عبيد : ولا ثالث لهما ، وقيل : هو جمع سقيف ، وقيل : هو جمع سقوف وجمع الجمع. (وَمَعارِجَ) أي مصاعد ومراقي ودرجا وسلاليم ، وقرأ أبو رجاء العطاردي (ومعاريج) وهما لغتان واحدهما معراج مثل مفاتح ومفاتيح.

(عَلَيْها يَظْهَرُونَ) يعلون ويرتقون ويصعدون بها ، ظهرت على السطح إذا علوته. قال النابغة الجعدي :

بلّغنا السماء مجدنا وسناؤنا

وإنّا لنرجو فوق ذلك مظهرا (٢)

أي مصعدا.

(وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً) من فضة (وَسُرُراً) من فضة (عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ وَزُخْرُفاً) أي ولجعلنا لهم مع ذلك (وَزُخْرُفاً) وهو الذهب نظير بيت مزخرف ، ويجوز أن يكون معناه من فضة وزخرف فلما نزع الخافض نصب.

(وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) شدده عاصم وحمزة على معنى (وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) (٣) ، وخففه الآخرون على معنى. (ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) (٤) فتكون [لغة] الواصلة (وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) للمؤمنين.

__________________

(١) سورة النحل : ٢٦.

(٢) لسان العرب : ٤ / ٥٢٩ ،

(٣) سورة الزخرف : ٣٥.

(٤) سورة آل عمران : ١٤.

٣٣٣

أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان ، أخبرنا أحمد بن شاذان ، أخبرنا جيغويه بن محمد ، حدثنا صالح بن محمد ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن أبان ، عن سليمان بن القيس العامري ، عن كعب. قال : إنّي لأجد في بعض الكتب : لولا أن يحزن عبدي المؤمن لكللت رأس الكافر بأكاليل فلا يصدع ولا ينبض منه عرق يوجع.

أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه ، حدثنا عبد الله بن محمد بن شنبه ، حدثنا الفربابي ، حدثنا إبراهيم بن العلاء الزيدي ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن ثعلبة بن مسلم ، عن مسلم بن أبي المجرد ، عن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه إنّه كان يقول : لو أنّ رجلا هرب من رزقه لاتبعه حتّى يدركه ، كما إنّ الموت يدرك من هرب منه له أجل هو بالغه ، أو أثر هو واطئة ورزق هو آكله وحرف هو قائله فاتقوا الله واجملوا في الطلب ، فلا يحملنكم استبطاء شيء من الرزق أن تطلبوه بمعصية الله تعالى ، فإنّ الله لا ينال ما عنده إلّا بطاعته ، ولن يدرك ما عنده بمعصيته. فاتقوا الله واجملوا في الطلب.

(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٠) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (٤٢) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (٤٤) وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٦) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (٤٧) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٨) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (٤٩) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (٥٠))

(وَمَنْ يَعْشُ) يعرض (عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ) فلم يخف عقابه ولم يرج ثوابه.

وقال الضحاك : يمض قدما. القرظي : يولّ ظهره على ذكر الرّحمن وهو القرآن. أبو عبيدة والأخفش : أي تظلم عينه ، الخليل بن أحمد : أصل العشو النظر ببصر ضعيف ، وأنشد في معناه :

متى تأته تعشو إلى ضوء ناره

تجد خير نار عندها خير موقد

وروى نوفل بن أبي عقرب عن ابن عباس إنّه قرأ وَمَنْ يَعْشَ بفتح الشين ومعناه : «من يعم». يقال منه : عشي يعشي عشيا إذا عمي ، ورجل أعشى وامرأة عشواء ، ومنه قول الأعشى :

٣٣٤

رأت رجلا غائب الوافدين

مختلف الخلق أعشى ضريرا (١)

(نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً) أي نظمه إليه ونسلّطه عليه (فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) فلا يفارقه. (وَإِنَّهُمْ) يعني الشياطين (لَيَصُدُّونَهُمْ) يعني الكافرين. (عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ حَتَّى إِذا جاءَنا) قرأ أهل العراق وابن محيص على الواحد يعنون الكافر ، واختاره أبو عبيد وقرأ الآخرون (جاءَنا) على التشبيه يعنون الكافر وقرينه.

(قالَ) الكافر للشيطان. (يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) أي المشرق والمغرب ، فقلب اسم أحدهما على الآخر ، كما قال الشاعر :

أخذنا بآفاق السّماء عليكم

لنا قمراها والنجوم الطوالع (٢)

يعني الشمس والقمر ، ويقال للغداة والعشي : العصرات ، قال حميد بن ثور :

ولن يلبث العصران يوم وليلة

إذا طلبا أن يدركا ما تيمما (٣)

وقال آخر :

وبصرة الأزد منا والعراق لنا

والموصلان ومنا المصر والحرم (٤)

أراد الموصل والجزيرة ، ويقال للكوفة والبصرة : البصرتان ، ولأبي بكر وعمر «رضي‌الله‌عنهما» : العمران ، وللسبطين : الحسنان ، وقال بعضهم : أراد بالمشرقين ، مشرق الصيف ومشرق الشتاء. كقوله تعالى : (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) (٥).

(فَبِئْسَ الْقَرِينُ) قال أبو سعيد الخدري : إذا بعث الكافر زوج بقرينه من الشيطان فلا يفارقه حتّى يصير إلى النّار.

(وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ) في الآخرة (إِذْ ظَلَمْتُمْ) أشركتم في الدّنيا (أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) يعني لن ينفعكم إشراككم في العذاب لأنّ لكلّ واحد نصيبه الأوفر منه فلا يخفف عنكم العذاب لأجل قرنائكم.

وقال مقاتل : (لَنْ يَنْفَعَكُمُ) الاعتذار والندم (الْيَوْمَ) لأنّكم أنتم وقرناؤكم مشتركون اليوم في العذاب كما كنتم مشتركين في الكفر.

(أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) يعني الكافرين الّذين حقّت عليهم كلمة العذاب فلا يؤمنون.

__________________

(١) الصحاح : ٢ / ٥٥٣.

(٢) لسان العرب : ١٥ / ١٠٧.

(٣) الصحاح : ٢ / ٧٤٨.

(٤) الصحاح : ٥ / ١٨٤٣.

(٥) سورة الرحمن : ١٧.

٣٣٥

(فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ) فنميتك قبل أن نعذبهم. (فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ) فنعذبهم في حياتك.

(فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) قال أكثر المفسرين : أراد به المشركين من أهل مكّة فانتقم منهم يوم بدر ، وقال الحسن وقتادة : عني به أهل الإسلام من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد كان بعد نبي الرحمة نقمة شديدة فأكرم الله نبيه وذهب به ، ولم يره في أمته إلّا الّذي تقر عينه ، وأبقى النقمة بعده ، وليس من نبي إلّا أرى في أمته العقوبة ، وذكر لنا إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أري ما يصيب أمته بعده فما رئي ضاحكا منبسطا حتّى قبضه الله تعالى.

(فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ) يعني القرآن. (لَذِكْرٌ لَكَ) لشرف لك (وَلِقَوْمِكَ) من قريش ، نظيره قوله : (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ) (١) أي شرفكم. (وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) عن حقّه وأداء شكره.

أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه الدينوري ، حدثنا أبو علي بن حبش المقري ، حدثنا أبو بكر ابن محمد بن أحمد بن إبراهيم الجوهري ، حدثنا عمي ، حدثنا سيف بن عمر الكوفي ، عن وائل أبي بكر ، عن الزهيري ، عن عبد الله وعطية بن الحسن ، عن أبي أيوب ، عن علي ، عن الضحاك ، عن ابن عباس. قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعرض نفسه على القبائل بمكّة ، ويعدهم الظهور ، فإذا قالوا لمن الملك بعدك ، أمسك ، فلم يخبرهم بشيء ، لأنّه لم يؤمر في ذلك بشيء حتّى نزل (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ). فكان بعد ذلك إذا سئل ، فقال : لقريش ، فلا يجيبونه ، وقبلته الأنصار على ذلك.

أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه الدينوري ، حدثنا نصر بن منصور بن جعفر النهاوندي ، حدثنا أحمد بن يحيى بن الجاورد ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا الوليد ، عن العمري ، عن نافع ، عن ابن عمر ، إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من النّاس اثنان» [١٩٤] (٢).

أخبرنا عبيد الله بن محمد بن عبد الله بن محمد الناهد ، أخبرنا أبو العباس محمد بن إسحاق السراج ، حدثنا الحسن بن ناصح ومحمد بن يحيى ، قالا : حدثنا نعيم بن عماد ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن محمد بن حسن بن مطعم ، عن معاوية ، قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا يزال هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلّا كبّ على وجهه ما أقاموا الدّين (٣)» [١٩٥].

__________________

(١) سورة الأنبياء : ١٠.

(٢) البداية والنهاية : ٦ / ٢٧٩.

(٣) المعجم الكبير : ١٩ / ٣٣٨.

٣٣٦

أخبرنا عبيد الله بن محمد الزاهد ، أخبرنا أبو العباس السراج ، حدثنا إبراهيم بن عبد الرحيم ، حدثنا هوذة بن خليفة ، حدثنا عوف ، عن زياد بن محراق ، عن أبي كنانة ، عن أبي موسى ، قال : قام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على باب البيت وفيه نفر من قريش ، فأخذ بعضادي الباب ، ثمّ قال : «هل في البيت إلّا قريشي؟» قالوا : لا يا رسول الله. إلّا ابن أخت لنا ، قال : «ابن أخت القوم منهم» ثم قال : «لا يزال هذا الأمر في قريش ما داموا إذا حكموا فعدلوا ، واسترحموا فرحموا ، وعاهدوا فوفوا ، فمن لم يفعل ذلك فعليه (لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) ، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا» [١٩٦] (١).

أخبرنا عبيد الله الزاهد ، حدثنا أبي العباس السراج ، حدثنا إبراهيم بن عبد الرحيم ، حدثني موسى بن داود وخالد بن خداش ، قالا : حدثنا بكير بن عبد العزيز ، عن يسار بن سلامة ، عن أبي بردة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الأمراء من قريش ، لي عليهم حقّ ولهم عليكم حقّ ما فعلوا ثلاثا : ما حكموا فعدلوا ، واسترحموا فرحموا ، وعاهدوا فوفوا» (٢).

زاد خالد : «فمن لم يفعل ذلك فعليه (لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)» [١٩٧].

أخبرنا ابن فنجويه ، حدثنا عبيد الله بن محمد بن شنبه ، قال : سمعت أبي يقول : سمعت مالك بن أنس يقول : في قول الله تعالى : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) قال : قول الرجل : حدثني أبي ، عن جدي.

(وَسْئَلْ) يا محمد. (مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ).

اختلف العلماء في هؤلاء المسؤولين. فقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك والسدي وعطاء بن أبي رياح والحسن والمقاتلان : هم المؤمنون أهل الكتابين ، وقالوا : هي في قراءة عبد الله وأبي (وأسئل الّذين أرسلنا إليهم قبلك رسلنا) ، وقال ابن جبير وابن زيد : هم الأنبياء الّذين جمعوا له ليلة أسري به ببيت المقدس.

أخبرنا ابن فنجويه حدثنا موسى بن محمد ، حدثنا الحسن بن علوية ، حدثنا إسماعيل بن عيسى ، حدثنا المسيب ، قال : قال : أبو جعفر الدمشقي : سمعت الزهري يقول : لما أسري بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى خلفه تلك الليلة كلّ نبي كان أرسل فقيل للنبي عليه‌السلام: (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ).

أخبرنا الحسين بن محمد الدينوري ، حدثنا أبو الفتح محمد بن الحسين بن محمد بن

__________________

(١) مسند أحمد : ٤ / ٤٢١ ، مجمع الزوائد : ٥ / ١٩٣.

(٢) مسند أحمد : ٤ / ٤٢٤.

٣٣٧

الحسين الأزدي الموصلي ، حدثنا عبد الله بن محمد بن غزوان البغدادي. حدثنا علي بن جابر ، حدثنا محمد بن خالد بن عبد الله ومحمد بن إسماعيل ، قالا : حدثنا محمد بن فضل ، عن محمد ابن سوقة ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : قال رسول الله : صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أتاني ملك فقال : يا محمد (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا) على ما بعثوا ، قال : قلت : على ما بعثوا ، قال : على ولايتك وولاية علي بن أبي طالب (١)» [١٩٨].

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ * فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ) وبها يستهزؤن ويكذبون.

(وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) قرينتها وصاحبتها الّتي كانت قبلها.

(وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) بالسنين والطوفان والجراد والقمّل والضفادع والدم. (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَقالُوا) لما عاينوا العذاب. (يا أَيُّهَا السَّاحِرُ) يا أيّها العالم الكامل الحاذق ، وإنّما قالوا هذا توقيرا وتعظيما منهم ، لأنّ السحر كان عندهم علما عظيما وصفة ممدوحه ، وقيل : معناه يا أيّها الّذي غلبنا بسحره ، كقول العرب : خاصمته فخصمته ، ونحوها.

ويحتمل إنّهم أرادوا به الساحر على الحقيقة عيبا منهم إياه ، فلم يناقشهم موسى عليه‌السلام في مخاطبتهم إياه بذلك رجاء أن يؤمنوا.

(ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) أي بما أخبرتنا عن عهده إليك إنّا إن آمنا كشف عنا ، فاسأله يكشف عنا. (إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ) مؤمنون.

(فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) ينقضون عهدهم ويصرّون على كفرهم ويتمارون في غيهم.

(وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (٥١) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (٥٢) فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٥٤) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (٥٦) وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (٦٠) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٢) وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ

__________________

(١) معرفة علوم الحديث للحاكم : ٩٦ ، وتاريخ دمشق : ٤٢ / ٢٤١ ط. دار الفكر.

٣٣٨

لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٦٥) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٦٦) الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (٦٧))

(وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ) يعني أنهار النيل ومعظمها أربعة : نهر الملك ، ونهر طولون ، ونهر دمياط ، ونهر تنيس. (تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) بين يدي وجناتي وبساتيني ، وقال ابن عباس : حولي. عطاء : في قبضتي وملكي. الحسن : بأمري.

(أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ) بل أنا بخير. (أم) بمعنى بل ، وليس بحرف على قول أكثر المفسرين ، وقال الفراء : وقوم من أهل المعاني الوقوف على قوله (أم) ، وعنده تمام الكلام.

وفي الآية إضمار ومجازها : (أَفَلا تُبْصِرُونَ) أم لا تبصرون (أَمْ) ابتداء ، فقال : (أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ) ضعيف حقير يعني موسى عليه‌السلام. (وَلا يَكادُ يُبِينُ) يفصح بكلامه وحجته ، لعيّه ولعقدته والرنة الّتي في لسانه.

(فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ) إن كان صادقا (أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) قرأ الحسن ويعقوب وأبو حاتم وحفص (أَسْوِرَةٌ) على جمع السوار ، وقرأ أبي : أساور (١) ، وقرأ ابن مسعود : أساوير ، وقرأ العامة : أساورة بالألف على جمع الأسورة وهو جمع الجمع.

وقال أبو عمرو بن العلاء : واحد الأساورة والأساور والأساوير أساور ، وهي لغة في السوار. قال مجاهد : كانوا إذا استودوا رجلا سوّروه بسوار ، وطوّقوه بطوق من ذهب يكون ذلك دلالة لسيادته وعلامة لرئاسته. فقال فرعون : هلا ألقى ربّ موسى أسورة من ذهب (٢).

(أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) متابعين يقارن بعضهم بعضا يمشون معه شاهدين له (٣).

قال الله تعالى : (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ) القبط وجدهم جهالا. (فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ).

أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه ، حدثنا ابن مالك ، حدثنا ابن حنبل ، حدثنا أبي ، حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : قال الضحاك بن عبد الرحيم بن أبى حوشب : سمعت بلال بن سعد يقول : قال أبو الدرداء : لو كانت الدّنيا تزن عند الله جناح ذباب ما سقي فرعون منها شرابا.

__________________

(١) جمع إسوار.

(٢) راجع تفسير الطبري : ٢٥ / ١٠٦ ، وتفسير القرطبي : ١٦ / ١٠٠.

(٣) تفسير الطبري : ٢٥ / ١٠٦.

٣٣٩

(فَلَمَّا آسَفُونا) أغضبونا ، وقال الحسين بن الفضل : خالفونا (انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً) قرأ علي وابن مسعود بضم السين وفتح اللام ، وقال المؤرخ والنضر بن شميل : هي جمع سلفة ، مثل طرقة وطرق ، وغرفة وغرف ، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي بضم السين واللام ، قال الفراء : هو جمع سليف ، وحكي عن القاسم بن معين إنّه سمع العرب تقول : مضى سليف من الناس ، وقال أبو حاتم : سلف وسلف واحد ، مثل خشب وخشب ، وثمر وثمر وقرأ الباقون فتح السين واللام على جمع السالف مثل حارس وحرس ، وراصد ورّصد ، وهم جميعا : الماضون المتقدمون من الأمم.

(وَمَثَلاً) عبرة. (لِلْآخِرِينَ) لمن يجيء بعدهم ، قال المفسرون : سلفا لكفّار هذه الأمة إلى النّار.

(وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً) في خلقه من غير أب. فشبه بآدم من غير أب ولا أم. (إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) ويقولون ما يريد محمد منا إلّا أن نعبده ونتخذه إلها كما عبدت النصارى عيسى. قاله قتادة.

وقال ابن عباس : أراد به مناظرة عبد الله بن الزبعري مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشأن عيسى عليه‌السلام ، وقد ذكرناها في الأنبياء عليهم‌السلام وأختلف القرّاء في قوله : (يَصِدُّونَ) فقرأ أهل المدينة والشام وجماعة من الكوفيين بضم الصاد ، وهي قراءة علي والنخعي ومعناه يعرضون ، ونظيره قوله : (رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً) (١).

وقرأ الباقون بكسر الصاد ، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم واختلفوا في معناه ، فقال الكسائي : هما لغتان مثل (يَعْرِشُونَ) ويعرشون ، و (يَعْكُفُونَ) ويعكفون ، ودرّت الشاة تدر وتدر ، وشذ عليه يشذ ويشد ، ونمّ الحديث ينمه وينمه ، وقال ابن عباس : معناه يضجون. سعيد بن المسيب : يصيحون ضحاك : يعجون. قتادة : يجزعون ويضحكون ، وقال القرظي : يضجرون.

وقال الفراء : حدثني أبو بكر بن عياش أنّ عاصما قرأ (يَصِدُّونَ) من قراءة أبي عبد الرحمن ، وقرأ يَصُدُّونَ ، وفي حديث آخر إنّ ابن عباس لقي أخي عبيد بن عمير ، فقال : إنّ عمك لعربي ، فماله يلحن في قوله سبحانه وتعالى : (إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ)؟.

(وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ) يعنون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنعبد إلهه ونطيعه ونترك آلهتنا ، هذا قول قتادة ، وقال السدي وابن زيد : (أَمْ هُوَ) يعنون عيسى عليه‌السلام ، قالوا : يزعم محمد إنّ كلّ ما عبد من دون الله في النّار ، فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عزير وعيسى والملائكة في النّار.

قال الله تعالى : (ما ضَرَبُوهُ) يعني هذا المثل. (لَكَ إِلَّا جَدَلاً) خصومة بالباطل.

__________________

(١) سورة الرعد : ٦١.

٣٤٠