الكشف والبيان - ج ٨

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ٨

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

ولم يعلموا مذ كم مات ، فوضعوا الأرضة على العصا ، فأكلت منها يوما وليلة ، ثم حسبوا على ذلك النحو فوجدوه قد مات من سنة ، وكانت الجن تعمل بين يديه ينظرون إليه ويحسبون أنه حيّ ولا ينظرون احتباسه عن الخروج إلى الناس لطول صلاته قبل ذلك (١).

وهي في قراءة ابن مسعود : فمكثوا يدأبون له من بعد موته حولا كاملا ، فأيقن الناس أنّ الجن كانوا يكذبونهم ، ولو أنهم علموا الغيب لعلموا بموت سليمان ولم يلبثوا في العذاب سنة يعملون له. ثم إنّ الشياطين قالوا للأرضة : لو كنت تأكلين الطعام أتيناك بأطيب الطعام ، ولو كنت تشربين الشراب سقيناك أطيب الشراب ، ولكنا سننقل إليك الطين والماء. فهم ينقلون إليها ذلك حيث كانت. قال : ألم تر إلى الطين الذي يكون فوق الخشب فهو ممّا يأتيها به الشياطين تشكرا لها ، فذلك قوله تعالى : (فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ) وهي الأرضة ، ويقال لها : القادح أيضا وهي دويبة تأكل العيدان.

(تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ) أي عصاه ، فأصلها من نسأت الغنم إذا زجرتها وسقتها ، وقال طرفة :

أمون كألواح الأران نسأتها

على لاحب كأنه ظهر برجد (٢)

أي سقتها ، وهمزها أكثر القراء ، وترك همزها أبو عمرو وأهل المدينة ، وهما لغتان ، وقال الشاعر في الهمز :

ضربنا بمنسأة وجهه

فصار بذاك مهينا ذليلا (٣)

وقال الآخرون في ترك الهمز :

إذا دببت على المنساة من هرم

فقد تباعد عنك اللهو والغزل (٤)

قوله : (فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) ، و (أن) في محل الرفع ؛ لأن معنى الكلام : فلما خر تبين وانكشف أن لو كان الجن أي ظهر أمرهم ، وفي قراءة ابن مسعود أن لو كان الجن يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ، وقيل : (أن) في موضع نصب أي علمت وأيقنت الجن أن لو كانوا يعلمون.

وقال أهل التاريخ : كان عمر سليمان عليه‌السلام ثلاثا وخمسين سنة وكان مدة ملكه أربعين سنة ، وملك يوم ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، وابتدأ في بناء بيت المقدس لأربع سنين مضين من ملكه والله أعلم.

__________________

(١) تفسير الطبري : ٢٢ / ٩٢ ، وتاريخ الطبري : ١ / ٣٥٦.

(٢) الصحاح : ٥ : ٢٠٦٩.

(٣) تفسير القرطبي : ١٤ / ٢٧٩.

(٤) الصحاح : ١ / ٧٦.

٨١

(لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (١٧) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧))

قوله تعالى : (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ) ، روى أبو سبرة النخعي عن فروة بن مسيك الغطيفي قال : قال رجل : يا رسول الله ، أخبرني عن سبأ ما كان ؛ رجلا أو امرأة ، أو أرضا أو جبلا أو واديا؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليست بأرض ولا امرأة ولكنه كان رجلا من العرب ولد له عشرة من الولد ، فتيامن منهم ستة وتشاءم أربعة ؛ فأما الذين تيامنوا ، فكندة والأشعريون والأزد ومذحج وأنمار وحمير».

فقال رجل : وما أنمار؟ قال : «الذين منهم خثعم وبجيلة ، وأما الذين تشاءموا فعاملة وجذام ولخم وغسان» [٣٢] (١).

والإجراء وترك الإجراء فيه سائغ ، وقد قرئ بهما جميعا فالإجراء على أنه اسم رجل معروف ، وترك الإجراء على أنه اسم قبيلة نحو (هذه تميم).

واختاره أبو عبيد لقوله : في مساكنهم ، واختلف القراء فيه ، فقرأ حمزة والنخعي : (مَسْكَنِهِمْ) ـ بفتح الكاف ـ على الواحد ، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش والكسائي وخلف بكسر الكاف على الواحد.

الباقون : مساكنهم جمع.

(آيَةٌ) دلالة على وحدانيتنا وقدرتنا ، ثم فسرها فقال : (جَنَّتانِ) أي هي جنتان : بستانان

__________________

(١) جامع البيان للطبري : ٢٢ / ٩٤ ، تفسير ابن كثير ٣ / ٥٣٩ ـ مع تقديم وتأخير في الحديث.

٨٢

(عَنْ يَمِينٍ) من أتاهما (وَشِمالٍ) وعن شماله (كُلُوا) : وقيل لهم : كلوا (مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ) على ما أنعم عليكم ، وإلى ها هنا تم الكلام ثم ابتدأ فقال : (بَلْدَةٌ) أي هذه بلدة أو بلدتكم بلدة (طَيِّبَةٌ) ليست بسبخة. قال ابن زيد : لم يكن يرى في بلدتهم بعوضة قط ولا ذباب ولا برغوث ولا عقرب ولا حية ، وإن كان الركب ليأتون وفي ثيابهم القمل والدواب فما هو إلّا أن ينظروا لي بيوتهم فتموت الدواب ، وإن كان الإنسان ليدخل الجنتين فيمسك القفة على رأسه فيخرج حين يخرج وقد امتلأت تلك القفة من أنواع الفواكه ولم يتناول منها شيئا بيده فذلك قوله سبحانه : (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ) الهواء ، (وَرَبٌّ غَفُورٌ) الخطأ كثير العطاء.

قوله تعالى : (فَأَعْرَضُوا) ، قال وهب : بعث الله إلى سبأ ثلاثة عشر نبيا فدعوهم إلى الله ، وذكروهم نعمه عليهم ، وأنذروهم عقابه ، فكذبوهم وقالوا : ما نعرف لله علينا نعمة. فقولوا لربكم الذي تزعمون فليحبس هذه النعمة عنا إن استطاع ، فذلك قوله عزوجل : (فَأَعْرَضُوا).

(فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) ، والعرم : السد والمسناة التي تحبس الماء واحدتها عرمة ، وأصلها من العرامة وهي الشدة والقوة.

وقال ابن عباس ووهب وغيرهما : كان هذا السد يسقي جنتيهم ، وكان فيما ذكر بنته بلقيس وذلك أنها لما ملكت جعل قومها يقتتلون على ماء واديهم فجعلت تنهاهم فلا يطيعونها ، فتركت ملكها وانطلقت إلى قصر لها فنزلته ، فلما كثر الشر بينهم وندموا أتوها فأرادوها على أن ترجع إلى ملكها فأبت ، فقالوا : لترجعنّ أو لنقتلنّك. فقالت : إنكم لا تطيعونني وليست لكم عقول.

قالوا : فإنا نطيعك فإنا لم نجد فينا خيرا بعدك. فجاءت فأمرت بواديهم فسد بالعرم وهو المسناة بلغة حمير ، فسدت ما بين الجبلين بالصخر والقار ، وجعلت له أبوابا ثلاثة بعضها فوق بعض ، وبنت من دونه بركة ضخمة ، فجعلت فيها اثني عشر مخرجا على عدة أنهارهم ، فلما جاء المطر اجتمع إليه ماء الشجر وأودية اليمن ، فاحتبس السيل من وراء السد فأمرت بالباب الأعلى ففتح فجرى ماؤه في البركة وأمرت بالبعر فألقي فيها ، فجعل بعض البعر يخرج أسرع من بعض ، فلم تزل تضيق تلك الأنهار وترسل البعر في الماء حتى خرجت جميعا معا فكانت تقسمه بينهم على ذلك ، حتى كان من شأنها وشأن سليمان ما كان.

وبقوا على ذلك بعدها ، وكانوا يسقون من الباب الأعلى ، ثم من الباب الثاني ، ثم من الباب الأسفل ولا ينفد الماء ، حتى يؤوب الماء من السنة المقبلة.

فلما طغوا وكفروا ، سلط الله عليهم جرذا يسمى الخلد فنقب من أسفله ، فغرّق الماء جناتهم وخرب أرضهم.

وقال وهب : وكانوا فيما يزعمون يجدون في علمهم وكهانتهم أنه يخرب سدهم ذلك فأرة ، فلم يتركوا فرجة بين حجرين إلّا ربطوا عندها هرة ، فلما جاء زمان وما أراد الله بهم من التفريق

٨٣

أقبلت فيما يذكرون فأرة حمراء إلى هرة من تلك الهرر فساورتها حتى استأخرت عنها الهرة ، فدخلت في الفرجة التي كانت عندها فتغلغلت في السد فنقبت وحفرت حتى وهنته للسيل وهم لا يعلمون ذلك. فلما جاء السيل وجد خللا فدخل فيه حتى قلع السد وفاض على أموالهم فغرّقها ودفن بيوتهم الرمل ، وفرّقوا ومزقوا حتى صاروا مثلا عند العرب [فقالوا] (١) : تفرقوا أيادي سبأ ، وأيدي سبأ ، فذلك قوله تعالى : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ).

وقيل : العرم هو المطر الشديد من العرامة وهي التمرّد والعصيان.

(وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ) قراءة العامة بالتنوين ، وقرأ أبو عمرو ويعقوب بالإضافة ، وهما متقاربتان كقول العرب : في بستان فلان أعناب كرم وأعناب كرم ، فتضيف أحيانا الأعناب إلى الكرم ؛ لأنه منه ، وتنون أحيانا الأعناب ، ثم يترجم بالكرم عنها ؛ إذ كانت الأعناب ثمر الكرم.

والأكل : الثمر ، والخمط : الأراك في قول أكثر المفسرين ، وقيل : كل شجرة ذات شوك ، وقيل : شجرة الغضا ، وقيل : هو كل نبت قد أخذ طعما من المرارة حتى لا يمكن أكله ، (وَأَثْلٍ) وهو الطرفاء ، عن ابن عباس ، وقيل : هو شجر شبيه بالطرفاء إلّا أنه أعظم منه ، وقال الحسن : الأثل الخشب. قتادة : ضرب من الخشب ، وقيل : هو السمر. أبو عبيدة : هو النضار.

(وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) ، قال قتادة : بينما شجر القوم من خير الشجر إذ صيره الله من شر الشجر بأعمالهم. قال الكلبي : فكانوا يستظلون بالشجر ويأكلون البربر وثمر السدر وأبوا أن يجيبوا الرسل (ذلِكَ) الذي جعلنا بهم ، (جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا) أي بكفرهم ، ومحل ذلك نصب بوقوع المجازاة عليه ، تقديره جزيناهم ذلك بما كفروا : (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) قرأ أهل الكوفة بالنون وكسر الزاي ونصب الراء ، واختاره أبو عبيدة قال : [لقوله] (٢) : (جَزَيْناهُمْ) ، ولم يقل : جوزوا ، وقرأ الآخرون بياء مضمومة وفتح الزاي ورفع الراء ، ومعنى الآية : وهل يجازى مثل هذا الجزاء إلّا الكفور ، وقال مجاهد : يجازي أي يعاقب.

(وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها) وهي الشام (قُرىً ظاهِرَةً) أي متواصلة تظهر الثانية من الأولى لقربها منها. قال الحسن : كان أحدهم يغدوا فيقيل في قرية ويروح فيأوي إلى أخرى ، وكانت المرأة تخرج معها مغزلها وعلى رأسها مكتلها ثم تمتهن بمغزلها فلا تأتي بيتها حتى يمتلئ مكتلها من الثمار ، وكان ما بين اليمن والشام كذلك.

وقال ابن عباس : (قُرىً ظاهِرَةً) يعني : قرى عربيّة بين المدينة والشام. سعيد بن جبير : هي القرى التي ما بين مأرب والشام. مجاهد : هي السروات ، وهب بن منبه : هي قرى صنعاء.

__________________

(١) في المخطوط : فقال.

(٢) في المخطوط : لقومه.

٨٤

(وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) أي جعلنا السير بين قراهم والقرى التي باركنا فيها سيرا مقدرا من منزل إلى منزل ، ومن قرية إلى قرية ، لا ينزلون إلّا في قرية ، ولا يغدون إلّا في قرية ، وقلنا لهم : (سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً) وقت شئتم (آمِنِينَ) : لا تخافون عدوّا ولا جوعا ولا عطشا ، ولا تحتاجون إلى زاد ولا ماء ، فبطروا وطغوا ولم يصبروا على العافية وقالوا : لو كان جني جناننا أبعد مما هي كان أجدر أن نشتهيه.

(فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) : فاجعل بيننا وبين الشام فلوات ومفاوز لنركب فيها الرواحل ، ونتزود الأزواد. فجعل الله لهم الإجابة ، واختلف القراء في هذه الآية ؛ فقرأ ابن كثير وأبو عمرو : (ربنا بعّد) ، على وجه الدعاء والسؤال من (التبعيد) ، وهي رواية هشام عن قرّاء الشام ، وقرأ ابن الحنفية ويعقوب : رَبُّنا ـ برفع الباء ـ باعَدَ ـ بفتح الباء والعين والدال ـ على الخبر ، وهي اختيار أبي حاتم ، استبعدوا أسفارهم بطرا منهم وأشرا ، وقرأ الباقون : (رَبَّنا) بفتح الباء ، (باعِدْ) بالألف وكسر العين وجزم الدال ـ على الدعاء ، ففعل الله ذلك بهم ، فقال : (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالكفر والبطر والطغيان ، (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) : عظة وعبرة يتمثل بهم ، (وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) ، قال الشعبي : أما غسان فلحقوا بالشام ، وأما الأنصار فلحقوا بيثرب ، وأما خزاعة فلحقوا بتهامة ، وأما الأزد فلحقوا بعمان.

وقال ابن إسحاق : يزعمون أنّ عمران بن عامر وهو عم القوم ـ كان كاهنا فرأى في كهانته أنّ قومه سيمزقون ويباعد بين أسفارهم ، فقال لهم : إني قد علمت أنكم ستمزقون ، فمن كان منكم ذا همّ بعيد وحمل شديد ومزاد جديد فليلحق بكأس أو كرود ، قال : فكان وادعة بن عمرو.

ومن كان منكم يريد عيشا هانئا وحرما آمنا فليلحق بالأردن فكانت خزاعة ، ومن كان منكم يريد الراسيات في الرجل والمطعمات في المحل ، فليلحق بيثرب ذات النخل ، فكان الأوس والخزرج ، ومن كان منكم يريد خمرا وخميرا وذهبا وحريرا وملكا وتأميرا ، فليلحق بكوثى وبصرى ، فكانت غسان بنو جفنة ملوك الشام ، ومن كان منهم بالعراق.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) قال مطرف : هو المؤمن الذي إذا أعطي شكر وإذا ابتلي صبر.

قوله : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ) ، قرأ أهل الكوفة : بتشديد الدال وهي قراءة ابن عباس واختيار أبي عبيد ، أي ظن فيهم ظنا حيث قال : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (١) ، وقال : (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) (٢) ، فصدّق ظنه وحقّقه لفعله ذلك بهم واتّباعهم إياه ، وقرأ الآخرون : صدق بالتخفيف أي صدق عليهم في ظنه بهم.

__________________

(١) سورة ص : ٨٢.

(٢) سورة الأعراف : ١٧.

٨٥

(عَلَيْهِمْ) أي على أهل سبأ ، وقال مجاهد : على الناس كلّهم إلّا من أطاع الله (فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ) إلّا تسليطنا إياه عليهم (لِنَعْلَمَ) : لنرى ونميز ، ونعلمه موجودا ظاهرا كائنا موجبا للثواب والعقاب ، كما علمناه قبل مفقودا معدوما بعد ابتلاء منا لخلقنا.

قال الحسن : والله ما ضربهم بسيف ولا عصا ولا سوط إلّا أماني وغرورا دعاهم إليها.

(مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍ) الآية.

(قُلِ) يا محمد لهؤلاء المشركين الذين أنت بين ظهرانيهم : (ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) أنهم آلهة (مِنْ دُونِ اللهِ) ، ثم وصفها فقال : (لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) من خير وشر وضرّ ونفع ، فكيف يكون إلها من كان كذلك؟ (وَما لَهُمْ فِيهِما) أي في السماوات والأرض (مِنْ شِرْكٍ) شركة (وَما لَهُ) أي لله (مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) : عون.

(وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) تكذيبا منه لهم حيث قالوا : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) ، وقرأ أبو عمرو والأعمش وحمزة والكسائي : (أُذِنَ) بضم الألف ، واختلف فيها عن عاصم ، وقرأ غيرهم : بالفتح.

(حَتَّى إِذا فُزِّعَ) قرأ ابن عامر ويعقوب بفتح الفاء والزاي ، [وقرأ] (١) غير هما : بضم الفاء وكسر الزاي ، أي كشف الفزع ، وأخرج (عَنْ قُلُوبِهِمْ) ، وأخبرني ابن فنجويه قال : أخبرني أبو علي بن حبيس المقرئ قال : حدثنا أبو عبيد القاضي قال : أخبرني الحسين بن محمد الصباغ عن عبد الوهاب عن موسى الأسواري عن الحسن أنه كان يقرؤها (حتى إذا فرع عن قلوبهم) ـ بالراء والعين ـ يعني : فرعت قلوبهم من الخوف.

واختلفوا في هذه الكناية والموصوفين بهذه الصفة ؛ من هم؟ وما السبب الذي من أجله فزع عن قلوبهم؟ فقال قوم : هم الملائكة ، ثم اختلفوا في سبب ذلك ، فقال بعضهم : إنما يفزع عن قلوبهم غشية تصيبهم عند سماعهم كلام الله سبحانه.

أخبرنا عبد الله بن حامد عن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل عن الحسن بن علي بن عفان قال : حدثنا ابن نمير عن الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عبد الله قال : إذا تكلم الله عزوجل بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان فيصعقون عند ذلك ويخرون سجدا ، فإذا علموا أنه وحي (فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ). قال : فيرد إليهم ، فينادي أهل السماوات بعضهم بعضا : (ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) فرفعه بعضهم.

__________________

(١) زيادة اقتضاها السياق.

٨٦

وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرني أبو العباس أحمد بن محمد بن أبي سعيد البزاز قال : حدثنا علي بن أشكاب قال : أخبرني أبو معاوية عن الأعمش عن مسلم بن صبيح عن مسروق عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله عزوجل إذا تكلم بالوحي سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصفاء ، فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبرائيل عليه‌السلام ، فإذا جاءهم جبرائيل عليه‌السلام (فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) فيقولون : يا جبرائيل ماذا قال ربك؟ قال : يقول : الحق ، فينادون : الحق الحق» (١) [٣٣].

والشاهد لهذا الحديث والمفسر له ما أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد الفقيه قال : أخبرني أبو بكر أحمد بن إسحاق بن أيوب قال : أخبرنا بشر بن موسى قال : حدثنا الحميدي قال : حدّثنا سفيان عن عمرو بن دينار قال : سمعت عكرمة يقول : سمعت أبا هريرة يقول : إنّ نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا قضى الله عزوجل الأمر في السماء ، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان ، فإذا (فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا : ما ذا قالَ رَبُّكُمْ؟ قالُوا) : للذي قال : (الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)» (٢) [٣٤].

وأنبأني عقيل بن محمد عن المعافى بن زكريا عن محمد بن جرير الطبري عن زكريا بن أبان المصري عن نعيم عن الوليد بن مسلم عن عبد الرّحمن بن يزيد بن جابر عن أبي زكريا عن رجاء بن حبوة عن النواس بن سمعان قال : قال رسول الله : «فإذا سمع بذلك أهل السماوات ، صعقوا وخرّوا لله سجدا ، فيكون أول من يرفع رأسه جبرائيل ، فيكلمه الله من وحيه بما أراده ، ثم يمر جبرائيل على الملائكة ، كلما مرّ بسماء سأله ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبرائيل؟ فيقول جبرائيل : قال (الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ). قال : فيقولون كلهم مثلما ما قال جبرائيل ، فينتهي جبرائيل بالوحي حيث أمر الله» [٣٥] (٣).

وبه عن ابن جرير عن يعقوب عن ابن علية عن أيوب عن هشام عن عروة قال : قال الحرث ابن هشام لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كيف يأتيك الوحي؟ قال : «يأتيني في صلصلة كصلصلة الجرس فيفصم عني حين يفصم وقد وعيته ، ويأتيني أحيانا في مثل صورة الرجل فيكلمني به كلاما وهو أهون عليّ» [٣٦] (٤).

وقال بعضهم : إنما يفزعون حذرا من قيام الساعة.

وقال الكلبي : كان بين عيسى ومحمد عليهما‌السلام فترة زمان طويلة لا يجري فيها

__________________

(١) فتح الباري ١٣ / ٣٨٢.

(٢) صحيح البخاري : ٦ / ٢٨.

(٣) مجمع الزوائد : ٧ : ٩٤.

(٤) جامع البيان للطبري : ٢٢ / ١١١.

٨٧

الرسل خمسمائة وخمسين عاما ، فلما بعث الله محمدا عليه‌السلام كلّم الله جبرائيل بالرسالة إلى محمد ، فلما سمعت الملائكة الصوت ظنوا أنها الساعة قد قامت فصعقوا مما سمعوا. فلما انحدر جبرائيل جعل يمر بأهل كلّ سماء فيكشط عنهم فيرفعون رؤوسهم ، فيقول بعضهم لبعض : (ما ذا قالَ رَبُّكُمْ)؟ فلم يدروا ما كان ولكنهم (قالُوا) : قال (الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) ؛ وذلك أنّ محمدا عند أهل السماوات من أشراط الساعة ، فلما بعثه الله تعالى فزع أهل السماوات لا يشكون إلّا أنها الساعة.

وقال الضحاك : إنّ الملائكة المعقبات الذين يختلفون إلى أهل الأرض يكتبون أعمالهم ، إذا أرسلهم الرب فانحدروا سمع لهم صوت شديد ، فيحسب الذين هم أسفل من الملائكة أنه من أمر الساعة فيخرون سجدا ويصعقون ، حتى يعلموا أنه ليس من أمر الساعة ، وهذا تنبيه من الله سبحانه وإخبار أنّ الملائكة مع هذه الصفة لا يمكنهم أن يشفعوا لأحد إلّا أن يؤذن لهم ، فإذا أذن الله لهم وسمعوا وحيه كان هذا حالهم. فكيف تشفع الأصنام؟! وقال آخرون : بل الموصوفون بذلك المشركون.

قال الحسن وابن زيد يعني : حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين عند نزول الموت بهم إقامة للحجة عليهم ، قالت لهم الملائكة : (ما ذا قالَ رَبُّكُمْ) في الدنيا؟ (قالُوا : الْحَقَ) ، فأقرّوا به حين لم ينفعهم الإقرار ، ودليل هذا التأويل قوله تعالى في آخر السورة : (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ) (١).

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) هذا على جهة الإنصاف في الحجاج كما يقول القائل : أحدنا كاذب وهو يعلم أنه صادق وأنّ صاحبه كاذب.

والمعنى : ما نحن وأنتم على أمر واحد ، إنّ أحد الفريقين لمهتد والآخر ضال. فالنبيّ ومن معه على الهدى ومن خالفه في ضلال ، فكذبهم بأحسن من تصريح التكذيب.

وقيل هذا على جهة الاستهزاء بهم وهو غير شاك في دينه ، وهذا كقول الشاعر وهو أبو الأسود :

يقول الأرذلون بنو قشير :

طوال الدهر لا تنسى عليّا

بنو عم النبي وأقربوه

أحبّ الناس كلّهم إليّا

فإن يك حبهم رشدا أصبه

وليس بمخطئ إن كان غيا (٢)

__________________

(١) سورة سبأ : ٥١.

(٢) تاريخ دمشق : ٢٥ / ١٨٩ ـ ٢٠٠ ط. دار الفكر.

٨٨

فقاله من غير شك ، وقد أيقن أن حبهم رشد.

وقال بعضهم : (أَوْ) بمعنى الواو ، يعني : إنا لعلى هدى وإنكم إياكم لفي ضلال مبين ، كقول جرير :

أثعلبة الفوارس أو رياحا

عدلت بهم طهيّة والخشابا (١)

يعني ثعلبة ورياحا.

(قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ. قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا) يوم القيامة (ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا) : يقضي بيننا (بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ. قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ) يعني الأصنام هل خلقوا من الأرض شيئا أم لهم شرك في السماوات : وتفسيرها في سورة (الملائكة) و (الأحقاف).

ثم قال تعالى (كَلَّا بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ، وهو القاهر القوي الذي يمنع من يشاء ولا يمنعه مانع ، فهو العزيز المنتقم ممن كفر به وخالفه ، الحكيم في تدبيره لخلقه ، فإنّى يكون له شريك في ملكه؟

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٨) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (٣٠) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٣) وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٣٤) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (٣٨) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ

__________________

(١) الصحاح : ١ / ١٢٠.

٨٩

لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (٤٢) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٥) قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٤٨))

قوله عزوجل : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً) عامة (لِلنَّاسِ) كلهم ؛ العرب والعجم وسائر الأمم.

أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا محمد بن جعفر قال : حدثنا علي بن حرب قال : حدثنا ابن فضيل قال : حدثنا (يزيد بن أبي زياد عن مجاهد ومقسم عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أعطيت خمسا ولا أقول فخرا : بعثت إلى الأحمر والأسود ، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا ، وأحل لي المغنم ولم يحل لأحد كان قبلي ، ونصرت بالرعب فهو يسير أمامي مسيرة شهر وأعطيت الشفاعة فادّخرتها لأمتي يوم القيامة ، وهي إن شاء الله نائلة من لم يشرك بالله شيئا» [٣٧].

وقيل : معناه كافّ للناس. يكفّهم عما هم عليه من الكفر ، ويدعوهم إلى الإسلام ، والهاء فيه للمبالغة.

(بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) من الكتب ، ثم

أخبر حالهم في مآلهم ، فقال : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ) : الكافرون (مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ) يتلاومون ويحاور بعضهم بعضا (يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ. قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ. وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي مكركم بنا. فهما كما يقال : عزم الأمر وفلان نهاره صائم وليله قائم.

قال الشاعر :

ونمت وما ليل المطي بنائم

وقيل : مكر الليل والنهار بهم طول السلامة فيهما كقوله : (فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ) (١) ،

__________________

(١) الحديد / ١٦.

٩٠

ونحوه. (إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ ، نَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا) : أظهروا (النَّدامَةَ) ، وهو من الأضداد ؛ يكون بمعنى الإخفاء ، والإبداء (لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ) : الجوامع من النار (فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا) : الأتباع والمتبوعين ، (هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) في الدنيا؟

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ) : رسول (إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها) : رؤساؤها وأغنياؤها (إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ. وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً) منكم ، ولو لم يكن راضيا بما نحن عليه من الدين والعمل لم يخوّلنا الأموال والأولاد.

(وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ. قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) ، وليس يدل ذلك على العواقب والمنقلب ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أنها كذلك.

(وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ) : لكن من آمن (وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا) من الثواب بالواحد عشرة ، و (من) يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون محله نصبا بوقوع تقرب عليه ، والآخر : رفع تقديره : وما هو إلّا من آمن. (وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ) الدرجات (آمِنُونَ).

وقراءة العامة : (جَزاءُ الضِّعْفِ) بالإضافة ، وقرأ يعقوب : (جَزاءً) منصوبا منوّنا. الضعف رفع مجازه : فأولئك لهم الضعف جزاء على التقديم والتأخير ، وقراءة العامة : (الْغُرُفاتِ) بالجمع ، واختاره أبو عبيد قال : لقوله : (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً) (١) ، وقرأ الأعمش وحمزة : (في الغرفة) على الواحدة.

(وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ) : يعملون (فِي آياتِنا) بإبطال حججنا وكتابنا ، و (مُعاجِزِينَ) معاونين معاندين يحسبون أنهم يفوتوننا بأنفسهم ويعجزوننا ، (أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ). قال سعيد بن جبير : ما كان من غير إسراف ولا تقتير (فَهُوَ يُخْلِفُهُ) ، وقال الكلبي : ما تصدقتم من صدقة وأنفقتم في الخير والبر من نفقة (فَهُوَ يُخْلِفُهُ) إما أن يعجله في الدنيا وإما أن يدخر له في الآخرة.

أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان بن عبد الله قال : حدثنا أبي قال : حدثنا علي بن داود القنطري قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثنا الليث بن سعد ، عن عمرو بن الحرث عن أبي يونس مولى أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إنّ الله عزوجل قال لي : أنفق أنفق عليك» [٣٨] (٢).

وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا ابن شاذان عن جعونة بن محمد قال : حدثنا صالح

__________________

(١) سورة العنكبوت : ٥٨.

(٢) فتح الباري : ٩ / ٤١١ ، تفسير القرطبي : ٦ / ٢٤٠.

٩١

ابن محمد عن سليمان بن عمرو عن ابن حزم عن أنس بن مالك أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ينادي مناد كلّ ليلة : لدوا للموت وينادي مناد : ابنوا للخراب ، وينادي مناد : اللهمّ هب للمنفق خلفا ، وينادي مناد : اللهم هب للممسك تلفا ، وينادي مناد : ليت الناس لم يخلقوا ، وينادي مناد : ليتهم إذ خلقوا فكروا فيما له خلقوا» [٣٩] (١).

وأخبرني الحسين بن محمد الحافظ قال : حدثنا موسى بن محمد قال : حدثنا الحسن بن علويه قال : حدثنا إسماعيل بن عيسى قال : حدثنا المسيب ، قال : حدثنا محمد بن عمرو عن يحيى بن عبد الرّحمن عن أبيه قال : قال عمر لصهيب : إنك رجل لا تمسك شيئا ، قال : إني سمعت الله عزوجل يقول : (ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ).

(وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) ، وأخبرني أبو سفيان الثقفي قال : حدثنا الفضل بن الفضل الكندي قال : حدثنا الحسن بن داود الخشاب قال : حدثنا سويد بن سعيد قال : حدثنا عبد الحميد بن الحسن عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل معروف صدقة وما أنفق الرجل على نفسه وأهله فهو له صدقة وما وقى به عرضه فهو صدقة ، وما أنفق المؤمن من نفقة فإنّ خلفها على الله ضامن إلّا ما كان نفقة في بنيان أو معصية» [٤٠] (٢).

قال عبد الحميد : فقلت لمحمد : ما معنى «ما يقي به الرجل عرضه»؟ قال : يعطي الشاعر أو ذا اللسان المتّقى.

وقال مجاهد : إذا كان في يد أحدكم شيء فليقتصد ولا يتأول هذه الآية (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) فإنّ الرزق مقسوم ، فلعل رزقه قليل وهو ينفق نفقة الموسع عليه ، ومعنى الآية (ما كان من خلف فهو منه) ، وربما أنفق الإنسان ماله أجمع في الخير ثم لم يزل عائلا حتى يموت ، ولكن ما كان من خلف فهو منه ، ودليل تأويل مجاهد ما أخبرني أبو سفيان الحسين بن محمد بن عبد الله قال : حدثنا محمد بن الحسين بن بشير قال : أخبرني أبو بكر بن أبي الخصيب قال : حدثنا معاذ بن المثنى قال : حدثنا عمرو بن الحصين قال : حدثنا ابن علانة ـ وهو محمد ـ عن الأوزاعي عن ابن أبي موسى عن أبي أمامة قال : إنكم تؤوّلون هذه الآية على غير تأويلها (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ).

وسمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول وإلّا فصمتا : «إياكم والسّرف في المال والنفقة ، وعليكم بالاقتصاد ، فما افتقر قوم قط اقتصدوا» [٤١] (٣).

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ٨ / ٢٢٢.

(٢) نصب الراية : ٤ / ٤١٥.

(٣) كنز العمال : ٣ / ٥٣ ح ٥٤٥٤.

٩٢

وقال عليه‌السلام : «ما عال من اقتصد» (١) [٤٢].

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدثنا موسى بن محمد بن إبراهيم بن هاشم البغوي قال : حدثنا أحمد بن حنبل قال : حدثنا عاصم بن خالد قال : أخبرني أبو بكر قال : حدثنا حمزة عن أبي الدرداء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من فقه الرجل رفقه في معيشته» [٤٣] (٢).

(وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) وإنما جاز الجمع ؛ لأنه يقال : رزق السلطان الجند ، وفلان يرزق عياله ، كأنه قال : وهو خير المعطين.

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) يعني هؤلاء الكفّار (ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) في الدّنيا؟ فتتبرأ منهم الملائكة فتقول : (سُبْحانَكَ) : تنزيها لك. (أَنْتَ وَلِيُّنا) : ربنا (مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَ) أي يطيعون إبليس وذريته وأعوانه في معصيتك. (أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) : مصدقون.

قال قتادة : هو استفهام تقديره كقوله لعيسى : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي) ... (٣).

(فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا) : شفاعة ولا عذابا ، (وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) في الدّنيا فقد وردتموها.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا) يعني محمدا عليه‌السلام (إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً) يعنون القرآن (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ. وَما آتَيْناهُمْ) هؤلاء المشركين (مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها) يقرءونها (وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ. وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم رسلنا وتنزيلنا (وَما بَلَغُوا) يعني هؤلاء المشركين (مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ) يعني مكذبي الأمم الخالية من القوة والنعمة وطول العمر (فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) : إنكاري وتغيري عليهم ، يحذر كفار هذه الأمة عذاب الأمم الماضية.

قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ) آمركم وأوصيكم (بِواحِدَةٍ) بخصلة واحدة وهي (أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ) لأجل الله و (أن) في محل الخفض على البيان من (واحدة) والترجمة عنها (مَثْنى) يعني اثنين اثنين متناظرين ، (وَفُرادى) واحدا واحدا متفكرين (ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) جميعا ، والفكر : طلب المعنى بالقلب ، فتعلموا ، (ما بِصاحِبِكُمْ) محمد (مِنْ جِنَّةٍ) جنون كما تقولون ، و (ما) جحد ونفي. (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ. قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ) على تبليغ

__________________

(١) مسند أحمد : ١ / ٤٤٧.

(٢) مجمع الزوائد : ٤ / ٧٤.

(٣) سورة المائدة : ١١٦.

٩٣

الرسالة والنصيحة (مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) أي ما ثوابي إلّا على الله (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ. قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ) : يرمي ويأتي (بِالْحَقِ) ينزله من السماء إلى خير الأنبياء ، (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) رفع بخبر إن.

(قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠) وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٥١) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٢) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (٥٤))

(قُلْ جاءَ الْحَقُ) القرآن والإسلام ، وقال الباقر : يعني السيف.

(وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) يعني ذهب الباطل وزهق فلم تبق له بقية يبدي بها ولا يعيد ، وهذا كقوله : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) (١).

وقال الحسن : (وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ) ، وهو كل معبود من دون الله لأهله خيرا في الدنيا (وَما يُعِيدُ) في الآخرة.

وقال قتادة : الباطل إبليس ، أي ما يخلق إبليس أحدا ولا يبعثه ، وأخبرني الحسين بن محمد بن الحسين عن عبد الله بن إبراهيم بن علي عن محمد بن عمران بن هارون عن سفيان بن وكيع عن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أبي معمر عن عبد الله بن مسعود قال : دخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما فجعل يطعنها بعود معه ويقول : (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) (٢) (جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ).

(قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي) وآخذ بجنايتي (وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ).

(وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ) يعني من عذاب الدنيا ، فلا نجاة (وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) يعني عذاب الدّنيا ، وقال الضحاك وزيد بن أسلم : هو يوم بدر. الكلبي : من تحت أقدامهم.

وأخبرنا محمد بن نعيم عن محمد بن يعقوب عن الحسن بن علي بن عفان عن الحسن بن عطية عن يعقوب الأصفهاني عن ابن أبزي : (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ) قال : خسف بالبيداء.

أخبرني عقيل بن محمد أنّ المعافى بن زكريا البغدادي أخبرهم قال : أخبرنا محمد بن

__________________

(١) سورة الأنبياء : ١٨.

(٢) سورة الإسراء : ٨١.

٩٤

جرير قال : حدّثني عصام بن رواد بن الجراح قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا سفيان بن سعيد قال : حدّثنا منصور بن المعتمر عن ربعي بن خراش قال : سمعت حذيفة بن اليمان يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكر فتنة تكون بين أهل الشرق والمغرب : «فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم السفياني من الوادي اليابس في فورة ذلك حتى ينزل دمشق ، فيبعث جيشين : جيشا إلى المشرق ، وجيشا إلى المدينة حتى ينزلوا بأرض بابل في المدينة الملعونة والبقعة الخبيثة ، فيقتلون أكثر من ثلاثة آلاف ، ويبقرون بها أكثر من مائة امرأة ، ويقتلون بها ثلاثمائة كبش من بني العباس ، ثم ينحدرون إلى الكوفة فيخربون ما حولها ، ثم يخرجون متوجهين إلى الشام ، فتخرج راية هدى من الكوفة ، فتلحق ذلك الجيش منها على ليلتين فيقتلونهم ولا يفلت منهم مخبر ويستنقذون ما في أيديهم من السبي والغنائم ، ويحل جيشه الثاني بالمدينة فينتهبونها ثلاثة أيام ولياليها. ثم يخرجون متوجهين إلى مكة حتى إذا كانوا بالبيداء بعث الله سبحانه جبرائيل عليه‌السلام فيقول : يا جبرائيل اذهب فأبدهم. فيضربها برجله ضربة يخسف الله بهم ، فذلك قوله عزوجل في سورة سبأ : (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) فلا ينفلت منهم إلّا رجلان : أحدهما بشير والآخر نذير وهما من جهينة» [٤٤] (١).

فلذلك جاء القول : «وعند جهينة الخبر اليقين».

وقال قتادة : ذلك حين يخرجون من قبورهم ، وقال ابن معقل : إذا عاينوا عذاب الله يوم القيامة (وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) ؛ لأنهم حيث كانوا فهم من الله قريب لا يبعدون عنه ولا يفوتونه.

(وَقالُوا) حين عاينوا العذاب في الدنيا والآخرة وقت البأس (آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى) : من أين (لَهُمُ التَّناوُشُ) تناول التوبة ونيل ما يتمنون؟

قال ابن عباس : يسألون الراد وليس يحين الرد ، وقرأ أبو عمرو والأعمش وحمزة والكسائي وخلف : (التناؤش) : بالهمز والمد ، وهو الإبطاء والبعد. يقال : تناشيت الشيء أي أخذته من بعيد ، والنيش الشيء البطيء.

قال الشاعر :

تمنى نئيشا أن يكون أطاعني

وقد حدثت بعد الأمور أمور (٢)

وقال آخر :

وجئت نئيشا بعدها فاتك الخبر (٣)

__________________

(١) جامع البيان للطبري : ٢٢ / ١٢٩.

(٢) الصحاح : ٣ / ١٠٢٠.

(٣) لسان العرب : ٦ / ٣٦١.

٩٥

وقرأ الباقون : بغير همز ، من التناول. يقال : نشته نوشا إذا تناولته.

قال الراجز :

فهي تنوش الحوض نوشا من علا

نوشا به تقطع أجواز الفلا (١)

وتناوش القوم في الحرب إذا تناول بعضهم بعضا وتدانوا ، واختار أبو عبيد : ترك الهمز ؛ لأنّ معناه : التناول ، وإذا همز كان معناه البعد. فكيف يقول : أنى لهم البعد (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) : من الآخرة؟ فكيف يتناولون التوبة ، وإنما يقبل التوبة في الدّنيا وقد ذهبت الدّنيا فصارت بعيدة من الآخرة؟

(وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) ، أي من قبل نزول العذاب (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) ، يعني يرمون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالظنون لا باليقين ، وهو قولهم : إنه ساحر ، بل شاعر ، بل كاهن ، هذا قول مجاهد ، وقال قتادة : يعني يرجمون بالظن ، يقولون : لا بعث ولا جنّة ولا نار.

(وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) ، يعني التوبة والإيمان والرجوع إلى الدّنيا (كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ) أي أهل دينهم وموافقهم من الأمم الماضية حين لم يقبل منهم الإيمان والتوبة في وقت البأس (إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ).

__________________

(١) الصحاح : ٣ / ١٠٢٣.

٩٦

سورة الملائكة (فاطر)

أخبرني محمد بن القاسم الفارسي قال : أخبرنا محمد بن جعفر بن مطير النيسابوري قال : حدّثنا إبراهيم بن شريك الكوفي قال : حدّثنا أحمد بن يونس اليربوعي قال : حدّثنا سلام بن سليم المدائني قال : حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة الملائكة دعته يوم القيامة ثلاث أبواب من الجنّة أن ادخل من أي الأبواب شئت» [٤٥] (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٥) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (٨))

قوله عزوجل : (الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) يعني في أجنحة الملائكة.

أخبرنا عبد الله بن حامد قال : حدّثنا ابن شاذان قال : حدّثنا جعونة بن محمد قال : حدّثنا صالح بن محمد قال : حدثنا مسلم بن إياس عن عبد الله بن المبارك عن ليث بن سعد عن عقيل عن ابن شهاب أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأل جبرائيل عليه‌السلام : أن يتراءى له في صورته ، فقال له جبرائيل عليه‌السلام. «إنك لن تطيق ذلك». قال : «إني أحبّ أن تفعل».

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ٨ / ٢٣٠.

٩٧

فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المصلّى في ليلة مقمرة ، فأتاه جبرائيل عليه‌السلام في صورته ، فغشي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين رآه ، فلما أفاق وجبرائيل عليه‌السلام مسنده واضعا إحدى يديه على صدره والأخرى بين كتفيه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سبحان الله ما كنت أرى أنّ شيئا من الخلق هكذا». فقال جبرائيل عليه‌السلام : «فكيف لو رأيت إسرافيل عليه‌السلام؟ إنّ له لاثني عشر جناحا ؛ جناح منها بالمشرق وجناح بالمغرب ، وإنّ العرش على كاهله وإنه ليتضاءل الأحايين (١) لعظمة الله عزوجل حتى يعود هذا الوصع ـ والوصع عصفور صغير ـ حتى ما يحمل عرشه إلّا عظمة» [٤٦].

وأخبرني أبو الحسن الساماني قال : أخبرني أبو حامد البلالي عن العباس بن محمد الدوري قال : أخبرني أبو عاصم النبيل عن صالح التاجي عن ابن جريج عن ابن شهاب في قول الله عزوجل : (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) قال : حسن الصورة.

وأخبرني الحسين بن محمد عن أحمد بن جعفر بن حمدان عن عبد الله بن محمد بن سنان عن سلمة بن حبان عن صالح التاجي عن الهيثم القارئ قال : رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المنام فقال : أنت الهيثم الذي تزين القرآن بصوتك؟ جزاك الله خيرا ، وقيل : الخطّ الحسن.

أخبرنا ابن فنجويه عن ابن شيبة عن ابن زنجويه عن سلمة عن يحيى بن أحمد الفزار ويحيى ابن أكثم قالا : أخبرنا أبو اليمان عن عاصم بن مهاجر الكلاعي عن أبيه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الخط الحسن يزيد الحق وضحا.

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا عبد الله بن يوسف قال : حدّثني الحسن بن علي بن يزيد الوشاء عن علي بن سهل الرملي قال : أخبرني الوليد بن مسلم عن خليد بن دعلج عن قتادة في قول الله عزوجل : (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) قال : الملاحة في العينين.

(إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) من الزيادة والنقصان.

(ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ) نعمة ، (فَلا مُمْسِكَ لَها) : لا يستطيع أحد حبسها (وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ) فيما أمسك (الْحَكِيمُ) فيما أرسل.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ). قرأ سفيان بن سلمة وأبو جعفر وحمزة والأعمش والكسائي : غير بالخفض وهو اختيار أبي عبيد. الياقوت : بالرفع.

وهذه الآية حجة على القدرية ؛ لأنه نفى خالقا غيره وهم يثبتون معه خالقين كثيرين.

(يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ. وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ)

__________________

(١) في الدر المنثور ١ : ٩٣ (الأحيان)

٩٨

فعزى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ. يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) ، قراءة العامة بفتح الغين ، وهو الشيطان ، وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حبيش قال : حدّثنا أبو القاسم بن الفضل قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا أحمد بن يزيد المقري عن محمد بن المصفى عن أبي حياة ، قرأ : وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغُرُورُ برفع الغين ، وهي قراءة ابن السماك العدوي يدل عليه وما حدثنا.

قال : أخبرنا عبد الله بن حامد محمد بن خالد قال : أخبرنا داود بن سليمان قال : أخبرنا عبد بن حميد عن يحيى بن عبد الحميد عن ابن المبارك عن عبد الله بن عقبة عن عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير : (لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) قال : أن يعمل المعصية ويتمنّى العفو.

(إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) : فعادوه ولا تطيعوه (إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ) : أشياعه وأولياءه (لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) ليسوقهم إلى النار ، فهذه عداوته ثم بيّن حال موافقيه ومخالفيه فقال عزّ من قائل : (الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ).

قوله : (فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ) أي شبّة وموّه وحسّن له (سُوءُ) : قبح (عَمَلِهِ) وفعله (فَرَآهُ حَسَناً) زين ذلك الشيطان بالوسواس ونفسه تميله إلى الشبهة وترك النظر في الحجة المؤدية إلى الحق ، والله سبحانه وتعالى يخلقه ذلك في قلبه ، وجوابه محذوف مجازه : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) كمن لم يزين له سوء عمله ورأى الحق حقا والباطل باطلا؟ نظيره قوله : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) (١) ، وقوله (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ) (٢) ونحوها.

وقيل : معناه : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) فأضلّه الله كمن هداه؟ دليله قوله : (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ).

وقيل : معناه تحت قوله : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) ، فيكون معناه : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) فأضله الله ذهبت نفسك عليه حسرة ، أي تتحسف عليه؟ (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) ، وقال الحسين بن الفضل : فيه تقديم وتأخير ، مجازه : أفمن زيّن له سوء عمله فرآه حسنا فلا تذهب نفسك عليهم حسرات فإنّ الله يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء ، والحسرة : شدة الحزن على ما فات من الأمر.

وقراءة العامة : (تَذْهَبْ نَفْسُكَ) : بفتح التاء والهاء وضم السين ، وقرأ أبو جعفر بضم التاء وكسر الهاء وفتح السين ، ومعنى الآية : لا تغتم بكفرهم وهلاكهم إذ لم يؤمنوا ، نظيره (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ) (٣).

__________________

(١) سورة الرعد : ٣٣.

(٢) سورة الزمر : ٩.

(٣) سورة الكهف : ٦ ، الشعراء : ٣.

٩٩

(إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ).

(وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠) وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١١) وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (١٤))

(وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ) من القبور.

أخبرنا عبد الله بن حامد عن محمد بن خالد عن داود بن سليمان عن عبد بن حميد عن المؤمل بن إسماعيل عن حماد بن سلمة عن يعلى بن عطاء عن وكيع بن عدس عن عمه أبي رزين قال : قلت يا رسول الله : كيف يحيي الله الموتى؟ وما آية ذلك في خلقه؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هل مررت بواد أهلك محلا ثم مررت به يهتز خضرا؟» قلت : نعم.

قال : «فكذلك يحيى الله الموتى ، وتلك آيته في خلقه» [٤٧] (١).

قوله عزوجل (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ) ، يعني علم العزة لمن هي ، (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) ، وذلك أنّ الكفار عبدوا الأصنام وطلبوا بها التعزز كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله : (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) (٢) ، وقال سبحانه : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) (٣) ، كلّا ، وردّ الله عليهم : من أراد أن يعلم لمن العزّة الحقيقة فآية العزّة لله ، ومن أراد أن يكون في الدراين عزيزا فليطع الله فإنّ العزّة لله جميعا.

__________________

(١) زاد المسير : ٦ / ٢٤٨.

(٢) سورة النساء : ١٣٩.

(٣) سورة مريم : ٨١.

١٠٠