الميزان في تفسير القرآن - ج ١٩

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ١٩

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٥
الصفحات: ٤٠٧

الخلاف فلا يتعين فيه المدرك على ما هو عليه في الواقع فلا مجوز لأن يعتمد عليه في الحقائق قال تعالى : « وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ » إسراء : ٣٦.

وأما العمل بالظن في الأحكام العملية فإنما هو لقيام دليل عليه يقيد به إطلاق الآية ، وتبقى الأمور الاعتقادية تحت إطلاق الآية.

قال بعضهم : وضع الظاهر موضع المضمر في قوله : « إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي » ليجري الكلام مجرى المثل.

قوله تعالى : « فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا » تفريع على اتباعهم الظن وهوى الأنفس ، فقوله : « فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ » إلخ ، أمر بالإعراض عنهم وإنما لم يقل : فأعرض عنهم ، ووضع قوله : « مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا » إلخ ، موضع الضمير للدلالة على علة الأمر بالإعراض كأنه قيل : إن هؤلاء يتركون العلم ويتبعون الظن وما تهوى الأنفس وإنما فعلوا ذلك لأنهم تولوا عن الذكر وأرادوا الحياة الدنيا فلا هم لهم إلا الدنيا فهي مبلغهم من العلم ، وإذا كان كذلك فأعرض عنهم لأنهم في ضلال.

والمراد بالذكر إما القرآن الذي يهدي متبعيه إلى الحق الصريح ويرشدهم إلى سعادة الدار الآخرة التي وراء الدنيا بالحجج القاطعة والبراهين الساطعة التي لا تبقى معها وصمة شك.

وأما ذكر الله بالمعنى المقابل للغفلة فإن ذكره تعالى بما يليق بذاته المتعالية من الأسماء والصفات يهدي إلى سائر الحقائق العلمية في المبدأ والمعاد هداية علمية لا ريب معها.

قوله تعالى : « ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى » الإشارة بذلك إلى أمر الدنيا وهو معلوم من الآية السابقة وكونه مبلغ علمهم من قبيل الاستعارة كان العلم يسير إلى المعلوم وينتهي إليه وعلمهم انتهى في مسيره إلى الدنيا وبلغها ووقف عندها ولم يتجاوزها ، ولازم ذلك أن تكون الدنيا متعلق إرادتهم وطلبهم ، وموطن همهم ، وغاية آمالهم لا يطمئنون إلى غيرها ولا يقبلون إلا عليها.

وقوله : « إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ » إلخ ، تأكيد لمضمون الجملة السابقة وشهادة منه تعالى عليه.

قوله تعالى : «وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى» يمكن أن يكون صدر الآية حالا من فاعل «أَعْلَمُ» في الآية السابقة والواو للحال ، والمعنى : أن ربك هو أعلم بالفريقين الضالين والمهتدين والحال أنه يملك ما في السماوات وما في الأرض فكيف يمكن أن لا يعلم بهم وهو مالكهم؟

٤١

وعلى هذا فالظاهر تعلق قوله : « لِيَجْزِيَ » إلخ ، بقوله السابق : « فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى » إلخ ، والمعنى : أعرض عنهم وكل أمرهم إلى الله ليجزيهم كذا وكذا ويجزيك ويجزي المحسنين كذا وكذا.

ويمكن أن يكون قوله : « وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ » إلخ ، كلاما مستأنفا للدلالة على أن الأمر بالإعراض عنهم لا لإهمالهم وتركهم سدى بل الله سبحانه يجزي كلا بعمله إن سيئا وإن حسنا ، ووضع اسم الجلالة وهو ظاهر موضع الضمير للدلالة على كمال العظمة.

وقوله : « لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ » إشارة إلى ملكه تعالى للكل ومعناه قيام الأشياء به تعالى لكونه خالقهم الموجد لهم فالملك ناشئ من الخلق وهو مع ذلك منشأ للتدبير فالجملة دالة على الخلق والتدبير كأنه قيل : ولله الخلق والتدبير.

وبهذا المعنى يتعلق قوله : « لِيَجْزِيَ » إلخ ، واللام للغاية ، والمعنى : له الخلق والتدبير وغاية ذلك والغرض منه أن يجزي الذين أساءوا إلخ ، والمراد بالجزاء ما يخبر عنه الكتاب من شئون يوم القيامة ، والمراد بالإساءة والإحسان المعصية والطاعة ، والمراد بما عملوا جزاء ما عملوا أو نفس ما عملوا ، وبالحسنى المثوبة الحسنى.

والمعنى : ليجزي الله الذين عصوا بمعصيتهم أو بجزاء معصيتهم ويجزي الذين أطاعوا بالمثوبة الحسنى ، وقد أوردوا في الآية احتمالات أخرى وما قدمناه هو أظهرها.

قوله تعالى : « الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ » إلخ ، الإثم هو الذنب وأصله ـ كما ذكره الراغب ـ الفعل المبطئ عن الثواب والخير ، وكبائر الإثم المعاصي الكبيرة وهو على ما في الرواية (١) ما أوعد الله عليه النار ، وقد تقدم البحث عنها في تفسير قوله تعالى : « إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ » الآية : النساء : ٣١.

والفواحش الذنوب الشنيعة الفظيعة ، وقد عد تعالى في كلامه الزنا واللواط من الفواحش ولا يبعد أن يستظهر من الآية اتحادها مع الكبائر.

وأما اللمم فقد اختلفوا في معناه فقيل : هو الصغيرة من المعاصي ، وعليه فالاستثناء منقطع ، وقيل : هو أن يلم بالمعصية ويقصدها ولا يفعل والاستثناء أيضا منقطع ، وقيل :

__________________

(١) رواها في ثواب الأعمال عن عباد بن كثير النوا عن أبي جعفر عليه السلام.

٤٢

هو المعصية حينا بعد حين من غير عادة أي المعصية على سبيل الاتفاق فيكون أعم من الصغيرة والكبيرة وينطبق مضمون الآية على معنى قوله تعالى في وصف المتقين المحسنين : « وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ » آل عمران : ١٣٥.

وقد فسر في روايات أئمة أهل البيت عليه‌السلام بثالث المعاني (١).

والآية تفسر ما في الآية السابقة من قوله : « الَّذِينَ أَحْسَنُوا » فهم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش ومن الجائز أن يقع منهم لمم.

وفي قوله : « إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ » تطميعهم في التوبة رجاء المغفرة.

وقوله : « هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ » قال الراغب : النشء والنشأة إحداث الشيء وتربيته. انتهى. فأنشئوهم من الأرض ما جرى عليهم في بدء خلقهم طورا بعد طور من أخذهم من المواد العنصرية إلى أن يتكونوا في صورة المني ويردوا الأرحام.

وقوله : « وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ » الأجنة جمع جنين ، والكلام معطوف على « إِذْ » السابق أي وهو أعلم بكم إذ كنتم أجنة في أرحام أمهاتكم يعلم ما حقيقتكم وما أنتم عليه من الحال وما في سركم وإلى ما يئول أمركم.

وقوله : « فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ » تفريع على العلم أي إذا كان الله أعلم من أول أمر فلا تزكوا أنفسكم بنسبتها إلى الطهارة هو أعلم بمن اتقى.

أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ

__________________

(١) ففي أصول الكافي عن ابن عمار عن الصادق عليه السلام : اللم الرجل يلم بالذنب فيستغفر الله منه ، وفيه بإسناده عن محمد بن مسلم عن الصادق عليه السلام قال : هو الذنب يلم به الرجل فيمكث ما شاء الله ثم يلم به بعد ، وفيه بإسناده عن ابن عمار عن الصادق عليه السلام عليه قته الذي يلم بالذنب بعد الذنب ليس من سليقته أي من طبعه.

٤٣

أُخْرى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (٤١) وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ (٥٨) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢).

( بيان )

سياق التسع آيات الواقعة في صدر هذا الفصل يصدق ما ورد في أسباب النزول أن رجلا من المسلمين كان ينفق من ماله في سبيل الله فلامه بعض الناس على كثرة الإنفاق وحذره وخوفه بنفاد المال والفقر وضمن حمل خطاياه وذنوبه فأمسك عن الإنفاق فنزلت الآيات.

أشار سبحانه بالتعرض لهذه القصة ونقل ما نقل من صحف إبراهيم وموسى (ع)

٤٤

إلى بيان وجه الحق فيها ، وإلى ما هو الحق الصريح فيما تعرض له الفصل السابق من أباطيل المشركين من أنهم إنما يعبدون الأصنام لأنها تماثيل الملائكة الذين هم بنات الله يعبدونهم ليشفعوا لهم عند الله سبحانه وقد أبطلتها الآيات السابقة أوضح الإبطال.

وقد أوضحت هذه الآيات ما هو وجه الحق في الربوبية والألوهية وهو أن الخلق والتدبير لله سبحانه ، إليه ينتهي كل ذلك ، وأنه خلق ما خلق ودبر ما دبر خلقا وتدبيرا يستعقب نشأة أخرى فيها جزاء الكافر والمؤمن والمجرم والمتقي ومن لوازمه تشريع الدين وتوجيه التكاليف وقد فعل ، ومن شواهده إهلاك من أهلك من الأمم الدارجة الطاغية كقوم نوح وعاد وثمود والمؤتفكة.

ثم عقب سبحانه هذا الذي نقله عن صحف النبيين الكريمين بالتنبيه على أن هذا النذير من النذر الأولى الخالية وأن الساعة قريبة ، وخاطبهم بالأمر بالسجود لله والعبادة ، وبذلك تختتم السورة.

قوله تعالى : « أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى » التولي هو الإعراض والمراد به بقرينة الآية التالية الإعراض عن الإنفاق في سبيل الله ، والإعطاء الإنفاق والإكداء قطع العطاء ، والتفريع الذي في قوله : « أَفَرَأَيْتَ » مبني على ما قدمنا من تفرع مضمون هذه الآيات على ما قبلها.

والمعنى : فأخبرني عمن أعرض عن الإنفاق وأعطى قليلا من المال وأمسك بعد ذلك أشد الإمساك.

قوله تعالى : « أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى » الضمائر لمن تولى والاستفهام للإنكار والمعنى : أيعلم الغيب فيترتب عليه أن يعلم أن صاحبه يتحمل عنه ذنوبه ويعذب مكانه يوم القيامة لو استحق العذاب. كذا فسروا.

والظاهر أن المراد نفي علمه بما غاب عنه من مستقبل حاله في الدنيا والمعنى : أيعلم الغيب فهو يعلم أنه لو أنفق ودام على الإنفاق نفد ماله وابتلي بالفقر وأما تحمل الذنوب والعذاب فالمتعرض له قوله الآتي : « أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ».

قوله تعالى : « أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى » صحف موسى التوراة ، وصحف إبراهيم. ما نزل عليه من الكتاب والجمع للإشارة إلى كثرته بكثرة أجزائه.

والتوفية تأدية الحق بتمامه وكماله ، وتوفيته عليه‌السلام تأديته ما عليه من الحق في العبودية

٤٥

أتم التأدية وأبلغها قال تعالى : « وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ » البقرة : ١٢٤.

وما نقله الله سبحانه في الآيات التالية من صحف إبراهيم وموسى عليه‌السلام وإن لم يذكر في القرآن بعنوان أنه من صحفهما قبل هذه الآيات لكنه مذكور بعنوان الحكم والمواعظ والقصص والعبر فمعنى الآيتين : أم لم ينبأ بهذه الأمور وهي في صحف إبراهيم وموسى.

قوله تعالى : « أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى » الوزر الثقل وكثر استعماله في الإثم ، والوازرة النفس التي من شأنها أن تحمل الإثم ، والآية بيان ما في صحف إبراهيم وموسى عليه‌السلام ، وكذا سائر الآيات المصدرة بأن وأن إلى تمام سبع عشرة آية.

والمعنى : ما في صحفهما هو أنه لا تحمل نفس إثم نفس أخرى أي لا تتأثم نفس بما لنفس أخرى من الإثم فلا تؤاخذ نفس بإثم نفس أخرى.

قوله تعالى : « وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى » قال الراغب : السعي المشي السريع وهو دون العدو ، ويستعمل للجد في الأمر خيرا كان أو شرا قال تعالى : « وَسَعى فِي خَرابِها ». انتهى واستعماله في الجد في الفعل استعمال استعاري.

ومعنى اللام في قوله : « لِلْإِنْسانِ » الملك الحقيقي الذي يقوم بصاحبه قياما باقيا ببقائه يلازمه ولا يفارقه بالطبع وهو الذي يكتسبه الإنسان بصالح العمل أو طالحه من خير أو شر ، وأما ما يراه الإنسان مملوكا لنفسه وهو في ظرف الاجتماع من مال وبنين وجاه وغير ذلك من زخارف الحياة الدنيا وزينتها فكل ذلك من الملك الاعتباري الوهمي الذي يصاحب الإنسان ما دام في دار الغرور ويودعه عند ما أراد الانتقال إلى دار الخلود وعالم الآخرة.

فالمعنى : وأنه لا يملك الإنسان ملكا يعود إليه أثره من خير أو شر أو نفع أو ضر حقيقة إلا ما جد فيه من عمل فله ما قام بفعله بنفسه وأما ما قام به غيره من عمل فلا يلحق بالإنسان أثره خيرا أو شرا.

وأما الانتفاع من شفاعة الشفعاء يوم القيامة لأهل الكبائر فلهم في ذلك سعي جميل حيث دخلوا في حضيرة الإيمان بالله وآياته ، وكذا استفادة المؤمن بعد موته من استغفار المؤمنين له ، والأعمال الصالحة التي تهدي إليه مثوباتها هي مرتبطة بسعيه في الدخول في زمرة المؤمنين وتكثير سوادهم وتأييد إيمانهم الذي من آثاره ما يأتون به من الأعمال الصالحة.

٤٦

وكذا من سن سنة حسنة فله ثوابها وثواب من عمل بها ، ومن سن سنة سيئة كان له وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة فإن له سعيا في عملهم حيث سن السنة وتوسل بها إلى أعمالهم كما تقدم في تفسير قوله تعالى : « وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ » يس : ١٢ ، وقد تقدم في تفسير قوله : « وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ » النساء : ٩ ، وتفسير قوله : « لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ » الأنفال : ٣٧ ، كلام نافع في هذا المقام.

قوله تعالى : « وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى » المراد بالسعي ما سعى فيه من العمل وبالرؤية المشاهدة ، وظرف المشاهدة يوم القيامة بدليل تعقيبه بالجزاء فالآية قريبة المعنى من قوله تعالى : « يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ » آل عمران : ٣٠ ، وقوله : « يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ » الزلزال : ٨.

وإتيان قوله : « سَوْفَ يُرى » مبنيا للمفعول لا يخلو من إشعار بأن هناك من يشاهد العمل غير عامله.

قوله تعالى : « ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى » الوفاء بمعنى التمام لأن الشيء التام يفي بجميع ما يطلب من صفاته ، والجزاء الأوفى الجزاء الأتم.

وضمير « يُجْزاهُ » للسعي الذي هو العمل والمعنى : ثم يجزي الإنسان عمله أي بعمله أتم الجزاء.

قوله تعالى : « وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى » المنتهى مصدر ميمي بمعنى الانتهاء وقد أطلق إطلاقا فيفيد مطلق الانتهاء ، فما في الوجود من شيء موجود إلا وينتهي في وجوده وآثار وجوده إلى الله سبحانه بلا واسطة أو مع الواسطة ، ولا فيه أمر من التدبير والنظام الجاري جزئيا أو كليا إلا وينتهي إليه سبحانه إذ ليس التدبير الجاري بين الأشياء إلا الروابط الجارية بينها القائمة بها وموجد الأشياء هو الموجد لروابطها المجري لها بينها فالمنتهى المطلق لكل شيء هو الله سبحانه.

قال تعالى : « اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ » الزمر : ٦٣ ، وقال : « أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ » الأعراف : ٥٤.

والآية تثبت الربوبية المطلقة لله سبحانه بإنهاء كل تدبير وكل التدبير إليه وتشمل

٤٧

انتهاء الأشياء إليه من حيث البدء وهو الفطر ، وانتهاءها إليه من حيث العود والرجوع وهو الحشر.

ومما تقدم يظهر ضعف ما قيل في تفسير الآية أن المراد بذلك رجوع الخلق إليه سبحانه يوم القيامة ، وكذا ما قيل : إن المعنى أن إلى ثواب ربك وعقابه آخر الأمر ، وكذا ما قيل : المعنى أن إلى حساب ربك منتهاهم ، وكذا ما قيل : إليه سبحانه ينتهي الأفكار وتقف دونه ، ففي جميع هذه التفاسير تقييد الآية من غير مقيد.

قوله تعالى : « وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى » الآية وما يتلوها إلى تمام اثنتي عشرة آية بيان لموارد من انتهاء الخلق والتدبير إلى الله سبحانه.

والسياق في جميع هذه الآيات سياق الحصر ، وتفيد انحصار الربوبية فيه تعالى وانتفاء الشريك ، ولا ينافي ما في هذه الموارد من الحصر توسط أسباب أخر طبيعية أو غير طبيعية فيها كتوسط السرور والحزن وأعضاء الضحك والبكاء من الإنسان في تحقق الضحك والبكاء ، وكذا توسط الأسباب المناسبة الطبيعية وغير الطبيعية في الإحياء والإماتة وخلق الزوجين والغنى والقنى وإهلاك الأمم الهالكة وذلك أنها لما كانت مسخرة لأمر الله غير مستقلة في نفسها ولا منقطعة عما فوقها كانت وجوداتها وآثار وجوداتها وما يترتب عليها لله وحده لا يشاركه في ذلك أحد.

فمعنى قوله : « وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى » إنه تعالى هو أوجد الضحك في الضاحك وأوجد البكاء في الباكي لا غيره تعالى :

ولا منافاة بين انتهاء الضحك والبكاء في وجودهما إلى الله سبحانه وبين انتسابهما إلى الإنسان وتلبسه بهما لأن نسبة الفعل إلى الإنسان بقيامه به ونسبة الفعل إليه تعالى بالإيجاد وكم بينهما من فرق.

ولا أن تعلق الإرادة الإلهية بضحك الإنسان مثلا يوجب بطلان إرادة الإنسان للضحك وسقوطها عن التأثير لأن الإرادة الإلهية لم تتعلق بمطلق الضحك كيفما كان وإنما تعلقت بالضحك الإرادي الاختياري من حيث إنه صادر عن إرادة الإنسان واختياره فإرادة الإنسان سبب لضحكه في طول إرادة الله سبحانه لا في عرضها حتى تتزاحما ولا تجتمعا معا فنضطر إلى القول بأن أفعال الإنسان الاختيارية مخلوقة لله ولا صنع للإنسان فيها كما يقوله الجبري أو أنها مخلوقة للإنسان ولا صنع لله سبحانه فيها كما يقوله المعتزلي.

٤٨

ومما تقدم يظهر فساد قول بعضهم : إن معنى الآية أنه خلق قوتي الضحك والبكاء ، وقول آخرين : إن المعنى أنه خلق السرور والحزن ، وقول آخرين : إن المعنى أنه أضحك الأرض بالنبات وأبكى السماء بالمطر ، وقول آخرين : إن المعنى أنه أضحك أهل الجنة وأبكى أهل النار.

قوله تعالى : « وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا » الكلام في انتساب الموت والحياة إلى أسباب أخر طبيعية وغير طبيعية كالملائكة كالكلام في انتساب الضحك والبكاء إلى غيره تعالى مع انحصار الإيجاد فيه تعالى ، وكذا الكلام في الأمور المذكورة في الآيات التالية.

قوله تعالى : « وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى » النطفة ماء الرجل والمرأة الذي يخلق منه الولد ، وأمنى الرجل أي صب المني ، وقيل : معناه التقدير ، وقوله : « الذَّكَرَ وَالْأُنْثى » بيان للزوجين.

قيل : لم يذكر الضمير في الآية على طرز ما تقدم ـ أنه هو ـ لأنه لا يتصور نسبة خلق الزوجين إلى غيره تعالى.

قوله تعالى : « وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى » النشأة الأخرى الخلقة الأخرى الثانية وهي الدار الآخرة التي فيها جزاء ، وكون ذلك عليه تعالى قضاؤه قضاء حتم وقد وعد به ووصف نفسه بأنه لا يخلف الميعاد.

قوله تعالى : « وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى » أي أعطى الغنى وأعطى القنية ، والقنية ما يدوم من الأموال ويبقى ببقاء نفسه كالدار والبستان والحيوان ، وعلى هذا فذكر « أَقْنى » بعد أَغْنى من التعرض للخاص بعد العام لنفاسته وشرفه.

وقيل : الإغناء التمويل والإقناء الإرضاء بذلك ، وقال بعضهم : معنى الآية أنه هو أغنى وأفقر.

قوله تعالى : « وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى » كان المراد بالشعرى الشعرى اليمانية وهي كوكبة مضيئة من الثوابت شرقي صورة الجبار في السماء.

قيل : كانت الخزاعة وحمير تعبد هذه الكوكبة ، وممن كان يعبده أبو كبشة أحد أجداد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من جهة أمه ، وكان المشركون يسمونه صلى‌الله‌عليه‌وآله ابن أبي كبشة لمخالفته إياهم في الدين كما خالف أبو كبشة قومه في عبادة الشعرى.

٤٩

قوله تعالى : « وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى » وهم قوم هود النبي عليه‌السلام ووصفوا بالأولى لأن هناك عادا ثانية هم بعد عاد الأولى.

قوله تعالى : « وَثَمُودَ فَما أَبْقى » وهم قوم صالح النبي عليه‌السلام أهلك الله الكفار منهم عن آخرهم ، وهو المراد من قوله : « فَما أَبْقى » وإلا فهو سبحانه نجى المؤمنين منهم من الهلاك كما قال : « وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ » فصلت : ١٨.

قوله تعالى : « وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى » عطف كسابقه على قوله : « عاداً » والإصرار بالتأكيد على كونهم أظلم وأطغى ، أي من القومين عاد وثمود على ما يعطيه السياق لأنهم لم يجيبوا دعوة نوح عليه‌السلام ولم يتعظوا بموعظته فيما يقرب من ألف سنة ولم يؤمن منهم معه إلا أقل قليل.

قوله تعالى : « وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى فَغَشَّاها ما غَشَّى » قيل : إن المؤتفكة قرى قوم لوط ائتفكت بأهلها أي انقلبت والائتفاك الانقلاب ، والأهواء الإسقاط.

والمعنى : وأسقط القرى المؤتفكة إلى الأرض بقلبها وخسفها فشملها وأحاط بها من العذاب ما شملها وأحاط بها.

واحتمل أن يكون المراد بالمؤتفكة ما هو أعم من قرى قوم لوط وهي كل قرية نزل عليها العذاب فباد أهلها فبقيت خربة داثرة معالمها خاوية على عروشها.

قوله تعالى : « فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى » الآلاء جمع إلى بمعنى النعمة ، والتماري التشكك ، والجملة متفرعة على ما تقدم ذكره مما ينسب إليه تعالى من الأفعال.

والمعنى : إذا كان الله سبحانه هو الذي نظم هذا النظام البديع من صنع وتدبير بالإضحاك والإبكاء والإماتة والإحياء والخلق والإهلاك إلى آخر ما قيل فبأي نعم ربك تتشكك وفي أيها تريب؟.

وعد مثل الإبكاء والإماتة وإهلاك الأمم الطاغية نعما لله سبحانه لما فيها من الدخل في تكون النظام الأتم الذي يجري في العالم وتنساق به الأمور في مرحلة استكمال الخلق ورجوع الكل إلى الله سبحانه.

والخطاب في الآية للذي تولى وأعطى قليلا وأكدى أو للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من باب إياك أعني واسمعي يا جارة ، والاستفهام للإنكار.

٥٠

قوله تعالى : « هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى » قيل : النذير يأتي مصدرا بمعنى الإنذار ووصفا بمعنى المنذر ويجمع على النذر بضمتين على كلا المعنيين والإشارة بهذا إلى القرآن أو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قوله تعالى : « أَزِفَتِ الْآزِفَةُ » أي قربت القيامة والآزفة من أسماء القيامة قال تعالى : « وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ » المؤمن : ١٨.

قوله تعالى : « لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ » أي نفس كاشفة والمراد بالكشف إزالة ما فيها من الشدائد والأهوال ، والمعنى : ليس نفس تقدر على إزالة ما فيها من الشدائد والأهوال إلا أن يكشفها الله سبحانه.

قوله تعالى : « أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سامِدُونَ » الإشارة بهذا الحديث إلى ما تقدم من البيان ، والسمود اللهو ، والآية متفرعة على ما تقدم من البيان ، والاستفهام للتوبيخ.

والمعنى : إذا كان الله هو ربكم الذي ينتهي إليه كل أمر وعليه النشأة الأخرى وكانت القيامة قريبة وليس لها من دون الله كاشفة كان عليكم أن تبكوا لما فرطتم في جنب الله ، وتعرضتم للشقاء الدائم أفمن هذا البيان الذي يدعوكم إلى النجاة تعجبون إنكارا وتضحكون استهزاء ولا تبكون؟.

قوله تعالى : « فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا » تفريع آخر على ما تقدم من البيان والمعنى : إذا كان كذلك فعليكم أن تسجدوا لله وتعبدوه ليكشف عنكم ما ليس له من دونه كاشفة.

( بحث روائي )

في الكشاف : في قوله تعالى : « أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى » إلخ ، روي أن عثمان كان يعطي ماله في الخير فقال له عبد الله بن سعد بن أبي سرح وهو أخوه من الرضاعة : يوشك أن لا يبقى لك شيء فقال عثمان : إن لي ذنوبا وخطايا ، وإني أطلب بما أصنع رضا الله تعالى وأرجو عفوه فقال عبد الله : أعطني ناقتك برحلها وأنا أتحمل عنك ذنوبك كلها فأعطاه وأشهد عليه وأمسك عن العطاء فنزلت ، ومعنى : « تَوَلَّى » ترك المركز يوم أحد فعاد عثمان إلى أحسن من ذلك وأجمل.

٥١

أقول : وأورد القصة في مجمع البيان ونسبها إلى ابن عباس والسدي والكلبي وجماعة من المفسرين ، وفي انطباق « تولى » على تركه المركز يوم أحد نظر والآيات مكية.

وفي الدر المنثور ، أخرج الفاريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد : في قوله : « أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى » قال : الوليد بن المغيرة كان يأتي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأبا بكر فسمع ما يقولان وذلك ما أعطى من نفسه ، أعطى الاستماع « وَأَكْدى » قال : انقطع عطاؤه نزل في ذلك « أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ » قال : الغيب القرآن أرأى فيه باطلا أنفذه ببصره إذ كان يختلف إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأبي بكر.

أقول : وأنت خبير بأن الآيات بظاهرها لا تنطبق على ما ذكره.

وروي : أنها نزلت في العاص بن وائل ، وروي أنها نزلت في رجل لم يذكر اسمه.

وفي تفسير القمي : في قوله تعالى : « وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى » قال : وفى بما أمره الله به من الأمر والنهي وذبح ابنه.

وفي الكافي ، بإسناده عن إسحاق بن عمار عن أبي إبراهيم عليه‌السلام قال : سألته عن الرجل يحج فيجعل حجته وعمرته ـ أو بعض طوافه لبعض أهله ـ وهو عنه غائب في بلد آخر؟ قال : قلت : فينتقص ذلك من أجره؟ قال : هي له ولصاحبه وله أجر سوى ذلك بما وصل. قلت : وهو ميت أيدخل ذلك عليه؟ قال : نعم حتى يكون مسخوطا عليه فيغفر له ـ أو يكون مضيقا عليه فيوسع له. قلت : فيعلم هو في مكانه أنه عمل ذلك لحقه؟ قال : نعم. قلت : وإن كان ناصبا ينفعه ذلك؟ قال : نعم يخفف عنه.

أقول : مورد الرواية إهداء ثواب العمل دون العمل نيابة عن الميت.

وفيه ، بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يقول الله عز وجل للملك الموكل بالمؤمن إذا مرض : اكتب له ما كنت تكتب له في صحته ـ فإني أنا الذي صيرته في حبالي (١).

وفي الخصال ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلا ثلاث خصال : صدقة أجراها في حياته ـ فهي تجري بعد موته إلى يوم القيامة ـ صدقة

__________________

(١) الحبالة : الوثاق.

٥٢

موقوفة لا تورث ، وسنة هدى سنها ـ وكان يعمل بها وعمل بها من بعده غيره ، وولد صالح يستغفر له.

أقول : وهذه الروايات الثلاث ـ وفي معناها روايات كثيرة جدا عن أئمة أهل البيت عليه‌السلام ـ توسع معنى السعي في قوله تعالى : « وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى » وقد تقدمت إشارة إليها.

وفي أصول الكافي ، بإسناده إلى سليمان بن خالد قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : إن الله يقول : « وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى » فإذا انتهى الكلام إلى الله فأمسكوا.

أقول : وهو من التوسعة في معنى الانتهاء.

وفيه ، بإسناده إلى أبي عبيدة الحذاء قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : يا زياد إياك والخصومات فإنها تورث الشك ، وتحبط العمل ، وتردي صاحبها ، وعسى أن يتكلم بالشيء فلا يغفر له. أنه كان فيما مضى قوم تركوا علم ما وكلوا به ، وطلبوا علم ما كفوه حتى انتهى كلامهم إلى الله ـ فتحيروا حتى كان الرجل يدعى من بين يديه ـ فيجيب من خلفه ، ويدعى من خلفه فيجيب من بين يديه. قال : وفي رواية أخرى : حتى تاهوا في الأرض.

وفي الدر المنثور ، أخرج أبو الشيخ عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله فتهلكوا.

أقول : وفي النهي عن التفكر في الله سبحانه روايات كثيرة أخر مودعة في جوامع الفريقين ، والنهي إرشادي متعلق بمن لا يحسن الورود في المسائل العقلية العميقة فيكون خوضه فيها تعرضا للهلاك الدائم.

وفي تفسير القمي : في قوله تعالى : « وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى » قال : أبكى السماء بالمطر ، وأضحك الأرض بالنبات.

أقول : هو من التوسعة في معنى الإبكاء والإضحاك.

وفي المعاني ، بإسناده إلى السكوني عن جعفر بن محمد عن آبائهم عليه‌السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : في قول الله عز وجل : « وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى » قال : أغنى كل إنسان بمعيشته ، وأرضاه بكسب يده.

وفي تفسير القمي : في قوله تعالى : « وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى » قال : النجم في السماء يسمى الشعرى كانت قريش وقوم من العرب يعبدونه ، وهو نجم يطلع في آخر الليل.

٥٣

أقول : الظاهر أن قوله : وهو نجم يطلع في آخر الليل تعريف له بحسب زمان صدور الحديث وكان في الصيف وإلا فهو يستوفي في مجموع السنة جميع ساعات الليل والنهار.

وفيه : في قوله تعالى : « أَزِفَتِ الْآزِفَةُ » قال قربت القيامة.

وفي المجمع : في قوله تعالى : « أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ » يعني بالحديث ما تقدم من الأخبار.

وفي الدر المنثور ، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله « أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ » فما رئي النبي بعدها ضاحكا حتى ذهب من الدنيا.

* * *

( سورة القمر مكية ، وهي خمس وخمسون آية )

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (٥) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (٨).

٥٤

( بيان )

سورة ممحضة في الإنذار والتخويف إلا آيتين من آخرها تبشران المتقين بالجنة والحضور عند ربهم.

تبدأ السورة بالإشارة إلى آية شق المقر التي أتى بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن اقتراح من قومه ، وتذكر رميهم له بالسحر وتكذيبهم به واتباعهم الأهواء مع ما جاءهم أنباء زاجرة من أنباء يوم القيامة وأنباء الأمم الماضين الهالكين ثم يعيد تعالى عليهم نبذة من تلك الأنباء إعادة ساخط معاتب فيذكر سيئ حالهم يوم القيامة عند خروجهم من الأجداث وحضورهم للحساب.

ثم تشير إلى قصص قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وآل فرعون وما نزل بهم من أليم العذاب إثر تكذيبهم بالنذر وليس قوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأعز عند الله منهم وما هم بمعجزين ، وتختتم السورة ببشرى للمتقين.

والسورة مكية بشهادة سياق آياتها ، ولا يعبأ بما قيل : إنها نزلت ببدر ، وكذا بما قيل : إن بعض آياتها مدنية ، ومن غرر آياتها ما في آخرها من آيات القدر.

قوله تعالى : « اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ » الاقتراب زيادة في القرب فقوله : « اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ » أي قربت جدا ، والساعة هي الظرف الذي تقوم فيه القيامة.

وقوله : « وَانْشَقَّ الْقَمَرُ » أي انفصل بعضه عن بعض فصار فرقتين شقتين تشير الآية إلى آية شق القمر التي أجراها الله تعالى على يد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بمكة قبل الهجرة إثر سؤال المشركين من أهل مكة ، وقد استفاضت الروايات على ذلك ، واتفق أهل الحديث والمفسرون على قبولها كما قيل. ولم يخالف فيه منهم إلا الحسن وعطاء والبلخي حيث قالوا : معنى قوله : « انْشَقَّ الْقَمَرُ » سينشق القمر عند قيام الساعة وإنما عبر بلفظ الماضي لتحقق الوقوع.

وهو مزيف مدفوع بدلالة الآية التالية « وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ » فإن سياقها أوضح شاهد على أن قوله « آيَةً » مطلق شامل لانشقاق القمر فعند وقوعه إعراضهم وقولهم : سحر مستمر ومن المعلوم أن يوم القيامة يوم يظهر فيه الحقائق ويلجئون فيه إلى المعرفة ، ولا معنى حينئذ لقولهم في آية ظاهرة : أنها سحر مستمر فليس إلا أنها

٥٥

آية قد وقعت للدلالة على الحق والصدق وتأتي لهم أن يرموها عنادا بأنها سحر.

ومثله في السقوط ما قيل : إن الآية إشارة إلى ما ذهب إليه الرياضيون أخيرا أن القمر قطعة من الأرض كما أن الأرض جزء منفصل من الشمس فقوله : « وَانْشَقَّ الْقَمَرُ » إشارة إلى حقيقة علمية لم ينكشف يوم النزول بعد.

وذلك أن هذه النظرية على تقدير صحتها لا يلائمها قوله : « وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ » إذ لم ينقل عن أحد أنه قال للقمر : هو سحر مستمر.

على أن انفصال القمر عن الأرض اشتقاق والذي في الآية الكريمة انشقاق ، ولا يطلق الانشقاق إلا على تقطع الشيء في نفسه قطعتين دون انفصاله من شيء بعد ما كان جزء منه.

ومثله في السقوط ما قيل : إن معنى انشقاق القمر انكشاف الظلمة عند طلوعه وكذا ما قيل : إن انشقاق القمر كناية عن ظهور الأمر ووضوح الحق.

والآية لا تخلو من إشعار بأن انشقاق القمر من لوازم اقتراب الساعة.

قوله تعالى : « وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ » الاستمرار من الشيء مرور منه بعد مرور مرة بعد مرة ، ولذا يطلق على الدوام والاطراد فقولهم : سحر مستمر أي سحر بعد سحر مداوما.

وقوله : « آيَةً » نكرة في سياق الشرط فتفيد العموم ، والمعنى وكل آية يشاهدونها يقولون فيها أنها سحر بعد سحر ، وفسر بعضهم المستمر بالمحكم الموثق ، وبعضهم بالذاهب الزائل ، وبعضهم بالمستبشع المنفور ، وهي معان بعيدة.

قوله تعالى : « وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ » متعلق التكذيب بقرينة ذيل الآية هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وما أتى به من الآيات أي وكذبوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وما أتى به من الآيات والحال أن كل أمر مستقر سيستقر في مستقره فيعلم أنه حق أو باطل وصدق أو كذب فسيعلمون أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله صادق أو كاذب ، على الحق أو لا فقوله : « وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ » في معنى قوله : « وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ » ص : ٨٨.

وقيل متعلق التكذيب انشقاق القمر والمعنى : وكذبوا بانشقاق القمر واتبعوا أهواءهم ، وجملة « وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ » لا تلائمه تلك الملاءمة.

قوله تعالى : « لَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ » المزدجر مصدر ميمي وهو الاتعاظ ، وقوله : « مِنَ الْأَنْباءِ » بيان لما فيه مزدجر ، والمراد بالأنباء أخبار الأمم

٥٦

الدارجة الهالكة أو أخبار يوم القيامة وقد احتمل كل منهما ، والظاهر من تعقيب الآية بأنباء يوم القيامة ثم بأنباء عدة من الأمم الهالكة أن المراد بالأنباء التي فيها مزدجر جميع ذلك.

قوله تعالى : « حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ » الحكمة كلمة الحق التي ينتفع بها ، والبلوغ وصول الشيء إلى ما تنتهي إليه المسافة ويكنى به عن تمام الشيء وكماله فالحكمة البالغة هي الحكمة التامة الكاملة التي لا نقص فيها من حيث نفسها ومن حيث أثرها.

وقوله : « فَما تُغْنِ النُّذُرُ » الفاء فيه فصيحة تفصح عن جملة مقدرة تترتب عليها الكلام ، والنذر جمع نذير بمعنى المنذر أو بمعنى الإنذار والكل صحيح وإن كان الأول أقرب إلى الفهم.

والمعنى : هذا القرآن أو الذي يدعون إليه حكمة بالغة كذبوا بها واتبعوا أهواءهم فما تغني المنذرون أو الإنذارات؟.

قوله تعالى : « فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ » التولي الإعراض والفاء في « فَتَوَلَ » لتفريع الأمر بالتولي على ما تقدمه من وصف حالهم أي إذا كانوا مكذبين بك متبعين أهواءهم لا يغني فيهم النذر ولا تؤثر فيهم الزواجر فتول عنهم ولا تلح عليهم بالدعوة.

وقوله : « يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ » قال الراغب : الإنكار ضد العرفان يقال : أنكرت كذا ونكرت ، وأصله أن يرد على القلب ما لا يتصوره ، وذلك ضرب من الجهل قال تعالى : « فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ ». قال : والنكر الدهاء والأمر الصعب الذي لا يعرف. انتهى.

وقد تم الكلام في قوله : « فَتَوَلَّ عَنْهُمْ » ببيان حالهم تجاه الحكمة البالغة التي ألقيت إليهم والزواجر التي ذكروا بها على سبيل الإنذار ، ثم أعاد سبحانه نبذة من تلك الزواجر التي هي أنباء من حالهم يوم القيامة ومن عاقبة حال الأمم المكذبين من الماضين في لحن العتاب والتوبيخ الشديد الذي تهز قلوبهم للانتباه وتقطع منابت أعذارهم في الإعراض.

فقوله : « يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ » إلخ ، كلام مفصول عما قبله لذكر الزواجر التي أشير إليها سابقا في مقام الجواب عن سؤال مقدر كأنه لما قال : « فَتَوَلَّ عَنْهُمْ » سئل فقيل : فإلى م يئول أمرهم؟ فقيل : « يَوْمَ يَدْعُ » إلخ ، أي هذه حال آخرتهم وتلك عاقبة دنيا أشياعهم وأمثالهم من قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم ، وليسوا خيرا منهم.

وعلى هذا فالظرف في « يَوْمَ يَدْعُ » متعلق بما سيأتي من قوله : « يَخْرُجُونَ » والمعنى :

٥٧

يخرجون من الأجداث يوم يدعو الداعي إلى شيء نكر ، إلخ وإما متعلق بمحذوف ، والتقدير اذكر يوم يدعو الداعي ، والمحصل اذكر ذاك اليوم وحالهم فيه ، والآية في معنى قوله : « هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ » الزخرف : ٦٦ ، وقوله : « فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ » يونس : ١٠٢.

ولم يسم سبحانه هذا الداعي من هو؟ وقد نسب الدعوة في موضع من كلامه إلى نفسه فقال : « يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ » إسراء : ٥٢.

وإنما أورد من أنباء القيامة نبأ دعوتهم للخروج من الأجداث والحضور لفصل القضاء وخروجهم منها خشعا أبصارهم مهطعين إلى الداعي ليحاذي به دعوتهم في الدنيا إلى الإيمان بالآيات وإعراضهم وقولهم : سحر مستمر.

ومعنى الآية : اذكر يوم يدعو الداعي إلى أمر صعب عليهم وهو القضاء والجزاء.

قوله تعالى : « خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ » الخشع جمع خاشع والخشوع نوع من الذلة ونسب إلى الأبصار لأن ظهوره فيها أتم.

والأجداث جمع جدث وهو القبر ، والجراد حيوان معروف ، وتشبيههم في الخروج من القبور بالجراد المنتشر من حيث إن الجراد في انتشاره يدخل البعض منه في البعض ويختلط البعض بالبعض في جهات مختلفة فكذلك هؤلاء في خروجهم من القبور ، قال تعالى : « يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ » المعارج : ٤٤.

قوله تعالى : « مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ » أي حال كونهم مسرعين إلى الداعي مطيعين مستجيبين دعوته يقول الكافرون : هذا يوم عسر أي صعب شديد.

( بحث روائي )

في تفسير القمي : « اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ » قال : اقتربت القيامة ـ فلا يكون بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلا القيامة ـ وقد انقضت النبوة والرسالة.

وقوله : « وَانْشَقَّ الْقَمَرُ » فإن قريشا سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يريهم آية ـ فدعا الله فانشق القمر نصفين حتى نظروا إليه ثم التأم ـ فقالوا : هذا سحر مستمر أي صحيح.

٥٨

وفي أمالي الشيخ ، بإسناده عن عبيد الله بن علي عن الرضا عن آبائه عن علي عليه‌السلام قال : انشق القمر بمكة فلقتين ـ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : اشهدوا اشهدوا.

أقول : ورد انشقاق القمر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في روايات الشيعة عن أئمة أهل البيت عليه‌السلام كثيرا وقد تسلمه محدثوهم والعلماء من غير توقف.

وفي الدر المنثور ، أخرج عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد ومسلم وابن جرير وابن المنذر والترمذي وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن أنس قال : سأل أهل مكة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله آية فانشق القمر بمكة فرقتين ـ فنزلت « اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ » إلى قوله : « سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ » أي ذاهب.

وفيه ، أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي وكلاهما في الدلائل من طريق مسروق عن ابن مسعود قال : انشق القمر على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال قريش : هذا سحر ابن أبي كبشة فقالوا : انتظروا ما يأتيكم به السفار فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم فجاء السفار فسألوهم فقالوا : نعم قد رأيناه فأنزل الله « اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ».

وفيه ، أخرج مسلم والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والحاكم والبيهقي وأبو نعيم في الدلائل من طريق مجاهد عن ابن عمر : في قوله : « اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ » قال : كان ذلك على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ انشق فرقتين : فرقة من دون الجبل وفرقة خلفه ـ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : اللهم اشهد.

وفيه ، أخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن جرير والحاكم وأبو نعيم والبيهقي عن جبير بن مطعم : في قوله : « وَانْشَقَّ الْقَمَرُ » قال : انشق القمر ونحن بمكة على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى صار فرقتين : فرقة على هذا الجبل وفرقة على هذا الجبل فقال الناس : سحرنا محمد فقال رجل : إن كان سحركم فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم.

وفيه أخرج ابن جرير وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس في قوله : « اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ » قال : قد مضى ذلك قبل الهجرة انشق القمر حتى رأوا شقيه.

وفيه أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن جرير وابن مردويه وأبو نعيم عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : خطبنا حذيفة بن اليمان بالمدائن

٥٩

فحمد الله وأثنى عليه. ثم قال : اقتربت الساعة وانشق القمر ـ ألا وإن الساعة قد اقتربت. ألا وإن القمر قد انشق على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق. ألا وإن اليوم المضمار وغدا السباق.

أقول : وقد روي انشقاق القمر بدعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بطرق مختلفة كثيرة عن هؤلاء النفر من الصحابة وهم أنس ، وعبد الله بن مسعود ، وابن عمر ، وجبير بن مطعم ، وابن عباس ، وحذيفة بن اليمان ، وعد في روح المعاني ممن روي عنه الحديث من الصحابة عليا عليه‌السلام ثم نقل عن السيد الشريف في شرح المواقف وعن ابن السبكي في شرح المختصر أن الحديث متواتر لا يمترى في تواتره. هذه حال الحديث عند أهل السنة وقد عرفت حاله عند الشيعة.

( كلام فيه إجمال القول في شق القمر )

آية شق القمر بيد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بمكة قبل الهجرة باقتراح من المشركين مما تسلمها المسلمون بلا ارتياب منهم.

ويدل عليها من القرآن الكريم دلالة ظاهرة قوله تعالى : « اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ » القمر : ٢ ، فالآية الثانية تأبى إلا أن يكون مدلول قوله : « وَانْشَقَّ الْقَمَرُ » آية واقعة قريبة من زمان النزول أعرض عنها المشركون كسائر الآيات التي أعرضوا عنها وقالوا : سحر مستمر.

ويدل عليها من الحديث روايات مستفيضة متكاثرة رواها الفريقان وتسلمها المحدثون ، وقد تقدمت نماذج منها في البحث الروائي.

فالكتاب والسنة يدلان عليها وانشقاق كرة من الكرات الجوية ممكن في نفسه لا دليل على استحالته العقلية ، ووقوع الحوادث الخارقة للعادة ـ ومنها الآيات المعجزات ـ جائز وقد قدمنا في الجزء الأول من الكتاب تفصيل الكلام فيها إمكانا ووقوعا ومن أوضح الشواهد عليه القرآن الكريم فمن الواجب قبول هذه الآية وإن لم يكن من ضروريات الدين.

واعترض عليها بأن صدور الآية المعجزة منه صلى‌الله‌عليه‌وآله باقتراح من الناس ينافي قوله تعالى :

« وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما

٦٠