الميزان في تفسير القرآن - ج ١٩

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ١٩

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٥
الصفحات: ٤٠٧

قوله تعالى : « فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ » المحتظر صاحب الحظيرة وهي كالحائط يعمل ليجعل فيه الماشية ، وهشيم المحتظر الشجر اليابس ونحوه يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته ، والمعنى ظاهر.

قوله تعالى : « وَلَقَدْ يَسَّرْنَا » إلخ تقدم تفسيره.

قوله تعالى : « كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ » تقدم تفسيره في نظيره.

قوله تعالى : « إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ » الحاصب الريح التي تأتي بالحجارة والحصباء ، والمراد بها الريح التي أرسلت فرمتهم بسجيل منضود.

وقال في مجمع البيان : سحر إذا كان نكرة يراد به سحر من الأسحار يقال : رأيت زيدا سحرا من الأسحار فإذا أردت سحر يومك قلت : أتيته بسحر ـ بالفتح ـ وأتيته سحر ـ من غير تنوين ـ انتهى ، والمعنى ظاهر.

قوله تعالى : « نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ » « نِعْمَةً » مفعول له من « نَجَّيْناهُمْ » أي نجيناهم ليكون نعمة من عندنا نخصهم بها لأنهم كانوا شاكرين لنا وجزاء الشكر لنا النجاة.

قوله تعالى : « وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ » ضمير الفاعل في « أَنْذَرَهُمْ » للوط عليه‌السلام ، والبطشة الأخذة الشديدة بالعذاب ، والتماري الإصرار على الجدال وإلقاء الشك ، والنذر الإنذار ، والمعنى : أقسم لقد خوفهم لوط أخذنا الشديد فجادلوا في إنذاره وتخويفه.

قوله تعالى : « وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ » مراودته عن ضيفه طلبهم منه أن يسلم إليهم أضيافه وهم الملائكة ، وطمس أعينهم محوها ، وقوله : « فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ » التفات إلى خطابهم تشديدا وتقريعا ، والنذر مصدر أريد به ما يتعلق به الإنذار وهو العذاب ، والمعنى ظاهر.

قوله تعالى : « وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ » قال في مجمع البيان : وقوله : « بُكْرَةً » ظرف زمان فإذا كان معرفة بأن تريد بكرة يومك تقول : أتيته بكرة وغدوة لم تصرفهما فبكرة هنا ـ وقد نون ـ نكرة ، والمراد باستقرار العذاب حلوله بهم وعدم تخلفه عنهم.

٨١

قوله تعالى : « فَذُوقُوا عَذابِي ـ إلى قوله ـ مِنْ مُدَّكِرٍ » تقدم تفسيره.

قوله تعالى : « وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ » المراد بالنذر الإنذار ، وقوله : « كَذَّبُوا بِآياتِنا » مفصول من غير عطف لكونه جوابا لسؤال مقدر كأنه لما قيل : « وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ » قيل : فما فعلوا؟ فأجيب بقوله : « كَذَّبُوا بِآياتِنا » ، وفرع عليه قوله : « فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ ».

( بحث روائي )

في روح المعاني : في قوله تعالى : « وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ » : أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس : لو لا أن الله يسره على لسان الآدميين ـ ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله تعالى.

قال : وأخرج الديلمي مرفوعا عن أنس مثله. ثم قال : ولعل خبر أنس إن صح ليس تفسيرا للآية.

أقول : وليس من البعيد أن يكون المراد المعنى الثاني الذي قدمناه في تفسير الآية.

وفي تفسير القمي في قوله : « فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ » قال : صب بلا قطر « وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ » قال : ماء السماء وماء الأرض « عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْناهُ » يعني نوحا « عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ » قال : الألواح السفينة والدسر المسامير.

وفيه : في قوله تعالى : « فَنادَوْا صاحِبَهُمْ » قال : قدار الذي عقر الناقة ، وقوله : « كَهَشِيمِ » قال : الحشيش والنبات.

وفي الكافي بإسناده عن أبي يزيد عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث يذكر فيه قصة قوم لوط قال : فكابروه يعني لوطا حتى دخلوا البيت فصاح به جبرئيل فقال : يا لوط دعهم فلما دخلوا أهوى جبرئيل بإصبعه نحوهم فذهبت أعينهم وهو قول الله عز وجل : « فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ ».

* * *

أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣) أَمْ

٨٢

يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (٤٦) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥).

( بيان )

الآيات في معنى أخذ النتيجة مما أعيد ذكره من الأنباء التي فيها مزدجر وهي نبأ الساعة المذكور أولا ثم أنباء الأمم الهالكة المذكورة ثانيا فهي تنعطف أولا على أنباء الأمم الهالكة فتخاطب قوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن كفاركم ليسوا خيرا من أولئك الأمم الطاغية الجبارة وقد أهلكهم الله على أذل وجه وأهونه ولا لكم براءة مكتوبة من عذاب الله ، ولا أن جمعكم ينفعكم في الذب عن العقاب. ثم تنعطف إلى ما مر من نبأ الساعة بأنها موعدهم الصعب أن أجرموا وكذبوا والساعة أدهى وأمر ، ثم تشير إلى موطن المتقين يومئذ وعند ذلك تختتم السورة.

قوله تعالى : « أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ » الظاهر أنه خطاب لقوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من مسلم وكافر على ما تشعر به الإضافة في « كُفَّارُكُمْ » والخيرية هي الخيرية في زينة الدنيا وزخارف حياتها كالمال والبنين أو من جهة الأخلاق العامة في مجتمعهم كالسخاء

٨٣

والشجاعة والشفقة على الضعفاء ، والإشارة بأولئكم إلى الأقوام المذكورة أنباؤهم : قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وآل فرعون ، والاستفهام للإنكار.

والمعنى : ليس الذين كفروا منكم خيرا من أولئكم الأمم المهلكين المعذبين حتى يشملهم العذاب دونكم.

ويمكن أن يكون خطاب « أَكُفَّارُكُمْ » لخصوص الكفار بعناية أنهم قوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وفيهم كفار وهم هم.

وقوله : « أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ » ظاهره أيضا عموم الخطاب ، والزبر جمع زبور وهو الكتاب ، وقد ذكروا أن المراد بالزبر الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء ، والمعنى : بل ألكم براءة في الكتب السماوية التي نزلت من عند الله أنكم في أمن من العذاب والمؤاخذة وإن كفرتم وأجرمتم واقترفتم ما شئتم من الذنوب.

قوله تعالى : « أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ » الجميع المجموع والمراد به وحدة مجتمعهم من حيث الإرادة والعمل ، والانتصار الانتقام أو التناصر كما في خطابات يوم القيامة : « ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ » الصافات : ٢٥ ، والمعنى : بل أيقولون أي الكفار نحن قوم مجتمعون متحدون ننتقم ممن أرادنا بسوء أو ينصر بعضنا بعضا فلا ننهزم.

قوله تعالى : « سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ » اللام في « الْجَمْعُ » للعهد الذكري وفي « الدُّبُرَ » للجنس ، وتولي الدبر الإدبار ، والمعنى : سيهزم الجمع الذي يتبجحون به ويولون الأدبار ويفرون.

وفي الآية إخبار عن مغلوبية وانهزام لجمعهم ، ودلالة على أن هذه المغلوبية انهزام منهم في حرب سيقدمون عليها ، وقد وقع ذلك في غزاة بدر ، وهذا من ملاحم القرآن الكريم.

قوله تعالى : « بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ » « أَدْهى » اسم تفضيل من الدهاء وهو عظم البلية المنكرة التي ليس إلى التخلص منها سبيل ، و « أَمَرُّ » اسم تفضيل من المرارة ضد الحلاوة ، وفي الآية إضراب عن إيعادهم بالانهزام والعذاب الدنيوي إلى إيعادهم بما سيجري عليهم في الساعة وقد أشير إلى نبئها في أول الأنباء الزاجرة ، والكلام يفيد الترقي.

والمعنى : وليس الانهزام والعذاب الدنيوي مقام عقوبتهم بل الساعة التي أشرنا إلى نبئها هي موعدهم والساعة أدهى من كل داهية وأمر من كل مر.

٨٤

قوله تعالى : « إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ » جمع سعير وهي النار المسعرة وفي الآية تعليل لما قبلها من قوله : « وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ » ، والمعنى : إنما كانت الساعة أدهى وأمر لهم لأنهم مجرمون والمجرمون في ضلال عن موطن السعادة وهو الجنة ونيران مسعرة.

قوله تعالى : « يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ » السحب جر الإنسان على وجهه ، و « يَوْمَ » ظرف لقوله : « فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ » ، و « سَقَرَ » من أسماء جهنم ومسها هو إصابتها لهم بحرها وعذابها.

والمعنى : كونهم في ضلال وسعر في يوم يجرون في النار على وجوههم يقال لهم : ذوقوا ما تصيبكم جهنم بحرها وعذابها.

قوله تعالى : « إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ » « كُلَّ شَيْءٍ » منصوب بفعل مقدر يدل عليه « خَلَقْناهُ » والتقدير خلقنا كل شيء خلقناه ، و « بِقَدَرٍ » متعلق بقوله : « خَلَقْناهُ » والباء للمصاحبة ، والمعنى : أنا خلقنا كل شيء مصاحبا لقدر.

وقدر الشيء هو المقدار الذي لا يتعداه والحد والهندسة التي لا يتجاوزه في شيء من جانبي الزيادة والنقيصة ، قال تعالى : « وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ » الحجر : ٢١ ، فلكل شيء حد محدود في خلقه لا يتعداه وصراط ممدود في وجوده يسلكه ولا يتخطاه.

والآية في مقام التعليل لما في الآيتين السابقتين من عذاب المجرمين يوم القيامة كأنه قيل : لما ذا جوزي المجرمون بالضلال والسعر يوم القيامة وأذيقوا مس سقر؟ فأجيب بقوله : « إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ » ومحصله أن لكل شيء قدرا ومن القدر في الإنسان أن الله سبحانه خلقه نوعا متكاثر الأفراد بالتناسل اجتماعيا في حياته الدنيا يتزود من حياته الدنيا الداثرة لحياته الآخرة الباقية ، وقدر أن يرسل إليهم رسولا يدعوهم إلى سعادة الدنيا والآخرة فمن استجاب الدعوة فاز بالسعادة ودخل الجنة وجاور ربه ، ومن ردها وأجرم فهو في ضلال وسعر.

ومن الخطإ أن يقال : إن الجواب عن السؤال بهذا النحو من المصادرة الممنوعة في الاحتجاج فإن السؤال عن مجازاته تعالى إياهم بالنار لإجرامهم في معنى السؤال عن تقديره ذلك ، فمعنى السؤال : لم قدر الله للمجرمين المجازاة بالنار؟ ومعنى الجواب : أن الله قدر للمجرمين المجازاة بالنار ، أو معنى السؤال : لم يدخلهم الله النار؟ ومعنى الجواب : أن

٨٥

الله يدخلهم النار وذلك مصادرة بينة.

وذلك لأن بين فعلنا وبين فعله تعالى فرقا فإنا نتبع في أفعالنا القوانين والأصول الكلية المأخوذة من الكون الخارجي والوجود العيني ، وهي الحاكمة علينا في إرادتنا وأفعالنا ، فإذا أكلنا لجوع أو شربنا لعطش فإنما نريد بذلك الشبع والري لما حصلنا من الكون الخارجي أن الأكل يفيد الشبع والشرب يفيد الري وهو الجواب لو سئلنا عن الفعل.

وبالجملة أفعالنا تابعة للقواعد الكلية والضوابط العامة المنتزعة عن الوجود العيني المتفرعة عليه ، وأما فعله تعالى فهو نفس الوجود العيني ، والأصول العقلية الكلية مأخوذة منه متأخرة عنه محكومة له فلا تكون حاكمة فيه متقدمة عليه ، قال تعالى : « لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ » الأنبياء : ٢٣ ، وقال : « إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ » الحج : ١٨ ، وقال : « الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ » آل عمران : ٦٠.

فلا سؤال عن فعله تعالى بلم بمعنى السؤال عن السبب الخارجي إذ لا سبب دونه يعينه في فعله ، ولا بمعنى السؤال عن الأصل الكلي العقلي الذي يصحح فعله إذ الأصول العقلية منتزعة عن فعله متأخرة عنه.

نعم وقع في كلامه سبحانه تعليل الفعل بأحد ثلاثة أوجه :

أحدها : تعليل الفعل بما يترتب عليه من الغايات والفوائد العائدة إلى الخلق لا إليه ، لكنه تعليل للفعل لا لكونه فعلا له سبحانه بل لكونه أمرا واقعا في صف الأسباب والمسببات كما في قوله تعالى : « وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ » المائدة : ٨٢ ، وقال : « وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ ـ إلى أن قال ـ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ » البقرة : ٦١.

الثاني : تعليل فعله تعالى بشيء من أسمائه وصفاته المناسبة له كتعليله تعالى مضامين كثير من الآيات في كلامه بمثل قوله : « إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ » « وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ » « وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ » إلى غير ذلك وهو شائع في القرآن الكريم ، وإذا أجدت التأمل في موارده وجدتها من تعليل الفعل بما له من صفة خاصة بصفة عامة لفعله تعالى فإن أسماءه تعالى الفعلية منتزعة عن فعله العام فتعليل فعل خاص بصفة من صفاته واسم من أسمائه تعليل الوجه الخاص في الفعل بالوجه العام فيه كقوله تعالى : « وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ » العنكبوت : ٦٠ ، يعلل قضاء حاجة الدواب

٨٦

والإنسان إلى الرزق المسئول بلسان حاجتها بأنه سميع عليم أي أنه خلق كل شيء والحال أن مسائلهم مسموعة له وأحوالهم معلومة عنده وهما صفتا فعله العام ، وقوله : « فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ » البقرة : ٣٧ ، يعلل توبته على آدم بأنه تواب رحيم أي صفة فعله هي التوبة والرحمة.

الثالث : تعليل فعله الخاص بفعله العام ومرجعه في الحقيقة إلى الوجه الثاني كقوله : « إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ ـ إلى أن قال ـ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ » فإن القدر وهو كون الشيء محدودا لا يتخطى حده في مسير وجوده فعل عام له تعالى لا يخلو عنه شيء من الخلق فتعليل العذاب بالقدر من تعليل فعله الخاص بفعله العام وبيان أنه مصداق من مصاديق القدر إذ كان من المقدر في الإنسان أن لو أجرم برد دعوة النبوة عذب ودخل النار يوم القيامة ، وكقوله : « وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا » مريم : ٧١ ، يعلل الورود بالقضاء وهو فعل له عام والورود خاص بالنسبة إليه.

فتبين أن ما في كلامه من تعليل فعل من أفعاله إنما هو من تعليل الفعل الخاص بصفته العامة والعلة علة للإثبات لا للثبوت ، وليس من المصادرة في شيء.

قوله تعالى : « وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ » قال في المجمع : اللمح النظر بالعجلة وهو خطف البصر. انتهى.

والمراد بالأمر ما يقابل النهي لكنه الأمر التكويني بإرادة وجود الشيء ، قال تعالى : « إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » يس : ٨٢ فهو كلمة كن ولعله لكونه كلمة اعتبر الخبر مؤنثا فقيل : « إِلَّا واحِدَةٌ ».

والذي يفيده السياق أن المراد بكون الأمر واحدة أنه لا يحتاج في مضيه وتحقق متعلقه إلى تعدد وتكرار بل أمر واحد بإلقاء كلمة كن يتحقق به المتعلق المراد كلمح بالبصر من غير تأن ومهل حتى يحتاج إلى الأمر ثانيا وثالثا.

وتشبيه الأمر من حيث تحقق متعلقه بلمح بالبصر لا لإفادة أن زمان تأثيره قصير كزمان تحقق اللمح بالبصر بل لإفادة أنه لا يحتاج في تأثيره إلى مضي زمان ولو كان قصيرا فإن التشبيه باللمح بالبصر في الكلام يكنى به عن ذلك ، فأمره تعالى وهو إيجاده وإرادة وجوده لا يحتاج في تحققه إلى زمان ولا مكان ولا حركة كيف لا؟ ونفس الزمان والمكان والحركة إنما تحققت بأمره تعالى.

٨٧

والآية وإن كانت بحسب مؤداها في نفسها تعطي حقيقة عامة في خلق الأشياء وأن وجودها من حيث إنه فعل الله سبحانه كلمح بالبصر وإن كان من حيث إنه وجود لشيء كذا تدريجيا حاصلا شيئا فشيئا.

إلا أنها بحسب وقوعها في سياق إيعاد الكفار بعذاب يوم القيامة ناظرة إلى إتيان الساعة وأن أمرا واحدا منه تعالى يكفي في قيام الساعة وتجديد الخلق بالبعث والنشور فتكون متممة لما أقيم من الحجة بقوله : « إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ ».

فيكون مفاد الآية الأولى أن عذابهم بالنار على وفق الحكمة ولا محيص عنه بحسب الإرادة الإلهية لأنه من القدر ، ومفاد هذه الآية أن تحقق الساعة التي يعذبون فيها بمضي هذه الإرادة وتحقق متعلقها لا مئونة فيه عليه سبحانه لأنه يكفي فيه أمر واحد منه تعالى كلمح بالبصر.

قوله تعالى : « وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ » الأشياع جمع شيعة والمراد ـ كما قيل ـ الأشباه والأمثال في الكفر وتكذيب الأنبياء من الأمم الماضية.

والمراد بالآية والآيتين بعدها تأكيد الحجة السابقة التي أقيمت على شمول العذاب لهم لا محالة.

ومحصل المعنى : أن ليس ما أنذرناكم به من عذاب الدنيا وعذاب الساعة مجرد خبر أخبرناكم به ولا قول ألقيناه إليكم فهذه أشياعكم من الأمم الماضية شرع فيهم بذلك فقد أهلكناهم وهو عذابهم في الدنيا وسيلقون عذاب الآخرة فإن أعمالهم مكتوبة مضبوطة في كتب محفوظة عندنا سنحاسبهم بها ونجازيهم بما عملوا.

قوله تعالى : « وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ » الزبر كتب الأعمال وتفسيره باللوح المحفوظ سخيف ، والمراد بالصغير والكبير صغير الأعمال وكبيرها على ما يفيده السياق.

قوله تعالى : « إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ » أي في جنات عظيمة الشأن بالغة الوصف ونهر كذلك ، قيل : المراد بالنهر الجنس ، وقيل : النهر بمعنى السعة.

قوله تعالى : « فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ » المقعد المجلس ، المليك صيغة مبالغة للملك على ما قيل ، وليس من إشباع كسر لام الملك ، والمقتدر القادر العظيم القدرة وهو الله سبحانه.

٨٨

والمراد بالصدق صدق المتقين في إيمانهم وعملهم أضيف إليه المقعد لملابسة ما ويمكن أن يراد به كون مقامهم وما لهم فيه صدقا لا يشوبه كذب فلهم حضور لا غيبة معه ، وقرب لا بعد معه ، ونعمة لا نقمة معها ، وسرور لا غم معه ، وبقاء لا فناء معه.

ويمكن أن يراد به صدق هذا الخبر من حيث إنه تبشير ووعد جميل للمتقين ، وعلى هذا ففيه نوع مقابلة بين وصف عاقبة المتقين والمجرمين حيث أوعد المجرمون بالعذاب والضلال وقرر ذلك بأنه من القدر ولن يتخلف ، ووعد المتقون بالثواب والحضور عند ربهم المليك المقتدر وقرر ذلك بأنه صدق لا كذب فيه.

( بحث روائي )

في كمال الدين ، بإسناده إلى علي بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الرقى أتدفع من القدر شيئا؟ فقال : هي من القدر.

وقال : إن القدرية مجوس هذه الأمة ـ وهم الذين أرادوا أن يصفوا الله بعدله ـ فأخرجوه من سلطانه وفيهم نزلت هذه الآية : « يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ـ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ ».

أقول : المراد بالقدرية النافون للقدر وهم المعتزلة القائلون بالتفويض ، وقوله : إنهم مجوس هذه الأمة ذلك لقولهم : إن خالق الأفعال الاختيارية هو الإنسان والله خالق لما وراء ذلك فأثبتوا إلهين اثنين كما أثبتت المجوس إلهين اثنين : خالق الخير وخالق الشر.

وقوله : أرادوا أن يصفوا الله بعدله فأخرجوه من سلطانه ، وذلك أنهم قالوا بخلق الإنسان لأفعاله فرارا عن القول بالجبر المنافي للعدل فأخرجوا الله من سلطانه على أعمال عباده بقطع نسبتها عنه تعالى.

وقوله : وفيهم نزلت هذه الآية ، إلخ ، المراد به جري الآيات فيهم دون كونهم سببا للنزول وموردا له لما عرفت في تفسير الآيات من كونها عامة بحسب السياق ، وفي نزول الآيات فيهم روايات أخرى مروية عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه‌السلام ، ومن طرق أهل السنة أيضا روايات في هذا المعنى عن ابن عباس وابن عمر ومحمد بن كعب وغيرهم.

وفي الدر المنثور ، أخرج أحمد عن حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن لكل أمة مجوسا ـ وإن مجوس هذه الأمة الذين يقولون : لا قدر. الخبر.

٨٩

أقول : ورواه في ثواب الأعمال ، بإسناده عن الصادق عن آبائه عن علي عليه‌السلام ولفظه : لكل أمة مجوس ـ ومجوس هذه الأمة الذين يقولون : لا قدر.

وفيه ، أخرج ابن مردويه بسند رواه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : النهر الفضاء والسعة ليس بنهر جار.

وفيه ، أخرج أبو نعيم عن جابر قال : بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوما في مسجد المدينة فذكر بعض أصحابه الجنة فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا أبا دجانة أما علمت أن من أحبنا وابتلي بمحبتنا أسكنه الله تعالى معنا؟ ثم تلا « فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ».

وفي روح المعاني في قوله : « فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ » الآية ، وقال جعفر الصادق رضي الله عنه : مدح المكان بالصدق فلا يقعد فيه إلا أهل الصدق.

( كلام في القدر )

القدر وهو هندسة الشيء وحد وجوده مما تكرر ذكره في كلامه تعالى فيما تكلم فيه في أمر الخلقة ، قال تعالى : « وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ » الحجر : ٢١ ، وظاهره أن القدر ملازم للإنزال من الخزائن الموجودة عنده تعالى ، وأما نفس الخزائن وهي من إبداعه تعالى لا محالة فهي غير مقدرة بهذا القدر الذي يلازم الإنزال والإنزال إصداره إلى هذا العالم المشهود كما يفيده قوله : « وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ » الحديد : ٢٥ ، وقوله : « وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ » الزمر : ٦.

ويؤيد ذلك ما ورد من تفسير القدر بمثل العرض والطول وسائر الحدود والخصوصيات الطبيعية الجسمانية كما في المحاسن ، عن أبيه عن يونس عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : لا يكون إلا ما شاء الله وأراد وقدر وقضى. قلت : فما معنى شاء؟ قال : ابتدأ الفعل. قلت : فما معنى أراد؟ قال : الثبوت عليه. قلت : فما معنى قدر؟ قال : تقدير الشيء من طوله وعرضه. قلت : فما معنى قضى؟ قال : إذا قضى أمضاه فذلك الذي لا مرد له.

وروي هذا المعنى عن أبيه عن ابن أبي عمير عن محمد بن إسحاق عن الرضا عليه‌السلام في خبر مفصل وفيه : فقال : أوتدري ما قدر؟ قال : لا ، قال : هو الهندسة من الطول والعرض والبقاء. الخبر.

٩٠

ومن هنا يظهر أن المراد بكل شيء في قوله : « وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً » الفرقان : ٣ ، وقوله : « إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ » القمر : ٤٩ ، وقوله : « وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ » الرعد : ٨ ، وقوله : « الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى » طه : ٥٠ ، الأشياء الواقعة في عالمنا المشهود ، من الطبيعيات الواقعة تحت الخلق والتركيب ، أو أن للتقدير مرتبتين : مرتبة تعم جميع ما سوى الله وهي تحديد أصل الوجود بالإمكان والحاجة وهذا يعم جميع الموجودات ما خلا الله سبحانه ، قال تعالى : « وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً » النساء : ١٢٦.

ومرتبة تخص عالمنا المشهود وهي تحديد وجود الأشياء الموجودة فيه من حيث وجودها وآثار وجودها وخصوصيات كونها بما أنها متعلقة الوجود والآثار بأمور خارجة من العلل والشرائط فيختلف وجودها وأحوالها باختلاف عللها وشرائطها فهي مقلوبة بقوالب من داخل وخارج تعين لها من العرض والطول والشكل والهيئة وسائر الأحوال والأفعال ما يناسبها.

فالتقدير يهدي هذا النوع من الموجودات إلى ما قدر لها في مسير وجودها ، قال تعالى : « الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى » الأعلى : ٣ ، أي هدى ما خلقه إلى ما قدر له ، ثم أتم ذلك بإمضاء القضاء ، وفي معناه قوله في الإنسان : « مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ » عبس : ٢٠ ، ويشير بقوله : « ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ » إلى أن التقدير لا ينافي اختيارية أفعاله الاختيارية.

وهذا النوع من القدر في نفسه غير القضاء الذي هو الحكم البتي منه تعالى بوجوده « وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ » الرعد : ٤١ ، فربما قدر ولم يعقبه القضاء كالقدر الذي يقتضيه بعض العلل والشرائط الخارجة ثم يبطل لمانع أو باستخلاف سبب آخر ، قال تعالى : « يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ » الرعد : ٣٩ ، وقال : « ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها » البقرة : ١٠٦ ، وربما قدر وتبعه القضاء كما إذا قدر من جميع الجهات باجتماع جميع علله وشرائطه وارتفاع موانعه.

وإلى ذلك يشير قوله عليه‌السلام في خبر المحاسن السابق : إذا قضى أمضاه فذلك الذي لا مرد له ، وقريب منه ما في عدة من أخبار القضاء والقدر ما معناه أن القدر يمكن أن يتخلف وأما القضاء فلا يرد.

٩١

وعن علي عليه‌السلام بطرق مختلفة كما في التوحيد ، بإسناده عن ابن نباتة : أن أمير المؤمنين عليه‌السلام عدل من عند حائط مائل إلى حائط آخر ـ فقيل له : يا أمير المؤمنين تفر من قضاء الله؟ قال : أفر من قضاء الله إلى قدر الله عز وجل.

وأما النوع الأول من الموجودات الذي قدره حد وجوده من إمكانه وحاجته فحسب فالقدر والقضاء فيه واحد ولا يتخلف القدر فيه عن التحقق البتة.

والبحث العقلي يؤيد ما تقدم فإن الأمور التي لها علل مركبة من فاعل ومادة وشرائط ومعدات وموانع فإن لكل منها تأثيرا في الشيء بما يسانخه فهو كالقالب الذي يقلب به الشيء فيأخذ لنفسه هيئة قالبة وخصوصيته وهذا هو قدره ثم العلة التامة إذا اجتمعت أجزاؤه أعطته ضرورة الوجود ، وهذه هي القضاء الذي لا مرد له ، وقد تقدم في تفسير أول سورة الإسراء كلام في القضاء لا يخلو من نفع في هذا البحث ، فليرجع إليه.

( سورة الرحمن مكية ، أو مدنية وهي ثمان وسبعون آية )

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (٤) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (٧) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (٨) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (٩) وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (١٠) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (١١) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (١٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما

٩٢

تُكَذِّبانِ (١٦) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٨) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (١٩) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (٢٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢١) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (٢٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٣) وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٢٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٥) كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٨) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٠).

( بيان )

تتضمن السورة الإشارة إلى خلقه تعالى العالم بأجزائه من سماء وأرض وبر وبحر وإنس وجن ونظم أجزائه نظما ينتفع به الثقلان الإنس والجن في حياتهما وينقسم بذلك العالم إلى نشأتين : نشأة دنيا ستفنى بفناء أهلها ، ونشأة أخرى باقية تتميز فيها السعادة من الشقاء والنعمة من النقمة.

وبذلك يظهر أن دار الوجود من دنياها وآخرتها ذات نظام واحد مؤتلف الأجزاء مرتبط الأبعاض قويم الأركان يصلح بعضه ببعض ويتم شطر منه بشطر.

فما فيه من عين وأثر ، من نعمه تعالى وآلائه ، ولذا يستفهمهم مرة بعد مرة استفهاما مشوبا بعتاب بقوله : « فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ » فقد كررت الآية في السورة إحدى وثلاثين مرة.

٩٣

ولذلك افتتحت السورة بذكره تعالى بصفة رحمته العامة الشاملة للمؤمن والكافر والدنيا والآخرة واختتمت بالثناء عليه بقوله : « تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ ».

والسورة يحتمل كونها مكية أو مدنية وإن كان سياقها بالسياق المكي أشبه وهي السورة الوحيدة في القرآن افتتحت بعد البسملة باسم من أسماء الله عز اسمه ، وفي المجمع ، عن موسى بن جعفر عن آبائه عليهم‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : لكل شيء عروس ـ وعروس القرآن سورة الرحمن جل ذكره ، ورواه في الدر المنثور ، عن البيهقي عن علي عليه‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قوله تعالى : « الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ » الرحمن كما تقدم في تفسير سورة الفاتحة صيغة مبالغة تدل على كثرة الرحمة ببذل النعم ولذلك ناسب أن يعم ما يناله المؤمن والكافر من نعم الدنيا وما يناله المؤمن من نعم الآخرة ، ولعمومه ناسب أن يصدر به الكلام لاشتمال الكلام في السورة على أنواع النعم الدنيوية والأخروية التي ينتظم بها عالم الثقلين الإنس والجن.

ذكروا أن الرحمن من الأسماء الخاصة به تعالى لا يسمى به غيره بخلاف مثل الرحيم والراحم.

وقوله : « عَلَّمَ الْقُرْآنَ » شروع في عد النعم الإلهية ، ولما كان القرآن أعظم النعم قدرا وشأنا وأرفعها مكانا ـ لأنه كلام الله الذي يخط صراطه المستقيم ويتضمن بيان نهج السعادة التي هي غاية ما يأمله آمل ونهاية ما يسأله سائل ـ قدم ذكر تعليمه على سائر النعم حتى على خلق الإنس والجن اللذين نزل القرآن لأجل تعليمهما.

وحذف مفعول « عَلَّمَ » الأول وهو الإنسان أو الإنس والجن والتقدير علم الإنسان القرآن أو علم الإنس والجن القرآن ، وهذا الاحتمال الثاني وإن لم يتعرضوا له لكنه أقرب الاحتمالين لأن السورة تخاطب في تضاعيف آياتها الجن كالإنس ولو لا شمول التعليم في قوله : « عَلَّمَ الْقُرْآنَ » لهم لم يتم ذلك.

وقيل : المفعول المحذوف محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أو جبرئيل والأنسب للسياق ما تقدم.

قوله تعالى : « خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ » ذكر خلق الإنسان وسيذكر خصوصية خلقه بقوله : « خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ » ، والإنسان من أعجب مخلوقات الله تعالى أو هو أعجبها يظهر ذلك بقياس وجوده إلى وجود غيره من المخلوقات والتأمل فيما

٩٤

خط له من طريق الكمال في ظاهره وباطنه ودنياه وآخرته ، قال تعالى : « لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ » التين : ٦.

وقوله : « عَلَّمَهُ الْبَيانَ » البيان الكشف عن الشيء والمراد به الكلام الكاشف عما في الضمير ، وهو من أعجب النعم وتعليمه للإنسان من عظيم العناية الإلهية المتعلقة به فليس الكلام مجرد إيجاد صوت ما باستخدام الرئة وقصبتها والحلقوم ولا ما يحصل من التنوع في الصوت الخارج من الحلقوم باعتماده على مخارج الحروف المختلفة في الفم.

بل يجعل الإنسان بإلهام باطني من الله سبحانه الواحد من هذه الأصوات المعتمدة على مخرج من مخارج الفم المسمى حرفا أو المركب من عدة من الحروف علامة مشيرة إلى مفهوم من المفاهيم يمثل به ما يغيب عن حس السامع وإدراكه فيقدر به على إحضار أي وضع من أوضاع العالم المشهود وإن جل ما جل أو دق ما دق من موجود أو معدوم ماض أو مستقبل ، ثم على إحضار أي وضع من أوضاع المعاني غير المحسوسة التي ينالها الإنسان بفكره ولا سبيل للحس إليها يحضرها جميعا لسامعه ويمثلها لحسه كأنه يشخصها له بأعيانها.

ولا يتم للإنسان اجتماعه المدني ولا تقدم في حياته هذا التقدم الباهر إلا بتنبهه لوضع الكلام وفتحه بذلك باب التفهيم والتفهم ، ولو لا ذلك لكان هو والحيوان العجم سواء في جمود الحياة وركودها.

ومن أقوى الدليل على أن اهتداء الإنسان إلى البيان بإلهام إلهي له أصل في التكوين اختلاف اللغات باختلاف الأمم والطوائف في الخصائص الروحية والأخلاق النفسانية وبحسب اختلاف المناطق الطبيعية التي يعيشون فيها ، قال تعالى : « وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ » الروم : ٢٢.

وليس المراد بقوله : « عَلَّمَهُ الْبَيانَ » أن الله سبحانه وضع اللغات ثم علمها الإنسان بالوحي إلى نبي من الأنبياء أو بالإلهام فإن الإنسان بوقوعه في ظرف الاجتماع مندفع بالطبع إلى اعتبار التفهيم والتفهم بالإشارات والأصوات وهو التكلم والنطق لا يتم له الاجتماع المدني دون ذلك.

على أن فعله تعالى هو التكوين والإيجاد والرابطة بين اللفظ ومعناه اللغوي وضعية اعتبارية لا حقيقية خارجية بل الله سبحانه خلق الإنسان وفطره فطرة تؤديه إلى الاجتماع المدني ثم إلى وضع اللغة بجعل اللفظ علامة للمعنى بحيث إذا ألقي اللفظ إلى سامعه فكأنما

٩٥

يلقى إليه المعنى ثم إلى وضع الخط بجعل الأشكال المخصوصة علائم للألفاظ فالخط مكمل لغرض الكلام ، وهو يمثل الكلام كما أن الكلام يمثل المعنى.

وبالجملة البيان من أعظم النعم والآلاء الربانية التي تحفظ لنوع الإنسان موقفه الإنساني وتهديه إلى كل خير.

هذا ما هو الظاهر المتبادر من الآيتين ، ولهم في معناهما أقوال : فقيل : الإنسان هو آدم عليه‌السلام والبيان الأسماء التي علمه الله إياها ، وقيل : الإنسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله والبيان القرآن أو تعليمه المؤمنين القرآن ، وقيل : البيان الخير والشر علمهما الإنسان ، وقيل : سبيل الهدى وسبيل الضلال إلى غير ذلك وهي أقوال بعيدة عن الفهم.

قوله تعالى : « الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ » الحسبان مصدر بمعنى الحساب ، والشمس مبتدأ والقمر معطوف عليه ، وبحسبان خبره ، والجملة خبر بعد خبر لقوله : « الرَّحْمنُ » والتقدير الشمس والقمر يجريان بحساب منه على ما قدر لهما من نوع الجري.

قوله تعالى : « وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ » قالوا : المراد بالنجم ما ينجم من النبات ويطلع من الأرض ولا ساق له ، والشجر ما له ساق من النبات ، وهو معنى حسن يؤيده الجمع والقرن بين النجم والشجر وإن كان ربما أوهم سبق ذكر الشمس والقمر كون المراد بالنجم هو الكواكب.

وسجود النجم والشجر انقيادهما للأمر الإلهي بالنشوء والنمو على حسب ما قدر لهما كما قيل ، وأدق منه أنهما يضربان في التراب بأصولهما وأعراقهما لجذب ما يحتاجان إليه من المواد العنصرية التي يغتذيان بها وهذا السقوط على الأرض إظهارا للحاجة إلى المبدأ الذي يقضي حاجتهما ـ وهو في الحقيقة الله الذي يربيهما كذلك ـ سجود منهما له تعالى.

والكلام في إعراب قوله : « وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ » وهو معطوف على الآية السابقة كالكلام في قوله : « الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ » والتقدير والنجم والشجر يسجدان له.

قال في الكشاف : فإن قلت : كيف اتصلت هاتان الجملتان بالرحمن يعني قوله : « الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ـ إلى قوله ـ يَسْجُدانِ »؟ قلت : استغني فيهما عن الوصل اللفظي بالوصل المعنوي لما علم أن الحسبان حسبانه والسجود له لا لغيره.

وقال في وجه إخلاء الآيات السابقة خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ ـ عن العاطف ما محصله أن هذه الجمل الأول واردة على سنن التعديد ليكون كل

٩٦

واحدة من الجمل مستقلة في تفريع الذين أنكروا الرحمن وآلاءه كما يبكت منكر أيادي المنعم عليه من الناس بتعديدها عليه فيقال : زيد أغناك بعد فقر ، أعزك بعد ذل ، كثرك بعد قلة ، فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد فما تنكر من إحسانه؟.

ثم رد الكلام إلى منهاجه بعد التبكيت في وصل ما يحب وصله للتناسب والتقارب بالعاطف فقيل : « وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ وَالسَّماءَ رَفَعَها » إلخ ، انتهى.

قوله تعالى : « وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ » المراد بالسماء إن كان جهة العلو فرفعها خلقها مرفوعة لا رفعها بعد خلقها وإن كان ما في جهة العلو من الأجرام فرفعها تقدير محالها بحيث تكون مرفوعة بالنسبة إلى الأرض بالفتق بعد الرتق كما قال تعالى : « أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما » الأنبياء : ٣٠ ، والرفع على أي حال رفع حسي.

وإن كان المراد ما يشمل منازل الملائكة الكرام ومصادر الأمر الإلهي والوحي فالرفع معنوي أو ما يشمل الحسي والمعنوي.

وقوله : « وَوَضَعَ الْمِيزانَ » المراد بالميزان كل ما يوزن أي يقدر به الشيء أعم من أن يكون عقيدة أو قولا أو فعلا ومن مصاديقه الميزان الذي يوزن به الأثقال ، قال تعالى : « لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ » الحديد : ٢٥.

فظاهره مطلق ما يميز به الحق من الباطل والصدق من الكذب والعدل من الظلم والفضيلة من الرذيلة على ما هو شأن الرسول أن يأتي به من عند ربه.

وقيل : المراد بالميزان العدل أي وضع الله العدل بينكم لتسووا به بين الأشياء بإعطاء كل ذي حق حقه.

وقيل : المراد الميزان الذي يوزن به الأثقال والمعنى الأول أوسع وأشمل.

قوله تعالى : « أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ » الظاهر أن المراد بالميزان الميزان المعروف وهو ميزان الأثقال ، فقوله : « أَلَّا تَطْغَوْا » إلخ على تقدير أن يراد بالميزان في الآية السابقة أيضا ميزان الأثقال ، وهو بيان وضع الميزان ، والمعنى أن معنى وضعنا الميزان بينكم هو أن اعدلوا في وزن الأثقال ولا تطغوا فيه.

٩٧

وعلى تقدير أن يراد به مطلق التقدير الحق أو العدل هو استخراج حكم جزئي من حكم كلي ، والمعنى أن لازم ما وضعناه من التقدير الحق أو العدل بينكم هو أن تزنوا الأثقال بالقسط ولا تطغوا فيه.

وعلى أي حال الظاهر أن « إن » في قوله : « أَلَّا تَطْغَوْا » تفسيرية ، و « لا تطغوا » نهي عن الطغيان في الميزان و « أَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ » أمر معطوف عليه ، والقسط العدل و « لا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ » نهي آخر مبين لقوله : « أَلَّا تَطْغَوْا إلخ ، ومؤكد له. والإخسار في الميزان التطفيف به بزيادة أو نقيصة بحيث يخسر البائع أو المشتري.

وأما جعل « الْمِيزانِ » ناصبة و « أَلَّا تَطْغَوْا » نفيا ، والتقدير : لئلا تطغوا ، فيحتاج إلى تكلف توجيه في عطف الإنشاء على الإخبار في قوله : « وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ » إلخ.

قوله تعالى : « وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ » الأنام الناس ، وقيل : الإنس والجن ، وقيل : كل ما يدب على الأرض ، وفي التعبير في الأرض بالوضع قبال التعبير في السماء بالرفع لطف ظاهر.

قوله تعالى : « فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ » المراد بالفاكهة الثمرة غير التمر ، والأكمام جمع كم بضم الكاف وكسرها وعاء التمر وهو الطلع ، وأما كم القميص فهو مضموم الكاف لا غير كما قيل.

قوله تعالى : « وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ » معطوف على قوله : « فاكِهَةٌ » أي وفيها الحب والريحان ، والحب ما يقتات به كالحنطة والشعير والأرز ، والعصف ما هو كالغلاف للحب وهو قشره ، وفسر بورق الزرع مطلقا وبورق الزرع اليابس ، والريحان النبات الطيب الرائحة.

قوله تعالى : « فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ » الآلاء جمع إلى بمعنى النعمة.

والخطاب في الآية لعامة الثقلين : الجن والإنس ويدل على ذلك توجيه الخطاب إليهما صريحا فيما سيأتي من قوله : « سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ » وقوله : « يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ » إلخ ، وقوله : « يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ » إلخ ، فلا يصغي إلى قول من قال : إن الخطاب في الآية للذكر والأنثى من بني آدم ، ولا إلى قول من قال : إنه من خطاب الواحد بخطاب الاثنين ويفيد تكرر الخطاب نحو يا شرطي اضربا عنقه أي اضرب عنقه اضرب عنقه.

وتوجيه الخطاب إلى عالمي الجن والإنس هو المصحح لعد ما سنذكره من شدائد يوم

٩٨

القيامة وعقوبات المجرمين من أهل النار من آلائه ونعمه تعالى ، فإن سوق المسيئين وأهل الشقوة في نظام الكون إلى ما تقتضيه شقوتهم ومجازاتهم بتبعات أعمالهم من لوازم صلاح النظام العام الجاري في الكل الحاكم على الجميع فذلك نعمة بالقياس إلى الكل وإن كان نقمة بالنسبة إلى طائفة خاصة منهم وهم المجرمون وهذا نظير ما نجده في السنن والقوانين الجارية في المجتمعات فإن التشديد على أهل البغي والفساد مما يتوقف عليه حياة المجتمع وبقاؤه وليس يتنعم به أهل الصلاح خاصة كما أن إثابة أهل الصلاح بالثناء الجميل والأجر الحسن كذلك.

فما في النار من عذاب وعقاب لأهلها وما في الجنة من كرامة وثواب آلاء ونعم على معشر الجن والإنس كما أن الشمس والقمر والسماء المرفوعة والأرض الموضوعة والنجم والشجر وغيرها آلاء ونعم على أهل الدنيا.

ويظهر من الآية أن للجن تنعما في الجملة بهذه النعم المعدودة في خلال الآيات كما للإنس وإلا لم يصح إشراكهم مع الإنس في التوبيخ.

قوله تعالى : « خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ » الصلصال الطين اليابس الذي يتردد منه الصوت إذا وطأ ، والفخار الخزف.

والمراد بالإنسان نوعه والمراد بخلقه من صلصال كالفخار انتهاء خلقه إليه ، وقيل : المراد بالإنسان آدم عليه‌السلام.

قوله تعالى : « وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ » المارج هو اللهب الخالص من النار ، وقيل : اللهب المختلط بسواد ، والكلام في الجان كالكلام في الإنسان فالمراد به نوع الجن ، وعدهم مخلوقين من النار باعتبار انتهاء خلقتهم إليها ، وقيل : المراد بالجان أبو الجن.

قوله تعالى : « رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ » المراد بالمشرقين مشرق الصيف ومشرق الشتاء ، وبذلك تحصل الفصول الأربعة وتنتظم الأرزاق ، وقيل : المراد بالمشرقين مشرق الشمس والقمر وبالمغربين مغرباهما.

قوله تعالى : « مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ » المرج الخلط والمرج الإرسال ، يقال : مرجه أي خلطه ومرجه أي أرسله والمعنى الأول أظهر ، والظاهر أن المراد بالبحرين العذب الفرات والملح الأجاج ، قال تعالى : « وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً

٩٩

تَلْبَسُونَها » فاطر : ١٢.

وأمثل ما قيل في الآيتين أن المراد بالبحرين جنس البحر المالح الذي يغمر قريبا من ثلاثة أرباع الكرة الأرضية من البحار المحيطة ، وغير المحيطة والبحر العذب المدخر في مخازن الأرض التي تنفجر الأرض عنها فتجري العيون والأنهار الكبيرة فتصب في البحر المالح ، ولا يزالان يلتقيان ، وبينهما حاجز وهو نفس المخازن الأرضية والمجاري يحجز البحر المالح أن يبغي على البحر العذب فيغشيه ويبدله بحرا مالحا وتبطل بذلك الحياة ، ويحجز البحر العذب أن يزيد في الانصباب على البحر المالح فيبدله ماء عذبا فتبطل بذلك مصلحة ملوحته من تطهير الهواء وغيره.

ولا يزال البحر المالح يمد البحر العذب بالأمطار التي تأخذها منه السحب فتمطر على الأرض وتدخرها المخازن الأرضية والبحر العذب يمد البحر المالح بالانصباب عليه.

فمعنى الآيتين ـ والله أعلم ـ خلط البحرين العذب الفرات والملح الأجاج حال كونهما مستمرين في تلاقيهما بينهما حاجز لا يطغيان بأن يغمر أحدهما الآخر فيذهب بصفته من العذوبة والملوحة فيختل نظام الحياة والبقاء.

قوله تعالى : « يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ » أي من البحرين العذب والمالح جميعا وذلك من فوائدهما التي ينتفع بها الإنسان ، وقد تقدم فيه الكلام في تفسير قوله تعالى : « وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ » الآية ، فاطر : ١٢.

قوله تعالى : « وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ » الجواري جمع جارية وهي السفينة ، والمنشئات اسم مفعول من الإنشاء وهو إحداث الشيء وتربيته ، والأعلام جمع علم بفتحتين وهو الجبل.

وعد الجواري مملوكة له تعالى مع كونها من صنع الإنسان لأن الأسباب العاملة في إنشائها من خشب وحديد وسائر أجزائها التي تتركب منها والإنسان الذي يركبها وشعوره وفكره وإرادته كل ذلك مخلوق له ومملوك فما ينتجه عملها من ملكه.

فهو تعالى المنعم بها للإنسان ألهمه طريق صنعها والمنافع المترتبة عليها وسبيل الانتفاع بمنافعها الجمة.

قوله تعالى : « كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ » ضمير « عَلَيْها » للأرض أي كل ذي شعور وعقل على الأرض سيفنى وفيه تسجيل الزوال والدثور على الثقلين.

١٠٠