الميزان في تفسير القرآن - ج ١٩

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ١٩

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٥
الصفحات: ٤٠٧

والتسنيد نصب الشيء معتمدا على شيء آخر كحائط ونحوه.

والجملة مسوقة لذمهم وهي متممة لسابقتها ، والمراد أن لهم أجساما حسنة معجبة وقولا رائعا ذا حلاوة لكنهم كالخشب المسندة أشباح بلا أرواح لا خير فيها ولا فائدة تعتريها لكونهم لا يفقهون.

وقوله : « يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ » ذم آخر لهم أي إنهم لإبطانهم الكفر وكتمانهم ذلك من المؤمنين يعيشون على خوف ووجل ووحشة يخافون ظهور أمرهم واطلاع الناس على باطنهم ويظنون أن كل صيحة سمعوها فهي كائنة عليهم وأنهم المقصودون بها.

وقوله : « هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ » أي هم كاملون في العداوة بالغون فيها فإن أعدى أعدائك من يعاديك وأنت تحسبه صديقك.

وقوله : « قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ » دعاء عليهم بالقتل وهو أشد شدائد الدنيا وكان استعمال المقاتلة دون القتل للدلالة على الشدة.

وقيل : المراد به الطرد والإبعاد من الرحمة ، وقيل : المراد به الإخبار دون الدعاء ، والمعنى : أن شمول اللعن والطرد لهم مقرر ثابت ، وقيل : الكلمة مفيدة للتعجب كما يقال :

قاتله الله ما أشعره ، والظاهر من السياق ما تقدم من الوجه.

وقوله : « أَنَّى يُؤْفَكُونَ » مسوق للتعجب أي كيف يصرفون عن الحق؟ وقيل : هو توبيخ وتقريع وليس باستفهام.

قوله تعالى : « وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ » إلخ ، التلوية تفعيل من لوى يلوي ليا بمعنى مال.

والمعنى : وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله ـ وذلك عند ما ظهر منهم بعض خياناتهم وفسوقهم ـ أمالوا رءوسهم إعراضا واستكبارا ورآهم الرائي يعرضون عن القائل وهم مستكبرون عن إجابة قوله.

قوله تعالى : « سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ » إلخ ، أي يتساوى الاستغفار وعدمه في حقهم وتساوي الشيء وعدمه كناية عن أنه لا يفيد الفائدة المطلوبة منه ، فالمعنى : لا يفيدهم استغفارك ولا ينفعهم.

وقوله : « لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ » دفع دخل كان سائلا يسأل : لما ذا يتساوى الاستغفار لهم وعدمه؟ فأجيب : لن يغفر الله لهم.

٢٨١

وقوله : « إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ » تعليل لقوله : « لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ » ، والمعنى : لن يغفر الله لهم لأن مغفرته لهم هداية لهم إلى السعادة والجنة وهم فاسقون خارجون عن زي العبودية لإبطانهم الكفر والطبع على قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين.

قوله تعالى : « هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا » إلخ ، الانفضاض التفرق ، والمعنى : المنافقون هم الذين يقولون : لا تنفقوا أموالكم على المؤمنين الفقراء الذين لازموا رسول الله واجتمعوا عنده لنصرته وإنفاذ أمره وإجراء مقاصده حتى يتفرقوا عنه فلا يتحكم علينا.

وقوله : « وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ » جواب عن قولهم : لا تُنْفِقُوا إلخ ، أي إن الدين دين الله ولا حاجة له إلى إنفاقهم فله خزائن السماوات والأرض ينفق منها ويرزق من يشاء كيف يشاء فلو شاء لأغنى الفقراء من المؤمنين لكنه تعالى يختار ما هو الأصلح فيمتحنهم بالفقر ويتعبدهم بالصبر ليوجرهم أجرا كريما ويهديهم صراطا مستقيما والمنافقون في جهل من ذلك.

وهذا معنى قوله : « وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ » أي لا يفقهون وجه الحكمة في ذلك واحتمل أن يكون المعنى أن المنافقين لا يفقهون أن خزائن العالم بيد الله وهو الرازق لا رازق غيره فلو شاء لأغناهم لكنهم يحسبون أن الغنى والفقر بيد الأسباب فلو لم ينفقوا على أولئك الفقراء من المؤمنين لم يجدوا رازقا يرزقهم.

قوله تعالى : « يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ » القائل هو عبد الله بن أبي بن سلول ، وكذا قائل الجملة السابقة : لا تنفقوا إلخ ، وإنما عبر بصيغة الجمع تشريكا لأصحابه الراضين بقوله معه.

ومراده بالأعز نفسه وبالأذل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويريد بهذا القول تهديد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بإخراجه من المدينة بعد المراجعة إليها وقد رد الله عليه وعلى من يشاركه في نفاقه بقوله : « وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ » فقصر العزة في نفسه ورسوله والمؤمنين فلا يبقى لغيرهم إلا الذلة ونفى عن المنافقين العلم فلم يبق لهم إلا الذلة والجهالة.

٢٨٢

( بحث روائي )

في المجمع : نزلت الآيات في عبد الله بن أبي المنافق وأصحابه وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بلغه أن بني المصطلق يجتمعون لحربه وقائدهم الحارث بن أبي ضرار أبو جويرية زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فلما سمع بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل فتزاحف الناس واقتتلوا فهزم الله بني المصطلق وقتل منهم من قتل ونفل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أبناءهم ونساءهم وأموالهم.

فبينا الناس على ذلك الماء إذ وردت واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له جهجاه بن سعيد يقود له فرسه فازدحم جهجاه وسنان الجهني من بني عوف بن خزرج على الماء فاقتتلا فصرخ الجهني يا معشر الأنصار وصرخ الغفاري يا معشر المهاجرين فأعان الغفاري رجل من المهاجرين يقال له : جعال وكان فقيرا فقال عبد الله بن أبي لجعال : إنك لهتاك فقال : وما يمنعني أن أفعل ذلك؟ واشتد لسان جعال على عبد الله. فقال عبد الله : والذي يحلف به لأزرنك ويهمك غير هذا.

وغضب ابن أبي وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم حديث السن فقال ابن أبي قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا ، والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال القائل : سمن كلبك يأكلك أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل يعني بالأعز نفسه وبالأذل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم أقبل على من حضره من قومه فقال : هذا ما جعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم أما والله لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم ولأوشكوا أن يتحولوا من بلادكم ويلحقوا بعشائرهم ومواليهم.

فقال زيد بن أرقم : أنت والله الذليل القليل المبغض في قومك ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله في عز من الرحمن ومودة من المسلمين والله لا أحبك بعد كلامك هذا فقال عبد الله : اسكت فإنما كنت ألعب.

فمشى زيد بن أرقم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وذلك بعد فراغه من الغزو فأخبره الخبر فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالرحيل وأرسل إلى عبد الله فأتاه فقال : ما هذا الذي بلغني عنك؟ فقال عبد الله والذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئا من ذلك قط وإن زيدا

٢٨٣

لكاذب ، وقال من حضر من الأنصار : يا رسول الله ـ شيخنا وكبيرنا لا تصدق عليه كلام غلام من غلمان الأنصار ـ عسى أن يكون هذا الغلام وهم في حديثه.

فعذره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وفشت الملامة من الأنصار لزيد.

ولما استقل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فسار لقيه أسيد بن الحضير فحياه بتحية النبوة ـ ثم قال : يا رسول الله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح فيها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أوما بلغك ما قال صاحبكم؟ زعم أنه إن رجع إلى المدينة ـ أخرج الأعز منها الأذل. فقال أسيد : فأنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئت. هو والله الذليل وأنت العزيز. ثم قال : يا رسول الله ارفق به ـ فو الله لقد جاء الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه ـ وإنه ليرى أنك قد استلبته ملكا.

وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي ما كان من أمر أبيه فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا رسول الله إنه قد بلغني أنك تريد قتل أبي فإن كنت لا بد فاعلا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه فو الله لقد علمت الخزرج ما كان بها رجل أبر بوالديه مني وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي أن يمشي في الناس فأقتله فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : بل ترفق به وتحسن صحبته ما بقي معنا.

قالوا : وسار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالناس يومهم ذلك ـ حتى أمسى وليلتهم حتى أصبح وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس ثم نزل بالناس فلم يكن إلا أن وجدوا مس الأرض وقعوا نياما ، إنما فعل ذلك ليشغل الناس عن الحديث الذي خرج من عبد الله بن أبي.

ثم راح بالناس حتى نزل على ماء بالحجاز ـ فويق البقيع يقال له : بقعاء ـ فهاجت ريح شديدة آذتهم وتخوفوها ـ وضلت ناقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وذلك ليلا ـ فقال : مات اليوم منافق عظيم النفاق بالمدينة ـ قيل : من هو؟ قال : رفاعة. فقال رجل من المنافقين : كيف يزعم أنه يعلم الغيب ـ ولا يعلم مكان ناقته؟ ألا يخبره الذي يأتيه بالوحي؟ فأتاه جبريل فأخبره بقول المنافق وبمكان الناقة ، وأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك أصحابه وقال : ما أزعم أني أعلم الغيب وما أعلمه ولكن الله تعالى أخبرني بقول المنافق وبمكان ناقتي. هي في الشعب فإذا هي كما قال فجاءوا بها وآمن ذلك المنافق.

فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد في التابوت أحد بني قينقاع وكان من عظماء اليهود مات ذلك اليوم.

٢٨٤

قال زيد بن أرقم : فلما وافى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المدينة ـ جلست في البيت لما بي من الهم والحياء ـ فنزلت سورة المنافقون في تصديق زيد ـ وتكذيب عبد الله بن أبي. ثم أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأذن زيد ـ فرفعه عن الرحل ثم قال : يا غلام صدق فوك ، ووعت أذناك ، ووعى قلبك ، وقد أنزل الله فيما قلت قرآنا.

وكان عبد الله بن أبي بقرب المدينة ـ فلما أراد أن يدخلها ـ جاء ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي ـ حتى أناخ على مجامع طرق المدينة ـ فقال : ما لك ويلك؟ فقال : والله لا تدخلها إلا بإذن رسول الله ـ ولتعلمن اليوم من الأعز؟ ومن الأذل؟ فشكا عبد الله ابنه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فأرسل إليه أن خل عنه يدخل فقال : أما إذا جاء أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فنعم فدخل ـ فلم يلبث إلا أياما قلائل حتى اشتكى ومات.

فلما نزلت هذه الآيات وبان كذب عبد الله ـ قيل له : نزل فيك آي شداد ـ فاذهب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يستغفر لك ـ فلوى رأسه ثم قال : أمرتموني أن أؤمن فقد آمنت ـ وأمرتموني أن أعطي زكاة مالي فقد أعطيت ـ فما بقي إلا أن أسجد لمحمد ـ فنزل : « وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ ـ إلى قوله ـ لا يَعْلَمُونَ ».

أقول : ما أورده من القصة مأخوذ من روايات مختلفة مروية عن زيد بن أرقم وابن عباس وعكرمة ومحمد بن سيرين وابن إسحاق وغيرهم دخل حديث بعضهم في بعض.

وفي تفسير القمي : في قوله تعالى : « إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ » الآية ـ قال : قال : نزلت في غزوة المريسيع ـ وهي غزوة بني المصطلق في سنة خمس من الهجرة ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خرج إليها ـ فلما رجع منها نزل على بئر وكان الماء قليلا فيها.

وكان أنس بن سيار حليف الأنصار ، وكان جهجاه بن سعيد الغفاري أجيرا لعمر بن الخطاب فاجتمعوا على البئر فتعلق دلو سيار بدلو جهجاه ـ فقال سيار : دلوي وقال جهجاه : دلوي فضرب جهجاه على وجه سيار فسال منه الدم ـ فنادى سيار بالخزرج ونادى جهجاه بقريش ـ وأخذ الناس السلاح وكاد أن تقع الفتنة.

فسمع عبد الله بن أبي النداء فقال : ما هذا؟ فأخبروه بالخبر فغضب غضبا شديدا ـ ثم قال : قد كنت كارها لهذا المسير إني لأذل العرب ـ ما ظننت أني أبقى إلى أن أسمع مثل هذا ـ فلا يكن عندي تغيير.

ثم أقبل على أصحابه فقال : هذا عملكم ـ أنزلتموهم منازلكم وواسيتموهم بأموالكم ـ

٢٨٥

ووقيتموهم بأنفسكم وأبرزتم نحوركم للقتل فأرمل نساؤكم وأيتم صبيانكم ولو أخرجتموهم لكانوا عيالا على غيركم. ثم قال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.

وكان في القوم زيد بن أرقم وكان غلاما قد راهق ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في ظل شجرة في وقت الهاجرة ـ وعنده قوم من أصحابه من المهاجرين والأنصار ـ فجاء زيد فأخبره بما قال عبد الله بن أبي ـ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لعلك وهمت يا غلام ، قال : لا والله ما وهمت. قال : فلعلك غضبت عليه؟ قال : لا والله ما غضبت عليه ، قال : فلعله سفه عليك ، فقال : لا والله.

فقال رسول الله لشقران مولاه : أحدج فأحدج راحلته وركب وتسامع الناس بذلك فقالوا : ما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليرحل في مثل هذا الوقت ، فرحل الناس ولحقه سعد بن عبادة فقال : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته ، فقال : وعليك السلام ، فقال : ما كنت لترحل في مثل هذا الوقت ، فقال : أوما سمعت قولا قال صاحبكم؟ قال : وأي صاحب لنا غيرك يا رسول الله؟ قال : عبد الله بن أبي زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، فقال : يا رسول الله فإنك وأصحابك الأعز ـ وهو وأصحابه الأذل.

فسار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يومه كله لا يكلمه أحد ـ فأقبلت الخزرج على عبد الله بن أبي يعذلونه ـ فحلف عبد الله أنه لم يقل شيئا من ذلك ـ فقالوا : فقم بنا إلى رسول الله ـ حتى نعتذر إليه فلوى عنقه.

فلما جن الليل سار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليله كله فلم ينزلوا إلا للصلاة فلما كان من الغد نزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ونزل أصحابه وقد أمهدهم (١) الأرض من السفر الذي أصابهم فجاء عبد الله بن أبي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فحلف عبد الله له أنه لم يقل ذلك ، وأنه يشهد أن لا إله إلا الله وأنك لرسول الله وإن زيدا قد كذب علي ، فقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله منه وأقبلت الخزرج على زيد بن أرقم يشتمونه ويقولون له : كذبت على عبد الله سيدنا.

فلما رحل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان زيد معه يقول : اللهم إنك لتعلم أني لم أكذب على عبد الله بن أبي فما سار إلا قليلا حتى أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما كان يأخذه من البرحاء (٢)

__________________

(١) أمهدهم الأرض : أي صارت لهم مهادا فناموا.

(٢) البرحاء : حالة شبه الإغماء كانت تأخذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عند نزول الوحي.

٢٨٦

عند نزول الوحي فثقل حتى كادت ناقته أن تبرك من ثقل الوحي فسري عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يسكب العرق عن جبهته ثم أخذ بأذن زيد بن أرقم فرفعه من الرحل ثم قال : يا غلام صدق قولك ووعى قلبك وأنزل الله فيما قلت قرآنا.

فلما نزل جمع أصحابه وقرأ عليهم سورة المنافقين : « بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ ـ إلى قوله ـ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ » ففضح الله عبد الله بن أبي.

وفي تفسير القمي أيضا ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه‌السلام في قوله : « كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ » يقول : لا يسمعون ولا يعقلون « يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ » يعني كل صوت ـ « هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ».

فلما أنبأ الله رسوله خبرهم مشى إليهم عشائرهم ـ وقالوا افتضحتم ويلكم ـ فأتوا رسول الله يستغفر لكم فلووا رءوسهم وزهدوا في الاستغفار ، يقول الله : « وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ».

وفي الكافي ، بإسناده إلى سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إن الله تبارك وتعالى فوض إلى المؤمن أموره كلها ، ولم يفوض إليه أن يذل نفسه ـ ألم تر قول الله سبحانه وتعالى هاهنا ـ « لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ » والمؤمن ينبغي أن يكون عزيزا ولا يكون ذليلا.

أقول : وروي هذا المعنى بإسناده عن داود الرقي والحسن الأحمسي وبطريق آخر عن سماعة.

وفيه ، بإسناده عن مفضل بن عمر قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه. قلت : بما يذل نفسه؟ قال : يدخل فيما يعتذر منه.

( كلام حول النفاق في صدر الإسلام )

يهتم القرآن بأمر المنافقين اهتماما بالغا ويكر عليهم كرة عنيفة بذكر مساوي أخلاقهم وأكاذيبهم وخدائعهم ودسائسهم والفتن التي أقاموها على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى المسلمين ، وقد تكرر ذكرهم في السور القرآنية كسورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال والتوبة والعنكبوت والأحزاب والفتح والحديد والحشر والمنافقون والتحريم.

وقد أوعدهم الله في كلامه أشد الوعيد ففي الدنيا بالطبع على قلوبهم وجعل الغشاوة

٢٨٧

على سمعهم وعلى أبصارهم وإذهاب نورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون وفي الآخرة بجعلهم في الدرك الأسفل من النار.

وليس ذلك إلا لشدة المصائب التي أصابت الإسلام والمسلمين من كيدهم ومكرهم وأنواع دسائسهم فلم ينل المشركون واليهود والنصارى من دين الله ما نالوه ، وناهيك فيهم قوله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله يشير إليهم : « هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ » المنافقون : ٤.

وقد ظهر آثار دسائسهم ومكائدهم أوائل ما هاجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة فورد ذكرهم في سورة البقرة وقد نزلت ـ على ما قيل ـ على رأس ستة أشهر من الهجرة ثم في السور الأخرى النازلة بعد بالإشارة إلى أمور من دسائسهم وفنون من مكائدهم كانسلالهم من الجند الإسلامي يوم أحد وهم ثلثهم تقريبا ، وعقدهم الحلف مع اليهود واستنهاضهم على المسلمين وبنائهم مسجد الضرار وإشاعتهم حديث الإفك ، وإثارتهم الفتنة في قصة السقاية وقصة العقبة إلى غير ذلك مما تشير إليه الآيات حتى بلغ أمرهم في الإفساد وتقليب الأمور على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى حيث هددهم الله بمثل قوله : « لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً » الأحزاب : ٦١.

وقد استفاضت الأخبار وتكاثرت في أن عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه من المنافقين وهم الذين كانوا يقلبون الأمور على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويتربصون به الدوائر وكانوا معروفين عند المؤمنين يقربون من ثلث القوم وهم الذين خذلوا المؤمنين يوم أحد فانمازوا منهم ورجعوا إلى المدينة قائلين لو نعلم قتالا لاتبعناكم وهم عبد الله بن أبي وأصحابه.

ومن هنا ذكر بعضهم أن حركة النفاق بدأت بدخول الإسلام المدينة واستمرت إلى قرب وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

هذا ما ذكره جمع منهم لكن التدبر في حوادث زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمعان في الفتن الواقعة بعد الرحلة والاعتناء بطبيعة الاجتماع الفعالة يقضي عليه بالنظر :

أما أولا : فلا دليل مقنعا على عدم تسرب النفاق في متبعي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله المؤمنين بمكة قبل الهجرة ، وقول القائل : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمسلمين بمكة قبل الهجرة لم يكونوا من القوة ونفوذ الأمر وسعة الطول بحيث يهابهم الناس ويتقوهم أو يرجوا منهم خيرا حتى يظهروا لهم الإيمان ظاهرا ويتقربوا منهم بالإسلام ، وهم مضطهدون مفتنون معذبون

٢٨٨

بأيدي صناديد قريش ومشركي مكة المعادين لهم المعاندين للحق بخلاف حال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمدينة بعد الهجرة فإنه صلى‌الله‌عليه‌وآله هاجر إليها وقد كسب أنصارا من الأوس والخزرج واستوثق من أقوياء رجالهم أن يدفعوا عنه كما يدفعون عن أنفسهم وأهليهم ، وقد دخل الإسلام في بيوت عامتهم فكان مستظهرا بهم على العدة القليلة الذين لم يؤمنوا به وبقوا على شركهم ولم يكن يسعهم أن يعلنوا مخالفتهم ويظهروا شركهم فتوقوا الشر بإظهار الإسلام فآمنوا به ظاهرا وهم على كفرهم باطنا فدسوا الدسائس ومكروا ما مكروا.

غير تام ، فما القدرة والقوة المخالفة المهيبة ورجاء الخير بالفعل والاستدرار المعجل علة منحصرة للنفاق حتى يحكم بانتفاء النفاق لانتفائها فكثيرا ما نجد في المجتمعات رجالا يتبعون كل داع ويتجمعون إلى كل ناعق ولا يعبئون بمخالفة القوى المخالفة القاهرة الطاحنة ، ويعيشون على خطر مصرين على ذلك رجاء أن يوفقوا يوما لإجراء مرامهم ويتحكموا على الناس باستقلالهم بإدارة رحى المجتمع والعلو في الأرض وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يذكر في دعوته لقومه أن لو آمنوا به واتبعوه كانوا ملوك الأرض.

فمن الجائز عقلا أن يكون بعض من آمن به يتبعه في ظاهر دينه طمعا في البلوغ بذلك إلى أمنيته وهي التقدم والرئاسة والاستعلاء ، والأثر المترتب على هذا النوع من النفاق ليس هو تقليب الأمور وتربص الدوائر على الإسلام والمسلمين وإفساد المجتمع الديني بل تقويته بما أمكن وتفديته بالمال والجاه لينتظم بذلك الأمور ويتهيأ لاستفادته منه واستدراره لنفع شخصه. نعم يمكر مثل هذا المنافق بالمخالفة والمضادة فيما إذا لاح من الدين مثلا ما يخالف أمنية تقدمه وتسلطه إرجاعا للأمر إلى سبيل ينتهي إلى غرضه الفاسد.

وأيضا من الممكن أن يكون بعض المسلمين يرتاب في دينه فيرتد ويكتم ارتداده كما مرت الإشارة إليه في قوله تعالى : « ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا » الآية ، وكما يظهر من لحن مثل قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ » المائدة : ٥٤.

وأيضا الذين آمنوا من مشركي مكة يوم الفتح لا يؤمن أكثرهم أن لا يؤمنوا إيمان صدق وإخلاص ومن البديهي عند من تدبر في حوادث سني الدعوة أن كفار مكة وما والاها وخاصة صناديد قريش ما كانوا ليؤمنوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لو لا سواد جنود غشيتهم وبريق

٢٨٩

سيوف مسلطة فوق رءوسهم يوم الفتح وكيف يمكن مع ذلك القضاء بأنه حدث في قلوبهم والظرف هذا الظرف نور الإيمان وفي نفوسهم الإخلاص واليقين فآمنوا بالله طوعا عن آخرهم ولم يدب فيهم دبيب النفاق أصلا.

وأما ثانيا : فلأن استمرار النفاق إلى قرب رحلة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وانقطاعه عند ذلك ممنوع نعم انقطع الخبر عن المنافقين بالرحلة وانعقاد الخلافة وانمحى أثرهم فلم يظهر منهم ما كان يظهر من الآثار المضادة والمكائد والدسائس المشئومة.

فهل كان ذلك لأن المنافقين وفقوا للإسلام وأخلصوا الإيمان عن آخرهم برحلة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتأثرت قلوبهم من موته ما لم يتأثر بحياته؟ أو أنهم صالحوا أولياء الحكومة الإسلامية على ترك المزاحمة بأن يسمح لهم ما فيه أمنيتهم مصالحة سرية بعد الرحلة أو قبلها؟ أو أنه وقع هناك تصالح اتفاقي بينهم وبين المسلمين فوردوا جميعا في مشرعة سواء فارتفع التصاك والتصادم.؟

ولعل التدبر الكافي في حوادث آخر عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والفتن الواقعة بعد رحلته يهدي إلى الحصول على جواب شاف لهذه الأسئلة.

والذي أوردناه في هذا الفصل إشارة إجمالية إلى سبيل البحث.

* * *

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٩) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١١).

٢٩٠

( بيان )

تنبيه للمؤمنين أن يتجنبوا عن بعض الصفات التي تورث النفاق وهو التلهي بالمال والأولاد والبخل.

قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ » إلخ ، الإلهاء الإشغال ، والمراد بالهاء الأموال والأولاد عن ذكر الله إشغالها القلب بالتعلق بها بحيث يوجب الإعراض عن التوجه إلى الله بما أنها زينة الحياة الدنيا ، قال تعالى : « الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا » الكهف : ٤٦ ، والاشتغال بها يوجب خلو القلب عن ذكر الله ونسيانه تعالى فلا يبقى له إلا القول من غير عمل وتصديق قلبي ونسيان العبد لربه يستعقب نسيانه تعالى له ، قال تعالى : « نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ » التوبة : ٦٧ ، وهو الخسران المبين ، قال تعالى في صفة المنافقين : « أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ » البقرة : ١٦.

وإليه الإشارة بما في ذيل الآية من قوله : « وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ ».

والأصل هو نهي المؤمنين عن التلهي بالأموال والأولاد وتبديله من نهي الأموال والأولاد عن إلهائهم للتلويح إلى أن من طبعها الإلهاء فلا ينبغي لهم أن يتعلقوا بها فتلهيهم عن ذكر الله سبحانه فهو نهي كنائي آكد من التصريح.

قوله تعالى : « وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ » إلخ ، أمر بالإنفاق في البر أعم من الإنفاق الواجب كالزكاة والكفارات أو المندوب ، وتقييده بقوله : « مِنْ ما رَزَقْناكُمْ » للإشعار بأن أمره هذا ليس سؤالا لما يملكونه دونه ، وإنما هو شيء هو معطيه لهم ورزق هو رازقه وملك هو ملكهم إياه من غير أن يخرج عن ملكه يأمرهم بإنفاق شيء منه فيما يريد فله المنة عليهم في كل حال.

وقوله : « مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ » أي فينقطع أمد استطاعته من التصرف في ماله بالإنفاق في سبيل الله.

وقوله : « فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ » عطف على قوله : « أَنْ يَأْتِيَ » إلخ ، وتقييد الأجل بالقريب للإشعار بأنه قانع بقليل من التمديد ـ وهو مقدار ما يسع

٢٩١

الإنفاق من العمر ـ ليسهل إجابته ، ولأن الأجل أيا ما كان فهو قريب ، ومن كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله : كل ما هو آت قريب.

وقوله : « فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ » نصب « فَأَصَّدَّقَ » لكونه في جواب التمني ، وجزم « أَكُنْ » لكونه في معنى جزاء الشرط ، والتقدير إن أتصدق أكن من الصالحين.

قوله تعالى : « وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها » إياس لهم من استجابة دعاء من يسأل تأخير الأجل بعد حلوله والموت بعد نزوله وظهور آيات الآخرة ، وقد تكرر في كلامه تعالى أن الأجل المسمى من مصاديق القضاء المحتوم كقوله : « إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ » يونس : ٤٩.

وقوله : « وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ » حال من ضمير « أَحَدَكُمُ » أو عطف على أول الكلام ويفيد فائدة التعليل ، والمعنى : لا تتلهوا وأنفقوا فإن الله عليم بأعمالكم يجازيكم بها.

( بحث روائي )

في الفقيه : وسئل عن قول الله تعالى : « فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ » قال : « فَأَصَّدَّقَ » من الصدقة ، و « أَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ » أحج.

أقول : الظاهر أن ذيل الحديث من قبيل الإشارة إلى بعض المصاديق.

وفي المجمع ، عن ابن عباس قال : ما من أحد يموت وكان له مال فلم يؤد زكاته ـ وأطاق الحج فلم يحج إلا سأل الرجعة عند الموت.

قالوا : يا ابن عباس اتق الله ـ فإنما نرى هذا الكافر يسأل الرجعة ـ فقال : أنا أقرأ به عليكم قرآنا ثم قرأ هذه الآية ـ يعني قوله : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ ـ إلى قوله ـ مِنَ الصَّالِحِينَ » قال : الصلاح هنا الحج ، وروي ذلك عن أبي عبد الله عليه‌السلام.

أقول : ورواه في الدر المنثور ، عن عدة من أرباب الجوامع عن ابن عباس.

وفي تفسير القمي ، بإسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه‌السلام في قول الله : « وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها » قال : إن عند الله كتبا موقوفة يقدم منها ما يشاء ـ ويؤخر ما يشاء ـ فإذا كان ليلة القدر أنزل الله فيها ـ كل شيء يكون إلى مثلها ـ فذلك قوله : « وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها » إذا نزله الله وكتبه كتاب السماوات ـ وهو الذي لا يؤخر.

٢٩٢

* * *

( سورة التغابن مدنية ، وهي ثماني عشرة آية )

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٥) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٦) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧) فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩)

٢٩٣

وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٠).

( بيان )

السورة شبيهة بسورة الحديد في سياق كسياقها ونظم كنظمها كأنها ملخصة منها وغرضها تحريض المؤمنين وترغيبهم في الإنفاق في سبيل الله ورفع ما يهجس في قلوبهم ويدب في نفوسهم من الأسى والأسف على المصائب التي تهجم عليهم في تحمل مشاق الإيمان بالله والجهاد في سبيل الله والإنفاق فيها بأن ذلك كله بإذن الله.

والآيات التي أوردناها من صدر السورة تقدمه وتمهيد لبيان الغرض المذكور تبين أن أسماءه تعالى الحسنى وصفاته العليا تقضي بالبعث ورجوع الكل إليه تعالى رجوعا يساق فيه أهل الإيمان والعمل الصالح إلى جنة خالدة ، وأهل الكفر والتكذيب إلى نار مؤبدة فهي تمهيد للأمر بطاعة الله ورسوله والصبر على المصائب والإنفاق في سبيل الله من غير تأثر من منع مانع ولا خوف من لومة لائم.

والسورة مدنية بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى : « يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ » تقدم الكلام في معنى التسبيح والملك والحمد والقدرة ، وأن المراد بما في السماوات والأرض يشمل نفس السماوات والأرض ومن فيها وما فيها.

وقوله : « لَهُ الْمُلْكُ » مطلق يفيد إطلاق الملك وعدم محدوديته بحد ولا تقيده بقيد أو شرط فلا حكم نافذا إلا حكمه ، ولا حكم له إلا نافذا على ما أراد.

وكذا قوله : « وَلَهُ الْحَمْدُ » مطلق يفيد رجوع كل حمد من كل حامد ـ والحمد هو الثناء على الجميل الاختياري ـ إليه تعالى لأن الخلق والأمر إليه فلا ذات ولا صفة ولا فعل جميلا محمودا إلا منه وإليه.

وكذا قوله : « وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ » بما يدل عليه من عموم متعلق القدرة غير محدودة ولا مقيدة بقيد أو شرط.

٢٩٤

وإذ كانت الآيات ـ كما تقدمت الإشارة إليه ـ مسوقة لإثبات المعاد كانت الآية كالمقدمة الأولى لإثباته ، وتفيد أن الله منزه عن كل نقص وشين في ذاته وصفاته وأفعاله يملك الحكم على كل شيء والتصرف فيه كيفما شاء وأراد ـ ولا يتصرف إلا جميلا ـ وقدرته تسع كل شيء فله أن يتصرف في خلقه بالإعادة كما تصرف فيهم بالإيذاء ـ الإحداث والإبقاء ـ فله أن يبعثهم إن تعلقت به إرادته ولا تتعلق إلا بحكمه.

قوله تعالى : « هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ » الفاء في « فَمِنْكُمْ » تدل على مجرد ترتب الكفر والإيمان على الخلق فلا دلالة في التفريع على كون الكفر والإيمان مخلوقين لله تعالى أو غير مخلوقين ، وإنما المراد انشعابهم فرقتين : بعضهم كافر وبعضهم مؤمن ، وقدم ذكر الكافر لكثرة الكفار وغلبتهم.

و « من » في قوله : « فَمِنْكُمْ » و « فَمِنْكُمْ » للتبعيض أي فبعضكم كافر وبعضكم مؤمن.

وقد نبه بقوله : « وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ » على أن انقسامهم قسمين وتفرقهم فرقتين حق كما ذكر ، وهم متميزون عنده لأن الملاك في ذلك أعمالهم ظاهرها وباطنها والله بما يعملون بصير لا تخفى عليه ولا تشتبه.

وتتضمن الآية مقدمة أخرى لإثبات المعاد وتنجزه وهي أن الناس مخلوقون له تعالى متميزون عنده بالكفر والإيمان وصالح العمل وطالحه.

قوله تعالى : « خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ » المراد بالحق خلاف الباطل وهو خلقها من غير غاية ثابتة وغرض ثابت كما قال : « لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا » الأنبياء : ١٧ ، وقال : « وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ » الدخان : ٣٩.

وقوله : « وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ » المراد بالتصوير إعطاء الصورة وصورة الشيء قوامه ونحو وجوده كما قال : « لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ » التين : ٤ ، وحسن الصورة تناسب تجهيزاتها بعضها لبعض والمجموع لغاية وجودها ، وليس هو الحسن بمعنى صباحة المنظر وملاحته بل الحسن العام الساري في الأشياء كما قال تعالى : « الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ » الم السجدة : ٧.

ولعل اختصاص حسن صورهم بالذكر للتنبيه على أنها ملائمة للغاية التي هي الرجوع إلى الله فتكون الجملة من جملة المقدمات المسوقة لإثبات المعاد على ما تقدمت الإشارة إليه.

٢٩٥

وبهذه الآية تتم المقدمات المنتجة للزوم البعث ورجوع الخلق إليه تعالى فإنه تعالى لما كان ملكا قادرا على الإطلاق له أن يحكم بما شاء ويتصرف كيف أراد وهو منزه عن كل نقص وشين محمود في أفعاله ، وكان الناس مختلفين بالكفر والإيمان وهو بصير بأعمالهم ، وكانت الخلقة لغاية من غير لغو وجزاف كان من الواجب أن يبعثوا بعد نشأتهم الدنيا لنشأة أخرى دائمة خالدة فيعيشوا فيها عيشة باقية على ما يقتضيه اختلافهم بالكفر والإيمان وهو الجزاء الذي يسعد به مؤمنهم ويشقى به كافرهم.

وإلى هذه النتيجة يشير بقوله : « وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ».

قوله تعالى : « يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ » دفع شبهة لمنكري المعاد مبنية على الاستبعاد وهي أنه كيف يمكن إعادة الموجودات وهي فانية بائدة وحوادث العالم لا تحصى والأعمال والصفات لا تعد ، منها ظاهرة علنية ومنها باطنة سرية ومنها مشهودة ومنها مغيبة ، فأجيب بأن الله يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون.

وقوله : « وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ » قيل : إنه اعتراض تذييلي مقرر لشمول علمه تعالى بما يسرون وما يعلنون والمعنى : أنه تعالى محيط علما بالمضرات المستكنة في صدور الناس مما لا يفارقها أصلا فكيف يخفى عليه شيء مما تسرونه وما تعلنونه.

وفي قوله : « وَاللهُ عَلِيمٌ » إلخ ، وضع الظاهر موضع الضمير والأصل « وهو عليم » إلخ والنكتة فيه الإشارة إلى علة الحكم ، وليكون ضابطا يجري مجرى المثل.

قوله تعالى : « أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ » وبال الأمر تبعته السيئة والمراد بأمرهم كفرهم وما تفرع عليه من فسوقهم.

لما كان مقتضى أسمائه الحسنى وصفاته العليا المعدودة في الآيات السابقة وجوب معاد الناس ومصيرهم إلى ربهم للحساب والجزاء فمن الواجب إعلامهم بما يجب عليهم أن يأتوا به أو يجتنبوا عنه وهو الشرع ، والطريق إلى ذلك الرسالة فمن الواجب إرسال رسول على أساس الإنذار والتبشير بعقاب الآخرة وثوابها وسخطه تعالى ورضاه.

ساق تعالى الكلام بالإنذار بالإشارة إلى نبأ الذين كفروا من قبل وأنهم ذاقوا وبال أمرهم ولهم في الآخرة عذاب أليم ثم انتقل إلى بيان سبب كفرهم وهو تكذيب الرسالة ثم إلى سبب ذلك وهو إنكار البعث والمعاد.

٢٩٦

ثم استنتج من ذلك كله وجوب إيمانهم بالله ورسوله والدين الذي أنزله عليه وختم التمهيد المذكور بالتبشير والإنذار بالإشارة إلى ما هيئ للمؤمنين الصالحين من جنة خالدة ولغيرهم من الكفار المكذبين من نار مؤبدة.

فقوله : « أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ » الخطاب للمشركين وفيه إشارة إلى قصص الأمم السالفة الهالكة كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم ، ممن أهلكهم الله بذنوبهم ، وقوله : « فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ » إشارة إلى ما نزل عليهم من عذاب الاستئصال وقوله : « وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ » إشارة إلى عذابهم الأخروي.

قوله تعالى : « ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا » إلخ ، بيان لسبب ما ذكر من تعذيبهم بعذاب الاستئصال وعذاب الآخرة ، ولذلك جيء بالفصل دون العطف كأنه جواب لسؤال مقدر كان سائلا يسأل فيقول : لم أصابهم ما أصابهم من العذاب؟ فقيل : « ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ » إلخ ، والإشارة بذلك إلى ما ذكر من العذاب.

وفي التعبير عن إتيان الرسل ودعوتهم بقوله : « كانَتْ تَأْتِيهِمْ » الدال على الاستمرار ، وعن كفرهم وقولهم بقوله : « فَقالُوا وفَكَفَرُوا وتَوَلَّوْا » الدال بالمقابلة على المرة دلالة على أنهم قالوا ما قالوا كلمة واحدة قاطعة لا معدل عنها وثبتوا عليها وهو العناد واللجاج فتكون الآية في معنى قوله تعالى : « تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ » الأعراف : ١٠١ ، وقوله : « ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ ( أي بعد نوح ) رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ » يونس : ٧٤.

وقوله : « فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا » يطلق البشر على الواحد والجمع والمراد به الثاني بدليل قوله : « يَهْدُونَنا » والتنكير للتحقير ، والاستفهام للإنكار أي قالوا على سبيل الإنكار : أآحاد من البشر لا فضل لهم علينا يهدوننا.؟

وهذا القول منهم مبني على الاستكبار ، على أن أكثر هؤلاء الأمم الهالكة كانوا وثنيين وهم منكرون للنبوة وهو أساس تكذيبهم لدعوة الأنبياء ، ولذلك فرع تعالى على قولهم : « أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا » قوله : « فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا » أي بنوا عليه كفرهم وإعراضهم.

وقوله : « وَاسْتَغْنَى اللهُ » الاستغناء طلب الغنى وهو من الله سبحانه ـ وهو غني بالذات ـ إظهار الغنى وذلك أنهم كانوا يرون أن لهم من العلم والقوة والاستطاعة ما يدفع عن جمعهم

٢٩٧

الفناء ويضمن لهم البقاء كأنه لا غنى للوجود عنهم كما حكى الله سبحانه عن قائلهم : « قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً » الكهف : ٣٥ ، وقال : « وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً » حم السجدة : ٥٠.

ومآل هذا الظن بالحقيقة إلى أن لله سبحانه حاجة إليهم وفيهم ـ وهو الغني بالذات ـ فإهلاكه تعالى لهم وإفناؤهم إظهار منه لغناه عن وجودهم ، وعلى هذا فالمراد بقوله : « وَاسْتَغْنَى اللهُ » استئصالهم المدلول عليه بقوله : « فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ ».

على أن الإنسان معجب بنفسه بالطبع يرى أن له على الله كرامة كان من الواجب عليه أن يحسن إليه أينما كان كان لله سبحانه حاجة إلى إسعاده والإحسان إليه كما يشير إليه قوله تعالى : « وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى » حم السجدة : ٥٠ ، وقوله : « وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً » الكهف : ٣٦.

ومآل هذا الزعم بالحقيقة إلى أن من الواجب على الله سبحانه أن يسعدهم كيفما كان كأن له إليهم حاجة فإذاقته لهم وبال أمرهم وتعذيبهم في الآخرة إظهار منه تعالى لغناه عنهم ، فالمراد باستغنائه تعالى عنهم مجموع ما أفيد بقوله : « فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ».

فهذان وجهان في معنى قوله تعالى : « وَاسْتَغْنَى اللهُ » والثاني منهما أشمل ، وفي الكلمة على أي حال من سطوع العظمة والقدرة ما لا يخفى ، وهو في معنى قوله : « ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ » المؤمنون : ٤٤.

وقيل : المراد واستغنى الله بإقامة البرهان وإتمام الحجة عليهم عن الزيادة على ذلك بإرشادهم وهدايتهم إلى الإيمان.

وقيل : المراد واستغنى الله عن طاعتهم وعبادتهم أزلا وأبدا لأنه غني بالذات ، والوجهان كما ترى.

وقوله : « وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ » في محل التعليل لمضمون الآية ، والمعنى : والله غني في ذاته محمود فيما فعل ، فما فعل بهم من إذاقتهم وبال أمرهم وتعذيبهم بعذاب أليم على كفرهم وتوليهم من غناه وعدله لأنه مقتضى عملهم المردود إليهم.

٢٩٨

قوله تعالى : « زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ » ذكر ركن آخر من أركان كفر الوثنيين وهو إنكارهم الدين السماوي بإنكار المعاد إذ لا يبقى مع انتفاء المعاد أثر للدين المبني على الأمر والنهي والحساب والجزاء ويصلح تعليلا لإنكار الرسالة إذ لا معنى حينئذ للتبليغ والوعيد.

والمراد بالذين كفروا عامة الوثنيين ومنهم من عاصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله منهم كأهل مكة وما والاها ، وقيل : المراد أهل مكة خاصة.

وقوله : « قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ » أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يجيب عن زعمهم أن لن يبعثوا ، بإثبات ما نفوه بما في الكلام من أصناف التأكيد بالقسم واللام والنون.

و « ثُمَ » في « ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَ » للتراخي بحسب رتبة الكلام ، وفي الجملة إشارة إلى غاية البعث وهو الحساب وقوله : « وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ » أي ما ذكر من البعث والإنباء بالأعمال يسير عليه تعالى غير عسير ، وفيه رد لإحالتهم أمر البعث على الله سبحانه استبعادا ، وقد عبر عنه في موضع آخر من كلامه بمثل قوله : « وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ » الروم : ٢٧.

والدليل عليه ما عده في صدر الآيات من أسمائه تعالى وصفاته من الخلق والملك والعلم وأنه مسبح محمود ، ويجمع الجميع أنه الله المستجمع لجميع صفات الكمال.

ويظهر من هنا أن التصريح باسم الجلالة في الجملة أعني قوله : « وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ » للإيماء إلى التعليل ، والمفاد أن ذلك يسير عليه تعالى لأنه الله ، والكلام حجة برهانية لا دعوى مجردة.

وذكروا أن الآية ثالثة الآيات التي أمر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقسم بربه على وقوع المعاد وهي ثلاث : إحداها قوله : « وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي » يونس : ٥٣ ، والثانية قوله : « وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ » سبأ : ٣ ، والثالثة الآية التي نحن فيها.

قوله تعالى : « فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ » تفريع على مضمون الآية السابقة أي إذا كنتم مبعوثين لا محالة منبئين بما عملتم وجب عليكم أن تؤمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزله على رسوله وهو القرآن الذي يهدي بنوره الساطع إلى مستقيم الصراط ، ويبين شرائع الدين.

٢٩٩

وفي قوله : « وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا » التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير ولعل النكتة فيه تتميم الحجة بالسلوك من طريق الشهادة وهي أقطع للعذر فكم فرق بين قولنا :

والنور الذي أنزل وهو إخبار ، وقوله : « وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا » ففيه شهادة منه تعالى على أن القرآن كتاب سماوي نازل من عنده تعالى ، والشهادة آكد من الإخبار المجرد.

لا يقال : ما ذا ينفع ذلك وهم ينكرون كون القرآن كلامه تعالى النازل من عنده ولو صدقوا ذلك كفاهم ما مر من الحجة على المعاد وأغنى عن التمسك بذيل الالتفات المذكور.

لأنه يقال : كفى في إبطال إنكارهم كونه كلام الله ما في القرآن من آيات التحدي المثبتة لكونه كلام الله ، والشهادة على أي حال آكد وأقوى من الإخبار وإن كان مدللا.

وقوله : « وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ » تذكرة بعلمه تعالى بدقائق أعمالهم ليتأكد به الأمر في قوله : « فَآمِنُوا » والمعنى : آمنوا وجدوا في إيمانكم فإنه عليم بدقائق أعمالكم لا يغفل عن شيء منها وهو مجازيكم بها لا محالة.

قوله تعالى : « يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ » إلخ يَوْمَ » ظرف لقوله السابق : « لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَ » إلخ ، والمراد بيوم الجمع يوم القيامة الذي يجمع فيه الناس لفصل القضاء بينهم قال تعالى : « وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً » الكهف : ٩٩ ، وقد تكرر في القرآن الكريم حديث الجمع ليوم القيامة ، ويفسره أمثال قوله تعالى : « إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ » الجاثية : ١٧ ، وقوله : « فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ » البقرة : ١١٣ ، وقوله : « إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ » السجدة : ٢٥ ، فالآيات تشير إلى أن جمعهم للقضاء بينهم.

وقوله : « ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ » قال الراغب : الغبن أن تبخس صاحبك في معاملة بينك وبينه بضرب من الإخفاء. قال : ويوم التغابن يوم القيامة لظهور الغبن في المعاملة المشار إليها بقوله : « وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ » وبقوله : « إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ » الآية ، وبقوله : « الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً » فعلموا أنهم غبنوا فيما تركوا من المبايعة وفيما تعاطوه من ذلك جميعا.

وسئل بعضهم عن يوم التغابن فقال : تبدو الأشياء لهم بخلاف مقاديرهم في الدنيا. انتهى موضع الحاجة.

وما ذكره أولا مبني على تفسير التغابن بسريان المغبونية بين الكفار بأخذهم لمعاملة

٣٠٠