الميزان في تفسير القرآن - ج ١٩

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ١٩

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٥
الصفحات: ٤٠٧

وتلبية الحواريين حيث تفرق الناس إلى طائفة مؤمنة وأخرى كافرة فأيد الله المؤمنين على عدوهم وهم الكفار فأصبحوا ظاهرين بعد ما كانوا مستخفين مضطهدين.

وفيه تلويح إلى أن أمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يجري فيهم ما جرى في أمة عيسى عليه‌السلام تؤمن منهم طائفة وتكفر طائفة فإن أجاب المؤمنون استنصاره ـ وقد قام هو تعالى مقامه في الاستنصار إعظاما لأمره وإعزازا له ـ أيدهم الله على عدوهم فيصبحون ظاهرين كما ظهر أنصار عيسى والمؤمنون به.

وقد أشار تعالى إلى هذه القصة في آخر قصص عيسى عليه‌السلام من سورة آل عمران حيث قال : « فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ » آل عمران : ٥٢ ، إلى تمام ست آيات ، وبالتدبر فيها يتضح معنى الآية المبحوث عنها.

( بحث روائي )

في تفسير القمي ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه‌السلام : في قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ـ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ » فقالوا : لو نعلم ما هي لنبذلن فيه ـ الأموال والأنفس والأولاد ، فقال الله : « تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ ـ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ ـ إلى قوله ـ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ».

أقول : وهذا المعنى مروي من طرق أهل السنة أيضا.

وفيه : في قوله تعالى : « وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ » يعني في الدنيا بفتح القائم عليه‌السلام ، وأيضا قال : فتح مكة.

في الاحتجاج ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في حديث : ولم يخل أرضه من عالم بما يحتاج الخليقة إليه ـ ومتعلم على سبيل نجاة ـ أولئك هم الأقلون عددا ، وقد بين الله ذلك من أمم الأنبياء ، وجعلهم مثلا لمن تأخر مثل قوله في حواريي عيسى ـ حيث قال لسائر بني إسرائيل : « مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ ـ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ ـ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ » يعني مسلمون لأهل الفضل فضلهم ـ ولا يستكبرون عن أمر ربهم ـ فما أجابه منهم إلا الحواريون.

أقول : الرواية وإن وردت في تفسير آية آل عمران لكنها مفيدة فيما نحن فيه.

٢٦١

وفي الدر المنثور ، أخرج ابن إسحاق وابن سعد عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للنفر الذين لاقوه بالعقبة : أخرجوا إلى اثني عشر رجلا منكم ـ يكونوا كفلاء على قومهم ـ كما كفلت الحواريون لعيسى بن مريم.

( سورة الجمعة مدنية ، وهي إحدى عشرة آية )

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٤) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨).

٢٦٢

( بيان )

غرض السورة هو الحث البالغ على الاهتمام بأمر صلاة الجمعة والقيام بواجب أمرها فهي من شعائر الله المعظمة التي في تعظيمها والاهتمام بأمرها صلاح أخراهم ودنياهم ، وقد سلك تعالى إلى بيان أمره بافتتاح الكلام بتسبيحه والثناء عليه بما من على قوم أميين برسول منهم أمي يتلو عليهم آياته ويزكيهم بصالحات الأعمال والزاكيات من الأخلاق ويعلمهم الكتاب والحكمة فيحملهم كتاب الله ومعارف دينه أحسن التحميل هم ومن يلحق بهم أو يخلفهم من بعدهم من المؤمنين فليحملوا ذلك أحسن الحمل ، وليحذروا أن يكونوا كاليهود حملوا التوراة ثم لم يحملوا معارفها وأحكامها فكانوا مثل الحمار يحمل أسفارا.

ثم تخلص إلى الأمر بترك البيع والسعي إلى ذكر الله إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة ، وقرعهم على ترك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قائما يخطب والانفضاض والانسلال إلى التجارة واللهو ، وذلك آية عدم تحملهم ما حملوا من معارف كتاب الله وأحكام ، والسورة مدنية.

قوله تعالى : « يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ » التسبيح تنزيه الشيء ونسبته إلى الطهارة والنزاهة من العيوب والنقائص ، والتعبير بالمضارع للدلالة على الاستمرار ، والملك هو الاختصاص بالحكم في نظام المجتمع ، والقدوس مبالغة في القدس وهو النزاهة والطهارة ، والعزيز هو الذي لا يغلبه غالب ، والحكيم هو المتقن فعله فلا يفعل عن جهل أو جزاف.

وفي الآية توطئة وتمهيد برهاني لما يتضمنه قوله : « هُوَ الَّذِي بَعَثَ » إلخ ، من بعثة الرسول لتكميل الناس وإسعادهم وهدايتهم بعد إذ كانوا في ضلال مبين.

وذلك أنه تعالى يسبحه وينزهه الموجودات السماوية والأرضية بما عندهم من النقص الذي هو متممه والحاجة التي هو قاضيها فما من نقيصة أو حاجة إلا وهو المرجو في تمامها وقضائها فهو المسبح المنزه عن كل نقص وحاجة فله أن يحكم في نظام التكوين بين خلقه بما شاء ، وفي نظام التشريع في عباده بما أراد ، كيف لا؟ وهو ملك له أن يحكم في أهل مملكته وعليهم أن يطيعوه.

وإذا حكم وشرع بينهم دينا لم يكن ذلك منه لحاجة إلى تعبيدهم ونقص فيه يتممه بعبادتهم لأنه قدوس منزه عن كل نقص وحاجة.

٢٦٣

ثم إذا حكم وشرع وبلغه إياهم عن غنى منه ودعاهم إليه بوساطة رسله فلم يستجيبوا دعوته وتمردوا عن طاعته لم يكن ذلك تعجيزا منهم له تعالى لأنه العزيز لا يغلبه فيما يريده غالب.

ثم إن الذي حكم وشرعه من الدين بما أنه الملك القدوس العزيز ليس يذهب لغي لا أثر له لأنه حكيم على الإطلاق لا يفعل ما يفعل إلا لمصلحة ولا يريد منهم ما يريد إلا لنفع يعود إليهم وخير ينالونه فيستقيم به حالهم في دنياهم وأخراهم.

وبالجملة فتشريعه الدين وإنزاله الكتاب ببعث رسول يبلغهم ذلك بتلاوة آياته ، ويزكيهم ويعلمهم من منه تعالى وفضل كما قال : « هُوَ الَّذِي بَعَثَ » إلخ.

قوله تعالى : « هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ » إلخ ، الأميون جمع أمي وهو الذي لا يقرأ ولا يكتب ، والمراد بهم ـ كما قيل ـ العرب لقلة من كان منهم يقرأ ويكتب وقد كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله منهم أي من جنسهم وهو غير كونه مرسلا إليهم فقد كان منهم وكان مرسلا إلى الناس كافة.

واحتمل أن يكون المراد بالأميين غير أهل الكتاب كما قال اليهود ـ على ما حكى الله عنهم ـ : « لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ » آل عمران : ٧٥.

وفيه أنه لا يناسب قوله في ذيل الآية : « يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ » إلخ ، فإنه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يخص غير العرب وغير أهل الكتاب بشيء من الدعوة لم يلقه إليهم.

واحتمل أن يكون المراد بالأميين أهل مكة لكونهم يسمونها أم القرى.

وفيه أنه لا يناسب كون السورة مدنية لإيهامه كون ضمير « يُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ » راجعا إلى المهاجرين ومن أسلم من أهل مكة بعد الفتح وأخلافهم وهو بعيد من مذاق القرآن.

ولا منافاة بين كونه صلى‌الله‌عليه‌وآله من الأميين مبعوثا فيهم وبين كونه مبعوثا إليهم وإلى غيرهم وهو ظاهر ، وتلاوته عليهم آياته وتزكيته وتعليمه لهم الكتاب والحكمة لنزوله بلغتهم وهو أول مراحل دعوته ولذا لما استقرت الدعوة بعض الاستقرار أخذ صلى‌الله‌عليه‌وآله يدعو اليهود والنصارى والمجوس وكاتب العظماء والملوك.

وكذا دعوة إبراهيم وإسماعيل عليه‌السلام على ما حكى الله تعالى : « رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ـ إلى أن قال ـ رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ » البقرة : ١٢٩ ، تشمل جميع آل

٢٦٤

إسماعيل من عرب مضر أعم من أهل مكة وغيرهم ، ولا ينافي كونه صلى‌الله‌عليه‌وآله مبعوثا إليهم وإلى غيرهم.

وقوله : « يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ » أي آيات كتابه مع كونه أميا. صفة للرسول.

وقوله : « وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ » التزكية تفعيل من الزكاة بمعنى النمو الصالح الذي يلازم الخير والبركة فتزكيته لهم تنميته لهم نماء صالحا بتعويدهم الأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة فيكملون بذلك في إنسانيتهم فيستقيم حالهم في دنياهم وآخرتهم يعيشون سعداء ويموتون سعداء.

وتعليم الكتاب بيان ألفاظ آياته وتفسير ما أشكل من ذلك ، ويقابله تعليم الحكمة وهي المعارف الحقيقية التي يتضمنها القرآن ، والتعبير عن القرآن تارة بالآيات وتارة بالكتاب للدلالة على أنه بكل من هذه العناوين نعمة يمتن بها ـ كما قيل ـ.

وقد قدم التزكية هاهنا على تعليم الكتاب والحكمة بخلاف ما في دعوة إبراهيم عليه‌السلام لأن هذه الآية تصف تربيته صلى‌الله‌عليه‌وآله لمؤمني أمته ، والتزكية مقدمة في مقام التربية على تعليم العلوم الحقة والمعارف الحقيقية وأما ما في دعوة إبراهيم عليه‌السلام فإنها دعاء وسؤال أن يتحقق في ذريته هذه الزكاة والعلم بالكتاب والحكمة ، والعلوم والمعارف أقدم مرتبة وأرفع درجة في مرحلة التحقق والاتصاف من الزكاة الراجعة إلى الأعمال والأخلاق.

وقوله : « وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ » « إِنْ » مخففة من الثقيلة والمراد أنهم كانوا من قبل بعثة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في ضلال مبين ، والآية تحميد بعد تسبيح ومسوقة للامتنان كما سيأتي.

قوله تعالى : « وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ » عطف على الأميين وضمير « مِنْهُمْ » راجع إليهم و « من » للتبعيض والمعنى : بعث في الأميين وفي آخرين منهم لم يلحقوا بهم بعد وهو العزيز الذي لا يغلب في إرادته الحكيم الذي لا يلغو ولا يجازف في فعله.

قوله تعالى : « ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ » الإشارة بذلك إلى بعث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وقد فخم أمره بالإشارة البعيدة ـ فهو صلى‌الله‌عليه‌وآله المخصوص بالفضل ، والمعنى : ذلك البعث وكونه يتلو آيات الله ويزكي الناس ويعلمهم الكتاب والحكمة من فضل الله وعطائه يعطيه من تعلقت به مشيته وقد شاء أن يعطيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله والله ذو

٢٦٥

الفضل العظيم كذا قال المفسرون.

ومن الممكن أن تكون الإشارة بذلك إلى البعث بما له من النسبة إلى أطرافه من المرسل والمرسل إليهم ، والمعنى : ذلك البعث من فضل الله يؤتيه من يشاء وقد شاء أن يخص بهذا الفضل محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله فاختاره رسولا ، وأمته فاختارهم لذلك فجعله منهم وأرسله إليهم.

والآية والآيتان قبلها أعني قوله : « هُوَ الَّذِي بَعَثَ ـ إلى قوله ـ الْعَظِيمِ » مسوقة سوق الامتنان.

قوله تعالى : « مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً » إلخ ، قال الراغب : السفر ـ بالفتح فالسكون ـ كشف الغطاء ويختص ذلك بالأعيان نحو سفر العمامة عن الرأس والخمار عن الوجه ـ إلى أن قال ـ والسفر ـ بالكسر فالسكون ـ الكتاب الذي يسفر عن الحقائق قال تعالى : « كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً » انتهى.

والمراد بتحميل التوراة تعليمها ، والمراد بحملها العمل بها على ما يؤيده السياق ويشهد به ما في ذيل الآية من قوله : « بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ » ، والمراد بالذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها اليهود الذين أنزل الله التوراة على رسولهم موسى عليه‌السلام فعلمهم ما فيها من المعارف والشرائع فتركوها ولم يعملوا بها فحملوها ولم يحملوها فضرب الله لهم مثل الحمار يحمل أسفارا وهو لا يعرف ما فيها من المعارف والحقائق فلا يبقى له من حملها إلا التعب بتحمل ثقلها.

ووجه اتصال الآية بما قبلها أنه تعالى لما افتتح الكلام بما من به على المسلمين من بعث نبي أمي من بين الأميين يتلو عليهم آيات كتابه ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة فيخرجهم من ظلمات الضلال إلى نور الهدى ومن حضيض الجهل إلى أوج العلم والحكمة وسيشير تعالى في آخر السورة إشارة عتاب وتوبيخ إلى ما صنعوه من الانفضاض والانسلال إلى اللهو والتجارة والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قائم يخطبهم يوم الجمعة وهو من الاستهانة بما هو من أعظم المناسك الدينية ويكشف أنهم لم يقدروها حق قدرها ولا نزلوها منزلتها.

فاعترض الله سبحانه بهذا المثل وذكرهم بحال اليهود حيث حملوا التوراة ثم لم يحملوها فكانوا كالحمار يحمل أسفارا ولا ينتفع بما فيها من المعرفة والحكمة ، فعليهم أن يهتموا بأمر الدين ويراقبوا الله في حركاتهم وسكناتهم ويعظموا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويوقروه ولا يستهينوا

٢٦٦

بما جاء به ، وليحذروا أن يحل بهم من سخطه تعالى ما حل باليهود حيث لم يعملوا بما علموا فعدهم الله جهلة ظالمين وشبههم بالحمار يحمل أسفارا.

وفي روح المعاني : وجه ارتباط الآية بما قبلها تضمنها الإشارة إلى أن ذلك الرسول المبعوث قد بعثه الله تعالى بما نعته به في التوراة وعلى السنة أنبياء بني إسرائيل كأنه قيل :

هو الذي بعث المبشر به في التوراة المنعوت فيها بالنبي الأمي المبعوث إلى أمة أميين ، مثل من جاءه نعته فيها وعلمه ثم لم يؤمن به مثل الحمار. انتهى.

وأنت خبير بأنه تحكم لا دليل عليه من جهة السياق.

قوله تعالى : « قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ » احتجاج على اليهود يظهر به كذبهم في دعواهم أنهم أولياء الله وأحباؤه ، وقد حكى الله تعالى ما يدل على ذلك عنهم بقوله : « وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ » المائدة : ١٨ ، وقوله : « قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ » البقرة : ٩٤ ، وقوله : « وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً » البقرة : ١١١.

ومحصل المعنى : قل لليهود مخاطبا لهم يا أيها الذين تهودوا إن كنتم اعتقدتم أنكم أولياء لله من دون الناس إن كنتم صادقين في دعواكم فتمنوا الموت لأن الولي يحب لقاء وليه ومن أيقن أنه ولي لله وجبت له الجنة ولا حاجب بينه وبينها إلا الموت أحب الموت وتمنى أن يحل به فيدخل دار الكرامة ويتخلص من هذه الحياة الدنية التي ما فيها إلا الهم والغم والمحنة والمصيبة.

قيل : وفي قوله : « أَوْلِياءُ لِلَّهِ » من غير إضافة إشارة إلى أنه دعوى منهم من غير حقيقة.

قوله تعالى : « وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ » أخبر تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنهم لا يتمنونه أبدا بعد ما أمره أن يعرض عليهم تمني الموت.

وقد علل عدم تمنيهم الموت بما قدمت أيديهم وهو كناية عن الظلم والفسوق ، فمعنى الآية : ولا يتمنون الموت أبدا بسبب ما قدمته أيديهم من الظلم فكانوا ظالمين والله عليم بالظالمين يعلم أنهم لا يحبون لقاءه لأنهم أعداؤه لا ولاية بينه وبينهم ولا محبة.

والآيتان في معنى قوله تعالى : « قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ

٢٦٧

بِالظَّالِمِينَ » البقرة : ٩٥.

قوله تعالى : « قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ » الفاء في قوله : « فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ » في معنى جواب الشرط ، وفيه وعيد لهم بأن الموت الذي يكرهونه كراهة أن يؤاخذوا بوبال أعمالهم فإنه سيلاقيهم لا محالة ثم يردون إلى ربهم الذي خرجوا من زي عبوديته بمظالمهم وعادوه بأعمالهم وهو عالم بحقيقة أعمالهم ظاهرها وباطنها فإنه عالم الغيب والشهادة فينبؤهم بحقيقة أعمالهم وتبعاتها السيئة وهي أنواع العذاب.

ففي الآية إيذانهم أولا : أن فرارهم من الموت خطأ منهم فإنه سيدركهم ويلاقيهم ، وثانيا : أن كراهتهم لقاء الله خطأ آخر فإنهم مردودون إليه محاسبون على أعمالهم السيئة ، وثالثا : أنه تعالى لا يخفى عليه شيء من أعمالهم ظاهرها وباطنها ولا يحيق به مكرهم فإنه عالم الغيب والشهادة.

ففي الآية إشارة أولا : إلى أن الموت حق مقضي كما قال : « كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ » الأنبياء : ٣٥ ، وقال : « نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ » الواقعة : ٦٠.

وثانيا : أن الرجوع إلى الله لحساب الأعمال حق لا ريب فيه.

وثالثا : أنهم سيوقفون على حقيقة أعمالهم فيوفونها.

ورابعا : أنه تعالى لا يخفى عليه شيء من أعمالهم وللإشارة إلى ذلك بدل اسم الجلالة من قوله : « عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ ».

( بحث روائي )

في تفسير القمي في قوله تعالى : « هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ » عن أبيه عن ابن أبي عمير عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في الآية قال : كانوا يكتبون ولكن لم يكن معهم كتاب من عند الله ولا بعث إليهم رسول فنسبهم الله إلى الأميين.

وفيه في قوله تعالى : « وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ » قال : دخلوا الإسلام بعدهم.

وفي المجمع ، وروي : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قرأ هذه الآية ـ فقيل له : من هؤلاء؟ فوضع يده على كتف سلمان وقال : لو كان الإيمان بالثريا لنالته رجال من هؤلاء.

أقول : ورواه في الدر المنثور ، عن عدة من جوامع الحديث منها صحيح البخاري

٢٦٨

ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفيه : فوضع يده على رأس سلمان الفارسي وقال : والذي نفسي بيده لو كان العلم بالثريا ـ لناله رجال من هؤلاء.

وروي أيضا عن سعيد بن منصور وابن مردويه عن قيس بن سعد بن عبادة : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : لو أن الإيمان بالثريا ـ لناله رجال من أهل فارس.

وفي تفسير القمي : في قوله تعالى : « مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ـ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ » قال : الحمار يحمل الكتب ولا يعلم ما فيها ـ ولا يعمل به ـ كذلك بنو إسرائيل قد حملوا مثل الحمار ـ لا يعلمون ما فيه ولا يعملون.

وفي الدر المنثور ، أخرج ابن أبي شيبة والطبراني عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب ـ فهو كالحمار يحمل أسفارا ـ والذي يقول له : أنصت ليس له جمعة.

أقول : وفيه تأييد لما قدمناه في وجه اتصال الآية بما قبلها.

وفي تفسير القمي : في قوله تعالى : « قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا » الآية ، قال : إن في التوراة مكتوب : أولياء الله يتمنون الموت.

وفي الكافي ، بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : جاء رجل إلى أبي ذر فقال : يا أبا ذر ما لنا نكره الموت؟ فقال : لأنكم عمرتم الدنيا وخربتم الآخرة ـ فتكرهون أن تنقلوا من عمران إلى خراب

( كلام في معنى تعليم الحكمة )

لا محيص للإنسان في حياته المحدودة التي يعمرها في هذه النشأة من سنة يستن بها فيما يريد ويكره ، ويجري عليها في حركاته وسكناته وبالجملة جميع مساعيه في الحياة.

وتتبع هذه السنة في نوعها ما عند الإنسان من الرأي في حقيقة الكون العام وحقيقة نفسه وما بينهما من الربط ، ويدل على ذلك ما نجد من اختلاف السنن والطرائق في الأمم باختلاف آرائهم في حقيقة نشأة الوجود والإنسان الذي هو جزء منها.

فمن لا يرى لما وراء المادة وجودا ، ويقصر الوجود في المادي ، وينهي الوجود إلى الاتفاق ، ويرى الإنسان مركبا ماديا محدود الحياة بين التولد والموت لا يرى لنفسه من

٢٦٩

السعادة إلا سعادة المادة ولا غاية له في أعماله إلا المزايا المادية من مال وولد وجاه وغير ذلك ، ولا بغية له إلا التمتع بأمتعة الدنيا والظفر بلذائذها المادية أو ما يرجع إليها وتنتهي جميعا إلى الموت الذي هو عنده انحلال للتركيب وبطلان.

ومن يرى كينونة العالم عن سبب فوقه منزه عن المادة ، وأن وراء الدار دارا وبعد الدنيا آخرة نجده يخالف في سنته وطريقته الطائفة المتقدم ذكرها فيتوخى في أعماله وراء سعادة الدنيا سعادة الأخرى ويختلف صور أعمالهم وغاياتهم وآراؤهم مع الطائفة الأولى.

ويختلف سنن هؤلاء باختلافهم أنفسهم فيما بينهم كاختلاف سنن الوثنيين من البرهميين والبوذيين وغيرهم والمليين من المجوسية والكليمية والمسيحية والمسلمين فلكل وجهة هو موليها.

وبالجملة الملي يراعي في مساعيه جانب ما يراه لنفسه من الحياة الخالدة المؤبدة ويذعن من الآراء بما يناسب ذلك كادعائه أنه يجب على الإنسان أن يمهد لعالم البقاء وأن يتوجه إلى ربه ، وأن لا يفرط في الاشتغال بعرض الحياة الدنيا الفانية وغير الملي الخاضع للمادة يلوي إلى خلاف ذلك ، هذا كله مما لا ريب فيه.

غير أن الإنسان لما كان بحسب طبعه المادي رهينا للمادة مترددا بين الأسباب الظاهرية فاعلا بها منفعلا عنها لا يزال يدفعه سبب إلى سبب لا فراغ له من ذلك ، يرى ـ بحسب ما يخيل إليه ـ أن الأصالة لحياته الدنيوية المنقطعة ، وأنها وما تنتهي إليه من المقاصد والمزايا هي الغاية الأخيرة والغرض الأقصى من وجوده الذي يجب عليه أن يسعى لتحصيل سعادته.

فالحياة الدنيا هي الحياة وما عند أهلها من القنية والنعمة والمنية والقوة والعزة هي هي بحقيقة معنى الكلمة ، وما يعدونه فقرا ونقمة وحرمانا وضعفا وذلة ورزية ومصيبة وخسرانا هي هي وبالجملة كل ما تهواه النفس من خير معجل أو نفع مقطوع فهو عندهم خير مطلق ونفع مطلق ، وكل ما لا تهواه فهو شر أو ضر.

فمن كان منهم من غير أهل الملة جرى على هذه الآراء ولا خبر عنده عما وراء ذلك ، ومن كان منهم من أهل الملة جرى عليها عملا وهو معترف بخلافها قولا فلا يزال في تدافع بين قوله وفعله قال تعالى : « كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا » البقرة : ٢٠.

والذي تندب إليه الدعوة الإسلامية من الاعتقاد والعمل هو ما يطابق مقتضى الفطرة

٢٧٠

الإنسانية التي فطر عليها الإنسان وتثبت عليه خلقته كما قال : « فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ » الروم : ٣٠.

ومن المعلوم أن الفطرة لا تهتدي علما ولا تميل عملا إلا إلى ما فيه كمالها الواقعي وسعادتها الحقيقية فما تهتدي إليه من الاعتقادات الأصلية في المبدأ والمعاد وما يتفرع عليها من الآراء والعقائد الفرعية علوم وآراء حقة لا تتعدى سعادة الإنسان وكذا ما تميل إليه من الأعمال.

ولذا سمى الله تعالى هذا الدين المبني على الفطرة بدين الحق في مواضع من كلامه كقوله : « هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ » الصف : ٩. وقال في القرآن المتضمن لدعوته : « يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ » الأحقاف : ٣٠.

وليس الحق إلا الرأي والاعتقاد الذي يطابقه الواقع ويلازمه الرشد من غير غي ، وهذا هو الحكمة ـ الرأي الذي أحكم في صدقه فلا يتخلله كذب ، وفي نفعه فلا يعقبه ضرر ـ وقد أشار تعالى إلى اشتمال الدعوة على الحكمة بقوله : « وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ » النساء : ١١٣ ، ووصف كلامه المنزل بها فقال : « وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ » يس : ٢ ، وعد رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله معلما للحكمة في مواضع من كلامه كقوله : « وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ » الجمعة : ٢.

فالتعليم القرآني الذي تصداه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله المبين لما نزل من عند الله من تعليم الحكمة وشأنه بيان ما هو الحق في أصول الاعتقادات الباطلة الخرافية التي دبت في أفهام الناس من تصور عالم الوجود وحقيقة الإنسان الذي هو جزء منه ـ كما تقدمت الإشارة إليه ـ وما هو الحق في الاعتقادات الفرعية المترتبة على تلك الأصول مما كان مبدأ للأعمال الإنسانية وعناوين لغاياتها ومقاصدها.

فالناس ـ مثلا ـ يرون أن الأصالة لحياتهم المادية حتى قال قائلهم : « ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا » الجاثية : ٢٤ ، والقرآن ينبههم بقوله : « وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ » العنكبوت : ٦٤ ، ويرون أن العلل والأسباب هي المولدة للحوادث الحاكمة فيها من حياة وموت وصحة ومرض وغنى وفقر ونعمة ونقمة ورزق وحرمان « بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ » سبأ : ٣٣ ، والقرآن يذكرهم بقوله : « أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ » الأعراف : ٥٤ ، وقوله : « إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ » يوسف : ٦٧ ،

٢٧١

وغير ذلك من آيات الحكمة ، ويرون أن لهم الاستقلال في المشية يفعلون ما يشاءون والقرآن يخطئهم بقوله : « وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ » الإنسان : ٣٠ ، ويرون أن لهم أن يطيعوا ويعصوا ويهدوا ويهتدوا والقرآن ينبئهم بقوله : « إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ » القصص : ٥٦.

ويرون أن لهم قوة والقرآن ينكر ذلك بقوله : « أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً » البقرة : ١٦٥.

ويرون أن لهم عزة بمال وبنين وأنصار والقرآن يحكم بخلافه بقوله : « أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً » النساء : ١٣٩. وقوله : « وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ » المنافقون : ٨.

ويرون أن القتل في سبيل الله موت وانعدام والقرآن يعده حياة إذ يقول : « وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ » البقرة : ١٥٤ ، إلى غير ذلك من التعاليم القرآنية التي أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يدعو بها الناس قال : « ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ » النحل : ١٢٥.

وهي علوم وآراء جمة صورت الحياة الدنيا خلافها في نفوس الناس وزينة فنبه تعالى لها في كتابه وأمر بتعليمها رسوله وندب المؤمنين أن يتواصوا بها كما قال : « إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ » العصر : ٣ ، وقال : « يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ » البقرة : ٢٦٩.

فالقرآن بالحقيقة يقلب الإنسان في قالب من حيث العلم والعمل حديث ويصوغه صوغا جديدا فيحيي حياة لا يتعقبها موت أبدا ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : « اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ » الأنفال : ٢٤ ، وقوله : « أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها » الأنعام : ١٢٢.

وقد بينا وجه الحكمة في كل من آياتها عند التعرض لتفسيرها على قدر مجال البحث في الكتاب.

ومما تقدم يتبين فساد قول من قال : إن تفسير القرآن تلاوته ، وإن التعمق في مداليل آيات القرآن من التأويل الممنوع فما أبعده من قول.

٢٧٢

* * *

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١).

بيان

تأكيد إيجاب صلاة الجمعة وتحريم البيع عند حضورها وفيها عتاب لمن انفض إلى اللهو والتجارة عند ذلك واستهجان لفعلهم.

قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ » إلخ ، المراد بالنداء للصلاة من يوم الجمعة الأذان كما في قوله : « وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً » المائدة : ٥٨.

والجمعة بضمتين أو بالضم فالسكون أحد أيام الأسبوع وكان يسمى أولا يوم العروبة ثم غلب عليه اسم الجمعة ، والمراد بالصلاة من يوم الجمعة صلاة الجمعة المشرعة يومها ، والسعي هو المشي بالإسراع ، والمراد بذكر الله الصلاة كما في قوله : « وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ » العنكبوت : ٤٥ ، على ما قيل وقيل : المراد به الخطبة قبل الصلاة وقوله : « وَذَرُوا الْبَيْعَ » أمر بتركه ، والمراد به على ما يفيده السياق النهي عن الاشتغال بكل عمل يشغل عن صلاة الجمعة سواء كان بيعا أو غيره وإنما علق النهي بالبيع لكونه من أظهر مصاديق ما يشغل عن الصلاة.

٢٧٣

والمعنى : يا أيها الذين آمنوا إذا أذن لصلاة الجمعة يومها فجدوا في المشي إلى الصلاة واتركوا البيع وكل ما يشغلكم عنها.

وقوله : « ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ » حث وتحريض لهم لما أمر به من الصلاة وترك البيع.

قوله تعالى : « فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ » إلخ ، المراد بقضاء الصلاة إقامة صلاة الجمعة ، والانتشار في الأرض التفرق فيها ، وابتغاء فضل الله طلب الرزق نظرا إلى مقابلته ترك البيع في الآية السابقة لكن تقدم أن المراد ترك كل ما يشغل عن صلاة الجمعة ، وعلى هذا فابتغاء فضل الله طلب مطلق عطيته في التفرق لطلب رزقه بالبيع والشرى ، وطلب ثوابه بعيادة مريض والسعي في حاجة مسلم وزيارة أخ في الله ، وحضور مجلس علم ونحو ذلك.

وقوله : « فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ » أمر واقع بعد الحظر فيفيد الجواز والإباحة دون الوجوب وكذا قوله : « وَابْتَغُوا ، وَاذْكُرُوا ».

وقوله : « وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ » المراد بالذكر أعم من الذكر اللفظي فيشمل ذكره تعالى قلبا بالتوجه إليه باطنا ، والفلاح النجاة من كل شقاء ، وهو في المورد بالنظر إلى ما تقدم من حديث التزكية والتعليم وما في الآية التالية من التوبيخ والعتاب الشديد ، الزكاة والعلم وذلك أن كثرة الذكر يفيد رسوخ المعنى المذكور في النفس وانتقاشه في الذهن فتنقطع به منابت الغفلة ويورث التقوى الديني الذي هو مظنة الفلاح قال تعالى : « وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ » آل عمران : ٢٠٠.

قوله تعالى : « وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً » إلخ ، الانفضاض ـ على ما ذكره الراغب ـ استعارة عن الانفضاض بمعنى انكسار الشيء وتفرق بعضه من بعض.

وقد اتفقت روايات الشيعة وأهل السنة على أنه ورد المدينة عير معها تجارة وذلك يوم الجمعة والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قائم يخطب فضربوا بالطبل والدف لإعلام الناس فانفض أهل المسجد إليهم وتركوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قائما يخطب فنزلت الآية. فالمراد باللهو استعمال المعازف وآلات الطرب ليجتمع الناس للتجارة ، وضمير « إِلَيْها » راجع إلى التجارة لأنها كانت المقصودة في نفسها واللهو مقصود لأجلها ، وقيل : الضمير لأحدهما كأنه قيل : انفضوا

٢٧٤

إليه وانفضوا إليها وذلك أن كلا منهما سبب لانفضاض الناس إليه وتجمعهم عليه ، ولذا ردد بينهما وقال : « تِجارَةً أَوْ لَهْواً » ولم يقل : تجارة ولهوا والضمير يصلح للرجوع إلى كل منهما لأن اللهو في الأصل مصدر يجوز فيه الوجهان التذكير والتأنيث.

ولذا أيضا عد « ما عِنْدَ اللهِ » خيرا من كل منهما بحياله فقال : « مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ » ولم يقل : من اللهو والتجارة.

وقوله : « قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ » أمر للنبي أن ينبههم على خطئهم فيما فعلوا ـ وما أفظعه ـ والمراد بما عند الله الثواب الذي يستعقبه سماع الخطبة والموعظة.

والمعنى قل لهم : ما عند الله من الثواب خير من اللهو ومن التجارة لأن ثوابه تعالى خير حقيقي دائم غير منقطع ، وما في اللهو والتجارة من الخير أمر خيالي زائل باطل وربما استتبع سخطه تعالى كما في اللهو.

وقيل : خير مستعمل في الآية مجردا عن معنى التفضيل كما في قوله تعالى : « أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ » يوسف : ٣٩ ، وهو شائع في الاستعمال.

وفي الآية أعني قوله : « وَإِذا رَأَوْا » التفات من الخطاب إلى الغيبة ، والنكتة فيه تأكيد ما يفيده السياق من العتاب واستهجان الفعل بالإعراض عن تشريفهم بالخطاب وتركهم في مقام الغيبة لا يواجههم ربهم بوجهه الكريم.

ويلوح إلى هذا الإعراض قوله : « قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ » حيث لم يشر إلى من يقول له ، ولم يقل : قل لهم كما ذكرهم بضميرهم أولا من غير سبق مرجعه فقال : « وَإِذا رَأَوْا » واكتفى بدلالة السياق.

وخير الرازقين من أسمائه تعالى الحسنى كالرزاق وقد تقدم الكلام في معنى الرزق فيما تقدم.

بحث روائي

في الفقيه ، روي : أنه كان بالمدينة إذا أذن المؤذن يوم الجمعة نادى مناد : حرم البيع لقول الله عز وجل : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ».

٢٧٥

أقول : ورواه في الدر المنثور ، عن ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن ميمون بن مهران ولفظه كان بالمدينة إذا أذن المؤذن من يوم الجمعة ـ ينادون في الأسواق : حرم البيع حرم البيع.

وتفسير القمي : وقوله : « فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ » قال : الإسراع في المشي ، وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه‌السلام : في الآية يقال : فاسعوا أي امضوا ، ويقال : اسعوا اعملوا لها وهو قص الشارب ونتف الإبط وتقليم الأظفار والغسل ولبس أنظف الثياب والتطيب للجمعة فهو السعي يقول الله : « وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ ».

أقول : يريد أن السعي ليس هو الإسراع في المشي فحسب.

وفي المجمع ، وروى أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : في قوله : « فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ » الآية ـ ليس بطلب الدنيا ولكن عيادة مريض ـ وحضور جنازة وزيارة أخ في الله.

أقول : ورواه في الدر المنثور ، عن ابن جرير عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعن ابن مردويه عن ابن عباس عنه (ص).

وفيه ، وروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : الصلاة يوم الجمعة والانتشار يوم السبت.

أقول : وفي هذا المعنى روايات أخر.

وفيه ، وروى عمر بن يزيد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إني لأركب في الحاجة التي كفاها الله ما أركب فيها إلا التماس أن يراني الله أضحي في طلب الحلال أما تسمع قول الله عز اسمه : « فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ ».؟

أرأيت لو أن رجلا دخل بيتا وطين عليه بابه ـ ثم قال : رزقي ينزل علي أكان يكون هذا؟ أما أنه أحد الثلاثة الذين لا يستجاب لهم.

قال : قلت : من هؤلاء؟ قال : رجل يكون عنده المرأة فيدعو عليها فلا يستجاب له لأن عصمتها في يده لو شاء أن يخلي سبيلها ، والرجل يكون له الحق على الرجل فلا يشهد عليه فيجحده حقه فيدعو عليه فلا يستجاب له لأنه ترك ما أمر به ، والرجل يكون عنده الشيء فيجلس في بيته ولا ينتشر ولا يطلب ولا يلتمس حتى يأكله ثم يدعو فلا يستجاب له.

وفيه ، قال جابر بن عبد الله : أقبل عير ونحن نصلي مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فانفض الناس إليها فما بقي غير اثني عشر رجلا أنا فيهم فنزلت الآية « وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً ».

٢٧٦

وعن عوالي اللئالي ، روى مقاتل بن سليمان قال : بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يخطب يوم الجمعة ـ إذ قدم دحية الكلبي من الشام بتجارة ، وكان إذا قدم لم يبق في المدينة عاتق (١) إلا أتته ، وكان يقدم ـ إذا قدم ـ بكل ما يحتاج إليه الناس ـ من دقيق وبر وغيره ـ ثم ضرب الطبل ليؤذن الناس بقدومه ـ فيخرج الناس فيبتاعون منه.

فقدم ذات جمعة ، وكان قبل أن يسلم ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يخطب على المنبر فخرج الناس ـ فلم يبق في المسجد إلا اثنا عشر ـ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : لو لا هؤلاء لسومت عليهم الحجارة من السماء ـ وأنزل الله الآية في سورة الجمعة.

أقول : والقصة مروية بطرق كثيرة من طرق الشيعة وأهل السنة واختلفت الأخبار في عدد من بقي منهم في المسجد بين سبعة إلى أربعين.

وفيه « انْفَضُّوا » أي تفرقوا ، وروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : انصرفوا إليها وتركوك قائما تخطب على المنبر.

قال جابر بن سمرة : ما رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يخطب إلا وهو قائم ـ فمن حدثك أنه خطب وهو جالس فكذبه.

أقول : وهو مروي أيضا في روايات أخرى.

وفي الدر المنثور ، أخرج ابن أبي شيبة عن طاووس قال : خطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قائما وأبو بكر وعمر وعثمان ، وإن أول من جلس على المنبر معاوية بن أبي سفيان.

( سورة المنافقون مدنية ، وهي إحدى عشرة آية )

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ

__________________

(١) العاتق : الجارية أوائل ما أدركت.

٢٧٧

ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٣) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٤) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٦) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (٧) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨).

بيان

تصف السورة المنافقين وتسمهم بشدة العداوة وتأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يحذرهم وتعظ المؤمنين أن يتحرزوا من خصائص النفاق فلا يقعوا في مهلكته ولا يجرهم إلى النار ، والسورة مدنية.

قوله تعالى : « إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ » المنافق اسم فاعل من النفاق وهو في عرف القرآن إظهار الإيمان وإبطان الكفر.

٢٧٨

والكذب خلاف الصدق وهو عدم مطابقة الخبر للخارج فهو وصف الخبر كالصدق وربما اعتبرت مطابقة الخبر ولا مطابقته بالنسبة إلى اعتقاد المخبر فيكون مطابقته لاعتقاد المخبر صدقا منه وعدم مطابقته له كذبا فيقال : فلان كاذب إذا لم يطابق خبره الخارج وفلان كاذب إذا أخبر بما يخالف اعتقاده ويسمى النوع الأول صدقا وكذبا خبريين ، والثاني صدقا وكذبا مخبريين.

فقوله : « إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ » حكاية لإظهارهم الإيمان بالشهادة على الرسالة فإن في الشهادة على الرسالة إيمانا بما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ويتضمن الإيمان بوحدانيته تعالى وبالمعاد ، وهو الإيمان الكامل.

وقوله : « وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ » تثبيت منه تعالى لرسالته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنما أورده مع أن وحي القرآن ومخاطبته صلى‌الله‌عليه‌وآله كان كافيا في تثبيت رسالته ، ليكون قرينة مصرحة بأنهم كاذبون من حيث عدم اعتقادهم بما يقولون وإن كان قولهم في نفسه صادقا فهم كاذبون في قولهم كذبا مخبريا لا خبريا فقوله : « وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ » أريد به الكذب المخبري لا الخبري.

قوله تعالى : « اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ » إلخ ، الأيمان جمع يمين بمعنى القسم ، والجنة الترس والمراد بها ما يتقى به من باب الاستعارة ، والصد يجيء بمعنى الإعراض وعليه فالمراد إعراضهم أنفسهم عن سبيل الله وهو الدين وبمعنى الصرف وعليه فالمراد صرفهم العامة من الناس عن الدين وهم في وقاية من إيمانهم الكاذبة.

والمعنى : اتخذوا أيمانهم الكاذبة التي يحلفون وقاية لأنفسهم فأعرضوا عن سبيل الله ودينه أو فصرفوا العامة من الناس عن دين الله بما يستطيعونه من الصرف بتقليب الأمور وإفساد العزائم.

وقوله : « إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ » تقبيح لأعمالهم التي استمروا عليها منذ نافقوا إلى حين نزول السورة.

قوله تعالى : « ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ » الظاهر أن الإشارة بذلك إلى سوء ما عملوا كما قيل ، وقيل : الإشارة إلى جميع ما تقدم من كذبهم واستجنانهم بالأيمان الفاجرة وصدهم عن سبيل الله ومساءة أعمالهم.

والمراد بإيمانهم ـ على ما قيل ـ إيمانهم بألسنتهم ظاهرا بشهادة أن لا إله إلا الله وأن

٢٧٩

محمدا رسوله ثم كفرهم بخلو باطنهم عن الإيمان كما قال تعالى فيهم : « وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ » البقرة : ١٤.

ولا يبعد أن يكون فيهم من آمن حقيقة ثم ارتد وكتم ارتداده فلحق بالمنافقين يتربص بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبالمؤمنين الدوائر كما يظهر من بعض آيات سورة التوبة كقوله : « فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ » التوبة : ٧٧ ، وقد عبر تعالى عمن لم يدخل الإيمان في قلبه منهم بمثل قوله : « وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ » التوبة : ٧٤.

فالظاهر أن المراد بقوله : « آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا » إظهارهم للشهادتين أعم من أن يكون عن ظهر القلب أو بظاهر من القول ثم كفرهم بإتيان أعمال تستصحب الكفر كالاستهزاء بالدين ورد بعض الأحكام.

وقوله : « فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ » تفريع عدم الفقه على طبع القلوب دليل على أن الطبع ختم على القلب يستتبع عدم قبوله لورود كلمة الحق فيه فهو آيس من الإيمان محروم من الحق.

والطبع على القلب جعله بحيث لا يقبل الحق ولا يتبعه فلا محالة يتبع الهوى كما قال تعالى : « طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ » سورة محمد : ١٦ ، فلا يفقه ولا يسمع ولا يعلم كما قال تعالى : « وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ » التوبة : ٨٧ ، وقال : « وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ » الأعراف : ١٠٠ ، وقال : « وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ » التوبة : ٩٣ ، والطبع على أي حال لا يكون منه تعالى إلا مجازاة لأنه إضلال والذي ينسب إليه تعالى من الإضلال إنما هو الإضلال على سبيل المجازاة دون الإضلال الابتدائي وقد مر مرارا.

قوله تعالى : « وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ » إلخ ، الظاهر أن الخطاب في « رَأَيْتَهُمْ » و « تَسْمَعْ » خطاب عام يشمل كل من رآهم وسمع كلامهم لكونهم في أزياء حسنة وبلاغة من الكلام ، وليس خطابا خاصا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والمراد أنهم على صباحة من المنظر وتناسب من الأعضاء إذا رآهم الرائي أعجبته أجسامهم ، وفصاحة وبلاغة من القول إذا سمع السامع كلامهم مال إلى الإصغاء إلى قولهم لحلاوة ظاهره وحسن نظمه.

وقوله : « كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ » ذم لهم بحسب باطنهم والخشب بضمتين جمع خشبة ،

٢٨٠