الميزان في تفسير القرآن - ج ١٤

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ١٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٥
الصفحات: ٤١٦

فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ » ، الخ : الممتحنة : ٨.

ومما قيل في توجيه استغفاره لأبيه وهو مشرك أنه وعده الاستغفار واستغفر له بمقتضى العقل فإن العقل لا يأبى عن تجويزه وإنما منع منه النقل ولم يثبت يومئذ المنع عنه شرعا ثم لما حرم ذلك في شرعه تبرأ منه.

وفيه : أنه لا ينطبق على آيات القصة كما يظهر بالتأمل فيما قدمناه.

ومنها : أن معنى استغفاره كان مشروطا بتوبته وإيمانه. وهو كما ترى.

ومنها : أن معنى « سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي » سأدعو الله أن لا يعذبك في الدنيا. وهو كسابقه تقييد من غير مقيد.

ومنها : أنه وعد الدعاء بالمسبب وهو بالاستلزام وعد للدعاء بالسبب فمعنى سأسأل الله أن يغفر لك ، سأسأله أن يوفقك للتوبة ويهديك للإيمان فيغفر لك ، ويمكن أن يجعل طلب المغفرة كناية عن طلب توفيق التوبة والهداية إلى الإيمان.

وهذا وإن كان أعدل الوجوه لكنه لا يخلو عن بعد لأن في الكلام استعطافا وهو بطلب المغفرة أنسب منه بطلب التوفيق والهداية ، تأمل فيه.

ونظير دعائه لأبيه دعاؤه لعامة المشركين في قوله : « وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ » إبراهيم : ٣٦.

قوله تعالى : « وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا » وعد باعتزالهم والابتعاد منهم ومن أصنامهم ليخلو بربه ويخلص الدعاء له رجاء أن لا يكون بسبب دعائه شقيا وإنما أخذ بالرجاء لأن هذه الأسباب من الدعاء والتوجه إلى الله ونحوه ليست بأسباب موجبة عليه تعالى شيئا بل الإثابة والإسعاد ونحوه بمجرد التفضل منه تعالى. على أن الأمور بخواتمها ولا يعلم الغيب إلا الله فعلى المؤمن أن يسير بين الخوف والرجاء.

قوله تعالى : « فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ » إلى آخر الآيتين. لعل الاقتصار على ذكر إسحاق لتعلق الغرض بذكر توالي النبوة

٦١

في الشجرة الإسرائيلية ولذلك عقب إسحاق بذكر يعقوب فإن في نسله جما غفيرا من الأنبياء ، ويؤيد ذلك أيضا قوله : « وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا ».

وقوله : « وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا » من الممكن أن يكون المراد به الإمامة كما وقع في قوله : « وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا » الأنبياء : ٧٣ ، أو التأييد بروح القدس كما يشير إليه قوله : « وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ » الآية : الأنبياء : ٧٣ على ما سيجيء من معناه أو مطلق الولاية الإلهية.

وقوله : « وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا » اللسان ـ على ما ذكروا ـ هو الذكر بين الناس بالمدح أو الذم وإذا أضيف إلى الصدق فهو الثناء الجميل الذي لا كذب فيه ، والعلي هو الرفيع والمعنى وجعلنا لهم ثناء جميلا صادقا رفيع القدر.

* * *

( وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (٥٣) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٥٦) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (٥٧) )

( بيان )

ذكر جمع آخرين من الأنبياء وشيء من موهبة الرحمة التي خصهم الله بها ، وهم موسى وهارون وإسماعيل وإدريس عليه‌السلام.

٦٢

قوله تعالى : « وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا » قد تقدم معنى المخلص بفتح اللام وأنه الذي أخلصه الله لنفسه فلا نصيب لغيره تعالى فيه لا في نفسه ولا في عمله ، وهو أعلى مقامات العبودية. وتقدم أيضا الفرق بين الرسول والنبي.

قوله تعالى : « وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا » الأيمن : صفة لجانب أي الجانب الأيمن من الطور ، وفي المجمع ، : النجي بمعنى المناجي كالجليس والضجيع.

وظاهر أن تقريبه عليه‌السلام كان تقريبا معنويا وإن كانت هذه الموهبة الإلهية في مكان وهو الطور ففيه كان التكليم ، ومثاله من الحس أن ينادي السيد العزيز عبده الذليل فيقربه من مجلسه حتى يجعله نجيا يناجيه ففيه نيل ما لا سبيل لغيره إليه.

قوله تعالى : « وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا » إشارة إلى إجابة ما دعا به موسى عند ما أوحى إليه لأول مرة في الطور إذ قال : « وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي » طه : ٣٢.

قوله تعالى : « وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ » إلى آخر الآيتين. اختلفوا في « إِسْماعِيلَ » هذا فقال الجمهور هو إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن ، وإنما ذكر وحده ولم يذكر مع إسحاق ويعقوب اعتناء بشأنه ، وقيل : هو غيره ، وهو إسماعيل بن حزقيل من أنبياء بني إسرائيل ، ولو كان هو ابن إبراهيم لذكر مع إسحاق ويعقوب.

ويضعف ما وجه به قول الجمهور : أنه استقل بالذكر اعتناء بشأنه ، أنه لو كان كذلك لكان الأنسب ذكره بعد إبراهيم وقبل موسى عليه‌السلام لا بعد موسى.

قوله تعالى : « وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا » المراد بأهله خاصته من عترته وعشيرته وقومه كما هو ظاهر اللفظ ، وقيل : المراد بأهله أمته وهو قول بلا دليل.

والمراد بكونه عند ربه مرضيا كون نفسه مرضية دون عمله كما ربما فسره به بعضهم فإن إطلاق اللفظ لا يلائم تقييد الرضا بالعمل.

قوله تعالى : « وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا » إلى آخر

٦٣

الآيتين. قالوا : إن إدريس النبي كان اسمه أخنوخ وهو من أجداد نوح عليه‌السلام على ما ذكر في سفر التكوين من التوراة ، وإنما اشتهر بإدريس لكثرة اشتغاله بالدرس.

وقوله : « وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا » من الممكن أن يستفاد من سياق القصص المسرودة في السورة وهي تعد مواهب النبوة والولاية وهي مقامات إلهية معنوية أن المراد بالمكان العلي الذي رفع إليه درجة من درجات القرب إذ لا مزية في الارتفاع المادي والصعود إلى أقاصي الجو البعيدة أينما كان.

وقيل : إن المراد بذلك ـ كما ورد به الحديث ـ أن الله رفعه إلى بعض السماوات وقبضه هناك ، وفيه إراءة آية خارقة وقدرة إلهية بالغة وكفى بها مزية.

( قصة إسماعيل صادق الوعد )

لم ترد قصة إسماعيل بن حزقيل النبي في القرآن إلا في هاتين الآيتين على أحد التفسيرين وقد أثنى الله سبحانه عليه بجميل الثناء فعده صادق الوعد وآمرا بالمعروف ومرضيا عند ربه ، وذكر أنه كان رسولا نبيا.

وأما الحديث ففي علل الشرائع ، بإسناده عن ابن أبي عمير ومحمد بن سنان عمن ذكره عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إن إسماعيل الذي قال الله عز وجل في كتابه : « وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ ـ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا » لم يكن إسماعيل بن إبراهيم ـ بل كان نبيا من الأنبياء بعثه الله عز وجل إلى قومه ـ فأخذوه وسلخوا فروة رأسه ووجهه ـ فأتاه ملك فقال إن الله جل جلاله بعثني إليك ـ فمرني بما شئت فقال : لي أسوة بما يصنع بالأنبياء عليهم‌السلام.

أقول : وروى هذا المعنى أيضا بإسناده عن أبي بصير عنه عليه‌السلام وفي آخره : يكون لي أسوة بالحسين عليه‌السلام.

وفي العيون ، بإسناده إلى سليمان الجعفري عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : أتدري لم سمي إسماعيل صادق الوعد؟ قال : قلت : لا أدري. قال : وعد رجلا فجلس له حولا ينتظره.

أقول : وروى هذا المعنى في الكافي ، عن ابن أبي عمير عن منصور بن حازم عن

٦٤

أبي عبد الله عليه‌السلام ، ورواه أيضا في المجمع ، مرسلا عنه (ع).

وفي تفسير القمي : في قوله « وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ » قال : وعد وعدا فانتظر صاحبه سنة ، وهو إسماعيل بن حزقيل.

أقول : وعده عليه‌السلام وهو أن يثبت في مكانه في انتظار صاحبه كان مطلقا لم يقيده بساعة أو يوم ونحوه فألزمه مقام الصدق أن يفي به بإطلاقه ويصبر نفسه في المكان الذي وعد صاحبه أن يقيم فيه حتى يرجع إليه.

وصفة الوفاء كسائر الصفات النفسانية من الحب والإرادة والعزم والإيمان والثقة والتسليم ذات مراتب مختلفة باختلاف العلم واليقين فكما أن من الإيمان ما يجتمع مع أي خطيئة وإثم وهو أنزل مراتبه ولا يزال ينمو ويصفو حتى يخلص من كل شرك خفي فلا يتعلق القلب بشيء غير الله ولو بالتفات إلى من دونه وهو أعلى مراتبه كذلك الوفاء بالوعد ذو مراتب فمن مراتبه في المقال مثلا إقامة ساعة أو ساعتين حتى تعرض حاجة أخرى توجب الانصراف إليها وهو الذي يصدق عليه الوفاء عرفا ، وأعلى منه مرتبة الإقامة بالمكان حتى يواس من رجوع الصديق إليه عادة بمجيء الليل ونحوه فيقيد به إطلاق الوعد ، وأعلى منه مرتبة الأخذ بإطلاق القول والإقامة حتى يرجع وإن طال الزمان فالنفوس القوية التي تراقب قولها وفعلها لا تلقي من القول إلا ما في وسعها أن تصدقه بالفعل ثم إذا لفظت لم يصرفها عن إتمام الكلمة وإنفاذ العزيمة أي صارف.

وفي الرواية : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعد بعض أصحابه بمكة أن ينتظره عند الكعبة ـ حتى يرجع إليه فمضى الرجل لشأنه ونسي الأمر ـ فبقي صلى‌الله‌عليه‌وآله ثلاثة أيام هناك ينتظره ـ فاطلع بعض الناس عليه فأخبر الرجل بذلك فجاء واعتذر إليه ـ وهذا مقام الصديقين لا يقولون إلا ما يفعلون.

( قصة إدريس النبي (ع) )

١ ـ لم يذكر عليه‌السلام في القرآن إلا في الآيتين من سورة مريم : « وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا » الآية ـ ٥٦ ـ ٥٧ وفي قوله :

٦٥

« وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ » الأنبياء : ٨٥ ٨٦.

وفي الآيات ثناء منه تعالى عليه جميل فقد عده نبيا وصديقا ومن الصابرين ومن الصالحين ، وأخبر أنه رفعه مكانا عليا.

٢ ـ ومن الروايات الواردة في قصته ما عن كتاب كمال الدين وتمام النعمة ، بإسناده عن إبراهيم بن أبي البلاد عن أبيه عن الباقر عليه‌السلام : والحديث طويل لخصناه ـ أنه كان بدء نبوة إدريس عليه‌السلام ـ أنه كان في زمانه ملك جبار ، وركب ذات يوم في بعض النزهة ـ فمر بأرض خضراء نضرة أعجبته فأحب أن يمتلكها ـ وكانت الأرض لعبد مؤمن فأمر بإحضاره ـ وساومه فيها ليشتريها فلم يبعها ولم يرض به ـ فرجع الملك إلى البلدة وهو مغموم متحير في أمره ـ فاستشار امرأة له كان يستشيرها في هامة الأمور ـ فأشارت عليه أن يقيم عليه شهودا أنه خرج عن دين الملك ـ فيقتله ويملك أرضه ففعل ما أشارت إليه وغصب الأرض.

فأوحى الله إلى إدريس أن يأتي الملك ويقول له عنه : أما رضيت أن قتلت عبدي المؤمن ظلما ـ حتى استخلصت أرضه خالصة لك ـ وأحوجت عياله من بعده وأجعتهم؟ أما وعزتي لأنتقمن له منك في الآجل ـ ولأسلبن ملكك في العاجل ، ولأخربن مدينتك ولأذلن عزك ـ ولأطعمن الكلاب لحم امرأتك ـ فقد غرك يا مبتلى حلمي عنك.

فأتاه إدريس برسالة الله وبلغه ذلك في ملإ من أصحابه ـ فأخرجه الملك من مجلسه ـ ثم أرسل إليه بإشارة من امرأته قوما يقتلونه ، فانتبه لذلك بعض أصحاب إدريس ـ وأشاروا عليه بالخروج والهجرة ـ فخرج منها ليومه ومعه بعض أصحابه ـ ثم ناجى ربه وشكى إليه ما لقيه من الملك في رسالته إليه ـ فأوحى إليه بالخروج من القرية ، وأنه سينفذ في الملك أمره ويصدق فيه قوله ، ثم سأل أن لا تمطر السماء على القرية وما حولها حتى يسأل ذلك ـ فأجيب إليه.

فأخبر إدريس بذلك أصحابه من المؤمنين ـ وأمرهم بالخروج منها فخرجوا وتفرقوا ـ في البلاد وكانوا عشرين رجلا ـ وشاع خبر وحيه وخروجه بين الناس ، وخرج هو

٦٦

متنحيا إلى كهف في جبل شاهق يعبد الله فيه ـ ويصوم النهار ويأتيه ملك بطعام يفطر به عند كل مساء.

وأنفذ الله في الملك وامرأته ومدينته ـ ما أوحاه إلى إدريس وظهر في المدينة جبار آخر عاص ، وأمسكت السماء عنهم أمطارها عشرين سنة ـ حتى جهدوا واشتدت حالهم ـ فلما بلغ بهم الجهد ذكر بعضهم لبعض ـ أن الذي لقوه من الجهد والمشقة ـ إنما هو لدعاء إدريس عليهم أن لا يمطروا ـ حتى يسألوه وخروجه من بينهم وهم لا يعلمون أين هو؟ فالرأي أن يرجعوا ويتوبوا إلى الله ويسألوه المطر ـ فهو أرحم بهم منه فاجتمعوا على الدعاء والتضرع.

فأوحى الله إلى إدريس ـ أن القوم عجوا إلي بالتوبة والاستغفار والبكاء والتضرع ـ وقد رحمتهم وما يمنعني من أمطارهم ـ إلا مناظرتك فيما سألتني أن لا أمطر السماء عليهم ـ حتى تسألني فاسألني حتى أغيثهم ، قال إدريس : اللهم إني لا أسألك.

فأوحى الله إلى الملك الذي كان يأتيه بالطعام ـ أن يمسك عنه فأمسك عنه ثلاثة أيام حتى بلغ به الجوع : فنادى اللهم حبست عني رزقي من قبل أن تقبض روحي ـ فأوحى الله إليه : يا إدريس ـ جزعت أن حبست عنك طعامك ثلاثة أيام ـ ولم تجزع من جوع أهل قريتك وجهدهم منذ عشرين سنة ـ ثم سألتك أن تسألني أن أمطر عليهم ـ فبخلت ولم تسأل فأدبتك بالجوع ـ فاهبط من موضعك واطلب المعاش لنفسك ـ فقد وكلتك في طلبه إلى حيلتك.

فهبط إدريس إلى قرية هناك ـ ونظر إلى بيت يصعد منه دخان فهجم عليه ـ وإذا عجوز كبيرة ترفق قرصتين لها على مقلاة ـ فسألها أن تطعمه فقد بلغ به جهد الجوع ـ فقالت : يا عبد الله ما تركت لنا دعوة إدريس فضلا نطعمه أحدا ـ وحلفت أنها لا تملك غيره شيئا ـ فاطلب المعاش من غير أهل هذه القرية ، فقال لها : أطعميني ما أمسك به روحي ـ وتقوم به رجلي حتى أطلب ، قالت : إنهما قرصتان واحدة لي والأخرى لابني ـ فإن أطعمتك قوتي مت ـ وإن أطعمتك قوت ابني مات ـ وليس هاهنا فضل ، قال : إن ابنك صغير يجزيه نصف قرصة ـ فأطعمي كلا منا نصفا يكون لنا بلغة فرضيت وفعلت.

٦٧

فلما رأى ابنها إدريس وهو يأكل من قرصته ـ اضطرب حتى مات ، قالت أمه : يا عبد الله قتلت ابني جزعا على قوته فقال : لا تجزعي فأنا أحييه لك الساعة بإذن الله ـ وأخذ بعضدي الصبي وقال : أيتها الروح الخارجة عن بدنه بأمر الله ـ ارجعي إلى بدنه بإذن الله وأنا إدريس النبي ، فرجعت روح الغلام إليه.

فلما سمعت أمه كلام إدريس وقوله : أنا إدريس ـ ونظرت إلى ابنها حيا قالت : أشهد أنك إدريس النبي وخرجت تنادي بأعلى صوتها في القرية : أبشروا بالفرج فقد دخل إدريس في قريتكم ، فمضى إدريس حتى جلس على موضع مدينة الجبار الأول ـ وقد تبدلت تلا من تراب فاجتمع إليه أناس من أهل قريته ـ واسترحموه وسألوه أن يدعو لهم فيمطروا. قال : لا ، حتى يأتيني جباركم هذا وجميع أهل قريتكم مشاة حفاة ـ فيسألوني ذلك.

فبلغ ذلك الجبار فبعث إلى إدريس أربعين رجلا ـ وأمرهم أن يأتوا به إليه ، فلما جاءوه وكلفوه الذهاب معهم إليه ، دعا عليهم فماتوا عن آخرهم ، ثم أرسل خمسمائة رجل فلما أتوه كلفوه الذهاب ـ واسترحموه فأراهم مصارع أصحابهم وقال : ما أنا بذاهب إليه ـ ولا سائل حتى يأتيني هو وجميع أهل القرية مشاة حفاة ـ ويسألوني الدعاء للمطر.

فانطلقوا إليه وأخبروه بما قال ـ وسألوه أن يمضي إليه هو وجميع أهل القرية مشاة حفاة ـ ويسألوه أن يسأل الله أن تمطر السماء ـ فأتوه حتى وقفوا بين يديه خاضعين متذللين ـ وسألوه أن يسأل الله أن تمطر السماء عليهم ، فعند ذلك دعا إدريس أن تمطر السماء عليهم ـ فأظلتهم سحابة من السماء ـ وأرعدت وأبرقت وهطلت عليهم من ساعتهم ـ حتى ظنوا أنه الغرق ـ فما رجعوا إلى منازلهم حتى أهمتهم أنفسهم من الماء.

وفي الكافي ، بإسناده عن عبد الله بن أبان عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في حديث يذكر فيه مسجد السهلة : أما علمت أنه موضع بيت إدريس النبي ـ الذي كان يخيط فيه.

أقول : وقد شاع بين أهل السير والآثار أنه عليه‌السلام أول من خط بالقلم وأول من خاط.

وفي تفسير القمي ، قال : وسمي إدريس لكثرة دراسته الكتب.

أقول : ورد في بعض الروايات : في معنى قوله تعالى في إدريس عليه‌السلام : « وَرَفَعْناهُ

٦٨

مَكاناً عَلِيًّا » ـ أن الله غضب على ملك من الملائكة فقطع جناحه ـ وألقاه في جزيرة من جزائر البحر فبقي هناك ما شاء الله ، فلما بعث الله إدريس جاءه ذلك الملك ـ وسأله أن يدعو الله أن يرضى عنه ويرد إليه جناحه ، فدعا له إدريس فرد الله جناحه إليه ورضي عنه.

قال الملك لإدريس : ألك حاجة؟ قال : نعم أحب أن ترفعني إلى السماء حتى أنظر إلى ملك الموت ـ فلا عيش لي مع ذكره ، فأخذه الملك على جناحه حتى انتهى به إلى السماء الرابعة ـ فإذا هو بملك الموت يحرك رأسه تعجبا ، فسلم عليه إدريس وقال له : ما لك تحرك رأسك؟ قال : إن رب العزة أمرني أن أقبض روحك بين السماء الرابعة والخامسة. فقلت : يا رب كيف يكون هذا وبيني وبينه أربع سماوات ـ وغلظ كل سماء مسيرة خمسمائة عام ـ وبين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام؟ ثم قبض روحه بين السماء الرابعة والخامسة وهو قوله تعالى : « وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا ».

روى الحديث علي بن إبراهيم القمي في تفسيره ، عن أبيه عن ابن أبي عمير عمن حدثه عن أبي عبد الله عليه‌السلام : ، وروى ما في معناه في الكافي ، عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن عمرو بن عثمان عن مفضل بن صالح عن جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

والروايتان على ما بهما وخاصة في الثانية (١) منهما من ضعف السند لا معول عليهما لمخالفتهما ظاهر الكتاب لنصه على عصمة الملائكة ونزاهتهم عن الذنب والخطيئة.

وروى الثعلبي في العرائس ، عن ابن عباس وغيره ما ملخصه" : أن إدريس سار ذات يوم فأصابه وهج الشمس فقال : إني مشيت في الشمس يوما فتأذيت ـ فكيف بمن يحملها مسيرة خمسمائة عام في يوم واحد! اللهم خفف عنه ثقلها واحمل عنه حرها ، فاستجاب الله له فأحس الملك الذي يحملها بذلك ـ فسأل الله في ذلك فأخبره بما كان من دعاء إدريس واستجابته ـ فسأله تعالى أن يجمع بينه وبين إدريس ـ ويجعل بينهما خلة فأذن له.

__________________

(١) لمكان مفضل بن صالح وكان كذاباً يضع الحديث.

٦٩

فكان إدريس يسأله وكان مما سأله : أنك أخبرت أنك أكرم الملائكة على ملك الموت ـ وأمكنهم عنده فاشفع لي إليه ليؤخر أجلي ـ حتى أزداد شكرا وعبادة فقال الملك : لا يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها. قال : نعم ولكنه أطيب لنفسي. قال الملك أنا مكلمه لك ، وما كان يستطيع أن يفعله لأحد من بني آدم فهو فاعله لك.

ثم حمله الملك على جناحه ورفعه إلى السماء ـ فوضعه عند مطلع الشمس ثم أتى ملك الموت ـ وذكر له حاجة إدريس وشفع له فقال ملك الموت : ليس ذلك إلي ولكن إن أحببت أعلمته أجله. قال : نعم فنظر في ديوانه وأخبره باسمه وقال : ما أراه يموت أبدا. فإنه أجده يموت عند مطلع الشمس! قال : فإني أتيتك وقد تركته هناك. قال له : انطلق فلا أراك تجده إلا ميتا فوالله ما بقي من أجله شيء ـ فرجع الملك إليه فوجده ميتا.

ورواه في الدر المنثور ، عن ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن ابن عباس عن كعب : إلا أن فيه أن النازل على إدريس ـ الملك الذي كان يرفع إليه عمله ـ وقد كان يرفع له من العمل ما يعدل عمل أهل الأرض في زمانه ـ فأعجبه ذلك فسأل الله أن ينزل إليه ـ فأذن له فنزل إليه وصحبه « إلخ » وروى ابن أبي حاتم بطريق آخر عن ابن عباس هذا الحديث وفيه" : أن إدريس مات بين جناحي الملك.

وفي الدر المنثور ، أخرج ابن المنذر عن عمر مولى غفرة يرفعه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن إدريس كان يرفع له وحده من العمل ـ ما يعدل عمل أهل الأرض كلهم ـ فأعجب ذلك ملك الموت ـ فاستأذن الله في النزول إلى الأرض وصحبته ـ فأذن له فنزل إليه وصحبه ـ فكانا يسيحان في الأرض ويعبدان الله ـ فأعجب إدريس ما رآه من عبادة صاحبه ـ من غير كسل ولا فتور فسأله عن ذلك ـ وأحفى في السؤال حتى عرفه ملك الموت نفسه ـ وذكر له قصة نزوله وصحبته.

فلما عرفه إدريس سأله ثلاث حوائج له : أن يقبض روحه ساعة ثم يردها إليه ـ فاستأذن الله وفعل ، وأن يرفعه إلى السماء ويريه النار فاستأذن وفعل ، وأن يريه الجنة فاستأذن وفعل ـ فدخل الجنة وأكل من ثمارها وشرب من مائها ـ فقال له ملك الموت : اخرج يا نبي الله ـ فقد أصبت حاجتك ، فامتنع من الخروج ـ وتعلق بشجرة هناك ،

٧٠

وخاصم ملك الموت قائلا : قال الله : « كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ » وقد ذقته ، وقال : « وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها » وقد وردت النار ، وقال : « وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ » ـ ولست أخرج من الجنة بعد دخولها ـ فأوحى الله إلى ملك الموت خصمك عبدي فاتركه ـ ولا تتعرض له فبقي في الجنة.

ورواه في العرائس ، عن وهب وفي آخره : فهو حي هناك فتارة يعبد الله في السماء الرابعة ـ وتارة يتنعم في الجنة.

وفي مستدرك الحاكم ، عن سمرة : كان إدريس أبيض طويلا ضخم عريض الصدر ـ قليل شعر الجسد كثير شعر الرأس ، وكانت إحدى عينيه أعظم من الأخرى ، وكانت في صدره نكتة بيضاء من غير برص ـ فلما رأى الله من أهل الأرض ما رأى من جورهم ـ واعتدائهم في أمر الله ، رفعه الله إلى السماء السادسة ـ فهو حيث يقول : « وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا ».

أقول : ولا يرتاب الناقد البصير في أن هذه الروايات إسرائيليات لعبت بها أيدي الوضع ، ويدفعها الموازين العلمية والأصول المسلمة من الدين.

٣ ـ ويسمى عليه‌السلام بهرمس قال القفطي في كتاب إخبار العلماء بأخبار الحكماء ، في ترجمة إدريس : اختلف الحكماء في مولده ومنشئه وعمن أخذ العلم قبل النبوة فقالت فرقة : ولد بمصر وسموه هرمس الهرامسة ، ومولده بمنف ، وقالوا : هو باليونانية إرميس وعرب بهرمس ، ومعنى إرميس عطارد ، وقال آخرون : اسمه باليونانية طرميس ، وهو عند العبرانيين خنوخ وعرب أخنوخ ، وسماه الله عز وجل في كتابه العربي المبين إدريس.

وقال هؤلاء : إن معلمه اسمه الغوثاذيمون وقيل : إغثاذيمون المصري ، ولم يذكروا من كان هذا الرجل؟ إلا أنهم قالوا : إنه أحد الأنبياء اليونانيين والمصريين ، وسموه أيضا أورين الثاني وإدريس عندهم أورين الثالث ، وتفسير غوثاذيمون السعيد الجد ، وقالوا : خرج هرمس من مصر وجاب الأرض كلها ثم عاد إليها ورفعه الله إليه بها ، وذلك بعد اثنين وثمانين سنة من عمره.

وقالت فرقة أخرى : إن إدريس ولد ببابل ونشأ بها وأنه أخذ في أول عمره

٧١

بعلم شيث بن آدم وهو جد جد أبيه لأن إدريس ابن يارد بن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث. قال الشهرستاني : إن إغثاذيمون هو شيث.

ولما كبر إدريس آتاه الله النبوة فنهى المفسدين من بني آدم عن مخالفتهم شريعة آدم وشيث فأطاعه أقلهم وخالفه جلهم فنوى الرحلة عنهم وأمر من أطاعه منهم بذلك فثقل عليهم الرحيل من أوطانهم فقالوا له : وأين نجد إذا رحلنا مثل بابل؟ وبابل بالسريانية النهر وكأنهم عنوا بذلك دجلة والفرات ، فقال : إذا هاجرنا لله رزقنا غيره.

فخرج وخرجوا وساروا إلى أن وافوا هذا الإقليم الذي سمي بابليون فرأوا النيل ورأوا واديا خاليا من ساكن فوقف إدريس على النيل وسبح الله وقال لجماعته : بابليون ، واختلف في تفسيره فقيل : نهر كبير ، وقيل : نهر كنهركم ، وقيل : نهر مبارك ، وقيل : إن يون في السريانية مثل أفعل التي للمبالغة في كلام العرب وكان معناه نهر أكبر فسمي الإقليم عند جميع الأمم بابليون ، وسائر فرق الأمم على ذلك إلا العرب فإنهم يسمونه إقليم مصر نسبة إلى مصر بن حام النازل به بعد الطوفان والله أعلم بكل ذلك.

وأقام إدريس ومن معه بمصر يدعو الخلائق إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وطاعة الله عز وجل ، وتكلم الناس في أيامه باثنين وسبعين لسانا ، وعلمه الله عز وجل منطقهم ليعلم كل فرقة منهم بلسانها ، ورسم لهم تمدين المدن ، وجمع له طالبي العلم بكل مدينة فعرفهم السياسية المدنية ، وقرر لهم قواعدها فبنت كل فرقة من الأمم مدنا في أرضها ، وكانت عدة المدن التي أنشئت في زمانه مائة مدينة وثماني وثمانين مدينة أصغرها الرها وعلمهم العلوم.

وهو أول من استخرج الحكمة وعلم النجوم فإن الله عز وجل أفهمه سر الفلك وتركيبه ونقط اجتماع الكواكب فيه وأفهمه عدد السنين والحساب ولو لا ذلك لم تصل الخواطر باستقرائها إلى ذلك.

وأقام للأمم سننا في كل إقليم تليق كل سنة بأهلها ، وقسم الأرض أربعة أرباع وجعل على كل ربع ملكا يسوس أمر المعمور من ذلك الربع ، وتقدم إلى كل ملك بأن يلزم أهل كل ربع بشريعة سأذكر بعضها ، وأسماء الأربعة الملوك الذين ملكوا : الأول

٧٢

إيلاوس وتفسيره الرحيم ، والثاني أوس ، والثالث سقلبيوس ، والرابع أوس آمون ، وقيل : إيلاوس آمون ، وقيل : يسيلوخس وهو آمون الملك انتهى موضع الحاجة.

وهذه أحاديث وأنباء تنتهي إلى ما قبل التاريخ لا يعول عليها ذاك التعويل غير أن بقاء ذكره الحي بين الفلاسفة وأهل العلم جيلا بعد جيل وتعظيمهم له واحترامهم لساحته وإنهاءهم أصول العلم إليه يكشف عن أنه من أقدم أئمة العلم الذين ساقوا العالم الإنساني إلى ساحة التفكر الاستدلالي والإمعان في البحث عن المعارف الإلهية أو هو أولهم عليه‌السلام.

* * *

( أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (٥٨) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (٦٠) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (٦٣) )

( بيان )

قد تقدم في الكلام على غرض السورة أن الذي يستفاد من سياقها بيان أن عبادته تعالى ـ وهو دين التوحيد ـ هو دين أهل السعادة والرشد من الأنبياء والأولياء ، وأن

٧٣

التخلف عن سبيلهم بإضاعة الصلاة واتباع الشهوات اتباع سبيل الغي إلا من تاب وآمن وعمل صالحا.

فالآيات وخاصة الثلاث الأول منها تتضمن حاق غرض السورة وقد أوردته في صورة الاستنباط من القصص المسرودة فيما تقدم من الآيات ، وهذا مما تمتاز به هذه السورة من سائر سور القرآن الطوال فإنما يشار في سائر السور إلى أغراضها بالتلويح في مفتتح السورة ومختتمها ببراعة الاستهلال وحسن الختام لا في وسطها.

قوله تعالى : « أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ » إلخ ، الإشارة بقوله : « أُولئِكَ » إلى المذكورين قبل الآية في السورة وهم زكريا ويحيى ومريم وعيسى وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وهارون وإسماعيل وإدريس عليه‌السلام.

وقد تقدمت الإشارة إليه من سياق آيات السورة وأن القصص الموردة فيها أمثلة ، وأن هذه الآية واللتين بعدها نتيجة مستخرجة منها ، ولازم ذلك أن يكون قوله : « أُولئِكَ » مشيرا إلى أصحاب القصص بأعيانهم مبتدأ ، وقوله : « الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ » صفة له ، وقوله : « إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ » إلخ ، خبرا له فهذا هو الذي يهدي إليه التدبر في السياق. ولو أخذ قوله : « الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ » خبرا لقوله : « أُولئِكَ » فقوله : « إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ » إلخ ، خبر له بعد خبر لكنه لا يلائم غرض السورة تلك الملاءمة.

وقد أخبر الله سبحانه أنه أنعم عليهم وأطلق القول فيهم ففيه دلالة على أنهم قد غشيتهم النعمة الإلهية من غير نقمة وهذا هو معنى السعادة فليست السعادة إلا النعمة من غير نقمة فهؤلاء أهل السعادة والفلاح بتمام معنى الكلمة وقد أخبر تعالى عنهم أنهم أصحاب الصراط المستقيم المصون سالكه عن الغضب والضلال إذ قال : « اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ » الحمد : ٧ ، وهم في أمن واهتداء لقوله : « الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ » الأنعام : ٨٢ ، فأصحاب الصراط المستقيم المصونون عن الغضب والضلال ولم يلبسوا إيمانهم بظلم في أمن من كل خطر يهدد الإنسان تهديدا فهم سعداء في سلوكهم سبيل الحياة التي سلكوها والسبيل التي سلكوها ، هي سبيل السعادة.

وقوله : « مِنَ النَّبِيِّينَ » من فيه للتبعيض وعديله قوله الآتي : « وَمِمَّنْ هَدَيْنا

٧٤

وَاجْتَبَيْنا » على ما سيأتي توضيحه. وقد جوز المفسرون كون « من » بيانية وأنت خبير بأن ذلك لا يلائم كون « أُولئِكَ » مشيرا إلى المذكورين من قبل ، لأن النبيين أعم ، اللهم إلا أن يكون إشارة إليهم بما هم أمثلة لأهل السعادة ويكون المعنى أولئك المذكورون وأمثالهم الذين أنعم الله عليهم هم النبيون ومن هدينا واجتبينا.

وقوله : « مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ » في معنى الصفة للنبيين ومن فيه للتبعيض أي من النبيين الذين هم بعض ذرية آدم ، وليس بيانا للنبيين لاختلال المعنى بذلك.

وقوله : « وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ » معطوف على قوله : « مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ » والمراد بهم المحمولون في سفينة نوح عليه‌السلام وذريتهم وقد بارك الله عليهم ، وهم من ذرية نوح لقوله تعالى : « وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ » الصافات : ٧٧.

وقوله : « وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ » معطوف كسابقه على قوله : « مِنَ النَّبِيِّينَ ».

وقد قسم الله تعالى الذين أنعم عليهم من النبيين على هذه الطوائف الأربع أعني ذرية آدم ومن حمله مع نوح وذرية إبراهيم وذرية إسرائيل وقد كان ذكر كل سابق يغني عن ذكر لاحقه لكون ذرية إسرائيل من ذرية إبراهيم والجميع ممن حمل مع نوح والجميع من ذرية آدم عليه‌السلام.

ولعل الوجه فيه الإشارة إلى نزول نعمة السعادة وبركة النبوة على نوع الإنسان كرة بعد كرة فقد ذكر ذلك في القرآن الكريم في أربعة مواطن لطوائف أربع : أحدها لعامة بني آدم حيث قال : « قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ » البقرة : ٣٩.

والثاني ما في قوله تعالى : « قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ » هود : ٤٨ ، والثالث ما في قوله تعالى : « وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ » الحديد : ٢٦ ، والرابع ما في قوله تعالى : « وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ » الجاثية : ١٦.

٧٥

فهذه مواعد أربع بتخصيص نوع الإنسان بنعمة النبوة وموهبة السعادة ، وقد أشير إليها في الآية المبحوث عنها بقوله : « مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ » ، وقد ذكر في القصص السابقة من كل من الذراري الأربع كإدريس من ذرية آدم ، وإبراهيم من ذرية من حمل مع نوح ، وإسحاق ويعقوب من ذرية إبراهيم ، وزكريا ويحيى وعيسى وموسى وهارون وإسماعيل ـ على ما استظهرنا ـ من ذرية إسرائيل.

وقوله : « وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا » معطوف على قوله : « مِنَ النَّبِيِّينَ » وهؤلاء غير النبيين من الذين أنعم الله عليهم فإن هذه النعمة غير خاصة بالنبيين ولا منحصرة فيهم بدليل قوله تعالى : « وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً » النساء : ٦٩ وقد ذكر الله سبحانه بين من قص قصته مريم عليه‌السلام معتنيا بها إذ قال : « وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ » وليست من النبيين فالمراد بقوله : « وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا » غير النبيين من الصديقين والشهداء والصالحين لا محالة ، وكانت مريم من الصديقين لقوله تعالى : « مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ » المائدة : ٧٥.

ومما تقدم من مقتضى السياق يظهر فساد قول من جعل « وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا » معطوفا على قوله : « مِنَ النَّبِيِّينَ » مع أخذ من للبيان ، وأورد عليه بعضهم أيضا بأن ظاهر العطف المغايرة فيحتاج إلى أن يقال : المراد ممن جمعنا له بين النبوة والهداية والاجتباء للكرامة وهو خلاف الظاهر. وفيه منع كون ظاهر العطف المغايرة مصداقا وإنما هو المغايرة في الجملة ولو بحسب الوصف والبيان.

ونظيره قول من قال بكونه معطوفا على قوله : « مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ » ومن للتبعيض وقد اتضح وجه فساده مما قدمناه.

ونظيره قول من قال : إن قوله : « وَمِمَّنْ هَدَيْنا » استئناف من غير عطف فقد تم الكلام عند قوله : « إِسْرائِيلَ » ثم ابتدأ فقال : وممن هدينا واجتبينا من الأمم قوم إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا فحذف المبتدأ لدلالة الكلام عليه ، والوجه منسوب إلى أبي مسلم المفسر.

٧٦

وفيه أنه تقدير من غير دليل. على أن في ذلك إفساد غرض على ما يشهد به السياق إذ الغرض منها بيان طريقة أولئك العباد المنعم عليهم وأنهم كانوا خاضعين لله خاشعين له وأن أخلافهم أعرضوا عن طريقتهم وأضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وهذا لا يتأتى إلا بكون قوله : « إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ » إلخ خبرا لقوله : « أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ » وأخذ قوله : « وَمِمَّنْ هَدَيْنا » إلى آخر الآية استئنافا مقطوعا عما قبله إفساد للغرض المذكور من رأس.

وقوله : « إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا » السجد جمع ساجد والبكي على فعول جمع باكي والجملة خبر للذين في صدر الآية ويحتمل أن يكون الخرور سجدا وبكيا كناية عن كمال الخضوع والخشوع فإن السجدة ممثل لكمال الخضوع والبكاء لكمال الخشوع والأنسب على هذا أن يكون المراد بالآيات وتلاوتها ذكر مطلق ما يحكي شأنا من شئونه تعالى.

وأما قول القائل إن المراد بتلاوة الآيات قراءة الكتب السماوية مطلقا أو خصوص ما يشتمل على عذاب الكفار والمجرمين ، أو أن المراد بالسجود الصلاة أو سجدة التلاوة أو أن المراد بالبكاء البكاء عند استماع الآيات أو تلاوتها فكما ترى.

فمعنى الآية ـ والله أعلم ـ أولئك المنعم عليهم الذين بعضهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وبعضهم من أهل الهداية والاجتباء خاضعون للرحمن خاشعون إذا ذكر عندهم وتليت آياته عليهم.

ولم يقل : كانوا إذا تتلى عليهم « إلخ » لأن العناية في المقام متعلقه ببيان حال النوع من غير نظر إلى ماضي الزمان ومستقبله بل بتقسيمه إلى سلف صالح وخلف طالح وثالث تاب وآمن وعمل صالحا وهو ظاهر.

قوله تعالى : « فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا » قالوا : الخلف بسكون اللام البدل السيئ وبفتح اللام ضده وربما يعكس على ندرة ، وضياع الشيء فساده أو افتقاده بسبب ما كان ينبغي أن يتسلط عليه يقال : أضاع المال إذا أفسده بسوء تدبيره أو أخرجه من يده بصرفه فيما لا ينبغي صرفه فيه ، والغي خلاف الرشد وهو إصابة الواقع وهو قريب المعنى من الضلال خلاف الهدى

٧٧

وهو ركوب الطريق الموصل إلى الغاية المقصودة.

فقوله : « فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ » إلخ أي قام مقام أولئك الذين أنعم الله عليهم وكانت طريقتهم الخضوع والخشوع لله تعالى بالتوجه إليه بالعبادة قوم سوء أضاعوا ما أخذوه منهم من الصلاة والتوجه العبادي إلى الله سبحانه بالتهاون فيه والإعراض عنه ، واتبعوا الشهوات الصارفة لهم عن المجاهدة في الله والتوجه إليه.

ومن هنا يظهر أن المراد بإضاعة الصلاة إفسادها بالتهاون فيها والاستهانة بها حتى ينتهي إلى أمثال اللعب بها والتغيير فيها والترك لها بعد الأخذ والقبول فما قيل : إن المراد بإضاعة الصلاة تركها ليس بسديد إذ لا يسمى ترك الشيء من رأس إضاعة له والعناية في الآية متعلقه بأن الدين الإلهي انتقل من أولئك السلف الصالح بعدهم إلى هؤلاء الخلف الطالح فلم يحسنوا الخلافة وأضاعوا ما ورثوه من الصلاة التي هي الركن الوحيد في العبودية واتبعوا الشهوات الصارفة عن الحق.

وقوله : « فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا » أي جزاء غيهم على ما قيل فهو كقوله : « وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً ».

ومن الممكن أن يكون المراد به نفس الغي بفرض الغي غاية للطريق التي يسلكونها وهي طريق إضاعة الصلاة واتباع الشهوات فإذ كانوا يسلكون طريقا غايتها الغي فسيلقونه إذا قطعوها إما بانكشاف غيهم لهم يوم القيامة حيث ينكشف لهم الحقائق أو برسوخ الغي في قلوبهم وصيرورتهم من أولياء الشيطان كما قال : « إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ » الحجر : ٤٢ ، وكيف كان فهو استعارة بالكناية لطيفة.

قوله تعالى : « إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً » استثناء من الآية السابقة فهؤلاء الراجعون إلى الله سبحانه ملحقون بأولئك الذين أنعم الله عليهم وهم معهم لا منهم كما قال تعالى : « وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً » النساء : ٦٩.

وقوله : « فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ » من وضع المسبب موضع السبب والأصل

٧٨

فأولئك يوفون أجرهم ، والدليل على ذلك قوله بعده : « وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً » فإنه من لوازم توفية الأجر لا من لوازم دخول الجنة.

قوله تعالى : « جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا » العدن الإقامة ففي تسميتها به إشارة إلى خلودها لداخليها ، والوعد بالغيب هو الوعد بما ليس تحت إدراك الموعود له ، وكون الوعد مأتيا عدم تخلفه ، قال في المجمع : والمفعول هنا بمعنى الفاعل لأن ما أتيته فقد أتاك وما أتاك فقد أتيته يقال : أتيت خمسين سنة وأتت علي خمسون سنة ، وقيل : إن الموعود الجنة والجنة يأتيها المؤمنون انتهى.

قوله تعالى : « لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا » عدم سمع اللغو من أخص صفات الجنة وقد ذكره الله سبحانه وامتن به في مواضع من كلامه وسنفصل القول فيه إن شاء الله في موضع يناسبه ، واستثناء السلام منه استثناء منفصل ، والسلام قريب المعنى من الأمن ـ وقد تقدم الفرق بينهما ـ فقولك : أنت مني في أمن معناه لا تلقى مني ما يسوءك ، وقولك : سلام مني عليك معناه كل ما تلقاه مني لا يسوءك. وإنما يسمعون السلام من الملائكة ومن رفقائهم في الجنة ، قال تعالى حكاية عن الملائكة « « سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ » الزمر : ٧٣ ، وقال : « فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ » الواقعة ـ ٩١.

وقوله ( وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) الظاهر أن إتيان الرزق بكرة وعشيا كناية عن تواليه من غير انقطاع.

قوله تعالى : « تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا » الإرث والوراثة هو أن ينتقل مال أو ما يشبهه من شخص إلى آخر بعد ترك الأول له بموت أو جلاء أو نحوهما ، وإذ كانت الجنة في معرض العطاء لكل إنسان بحسب الوعد الإلهي المشروط بالإيمان والعمل الصالح فاختصاص المتقين بها بعد حرمان غيرهم عنها بإضاعة الصلاة واتباع الشهوات وراثة المتقين ، ونظير هذه العناية ما في قوله تعالى : « أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ » الأنبياء : ١٠٥ ، وقوله : « وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ » الزمر : ٧٤ ، والآية ـ كما ترى ـ جمعت بين الإيراث والأجر.

٧٩

( بحث روائي )

في المجمع ، : في قوله تعالى : « وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا » الآية ، وروي عن علي بن الحسين عليه‌السلام أنه قال : نحن عنينا بها ).

أقول : وعن مناقب ابن شهرآشوب ، عنه عليه‌السلام مثله ، وقد اتضح معنى الحديث بما قدمناه في تفسير الآية فإن المراد بالجملة أهل الهداية والاجتباء من غير النبيين وهم عليه‌السلام منهم كما ذكر الله سبحانه مريم منهم وليست بنبية.

قال في روح المعاني ، : وروى بعض الإمامية عن علي بن الحسين رضي الله عنهما أنه قال : نحن عنينا بهؤلاء القوم. ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر جدا وحال روايات الإمامية لا يخفى على أرباب التميز. انتهى. وقد تبين خطؤه مما تقدم والذي أوقعه في ذلك أخذه قوله تعالى : « وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا » معطوفا على قوله : « مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ » وقوله : « مِنَ النَّبِيِّينَ » بيانا لقوله : « أُولئِكَ الَّذِينَ » إلخ ، فانحصر « أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ » في النبيين فاضطر إلى القول بأن الآية لا تشمل غير النبيين وهو يرى أن الله ذكر فيمن ذكر مريم بنت عمران وليست بنبية.

وفي الدر المنثور ، أخرج أحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وتلا هذه الآية « فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ » ـ فقال : يكون خلف من بعد ستين سنة أضاعوا الصلاة ـ واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا ، ثم يكون خلف يقرءون القرآن لا يعدو تراقيهم ، ويقرأ القرآن ثلاثة : مؤمن ومنافق وفاجر.

وفي المجمع في قوله تعالى : « أَضاعُوا الصَّلاةَ » وقيل : أضاعوها بتأخيرها عن مواقيتها من غير أن تركوها أصلا ـ وهو المروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام.

أقول : وروى في الكافي ، ما في معناه بإسناده عن داود بن فرقد عنه عليه‌السلام ، وروي ذلك من طرق أهل السنة عن ابن مسعود وعدة من التابعين.

وعن جوامع الجامع ، وفي روح المعاني ، : في قوله : « وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ » عن علي عليه‌السلام ـ من بنى الشديد وركب المنظور ولبس المشهور.

٨٠