الميزان في تفسير القرآن - ج ١٤

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ١٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٥
الصفحات: ٤١٦

دينه وتمام نوره وأنتم تنتظرون بنا الدوائر لتبطلوا الدعوة الحقة وكل منا ومنكم يسلك سبيلا إلى مطلوبه فتربصوا وانتظروا وفيه تهديد فستعلمون أي طائفة منا ومنكم أصحاب الطريق المستقيم الذي يوصله إلى مطلوبه ومن الذين اهتدوا إلى المطلوب وفيه ملحمة وإخبار بالفتح.

( بحث روائي )

في تفسير القمي : في قوله تعالى : « لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى » قال : كان ينزل بهم العذاب ولكن قد أخرهم إلى أجل مسمى.

وفي الدر المنثور ، أخرج الطبراني وابن مردويه وابن عساكر عن جرير عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : في قوله : « وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها » ـ قال : قبل طلوع الشمس صلاة الصبح ـ وقبل غروبها صلاة العصر.

وفي تفسير القمي : في قوله تعالى : « وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ » ـ قال : بالغداة والعشي.

أقول : وهو يؤيد ما قدمناه.

وفي الكافي ، بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قلت له : « وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى »؟ قال : يعني تطوع بالنهار.

أقول : وهو مبني على تفسير التسبيح بمطلق الصلاة أو بمطلق التسبيح.

وفي تفسير القمي : في قوله تعالى : « وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ » الآية : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : لما نزلت هذه الآية استوى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جالسا ـ ثم قال : من لم يتعز بعزاء الله ـ تقطعت نفسه على الدنيا حسرات ، ومن اتبع بصره ما في أيدي الناس طال همه ـ ولم يشف غيظه ، ومن لم يعرف أن لله عليه نعمة ـ لا في مطعم ولا في مشرب قصر أجله ودنا عذابه.

وفي الدر المنثور ، أخرج ابن أبي شيبة وابن راهويه والبزار وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والخرائطي في مكارم الأخلاق وأبو نعيم في المعرفة عن أبي رافع قال : أضاف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ضيفا ولم يكن عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ما يصلحه ـ فأرسلني

٢٤١

إلى رجل من اليهود أن بعنا ـ أو أسلفنا دقيقا إلى هلال رجب فقال لا إلا برهن.

فأتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : أما والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض ـ ولو أسلفني أو باعني لأديت إليه ـ أذهب بدرعي الحديد فلم أخرج من عنده ـ حتى نزلت هذه الآية « وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ » كأنه يعزيه عن الدنيا.

أقول : ومضمون الآية وخاصة ذيلها لا يلائم القصة.

وفيه ، أخرج ابن مردويه وابن عساكر وابن النجار عن أبي سعيد الخدري قال : لما نزلت « وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ » ـ كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يجيء إلى باب علي ثمانية أشهر يقول : الصلاة رحمكم الله ـ إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ـ ويطهركم تطهيرا.

أقول : ورواه في مجمع البيان ، عن الخدري وفيه تسعة أشهر مكان ثمانية أشهر ، وروى هذا المعنى في العيون ، في مجلس الرضا مع المأمون عنه ، عليه‌السلام ورواه القمي أيضا في تفسيره ، مرفوعا ، والتقييد بتسعة أشهر مبني على ما شاهده الراوي لا على تحديد أصل إتيانه صلى‌الله‌عليه‌وآله والشاهد عليه ما رواه الشيخ في الأمالي ، بإسناده عن أبي الحميراء قال : شهدت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أربعين صباحا ـ يجيء إلى باب علي وفاطمة فيأخذ بعضادتي الباب ـ ثم يقول : السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته ـ الصلاة يرحمكم الله ـ إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ـ ويطهركم تطهيرا.

وظاهر الرواية كون الآية مدنية ولم يذكر ذلك أحد فيما أذكر ولعل المراد بيان إتيانه صلى‌الله‌عليه‌وآله الباب في المدينة عملا بالآية ولو كانت نازلة بمكة وإن كان بعيدا من اللفظ وفي رواية القمي التي أومأنا إليها ما يؤيد هذا المعنى ففيها : فلم يزل يفعل ذلك كل يوم إذا شهد المدينة حتى فارق الدنيا ، وحديث أمره أهل بيته بالصلاة مروي بطرق أخرى أيضا غير ما مرت الإشارة إليه.

وفي الدر المنثور ، أخرج أبو عبيد وسعيد بن منصور وابن المنذر والطبراني في الأوسط ، وأبو نعيم في الحلية ، والبيهقي في شعب الإيمان ، بسند صحيح عن عبد الله بن سلام قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا نزلت بأهله شدة أو ضيق ـ أمرهم بالصلاة وتلا ( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ ) الآية.

أقول : وروى هذا المعنى أيضا عن أحمد في الزهد ، وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان ، عن ثابت عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفيه دلالة على التوسع في معنى التسبيح في الآية.

٢٤٢

( سورة الأنبياء مكية وهي مائة واثنتا عشرة آية )

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠) وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا

٢٤٣

إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (١٥) )

( بيان )

غرض السورة الكلام حول النبوة بانيا ذلك على التوحيد والمعاد فتفتتح بذكر اقتراب الحساب وغفلة الناس عن ذلك وإعراضهم عن الدعوة الحقة التي تتضمن الوحي السماوي فهي ملاك حساب يوم الحساب وتنتقل من هناك إلى موضوع النبوة واستهزاء الناس بنبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ورميهم إياه بأنه بشر ساحر بل ما أتى به أضغاث أحلام بل مفتر بل شاعر! فترد ذلك بذكر أوصاف الأنبياء الماضين الكلية إجمالا وأن النبي لا يفقد شيئا مما وجدوه ولا ما جاء به يغاير شيئا مما جاءوا به.

ثم تذكر قصص جماعة من الأنبياء تأييدا لما تقدم من الإجمال وهم موسى وهارون وإبراهيم وإسحاق ويعقوب ولوط ونوح وداود وسليمان وأيوب وإسماعيل وإدريس وذو الكفل وذو النون وزكريا ويحيى وعيسى.

ثم تتخلص إلى ذكر يوم الحساب وما يلقاه المجرمون والمتقون فيه ، وأن العاقبة للمتقين وأن الأرض يرثها عباده الصالحون ثم تذكر أن إعراضهم عن النبوة إنما هو لإعراضهم عن التوحيد فتقيم الحجة على ذلك كما تقيمها على النبوة والغلبة في السورة للوعيد على الوعد وللإنذار على التبشير. والسورة مكية بلا خلاف فيها وسياق آياتها يشهد بذلك.

قوله تعالى : « اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ » الاقتراب افتعال من القرب واقترب وقرب بمعنى واحد غير أن اقترب أبلغ لزيادة بنائه ويدل على مزيد عناية بالقرب ، ويتعدى القرب والاقتراب بمن وإلى يقال : قرب أو اقترب زيد من عمرو أو إلى عمرو والأول يدل على أخذ نسبة القرب من عمرو والثاني على أخذها من زيد لأن الأصل في معنى من ابتداء الغاية كما أن الأصل في معنى إلى انتهاؤها.

٢٤٤

ومن هنا يظهر أن اللام في « لِلنَّاسِ » بمعنى إلى لا بمعنى « من » لأن المناسب للمقام أخذ نسبة الاقتراب من جانب الحساب لأنه الذي يطلب الناس بالاقتراب منهم والناس في غفلة معرضون.

والمراد بالحساب ـ وهو محاسبة الله سبحانه أعمالهم يوم القيامة ـ نفس الحساب لا زمانه بنحو التجوز أو بتقدير الزمان وإن أصر بعضهم عليه ووجهه بعض آخر بأن الزمان هو الأصل في القرب والبعد وإنما ينسب القرب والبعد إلى الحوادث الواقعة فيه بتوسطه.

وذلك لأن الغرض في المقام متعلق بتذكره نفس الحساب لتعلقه بأعمال الناس إذ كانوا مسئولين عن أعمالهم فكان من الواجب في الحكمة أن ينزل عليهم ذكر من ربهم ينبههم على ما فيه مسئوليتهم ، ومن الواجب عليهم أن يستمعوا له مجدين غير لاعبين ولا لاهية قلوبهم نعم لو كان الكلام مسوقا لبيان أهوال الساعة وما أعد من العذاب للمجرمين كان الأنسب التعبير بيوم الحساب أو تقدير الزمان ونحو ذلك.

والمراد بالناس الجنس وهو المجتمع البشري الذي كان أكثرهم مشركين يومئذ لا المشركون خاصة وإن كان ما ذكر من أوصافهم كالغفلة والإعراض والاستهزاء وغيرها أوصاف المشركين فليس ذلك من نسبة حكم البعض إلى الكل مجازا بل من نسبة حكم المجتمع إلى نفسه حقيقة ثم استثناء البعض الذي لا يتصف بالحكم كما يلوح إليه أمثال قوله : « وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا » وقوله : « فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ » على ما هو دأب القرآن في خطاباته الاجتماعية من نسبة الحكم إلى المجتمع ثم استثناء الأفراد غير المتصفة به.

وبالجملة فرق بين أخذ المجتمع موضوعا للحكم واستثناء أفراد منه غير متصفة به وبين أخذ أكثر الأفراد موضوع الحكم ثم نسبة حكمه إلى الكل مجازا وما نحن فيه من القبيل الأول دون الثاني.

وقد وجه بعضهم اقتراب الحساب للناس بأن كل يوم يمر على الدنيا تصير أقرب إلى الحساب منها بالأمس ، وقيل : الاقتراب إنما هو بعناية كون بعثته صلى‌الله‌عليه‌وآله في آخر الزمان كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : بعثت أنا والساعة كهاتين ، وأما الوجه السابق فإنما يناسب اللفظ الدال على الاستمرار دون الماضي الدال على الفراغ من تحققه ونظيره أيضا

٢٤٥

توجيهه بأن الاقتراب لتحقق الوقوع فكل ما هو آت قريب.

وقوله : « وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ » ذلك أنهم تعلقوا بالدنيا واشتغلوا بالتمتع فامتلأت قلوبهم من حبها فلم يبق فيها فراغ يقع فيها ذكر الحساب وقوعا تتأثر به حتى أنهم لو ذكروا لم يذكروا وهو الغفلة فإن الشيء كما يكون مغفولا عنه لعدم تصوره من أصله قد يكون مغفولا عنه لعدم تصوره كما هو حقه بحيث تتأثر النفس به.

وبهذا يظهر الجواب عن الإشكال بأن الجمع بين الغفلة وهي تلازم عدم التنبه للشيء والإعراض وهو يستلزم التنبه له جمع بين المتنافيين ، ومحصل الجواب أنهم في غفلة عن الحساب لعدم تصورهم إياه كما هو حقه وهم معرضون عنه لاشتغالهم عن لوازم العلم بخلافها.

وأجاب عنه الزمخشري بما لفظه : وصفهم بالغفلة مع الإعراض على معنى أنهم غافلون عن حسابهم ساهون لا يتفكرون في عاقبتهم ولا يتفطنون لما يرجع إليه خاتمة أمرهم مع اقتضاء عقولهم أنه لا بد من جزاء للمحسن والمسيء ، وإذا قرعت لهم العصا ونبهوا عن سنة الغفلة وفطنوا لذلك بما يتلى عليهم من الآيات والنذر أعرضوا وسدوا أسماعهم ونفروا. انتهى.

والفرق بينه وبين ما وجهنا به أنه أخذ الإعراض في طول الغفلة لا في عرضه ، والإنصاف أن ظاهر الآية اجتماعهما لهم في زمان واحد ، لا ترتب الوصفين زمانا.

ودفع بعضهم الإشكال بأخذ الإعراض بمعنى الاتساع فالمعنى وهم متسعون في غفلة ، وآخرون بأخذ الغفلة بمعنى الإهمال ولا تنافي بين الإهمال والإعراض ، والوجهان من قبيل الالتزام بما لا يلزم.

والمعنى : اقترب للناس حساب أعمالهم والحال أنهم في غفلة مستمرة أو عظيمة معرضون عنه باشتغالهم بشواغل الدنيا وعدم التهيؤ له بالتوبة والإيمان والتقوى.

قوله تعالى : « ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ » الآية بمنزلة التعليل لقوله : « وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ » إذ لو لم يكونوا في غفلة معرضين لم يلعبوا ولم يتلهوا عند استماع الذكر الذي لا ينبههم إلا على ما يهمهم التنبه له ويجب عليهم التهيؤ له ، ولذلك جيء بالفصل من غير عطف.

والمراد بالذكر ما يذكر به الله سبحانه من وحي إلهي كالكتب السماوية ومنها

٢٤٦

القرآن الكريم ، والمراد بإتيانه لهم نزوله على النبي وإسماعه وتبليغه ، ومحدث بمعنى جديد وهو معنى إضافي وهو وصف ذكر فالقرآن مثلا ذكر جديد أتاهم بعد الإنجيل والإنجيل كان ذكرا جديدا أتاهم بعد التوراة وكذلك بعض سور القرآن وآياته ذكر جديد أتاهم بعد بعض.

وقوله : « إِلَّا اسْتَمَعُوهُ » استثناء مفرغ عن جميع أحوالهم و « اسْتَمَعُوهُ » حال و « هُمْ يَلْعَبُونَ » « لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ » حالان من ضمير الجمع في « اسْتَمَعُوهُ » فهما حالان متداخلتان.

واللعب فعل منتظم الأجزاء لا غاية له إلا الخيال كلعب الأطفال واللهو اشتغالك عما يهمك يقال : ألهاه كذا أي شغله عما يهمه ولذلك تسمى آلات الطرب آلات اللهو وملاهي ، واللهو من صفة القلب ولذلك قال : « لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ » فنسبه إلى قلوبهم.

ومعنى الآية : وما يأتيهم ـ بالنزول والبلوغ ـ ذكر جديد من ربهم في حال من الأحوال إلا والحال أنهم لاعبون لاهية قلوبهم فاستمعوه فيها أي إن إحداث الذكر وتجديده لا يؤثر فيهم ولا أثرا قليلا ولا يمنعهم عن الاشتغال بلعب الدنيا عما وراءها وهذا كناية عن أن الذكر لا يؤثر فيهم في حال لا أن جديدة لا يؤثر وقديمه يؤثر وهو ظاهر.

واستدل بظاهر الآية على كون القرآن محدثا غير قديم ، وأولها الأشاعرة بأن توصيف الذكر بالمحدث من جهة نزوله وهو لا ينافي قدمه في نفسه وظاهر الآية عليهم وللكلام تتمة نوردها في بحث مستقل.

( كلام في معنى حدوث الكلام وقدمه في فصول )

١ ـ ما معنى حدوث الكلام وبقائه؟ إذا سمعنا كلاما من متكلم كشعر من شاعر لم نلبث دون أن ننسبه إليه ثم إذا كرره وتكلم بمثله ثانيا لم نرتب في أنه هو كلامه الأول بعينه أعاده ثانيا ثم إذا نقل ناقل عنه ذلك حكمنا بأنه كلام ذلك القائل الأول بعينه ثم كلما تكرر النقل كان المنقول من الكلام هو بعينه الكلام الأول الصادر من المتكلم الأول وإن تكرر إلى ما لا نهاية له.

هذا بالبناء على ما يقضي به الفهم العرفي لكنا إذا أمعنا في ذلك قليل إمعان

٢٤٧

وجدنا حقيقة الأمر على خلاف ذلك فقول القائل : جاءني زيد مثلا ليس كلاما واحدا لأن فيه الجيم أو الألف أو الهمزة فإن كل واحدة منها فرد من أفراد الصوت المتكون من اعتماد نفس المتكلم على مخرج من مخارج فمه ، والمجموع أصوات كثيرة ليست بواحدة البتة إلا بحسب الوضع والاعتبار.

ثم إن الذي تكلم به قائل القول الأول ثانيا والذي تكلم به الناقل الذي ينقله عن صاحبه الأول ثالثا ورابعا وغير ذلك أفراد أخر من الصوت مماثلة لما في الكلام الأول المفروض من الأصوات المتكونة وليست عينها إلا بحسب الاعتبار وضرب من التوسع.

وليست هذه الأصوات كلاما إلا من حيث إنها علائم وأمارات بحسب الوضع والاعتبار تدل على معان ذهنية ، ولا واحدا إلا باعتبار تعلق غرض واحد بها.

ويتحصل بذلك أن الكلام بما أنه كلام أمر وضعي اعتباري لا تحقق له في الخارج من ظرف الدعوى والاعتبار ، وإنما المتحقق في الخارج حقيقة الأفراد من الصوت التي جعلت علائم بالوضع والاعتبار بما أنها أصوات لا بما أنها علائم مجعولة ، وإنما ينسب التحقق إلى الكلام بنوع من العناية.

ومن هنا يظهر أن الكلام لا يتصف بشيء من الحدوث والبقاء فإن الحدوث وهو مسبوقية الوجود بالعدم الزماني والبقاء وهو كون الشيء موجودا في الآن بعد الآن على نعت الاتصال من شئون الحقائق الخارجية ، ولا تحقق للأمور الاعتبارية في الخارج.

وكذا لا يتصف الكلام بالقدم وهو عدم كون وجود الشيء مسبوقا بعدم زماني لأن القدم أيضا كالحدوث في كونه من شئون الحقائق الخارجية دون الأمور الاعتبارية.

على أن في اتصاف الكلام بالقدم إشكالا آخر بحياله ، وهو أن الكلام هو المؤلف من حروف مترتبة متدرجة بعضها قبل وبعضها بعد ، ولا يتصور في القدم تقدم وتأخر وإلا كان المتأخر حادثا وهو قديم هذا خلف ، فالكلام ـ بمعنى الحروف المؤلفة الدالة على معنى تام بالوضع ـ لا يتصور فيه قدم مع كونه محالا في نفس الأمر فافهم ذلك.

٢ ـ هل الكلام بما هو كلام فعل أو صفة ذاتية بمعنى أن ذات المتكلم هل هي تامة

٢٤٨

في نفسها مستغنية عن الكلام ثم يتفرع عليها الكلام أو أن قوام الذات متوقف عليه كتوقف الحيوان في ذاته على الحياة أو كعدم انفكاك الأربعة عن الزوجية في وجه ، لا ريب أن الكلام بحسب الحقيقة ليس فعلا ولا صفة للمتكلم لأنه أمر اعتباري لا تحقق له إلا في ظرف الدعوى والوضع فلا يكون فعلا حقيقيا صادرا عن ذات خارجية ولا صفة لموصوف خارجي.

نعم الكلام بما أنه عنوان لأمر خارجي وهو الأصوات المؤلفة وهي أفعال خارجية للمتصوت بها تعد فعلا للمتكلم بنوع من التوسع ثم يؤخذ عن نسبته إلى الفاعل وصف له وهو التكلم والتكليم كما في نظائره من الاعتباريات كالخضوع والإعظام والإهانة والبيع والشري ونحو ذلك.

٣ ـ تحليل معنى الكلام من الممكن أن يحلل الكلام من جهة غرضه وهو الكشف عن المعاني المكنونة في الضمير فيعود بذلك أمرا حقيقيا بعد ما كان اعتباريا ، وهذا أمر جار في جل الاعتباريات أو كلها ، وقد استعمله القرآن في معان كثيرة كالسجود والقنوت والطوع والكره والملك والعرش والكرسي والكتاب وغير ذلك.

فحقيقة الكلام هو ما يكشف به عن مكنونات الضمير فكل معلول كلام لعلته لكشفه بوجوده عن كمالها المكنون في ذاتها ، وأدق من ذلك أن صفات الشيء الذاتية كلام له يكشف به عن مكنون ذاته ، وهذا هو الذي يذكر الفلاسفة أن صفاته تعالى الذاتية كالعلم والقدرة والحياة كلام له تعالى ، وأيضا العالم كلامه تعالى.

وبين أن الكلام بناء على هذا التحليل في قدمه وحدوثه تابع لسنخ وجوده ، فالعلم الإلهي كلام قديم بقدم الذات وزيد الحادث بما هو آية تكشف عن ربه كلام له حادث ، والوحي النازل على النبي بما أنه تفهيم إلهي حادث بحدوث التفهيم وبما أنه في علم الله ـ واعتبر علمه كلاما له ـ قديم بقدم الذات كعلمه تعالى بجميع الأشياء من حادث وقديم.

٤ ـ تحصل من الفصول السابقة أن القرآن الكريم إن أريد به هذه الآيات التي نتلوها بما أنها كلام دال على معان ذهنية نظير سائر الكلام ليس بحسب الحقيقة لا حادثا ولا قديما. نعم هو متصف بالحدوث بحدوث الأصوات التي هي معنونة بعنوان الكلام والقرآن.

٢٤٩

وإن أريد به ما في علم الله من معانيها الحقة كان كعلمه تعالى بكل شيء حق قديما بقدمه فالقرآن قديم أي علمه تعالى به قديم كما أن زيدا الحادث قديم أي علمه تعالى به.

ومن هنا يظهر أن البحث عن قدم القرآن وحدوثه بما أنه كلام الله مما لا جدوى فيه فإن القائل بالقدم إن أراد به أن المقروء من الآيات بما أنها أصوات مؤلفة دالة على معانيها قديم غير مسبوق بعدم فهو مكابر ، وإن أراد به أنه في علمه تعالى وبعبارة أخرى علمه تعالى بكتابه قديم فلا موجب لإضافة علمه إليه ثم الحكم بقدمه بل علمه بكل شيء قديم بقدم ذاته لكون المراد بهذا العلم هو العلم الذاتي.

على أنه لا موجب حينئذ لعد الكلام صفة ثبوتية ذاتية أخرى له تعالى وراء العلم لرجوعه إليه ولو صح لنا عد كل ما ينطبق بحسب التحليل على بعض صفاته الحقيقية الثبوتية صفة ثبوتية له لم ينحصر عدد الصفات الثبوتية بحاصر لجواز مثل هذا التحليل في مثل الظهور والبطون والعظمة والبهاء والنور والجمال والكمال والتمام والبساطة ، إلى غير ذلك مما لا يحصى.

والذي اعتبره الشرع وورد من هذا اللفظ في القرآن الكريم ظاهر في المعنى الأول المذكور مما لا تحليل فيه كقوله تعالى : « تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ » البقرة : ٢٥٣ ، وقوله : « وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً » النساء : ١٦٤ ، وقوله : « وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ » البقرة : ٧٥ ، وقوله : « يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ » المائدة : ١٣ ، إلى غير ذلك من الآيات.

وأما ما ذكره بعضهم أن هناك كلاما نفسيا قائما بنفس المتكلم غير الكلام اللفظي وأنشد في ذلك قول الشاعر :

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما

جعل اللسان على الفؤاد دليلا

والكلام النفسي فيه تعالى هو الموصوف بالقدم دون الكلام اللفظي.

ففيه أنه إن أريد بالكلام النفسي معنى الكلام اللفظي أو صورته العلمية التي تنطبق على لفظه عاد معناه إلى العلم ولم يكن أمرا يزيد عليه وصفة مغايرة له وإن أريد به معنى وراء ذلك فلسنا نعرفه في نفوسنا إذا راجعناها.

وأما ما أنشد من الشعر في بحث عقلي فلا ينفعه ولا يضرنا ، والأبحاث العقلية أرفع مكانة من أن يصارع فيها الشعراء.

٢٥٠

قوله تعالى : « وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ » الإسرار يقابل الإعلان فإسرار النجوى هو المبالغة في كتمان القول وإخفائه فإن إسرار القول يفيد وحدة معنى النجوى فإضافته إلى النجوى تفيد المبالغة.

وضمير الفاعل في « أَسَرُّوا النَّجْوَى » راجع إلى الناس غير أنه لما لم يكن الفعل فعلا لجميعهم ولا لأكثرهم فإن فيهم المستضعف ومن لا شغل له به وإن كان منسوبا إلى الكل من جهة ما في مجتمعهم من الغفلة والإعراض أوضح النسبة بقوله : « الَّذِينَ ظَلَمُوا » فهو عطف بيان دل به على أن النجوى إنما كان في الذين ظلموا منهم خاصة.

وقوله : « هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ » هو الذي تناجوا به ، وقد كانوا يصرحون بتكذيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويعلنون بأنه بشر وأن القرآن سحر من غير أن يخفوا شيئا من ذلك لكنهم إنما أسروه في نجواهم إذ كان ذلك منهم شورى يستشير بعضهم فيه بعضا ما ذا يقابلون به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويجيبون عما يسألهم من الإيمان بالله وبرسالته؟ فما كان يسعهم إلا كتمان ما يذكر فيما بينهم وإن كانوا أعلنوا به بعد الاتفاق على رد الدعوة.

وقد اشتمل نجواهم على قولين قطعوا عليهما أو ردوهما بطريق الاستفهام الإنكاري وهما قوله : « هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ » وقد اتخذوه حجة لإبطال نبوته وهو أنه كما تشاهدونه ـ وقد أتوا باسم الإشارة دون الضمير فقالوا : هل هذا؟ ولم يقولوا : هل هو؟ للدلالة على العلم به بالمشاهدة ـ بشر مثلكم لا يفارقكم في شيء يختص به فلو كان ما يدعيه من الاتصال بالغيب والارتباط باللاهوت حقا لكان عندكم مثله لأنكم بشر مثله ، فإذ ليس عندكم من ذلك نبأ فهو مثلكم لا خبر عنده فليس بنبي كما يدعي.

وقولهم : « أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ » وهو متفرع بفاء التفريع على نفي النبوة بإثبات البشرية فيرجع المعنى إلى أنه لما لم يكن نبيا متصلا بالغيب فالذي أتاكم به مدعيا أنه آية النبوة ليس بآية معجزة من الله بل سحر تعجزون عن مثله ، ولا ينبغي لذي بصر سليم أن يذعن بالسحر ويؤمن بالساحر.

قوله تعالى : « قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ » أي أنه تعالى محيط علما بكل قول سرا أو جهرا وفي أي مكان وهو السميع لأقوالكم

٢٥١

العليم بأفعالكم فالأمر إليه وليس لي من الأمر شيء.

والآية حكاية قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لهم لما أسروا النجوى وقطعوا على تكذيب نبوته ورمي آيته وهو كتابه بالسحر وفيها إرجاع الأمر وإحالته إلى الله سبحانه كما في غالب الموارد التي اقترحوا عليه فيها الآية وكذلك سائر الأنبياء كقوله : « قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ » الملك : ٢٦ ، وقوله : « قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ » الأحقاف : ٢٣ ، وقوله : « قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ » العنكبوت : ٥٠.

قوله تعالى : « بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ » تدرج منهم في الرمي والتكذيب ، فقولهم : أضغاث أحلام أي تخاليط من رؤي غير منظمة رآها فحسبها نبوة وكتابا فأمره أهون من السحر ، وقولهم : « بَلِ افْتَراهُ » ترق من سابقه فإن كونه أضغاث أحلام كان لازمه التباس الأمر واشتباهه عليه لكن الافتراء يستلزم التعمد ، وقولهم : « بَلْ هُوَ شاعِرٌ » ترق من سابقه من جهة أخرى فإن المفتري إنما يقول عن ترو وتدبر فيه لكن الشاعر إنما يلفظ ما يتخيله ويروم ما يزينه له إحساسه من غير ترو وتدبر فربما مدح القبيح على قبحه وربما ذم الجميل على جماله وربما أنكر الضروري وربما أصر على الباطل المحض ، وربما صدق الكذب أو كذب الصدق.

وقولهم : « فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ » الكلام متفرع على ما تقدمه والمراد بالأولين الأنبياء الماضون أي إذا كان هذا الذي أتى به وهو يعده آية وهو القرآن أضغاث أحلام أو افتراء أو شعر فليس يتم بذلك دعواه النبوة ولا يقنعنا ذلك فليأتنا بآية كما أتى الأولون من الآيات مثل الناقة والعصا واليد البيضاء.

وفي قوله : « كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ » وكان الظاهر من السياق أن يقال : كما أتى بها الأولون إشارة إلى أن الآية من لوازم الإرسال فلو كان رسولا فليقتد بالأولين فيما احتجوا به على رسالتهم.

والمشركون من الوثنيين منكرون للنبوة من رأس فقول هؤلاء : فليأتنا بآية كما أرسل الأولون دليل ظاهر على أنهم متحيرون في أمرهم لا يدرون ما يصنعون؟ فتارة يواجهونه بالتهكم وأخرى يتحكمون وثالثة بما يناقض معتقد أنفسهم فيقترحون

٢٥٢

آية من آيات الأولين وهم لا يؤمنون برسالتهم ولا يعترفون بآياتهم. وفي قولهم : « فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ » ، مع ذلك وعد ضمني بالإيمان لو أتى بآية من الآيات المقترحة.

قوله تعالى : « ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ » رد وتكذيب لما يشتمل عليه قولهم : « فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ » من الوعد الضمني بالإيمان لو أتى بشيء مما اقترحوه من آيات الأولين.

ومحصل المعنى على ما يعطيه السياق أنهم كاذبون في وعدهم ولو أنزلنا شيئا مما اقترحوه من آيات الأولين لم يؤمنوا بها وكان فيها هلاكهم فإن الأولين من أهل القرى اقترحوها فأنزلناها فلم يؤمنوا بها فأهلكناهم ، وطباع هؤلاء طباع أوليهم في الإسراف والاستكبار فليسوا بمؤمنين فالآية بوجه مثل قوله : « فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ » يونس : ٧٤.

وعلى هذا ففي الآية حذف وإيجاز والتقدير نحو من قولنا : ما آمنت قبلهم أهل قرية اقترحوا الآيات فأنزلناها عليهم وأهلكناهم لما لم يؤمنوا بها بعد النزول أفهم يعني مشركي العرب يؤمنون وهم مثلهم في الإسراف فتوصيف القرية بقوله : « أَهْلَكْناها » توصيف بآخر ما اتصفت بها للدلالة على أن عاقبة إجابة ما اقترحوه هي الهلاك لا غير.

قوله تعالى : « وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ » جواب عما احتجوا به على نفي نبوته صلى‌الله‌عليه‌وآله بقولهم : « هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ » ، بأن الماضين من الأنبياء لم يكونوا إلا رجالا من البشر فالبشرية لا تنافي النبوة.

وتوصيف « رِجالاً » بقوله : « نُوحِي إِلَيْهِمْ » للإشارة إلى الفرق بين الأنبياء وغيرهم ومحصله أن الفرق الوحيد بين النبي وغيره هو أنا نوحي إلى الأنبياء دون غيرهم والوحي موهبة ومن خاص لا يجب أن يعم كل بشر فيكون إذا تحقق تحقق في الجميع وإذا لم يوجد في واحد لم يوجد في الجميع حتى تحكموا بعدم وجدانه عندكم على عدم وجوده عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وذلك كسائر الصفات الخاصة التي لا توجد إلا في الواحد بعد الواحد من البشر مما لا سبيل إلى إنكارها.

فالآية تنحل إلى حجتين تقومان على إبطال استدلالهم ببشريته على نفي نبوته :

٢٥٣

إحداهما نقض حجتهم بالإشارة إلى رجال من البشر كانوا أنبياء فلا منافاة بين البشرية والنبوة.

والثانية : من طريق الحل وهو أن الفارق بين النبي وغيره ليس وصفا لا يوجد في البشر أو إذا وجد وجد في الجميع بل هو الوحي الإلهي وهو كرامة ومن خاص من الله يختص به من يشاء فالآية بهذا النظر نظيرة قوله : « قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا ـ إلى أن قال ـ : قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ » إبراهيم : ١١.

وقوله : « فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ » تأييد وتحكيم لقوله : « وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً » أي إن كنتم تعلمون به فهو وإن لم تعلموا فارجعوا إلى أهل الذكر واسألوهم هل كانت الأنبياء الأولون إلا رجالا من البشر؟.

والمراد بالذكر الكتاب السماوي وبأهل الذكر أهل الكتاب فإنهم كانوا يشايعون المشركين في عداوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وكان المشركون يعظمونهم وربما شاوروهم في أمره وسألوهم عن مسائل يمتحنونه بها وهم القائلون للمشركين على المسلمين : « هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً » النساء : ٥١ ، والخطاب في قوله « فَسْئَلُوا » إلخ للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وكل من يقرع سمعه هذا الخطاب عالما كان أو جاهلا وذلك لتأييد القول وهو شائع في الكلام.

قوله تعالى : « وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ ـ إلى قوله ـ الْمُسْرِفِينَ » أي هم رجال من البشر وما سلبنا عنهم خواص البشرية بأن نجعلهم جسدا خاليا من روح الحياة لا يأكل ولا يشرب ولا عصمناهم من الموت فيكونوا خالدين بل هم بشر ممن خلق يأكلون الطعام وهو خاصة ضرورية ويموتون وهو مثل الأكل.

قوله تعالى : « ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ » عطف على قوله المتقدم : « وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً » وفيه بيان عاقبة إرسالهم وما انتهى إليه أمر المسرفين من أممهم المقترحين عليهم الآيات ، وفيه أيضا توضيح ما أشير إليه من هلاكهم في قوله : « مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها » وتهديد للمشركين.

والمراد بالوعد في قوله : « ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ » ما وعدهم من النصرة لدينهم وإعلاء كلمتهم كلمة الحق كما في قوله : « وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ

٢٥٤

الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ » الصافات : ١٧٣ ، إلى غير ذلك من الآيات.

وقوله : « فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ » أي الرسل والمؤمنين وقد وعدهم النجاة كما يدل عليه قوله : « حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ » يونس : ١٠٣ ، والمسرفون هم المشركون المتعدون طور العبودية ، والباقي ظاهر.

قوله تعالى : « لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ » امتنان منه تعالى بإنزال القرآن على هذه الأمة ، فالمراد بذكرهم الذكر المختص بهم اللائق بحالهم وهو آخر ما تسعه حوصلة الإنسان من المعارف الحقيقية العالية وأقوم ما يمكن أن يجري في المجتمع البشري من الشريعة الحنيفية والخطاب لجميع الأمة.

وقيل : المراد بالذكر الشرف ، والمعنى : فيه شرفكم أن تمسكتم به تذكرون به كما فسر به قوله تعالى : « وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ » الزخرف : ٤٤ ، والخطاب لجميع المؤمنين أو للعرب خاصة لأن القرآن إنما نزل بلغتهم وفيه بعد.

قوله تعالى : « وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً » إلى آخر الآيات الخمس ، القصم في الأصل الكسر ، يقال : قصم ظهره أي كسره ، ويكنى به عن الهلاك ، والإنشاء الإيجاد ، والإحساس الإدراك من طريق الحس ، والبأس العذاب ، والركض العدو بشدة الوطء ، والإتراف التوسعة في النعمة ، والحصيد المقطوع ومنه حصاد الزرع ، والخمود السكون والسكوت.

والمعنى : « وَكَمْ قَصَمْنا » وأهلكنا « مِنْ قَرْيَةٍ » أي أهلها « كانَتْ ظالِمَةً » لنفسها بالإسراف والكفر « وَأَنْشَأْنا » وأوجدنا « قَوْماً آخَرِينَ فَلَمَّا أَحَسُّوا » ووجدوا بالحس أي أهل القرية الظالمة « بَأْسَنا » وعذابنا « إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ » ويعدون هاربين كالمنهزمين فيقال لهم توبيخا وتقريعا « لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ » من النعم « وَمَساكِنِكُمْ » وإلى مساكنكم « لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ » أي لعل المساكين وأرباب الحوائج يهجمون عليكم بالسؤال فتستكبروا عليهم وتختالوا أو تحتجبوا عنهم وهذا كناية عن اعتزازهم واستعلائهم وعد المتبوعين أنفسهم أربابا للتابعين من دون الله.

« قالُوا » تندما « يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ فَما زالَتْ تِلْكَ » وهي كلمتهم يا ويلنا المشتملة على الاعتراف بربوبيته تعالى وظلم أنفسهم « دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً »

٢٥٥

محصودا مقطوعا « خامِدِينَ » ساكنين ساكتين كما تخمد النار لا يسمع لهم صوت ولا يذكر لهم صيت.

وقد وجه قوله : « لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ » بوجوه أخرى بعيدة من الفهم تركنا التعرض لها.

( بحث روائي )

في الاحتجاج ، روي عن صفوان بن يحيى قال : قال أبو الحسن الرضا عليه‌السلام لأبي قرة صاحب شبرمة : التوراة والإنجيل والزبور والفرقان وكل كتاب أنزل ـ كان كلام الله أنزله للعالمين نورا وهدى ، وهي كلها محدثة وهي غير الله حيث يقول : « أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً » وقال : « ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ » ـ والله أحدث الكتب كلها التي أنزلها.

فقال أبو قرة : فهل تفنى؟ فقال أبو الحسن عليه‌السلام : أجمع المسلمون على أن ما سوى الله فعل الله ـ والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان فعل الله ، ألم تسمع الناس يقولون : رب القرآن؟ وأن القرآن يقول يوم القيامة : يا رب هذا فلان ـ وهو أعرف به منه ـ قد أظمأت نهاره وأصهرت ليله فشفعني فيه؟ وكذلك التوراة والإنجيل والزبور كلها محدثة مربوبة ـ أحدثها من ليس كمثله شيء لقوم يعقلون ، فمن زعم أنهن لم يزلن فقد أظهر أن الله ليس بأول قديم ولا واحد ، وأن الكلام لم يزل معه وليس له بدء. الحديث.

وفي تفسير القمي : في قوله تعالى : « لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ » ـ قال : من التلهي.

وفيه : في قوله : « ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها ـ أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ » ـ قال : كيف يؤمنون ولم يؤمن من كان قبلهم بالآيات حتى هلكوا.

وفيه ، بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام : في قوله : « فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ » ـ من المعنون بذلك؟ قال : نحن. قلت : فأنتم المسئولون؟ قال : نعم. قلت : ونحن السائلون؟ قال : نعم. قلت : فعلينا أن نسألكم؟ قال : نعم ، قلت : فعليكم أن تجيبونا؟ قال : لا ـ ذاك إلينا إن شئنا فعلنا وإن شئنا تركنا ثم قال : هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب.

أقول : وروى هذا المعنى الطبرسي في مجمع البيان ، عن علي وأبي جعفر (ع) قال : ويؤيده أن الله تعالى سمى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ذكرا رسولا.

٢٥٦

وهو من الجري ضرورة أن الآية ليست بخاصة والذكر إما القرآن أو مطلق الكتب السماوية أو المعارف الإلهية وهم على أي حال أهله وليس بتفسير للآية بحسب مورد النزول إذ لا معنى لإرجاع المشركين إلى أهل الرسول أو أهل القرآن وهم خصماؤهم ولو قبلوا منهم لقبلوا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه.

وفي روضة الكافي ، كلام لعلي بن الحسين عليه‌السلام في الوعظ والزهد في الدنيا يقول فيه : ولقد أسمعكم الله في كتابه ـ ما قد فعل بالقوم الظالمين من أهل القرى قبلكم ـ حيث قال : « وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً » وإنما عنى بالقرية أهلها حيث يقول : « وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ » فقال عز وجل : « فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ » يعني يهربون قال : « لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ فلما أتاهم العذاب قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ » ـ وأيم الله إن هذه عظة لكم وتخويف ـ إن اتعظتم وخفتم.

( وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (٢٠) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ

٢٥٧

هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٢٩) أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣) )

( بيان )

أول الآيات يوجه عذاب القرى الظالمة بنفي اللعب عن الخلقة وأن الله لم يله بإيجاد السماء والأرض وما بينهما حتى يكونوا مخلين بأهوائهم يفعلون ما يشاءون ويلعبون كيفما أرادوا من غير أن يحاسبوا على أعمالهم بل إنما خلقوا ليرجعوا إلى ربهم فيحاسبوا

٢٥٨

فيجازوا على حسب أعمالهم فهم عباد مسئولون إن تعدوا عن طور العبودية أوخذوا بما تقتضيه الحكمة الإلهية وإن الله لبالمرصاد.

وإذ كان هذا البيان بعينه حجة على المعاد انتقل الكلام إليه وأقيمت الحجة عليه فيثبت بها المعاد وفي ضوئه النبوة لأن النبوة من لوازم وجوب العبودية وهو من لوازم ثبوت المعاد فالآيتان الأوليان كالرابط بين السياق المتقدم والمتأخر.

والآيات تشتمل على بيان بديع لإثبات المعاد وقد تعرض فيها لنفي جميع الاحتمالات المنافية للمعاد كما ستعرف.

قوله تعالى : « وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ » الآيتان توجهان نزول العذاب على القرى الظالمة التي ذكر الله سبحانه قصمها ، وهما بعينهما ـ على ما يعطيه السياق السابق ـ حجة برهانية على ثبوت المعاد ثم في ضوئه النبوة وهي الغرض الأصيل من سرد الكلام في السورة.

فمحصل ما تقدم ـ أن هناك معادا سيحاسب فيه أعمال الناس فمن الواجب أن يميزوا بين الخير والشر وصالح الأعمال وطالحها بهداية إلهية وهي الدعوة الحقة المعتمدة على النبوة ولو لا ذلك لكانت الخلقة عبثا وكان الله سبحانه لاعبا لاهيا بها تعالى عن ذلك.

فمقام الآيتين ـ كما ترى ـ مقام الاحتجاج على حقية المعاد لتثبت بها حقية دعوة النبوة لأن دعوة النبوة ـ على هذا ـ من مقتضيات المعاد من غير عكس.

وحجة الآيتين ـ كما ترى ـ تعتمد على معنى اللعب واللهو واللعب هو الفعل المنتظم الذي له غاية خيالية غير واقعية كملاعب الصبيان التي لا أثر لها إلا مفاهيم خيالية من تقدم وتأخر وربح وخسارة ونفع وضرر كلها بحسب الفرض والتوهم وإذ كان اللعب بما تنجذب النفس إليه يصرفها عن الأعمال الواقعية فهو من مصاديق اللهو هذا.

فلو كان خلق العالم المشهود لا لغاية يتوجه إليها ويقصد لأجلها وكان الله سبحانه لا يزال يوجد ويعدم ويحيي ويميت ويعمر ويخرب لا لغاية تترتب على هذه الأفعال ولا لغرض يعمل لأجله ما يعمل بل إنما يفعلها لأجل نفسها ويريد أن يراها واحدا بعد واحد فيشتغل بها دفعا لضجر أو ملل أو كسل أو فرارا من الوحدة أو انطلاقا من الخلوة كحالنا نحن إذا اشتغلنا بعمل نلعب به ونتلهى لندفع به نقصا طرأ علينا وعارضة سوء لا نستطيبها لأنفسنا من ملال أو كلال أو كسل أو فشل ونحو ذلك.

٢٥٩

فاللعب بنظر آخر لهو ، ولذلك نراه سبحانه عبر في الآية الأولى باللعب « وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ » ثم بدله ـ في الآية الثانية التي هي في مقام التعليل لها ـ لهوا فوضع اللهو مكان اللعب لتتم الحجة.

وتلهيه تعالى بشيء من خلقه محال لأن اللهو لا يتم لهوا إلا برفع حاجة من حوائج اللاهي ودفع نقيصة من نقائصه نفسه فهو من الأسباب المؤثرة ، ولا معنى لتأثير خلقه تعالى فيه واحتياجه إلى ما هو محتاج من كل جهة إليه فلو فرض تلهيه تعالى بلهو لم يجز أن يكون أمرا خارجا من نفسه ، وخلقه فعله وفعله ، خارج من نفسه ، بل وجب أن يكون بأمر غير خارج من ذاته.

وبهذا يتم البرهان على أن الله ما خلق السماء والأرض وما بينهما لعبا ولهوا وما أبدعها عبثا ولغير غاية وغرض ، وهو قوله : « لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا ».

وأما اللهو بأمر غير خارج من ذاته فهو وإن كان محالا في نفسه لاستلزامه حاجة في ذاته إلى ما يشغله ويصرفه عما يجده في نفسه فيكون ذاته مركبة من حاجة حقيقية متقررة فيها وأمر رافع لتلك الحاجة ، ولا سبيل للنقص والحاجة إلى ذاته المتعالية لكن البرهان لا يتوقف عليه لأنه في مقام بيان أن لا لعب ولا لهو في فعله تعالى وهو خلقه ، وأما أنه لا لعب ولا لهو في ذاته تعالى فهو خارج عن غرض المقام وإنما أشير إلى نفي هذا الاحتمال بالتعبير بلفظة « لو » الدالة على الامتناع ثم أكده بقوله : « إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ » فافهم ذلك.

وبهذا البيان يظهر أن قوله : « لَوْ أَرَدْنا » إلخ ، في مقام التعليل للنفي في قوله : « وَما خَلَقْنَا » إلخ ، وأن قوله : « مِنْ لَدُنَّا » معناه من نفسنا ، وفي مرحلة الذات دون مرحلة الخلق الذي هو فعلنا الخارج من ذاتنا ، وأن قوله : « إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ » إشارة استقلالية إلى ما يدل عليه لفظة « لَوْ » في ضمن الجملة فيكون نوعا من التأكيد.

وبهذا البيان يتم البرهان على المعاد ثم النبوة ويتصل الكلام بالسياق المتقدم ومحصله أن للناس رجوعا إلى الله وحسابا على أعمالهم ليجازوا عليها ثوابا وعقابا فمن الواجب أن يكون هناك نبوة ودعوة ليدلوا بها إلى ما يجازون عليه من الاعتقاد والعمل فالمعاد هو الغرض من الخلقة الموجب للنبوة ولو لم يكن معاد لم يكن للخلقة غرض وغاية فكانت الخلقة لعبا ولهوا منه تعالى وهو غير جائز ، ولو جاز عليه اتخاذ اللهو لوجب

٢٦٠