الميزان في تفسير القرآن - ج ١٤

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ١٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٥
الصفحات: ٤١٦

والأصل في معناه الامتناع.

ومن هنا يظهر أن الجمل الثلاث مسوقة لبيان جوامع أحواله بالنسبة إلى الخالق والمخلوق ، فقوله : « وَكانَ تَقِيًّا » حاله بالنسبة إلى ربه ، وقوله : « وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ » حاله بالنسبة إلى والديه ، وقوله : « وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا » حاله بالنسبة إلى سائر الناس ، فكان رءوفا رحيما بهم ناصحا متواضعا لهم يعين ضعفاءهم ويهدي المسترشدين منهم ، وبه يظهر أيضا أن تفسير بعضهم لقوله : « عَصِيًّا » بقوله : أي عاصيا لربه ليس على ما ينبغي.

قوله تعالى : « وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا » السلام قريب المعنى من الأمن ، والذي يظهر من موارد استعمالها في الفرق بينهما أن الأمن خلو المحل مما يكرهه الإنسان ويخاف منه والسلام كون المحل بحيث كل ما يلقاه الإنسان فيه فهو يلائمه من غير أن يكرهه ويخاف منه.

وتنكير السلام لإفادة التفخيم أي سلام فخيم عليه مما يكرهه في هذه الأيام الثلاثة التي كل واحد منها مفتتح عالم من العوالم التي يدخلها الإنسان ويعيش فيها فسلام عليه يوم ولد فلا يمسه مكروه في الدنيا يزاحم سعادته ، وسلام عليه يوم يموت ، فسيعيش في البرزخ عيشة نعيمة ، وسلام عليه يوم يبعث حيا فيحيا فيها بحقيقة الحياة ولا نصب ولا تعب.

وقيل : إن تقييد البعث بقوله : « حَيًّا » للدلالة على أنه سيقتل شهيدا لقوله تعالى في الشهداء : « بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ » آل عمران : ١٦٩.

واختلاف التعبير في قوله : « وُلِدَ » « يَمُوتُ » « يُبْعَثُ » لتمثيل أن التسليم في حال حياته عليه‌السلام.

( بحث روائي )

في المجمع ، : وروي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : أنه قال في دعائه : أسألك يا كهيعص.

وفي المعاني ، بإسناده عن سفيان بن سعيد الثوري عن الصادق عليه‌السلام في حديث قال : وكهيعص معناه أنا الكافي الهادي ـ الولي العالم الصادق الوعد.

٢١

أقول : وروى فيه أيضا ما يقرب منه عن محمد بن عمارة عنه عليه‌السلام. وروى في الدر المنثور ، عن ابن عباس" : في قوله : ( كهيعص ) قال : كبير هاد ـ أمين عزيز صادق ـ وفي لفظ ـ كاف بدل كبير ، وروى عنه أيضا بطرق أخر" : كريم هاد حكيم عليم صادق وروي عن ابن مسعود وغيره ذلك ، ومحصل الروايات ـ كما ترى ـ أن الحروف المقطعة مأخوذة من أوائل الأسماء الحسنى على اختلافها كالكاف من الكافي أو الكبير أو الكريم وهكذا غير أنه لا يتم في الياء فقد أخذ في الروايات من الولي أو الحكيم أو العزيز كما في بعضها ، وروي فيه ، عن أم هانئ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أن معناها كاف هاد عالم صادق ، وقد أهمل في الحديث حرف الياء ، وقد تقدم في بيان الآية بعض الإشارة.

وفي تفسير القمي : في قوله تعالى : « وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا » يقول : لم يكن دعائي خائبا عندك.

وفي المجمع في قوله : « وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ » قيل : هم العمومة وبنو العم عن أبي جعفر عليه‌السلام ، وقرأ علي بن الحسين ومحمد بن علي الباقر عليه‌السلام : « وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ » بفتح الخاء وتشديد الفاء وكسر التاء.

أقول : وبه قرأ جمع من الصحابة والتابعين.

وفي الإحتجاج ، روى عبد الله بن الحسن بإسناده عن آبائه عليهم‌السلام : أنه لما أجمع أبو بكر على منع فاطمة فدك ـ وبلغها ذلك جاءت إليه وقالت له : يا بن أبي قحافة أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئت شيئا فريا. أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم؟ إذ يقول فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا « فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ » الحديث.

أقول : مضمون الرواية مروي بطرق من الشيعة وغيرهم ، واستدلالها عليه‌السلام مبني على كون المراد بالوراثة في الآية وراثة المال ، وقد تقدم الكلام في ذلك في بيان الآية ، وقد ورد من طرق أهل السنة بعض ما يدل على ذلك ففي الدر المنثور ، عن عدة من أصحاب الجوامع عن الحسن أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : يرحم الله أخي زكريا ما كان عليه من ورثة ، ويرحم الله أخي لوطا ـ إن كان يأوي إلى ركن شديد ، وروي فيه ، أيضا عن الفاريابي عن ابن عباس قال" : كان زكريا لا يولد له فسأل ربه فقال :

٢٢

« رب هب ( لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) » ـ قال : يرثني مالي ويرث من آل يعقوب النبوة.

وقال في روح المعاني : مذهب أهل السنة أن الأنبياء عليهم‌السلام لا يرثون مالا ـ ولا يورثون لما صح عندهم من الأخبار ، وقد جاء أيضا ذلك من طريق الشيعة فقد روى الكليني في الكافي ، عن أبي البختري عن أبي عبد الله جعفر الصادق رضي الله عنه أنه قال : إن العلماء ورثة الأنبياء ، وذلك أن الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا ـ وإنما ورثوا أحاديث من أحاديثهم ـ فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ بحظ وافر ، وكلمة إنما مفيدة للحصر قطعا باعتراف الشيعة.

والوراثة في الآية محمولة على ما سمعت ، ولا نسلم كونها حقيقة لغوية في وراثة المال بل هي حقيقة فيما يعم وراثة العلم والمنصب والمال ، وإنما صارت لغلبة الاستعمال في عرف الفقهاء مختصة بالمال كالمنقولات العرفية.

ولو سلمنا أنها مجاز في ذلك فهو مجاز متعارف مشهور خصوصا في استعمال القرآن المجيد بحيث يساوي الحقيقة ، ومن ذلك قوله تعالى : « ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا » ، وقوله تعالى : « فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ » وقوله تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ » ، وقوله تعالى : « إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ » وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ».

قولهم : لا داعي إلى الصرف عن الحقيقة. قلنا : الداعي متحقق وهي صيانة قول المعصوم عن الكذب ودون تأويله خرط القتاد ، والآثار الدالة على أنهم يورثون المال لا يعول عليها عند النقاد.

وزعم البعض أنه لا يجوز حمل الوراثة هنا على وراثة النبوة لئلا يلغو قوله : « وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا » قد قدمنا ما يعلم منه ما فيه ، وزعم أن كسبية الشيء تمنع من كونه موروثا ليس بشيء فقد تعلقت الوراثة بما ليس بكسبي في كلام الصادق.

ومن ذلك أيضا ما رواه الكليني في الكافي ، عن أبي عبد الله رضي الله عنه قال : إن سليمان ورث داود ، وإن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله ورث سليمان عليه‌السلام ـ فإن وراثة النبي سليمان لا يتصور ـ أن تكون وراثة غير العلم والنبوة ونحوهما انتهى.

٢٣

وللبحث جهة كلامية ترجع إلى أمر فدك وهي من قرى خيبر وقد كانت في يد فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فانتزعها من يدها الخليفة الأول استنادا إلى حديث رواها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أن الأنبياء لا يورثون مالا ـ وما تركوه صدقة ، وقد طالت المشاجرة فيه بين متكلمي الشيعة وأهل السنة وهو نوع بحث خارج عن غرض هذا الكتاب فلا نتعرض له ، وجهة تفسيرية يهمنا التعرض لها لتعلقها بمدلول قوله تعالى : « وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ».

أما قوله : وقد جاء ذلك أيضا من طريق الشيعة إلخ ، فالرواية في ذلك غير منحصرة فيما نقله عن الصادق عليه‌السلام بل روي ما في مضمونها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضا من طريقهم ، ومعناه ـ على ما يسبق إلى ذهن كل سامع ـ أن الأنبياء ليس من شأنهم أن يهتموا بجمع المال وتركه لمن خلفهم من الورثة وإنما الذي من شأنهم أن يتركوا لمن خلفهم الحكمة ، وهذا معنى سائغ واستعمال شائع لا سبيل إلى دفعه.

وأما قوله : ولا نسلم كونها حقيقة لغوية في وراثة المال إلى آخر ما ذكره فليس الكلام في كونه حقيقة لغوية في شيء أو مجازا مشهورا أو غير مشهور ولا إصرار على شيء من ذلك ، وإنما الكلام في أن الوراثة سواء كانت حقيقة في وراثة المال مجازا في مثل العلم والحكمة أو حقيقة مشتركة بين ما يتعلق بالمال وما يتعلق بمثل العلم والحكمة تحتاج في إرادة وراثة العلم والحكمة إلى قرينة صارفة أو معينة وسياق الآية وسائر آيات القصة في سورتي آل عمران والأنبياء والقرائن الحافة بها تأبى إرادة وراثة العلم ونحوه من لفظة يرثني فضلا أن يصرف عنها أو يعينها على ما قدمنا توضيحه في بيان الآية.

نعم لا يصح تعلق الوراثة بالنبوة على ما يتحصل من تعليم القرآن أنها موهبة إلهية لا تقبل الانتقال والتحول ، ولا ريب أن الترك والانتقال مأخوذ في مفهوم الوراثة كوراثة المال والملك والمنصب والعلم ونحو ذلك ولذا لم يرد استعمال الوراثة في النبوة والرسالة في كتاب ولا سنة.

وأما قوله : « قلنا الداعي متحقق وهي صيانة قول المعصوم عن الكذب » ففيه

٢٤

اعتراف بأن لا قرينة على إرادة غير المال من لفظة يرثني من جهة سياق الآيات بل الأمر بالعكس وإنما اضطرهم إلى الحمل المذكور حفظ ظاهر الحديث لصحته عندهم وفيه أنه لا معنى لتوقف كلامه تعالى في الدلالة الاستعمالية على قرينة منفصلة وخاصة من غير كلامه تعالى وخاصة مع احتفاف الكلام بقرائن مخالفة ، وهذا غير تخصيص روايات الأحكام وتقييدها لعمومات آيات الأحكام ومطلقاتها ، فإن ذلك تصرف في محصل المراد من الخطاب لا في دلالة اللفظ بحسب الاستعمال.

على أنه لا معنى لحجية أخبار الآحاد في غير الأحكام الشرعية التي ينحصر فيها الجعل التشريعي لا سيما مع مخالفة الكتاب وهذه كلها أمور مبينة في علم الأصول.

وأما قوله : « قد قدمنا ما يعلم منه ما فيه » يشير إلى أخذ قوله : « وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا » تأكيدا لقوله : « وَلِيًّا يَرِثُنِي » أي في النبوة أو أخذ قوله : ( رَضِيًّا ) ، بمعنى المرضي عند الناس دفعا للغو الكلام وقد قدمنا في بيان الآية ما يعلم منه ما فيه.

وفي تفسير العياشي ، عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إن زكريا لما دعا ربه أن يهب له ذكرا ـ فنادته الملائكة بما نادته به أحب أن يعلم ـ أن ذلك الصوت من الله أوحى إليه ـ أن آية ذلك أن يمسك لسانه عن الكلام ثلاثة أيام. قال : لما أمسك لسانه ولم يتكلم ـ علم أنه لا يقدر على ذلك إلا الله. الحديث.

وفي تفسير النعماني ، بإسناده عن الصادق عليه‌السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام حين سألوه عن معنى الوحي فقال : منه وحي النبوة ومنه وحي الإلهام ومنه وحي الإشارة ـ وساقه إلى أن قال وأما وحي الإشارة فقوله عز وجل : « فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ ـ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا » ـ أي أشار إليهم كقوله تعالى : « أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً ».

وفي المجمع ، : عن معمر قال : إن الصبيان قالوا ليحيي : اذهب بنا نلعب قال : ما للعب خلقنا ، فأنزل الله تعالى : « وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا » : وروي ذلك عن أبي الحسن الرضا (ع).

أقول : وروي في الدر المنثور ، هذا المعنى عن ابن عساكر عن معاذ بن جبل مرفوعا ، وروي أيضا ما في معناه عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٢٥

وفي الكافي ، بإسناده عن علي بن أسباط قال : رأيت أبا جعفر عليه‌السلام وقد خرج إلي فأجدت النظر إليه ـ وجعلت أنظر إلى رأسه ورجليه ـ لأصف قامته لأصحابنا بمصر ـ فبينا أنا كذلك حتى قعد فقال : يا علي إن الله احتج في الإمامة بمثل ما احتج به في النبوة ـ فقال : « وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا » ـ « حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً » ـ فقد يجوز أن يؤتى الحكمة وهو صبي ، ويجوز أن يؤتى الحكمة وهو ابن أربعين سنة.

أقول : وفي الرواية تفسير الحكم بالحكمة فتؤيد ما قدمناه.

وفي الدر المنثور ، أخرج عبد الرزاق وأحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة : « في قوله : « وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا » قال : كان سعيد بن المسيب يقول : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما من أحد يلقى الله يوم القيامة ـ إلا ذا ذنب إلا يحيى بن زكريا. قال قتادة : وقال الحسن : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما أذنب يحيى بن زكريا قط ـ ولا هم بامرأة.

وفيه : أخرج أحمد والحكيم الترمذي في نوادر الأصول والحاكم وابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ما من أحد من ولد آدم ـ إلا وقد أخطأ أو هم بخطيئة إلا يحيى بن زكريا ـ لم يهم بخطيئة ولم يعملها.

أقول : وهذا المعنى مروي من طرق أهل السنة بألفاظ مختلفة وينبغي تخصيص الجميع بأهل العصمة من الأنبياء والأئمة وإن كانت آبية عنه ظاهرا لكن الظاهر أن ذلك ناشئ من سوء تعبير الرواة لابتلائهم بالنقل بالمعنى وتوغلهم فيه. وبالجملة الأخبار في زهد يحيى عليه‌السلام كثيرة فوق الإحصاء ، وكان عليه‌السلام ـ على ما فيها ـ يأكل العشب ويلبس الليف وبكى من خشية الله حتى اتخذت الدموع مجرى في وجهه.

وفيه ، : أخرج ابن عساكر عن قرة قال : ما بكت السماء على أحد إلا على يحيى بن زكريا والحسين بن علي ، وحمرتها بكاؤها.

أقول : وروى هذا المعنى في المجمع ، عن الصادق عليه‌السلام ، : وفي آخره : وكان قاتل يحيى ولد زنا ـ وقاتل الحسين ولد زنا.

وفيه ، أخرج الحاكم وابن عساكر عن ابن عباس قال : أوحى الله إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله : إني قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفا ـ وإني قاتل بابن ابنتك سبعين ألفا وسبعين ألفا.

٢٦

وفي الكافي ، بإسناده عن أبي حمزة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قلت : فما عنى بقوله في يحيى : « وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً »؟ قال تحنن الله. قلت : فما بلغ من تحنن الله عليه؟ قال : كان إذا قال : يا رب قال الله عز وجل : لبيك يا يحيى. الحديث.

وفي عيون الأخبار ، بإسناده إلى ياسر الخادم قال : سمعت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام يقول : إن أوحش ما يكون هذا الخلق في ثلاث مواطن : يوم يولد ويخرج من بطن أمه فيرى الدنيا ، ويوم يموت فيعاين الآخرة وأهلها ، ويوم يبعث فيرى أحكاما لم يرها في دار الدنيا.

وقد سلم الله عز وجل على يحيى في هذه الثلاثة المواطن ـ وآمن روعته فقال : « وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا » ، وقد سلم عيسى بن مريم على نفسه في هذه الثلاثة المواطن ـ فقال : « وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ».

( قصة زكريا في القرآن )

وصفه عليه‌السلام : وصفه الله سبحانه في كلامه بالنبوة والوحي ، ووصفه في أول سورة مريم بالعبودية ، وذكره في سورة الأنعام في عداد الأنبياء وعدة من الصالحين ثم من المجتبين ـ وهم المخلصون ـ والمهديين.

تاريخ حياته : لم يذكر من أخباره في القرآن إلا دعاؤه لطلب الولد واستجابته وإعطاؤه يحيى عليه‌السلام ، وذلك بعد ما رأى من أمر مريم في عبادتها وكرامتها عند الله ما رأى.

فذكر سبحانه أن زكريا تكفل مريم لفقدها أباها عمران ثم لما نشأت اعتزلت عن الناس واشتغلت بالعبادة في محراب لها في المسجد ، وكان يدخل عليها زكريا يتفقدها « كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ ».

هنالك دعا زكريا ربه وسأله أن يهب له من امرأته ذرية طيبة وكان هو شيخا فانيا وامرأته عاقرا فاستجيب له ونادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب إن الله يبشرك بغلام اسمه يحيى فسأل ربه آية لتطمئن نفسه أن النداء من جانبه سبحانه

٢٧

فقيل له : إن آيتك أن يعتقل لسانك فلا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا وكان كذلك وخرج على قومه من المحراب وأشار إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا وأصلح الله له زوجه فولدت له يحيى عليه‌السلام ( آل عمران : ٣٧ ـ ٤١ مريم : ٢ ـ ١١ الأنبياء : ٨٩ ـ ٩٠ ).

ولم يذكر في القرآن مآل أمره عليه‌السلام وكيفية ارتحاله لكن وردت أخبار متكاثرة من طرق العامة والخاصة ، أن قومه قتلوه وذلك أن أعداءه قصدوه بالقتل فهرب منهم والتجأ إلى شجرة فانفرجت له فدخل جوفها ثم التأمت فدلهم الشيطان عليه وأمرهم أن ينشروا الشجرة بالمنشار ففعلوا وقطعوه نصفين فقتل عليه‌السلام عند ذلك.

وقد ورد في بعض الأخبار أن السبب في قتله أنهم اتهموه في أمر مريم وحبلها بالمسيح وقالوا : هو وحده كان المتردد إليها الداخل عليها ، وقيل غير ذلك.

( قصة يحيى عليه‌السلام في القرآن )

١ ـ الثناء عليه : ذكره الله في بضعة مواضع من كلامه وأثنى عليه ثناء جميلا فوصفه بأنه كان مصدقا بكلمة من الله وهو تصديقه بنبوة المسيح ، وأنه كان سيدا يسود قومه ، وأنه كان حصورا لا يأتي النساء ، وكان نبيا ومن الصالحين ( سورة آل عمران : ٣٩ ) ومن المجتبين وهم المخلصون ـ ومن المهديين ( الأنعام : ٨٥ ـ ٨٧ ) ، وأن الله هو سماه بيحيى ولم يجعل له من قبل سميا ، وأمره بأخذ الكتاب بقوة وآتاه الحكم صبيا ، وسلم عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا ( مريم : ٢ ـ ١٥ ) ومدح بيت زكريا بقوله : « إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ » الأنبياء : ٩٠ وهم يحيى وأبوه وأمه.

٢ ـ تاريخ حياته : ولد عليه‌السلام لأبويه على خرق العادة فقد كان أبوه شيخا فانيا وأمه عاقرا فرزقهما الله يحيى وهما آيسان من الولد ، وأخذ بالرشد والعبادة والزهد في صغره وآتاه الله الحكم صبيا ، وقد تجرد للتنسك والزهد والانقطاع فلم يتزوج قط ولا ألهاه شيء من ملاذ الدنيا.

وكان معاصرا لعيسى بن مريم عليه‌السلام وصدق نبوته ، وكان سيدا في قومه تحن

٢٨

إليه القلوب وتميل إليه النفوس ويجتمع إليه الناس فيعظهم ويدعوهم إلى التوبة ويأمرهم بالتقوى حتى استشهد عليه‌السلام.

ولم يرد في القرآن مقتله عليه‌السلام ، والذي ورد في الأخبار أنه كان السبب في قتله أن امرأة بغيا افتتن بها ملك بني إسرائيل وكان يأتيها فنهاه يحيى ووبخه على ذلك ـ وكان مكرما عند الملك يطيع أمره ويسمع قوله ـ فأضمرت المرأة عداوته وطلبت من الملك رأس يحيى وألحت عليه فأمر به فذبح وأهدي إليها رأسه.

وفي بعض الأخبار أن التي طلبت منه رأس يحيى كانت ابنة أخي الملك وكان يريد أن يتزوج بها فنهاه يحيى عن ذلك فزينتها أمها بما يأخذ بمجامع قلب الملك وأرسلتها إليه ولقنتها إذا منح الملك عليها بسؤال حاجة أن تسأله رأس يحيى ففعلت فذبح عليه‌السلام ووضع رأسه في طست من ذهب وأهدي إليها.

وفي الروايات نوادر كثيرة من زهده وتنسكه وبكائه من خشية الله ومواعظه وحكمه.

٣ ـ قصة زكريا ويحيى في الإنجيل : قال (١) : كان في أيام هيردوس ملك اليهودية كاهن اسمه زكريا ـ من فرقة أبيا وامرأته من بنات هارون واسمها إليصابات ـ وكان كلاهما بارين أمام الله ـ سالكين في جميع وصايا الرب وأحكامه بلا لوم. ولم يكن لهما ولد إذ كانت إليصابات عاقرا ـ وكانا كلاهما متقدمين في أيامهما.

فبينما هو يكهن في نوبة فرقته أمام الله. حسب عادة الكهنوت ، أصابته القرعة أن يدخل إلى هيكل الرب ويبخر. وكان كل جمهور الشعب يصلون خارجا وقت البخور. فظهر له ملاك الرب واقفا عن يمين مذبح البخور. فلما رآه زكريا اضطرب ووقع عليه خوف. فقال له الملاك لا تخف يا زكريا لأن طلبتك قد سمعت ـ وامرأتك إليصابات ستلد ابنا وتسميه يوحنا. ويكون لك فرج وابتهاج وكثيرون سيفرحون بولادته. لأنه يكون عظيما أمام الرب وخمرا ومسكرا لا يشرب ـ ومن بطن أمه يمتلئ من الروح القدس. ويرد كثيرين من بني إسرائيل إلى الرب إلههم. ويتقدم أمامه بروح

__________________

(١) إنجيل لوقا. الإصحاح الأول ٥.

٢٩

إيليا وقوته ليرد قلوب الآباء إلى الأبناء ـ والعصاة إلى فكر الأبرار ـ لكي يهيئ للرب شعبا مستعدا.

فقال زكريا للملاك كيف أعلم هذا ـ لأني أنا شيخ وامرأتي متقدمة في أيامها ـ فأجاب الملاك وقال أنا جبريل الواقف قدام الله ـ وأرسلت لأكلمك وأبشرك بهذا ـ وها أنت تكون صامتا ـ ولا تقدر أن تتكلم إلى اليوم الذي يكون فيه هذا ـ لأنك لم تصدق كلامي الذي سيتم في وقته.

وكان الشعب منتظرين زكريا ـ ومتعجبين من إبطائه في الهيكل. فلما خرج لم يستطع أن يكلمهم ـ ففهموا أنه قد رأى رؤيا في الهيكل ـ فكان يومئ إليهم وبقي صامتا ـ ولما كملت أيام خدمته مضى إلى بيته. وبعد تلك الأيام حبلت إليصابات امرأته ـ وأخفت نفسها خمسة أشهر قائلة : هكذا قد فعل بي الرب في الأيام التي فيها نظر إلي ـ لينزع عاري بين الناس.

إلى أن قال : وأما إليصابات فتم زمانها لتلد فولدت ابنا ـ وسمع جيرانها وأقرباؤها أن الرب عظم رحمته لها ففرحوا معها. وفي اليوم جاءوا ليختنوا الصبي ـ وسموه باسم أبيه زكريا فأجابت أمه ـ وقالت لا بل يسمى يوحنا. فقالوا لها ليس أحد في عشيرتك يسمى بهذا الاسم. ثم أومئوا إلى أبيه ما ذا يريد أن يسمى. فطلب لوحا وكتب قائلا اسمه يوحنا فتعجب الجميع. وفي الحال انفتح فمه ولسانه وتكلم وبارك الله. فوقع خوف على كل جيرانهم ـ وتحدث بهذه الأمور جميعها في كل جبال اليهودية. فأودعها جميع السامعين في قلوبهم ـ قائلين أترى ما ذا يكون هذا الصبي وكانت يد الرب معه. وامتلأ زكريا أبوه من الروح القدس وتنبأ ... إلخ.

وفيه (١) : وفي السنة الخامسة عشرة من سلطنة طيباريوس قيصر ـ إذ كان بيلاطس النبطي واليا على اليهودية ، وهيرودس رئيس ربع على الجليل ، وفيلبس أخوه رئيس ربع على إيطورية وكورة تراخوتينس ، وليسانيوس رئيس ربع على الأبلية ـ في أيام رئيس الكهنة حنان ـ وقيافا كانت كلمة الله على يوحنا بن زكريا في البرية.

__________________

(١) إنجيل الإصحاح الثالث ـ ١.

٣٠

فجاء إلى جميع الكورة المحيطة بالأردن ـ يكرز بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا. كما هو مكتوب في سفر أقوال أشعيا النبي القائل « صوت خارج في البرية أعدوا طريق الرب ـ اصنعوا سبله مستقيمة ، كل واد يمتلئ وكل جبل وأكمة ينخفض ـ وتصير المعوجات مستقيمة والشعاب طرقا سهلة ـ ويبصر كل بشر خلاص الله.

وكان يقول للجموع الذين خرجوا ليعمدوا منه ـ يا أولاد الأفاعي من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي ـ فاصنعوا أثمارا تليق بالتوبة ـ ولا تبتدءوا تقولون في أنفسكم لنا إبراهيم أبا ـ لأني أقول لكم ـ إن الله قادر على أن يقيم من هذه الحجارة أولادا لإبراهيم ـ والآن قد وضعت الفأس على أصل الشجر ـ فكل شجرة لا تصنع ثمرا جيدا تقطع وتلقى في النار.

وسأله الجموع قائلين فما ذا نفعل. فأجاب وقال لهم من له ثوبان فليعط من ليس له ـ ومن له طعام فليفعل هكذا. وجاء عشارون أيضا ليعمدوا ـ فقالوا له يا معلم ما ذا نفعل ـ فقال لهم لا تستوفوا أكثر مما فرض لكم. وسأله جنديون أيضا قائلين وما ذا نفعل نحن ، فقال لهم لا تظلموا أحدا ـ ولا تشوا بأحد واكتفوا بعلائقكم.

وإذ كان الشعب ينتظر ـ والجميع يفكرون في قلوبهم عن يوحنا لعله المسيح ـ أجاب يوحنا الجميع قائلا أنا أعمدكم بماء ـ ولكن يأتي من هو أقوى مني ـ الذي لست أهلا أن أحل سيور حذائه هو ـ سيعمدكم بروح القدس ونار الذي رفشه في يده ـ وسينقي بيدره ويجمع القمح إلى مخزنة ـ وأما التبن فيحرقه بنار لا تطفأ ـ وبأشياء أخر كثيرة كان يعظ الشعب ويبشرهم.

أما هيردوس رئيس الربع ـ فإذا توبخ منه لسبب هيروديا امرأة فيلبس أخيه ـ ولسبب جميع الشرور التي كان هيرودس يفعلها ـ زاد هذا أيضا على الجميع أنه حبس يوحنا في السجن. ولما اعتمد جميع الشعب اعتمد يسوع أيضا. (١)

وفيه : أن هيرودس نفسه كان قد أرسل وأمسك يوحنا ـ وأوثقه في السجن من أجل هيروديا امرأة فيلبس أخيه ـ إذ كان قد تزوج بها. لأن يوحنا كان يقول لهيرودس ـ لا يحل أن تكون لك امرأة أخيك. فحنقت هيروديا عليه وأرادت أن

__________________

(١) إنجيل مرقس الإصحاح السادس ١٧ ـ ٢٩

٣١

تقتله ولم تقدر. لأن هيرودس كان يهاب يوحنا عالما ـ أنه رجل بار وقديس وكان يحفظه. وإذ سمعه فعل كثيرا وسمعه بسرور.

وإذ كان يوم موافق لما صنع هيرودس ـ في مولده عشاء لعظمائه وقواد الألوف ووجوه الجليل. دخلت ابنة هيروديا ورقصت ، فسرت هيرودس والمتكئين معه. فقال الملك للصبية مهما أردت اطلبي مني فأعطيك. وأقسم لها أن مهما طلبت مني لأعطينك ـ حتى نصف مملكتي. فخرجت وقالت لأمها ما ذا أطلب. فقالت رأس يوحنا المعمدان. فدخلت للوقت بسرعة إلى الملك ـ وطلبت قائلة أريد أن تعطيني حالا رأس يوحنا ـ المعمدان على طبق. فحزن الملك جدا ـ ولأجل الإقسام والمتكئين لم يرد أن يردها.

فللوقت أرسل الملك سيافا ـ وأمر أن يؤتى برأسه فمضى وقطع رأسه في السجن ـ وأتى برأسه على طبق وأعطاه للصبية ـ والصبية أعطته لأمها. ولما سمع تلاميذه جاءوا ورفعوا جثته ووضعوها في قبر انتهى.

وليحيي عليه‌السلام أخبار أخر متفرقة في الأناجيل لا تتعدى حدود ما أوردناه وللمتدبر الناقد أن يطبق ما نقلناه من الأناجيل على ما تقدم حتى يحصل على موارد الاختلاف.

* * *

( وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ

٣٢

أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣) ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ

٣٣

مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٤٠) )

( بيان )

انتقال من قصة يحيى إلى قصة عيسى عليه‌السلام وبين القصتين شبها تاما فولادتهما على خرق العادة ، وقد أوتي عيسى الرشد والنبوة وهو صبي كيحيى ، وقد أخبر أنه بر بوالدته وليس بجبار شقي وأن السلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا كما أخبر الله عن يحيى عليه‌السلام بذلك إلى غير ذلك من وجوه الشبه وقد صدق يحيى بعيسى وآمن به.

قوله تعالى : « وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا » المراد بالكتاب القرآن أو السورة فهي جزء من الكتاب وجزء الكتاب كتاب والاحتمالان من حيث المال واحد فلا كثير جدوى في إصرار بعضهم على تقديم الاحتمال الثاني وتعيينه.

والنبذ ـ على ما ذكره الراغب ـ طرح الشيء الحقير الذي لا يعبأ به يقال نبذه إذا طرحه مستحقرا له غير معتن به ، والانتباذ الاعتزال من الناس والانفراد.

ومريم هي ابنة عمران أم المسيح عليه‌السلام ، والمراد بمريم نبأ مريم وقوله : « إِذِ » ظرف له ، وقوله : « انْتَبَذَتْ » إلى آخر القصة تفصيل المظروف الذي هو نبأ مريم ، والمعنى واذكر يا محمد في هذا الكتاب نبأ مريم حين اعتزلت من أهلها في مكان شرقي ، وكأنه شرقي المسجد.

قوله تعالى : « فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا » الحجاب ما يحجب الشيء ويستره عن غيره ، وكأنها اتخذت الحجاب من دون

٣٤

أهلها لتنقطع عنهم وتعتكف للعبادة كما يشير إليه قوله : « كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً » آل عمران : ٣٧ وقد مر الكلام في تفسير الآية.

وقيل : إنها كانت تقيم المسجد حتى إذا حاضت خرجت منها وأقامت في بيت زكريا حتى إذا طهرت عادت إلى المسجد فبينما هي في مشرفة لها في ناحية الدار وقد ضربت بينها وبين أهلها حجابا لتغتسل إذ دخل عليها جبرائيل في صورة شاب أمرد سوي الخلق فاستعاذت بالله منه.

وفيه أنه لا دليل على هذا التفصيل من جهة اللفظ ، وقد عرفت أن آية آل عمران لا تخلو من تأييد للمعنى السابق.

وقوله : « فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا » ظاهر السياق أن فاعل « فَتَمَثَّلَ » ضمير عائد إلى الروح فالروح المرسل إليها هو المتمثل لها بشرا سويا ومعنى تمثله لها بشرا ترائيه لها ، وظهوره في حاستها في صورة البشر وهو في نفسه روح وليس ببشر.

وإذ لم يكن بشرا وليس من الجن فقد كان ملكا بمعنى الخلق الثالث الذي وصفه الله سبحانه في كتابه وسماه ملكا ، وقد ذكر سبحانه ملك الوحي في كلامه وسماه جبريل بقوله : « مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ » البقرة : ٩٧ وسماه روحا في قوله : « قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ » النحل : ١٠٢ وقوله : « نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ » الشعراء : ١٩٤ وسماه رسولا في قوله : « إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ » الحاقة : ٤٠ ، فبهذا كله يتأيد أن الروح الذي أرسله الله إليها إنما هو جبريل.

وأما قوله : « إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ـ إلى أن قال ـ قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » آل عمران : ٤٧.

فتطبيقه على الآيات التي نحن فيها لا يدع ريبا في أن قول الملائكة لمريم ومحاورتهم معها المذكور هناك هو قول الروح لها المذكور هاهنا ، ونسبة قول جبريل إلى الملائكة من قبيل نسبة قول الواحد من القوم إلى جماعتهم لاشتراكهم معه في خلق أو سنة أو عادة ، وفي القرآن منه شيء كثير كقوله تعالى : « يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ

٣٥

لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ » المنافقون : ٨ ، والقائل واحد. وقوله : « وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ » الأنفال : ٣٢ ، والقائل واحد.

وإضافة الروح إليه تعالى للتشريف مع إشعار بالتعظيم ، وقد تقدم كلام في معنى الروح في تفسير قوله تعالى : « يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ » الآية الإسراء : ٨٥.

ومن التفسير الردي قول بعضهم إن المراد بالروح في الآية عيسى عليه‌السلام وضمير تمثل عائد على جبريل. وهو كما ترى.

ومن القراءة الردية قراءة بعضهم « روحنا » بتشديد النون على أن روحنا اسم الملك الذي أرسل إلى مريم ، وهو غير جبريل الروح الأمين. وهو أيضا كما ترى.

( كلام في معنى التمثل )

كثيرا ما ورد ذكر التمثل في الروايات ، وأما في الكتاب فلم يرد ذكره إلا في قصة مريم في سورتها قال تعالى : « فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا » الآية : ـ ١٧ من السورة ، والآيات التالية التي يعرف فيها جبريل نفسه لمريم خير شاهد أنه كان حال تمثله لها في صورة بشر باقيا على ملكيته ولم يصر بذلك بشرا ، وإنما ظهر في صورة بشر وليس ببشر بل ملك وإنما كانت مريم تراها في صورة بشر.

فمعنى تمثله لها كذلك ظهوره لها في صورة بشر وليس عليها في نفسه بمعنى أنه كان في ظرف إدراكها على صورة بشر وهو في الخارج عن إدراكها على خلاف ذلك.

وهذا هو الذي ينطبق على معنى التمثل اللغوي فإن معنى تمثل شيء لشيء في صورة كذا هو تصوره عنده بصورته وهو هو لا صيرورة الشيء شيئا آخر فتمثل الملك بشرا هو ظهوره لمن يشاهده في صورة الإنسان لا صيرورة الملك إنسانا ، ولو كان التمثل واقعا في نفسه وفي الخارج عن ظرف الإدراك كان من قبيل صيرورة الشيء شيئا آخر وانقلابه إليه لا بمعنى ظهوره له كذلك.

واستشكل أمر هذا التمثل بأمور مذكورة في التفسير الكبير وغيره.

أحدها : أن جبريل شخص عظيم الجثة حسبما نطقت به الأخبار فمتى صار في

٣٦

مقدار جثة الإنسان فإن تساقطت أجزاؤه الزائدة على مقدار جثة الإنسان لزم أن لا يبقى جبريل ، وإن لم تتساقط لزم تداخلها وهو محال.

الثاني : أنه لو جاز التمثل ارتفع الوثوق وامتنع القطع بأن هذا الشخص الذي يرى الآن هو زيد الذي رئي بالأمس لاحتمال التمثل.

الثالث : أنه لو جاز التمثل بصورة الإنسان جاز التمثل بصورة غيره كالبعوض والحشرات وغيرها ومعلوم أن كل مذهب يجر إلى ذلك فهو باطل.

الرابع : أنه لو جاز ذلك ارتفع الوثوق بالخبر المتواتر كخبر مقاتلة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم بدر لجواز أن يكون المقاتل هو المتمثل به.

وأجيب عن الأول : بأنه لا يمتنع أن يكون لجبريل أجزاء أصلية قليلة وأجزاء فاضلة ويتمكن بالأجزاء من أن يتمثل بشرا هذا على القول بأنه جسم وأما على القول بكونه روحانيا فلا استبعاد في أن يتدرع تارة بالهيكل العظيم وأخرى بالهيكل الصغير.

وأنت ترى أن أول الشقين في الجواب كأصل الإشكال مبني على كون التمثل تغيرا من المتمثل في نفسه وبطلان صورته الأولى وانتقاله إلى صورة أخرى ، وقد تقدم أن التمثل ظهوره في صورة ما وهو في نفسه بخلافها.

والآية بسياقها ظاهرة في أن جبريل لم يخرج بالتمثل عن كونه ملكا ولا صار بشرا في نفسه وإنما ظهر لها في صورة البشر فهو كذلك في ظرف إدراكها لا في نفسه وفي الخارج عن ظرف إدراكها ، ونظير ذلك نزول الملائكة الكرام في قصة البشارة بإسحاق وتمثلهم لإبراهيم ولوط عليه‌السلام في صورة البشر ، ونظيره ظهور إبليس في صورة سراقة بن مالك يوم بدر ، وقد أشار تعالى إليه في سورة الأنفال الآية ٤٨ وقد كان سراقة يومئذ بمكة.

وفي الروايات من ذلك شيء كثير كتمثل إبليس يوم الندوة للمشركين في صورة شيخ كبير ، وتمثله يوم العقبة في صورة منبه بن الحجاج ، وتمثله ليحيي عليه‌السلام في صورة عجيبة ، ونظير تمثل الدنيا لعلي عليه‌السلام في صورة مرأة حسناء فتانة ، كما في الرواية ، وما ورد من تمثل المال والولد والعمل للإنسان عند الموت ، وما ورد من تمثل الأعمال للإنسان في القبر ويوم القيامة. ومن هذا القبيل التمثلات المنامية كتمثل العدو في

٣٧

صورة الكلب أو الحية أو العقرب وتمثل الزوج في صورة النعل وتمثل العلاء في صورة الفرس والفخر في صورة التاج إلى غير ذلك.

فالمتمثل في أغلب هذه الموارد ـ كما ترى ـ من المعاني التي لا صورة لها في نفسها ولا شكل ، ولا يتحقق فيها تغير من صورة إلى صورة ولا من شكل إلى شكل كما عليه بناء الإشكال والجواب.

وأجيب عن الثاني : بأنه مشترك الورود فإن من اعترف بالصانع القادر يلزمه ذلك لجواز أن يخلق تعالى مثل زيد مثلا وبذلك يرتفع الوثوق ويمتنع القطع على حذو ما ذكر في الإشكال ، وكذا من لم يعترف بالصانع وأسند الحوادث إلى الأسباب الطبيعية أو الأوضاع السماوية يجوز عنده أن يتحقق من الأسباب ما يستتبع حدوث مثل زيد مثلا فيعود الإشكال.

ولعله لما كان مثل هذه الحوادث نادرا لم يلزم منه قدح في العلوم العادية المستندة إلى الإحساس فلا يلزم الشك في كون زيد الذي نشاهده الآن هو زيد الذي شاهدناه أمس.

وأنت خبير بأن هذا الجواب لا يحسم مادة الإشكال إذ تسليم المغايرة بين الحس والمحسوس كرؤية غير زيد في صورة زيد وإن كانت نادرة يبطل العلم الحسي ولا يبقى إلا أن يدعى أنه إنما يسمى علما لأن ندرة التخلف والخطإ تستوجب غفلة الإنسان عن الالتفات إلى الشك فيه واحتمال المغايرة بين الحس والمحسوس.

على أنه إذا جازت المغايرة وهي محتملة التحقق في كل مورد مورد لم يكن لنا سبيل إلى العلم بكونها نادرة فمن أين يعلم أن مثل ذلك نادر الوجود؟.

والحق أن الإشكال والجواب فاسدان من أصلهما :

أما الإشكال فهو مبني على أن الذي يناله الحس هو عين المحسوس الخارجي بخارجيته دون الصورة المأخوذة منه ويتفرع على ذلك الغفلة عن معنى كون الأحكام الحسية بديهية والغفلة عن أن تحميل حكم الحس على المحسوس الخارجي إنما هو بالفكر والنظر لا بنفس الحس.

فالذي يناله الحس من العين الخارجي شيء من كيفياته وهيآته يشابهه في الجملة لا نفس الشيء الخارجي ثم التجربة والنظر يعرفان حاله في نفسه والدليل على ذلك

٣٨

أقسام المغايرة بين الحس والمحسوس الخارجي وهي المسماة بأغلاط الحس كمشاهدة الكبير صغيرا والعالي سافلا والمستقيم مائلا والمتحرك ساكنا وعكس ذلك باختلاف المناظر وكذلك حكم سائر الحواس كما نرى الفرد من الإنسان مثلا مع بعد المسافة أصغر ما يمكن ونحكم بتكرر الحس وبالتجربة أنه إنسان يماثلنا في عظم الجثة ، ونشاهد الشمس قدر صحفة وهي تدور حول الأرض ثم البراهين الرياضية تسوقنا إلى أنها أكبر من الأرض كذا وكذا مرة وأن الأرض هي التي تدور حول الشمس.

فتبين أن المحسوس لنا بالحقيقة هي الصورة التي في ظرف حسنا دون الأمر الخارجي بخارجيته ، ثم إنا لا نرتاب في أن الذي أحسسناه وهو في حسنا قد أحسسناه وهذا معنى بداهة الحس ، وأما المحسوس وهو الذي في الخارج عنا وعن حسنا فالحكم الذي نحكم به عليه إنما هو ناشئ عن فكرنا ونظرنا وهذا ما قلناه إن الذي نعتقده من حال الشيء الخارجي حكم ناشئ عن الفكر والنظر دون الحس هذا. وقد بين في العلوم الباحثة عن الحس والمحسوس أن لجهازات الحواس أنواعا من التصرف في المحسوس.

ثم إن من الضروري عندنا أن في الخارج من إدراكنا سببا تتأثر عنه نفوسنا فتدرك ما تدرك ، وهذا السبب ربما كان خارجيا كالأجسام التي ترتبط بكيفياتها وأشكالها بنفوسنا من طريق الحواس فندرك بالحس صورا منها ثم نحصل بتجربة أو فكر شيئا من أمرها في نفسها ، وربما كان داخليا كالخوف الشديد الطارئ على الإنسان فجأة يصور له صورا هائلة مهيبة على حسب ما عنده من الأوهام والخواطر المؤلمة.

وفي جميع هذه الأحوال ربما أصاب الإنسان في تشخيصه حال المحسوس الخارجي وهو الأغلب وربما أخطأ كمن يرى سرابا فيقدر أنه ماء أو أشباحا فيحسب أنها أشخاص.

فقد تبين من جميع ما تقدم أن المغايرة بين الحس والمحسوس الخارجي في نفسه ـ على كونها مما لا بد منه في ـ الجملة لا تستدعي ارتفاع الوثوق وبطلان الاعتماد على الحس فإن الأمر في ذلك يدور مدار ما حصله الإنسان من تجربة أو نظر أو غير ذلك وأصدقها ما صدقته التجربة.

وأما وجه فساد الجواب فبناؤه على تسليم ما تسلمه في الإشكال من نيل الحس

٣٩

نفس المحسوس الخارجي بعينه ، وأن العلم بالمحسوس في نفسه مستند إلى الحس نفسه مع التخلف نادرا.

وأجيب عن الإشكال الثالث بأن أصل تجويز تصور الملك بصور سائر الحيوان غير الإنسان قائم في الأصل ، وإنما عرف فساده بدلائل السمع.

وفيه أنه لا دليل من جهة السمع يعتد به نعم يرد على أصل الإشكال أن المراد بالإمكان إن كان هو الإمكان المقابل للضرورة والامتناع فمن البين أن تمثل الملك بصورة الإنسان لا يستلزم إمكان تمثله بصورة غيره من الحيوان ، وإن كان هو الإمكان بمعنى الاحتمال العقلي فلا محذور في الاحتمال حتى يقوم الدليل على نفيه أو إثباته.

وأجيب عن الإشكال الرابع بمثل ما أجيب به عن الثالث فإن احتمال التخلف قائم في المتواتر لكن دلائل السمع تدفعه. وفيه أن نظير الاحتمال قائم في نفس دليل السمع ، فإن الطريق إليه حاسة السمع والجواب الصحيح عن هذا الإشكال هو الذي أوردناه جوابا عن الإشكال الثاني. والله أعلم.

فظهر مما قدمناه أن التمثل هو ظهور الشيء للإنسان بصورة يألفها الإنسان وتناسب الغرض الذي لأجله الظهور كظهور جبريل لمريم في صورة بشر سوي لما أن المعهود عند الإنسان من الرسالة أن يتحمل إنسان الرسالة ثم يأتي المرسل إليه ويلقي إليه ما تحمله من الرسالة من طريق التكلم والتخاطب ، وكظهور الدنيا لعلي عليه‌السلام في صورة امرأة حسناء لتغره لما أن الفتاة الفائقة في جمالها هي في باب الأهواء واللذائذ النفسانية أقوى سبب يتوسل به للأخذ بمجامع القلب والغلبة على العقل إلى غير ذلك من الأمثلة الواردة.

فإن قلت : لازم ذلك القول بالسفسطة فإن الإدراك الذي ليست وراءه حقيقة تطابقه من جميع الجهات ليس إلا وهما سرابيا وخيالا باطلا ورجوعه إلى السفسطة.

قلت : فرق بين أن يكون هناك حقيقة يظهر للمدرك بما يألفه من الصور وتحتمله أدوات إدراكه وبين أن لا يكون هناك إلا صورة إدراكية ليس وراءها شيء ، والسفسطة هي الثاني دون الأول وتوخي أزيد من ذلك في باب العلم الحصولي طمع فيما لا مطمع فيه وتمام الكلام في ذلك موكول إلى محله. والله الهادي.

٤٠