الميزان في تفسير القرآن - ج ١٤

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ١٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٥
الصفحات: ٤١٦

وفي الدر المنثور ، أخرج ابن مردويه من طريق نهشل عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : الغي واد في جهنم.

أقول : وفي روايات أخرى أن الغي وأثام نهران في جهنم ، وهذا على تقدير صحة الحديث ليس بتفسير آخر كما زعمه أكثر المفسرين بل بيان لما سيئول إليه الغي بحسب الجزاء ، ونظيره ما ورد أن الويل بئر في جهنم وأن طوبى شجرة في الجنة ، إلى غير ذلك من الروايات.

( وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥) )

( بيان )

الآيتان معترضتان بين آيات السورة وسياقهما يشهد بأنهما من كلام ملك الوحي بوحي قرآني من الله سبحانه فإن النظم نظم قرآني بلا ريب. وبذلك يتأيد ما ورد بطرق مختلفة من طرق أهل السنة ورواه في مجمع البيان ، أيضا عن ابن عباس : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله استبطأ نزول جبريل ـ فسأله عن ذلك فأجابه بوحي من الله تعالى : « وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ » إلى آخر الآيتين.

وقد تكلف جمع في بيان اتصال الآيتين بالآيات السابقة فقال بعضهم : إن التقدير : هذا وقال جبريل : وما نتنزل إلا بأمر ربك إلخ ، وقال آخرون : إنهما متصلتان بقول جبريل لمريم المنقول سابقا : « إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا » الآية ، وذكر قوم أن قوله : « وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ » إلى آخر الآية من

٨١

كلام المتقين حين يدخلون الجنة فالتقدير وقال المتقون وما نتنزل الجنة إلا بأمر ربك « إلخ » وقيل غير ذلك.

وهي جميعا وجوه ظاهرة السخافة يأباها السياق ولا يقبلها النظم البليغ لا حاجة إلى الاشتغال ببيان وجوه فسادها. وسيأتي في ذيل البحث في الآية الثانية وجه آخر للاتصال.

قوله تعالى : « وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ » إلى آخر الآية ، التنزل هو النزول على مهل وتؤدة فإن تنزل مطاوع نزل يقال : نزله فتنزل والنفي والاستثناء يفيدان الحصر فلا يتنزل الملائكة إلا بأمر من الله كما قال : « لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ » التحريم : ٦.

وقوله : « لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ » يقال : كذا قدامه وأمامه وبين يديه والمعنى واحد غير أن قولنا : بين يديه إنما يطلق فيما كان بقرب منه وهو مشرف عليه له فيه نوع من التصرف والتسلط فظاهر قوله : « ما بَيْنَ أَيْدِينا » أن المراد به ما نشرف عليه مما هو مكشوف علينا مشهود لنا : وظاهر قوله : « وَما خَلْفَنا » بالمقابلة ما هو غائب عنا مستور علينا.

وعلى هذا فلو أريد بقوله : « ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ » المكان شمل بعض المكان الذي أمامهم والمكان الذي هم فيه وجميع المكان الذي خلفهم ولم يشمل كل مكان ، وكذا لو أريد به الزمان شمل الماضي كله والحال والمستقبل القريب فقط وسياق قوله : « لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ » ، ينادي بالإحاطة ولا يلائم التبعيض.

فالوجه حمل « ما بَيْنَ أَيْدِينا » على الأعمال والآثار المتفرعة على وجودهم التي هم قائمون بها متسلطون عليها ، وحمل « ما خَلْفَنا » على ما هو من أسباب وجودهم مما تقدمهم وتحقق قبلهم ، وحمل « ما بَيْنَ ذلِكَ » على وجودهم أنفسهم وهو من أبدع التعبير وألطفه وبذلك تتم الإحاطة الإلهية بهم من كل جهة لرجوع المعنى إلى أن الله تعالى هو المالك لوجودنا وما يتعلق به وجودنا من قبل ومن بعد.

ولقد اختلفت كلماتهم في تفسير هذه الجملة فقيل : المراد بما بين أيدينا ما هو

٨٢

قدامنا من الزمان المستقبل وبما خلفنا الماضي وبما بين ذلك الحال ، وقيل : ما بين أيدينا ما قبل الإيجاد من الزمان. وما خلفنا ما بعد الموت إلى استمرار الآخرة وما بين ذلك هو مدة الحياة وقيل : ما بين الأيدي الدنيا إلى النفخة الأولى وما خلفهم هو ما بعد النفخة الثانية وما بين ذلك ما بين النفختين وهو أربعون سنة ، وقيل : ما بين أيديهم الآخرة وما خلفهم الدنيا ، وقيل : ما بين أيديهم ما قبل الخلق وما خلفهم ما بعد الفناء وما بين ذلك ما بين الدنيا والآخرة ، وقيل : ما بين أيديهم ما بقي من أمر الدنيا وما خلفهم ما مضى منه وما بين ذلك ما هم فيه وقيل : المعنى ابتداء خلقنا ومنتهى آجالنا ومدة حياتنا.

وقيل : ما بين أيديهم السماء وما خلفهم الأرض وما بين ذلك ما بينهما ، وقيل : بعكس ذلك ، وقيل : ما بين أيديهم المكان الذي ينتقلون إليه وما خلفهم المكان الذي ينتقلون منه وما بين ذلك المكان الذي هم فيه.

وتشترك الأقوال الثلاثة الأخيرة في أن الماءات عليها مكانية كما يشترك السبعة في أن الماءات عليها زمانية وهناك قول بكون الآية تعم الزمان والمكان فهذه أحد عشر قولا ولا دليل على شيء منها مع ما فيها من قياس الملك على الإنسان والوجه ما قدمناه.

فقوله : « لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ » يفيد إحاطة ملكه تعالى بهم ملكا حقيقيا لا يجري فيه تصرف غيره ولا إرادة من سواه إلا عن إذن منه ومشية وإذ لا معصية للملائكة فلا تفعل فعلا إلا عن أمره ومن بعد إذنه ولا تريد إلا ما أراده الله فلا يتنزل ملك إلا بأمر ربه.

وقد تقرر بهذا البيان أن قوله : « لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ » في مقام التعليل لقوله : « وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ » وأن قوله : « وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا » ـ والنسي فعول من النسيان ـ من تمام التعليل أي أنه تعالى لا ينسى شيئا من ملكه حتى يختل بإهماله أمر التدبير فلا يأمر بالنزول حينما يجب فيه النزول أو يأمر به حينما لا يجب وهكذا وكان هذا هو وجه العدول في الآية عن إثبات العلم أو الذكر إلى نفي النسيان.

وقيل المعنى وما كان ربك نسيا أي تاركا لأنبيائه أي ما كان عدم النزول إلا

٨٣

لعدم الأمر به ولم تكن عن تركه تعالى لك وتوديعه إياك.

وفيه أنه وإن وافق ما تقدم من سبب النزول بوجه لكن يبقى معه التعليل بقوله : « لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا » إلخ ، ناقصا وينقطع قوله : « رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما » عما تقدمه كما سيتضح.

قوله تعالى : « رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا » صدر الآية أعني قوله : « رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما » تعليل لقوله في الآية السابقة « لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا » إلى آخر الآية أي كيف لا يملك ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وكيف يكون نسيا وهو تعالى رب السماوات والأرض وما بينهما؟ ورب الشيء هو مالكه ، المدبر لأمره ، فملكه وعدم نسيانه مقتضى ربوبيته.

وقوله : « فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ » تفريع على صدر الآية والمعنى إذا كنا لا نتنزل إلا بأمر ربك وقد نزلنا عليك هذا الكلام المتضمن للدعوة إلى عبادته فالكلام كلامه والدعوة دعوته فاعبده وحده واصطبر لعبادته فليس هناك من يسمى ربا غير ربك حتى لا تصطبر على عبادة ربك وتنتقل إلى عبادة ذلك الغير الذي يسمى ربا فتكتفي بعبادته عن عبادة ربك أو تشرك به وربما قيل : إن الجملة تفريع على قوله : « رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ » أو على قوله : « وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا » أي لم ينسك ربك فاعبده « إلخ » والوجهان كما ترى.

وقد بان بهذا التقرير أمور :

أحدها أن قوله : « هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا » من تمام البيان المقصود بقوله : « فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ » وهو في مقام التعليل له.

والثاني أن المراد بالسمي المشارك في الاسم والمراد بالاسم هو الرب لأن مقتضى بيان الآية ثبوت الربوبية المطلقة له تعالى على كل شيء فهو يقول : هل تعلم من اتصف بالربوبية فسمي لذلك ربا حتى تعدل عنه إليه فتعبده دونه.

وبذلك يظهر عدم استقامة عامة ما قيل في معنى السمي في الآية فقد قيل :

٨٤

إن المراد بالسمي المماثل مجازا ، وقيل : السمي بمعنى الولد وقيل : هو بمعناه الحقيقي غير أن المراد بالاسم الذي لا مشاركة فيه هو رب السماوات والأرض وقيل : هو اسم الجلالة ، وقيل : هو الإله ، وقيل : هو الرحمن ، وقيل : هو الإله الخالق الرازق المحيي المميت القادر على الثواب والعقاب.

والثالث : أن النكتة في إضافة الرب إلى ضمير الخطاب وتكراره في الآية الأولى إذ قال : بأمر ربك وقال : وما كان ربك ولم يقل : ربنا هي التوطئة لما في ذيل الكلام من توحيد الرب ففي قوله : « رَبِّكَ » إشارة إلى أن ربنا الذي نتنزل عن أمره هو ربك فالدعوة دعوته فاعبده ، ويمكن أن تكون هذه هي النكتة فيما في مفتتح السورة إذ قال : « ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ » إلخ لأن الآيات كما نبهنا عليه ذات سياق واحد لغرض واحد.

والرابع : أن قوله : « فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ » مسوق لتوحيد العبادة وليس أمرا بالعبادة وأمرا بالثبات عليها وإدامتها إلا من جهة الملازمة فافهم ذلك.

ويمكن أن يستفاد من التفريع أنه تأكيد للبيان الذي يتضمنه السياق السابق على هاتين الآيتين وبذلك يظهر اتصالهما بالآيات السابقة عليهما من غير أن تؤخذا معترضتين من كل جهة.

فكان ملك الوحي لما تنزل عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالسورة وأوحى إليه الآيات الثلاث والستين منها وهي مشتملة على دعوة كاملة إلى الدين الحنيف خاطبه صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنه لم يتنزل وليس يتنزل بما تنزل به من عند نفسه بل عن أمر من ربه وبرسالة من عنده فالكلام كلامه والدعوة دعوته وهو رب النبي ورب كل شيء فليعبده وحده فليس هناك رب آخر يعدل عنه إليه فالآيتان مما أوحي إلى ملك الوحي ليلقيه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تثبيتا له وتأكيدا للآيات السابقة.

وهذا نظير أن يرسل ملك رسولا بكتاب من عنده أو رسالة إلى بعض عماله فيأتيه الرسول ثم إذا قرأ الكتاب أو أدى الرسالة قال للعامل : إني ما جئتك من عند نفسي بل بأمر من الملك وإشارة منه والكتاب كتابه والرسالة قوله وحكمه وهو مليكك ومليك عامة من في المملكة فاسمع له وأطع وأقم على ذلك فليس هناك مليك غيره حتى

٨٥

تعدل عنه إليه.

فكلام هذا الرسول تأكيد لكلام الملك وإذا فرض أن الملك ، هو الذي أمره أن يعقب رسالته بهذا الكلام كان الكلام كلاما للرسول ورسالة أيضا عن قبل الملك وكلامه.

وغير خفي عليك أن هذا الوجه أوفق بالآيتين وأوضح انطباقا عليهما مما تذكره روايات سبب النزول على ما فيها من الاختلاف والوهن.

* * *

( وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (٧٠) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (٧٢) )

( بيان )

عود إلى ما قبل قوله : « وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ » الآيتين ومضى في الحديث السابق وهو كالتذنيب لقوله : « فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا » بذكر بعض ما تفوهوا به عن غيهم وقد خص بالذكر قول لهم في المعاد وآخر في النبوة وآخر في المبدإ.

٨٦

ففي هذه الآيات أعني قوله : « وَيَقُولُ الْإِنْسانُ ـ إلى قوله ـ وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا » وهي سبع آيات ذكر استبعادهم للبعث والجواب عنه وذكر الإشارة إلى ما لقولهم هذا من التبعة والوبال.

قوله تعالى : « وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا » إنكار للبعث في صورة الاستبعاد ، وهو قول الكفار من الوثنيين ومن يلحق بهم من منكري الصانع بل مما يميل إليه طبع الإنسان قبل الرجوع إلى الدليل ، قيل : ولذلك نسب القول إلى الإنسان حينما كان مقتضى طبع الكلام أن يقال : ويقول الكافر ، أو : ويقول الذين كفروا « إلخ » ، وفيه أنه لا يلائم قوله الآتي : « فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ـ إلى قوله ـ صِلِيًّا ».

وليس ببعيد أن يكون المراد بالإنسان القائل ذلك هو الكافر المنكر للبعث وإنما عبر بالإنسان لكونه لا يترقب منه ذلك وقد جهزه الله تعالى بالإدراك العقلي وهو يذكر أن الله خلقه من قبل ولم يك شيئا ، فليس من البعيد أن يعيده ثانيا فاستبعاده مستبعد منه ، ولذا كرر لفظ الإنسان حيث أخذ في الجواب قائلا : « أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً » أي أنه إنسان لا ينبغي له أن يستبعد وقوع ما شاهد وقوع مثله وهو غير ناسية.

ولعل التعبير بالمضارع في قوله : « وَيَقُولُ الْإِنْسانُ » للإشارة إلى استمرار هذا الاستبعاد بين المنكرين للمعاد والمرتابين فيه.

قوله تعالى : « أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً » الاستفهام للتعجيب والاستبعاد ومعنى الآية ظاهر وقد أخذ فيها برفع الاستبعاد بذكر وقوع المثل ليثبت به الإمكان ، فالآية نظيرة قوله تعالى في موضع آخر : « وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ ـ إلى أن قال ـ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ » يس : ٨١.

فإن قيل : الاحتجاج بوقوع المثل إنما ينتج إمكان المثل والمطلوب في إثبات المعاد هو رجوع الإنسان بشخصه وعينه لا بمثله فإن مثل الشيء غيره ، قيل : إن هذه الآيات بصدد إثبات رجوع الأجساد والمخلوق منها ثانيا مثل المخلوق أولا وشخصية

٨٧

الشخص الإنساني بنفسه لا ببدنه فإذا خلق البدن ثانيا وتعلقت به النفس كان شخص الإنسان الدنيوي بعينه وإن كان البدن وهو جزء الإنسان بالقياس إلى البدن الدنيوي مثلا لا عينا وهذا كما أن شخصية الإنسان ووحدته محفوظة في الدنيا مدى عمره مع تغير البدن وتبدله بتغير أجزائه وتبدلها حالا بعد حال والبدن في الحال الثاني غيره في الحال الأول لكن الإنسان باق في الحالين على وحدته الشخصية لبقاء نفسه بشخصها.

وإلى هذا يشير قوله تعالى : « وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ـ إلى أن قال ـ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ » الم السجدة : ١١ أي إنكم مأخوذون من أبدانكم محفوظون لا تضلون ولا تفتقدون.

قوله تعالى : « فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا » الجثي في أصله على فعول جمع جاثي وهو البارك على ركبتيه ، ونسب إلى ابن عباس أنه جمع جثوة وهو المجتمع من التراب والحجارة ، والمراد أنهم يحضرون زمرا وجماعات متراكما بعضهم على بعض ، وهذا المعنى أنسب للسياق.

وضمير الجمع في « لَنَحْشُرَنَّهُمْ » و « لَنُحْضِرَنَّهُمْ » للكفار ، والآية إلى تمام ثلاث آيات متعرضة لحالهم يوم القيامة وهو ظاهر وربما قيل : إن الضميرين للناس أعم من المؤمن والكافر كما أن ضمير الخطاب في قوله الآتي : « وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها » كذلك وفيه أن لحن الآيات الثلاث وهو لحن السخط والعذاب يأبى ذلك.

والمراد بقوله : « لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ » جمعهم خارج القبور مع أوليائهم من الشياطين لأنهم لعدم إيمانهم غاوون كما قال : « فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا » والشياطين أولياؤهم قال تعالى : « إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ » الحجر : ٤٢ ، وقال : « إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ » الأعراف : ٢٧ ، أو المراد حشرهم مع قرنائهم من الشياطين كما قال : « وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ... حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ، وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ » الزخرف : ٣٩.

والمعنى : فأقسم بربك لنجمعنهم ـ يوم القيامة ـ وأولياءهم أو قرناءهم من الشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم لإذاقة العذاب وهم باركون على ركبهم من الذلة أو

٨٨

وهم جماعات وزمرة زمرة.

وفي قوله : « فَوَ رَبِّكَ » التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة ولعل النكتة فيه ما تقدم في قوله : « بِأَمْرِ رَبِّكَ » ونظيره قوله الآتي : « كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً ».

قوله تعالى : « ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا » النزع هو الاستخراج ، والشيعة الجماعة المتعاونون على أمر أو التابعون لعقيدة والعتي على فعول مصدر بمعنى التمرد في العصيان والظاهر أن قوله : « أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا » جملة استفهامية وضع موضع مفعول لننزعن للدلالة على العناية بالتعيين والتمييز فهو نظير قوله : « أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ » الإسراء : ٥٧.

والمعنى : ثم لنستخرجن من كل جماعة متشكلة أشدهم تمردا على الرحمن وهم الرؤساء وأئمة الضلال ، وقيل المعنى لنستخرجن الأشد ثم الأشد حتى يحاط بهم.

وفي قوله : « عَلَى الرَّحْمنِ » التفات والنكتة تلويح أن تمردهم عظيم لكونه تمردا على من شملت رحمته كل شيء وهم لم يلقوا منه إلا الرحمة والتمرد على من هذا شأنه عظيم.

قوله تعالى : « ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا » الصلي في الأصل على فعول مصدر يقال صلي النار يصلاها صليا وصليا إذا قاسى حرها فالمعنى ثم أقسم لنحن أعلم بمن أولى بالنار مقاساة لحرها أي إن الأمر في دركات عذابهم ومراتب استحقاقهم لا يشتبه علينا.

قوله تعالى : « وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا » الخطاب للناس عامة مؤمنيهم وكافريهم بدليل قوله في الآية التالية : « ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا » والضمير في « وارِدُها » للنار ، وربما قيل : إن الخطاب للكفار المذكورين في الآيات الثلاث الماضية وفي الكلام التفات من الغيبة إلى الحضور وفيه أن سياق الآية التالية يأبى ذلك.

والورود خلاف الصدور وهو قصد الماء على ما يظهر من كتب اللغة قال الراغب في المفردات ، : الورود أصله قصد الماء ثم يستعمل في غيره يقال : وردت الماء أرده ، ورودا فأنا وارد والماء مورود ، وقد أوردت الإبل الماء قال تعالى : « وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ

٨٩

مَدْيَنَ » والورد الماء المرشح للورود ، والورد خلاف الصدر ، والورد يوم الحمى إذا وردت ، واستعمل في النار على سبيل الفظاعة قال تعالى : « فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ » « وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ » « إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً » « أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ » « ما وَرَدُوها » والوارد الذي يتقدم القوم فيسقي لهم قال تعالى : « فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ » أي ساقيهم من الماء المورود انتهى موضع الحاجة.

وإلى ذلك استند من قال من المفسرين إن الناس إنما يحضرون النار ويشرفون عليها من غير أن يدخلوها واستدلوا عليه بقوله تعالى : « وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ » القصص : ٢٣ ، وقوله : « فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ » يوسف : ١٩ ، وقوله : « إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها » الأنبياء : ١٠٢.

وفيه أن استعماله في مثل قوله : « وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ » وقوله : « فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ » في الحضور بعلاقة الإشراف لا ينافي استعماله في الدخول على نحو الحقيقة كما ادعي في آيات أخرى ، وأما قوله : « أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها » فمن الجائز أن يكون الإبعاد بعد الدخول كما يستظهر من قوله : « ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها » ، وأن يحجب الله بينهم وبين أن يسمعوا حسيسها إكراما لهم كما حجب بين إبراهيم وبين حرارة النار إذ قال للنار : ( كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ ).

وقال آخرون ولعلهم أكثر المفسرين بدلالة الآية على دخولهم النار استنادا إلى مثل قوله تعالى : « إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها » الأنبياء : ٩٩ ، وقوله في فرعون : « يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ » هود : ٩٨ ، ويدل عليه قوله في الآية التالية : « ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا » أي نتركهم باركين على ركبهم وإنما يقال نذر ونترك فيما إذا كان داخلا مستقرا في المحل قبل الترك ثم أبقي على ما هو عليه ولعدة من الروايات الواردة في تفسير الآية.

وهؤلاء بين من يقول بدخول عامة الناس فيها ومن يقول بدخول غير المتقين

٩٠

مدعيا أن قوله : « مِنْكُمْ » بمعنى منهم على حد قوله : « وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً ، إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً » الدهر : ٢٢ ، هذا ولكن لا يلائمه سياق قوله : « ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا » الآية.

وفيه أن كون الورود في مثل قوله : « لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها » بمعنى الدخول ممنوع بل الأنسب كونه بمعنى الحضور والإشراف فإنه أبلغ كما هو ظاهر وكذا في قوله : « فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ » فإن شأن فرعون وهو من أئمة الضلال هو أن يهدي قومه إلى النار وأما إدخالهم فيها فليس إليه.

وأما قوله : « ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها » فالآية دالة على كونهم داخلين فيها بدليل قوله : « نَذَرُ » لكن دلالتها على كونهم داخلين غير كون قوله « وارِدُها » مستعملا في معنى الدخول وكذا تنجية المتقين لا تستلزم كونهم داخلين فيها فإن التنجية كما تصدق مع إنقاذ من دخل المهلكة تصدق مع إبعاد من أشرف على الهلاك وحضر المهلكة من ذلك.

وأما الروايات فإنما وردت في شرح الواقعة لا في تشخيص ما استعمل فيه لفظ « وارِدُها » في الآية فالاستدلال بها على كون الورود بمعنى الدخول ساقط.

فإن قلت : لم لا يجوز أن يكون المراد شأنية الدخول والمعنى : ما من أحد منكم إلا من شأنه أن يدخل النار وإنما ينجو من ينجو بإنجاء الله على حد قوله : « وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً » النور : ٢١.

قلت : معناه كون الورود مقتضى طبع الإنسان من جهة أن ما يناله من خير وسعادة فمن الله ولا يبقى له من نفسه إلا الشر والشقاء لكن ينافيه ما في ذيل الآية من قوله : « كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا » فإنه صريح في أن هذا الورود بإيراد من الله وبقضائه المحتوم لا باقتضاء من طبع الأشياء.

والحق أن الورود لا يدل على أزيد من الحضور والإشراف عن قصد ـ على ما يستفاد من كتب اللغة ـ فقوله : « وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها » إنما يدل على القصد والحضور والإشراف ، ولا ينافي دلالة قوله في الآية التالية : « ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا » على دخولهم جميعا أو دخول الظالمين خاصة فيها بعد ما وردوها.

٩١

وقوله : « كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا » ضمير كان للورود أو للجملة السابقة باعتبار أنه حكم ، والحتم والجزم والقطع بمعنى واحد أي هذا الورود أو الحكم كان واجبا عليه تعالى مقضيا في حقه وإنما قضى ذلك نفسه على نفسه إذ لا حاكم يحكم عليه.

قوله تعالى : « ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا » قد تقدمت الإشارة إلى أن قوله : « وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها » يدل على كون الظالمين داخلين فيها ثم يتركون على ما كانوا عليه ، وأما تنجية الذين اتقوا فلا تدل بلفظها على كونهم داخلين إذ التنجية ربما تحققت بدونه اللهم إلا أن يستظهر ذلك من ورود اللفظين مقترنين في سياق واحد.

وفي التعبير بلفظ الظالمين إشارة إلى علية الوصف للحكم.

ومعنى الآيتين : ما من أحد منكم ـ متق أو ظالم ـ إلا وهو سيرد النار كان هذا الإيراد واجبا مقضيا على ربك ثم ننجي الذين اتقوا منها ونترك الظالمين فيها لظلمهم باركين على ركبهم.

( بحث روائي )

في الكافي ، بإسناده عن مالك الجهني قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عز وجل : « أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً » ـ قال : فقال : لا مقدرا ولا مكتوبا.

وفي المحاسن ، بإسناده عن حمران قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قوله : « أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ » ـ الآية ، قال : لم يكن في كتاب ولا علم.

أقول : المراد بالحديثين أنه لم يكن في كتاب ولا علم من كتب المحو والإثبات ثم أثبته الله حين أراد كونه وأما اللوح المحفوظ فلا يعزب عنه شيء بنص القرآن.

وفي تفسير القمي : في قوله تعالى : « ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا » قال : قال : على ركبهم.

وفيه بإسناده عن الحسين بن أبي العلاء عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في قوله عز وجل :

٩٢

« وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها » قال : أما تسمع الرجل يقول : وردنا بني فلان ـ فهو الورود ولم يدخله.

وفي المجمع ، عن السدي قال : سألت مرة الهمداني عن هذه الآية ـ فحدثني أن عبد الله بن مسعود حدثهم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ قال : يرد الناس النار ثم يصدرون بأعمالهم ـ فأولهم كلمع البرق ثم كمر الريح ثم كحضر الفرس ـ ثم كالراكب ثم كشد الرجل ثم كمشيه.

وفيه ، وروى أبو صالح غالب بن سليمان عن كثير بن زياد عن أبي سمية قال : اختلفنا في الورود فقال قوم : لا يدخلها مؤمن ـ وقال آخرون : يدخلونها جميعا ـ ثم ينجي الله الذين اتقوا فلقيت جابر بن عبد الله ـ فسألته فأومأ بإصبعيه إلى أذنيه وقال : صمتا إن لم أكن سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : الورود الدخول لا يبقى بر ولا فاجر حتى يدخلها ـ فتكون على المؤمنين بردا وسلاما ـ كما كانت على إبراهيم ـ حتى أن للنار ـ أو قال : لجهنم ـ ضجيجا من بردها ـ ثم ينجي الله الذين اتقوا ـ ويذر الظالمين فيها جثيا.

أقول : والرواية من التفسير غير أن سندها ضعيف بالجهالة.

وفيه : وروي مرفوعا عن يعلى بن منبه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : تقول النار للمؤمن يوم القيامة : جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي.

وفيه : وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنه سئل عن المعنى فقال : إن الله يجعل النار كالسمن الجامد ـ ويجمع عليها الخلق ثم ينادي المنادي ـ أن خذي أصحابك وذري أصحابي ـ فو الذي نفسي بيده ـ لهي أعرف بأصحابها من الوالدة بولدها.

أقول : والروايات الأربع الأخيرة رواها في الدر المنثور ، عن عدة من أرباب الكتب والجوامع ، ، غير أنه لم يذكر في الرواية الثانية ـ فيما عندنا من نسخة الدر المنثور ، ـ قوله : الورود الدخول.

وفي الدر المنثور ، أخرج أبو نعيم في الحلية ، عن عروة بن الزبير قال : لما أراد ابن رواحة الخروج إلى أرض مؤتة من الشام ـ أتاه المسلمون يودعونه فبكى فقال : أما والله ما بي حب الدنيا ولا صبابة لكم ـ ولكني سمعت رسول الله قرأ هذه الآية ـ « وَإِنْ مِنْكُمْ

٩٣

إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا » ـ فقد علمت أني وارد النار ـ ولا أدري كيف الصدور بعد الورود؟.

واعلم أن ظاهر بعض الروايات السابقة أن ورود الناس النار هو جوازهم منها فينطبق على روايات الصراط وفيها أنه جسر ممدود على النار يؤمر بالعبور عليها البر والفاجر فيجوزه الأبرار ويسقط فيها الفجار ، وعن الصدوق في الاعتقاد ، أنه حمل الآية عليه.

وقال في مجمع البيان ، : وقيل : إن الفائدة في ذلك يعني ورود النار ما روي في بعض الأخبار : أن الله تعالى لا يدخل أحدا الجنة حتى يطلعه على النار ـ وما فيها من العذاب ليعلم تمام فضل الله عليه ـ وكمال فضله وإحسانه إليه ـ فيزداد لذلك فرحا وسرورا بالجنة ونعيمها ، ولا يدخل أحدا النار ـ حتى يطلعه على الجنة وما فيها من أنواع النعيم والثواب ـ ليكون ذلك زيادة عقوبة له ـ وحسرة على ما فاته من الجنة ونعيمها. انتهى.

( كلام في معنى وجوب الفعل وجوازه )

( وعدم جوازه على الله سبحانه )

قد تقدم في الجزء الأول من الكتاب في ذيل قوله تعالى : « وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ » البقرة : ٢٦ في بحث قرآني تقريبا أن له تعالى الملك المطلق على الأشياء بمعنى أنه يملك كل شيء ملكا مطلقا غير مقيد بحال أو زمان أو أي شرط مفروض وأن كل شيء مملوك له تعالى من غير أن يكون مملوكا له من جهة وغير مملوك من جهة لا في ذاته ولا في شيء مما يتعلق به.

فله تعالى أن يتصرف فيما يشاء بما يشاء من غير أن يستعقب ذلك قبحا أو ذما أو شناعة من عقل أو غيره لأن القبح أو الذم إنما يلحقان الفاعل إذا أتى بما لا يملكه من الفعل بحكم عقل أو قانون أو سنة دائرة وأما إذا أتى بما له أن يفعله وهو يملكه فلا يعتريه قبح أو ذم أو لائمة البتة ولا يوجد في المجتمع الإنساني ملك مطلق ولا حرية مطلقة لمناقضته معنى الاجتماع والاشتراك في المنافع فكل ملك فيه مقيد محدود يذم الإنسان لو تعداه ويقبح فعله ويمدح لو اقتصر عليه ويستحسن عمله.

٩٤

وهذا بخلاف ملكه تعالى فإنه مطلق غير مقيد ولا محدود على ما يدل عليه إطلاق آيات الملك ، ويؤيده بل يدل عليه الآيات الدالة على قصر الحكم وانحصار التشريع فيه وعموم قضائه لكل شيء إذ لو لا سعة ملكه وعموم سلطنته لكل شيء لم يستقم حكمه في كل شيء ولا قضاؤه عند كل واقعة ، والاستدلال على محدودية ملكه تعالى بما وراء القبائح العقلية بأنا نرى أن المالك لعبد إذا عذب عبده بما لا يجوزه العقل ذم عليه واستقبح العقلاء عمله من قبيل الاستدلال على الشيء بحكم ما يباينه.

على أن هذا الملك الذي نثبته له تعالى وهو ملك تشريعي هو كونه تعالى بحيث ينتهي إليه وجود كل شيء وإن شئت فقل : كون كل شيء بحيث يقوم وجوده به تعالى وهذا هو الملك التكويني الذي لا يخلو شيء من الأشياء من أن يكون مشمولا له فمع ذلك كيف يمكن تحقق الملك التكويني في شيء من غير أن ينبعث منه ملك تشريعي وحق مجعول اللهم إلا أن يكون من العناوين العدمية التي لا يتعلق بها الإيجاد كعناوين المعاصي التي في أفعال العباد وهي ترجع إلى مخالفة الأمر وترك رعاية المصلحة والحكمة ولا يتحقق شيء من ذلك فيما يعد فعلا له تعالى فأجد التأمل فيه.

ويتفرع على هذا البحث أنه لا معنى لأن يوجب غيره تعالى عليه شيئا أو يحرم أو يجوز وبالجملة يكلفه بتكليف تشريعي كما يمتنع أن يؤثر فيه تأثيرا تكوينيا لاستلزامه كونه تعالى مملوكا له واقعا تحت سلطنته من حيث فعله الذي تعلق به التكليف ومآله إلى مملوكية ذاته وهو محال.

وما هو الذي يتحكم عليه تعالى؟ ومن الذي يقهره بالتكليف؟ فإن فرض أنه العقل الحاكم لذاته القاضي لنفسه عاد الكلام إلى مالكية العقل لهذا الحكم والقضاء ، فالعقل يستند في أحكامه إلى أمور خارجة من ذاته ومن مصالح ومفاسد فليس حاكما لذاته بل لغيره هف.

وإن فرض أنه المصلحة المتقررة عند العقل فمصلحة كذا مثلا يقتضي فيه تعالى أن يعدل في حكمه وأن لا يظلم عباده ثم العقل بعد النظر فيه يحكم عليه تعالى بوجوب العدل وعدم جواز الظلم أو بحسن العدل وقبح الظلم فهذه المصلحة إما أمر اعتباري غير حقيقي ولا موجود واقعي وإنما جعله العقل جعلا من غير أن ينتهي إلى حقيقة خارجية عاد

٩٥

الأمر إلى كون العقل حاكما لذاته غير مستند في حكمه إلى أمر خارج عن ذاته ، وقد مر بطلانه.

وإما أمر حقيقي موجود في الخارج ولا محالة هي ممكنة معلولة للواجب ينتهي وجوده إليه تعالى ويقوم به كانت فعلا من أفعاله ورجع الأمر إلى كون بعض أفعاله تعالى بتحققه مانعا عن تحقق بعض آخر وأنه دل بذلك العقل أن يحكم بوجوب الفعل أو عدم جوازه ، وبعبارة أخرى ينتهي الأمر إلى أنه تعالى بالنظر إلى نظام الخلقة يختار فعلا من أفعاله على آخر وهو ما فيه المصلحة على الخالي منها هذا بحسب التكوين ثم دل العقل أن يستنبط من المصلحة أن الفعل الذي اختاره وهو العدل مثلا واجب عليه وإن شئت فقل : حكم بلسان العقل بوجوب الفعل عليه وبالجملة لم ينته الإيجاب إلى غيره بل رجع إليه فهو الموجب على نفسه لا غير.

فقد اتضح بهذا البحث أمور :

الأول : أن له ملكا مطلقا لا يتقيد بتصرف دون تصرف فله أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، قال تعالى : « فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ » البروج : ١٦ ، وقال : « وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ » الرعد : ٤١ غير أنه تعالى بما كلمنا في مرحلة الهداية على قدر عقولنا ونصب نفسه في مقام التشريع أوجب على نفسه أشياء ومنع نفسه عن أشياء فاستحسن لنفسه أشياء كالعدل والإحسان ، كما استحسنها لنا واستقبح أشياء كالظلم والعدوان ، كما استقبحها لنا.

ومعنى كونه تعالى مشرعا آمرا وناهيا هو أنه تعالى قدر وجودنا في نظام متقن يربطه إلى غايات هي سعادتنا وفيها خير دنيانا وآخرتنا وهي المسماة بالمصالح ونظم أسباب وجودنا وجهازات أنفسنا نظما لا يلائم إلا مسيرا خاصا في الحياة من أفعال وأعمال هي الملاءمة لمصالح وجودنا لا غير فأسباب الوجود والجهازات المجهزة والأوضاع والأحوال الحافة بنا تدفعنا إلى مصالح وجودنا ومصالح الوجود تدعونا إلى أعمال خاصة تلائمها ومسير في الحياة تسوقنا إلى كمال الوجود وسعادة الحياة وإن شئت فقل : تندبنا إلى قوانين وسنن في العمل بها والجري عليها خير الدنيا والآخرة.

وهذه القوانين التي تهتف بها الفطرة ويعلمها الوحي السماوي هي الشريعة وإذ هي

٩٦

تنتهي إليه تعالى فالأمر الذي فيها أمره والنهي الذي فيها نهيه وكل حكم فيها حكمه ، وفيها أمور يرى اتصاف الفعل بها حسنا على كل حال كالعدل فهو يرتضيها لفعله كما يرتضيها لأفعالنا ، وأمور يستقبحها ويستشنعها ويذم أفعالا اتصفت بها كالظلم فهو لا يرتضيها لفعله كما لا يرتضيها لأفعالنا وهكذا.

فلا ضير في وجوب شيء عليه تعالى وجوبا تشريعيا إذا كان هو المشرع على نفسه ، وهذه أحكام اعتبارية متقررة في ظرف الاعتبار العقلي وحقيقتها أن من سنته تعالى التكوينية أن يريد ويفعل أمورا إذا عرضت على العقل عنونها بعنوان العدل ، وإن لا يصدر عن ساحته أعمال إذا عرضت على العقل عنونها بعنوان الظلم فافهم ذلك.

الثاني : أن هذا الوجوب تشريعي وهناك وجوب آخر تكويني يعتمد عليه هذا الوجوب وهو ضرورة ترتب المعلولات على عللها في النظام العام من غير تخلف المنتزع عنها معنى العدل.

وقد التبس الأمر على كثير من الباحثين فزعموا كون هذا الوجوب تكوينيا وقرروه بأن القدرة الواجبية مطلقة متساوية النسبة إلى فعل القبيح وتركه مثلا لكنه تعالى لا يفعل القبيح لحكمته البتة فترك القبيح ضروري بالنسبة إلى حكمته وإن كان ممكنا بالنسبة إلى قدرته وهذه الضرورة ضرورة حقيقية كضرورة قولنا : الواحد نصف الاثنين بالضرورة غير الوجوب الاعتباري يعتبر في الأوامر المولوية هذا.

والمغالطة فيه بينة فإن ترك القبيح إذا كان ممكنا بالنسبة إلى القدرة والقدرة عين الذات كان ممكنا بالنسبة إلى الذات وصفة الحكمة حينئذ إن كانت عين الذات كان ترك القبيح ضروريا ممكنا معا بالنسبة إلى الذات وليس إلا التناقض ، وإن كانت غير الذات فإن كانت أمرا عينيا وقد جعلت الترك ضروريا للذات بعد ما كان ممكنا لزم تأثير غير الذات الواجبية فيها وهو تناقض آخر وقد عدلوا عن القول بالوجوب التشريعي إلى القول بالوجوب التكويني فرارا من لزوم حكومة غيره تعالى فيه بالأمر والنهي ، وإن كانت أمرا انتزاعيا فكونها منتزعة من الذات يؤدي إلى التناقض الأول المذكور ، وكونها منتزعة من غيرها إلى التناقض الثاني فإن الحكم الحقيقي في الأمور الانتزاعية لمنشإ انتزاعها.

٩٧

والمغالطة إنما نشأت من أخذ الفعل ضروريا بالنسبة إلى الذات بعد انضمام الحكمة إليها فإن الذات إن أخذت علة تامة للفعل كانت النسبة هي الضرورة قبل الانضمام وبعدها دون الإمكان وإن أخذت جزءا من العلة التامة وإنما تتم بانضمام أمر أو أمور إليها كان الفعل بالنسبة إليها ممكنا لا ضروريا وإن كان بالنسبة إلى علته التامة المجتمعة من الذات وغيرها ضروريا لا ممكنا.

والثالث : أن قولنا : يجب عليه كذا ولا يجوز عليه كذا حكم عقلي ، والعقل في ذلك حاكم قاض لا مدرك آخذ بمعنى أن الحكم الذي في القضية فعل قائم بالعقل مجعول له لا أمر قائم بنفسه يحكيه العقل نوعا من الحكاية كما وقع في لسان بعضهم قائلين إن من شأنه الإدراك دون الحكم.

وذلك أن العقل الذي كلامنا فيه هو العقل العملي الذي موطن عمله العمل من حيث ينبغي أو لا ينبغي ويجوز أو لا يجوز ، والمعاني التي هذا شأنها أمور اعتبارية لا تحقق لها في الخارج عن موطن التعقل والإدراك فكان هذا الثبوت الإدراكي بعينه فعلا للعقل قائما به وهو معنى الحكم والقضاء ، وأما العقل النظري الذي موطن عمله المعاني الحقيقية غير الاعتبارية تصورا أو تصديقا فإن لمدركاته ثبوتا في نفسها مستقلا عن العقل فلا يبقى للعقل عند إدراكها إلا أخذها وحكايتها وهو الإدراك فحسب دون الحكم والقضاء.

* * *

( وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (٧٤) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (٧٥) وَيَزِيدُ

٩٨

اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (٧٦) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٧٨) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (٨٠) )

( بيان )

هذا هو الفصل الثاني من كلماتهم المنقولة عنهم ، وهو ردهم الدعوة النبوية بأنها لا تنفع في حسن حال المؤمنين بها شيئا ولو كانت حقة لجلبت إليهم زهرة الحياة الدنيا التي فيها سعادة العيش من أبنية رفيعة وأمتعة نفيسة وجمال وزينة ، فالذي هم عليه من الكفر وقد جلب لهم خير الدنيا خير مما عليه المؤمنون وقد غشيهم رثاثة الحال وفقد المال وعسرة العيش ، فكفرهم هو الحق الذي ينبغي أن يؤثر دون الإيمان الذي عليه المؤمنون وقد أجاب الله عن قولهم بقوله : « وَكَمْ أَهْلَكْنا » إلخ ، وقوله : « قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ » إلخ ، ثم عقب ذلك ببيان حال بعض من اغتر بقولهم.

قوله تعالى : « وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا » إلى آخر الآية ، المقام اسم مكان من القيام فهو المسكن ، والندي هو المجلس وقيل خصوص مجلس المشاورة ، ومعنى « قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا » أنهم خاطبوهم فاللام للتبليغ كما قيل ، وقيل : تفيد معنى التعليل أي قالوا لأجل الذين آمنوا أي لأجل إغوائهم وصرفهم عن الإيمان ، والأول أنسب للسياق كما أن الأنسب للسياق أن يكون ضمير عليهم راجعا إلى الناس أعم من الكفار والمؤمنين دون الكفار فقط حتى يكون قوله : « قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا » من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر.

وقوله : « أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا » أي للاستفهام والفريقان هما

٩٩

الكفار والمؤمنون ، وكان مرادهم أن الكفار هم خير مقاما وأحسن نديا من المؤمنين الذين كان الغالب عليهم العبيد والفقراء لكنهم أوردوه في صورة السؤال وكنوا عن الفريقين لدعوى أن المؤمنين عالمون بذلك يجيبون بذلك لو سئلوا من غير تردد وارتياب.

والمعنى : وإذا تتلى على الناس ـ وهم الفريقان الكفار والمؤمنون ـ آياتنا وهي ظاهرات في حجتها واضحات في دلالتها لا تدع ريبا لمرتاب ، قال فريق منهم وهم الذين كفروا للفريق الآخر وهم الذين آمنوا : أي هذين الفريقين خير من جهة المسكن وأحسن من حيث المجلس ـ ولا محالة هم الكفار ـ يريدون أن لازم ذلك أن يكونوا هم سعداء في طريقتهم وملتهم إذ لا سعادة وراء التمتع بأمتعة الحياة الدنيا فالحق ما هم عليه.

قوله تعالى : « وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً » القرن : الناس المقترنون في زمن واحد ، والأثاث : متاع البيت ، قيل : لا يطلق إلا على الكثير ولا واحد له من لفظه ، والرئي بالكسر فالسكون : ما رئي من المناظر ، نقل في مجمع البيان ، عن بعضهم : أنه اسم لما ظهر وليس بالمصدر وإنما المصدر الرأي والرؤية يدل على ذلك قوله : « يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ » فالرأي : الفعل ، والرئي : المرئي كالطحن والطحن والسقي والسقي والرمي والرمي. انتهى.

ولما احتج الكفار على المؤمنين في حقية ملتهم وبطلان الدعوة النبوية التي آمن به المؤمنون بأنهم خير مقاما وأحسن نديا في الدنيا وقد فاتهم أن للإنسان حياة خالدة أبدية لا منتهى لها وإنما سعادته في سعادتها والأيام القلائل التي يعيش فيها في الدنيا لا قدر لها قبال ما لا نهاية له ولا أنها تغني عنه شيئا.

على أن هذه التمتعات الدنيوية لا تحتم له السعادة ولا تقيه من غضب الله إن حل به يوما وما هو من الظالمين ببعيد فليسوا في أمن من سخط الله ولا طيب في عيش يهدده الهلاك ولا في نعمة كانت في معرض النقمة والخيبة.

أشار إلى الجواب عنه بقوله : « وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ » والظاهر أن الجملة حالية وكم خبرية لا استفهامية ، والمعنى : أنهم يتفوهون بهذه الشبهة الواهية ـ نحن خير منكم مقاما وأحسن نديا ـ استخفافا للمؤمنين والحال أنا أهلكنا قرونا كثيرة قبلهم هم أحسن من حيث الأمتعة والمناظر.

١٠٠