الميزان في تفسير القرآن - ج ١٢

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ١٢

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨١

الله سبحانه ، وينطوي وقتئذ بساط الكفر والفسوق ، ويصفو العيش ويرتفع أمراض القلوب ووساوس الصدور ، وقد تقدم تفصيل ذلك في مباحث النبوة في الجزء الثاني وفي قصص نوح في الجزء العاشر من الكتاب. قال تعالى : ( ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) الروم : ٤١ وقال : ( وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ ) الأنبياء : ١٠٥.

ومن ذلك يظهر أن الذي استندوا إليه من الحجة إنما يدل على كون يوم الوقت المعلوم الذي جعله الله غاية إنظار إبليس هو يوم يصلح الله سبحانه المجتمع الإنساني فينقطع دابر الفساد ولا يعبد يومئذ إلا الله لا يوم يموت الخلائق بالنفخة الأولى.

قوله تعالى : ( قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) الباء في قوله : ( بِما أَغْوَيْتَنِي ) للسببية و ( بِما ) مصدرية أي أتسبب بإغوائك إياي إلى التزيين لهم وألقي إليهم ما استقر في من الغواية كما قالوا يوم القيامة على ما حكى الله : ( أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا ) القصص : ٦٣.

وقول بعضهم : إن الباء للقسم أي أقسم بإغوائك لأزينن من أردإ القول فلم يعهد في كتاب ولا سنة أن يقسم بمثل الإغواء والإضلال وليس فيه شيء مفهوم من التعظيم اللازم في القسم.

وقد نسب لعنه الله في قوله : ( بِما أَغْوَيْتَنِي ) إلى الله سبحانه أنه أغواه ولم يرده الله سبحانه إليه ولا أجاب عنه وليس مراده به غوايته إذ عصى أمر السجدة ولم يسجد لآدم عليه‌السلام والدليل على ذلك أن لا رابطة بين معصيته في نفسه وبين معصية الإنسان لربه حتى يكون معصيته سبب معصيتهم ويتسبب هو بها إلى إغوائهم.

وإنما يريد به ما يفيده قوله تعالى : ( وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ ) من استقرار اللعنة المطلقة فيه وهي الإبعاد من الرحمة والإضلال عن طريق السعادة وهي إغواء له أثر الغواية التي أبداها من نفسه وأتى بها من عنده فيكون من إضلاله تعالى مجازاة لا إضلالا ابتدائيا وهو جائز غير ممتنع عليه تعالى ، ولذلك لم يرده كما قال تعالى : ( يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ ) البقرة : ٢٦ وقد بينا

( ١٢ ـ الميزان ـ ١١ )

١٦١

ذلك في ذيل الآية ومواضع أخرى من هذا الكتاب.

وعند هذا يستقيم معنى السببية أعني إغواءه الناس بسبب الإغواء الذي مسه واستقر فيه فإن البعد من الرحمة والبون من السعادة لما كان لازما لنفسه بلزوم اللعنة الإلهية له كان كلما اقترب من قلب إنسان بالوسوسة والتسويل أو استولى على نفس من النفوس وهو بعيد من الرحمة والسعادة أوجب ذلك بعد من اقترب منه أو تسلط عليه ، وهو إغواؤه بإلقاء أثر الغواية التي عنده إليه وهو ظاهر.

هذا ما يعطيه التدبر في الآية ومحصله أن المراد بالإغواء ليس هو الإضلال الابتدائي بل الإضلال على سبيل المجازاة الذي يدل عليه قوله : ( وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي ) الآية.

وأما القوم فكالمسلم عندهم أن قوله : ( بِما أَغْوَيْتَنِي ) لو كان بمعناه الظاهر وهو الإضلال لكان هو الإضلال الابتدائي وكان ناظرا إلى إبائه وامتناعه عن السجدة ولذا استشكلوا الآية واختلفوا في تفسير الإغواء على اختلاف مذاهبهم في استناد الشر إليه تعالى وصدوره منه جوازا وامتناعا.

فقال بعضهم وهم أهل الجبر : إن إسناد الإغواء إليه تعالى بلا إنكار منه لذلك يدل على أن الشر كالخير من الله تعالى ، والمعنى رب بما أضللتني بالامتناع عن السجدة ـ فهو منك ـ أقسم لأضلنهم أجمعين.

وقال آخرون وهم غيرهم : أنه لا يجوز استناد الشر والمعصية وكل قبيح إليه تعالى ووجهوا الآية بوجوه.

أحدها : أن الإغواء في الآية بمعنى التخييب والمعنى رب بما خيبتني من رحمتك لأخيبنهم بالدعوة إلى معصيتك.

الثاني : أن المراد بالإغواء الإضلال عن طريق الجنة والمعنى بما أضللتني عن طريق جنتك لما صدر مني من معصيتك لأضلنهم بالدعوة.

الثالث : أن المراد بقوله : ( بِما أَغْوَيْتَنِي ) بما كلفتني أمرا ضللت عنده بالمعصية وهو السجود فسمى ذلك إضلالا منه له توسعا وأنت بالتأمل فيما قدمناه تعرف أن الآية في غنى عن هذا البحث وما أبدئ فيه من الوجوه.

١٦٢

ونظير هذا البحث بحثهم عن الإنظار الواقع في قوله : ( فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ) من جهة أنه مفض إلى الإغواء القبيح وترجيح للمرجوح على الراجح.

فقال المجوزون : إن الآية تدل على أن الحسن والقبح اللذين يعلل بهما العقل أفعالنا لا تأثير لهما في أفعاله تعالى فله أن يثيب من يشاء ويعذب من يشاء من غير جهة مرجحة حتى مع رجحان الخلاف ، قالوا : ومن زعم أن حكيما يحصر قوما في دار ويرسل فيها النار العظيمة والأفاعي القاتلة الكثيرة ولم يرد أذى أحد من أولئك القوم بالإحراق واللسع فقد خرج عن الفطرة الإنسانية فإذن من حكم الفطرة أن الله تعالى أراد بإنظار إبليس إضلال بعض الناس.

والمانعون يوجهون الإنظار بأنه تعالى كان يعلم من إبليس وأتباعه أنهم يموتون على الكفر والفسوق ويصيرون إلى النار أنظر إبليس أو لم ينظر على أنه تعالى تدارك تأييده ذلك بمزيد ثواب المؤمنين المتقين. على أنه يقول : ( وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ ) ولو كان الإغواء من الله لأنكره عليه إلى غير ذلك مما أوردوه من الوجوه.

وليت شعري ما الذي أغفلهم عن آيات الامتحان والابتلاء على كثرتها كقوله تعالى : ( لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ) الأنفال : ٣٧ وقوله : ( وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ ) آل عمران : ١٥٤ وغيرهما من الآيات الدالة على أن نظام السعادة والشقاء والثواب والعقاب مبني على أساس الامتحان والابتلاء ، والإنسان واقع بين الخير والشر والسعادة والشقاء له ما يختاره من العمل بنتائجه.

فلو لا أن يكون هناك داع إلى الخير وهم الملائكة الكرام وإن شئت فقل : هو الله ، وداع إلى الشر وهم إبليس وقبيله لم يكن للامتحان معنى قال تعالى : ( الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً ) البقرة : ٢٦٨.

ولئن أيد الله إبليس على الإنسان بالإنظار إلى يوم الوقت المعلوم فقد أيده عليه بالملائكة الباقين ببقاء الدنيا ولم يقل سبحانه له : إنك منظر بل قال : ( فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ) فأثبت منظرين غيره وجعله بعضهم.

ولئن أيده بالتمكين بتزيين الباطل من الكفر والفسوق للإنسان أيد الإنسان بأن هداه إلى الحق وزين الإيمان في قلبه وفطرة على التوحيد ، وعرفه الفجور

١٦٣

والتقوى ، وجعل له نورا يمشي به في الناس إن آمن بربه إلى غير ذلك من الأيادي ، قال : ( قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ) يونس : ٣٥ وقال : ( وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ) الحجرات : ٧ وقال : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها ) الروم : ٣٠ وقال : ( وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها ) الشمس : ٨ وقال : ( أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) الأنعام : ١٢٢ وقال ( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ ) المؤمن : ٥١ والتكلم بالغير مشعر بوساطة الملائكة.

فالإنسان خلق هو في نفسه أعزل ليس معه شيء من السعادة والشقاء بحسب بدء خلقته واقف في ملتقى سبيلين : سبيل الخير والطاعة وهو سبيل الملائكة ليس لهم إلا الطاعة ، وسبيل الشر والمعصية وهو سبيل إبليس وجنوده وليس معهم إلا المخالفة والمعصية ، فإلى أي السبيلين مال في مسير حياته وقع فيه ورافقه أصحابه وزينوا له ما عندهم وهدوه إلى ما ينتهي إليه سبيلهم وهو الجنة أو النار والسعادة أو الشقاء.

فقد بان مما تقدم أن إنظار إبليس إلى يوم الوقت المعلوم ليس من تقديم المرجوح على الراجح ولا إبطالا لقانون العلية بل ليتيسر به وبما يقابله من بقاء الملائكة ما هو الواجب من أمر الامتحان والابتلاء فلا محل للاستشكال.

وقوله : ( لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ) أي لأزينن لهم الباطل أو لأزينن لهم المعاصي على ما قيل والمعنى الأول أجمع والمفعول محذوف على أي حال ، والظاهر أن المفعول معرض عنه والفعل مستعمل استعمال اللازم ، والغرض بيان أصل التزيين كناية عن الغرور يقال : زين له كذا وكذا أي حمله عليه غرورا ، وضمير ( لَهُمْ ) لآدم وذريته على ما يدل عليه السياق ، والمراد بالتزيين لهم في الأرض غرورهم في هذه الحياة الأرضية وهي الحياة الدنيا وهو السبب القريب للإغواء فيكون عطف قوله : ( وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) عليه من عطف المسبب على السبب المترتب عليه.

والآية تشعر بل تدل على ما قدمناه في تفسير آيات جنة آدم في الجزء الأول من الكتاب أن معصية آدم بالأكل من الشجرة المنهية عن وسوسة إبليس لم تكن معصية لأمر مولوي بل مخالفة لأمر إرشادي لا يوجب نقضا في عصمته فإنه يعرف الأرض في

١٦٤

الآية ظرفا لتزيينه وإغوائه فما كان غروره لآدم وزوجته في الجنة إلا ليخرجهما منها وينزلهما إلى الأرض فيتناسلا فيها فيغويهما وبنيهما عن الحق ويضلهم عن الصراط قال تعالى : ( يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما ) الأعراف : ٢٧.

وقوله : ( إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) استثنى من عموم الإغواء طائفة خاصة من البشر وهم المخلصون ـ بفتح اللام على القراءة المشهورة ـ والسياق يشهد أنهم الذين أخلصوا لله وما أخلصهم إلا الله سبحانه ، وقد قدمنا في الكلام على الإخلاص في تفسير سورة يوسف أن المخلصين هم الذين أخلصهم الله لنفسه بعد ما أخلصوا أنفسهم لله فليس لغيره سبحانه فيهم شركة ولا في قلوبهم محل فلا يشتغلون بغيره تعالى فما ألقاه إليهم الشيطان من حبائله وتزييناته عاد ذكرا لله مقربا إليه.

ومن هنا يترجح أن الاستثناء إنما هو من الإغواء فقط لا منه ومن التزيين بمعنى أنه لعنه الله يزين للكل لكن لا يغوي إلا غير المخلصين.

ويستفاد من استثناء العباد أولا ثم تفسيره بالمخلصين أن حق العبودية إنما هو بأن يخلص الله العبد لنفسه أي أن لا يملكه إلا هو ويرجع إلى أن لا يرى الإنسان لنفسه ملكا وأنه لا يملك نفسه ولا شيئا من صفات نفسه وآثارها وأعمالها وأن الملك ـ بكسر الميم وضمها ـ لله وحده.

وقوله تعالى : ( قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ) ظاهر الكلام على ما يعطيه السياق أنه كناية على أن الأمر إليه تعالى لا غنى فيه عنه بوجه كما أن كون طريق السفينة على البحر يقضي على راكبيها بأن لا مفر لهم مما يستدعيه العبور على الماء من العدة والوسيلة وكذا كون طريق القافلة على الجبل يحوجهم إلى ما يتهيأ به لعبور قلله الشاهقة ومسالكه الصعبة فكونه صراطا عليه تعالى بالاستقامة هو أنه أمر متوقف من كل جهة إلى حكمه وقضائه تعالى فإنه الله الذي منه يبدأ كل شيء وإليه ينتهي فلا يتحقق أمر إلا وهو ربه القيوم عليه.

وظاهر السياق أيضا أن الإشارة بقوله : ( هذا صِراطٌ ) إلخ إلى قول إبليس : ( لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) لما أظهر بقوله هذا أنه سينتقم منهم

١٦٥

ويبسط سلطته بالتزيين والإغواء عليهم جميعا فلا يخلص منهم إلا القليل كأنه يشير إلى أنه سيستقل بما عزم عليه ويعلو بإرادته على الله سبحانه فيما أراد من خلقهم واستخلافهم واستعبادهم كما حكاه الله تعالى من قوله في موضع آخر من قوله : ( وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ ) الأعراف : ١٧.

فمعنى الآية أن ما ذكرت من أنك ستغويهم أجمعين واستثنيت منهم من استثنيت وأظهرت نسبته إلى قوتك ومشيئتك زاعما فيه أنك مستقل به ، أمر لا يملكه إلا أنا ولا يحكم فيه غيري ولا يصدر إلا عن قضائي فإن أغويت فبإذني أغويت وإن منعت فبمشيئتي منعت فليس إليك من الأمر شيء ولا من الملك إلا ما ملكتك ولا من القدرة إلا ما أقدرتك ، والذي أقضيه لك من السلطان أن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك إلخ.

قوله تعالى : ( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ ) هذا هو القضاء الذي أشار سبحانه إليه في الآية السابقة في أمر الإغواء وذكر أنه له وحده ليس لغيره فيه صنع ولا نصيب.

ومحصله أن آدم وبنيه كلهم عباده لا كما قاله إبليس حيث قصر عباده على المخلصين منهم إذ قال : ( إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) ولم يجعل سبحانه له عليهم ـ أي على العباد ـ سلطانا حتى يستقل بأمرهم فيغويهم وإنما جعل له السلطان على طائفة منهم وهم الذين اتبعوه من الغاوين وولوه أمرهم وألقوا إليه زمام تدبيرهم فهؤلاء هم الذين له عليهم سلطان.

فإذا أمعنت في الآية وجدتها ترد على إبليس قوله : ( لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) من ثلاث جهات أصلية : إحداها : أنه حصر عباده في المخلصين منهم ونفى عنهم سلطان نفسه وعمم سلطانه على الباقين والله سبحانه عمم عباده على الجميع وقصر سلطان إبليس على طائفة منهم وهم الذين اتبعوه من الغاوين ونفى سلطانه على الباقين.

والثانية : أنه لعنه الله ادعى لنفسه الاستقلال في إغوائهم كما يظهر من قوله : ( لَأُغْوِيَنَّهُمْ ) في سياق المخاصمة والتقريع بالانتقام والله سبحانه يرد عليه بأنه منه مزعمة

١٦٦

باطلة وإنما هو عن قضاء من الله وسلطان بتسليطه وإنما ملكه إغواء من اتبعه وكان غاويا في نفسه وبسوء اختياره.

فلم يأت إبليس بشيء من نفسه ولم يفسد أمرا على ربه لا في إغوائه أهل الغواية فإنه بقضاء من الله سبحانه أن يستقر لأهل الغواية غيهم بسببه ـ وقد اعترف لعنه الله بذلك بعض الاعتراف بقوله : ( رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي ) ـ ولا في استثنائه المخلصين فإنه أيضا بقضاء من الله نافذ فلا حكم إلا لله.

وهذا الذي تفيده الآية الكريمة أعني تسليط إبليس على إغواء الغاوين الذين هم في أنفسهم غاوون وتخليص المخلصين وهم مخلصون في أنفسهم من كيده كل ذلك بقضاء من الله ، مبني على أصل عظيم يفيده التوحيد القرآني المفاد بأمثال قوله تعالى : ( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ) يوسف : ٦٧ وقوله : ( وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ ) القصص : ٧٠ وقوله : ( الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ) آل عمران : ٦٠ وقوله : ( وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ ) يونس : ٨٢ وغير ذلك من الآيات الدالة على أن كل حكم إيجابي أو سلبي فهو مملوك لله نافذ بقضائه.

ومن هنا يظهر ما في تفسيرهم قوله : ( إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ ) من المسامحة فإنهم قالوا : إنه إذا قبل من إبليس واتبعه صار له سلطان عليه بعدوله عن الهدى إلى ما يدعوه إليه من الغي وظاهره أنه سلطان قهري يحصل لإبليس عن سوء اختيارهم ليس من عند نفسه ولا بجعل من الله سبحانه.

وجه الفساد : أن فيه أخذ الاستقلال والحول الذاتي من إبليس وإعطاؤه ذوات الأشياء ولو كان إبليس لا يملك شيئا من عند نفسه وبغير إذن ربه فالأشياء والأمور أيضا لا تملك لنفسها شيئا ولا حكما حتى الضروريات ولوازم الذوات إلا بإذن من الله وتمليك فافهمه.

والثالثة : أن سلطانه على إغواء من يغويه وإن كان بجعل وتسليط من الله سبحانه إلا أنه ليس بتسليط على الإغواء والإضلال الابتدائي غير الجائز إسناده إلى ساحته سبحانه بل تسليط على الإغواء بنحو المجازاة المسبوق بغوايتهم من عندهم وفي أنفسهم.

والدليل على ذلك قوله تعالى : ( إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ ) فإبليس إنما يغوي

١٦٧

من اتبعه بغوايته أي إن الإنسان يتبعه بغوايته أولا فيغويه هو ثانيا فهناك غواية بعدها إغواء والغواية إجرام من الإنسان والإغواء بسبب إبليس مجازاة من الله سبحانه.

ولو كان هذا الإغواء إغواء ابتدائيا من إبليس لمن لا يستحق ذلك لكان هو الأليق باللوم دون الإنسان كما يذكره يوم القيامة على ما يحكيه سبحانه بقوله : ( وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ) : إبراهيم : ٢٢. فاللوم على الإنسان المجرم وهو مسئول عن معصيته دون إبليس.

نعم إبليس ملوم على ما يتلبس به من الفعل بسوء اختياره وهو الإغواء الذي سلطه الله عليه مجازاة لما امتنع من السجود لآدم لما أمر به فالإغواء هو الذي استقرت ولايته عليه كما يشير سبحانه إليه في موضع آخر من كلامه إذ يقول : ( إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) الأعراف : ٢٧ وقال تعالى وهو أوضح ما يؤيد جميع ما قدمناه : ( كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ ) الحج : ٤.

وقد تحصل مما تقدم أن المراد بقوله : ( عِبادِي ) عامة الإنسان ، وأن الاستثناء في قوله : ( مَنِ اتَّبَعَكَ ) متصل لا منقطع ، وأن ( مَنِ ) في قوله : ( مِنَ الْغاوِينَ ) بيانية ، وأن الكلام مبني على رد قول إبليس ، وأن الآية مشتملة على قضاءين من الله سبحانه في عقدي المستثنى والمستثنى منه وغير ذلك.

ومن ذلك يظهر عدم استقامة قول بعضهم : إن المراد بعبادي هم الذين استثناهم إبليس وعبر عنهم بقوله : ( عِبادَكَ مِنْهُمُ ) فيكون الاستثناء منقطعا والكلام مسوقا لتقرير قول إبليس إن له سلطانا على من يغويه وإن المخلصين لا سبيل له إليهم والمعنى أن المخلصين لا سلطان لك عليهم لكنك مسلط على من اتبعك من الغاوين.

وأنت تعلم بالتأمل فيما تقدم أن هذا هدم لأساس السياق وما يعطيه مقام المخاصمة وتحق نسبته إلى ساحة العزة والكبرياء وتنزيل خطابه تعالى منزلة لا يفيد معها أكثر من تغيير صورة كلام إبليس مع حفظ معناه تقريرا أو اعترافا فهو يقول : سأغويهم إلا المخلصين ، والله سبحانه يقول : لا تغوي المخلصين لكن تغوي غيرهم!

وربما فسر بعضهم قوله : ( عِبادِي ) بجميع البشر وأخذ مع ذلك الاستثناء

١٦٨

منقطعا ولعل ذلك بالبناء على عدم جواز استثناء أكثر الأفراد فلا يقال : له على مائة إلا تسعة وتسعون مثلا ومن المعلوم أن الغاوين من الناس أكثر من المخلصين بما لا يقاس.

وفيه أن ذلك إنما هو فيما كان النظر في الاستثناء إلى صريح العدد وأما إذا كان المنظور إليه هو النوع أو الصنف بعنوانه فلا بأس بزيادة عدد الأفراد ، وللإنسان عدة أصناف : المخلصون ومن دونهم من المؤمنين والمستضعفون والذين اتبعوا إبليس من الغاوين ، وقد استثنى الصنف الأخير في الآية بعنوانه وبقي الباقون وهم أصناف.

ومنهم من جعل الاستثناء منقطعا حذرا من ثبوت سلطان إبليس حتى على الغاوين زعما منه أنه ينافي إطلاق السلطنة الإلهية أو عدله تعالى ومعنى الآية على هذا ، أن عبادي ليس لك عليهم سلطان لكن من اتبعك من الغاوين ألقى إليك زمام نفسه وجعل لك على نفسه سلطانا وليس ذلك من نفسك حتى تعجز الله في خلقه ولا من الله حتى ينافي عدله تعالى.

وفيه : أن له سلطانا على الغاوين لا من نفسه بل بجعل من الله ولا ينافي ذلك عدله في خلقه فإنه تسليط مجازاة لا تسليط ابتدائي ، ولا منافاة بين كون السلطان بقضاء منه تعالى وكونه باتباع الغاوين له باختيارهم فكل ذلك مما قد تبين فيما قدمناه.

على أن قوله تعالى فيه : ( كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ ) الحج : ٤ وقوله : ( إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) الأعراف : ٢٧ يدلان صريحا على ثبوت سلطانه وأنه بجعل من الله سبحانه وقضاء.

قوله تعالى : ( وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ) الظاهر أن ( موعد ) اسم مكان والمراد بكون جهنم موعدهم كونه محل إنجاز ما وعدهم الله من العذاب.

وهذا منه سبحانه تأكيد لثبوت قدرته ورجوع الأمر كله إليه كأنه تعالى يقول له : ما ذكرته من السلطان على الغاوين ليس لك من نفسك ولم تعجزنا بل نحن سلطناك عليهم لاتباعهم لك على أنا سنجازيهم بعذاب جهنم.

ولكون الكلام مسوقا لبيان حالهم اقتصر على ذكر جزائهم ولم يذكر معهم إبليس ولا جزاءه بخلاف قوله : ( لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ) ص : ٨٥ وقوله : ( فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً ) إسراء : ٦٣ لأن المقام غير المقام.

١٦٩

قوله تعالى : ( لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ) لم يبين سبحانه في شيء من صريح كلامه ما هو المراد بهذه الأبواب أهي كأبواب الحيطان مداخل تهدي الجميع إلى عرصة واحدة أم هي طبقات ودركات تختلف في نوع العذاب وشدته؟

وكثيرا ما يسمى في الأمور المختلفة الأنواع كل نوع بابا كما يقال : أبواب الخير وأبواب الشر وأبواب الرحمة ، قال تعالى : ( فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ ) الأنعام : ٤٤ وربما سمي أسباب الشيء وطرق الوصول إليه أبوابا كأبواب الرزق لأنواع المكاسب والمعاملات.

وليس من البعيد أن يستفاد المعنى الثاني من متفرقات آيات النار كقوله تعالى : ( وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها ) ـ إلى أن قال : ( قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها ) الزمر : ٧٢ ، وقوله ( إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) النساء : ١٤٥ إلى غير ذلك من الآيات.

ويؤيده قوله : ( لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ) فإن ظاهره أن نفس الجزء مقسوم موزع على الباب ، وهذا إنما يلائم الباب بمعنى الطبقة دون الباب بمعنى المدخل وأما تفسير بعضهم الجزء المقسوم بالفريق المعين المفروز من غيره فوهنه ظاهر.

وعلى هذا فكون جهنم لها سبعة أبواب هو كون العذاب المعد فيها متنوعا إلى سبعة أنواع ثم انقسام كل نوع أقساما حسب انقسام الجزء الداخل الماكث فيه ، وذلك يستدعي انقسام المعاصي الموجبة للدخول فيها سبعة أقسام ، وكذا انقسام الطرق المؤدية والأسباب الداعية إلى تلك المعاصي ذاك الانقسام ، وبذلك يتأيد ما ورد من الروايات في هذه المعاني كما سيوافيك إن شاء الله.

قوله تعالى : ( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ ) أي إنهم مستقرون في جنات وعيون يقال لهم : ادخلوها بسلام لا يوصف ولا يكتنه نعته في حال كونكم آمنين من كل شر وضر.

لما ذكر سبحانه قضاءه فيمن اتبع إبليس من الغاوين ذكر ما قضى به في حق المتقين من الجنة ، وقد ورد تفسير التقوى في كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالورع عن محارم الله ، وقد تكرر في كلامه تعالى بشراهم بالجنة فيكون المتقون أعم من المخلصين.

١٧٠

وما قيل : إنه لا شبهة في أن السياق يدل على أن المتقين هم المخلصون السابق ذكرهم ، وأن المطلق يحمل على الفرد الكامل.

فيه أن ذلك مبني على كون المراد بالعباد في قوله : ( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ ) هم المخلصين حتى يختص السياق بالكلام فيهم ، وقد تقدم أن المراد بالعباد عامة أفراد الإنسان خرج منه الغاوون بالاستثناء وبقي الباقون ، وقد ذكر سبحانه قضاءه في الغاوين بالنار وهو ذا يذكر قضاءه في غيرهم ممن أوجب له الجنة والأمر في المستضعفين مرجأ وفي العصاة من أهل الكبائر الذين يموتون بغير توبة منوط بالشفاعة فيبقى أهل التقوى من المؤمنين وهم أعم من المخلصين فقضي فيهم بالجنة.

وأما حديث حمل المطلق على الفرد الكامل فهو خطأ وإنما يحمل على الفرد المتعارف وتفصيل المسألة في فن الأصول.

وذكر الإمام الرازي في تفسيره أن المراد بالمتقين في الآية الذين اتقوا الشرك ونقله عن جمهور الصحابة والتابعين وأسنده إلى الخبر.

قال : وهذا هو الحق الصحيح والذي يدل عليه أن المتقي هو الآتي بالتقوى مرة واحدة كما أن الضارب هو الآتي بالضرب مرة فليس من شرط صدق الوصف بكونه متقيا كونه آتيا بجميع أنواع التقوى ، والذي يقرر ذلك أن الآتي بفرد واحد من أفراد التقوى يكون آتيا بالتقوى فإن الفرد مشتمل على الماهية بالضرورة وكل آت بالتقوى يجب أن يكون متقيا فالآتي بفرد يجب كونه متقيا ، ولهذا قالوا : ظاهر الأمر لا يفيد التكرار. فظاهر الآية يقتضي حصول الجنات والعيون لكل من اتقى عن ذنب واحد ، إلا أن الأمة مجمعة على أن التقوى عن الكفر شرط في حصول هذا الحكم.

وأيضا هذه الآية وردت عقيب قول إبليس : ( إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) عقيب قوله تعالى : ( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ ) فلذا اعتبر الإيمان في هذا الحكم فوجب أن لا يزاد فيه قيد آخر لأن تخصيص العام لما كان خلاف الظاهر فكلما كان التخصيص أقل كان أوفق بمقتضى الأصل والظاهر.

فثبت أن الحكم المذكور يتناول جميع القائلين : لا إله إلا الله محمد رسول الله ولو

١٧١

كانوا من أهل المعصية ، وهذا تقرير بين وكلام ظاهر ، انتهى.

ومقتضى كلامه شمول الآية لمن اتقى الشرك ولو اقترف جميع الكبائر الموبقة التي نص الكتاب العزيز باستحقاق النار بإتيانها وترك جميع الواجبات التي نص على تركها بمثله ، والمستأنس بكلامه تعالى المتدبر في آياته لا يرتاب في أن القرآن لا يسمي مثل هذا متقيا ولا يعده من المتقين ، وقد أكثر القرآن ذكر المتقين وبشرهم بالجنة بشارة صريحة فيما يقرب من عشرين موضعا وصفهم في كثير منها باجتناب المحارم وبذلك فسر التقوى في الحديث كما تقدم.

ثم إن مجرد صحة إطلاق الوصف أمر والتسمية أمر آخر فلا يسمى بالمؤمنين والمحسنين والقانتين والمخلصين والصابرين وخاصة في الأوصاف التي تحتمل البقاء والاستمرار إلا من استقر فيه الوصف ، ولو صح ما ذكره في المتقين لجرى مثل ذلك في الظالمين والفاسقين والمفسدين والمجرمين والغاوين والضالين وقد أوعدهم الله النار ، وأدى ذلك إلى تدافع عجيب واختلال في كلامه تعالى ، ولو قيل : إن هناك ما يصرف هذه الآيات أن تشمل المرة والمرتين كآيات التوبة والشفاعة ونظائرها فهناك ما يصرف هذه الآية أن تشمل المتقي بالمرة والمرتين وهي نفس آيات الوعيد على الكبائر الموبقة كآيات الزنا والقتل ظلما والربا وأكل مال اليتيم وأشباهها.

ثم الذي ذكره في تقريب الدلالة وجوه واهية كقوله : إن هذه الآية وقعت عقيب قول إبليس إلخ ، فإنك قد عرفت فيما تقدم أن ذلك لا ينفعه شيئا ، وكقوله : إن زيادة قيد آخر بعد الإيمان خلاف الأصل إلخ ، فإن الأصل إنما يركن إليه عند عدم الدليل اللفظي وقد عرفت أن هناك آيات جمة صالحة للتقييد.

وكقوله : إن ذلك خلاف الظاهر. وكأنه يريد به ظهور المطلق في الإطلاق ، وقد ذهب عليه أن ظهور المطلق إنما هو حجة فيما إذا لم يكن هناك ما يصلح للتقييد.

فالحق أن الآية إنما تشمل الذين استرقت فيهم ملكة التقوى وهو الورع عن محارم الله فأولئك هم المقضي عليهم بالسعادة والجنة قضاء لازما ، نعم المستفاد من الكتاب والسنة أن أهل التوحيد وهم من حضر الموقف بشهادة أن لا إله إلا الله لا يخلدون في النار ويدخلون الجنة لا محالة ، وهذا غير دلالة آية المتقين على ذلك.

١٧٢

قوله تعالى : ( وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ ) إلى آخر الآيتين. الغل الحقد ، وقيل هو ما في الصدر من حقد وحسد مما يبعث الإنسان إلى إضرار الغير ، والسرر جمع سرير والنصب هو التعب والعي الوارد من خارج.

يصف تعالى في الآيتين حال المتقين في سعادتهم بدخول الجنة ، اختص بالذكر هذه الأمور من بين نعم الجنة على كثرتها فإن العناية باقتضاء من المقام متعلقة ببيان أنهم في سلام وأمن مما ابتلي به الغاوون من بطلان السعادة وذهاب السيادة والكرامة فذكر أنهم في أمن من قبل أنفسهم لأن الله نزع ما في صدورهم من غل فلا يهم الواحد منهم بصاحبه سوء بل هم إخوان على سرر متقابلين ولتقابلهم معنى سيأتي في البحث الروائي إن شاء الله تعالى وأنهم في أمن من ناحية الأسباب والعوامل الخارجة فلا يمسهم نصب أصلا وأنهم في أمن وسلام من ناحية ربهم فما هم من الجنة بمخرجين أبدا فلهم السعادة والكرامة من كل جهة ، ولا يغشاهم ولا يمسهم شقاء ووهن من جهة أصلا لا من ناحية أنفسهم ولا من ناحية سائر ما خلق الله ولا من ناحية ربهم.

( كلام )

الأقضية التي صدرت عن مصدر العزة في بدء خلقة الإنسان على ما وقع في كلامه سبحانه عشرة :

الأول والثاني قوله لإبليس : ( فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ ) الحجر : ٣٥ ويمكن إرجاعهما إلى واحد.

الثالث قوله سبحانه له : ( فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ) الحجر : الرابع والخامس والسادس قوله له : ( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ) الحجر : ٤٣.

السابع والثامن قوله سبحانه لآدم ومن معه : ( اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ ) البقرة : ٣٦.

التاسع والعاشر قوله لهم : ( اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ

١٧٣

هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) البقرة : ٣٩.

وهناك أقضية فرعية مترتبة على هذه الأقضية الأصلية يعثر عليها المتدبر الباحث.

( بحث روائي )

في تفسير العياشي ، عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : سألته عن قول الله : ( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) الآية ـ قال : روح خلقها الله فنفخ في آدم منها.

وفيه ، عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في قوله : ( فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) قال : خلق خلقا وخلق روحا ثم أمر الملك فنفخ فيه ـ وليست بالتي نقصت من الله شيئا ـ هي من قدرته تبارك وتعالى.

وفيه ، وفي رواية سماعة عنه عليه‌السلام : خلق آدم ونفخ فيه. وسألته عن الروح قال : هي قدرته من الملكوت.

أقول : أي هي قدرته الفعلية منبعثة عن قدرته الذاتية صادرة منها كما يدل عليه الخبر السابق.

وفي المعاني ، بإسناده عن محمد بن مسلم قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قول الله عز وجل : ( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) قال : روح اختاره واصطفاه وخلقه وأضافه إلى نفسه ـ وفضله على جميع الأرواح فأمر فنفخ منه في آدم.

وفي الكافي ، بإسناده عن محمد بن مسلم قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عما يروون ـ أن الله خلق آدم على صورته ـ فقال : هي على صورة مخلوقة محدثة اصطفاها الله ـ واختارها على سائر الصور المختلفة فأضافها إلى نفسه ـ كما أضاف الكعبة إلى نفسه فقال : ( بَيْتِيَ ) ( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ).

أقول : وهذه الروايات من غرر الروايات في معنى الروح تتضمن معارف جمة وسنوضح معناها عند الكلام في حقيقة الروح إن شاء الله.

وفي تفسير البرهان ، عن ابن بابويه بإسناده عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في قوله تعالى : ( فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ) يوم ينفخ في الصور نفخة واحدة ـ فيموت

١٧٤

إبليس ما بين النفخة الأولى والثانية.

وفي تفسير العياشي ، عن وهب بن جميع وفي تفسير البرهان ، عن شرف الدين النجفي بحذف الإسناد عن وهب ـ واللفظ للثاني ـ عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن إبليس وقوله : ( رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ـ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ) أي يوم هو؟ قال : يا وهب أتحسب أنه يوم يبعث الله فيه الناس ـ ولكن الله عز وجل أنظره إلى يوم يبعث فيه قائمنا ـ فيأخذ بناصيته ويضرب عنقه فذلك اليوم هو الوقت المعلوم.

وفي تفسير القمي ، بإسناده عن محمد بن يونس عن رجل عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في قول الله تبارك وتعالى : ( فَأَنْظِرْنِي ـ إلى قوله ـ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ) قال : يوم الوقت المعلوم يذبحه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ على الصخرة التي في بيت المقدس.

أقول : وهو من أخبار الرجعة وفي معناه ومعنى الرواية السابقة عليه أخبار أخرى من طرق أهل البيت عليه‌السلام.

ومن الممكن أن تكون الرواية الأولى من هذه الثلاث الأخيرة صادرة على وجه التقية ، ويمكن أن توجه الروايات الثلاث من غير تناف بينها بما تقدم في الكلام على الرجعة في الجزء الأول من الكتاب وغيره أن الروايات الواردة من طرق أهل البيت عليه‌السلام في تفسير غالب آيات القيامة تفسرها بظهور المهدي عليه‌السلام تارة وبالرجعة تارة وبالقيامة أخرى لكون هذه الأيام الثلاثة مشتركة في ظهور الحقائق وإن كانت مختلفة من حيث الشدة والضعف فحكم أحدها جار في الآخرين فافهم ذلك.

وفي تفسير العياشي ، عن جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قلت : أرأيت قول الله : ( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ )؟ ما تفسير هذا؟ قال : قال الله : إنك لا تملك أن تدخلهم جنة ولا نارا.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : ( لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ ) الآية ، قال : قال : يدخل في كل باب أهل مذهب ، وللجنة ثمانية أبواب.

وفي الدر المنثور ، أخرج أحمد في الزهد عن خطاب بن عبد الله قال : قال علي : أتدرون كيف أبواب جهنم قلنا كنحو هذه الأبواب. قال : لا ، ولكنها هكذا

١٧٥

ووضع يده فوق يده وبسط يده على يده.

وفيه ، أخرج ابن المبارك وهناد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأحمد في الزهد وابن أبي الدنيا في صفة النار وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث من طرق عن علي قال : أبواب جهنم سبعة بعضها فوق بعض ـ فيملأ الأول ثم الثاني ثم الثالث حتى يملأ كلها.

وفيه ، أخرج ابن مردويه والخطيب في تاريخه عن أنس قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : في قوله تعالى : ( لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ) قال : جزء أشركوا بالله ، وجزء شكوا في الله ، وجزء غفلوا عن الله.

أقول : هو تعداد أجزاء الأبواب دون نفسها ، والظاهر أن الكلام غير مسوق للحصر.

وفيه ، أخرج ابن مردويه عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لجهنم باب لا يدخل منه إلا من أخفرني في أهل بيتي ـ وأراق دماءهم من بعدي.

أقول : يقال : خفره أي غدر به ونقض عهده.

وفيه ، أخرج أحمد وابن حبان والطبري وابن مردويه والبيهقي في البعث عن عتبة بن عبد الله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : للجنة ثمانية أبواب وللنار سبعة أبواب ـ وبعضها أفضل من بعض.

أقول : والروايات ـ كما ترى ـ تؤيد من قدمناه.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : ( وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ ) الآية ، قال : قال العداوة.

وفي تفسير البرهان ، عن الحافظ أبي نعيم عن رجاله عن أبي هريرة قال : قال علي بن أبي طالب : يا رسول الله أيما أنا أحب إليك أم فاطمة ـ قال : فاطمة أحب إلي منك وأنت أعز علي منها ، وكأني بك وأنت على حوضي تذود عنه الناس ، وإن عليه أباريق عدد نجوم السماء ، وأنت والحسن والحسين وحمزة وجعفر في الجنة ـ إخوانا على سرر متقابلين وأنت معي وشيعتك. ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ( إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ ) لا ينظر أحدكم في قفاء صاحبه.

١٧٦

وفيه ، عن ابن المغازلي في المناقب يرفعه إلى زيد بن أرقم قال : دخلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إني مواخ بينكم كما آخى الله بين الملائكة ، ثم قال لعلي : أنت أخي ثم تلا هذه الآية : ( إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ ) الأخلاء في الله ينظر بعضهم إلى بعض :

أقول : ورواه أيضا عن أحمد في مسنده مرفوعا إلى زيد بن أوفى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والرواية مبسوطة.

وفي الروايتين تفسير قوله تعالى : ( عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ ) بقوله : لا ينظر أحدهم في قفاء صاحبه ، وقوله : الأخلاء في الله ينظر بعضهم إلى بعض وفيه إشارة إلى أن التقابل في الآية كناية عن عدم تتبع أحدهم عورات إخوانه وزلاتهم كما يفعل ذلك من في صدره غل وهو معنى لطيف.

وما قرأه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من الآية إنما هو من باب الجري والانطباق لا أن الآية نازلة في أهل البيت عليه‌السلام فسياق الآيات لا يلائمه البتة.

ونظيرها ما روي عن علي عليه‌السلام : أن الآية نزلت فينا أهل بدر ، وفي رواية أخرى عنه عليه‌السلام : أنها نزلت في أبي بكر وعمر ، وفي رواية أخرى عن علي بن الحسين عليه‌السلام : أنها نزلت في أبي بكر وعمر وعلي ، وفي رواية أخرى : أنها نزلت في علي والزبير وطلحة ، وفي رواية أخرى : أنها نزلت في علي وعثمان وطلحة والزبير ، وفي رواية أخرى عن ابن عباس : أنها نزلت في عشرة : أبي بكر وعمر وعثمان ـ وعلي وطلحة والزبير وسعد وسعيد ـ وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود.

والروايات ـ على ما بها من الاختلاف ـ تطبيقات من الرواة ، والآية تأبى بسياقها عن أن تكون نازلة في بعض المذكورين كيف؟ وهي في جملة آيات تقص ما قضاه الله وحكم به يوم خلق آدم وأمر الملائكة وإبليس بالسجود له فأبى إبليس فرجمه ثم قضى ما قضى ، ولا تعلق لذلك بأشخاص بخصوصيتهم هذا.

( نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ

( ١٢ ـ الميزان ـ ١٢ )

١٧٧

الْأَلِيمُ (٥٠) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (٥٦) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (٦٠) فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٦٤) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ (٦٩) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (٧٠) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٧١) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤) إِنَّ

١٧٨

فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (٧٩) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٨١) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٤) ).

( بيان )

بعد ما تكلم سبحانه حول استهزائهم بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وما أنزل إليه من الكتاب واقتراحهم عليه أن يأتيهم بالملائكة وهم ليسوا بمؤمنين وإن سمح لهم بأوضح الآيات أتى سبحانه في هذه الآيات ببيان جامع في التبشير والإنذار وهو ما في قوله : ( نَبِّئْ عِبادِي ) إلى آخر الآيتين ثم أوضحه وأيده بقصة جامعة للجهتين متضمنة للأمرين معا وهي قصة ضيف إبراهيم وفيها بشرى إبراهيم بما لا مطمع فيه عادة وعذاب قوم لوط بأشد أنواع العذاب.

ثم أيده تعالى بإشارة إجمالية إلى تعذيب أصحاب الأيكة وهم قوم شعيب وأصحاب الحجر وهم ثمود قوم صالح عليه‌السلام.

قوله تعالى : ( نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ ) المراد بقوله : ( عِبادِي ) على ما يفيده سياق الآيات مطلق العباد ولا يعبأ بما ذكره بعضهم : أن المراد بهم المتقون السابق ذكرهم أو المخلصون.

وتأكيد الجملتين بالاسمية وإن وضمير الفصل واللام في الخبر يدل على أن الصفات المذكورة فيها أعني المغفرة والرحمة وألم العذاب بالغة في معناها النهاية بحيث لا تقدر بقدر ولا يقاس بها غيرها ، فما من مغفرة أو رحمة إلا ويمكن أن يفرض لها مانع يمنع

١٧٩

من إرسالها أو مقدر يقدرها ويحدها ، لكنه سبحانه يحكم لا معقب لحكمه ولا مانع يقاومه فلا يمنع عن إنجاز مغفرته ورحمته شيء ولا يحدهما أمر إلا أن يشاء ذلك هو جل وعز ، فليس لأحد أن ييأس من مغفرته أو يقنط من روحه ورحمته استنادا إلى مانع يمنع أو رادع يردع إلا أن يخافه تعالى نفسه كما قال : ( لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ ) الزمر : ٥٤.

وليس لأحد أن يحقر عذابه أو يؤمل عجزه أو يأمن مكره والله غالب على أمره ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.

قوله تعالى : ( وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ ) الضيف معروف ويطلق على المفرد والجمع وربما يجمع على أضياف وضيوف وضيفان لكن الأفصح ـ كما قيل ـ أن لا يثنى ولا يجمع لكونه مصدرا في الأصل.

والمراد بالضيف الملائكة المكرمون الذين أرسلوا لبشارة إبراهيم بالولد ولهلاك قوم لوط سماهم ضيفا لأنهم دخلوا عليه في صورة الضيف.

قوله تعالى : ( إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ) ضمير الجمع في ( دَخَلُوا ) و ( فَقالُوا ) في الموضعين للملائكة فقولهم : ( سَلاماً ) تحية وتقديره نسلم عليك سلاما وقول إبراهيم عليه‌السلام : ( إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ ) أي خائفون والوجل : الخوف.

وإنما قال لهم إبراهيم ذلك بعد ما استقر بهم المجلس وقدم إليهم عجلا حنيذا فلم يأكلوا منه فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة كما في سورة هود فالقصة مذكورة على نحو التلخيص.

وقولهم : ( لا تَوْجَلْ ) تسكين لوجله وتأمين له وتطييب لنفسه بأنهم رسل ربه وقد دخلوا عليه ليبشروه بغلام عليم أي بولد يكون غلاما وعليما ، ولعل المراد كونه عليما بتعليم الله ووحيه فيقرب من قوله في موضع آخر : ( وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا ) الصافات : ١١٢.

قوله تعالى : ( قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ) تلقى إبراهيم عليه‌السلام البشرى وهو شيخ كبير هرم لا عقب له من زوجه وقد أيئسته العادة الجارية

١٨٠