الميزان في تفسير القرآن - ج ١٢

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ١٢

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨١

وقد اجتمع المعنيان في قوله تعالى : ( وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ ) الأنعام : ٩ يقول تعالى : لو أنزلنا عليه الملائكة آية خارقة للعادة مصدقة للنبوة كان لازمه القضاء عليهم وهلاكهم ولو قلدنا الملك النبوة والرسالة كان لازمه أن نصوره في صورة رجل من الإنسان ، وأن نوقفه موقفا يحتمل اللبس فإن الرسالة إحدى وسائل الامتحان والابتلاء الإلهي ولا امتحان إلا بما يحتمل السعادة والشقاء والفوز والخيبة ويجوز معه النجاة والهلاك ولو توصل إلى الرسالة بما يضطر العقول إلى الإيمان ويلجئ النفوس إلى القبول واليقين لبطل ذلك كله.

قوله تعالى : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) صدر الآية مسوق سوق الحصر ، وظاهر السياق أن الحصر ناظر إلى ما ذكر من ردهم القرآن بأنه من أهذار الجنون وأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله مجنون لا عبرة بما صنع ولا حجر ومن اقتراحهم أن يأتيهم بالملائكة ليصدقوه في دعوته وأن القرآن كتاب سماوي حق.

والمعنى ـ على هذا والله أعلم ـ أن هذا الذكر لم تأت به أنت من عندك حتى يعجزوك ويبطلوه بعنادهم وشدة بطشهم وتتكلف لحفظه ثم لا تقدر ، وليس نازلا من عند الملائكة حتى يفتقر إلى نزولهم وتصديقهم إياه بل نحن أنزلنا هذا الذكر إنزالا تدريجيا وإنا له لحافظون بما له من صفة الذكر بما لنا من العناية الكاملة به.

فهو ذكر حي خالد مصون من أن يموت وينسى من أصله ، مصون من الزيادة عليه بما يبطل به كونه ذكرا مصون من النقص كذلك ، مصون من التغيير في صورته وسياقه بحيث يتغير به صفة كونه ذكرا لله مبينا لحقائق معارفه.

فالآية تدل على كون كتاب الله محفوظا من التحريف بجميع أقسامه من جهة كونه ذكرا لله سبحانه فهو ذكر حي خالد.

ونظير الآية في الدلالة على كون الكتاب العزيز محفوظا بحفظ الله مصونا من التحريف والتصرف بأي وجه كان من جهة كونه ذكرا له سبحانه قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ

١٠١

خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) : حم السجدة : ٤٢.

وقد ظهر بما تقدم أن اللام في الذكر للعهد الذكري وأن المراد بالوصف لحافظون هو الاستقبال كما هو الظاهر من اسم الفاعل فيندفع به ما ربما يورد على الآية أنها لو دلت على نفي التحريف من القرآن لأنه ذكر لدلت على نفيه من التوراة والإنجيل أيضا لأن كلا منهما ذكر مع أن كلامه تعالى صريح في وقوع التحريف فيهما.

وذلك أن الآية بقرينة السياق إنما تدل على حفظ الذكر الذي هو القرآن بعد إنزاله إلى الأبد ، ولا دلالة فيها على علية الذكر للحفظ الإلهي ودوران الحكم مداره.

وسنستوفي البحث عما يرجع إلى هذا الشأن إن شاء الله تعالى.

( بحث روائي )

في تفسير القمي ، بإسناده عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عمر بن أذينة عن رفاعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إذا كان يوم القيامة نادى مناد من عند الله : لا يدخل الجنة إلا مسلم ـ فيومئذ يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين. ثم قال : « ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل » أي شغلهم « فسوف يعلمون ».

أقول : وروى العياشي ، عن عبد الله بن عطاء المكي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه‌السلام : في تفسير الآية مثله.

وفي الدر المنثور ، أخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه بسند صحيح عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن ناسا من أمتي يعذبون بذنوبهم ـ فيكونون في النار ما شاء الله أن يكونوا ـ ثم يعيرهم أهل الشرك فيقولون : ما نرى ما كنتم فيه من تصديقكم نفعكم ـ فلا يبقى موحد إلا أخرجه الله تعالى من النار. ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ ).

أقول : وهذا المعنى مروي بطرق أخرى عن أبي موسى الأشعري وأبي سعيد الخدري وأنس بن مالك عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وفيه ، أخرج ابن أبي حاتم وابن شاهين في السنة عن علي بن أبي طالب قال :

١٠٢

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن أصحاب الكبائر من موحدي الأمم ـ كلها الذين ماتوا على كبائرهم ـ غير نادمين ولا تائبين من دخل منهم جهنم لا تزرق أعينهم ، ولا تسود وجوههم ، ولا يقرنون بالشياطين ولا يغلون بالسلاسل ، ولا يجرعون الحميم ، ولا يلبسون القطران ـ حرم الله أجسادهم على الخلود من أجل التوحيد ، وصورهم على النار من أجل السجود ـ.

فمنهم من تأخذه النار إلى قدميه ، ومنهم من تأخذه النار إلى عقبيه ، ومنهم من تأخذه النار إلى فخذيه ، ومنهم من تأخذه النار إلى حجزته ، ومنهم من تأخذه النار إلى عنقه ـ على قدر ذنوبهم وأعمالهم ، ومنهم من يمكث فيها شهرا ثم يخرج منها ، ومنهم من يمكث فيها سنة ثم يخرج منها ، وأطولهم فيها مكثا بقدر الدنيا منذ يوم خلقت إلى أن تفنى.

فإذا أراد الله أن يخرجهم منها ـ قالت اليهود والنصارى ومن في النار ـ من أهل الأديان والأوثان لمن في النار من أهل التوحيد : آمنتم بالله وكتبه ورسله فنحن وأنتم اليوم في النار سواء ـ فيغضب الله لهم غضبا لم يغضبه لشيء فيما مضى ـ فيخرجهم إلى عين بين الجنة والصراط ـ فينبتون فيها نبات الطراثيث في حميل السيل ـ ثم يدخلون الجنة مكتوب في جباههم : هؤلاء الجهنميون عتقاء الرحمن ـ فيمكثون في الجنة ما شاء الله أن يمكثوا ـ.

ثم يسألون الله تعالى أن يمحو ذلك الاسم عنهم ـ فيبعث الله ملكا فيمحوه ـ ثم يبعث الله ملائكة معهم مسامير من نار ـ فيطبقونها على من بقي فيها يسمرونها بتلك المسامير ـ فينساهم الله على عرشه ، ويشتغل عنهم أهل الجنة بنعيمهم ولذاتهم ، وذلك قوله : ( رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ ).

أقول : الطرثوث نبت وحميل السيل غثاؤه ، وقد روي من طرق الشيعة ما يقرب من الحديث مضمونا.

وفيه ، أخرج أحمد وابن مردويه عن أبي سعيد : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله غرس عودا بين يديه وآخر إلى جنبه وآخر بعده. قال : أتدرون ما هذا؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : فإن هذا الإنسان وهذا أجله وهذا أمله ـ فيتعاطى الأمل فيختلجه الأجل دون ذلك.

١٠٣

أقول : وروي ما يقرب من معناه بطرق عن أنس عنه (ص).

وفي المجمع ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال : إن أخوف ما أخاف عليكم اثنان : اتباع الهوى ، وطول الأمل ، فإن اتباع الهوى يصد عن الحق ، وطول الأمل ينسي الآخرة.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : ( ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ ـ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ ) قال : قال عليه‌السلام : لو أنزلنا بالملائكة لم ينظروا وهلكوا.

كلام في أن القرآن مصون عن التحريف في فصول :

الفصل ١

من ضروريات التاريخ أن النبي العربي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله جاء قبل أربعة عشر قرنا ـ تقريبا ـ وادعى النبوة وانتهض للدعوة وآمن به أمة من العرب وغيرهم ، وأنه جاء بكتاب يسميه القرآن وينسبه إلى ربه متضمن لجمل المعارف وكليات الشريعة التي كان يدعو إليها ، وكان يتحدى به ويعده آية لنبوته ، وأن القرآن الموجود اليوم بأيدينا هو القرآن الذي جاء به وقرأه على الناس المعاصرين له في الجملة بمعنى أنه لم يضع من أصله بأن يفقد كله ثم يوضع كتاب آخر يشابهه في نظمه أو لا يشابهه وينسب إليه ويشتهر بين الناس بأنه القرآن النازل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فهذه أمور لا يرتاب في شيء منها إلا مصاب في فهمه ولا احتمل بعض ذلك أحد من الباحثين في مسألة التحريف من المخالفين والمؤالفين.

وإنما احتمل بعض من قال به من المخالف أو المؤالف زيادة شيء يسير كالجملة أو الآية (١) أو النقص أو التغيير في جملة أو آية في كلماتها أو إعرابها ، وأما جل الكتاب الإلهي فهو على ما هو في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يضع ولم يفقد.

__________________

(١) كقول بعض من غير المنتحلين بالإسلام إن قوله تعالى : ( إنك ميت وإنهم ميتون ) من وضع أبي بكر وضعه حين سمع عمر وهو شاهر سيفه يهدد بالقتل من قال : إن النبي مات فقرأها على عمر فصرفه.

١٠٤

ثم إنا نجد القرآن يتحدى بأوصاف ترجع إلى عامة آياته ونجد ما بأيدينا من القرآن أعني ما بين الدفتين واجدا لما وصف به من أوصاف تحدى بها من غير أن يتغير في شيء منها أو يفوته ويفقد.

فنجده يتحدى بالبلاغة والفصاحة ونجد ما بأيدينا مشتملا على ذلك النظم العجيب البديع لا يعدله ولا يشابهه شيء من كلام البلغاء والفصحاء المحفوظ منهم والمروي عنهم من شعر أو نثر أو خطبة أو رسالة أو محاورة أو غير ذلك وهذا النظم موجود في جميع الآيات سواء كتابا متشابها مثاني تقشعر منه الجلود والقلوب.

ونجده يتحدى بقوله : ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ) النساء : ٨٢ بعدم وجود اختلاف فيه ونجد ما بأيدينا من القرآن يفي بذلك أحسن الوفاء وأوفاه فما من إبهام أو خلل يتراءى في آية إلا ويرفعه آية أخرى ، وما من خلاف أو مناقضة يتوهم بادئ الرأي من شطر إلا وهناك ما يدفعه ويفسره.

ونجده يتحدى بغير ذلك مما لا يختص فهمه بأهل اللغة العربية كما في قوله : ( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ) إسراء : ٨٨ وقوله : ( إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَما هُوَ بِالْهَزْلِ ) الطارق : ١٤ ثم نجد ما بأيدينا من القرآن يستوفي البيان في صريح الحق الذي لا مرية فيه ، ويهدي إلى آخر ما يهتدي إليه العقل من أصول المعارف الحقيقية وكليات الشرائع الفطرية وتفاصيل الفضائل الخلقية من غير أن نعثر فيها على شيء من النقيصة والخلل أو نحصل على شيء من التناقض والزلل بل نجد جميع المعارف على سعتها وكثرتها حية بحياة واحدة مدبرة بروح واحد هو مبدأ جميع المعارف القرآنية والأصل الذي إليه ينتهي الجميع ويرجع وهو التوحيد فإليه ينتهي الجميع بالتحليل وهو يعود إلى كل منها بالتركيب.

ونجده يغوص في أخبار الماضين من الأنبياء وأممهم ونجد ما عندنا من كلام الله يورد قصصهم ويفصل القول فيها على ما يليق بطهارة الدين ويناسب نزاهة ساحة النبوة وخلوصها للعبودية والطاعة وكلما طبقنا قصة من القصص القرآنية على ما يماثلها مما ورد في العهدين انجلى ذلك أحسن الانجلاء.

ونجده يورد آيات في الملاحم ويخبر عن الحوادث الآتية في آيات كثيرة بالتصريح

١٠٥

أو بالتلويح ثم نجدها فيما هو بأيدينا من القرآن على تلك الشريطة صادقة مصدقة.

ونجده يصف نفسه بأوصاف زاكية جميلة كما يصف نفسه بأنه نور وأنه هاد يهدي إلى صراط مستقيم وإلى الملة التي هي أقوم ونجد ما بأيدينا من القرآن لا يفقد شيئا من ذلك ولا يهمل من أمر الهداية والدلالة ولا دقيقة.

ومن أجمع الأوصاف التي يذكرها القرآن لنفسه أنه ذكر لله فإنه يذكر به تعالى بما أنه آية دالة عليه حية خالدة وبما أنه يصفه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا ، ويصف سنته في الصنع والإيجاد ، ويصف ملائكته وكتبه ورسله ، ويصف شرائعه وأحكامه ، ويصف ما ينتهي إليه أمر الخلقة وهو المعاد ورجوع الكل إليه سبحانه ، وتفاصيل ما يئول إليه أمر الناس من السعادة والشقاء ، والجنة والنار.

ففي جميع ذلك ذكر الله ، وهو الذي يرومه القرآن بإطلاق القول بأنه ذكر ونجد ما بأيدينا من القرآن لا يفقد شيئا من معنى الذكر.

ولكون الذكر من أجمع الصفات في الدلالة على شئون القرآن عبر عنه بالذكر في الآيات التي أخبر فيها عن حفظه القرآن عن البطلان والتغيير والتحريف كقوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) حم السجدة : ٤٢ فذكر تعالى أن القرآن من حيث هو ذكر لا يغلبه باطل ولا يدخل فيه حالا ولا في مستقبل الزمان لا بإبطال ولا بنسخ ولا بتغيير أو تحريف يوجب زوال ذكريته عنه.

وكقوله تعالى : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) الحجر : ٩ أطلق الذكر وأطلق الحفظ فالقرآن محفوظ بحفظ الله عن كل زيادة ونقيصة وتغيير في اللفظ أو في الترتيب يزيله عن الذكرية ويبطل كونه ذكرا لله سبحانه بوجه.

ومن سخيف القول إرجاع ضمير ( لَهُ ) إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنه مدفوع بالسياق وإنما كان المشركون يستهزءون بالنبي لأجل القرآن الذي كان يدعي نزوله عليه كما يشير إليه بقوله سابقا : ( وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ) وقد

١٠٦

مر تفسير الآية.

فقد تبين مما فصلناه أن القرآن الذي أنزله الله على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله ووصفه بأنه ذكر محفوظ على ما أنزل مصون بصيانة إلهية عن الزيادة والنقيصة والتغيير كما وعد الله نبيه فيه.

وخلاصة الحجة أن القرآن أنزله الله على نبيه ووصفه في آيات كثيرة بأوصاف خاصة لو كان تغير في شيء من هذه الأوصاف بزيادة أو نقيصة أو تغيير في لفظ أو ترتيب مؤثر فقد آثار تلك الصفة قطعا لكنا نجد القرآن الذي بأيدينا واجدا لآثار تلك الصفات المعدودة على أتم ما يمكن وأحسن ما يكون فلم يقع فيه تحريف يسلبه شيئا من صفاته فالذي بأيدينا منه هو القرآن المنزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعينه فلو فرض سقوط شيء منه أو تغير في إعراب أو حرف أو ترتيب وجب أن يكون في أمر لا يؤثر في شيء من أوصافه كالإعجاز وارتفاع الاختلاف والهداية والنورية والذكرية والهيمنة على سائر الكتب السماوية إلى غير ذلك ، وذلك كآية مكررة ساقطة أو اختلاف في نقطة أو إعراب ونحوها.

الفصل ٢

ويدل على عدم وقوع التحريف الأخبار الكثيرة المروية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من طرق الفريقين الآمرة بالرجوع إلى القرآن عند الفتن وفي حل عقد المشكلات.

وكذا حديث الثقلين المتواتر من طرق الفريقين : ( إني تارك فيكم الثقلين ـ كتاب الله وعترتي أهل بيتي ـ ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا ) الحديث فلا معنى للأمر بالتمسك بكتاب محرف ونفي الضلال أبدا ممن تمسك به.

وكذا الأخبار الكثيرة الواردة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأئمة أهل البيت عليه‌السلام الآمرة بعرض الأخبار على الكتاب ، وما ذكره بعضهم أن ذلك في الأخبار الفقهية ومن الجائز أن نلتزم بعدم وقوع التحريف في خصوص آيات الأحكام ولا ينفع ذلك سائر الآيات مدفوع بأن أخبار العرض مطلقة فتخصيصها بذلك تخصيص من غير مخصص.

على أن لسان أخبار العرض كالصريح أو هو صريح في أن الأمر بالعرض إنما هو

١٠٧

لتمييز الصدق من الكذب والحق من الباطل ومن المعلوم أن الدس والوضع غير مقصورين في أخبار الفقه بل الدواعي إلى الدس والوضع في المعارف الاعتقادية وقصص الأنبياء والأمم الماضين وأوصاف المبدإ والمعاد أكثر وأوفر ويؤيد ذلك ما بأيدينا من الإسرائيليات وما يحذو حذوها مما أمر الجعل فيها أوضح وأبين.

وكذا الأخبار التي تتضمن تمسك أئمة أهل البيت عليه‌السلام بمختلف الآيات القرآنية في كل باب على ما يوافق القرآن الموجود عندنا حتى في الموارد التي فيها آحاد من الروايات بالتحريف ، وهذا أحسن شاهد على أن المراد في كثير من روايات التحريف من قولهم عليه‌السلام كذا نزل هو التفسير بحسب التنزيل في مقابل البطن والتأويل.

وكذا الروايات الواردة عن أمير المؤمنين وسائر الأئمة من ذريته عليه‌السلام في أن ما بأيدي الناس قرآن نازل من عند الله سبحانه وإن كان غير ما ألفه علي عليه‌السلام من المصحف ولم يشركوه عليه‌السلام في التأليف في زمن أبي بكر ولا في زمن عثمان ومن هذا الباب قولهم عليه‌السلام لشيعتهم : « اقرءوا كما قرأ الناس ».

ومقتضى هذه الروايات أن لو كان القرآن الدائر بين الناس مخالفا لما ألفه علي عليه‌السلام في شيء فإنما يخالفه في ترتيب السور أو في ترتيب بعض الآيات التي لا يؤثر اختلال ترتيبها في مدلولها شيئا ولا في الأوصاف التي وصف الله سبحانه بها القرآن النازل من عنده ما يختل به آثارها.

فمجموع هذه الروايات على اختلاف أصنافها يدل دلالة قاطعة على أن الذي بأيدينا من القرآن هو القرآن النازل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من غير أن يفقد شيئا من أوصافه الكريمة وآثارها وبركاتها.

الفصل ٣

ذهب جماعة من محدثي الشيعة والحشوية وجماعة من محدثي أهل السنة إلى وقوع التحريف بمعنى النقص والتغيير في اللفظ أو الترتيب دون الزيادة فلم يذهب إليها أحد من المسلمين كما قيل.

واحتجوا على نفي الزيادة بالإجماع وعلى وقوع النقص والتغيير بوجوه كثيرة.

١٠٨

أحدها : الأخبار الكثيرة المروية من طرق الشيعة وأهل السنة الدالة على سقوط بعض السور والآيات وكذا الجمل وأجزاء الجمل والكلمات والحروف في الجمع الأول الذي ألف فيه القرآن في زمن أبي بكر وكذا في الجمع الثاني الذي كان في زمن عثمان وكذا التغيير وهذه روايات كثيرة روتها الشيعة في جوامعها المعتبرة وغيرها ، وقد ادعى بعضهم أنها تبلغ ألفي حديث ، وروتها أهل السنة في صحاحهم كصحيحي البخاري ومسلم وسنن أبي داود والسنائي وأحمد وسائر الجوامع وكتب التفاسير وغيرها وقد ذكر الآلوسي في تفسيره أنها فوق حد الإحصاء.

وهذا غير ما يخالف فيه مصحف عبد الله بن مسعود المصحف المعروف مما ينيف على ستين موضعا ، وما يخالف فيه مصحف أبي بن كعب المصحف العثماني وهو في بضع وثلاثين موضعا ، وما يختلف فيه المصاحف العثمانية التي اكتتبها وأرسلها إلى الآفاق وهي خمسة أو سبعة أرسلها إلى مكة وإلى الشام وإلى البصرة وإلى الكوفة وإلى اليمن وإلى البحرين وحبس واحدا بالمدينة والاختلاف الذي فيما بينها يبلغ خمسة وأربعين حرفا ، وقيل : بضع وخمسين حرفا. (١) وغير الاختلاف في الترتيب بين المصاحف العثمانية والجمع الأول في زمن أبي بكر فقد كانت سورة الأنفال في التأليف الأول في المثاني وسورة براءة في المئين وهما في الجمع الثاني موضوعتان في الطوال على ما ستجيء روايته.

وغير الاختلاف في ترتيب السور الموجود بين مصحفي عبد الله بن مسعود وأبي ابن كعب على ما وردت به الرواية وبين المصاحف العثمانية وغير الاختلافات القرائية الشاذة التي رويت عن الصحابة والتابعين فربما بلغ عدد المجموع الألف أو زاد عليه.

الوجه الثاني : أن العقل يحكم بأنه إذا كان القرآن متفرقا متشتتا منتشرا عند الناس وتصدى لجمعه غير المعصوم يمتنع عادة أن يكون جمعه كاملا موافقا للواقع.

الوجه الثالث : ما روته العامة والخاصة : أن عليا عليه‌السلام اعتزل الناس بعد رحلة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ولم يرتد إلا للصلاة حتى جمع القرآن ثم حمله إلى الناس ـ وأعلمهم أنه القرآن

__________________

(١) ذكره ابن طاووس في سعد السعود.

١٠٩

الذي أنزله الله على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وقد جمعه فردوه واستغنوا عنه بما جمعه لهم زيد بن ثابت ـ ولو لم يكن بعض ما فيه مخالفا لبعض ما في مصحف زيد ـ لم يكن لحملة إليهم وإعلامهم ودعوتهم إليه وجه ، وقد كان عليه‌السلام أعلم الناس بكتاب الله بعد نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وقد أرجع الناس إليه في حديث الثقلين المتواتر وقال في الحديث المتفق عليه : علي مع الحق والحق مع علي.

الوجه الرابع : ما ورد من الروايات أنه يقع في هذه الأمة ما وقع في بني إسرائيل حذو النعل بالنعل والقذة ، بالقذة وقد حرفت بنو إسرائيل كتاب نبيهم على ما يصرح به القرآن الكريم والروايات المأثورة ، فلا بد أن يقع نظيره في هذه الأمة فيحرفوا كتاب ربهم وهو القرآن الكريم.

ففي صحيح البخاري ، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع ـ حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموه ـ قلنا : يا رسول الله ـ بآبائنا وأمهاتنا اليهود والنصارى؟ قال : فمن؟

والرواية مستفيضة مروية في جوامع الحديث عن عدة من الصحابة كأبي سعيد الخدري ـ كما مر ـ وأبي هريرة وعبد الله بن عمر ، وابن عباس وحذيفة وعبد الله بن مسعود وسهل بن سعد وعمر بن عوف وعمرو بن العاص وشداد بن أوس والمستورد بن شداد في ألفاظ متقاربة.

وهي مروية مستفيضة من طرق الشيعة عن عدة من أئمة أهل البيت عليه‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كما في تفسير القمي ، عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : لتركبن سبيل من كان قبلكم حذو النعل بالنعل ـ والقذة بالقذة لا تخطئون طريقهم ـ ولا تخطئ شبر بشبر وذراع بذراع وباع بباع ـ حتى أن لو كان من قبلكم دخل جحر ضب لدخلتموه ـ قالوا : اليهود والنصارى تعني يا رسول الله؟ قال : فمن أعني؟ لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة ـ فيكون أول ما تنقضون من دينكم الأمانة وآخره الصلاة.

والجواب عن استدلالهم بإجماع الأمة على نفي تحريف القرآن بالزيادة بأنها حجة مدخولة لكونها دورية.

بيان ذلك : أن الإجماع ليس في نفسه حجة عقلية يقينية بل هو عند القائلين

١١٠

باعتباره حجة شرعية لو أفاد شيئا من الاعتقاد فإنما يفيد الظن سواء في ذلك محصله ومنقوله على خلاف ما يزعمه كثير منهم أن الإجماع المحصل مفيد للقطع وذلك أن الذي يفيده الإجماع من الاعتقاد لا يزيد على مجموع الاعتقادات التي تفيدها آحاد الأقوال والواحد من الأقوال المتوافقة لا يفيد إلا الظن بإصابة الواقع ، وانضمام القول الثاني الذي يوافقه إليه إنما يفيد قوة الظن دون القطع لأن القطع اعتقاد خاص بسيط مغاير للظن وليس بالمركب من عدة ظنون.

وهكذا كلما انضم قول إلى قول وتراكمت الأقوال المتوافقة زاد الظن قوة وتراكمت الظنون واقتربت من القطع من غير أن تنقلب إليه كما تقدم ، هذا في المحصل من الإجماع وهو الذي نحصله بتتبع جميع الأقوال والحصول على كل قول قول ، وأما المنقول منه الذي ينقله الواحد والاثنان من أهل العلم والبحث فالأمر فيه أوضح فهو كآحاد الروايات لا يفيد إلا الظن إن أفاد شيئا من الاعتقاد.

فالإجماع حجة ظنية شرعية دليل اعتبارها عند أهل السنة مثلا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( لا تجتمع أمتي على خطإ أو ضلال ) وعند الشيعة دخول قول المعصوم في أقوال المجمعين أو كشف أقوالهم عن قوله بوجه.

فحجية الإجماع بالجملة متوقفة على صحة النبوة وذلك ظاهر ، وصحة النبوة اليوم متوقفة على سلامة القرآن من التحريف المستوجب لزوال صفات القرآن الكريمة عنه كالهداية وفصل القول وخاصة الإعجاز فإنه لا دليل حيا خالدا على خصوص نبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله غير القرآن الكريم بكونه آية معجزة ، ومع احتمال التحريف بزيادة أو نقيصة أو أي تغيير آخر لا وثوق بشيء من آياته ومحتوياته أنه كلام الله محضا وبذلك تسقط الحجة وتفسد الآية ، ومع سقوط كتاب الله عن الحجية يسقط الإجماع عن الحجية.

ولا ينفع في المقام ما قدمناه في أول الكلام أن وجود القرآن المنزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما بأيدينا من القرآن في الجملة من ضروريات التاريخ.

وذلك لأن مجرد اشتمال ما بأيدينا منه على القرآن الواقعي لا يدفع احتمال زيادة أو نقيصة أو أي تغيير آخر في كل آية أو جملة أريد التمسك بها لإثبات مطلوب.

١١١

والجواب عن الوجه الأول الذي أقيم لوقوع التحريف بالنقص والتغيير وهو الذي تمسك فيه بالأخبار : أما أولا فبأن التمسك بالأخبار بما أنها حجة شرعية يشتمل من الدور على ما يشتمل عليه التمسك بالإجماع بنظير البيان الذي تقدم آنفا.

فلا يبقى للمستدل بها إلا أن يتمسك بها بما أنها أسناد ومصادر تاريخية وليس فيها حديث متواتر ولا محفوف بقرائن قطعية تضطر العقل إلى قبوله بل هي آحاد متفرقة متشتتة مختلفة منها صحاح ومنها ضعاف في أسنادها ومنها قاصرة في دلالتها فما أشذ منها ما هو صحيح في سنده تام في دلالته.

وهذا النوع على شذوذه وندرته غير مأمون فيه الوضع والدس فإن انسراب الإسرائيليات وما يلحق بها من الموضوعات والمدسوسات بين رواياتنا لا سبيل إلى إنكاره ولا حجية في خبر لا يؤمن فيه الدس والوضع.

ومع الغض عن ذلك فهي تذكر من الآيات والسور ما لا يشبه النظم القرآني بوجه ، ومع الغض عن جميع ذلك فإنها مخالفة للكتاب مردودة : أما ما ذكرنا أن أكثرها ضعيفة الأسناد فيعلم ذلك بالرجوع إلى أسانيدها فهي مراسيل أو مقطوعة الأسناد أو ضعيفتها ، والسالم منها من هذه العلل أقل قليل.

وأما ما ذكرنا أن منها ما هو قاصر في دلالتها فإن كثيرا مما وقع فيها من الآيات المحكية من قبيل التفسير وذكر معنى الآيات لا من حكاية متن الآية المحرفة وذلك كما

في روضة الكافي ، عن أبي الحسن الأول : في قول الله : ( أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ ـ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ) فقد سبقت عليهم كلمة الشقاء ـ وسبق لهم العذاب ( وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً ).

وما في الكافي ، عن الصادق عليه‌السلام : في قوله تعالى : ( وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا ) قال : « إن تلووا الأمر وتعرضوا عما أمرتم به فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً » إلى غير ذلك من روايات التفسير المعدودة ـ من أخبار التحريف.

ويلحق بهذا الباب ما لا يحصى من الروايات المشيرة إلى سبب النزول المعدودة من أخبار التحريف كالروايات التي تذكر هذه الآية هكذا : ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما

١١٢

أُنْزِلَ إِلَيْكَ ) في علي والآية نازلة في حقه عليه‌السلام ، وما روي : أن وفد بني تميم كانوا إذا قدموا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وقفوا على باب الحجرة ونادوه ـ أن اخرج إلينا فذكرت الآية فيها هكذا : ( إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ ) بنو تميم ( أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) فظن أن في الآية سقطا.

ويلحق بهذا الباب أيضا ما لا يحصى من الأخبار الواردة في جري القرآن وانطباقه كما ورد في قوله : ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا ) آل محمد حقهم وما ورد من قوله : ( وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ ) في ولاية علي والأئمة من بعده ( فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً ) وهي كثيرة جدا.

ويلحق بها أيضا ما أتبع فيه القراءة بشيء من الذكر والدعاء فتوهم أنه من سقط القرآن كما في الكافي ، عن عبد العزيز بن المهتدي قال : سألت الرضا عليه‌السلام عن التوحيد فقال : كل من قرأ ( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) وآمن بها فقد عرف التوحيد ، قال : [ قلت ] كيف نقرؤها؟ قال : كما يقرؤها الناس ـ وزاد فيه كذلك الله ربي كذلك الله ربي.

ومن قبيل قصور الدلالة ما نجد في كثير من الآيات المعدودة من المحرفة اختلاف الروايات في لفظ الآية كالتي وردت في قوله تعالى : ( وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ) ففي بعضها أن الآية هكذا : ( ولقد نصركم الله ببدر وأنتم ضعفاء ) وفي بعضها : « ولقد نصركم الله ببدر وأنتم قليل ».

وهذا الاختلاف ربما كان قرينة على أن المراد هو التفسير بالمعنى كما في الآية المذكورة ويؤيده ما ورد في بعضها من قوله عليه‌السلام : لا يجوز وصفهم بأنهم أذلة وفيهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وربما لم يكن إلا من التعارض والتنافي بين الروايات القاضي بسقوطها كآية الرجم على ما ورد في روايات الخاصة والعامة وهي في بعضها : « إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة فإنهما قضيا الشهوة. وفي بعضها : « الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة فإنهما قضيا الشهوة ، وفي بعضها « بما قضيا من اللذة » وفي بعضها آخرها : ( نكالا من الله والله عليم حكيم ) وفي بعضها : ( نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ).

وكآية الكرسي على التنزيل التي وردت فيها روايات فهي في بعضها هكذا :

١١٣

( اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ) وما بينهما وما تحت الثرى عالم الغيب والشهادة فلا يظهر على غيبه أحدا ( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ ـ إلى قوله ـ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) والحمد لله رب العالمين.

وفي بعضها ـ إلى قوله ـ ( هُمْ فِيها خالِدُونَ ) والحمد لله رب العالمين ، وفي بعضها هكذا : « لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وما بينهما وما تحت الثرى عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم » إلخ. وفي بعضها : « عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم بديع السماوات والأرض ذو الجلال والإكرام رب العرش العظيم » وفي بعضها : « عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم ».

وما ذكره بعض المحدثين أن اختلاف هذه الروايات في الآيات المنقولة غير ضائر لاتفاقها في أصل التحريف. مردود بأن ذلك لا يصلح ضعف الدلالة ودفع بعضها لبعض.

وأما ما ذكرنا من شيوع الدس والوضع في الروايات فلا يرتاب فيه من راجع الروايات المنقولة في الصنع والإيجاد وقصص الأنبياء والأمم والأخبار الواردة في تفاسير الآيات والحوادث الواقعة في صدر الإسلام وأعظم ما يهم أمره لأعداء الدين ولا يألون جهدا في إطفاء نوره وإخماد ناره وإعفاء أثره هو القرآن الكريم الذي هو الكهف المنيع والركن الشديد الذي يأوي إليه ويتحصن به المعارف الدينية والسند الحي الخالد لمنشور النبوة ومواد الدعوة لعلمهم بأنه لو بطلت حجة القرآن لفسد بذلك أمر النبوة واختل نظام الدين ولم يستقر من بنيته حجر على حجر.

والعجب من هؤلاء المحتجين بروايات منسوبة إلى الصحابة أو إلى أئمة أهل البيت عليه‌السلام على تحريف كتاب الله سبحانه وإبطال حجيته ، وببطلان حجة القرآن تذهب النبوة سدى والمعارف الدينية لغا لا أثر لها ، وما ذا يغني قولنا : إن رجلا في تاريخ كذا ادعى النبوة وأتى بالقرآن معجزة أما هو فقد مات وأما قرآنه فقد حرف ، ولم يبق بأيدينا مما يؤيد أمره إلا أن المؤمنين به أجمعوا على صدقه في دعواه وأن القرآن الذي جاء به كان معجزا دالا على نبوته ، والإجماع حجة لأن النبي المذكور اعتبر حجيته أو لأنه يكشف مثلا عن قول أئمة أهل بيته.

وبالجملة احتمال الدس ـ وهو قريب جدا مؤيد بالشواهد والقرائن ـ يدفع

١١٤

حجية هذه الروايات ويفسد اعتبارها فلا يبقى معه لها لا حجية شرعية ولا حجية عقلائية حتى ما كان منها صحيح الأسناد فإن صحة السند وعدالة رجال الطريق إنما يدفع تعمدهم الكذب دون دس غيرهم في أصولهم وجوامعهم ما لم يرووه.

وأما ما ذكرناه أن روايات التحريف تذكر آيات وسورا لا يشبه نظمها النظم القرآني بوجه فهو ظاهر لمن راجعها فإنه يعثر فيها بشيء كثير من ذلك كسورتي الخلع والحفد اللتين رويتا بعدة من طرق أهل السنة فسورة الخلع هي : بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ، ونثني عليك ولا نكفرك ، ونخلع ونترك من يفجرك ) وسورة الحفد هي : ( بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد ، نرجو رحمتك ونخشى نقمتك إن عذابك بالكافرين ملحق ).

وكذا ما أورده بعض الروايات من سورة الولاية وغيرها أقاويل مختلقة رام واضعها أن يقلد النظم القرآني فخرج الكلام عن الأسلوب العربي المألوف ولم يبلغ النظم الإلهي المعجز فعاد يستبشعه الطبع وينكره الذوق ولك أن تراجعها حتى تشاهد صدق ما ادعيناه وتقضي أن أكثر المعتنين بهذه السور والآيات المختلقة المجعولة إنما دعاهم إلى ذلك التعبد الشديد بالروايات والإهمال في عرضها على الكتاب ، ولو لا ذلك لكفتهم للحكم بأنها ليست بكلام إلهي نظرة.

وأما ما ذكرنا أن روايات التحريف على تقدير صحة أسنادها مخالفة للكتاب فليس المراد به مجرد مخالفتها لظاهر قوله تعالى : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) وقوله : ( وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ) الآيتان حتى تكون مخالفة ظنية لكون ظهور الألفاظ من الأدلة الظنية بل المراد مخالفتها للدلالة القطعية من مجموع القرآن الذي بأيدينا حسب ما قررناه في الحجة الأولى التي أقمناها لنفي التحريف.

كيف لا؟ والقرآن الذي بأيدينا متشابه الأجزاء في نظمه البديع المعجز كاف في رفع الاختلافات المتراءاة بين آياته وأبعاضه غير ناقص ولا قاصر في إعطاء معارفه الحقيقية وعلومه الإلهية الكلية والجزئية المرتبطة بعضها ببعض المترتبة فروعها على أصولها المنعطفة أطرافها على أوساطها إلى غير ذلك من خواص النظم القرآني الذي

١١٥

وصفه الله بها.

والجواب عن الوجه الثاني أن دعوى الامتناع العادي مجازفة بينة نعم يجوز العقل عدم موافقة التأليف في نفسه للواقع إلا أن تقوم قرائن تدل على ذلك وهي قائمة كما قدمنا ، وأما أن يحكم العقل بوجوب مخالفتها للواقع كما هو مقتضى الامتناع العادي فلا.

والجواب عن الوجه الثالث أن جمعه عليه‌السلام القرآن وحمله إليهم وعرضه عليهم لا يدل على مخالفة ما جمعه لما جمعوه في شيء من الحقائق الدينية الأصلية أو الفرعية إلا أن يكون في شيء من ترتيب السور أو الآيات من السور التي نزلت نجوما بحيث لا يرجع إلى مخالفة في بعض الحقائق الدينية.

ولو كان كذلك لعارضهم بالاحتجاج ودافع فيه ولم يقنع بمجرد إعراضهم عما جمعه واستغنائهم عنه كما روي عنه عليه‌السلام في موارد شتى ولم ينقل عنه عليه‌السلام فيما روي من احتجاجاته أنه قرأ في أمر ولايته ولا غيرها آية أو سورة تدل على ذلك ، وجبههم على إسقاطها أو تحريفها.

وهل كان ذلك حفظا لوحدة المسلمين وتحرزا عن شق العصا فإنما كان يتصور ذلك بعد استقرار الأمر واجتماع الناس على ما جمع لهم لا حين الجمع وقبل أن يقع في الأيدي ويسير في البلاد.

وليت شعري هل يسعنا أن ندعي أن ذاك الجم الغفير من الآيات التي يرون سقوطها وربما ادعوا أنها تبلغ الألوف كانت جميعا في الولاية أو كانت خفية مستورة عن عامة المسلمين لا يعرفها إلا النزر القليل منهم مع توفر دواعيهم وكثرة رغباتهم على أخذ القرآن كلما نزل وتعلمه وبلوغ اجتهاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في تبليغه وإرساله إلى الآفاق وتعليمه وبيانه ، وقد نص على ذلك القرآن قال تعالى : ( وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ ) الجمعة : ٢ وقال : ( لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) النحل : ٤٤ فكيف ضاع؟ وأين ذهب؟ ما يشير إليه بعض المراسيل أنه سقط في آية من أول سورة النساء بين قوله : ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى ) وقوله : ( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) أكثر من ثلث القرآن أي أكثر من ألفي آية ، وما ورد من طرق أهل السنة أن سورة

١١٦

براءة كانت مبسملة تعدل سورة البقرة ، وأن الأحزاب كانت أعظم من البقرة وقد سقطت منه مائتا آية إلى غير ذلك!

أو أن هذه الآيات ـ وقد دلت هذه الروايات على بلوغها في الكثرة ـ كانت منسوخة التلاوة كما ذكره جمع من المفسرين من أهل السنة حفظا لما ورد في بعض رواياتهم أن من القرآن ما أنساه الله ونسخ تلاوته.

فما معنى إنساء الآية ونسخ تلاوتها؟ أكان ذلك لنسخ العمل بها فما هي هذه الآيات المنسوخة الواقعة في القرآن كآية الصدقة وآية نكاح الزانية والزاني وآية العدة وغيرها؟ وهم مع ذلك يقسمون منسوخ التلاوة إلى منسوخ التلاوة والعمل معا ومنسوخ التلاوة دون العمل كآية الرجم.

أم كان ذلك لكونها غير واجدة لبعض صفات كلام الله حتى أبطلها الله بإمحاء ذكرها وإذهاب أثرها فلم يكن من الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ولا منزها من الاختلاف ، ولا قولا فصلا ولا هاديا إلى الحق وإلى طريق مستقيم ، ولا معجزا يتحدى به ولا ، ولا ، فما معنى الآيات الكثيرة التي تصف القرآن بأنه في لوح محفوظ ، وأنه كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وأنه قول فصل ، وأنه هدى ، وأنه نور ، وأنه فرقان بين الحق والباطل ، وأنه آية معجزة ، وأنه ، وأنه؟

فهل يسعنا أن نقول : إن هذه الآيات على كثرتها وإباء سياقها عن التقييد مقيدة بالبعض فبعض الكتاب فقط وهو غير المنسي ومنسوخ التلاوة لا يأتيه الباطل وقول فصل وهدى ونور وفرقان ومعجزة خالدة؟

وهل جعل الكلام منسوخ التلاوة ونسيا منسيا غير إبطاله وإماتته؟ وهل صيرورة القول النافع بحيث لا ينفع للأبد ولا يصلح شأنا مما فسد غير إلغائه وطرحه وإهماله؟ وكيف يجامع ذلك كون القرآن ذكرا؟

فالحق أن روايات التحريف المروية من طرق الفريقين وكذا الروايات المروية في نسخ تلاوة بعض الآيات القرآنية مخالفة للكتاب مخالفة قطعية.

والجواب عن الوجه الرابع : أن أصل الأخبار القاضية بمماثلة الحوادث الواقعة في

١١٧

هذه الأمة لما وقع في بني إسرائيل مما لا ريب فيه ، وهي متظافرة أو متواترة ، لكن هذه الروايات لا تدل على المماثلة من جميع الجهات ، وهو ظاهر بل الضرورة تدفعه.

فالمراد بالمماثلة هي المماثلة في الجملة من حيث النتائج والآثار ، وحينئذ فمن الجائز أن تكون مماثلة هذه الأمة لبني إسرائيل في مسألة تحريف الكتاب إنما هي في حدوث الاختلاف والتفرق بين الأمة بانشعابها إلى مذاهب شتى يكفر بعضهم بعضا وافتراقها إلى ثلاث وسبعين فرقة كما افترقت النصارى إلى اثنتين وسبعين واليهود إلى واحدة وسبعين وقد ورد هذا المعنى في كثير من هذه الروايات حتى ادعى بعضهم كونها متواترة.

ومن المعلوم أن الجميع مستندون فيما اختاروه إلى كتاب الله ، وليس ذلك إلا من جهة تحريف الكلم عن مواضعه ، وتفسير القرآن الكريم بالرأي ، والاعتماد على الأخبار الواردة في تفسير الآيات من غير العرض على الكتاب وتمييز الصحيح منها من السقيم.

وبالجملة أصل الروايات الدالة على المماثلة بين الأمتين لا يدل على شيء من التحريف الذي يدعونه نعم وقع في بعضها ذكر التحريف بالتغيير والإسقاط ، وهذه الطائفة على ما بها من السقم مخالفة للكتاب كما تقدم.

الفصل ٤

في تاريخ اليعقوبي : قال عمر بن الخطاب لأبي بكر : يا خليفة رسول الله إن حملة القرآن قد قتل أكثرهم يوم اليمامة فلو جمعت القرآن فإني أخاف عليه أن يذهب حملته ، فقال له أبو بكر : أفعل ما لم يفعله رسول الله؟ فلم يزل به عمر حتى جمعه وكتبه في صحف ، وكان مفرقا في الجريد وغيرها.

وأجلس خمسة وعشرين رجلا من قريش وخمسين رجلا من الأنصار فقال : اكتبوا القرآن واعرضوا على سعيد بن العاص فإنه رجل فصيح.

وروى بعضهم : أن علي بن أبي طالب عليه‌السلام كان جمعه لما قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وأتى به يحمله على جمل فقال : هذا القرآن قد جمعته. قال : وكان قد جزأه سبعة أجزاء ثم ذكر الأجزاء.

وفي تاريخ أبي الفداء : وقتل في قتال مسيلمة جماعة من القراء من المهاجرين

١١٨

والأنصار ، ولما رأى أبو بكر كثرة من قتل أمر بجمع القرآن من أفواه الرجال وجريد النخل والجلود ، وترك ذلك المكتوب عند حفصة بنت عمر زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، انتهى.

والأصل فيما ذكراه الروايات فقد أخرج البخاري في صحيحة عن زيد بن ثابت قال : أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده فقال أبو بكر إن عمر أتاني فقال : إن القتل قد استحر بقراء القرآن وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن ، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن ، فقلت لعمر : كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ قال عمر : هذا والله خير فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ورأيت الذي رأى عمر.

قال زيد : قال أبو بكر : إنك شاب عاقل لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فتتبع القرآن فاجمعه فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن ، قلت : كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ قال : هو والله خير.

فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر فتتبعت القرآن أجمعه من العسف واللخاف وصدور الرجال ، ووجدت آخر سورة التوبة مع خزيمة الأنصاري لم أجدها مع غيره : ( لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ ) حتى خاتمة براءة ، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله تعالى ثم عند عمر حياته ثم عند حفصة بنت عمر.

وعن ابن أبي داود من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال : قدم عمر فقال : من كان تلقى من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله شيئا من القرآن ـ فليأت به وكانوا يكتبون ذلك في الصحف والألواح والعسب ، وكان لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شهيدان.

وعنه أيضا من طريق هشام بن عروة عن أبيه ـ وفي الطريق انقطاع : ـ أن أبا بكر قال لعمر ولزيد : اقعدوا على باب المسجد ـ فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه.

وفي الإتقان عن ابن أشتة في المصاحف ، عن الليث بن سعد قال : أول من جمع القرآن أبو بكر وكتبه زيد ، وكان الناس يأتون زيد بن ثابت ـ فكان لا يكتب آية إلا

١١٩

بشاهدي عدل ، وإن آخر سورة براءة لم يوجد إلا مع أبي خزيمة بن ثابت ـ فقال : اكتبوها فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جعل شهادته بشهادة رجلين ـ فكتب وإن عمر أتى بآية الرجم فلم يكتبها لأنه كان وحده.

وعن ابن أبي داود في المصاحف ، من طريق محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال : أتاني الحارث بن خزيمة ـ بهاتين الآيتين من آخر سورة براءة فقال : أشهد أني سمعتهما من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ووعيتهما ، فقال عمر : وأنا أشهد لقد سمعتهما ثم قال : لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة ـ فانظروا آخر سورة من القرآن فألحقوها في آخرها.

وعنه أيضا من طريق أبي العالية عن أبي بن كعب : أنهم جمعوا القرآن فلما انتهوا إلى الآية التي في سورة براءة ( ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ ـ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ) ظنوا أن هذا آخر ما أنزل فقال أبي : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أقرأني بعد هذا آيتين ( لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ ) إلى آخر السورة.

وفي الإتقان ، عن الدير عاقولي في فوائده حدثنا إبراهيم بن يسار حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عبيد عن زيد بن ثابت قال : قال : قبض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يكن القرآن جمع في شيء.

وفي مستدرك الحاكم ، بإسناده عن زيد بن ثابت قال : كنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نؤلف القرآن من الرقاع ، الحديث.

أقول : ولعل المراد ضم بعض الآيات النازلة نجوما إلى بعض السور أو إلحاق بعض السور إلى بعضها مما يتماثل صنفا كالطوال والمئين والمفصلات ، فقد ورد لها ذكر في الأحاديث النبوية ، وإلا فتأليف القرآن وجمعه مصحفا واحدا إنما كان بعد ما قبض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بلا إشكال ، وعلى مثل هذا ينبغي أن يحمل ما يأتي.

في صحيح النسائي ، عن ابن عمر قال : جمعت القرآن فقرأت به كل ليلة ـ فبلغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : اقرأه في شهر.

وفي الإتقان ، عن ابن أبي داود بسند حسن عن محمد بن كعب القرظي قال : جمع القرآن على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خمسة من الأنصار : معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت

١٢٠