الميزان في تفسير القرآن - ج ١٢

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ١٢

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨١

وأبي بن كعب ـ وأبو الدرداء وأبو أيوب الأنصاري.

وفيه ، عن البيهقي في المدخل عن ابن سيرين قال : جمع القرآن على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أربعة لا يختلف فيهم ـ معاذ بن جبل وأبي بن كعب وأبو زيد ـ واختلفوا في رجلين من ثلاثة : أبي الدرداء وعثمان ) وقيل : عثمان وتميم الداري.

وفيه ، عنه وعن ابن أبي داود عن الشعبي قال : جمع القرآن في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله سبعة : أبي وزيد ومعاذ وأبو الدرداء ـ وسعيد بن عبيد وأبو زيد ومجمع بن حارثة ، وقد أخذه إلا سورتين أو ثلاث.

وفيه ، أيضا عن ابن أشتة في كتاب المصاحف من طريق كهمس عن ابن بريدة قال : أول من جمع القرآن في مصحف سالم مولى أبي حذيفة ـ أقسم لا يرتدي برداء حتى يجمعه فجمعه. الحديث.

أقول : أقصى ما تدل عليه هذه الروايات مجرد جمعهم ما نزلت من السور والآيات ، وأما العناية بترتيب السور والآيات كما هو اليوم أو بترتيب آخر فلا. هذا هو الجمع الأول في عهد أبي بكر.

الفصل ٥

وقد جمع القرآن ثانيا في عهد عثمان لما اختلفت المصاحف وكثرت القراءات.

قال اليعقوبي في تاريخه : وجمع عثمان القرآن وألفه وصير الطوال مع الطوال والقصار مع القصار من السور ، وكتب في جمع المصاحف من الآفاق حتى جمعت ثم سلقها بالماء الحار والخل ، وقيل : أحرقها فلم يبق مصحف حتى فعل به ذلك خلا مصحف ابن مسعود.

وكان ابن مسعود بالكوفة فامتنع أن يدفع مصحفه إلى عبد الله بن عامر وكتب [ إليه ] عثمان أن أشخصه إن لم يكن هذا الدين خبالا وهذه الأمة فسادا فدخل المسجد وعثمان يخطب فقال عثمان : إنه قد قدمت عليكم دابة سوء فكلم ابن مسعود بكلام غليظ فأمر به عثمان فجر برجله حتى كسر له ضلعان فتكلمت عائشة وقالت قولا كثيرا.

١٢١

وبعث بها إلى الأمصار وبعث بمصحف إلى الكوفة ومصحف إلى البصرة ومصحف إلى المدينة ومصحف إلى مكة ومصحف إلى مصر ومصحف إلى الشام ومصحف إلى البحرين ومصحف إلى اليمن ومصحف إلى الجزيرة.

وأمر الناس أن يقرءوا على نسخة واحدة ، وكان سبب ذلك أنه بلغه أن الناس يقولون : قرآن آل فلان فأراد أن يكون نسخته واحدة ، وقيل : إن ابن مسعود كان كتب بذلك إليه فلما بلغه أنه كان يحرق المصاحف قال : لم أرد هذا ، وقيل : كتب إليه بذلك حذيفة بن اليمان. انتهى موضع الحاجة.

وفي الإتقان ، روى البخاري عن أنس : أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان ـ وكان يغازي أهل الشام ـ في فتح أرمينية وآذربيجان مع أهل العراق ـ فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال لعثمان : أدرك الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى ـ فأرسل إلى حفصة أن أرسلي إلينا الصحف ـ ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك ـ فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت ـ وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام ـ فنسخوها في المصاحف ـ.

وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة : إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن ـ فاكتبوه بلسان قريش فإنه إنما نزل بلسانهم ـ ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ـ رد عثمان الصحف إلى حفصة ـ وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا ـ وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق ـ.

قال زيد : آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف ـ قد كنت أسمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقرأ بها ـ فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري : ( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ ) فألحقناها في سورتها في المصحف.

وفيه ، أخرج ابن أشتة من طريق أيوب عن أبي قلابة قال : حدثني رجل من بني عامر يقال له : أنس بن مالك قال : اختلفوا في القرآن على عهد عثمان ـ حتى اقتتل الغلمان والمعلمون ـ فبلغ ذلك عثمان بن عفان فقال : عندي تكذبون به وتلحنون فيه ـ فمن نأى عني كان أشد تكذيبا وأكثر لحنا ـ يا أصحاب محمد اجتمعوا واكتبوا للناس إماما ـ.

فاجتمعوا فكانوا إذا اختلفوا وتدارءوا في آية قالوا : هذه أقرأها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

١٢٢

فلانا ـ فيرسل إليه وهو على رأس ثلاث من المدينة فيقال له : كيف أقرأك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله آية كذا وكذا؟ فيقول كذا وكذا ـ فيكتبونها وقد تركوا لذلك مكانا.

وفيه ، عن ابن أبي داود من طريق ابن سيرين عن كثير بن أفلح قال : لما أراد عثمان أن يكتب المصاحف ـ جمع له اثني عشر رجلا من قريش والأنصار ـ فبعثوا إلى الربعة التي في بيت عمر فجيء بها ـ وكان عثمان يتعاهدهم ـ فكانوا إذا تدارءوا في شيء أخروه ـ.

قال محمد : فظننت أنما كانوا يؤخرونه ـ لينظروا أحدثهم عهدا بالعرضة الأخيرة فيكتبونه على قوله.

وفيه ، أخرج ابن أبي داود بسند صحيح عن سويد بن غفلة قال : قال علي : لا تقولوا في عثمان إلا خيرا ـ فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملإ منا ـ قال ما تقولون في هذه القراء؟ فقد بلغني أن بعضهم يقول : إن قراءتي خير من قراءتك وهذا يكاد يكون كفرا قلنا : فما ترى؟ [ قال : أرى ] أن يجمع الناس على مصحف واحد ـ فلا يكون فرقة ولا اختلاف. قلنا : فنعم ما رأيت.

وفي الدر المنثور ، أخرج ابن الضريس عن علباء بن أحمر أن عثمان بن عفان : لما أراد أن يكتب المصاحب ـ أرادوا أن يلقوا الواو التي في براءة : ( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ) قال أبي : لتلحقنها أو لأضعن سيفي على عاتقي فألحقوها.

وفي الإتقان ، عن أحمد وأبي داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم عن ابن عباس قال : قلت لعثمان : ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني ـ وإلى براءة وهي من المئين فقربتم بينهما ـ ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ـ ووضعتموهما في السبع الطوال ـ.

فقال عثمان : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تنزل عليه السورة ذات العدد ـ فكان إذا أنزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب ، فيقول : ضعوا هؤلاء الآيات في السورة ـ التي يذكر فيها كذا وكذا ، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة ، وكانت براءة من آخر القرآن نزولا ـ وكانت قصتها شبيهة بقصتها فظننت أنها منها ـ فقبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يبين لنا أنها منها ـ.

فمن أجل ذلك قرنت بينهما ، ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ـ

١٢٣

ووضعتها في السبع الطوال.

أقول : السبع الطوال ـ على ما يظهر من هذه الرواية وروي أيضا عن أبي جبير ـ هي البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف ويونس ، وقد كانت موضوعة في الجمع الأول على هذا الترتيب ثم غير عثمان هذا الترتيب فأخذ الأنفال وهي من المثاني وبراءة وهي من المئين قبل المثاني فوضعهما بين الأعراف ويونس مقدما الأنفال على براءة.

الفصل ٦

الروايات الموضوعة في الفصلين السابقين هي أشهر الروايات الواردة في باب جمع القرآن وتأليفه بين صحيحة وسقيمة ، وهي تدل على أن الجمع الأول كان جمعا لشتات السور المكتوبة في العسب واللخاف والأكتاف والجلود والرقاع وإلحاق الآيات النازلة متفرقة إلى سور تناسبها.

وإن الجمع الثاني وهو الجمع العثماني كان رد المصاحف المنتشرة عن الجمع الأول بعد عروض تعارض النسخ واختلاف القراءات عليها إلى مصحف واحد مجمع عليه عدا ما كان من قول زيد إنه ألحق قوله : ( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ ) الآية ، في سورة الأحزاب في المصحف فقد كانت المصاحف تتلى خمس عشرة سنة وليست فيها الآية.

وقد روى البخاري عن ابن الزبير قال : قلت لعثمان ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً ) قد نسختها الآية الأخرى فلم تكتبها أو تدعها؟ قال : يا ابن أخي لا أغير شيئا منه من مكانه.

والذي يعطيه النظر الحر في أمر هذه الروايات ودلالتها ـ وهي عمدة ما في هذا الباب ـ أنها آحاد غير متواترة لكنها محفوفة بقرائن قطعية فقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يبلغ الناس ما نزل إليه من ربه من غير أن يكتم منه شيئا ، وكان يعلمهم ويبين لهم ما نزل إليهم من ربهم على ما نص عليه القرآن ، ولم يزل جماعة منهم يعلمون ويتعلمون القرآن تعلم تلاوة وبيان وهم القراء الذين قتل جم غفير منهم في غزوة اليمامة.

١٢٤

وكان الناس على رغبة شديدة في أخذ القرآن وتعاطيه ولم يترك هذا الشأن ولا ارتفع القرآن من بينهم ولا يوما أو بعض يوم حتى جمع القرآن في مصحف واحد ثم أجمع عليه فلم يبتل القرآن بما ابتليت به التوراة والإنجيل وكتب سائر الأنبياء.

أضف إلى ذلك روايات لا تحصى كثرة وردت من طرق الشيعة وأهل السنة في قراءاته صلى‌الله‌عليه‌وآله كثيرا من السور القرآنية في الفرائض اليومية وغيرها بمسمع من ملإ الناس ، وقد سمي في هذه الروايات جم غفير من السور القرآنية مكيتها ومدنيتها.

أضف إلى ذلك ما تقدم في رواية عثمان بن أبي العاص : في تفسير قوله تعالى : ( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ ) الآية النحل : ٩٠ من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله إن جبريل أتاني بهذه الآية ـ وأمرني أن أضعها في موضعها من السورة ، ونظير الرواية في الدلالة ما دل على قراءته صلى‌الله‌عليه‌وآله لبعض السور النازلة نجوما كآل عمران والنساء وغيرها فيدل على أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يأمر كتاب الوحي بإلحاق بعض الآيات في موضعها.

وأعظم الشواهد القاطعة ما تقدم في أول هذه الأبحاث أن القرآن الموجود بأيدينا واجد لما وصفه الله تعالى من الأوصاف الكريمة.

وبالجملة الذي تدل عليه هذه الروايات هي : أولا : أن الموجود فيما بين الدفتين من القرآن هو كلام الله تعالى فلم يزد فيه شيء ولم يتغير منه شيء وأما النقص فإنها لا تفي بنفيه نفيا قطعيا كما روي بعدة طرق أن عمر كان يذكر كثيرا آية الرجم ولم تكتب عنه وأما حملهم الرواية وسائر ما ورد في التحريف ـ وقد ذكر الآلوسي في تفسيره أنها فوق حد الإحصاء ـ على منسوخ التلاوة فقد عرفت فساده وتحققت أن إثبات منسوخ التلاوة أشنع من إثبات أصل التحريف.

على أن من كان له مصحف غير ما جمعه زيد أولا بأمر من أبي بكر وثانيا بأمر من عثمان كعلي عليه‌السلام وأبي بن كعب وعبد الله بن مسعود لم ينكر شيئا مما حواه المصحف الدائر غير ما نقل عن ابن مسعود أنه لم يكتب في مصحفه المعوذتين وكان يقول : إنهما عوذتان نزل بهما جبرئيل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليعوذ بهما الحسنين عليه‌السلام ، وقد رده سائر الصحابة وتواترت النصوص من أئمة أهل البيت عليه‌السلام على أنهما سورتان من القرآن.

١٢٥

وبالجملة الروايات السابقة ـ كما ترى ـ آحاد محفوفة بالقرائن القطعية نافية للتحريف بالزيادة والتغيير قطعا دون النقص إلا ظنا ، ودعوى بعضهم التواتر من حيث الجهات الثلاث لا مستند لها.

والتعويل في ذلك على ما قدمناه من الحجة في أول هذه الأبحاث أن القرآن الذي بأيدينا واجد للصفات الكريمة التي وصف الله سبحانه بها القرآن الواقعي الذي أنزله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ككونه قولا فصلا ورافعا للاختلاف وذكرا وهاديا ونورا ومبينا للمعارف الحقيقية والشرائع الفطرية وآية معجزة إلى غير ذلك من صفاته الكريمة.

ومن الحري أن نعول على هذا الوجه فإن حجة القرآن على كونه كلام الله المنزل على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله هي نفسه المتصفة بهاتيك الصفات الكريمة من غير أن يتوقف في ذلك على أمر آخر وراء نفسه كائنا ما كان فحجته معه أينما تحقق وبيد من كان ومن أي طريق وصل.

وبعبارة أخرى لا يتوقف القرآن النازل من عند الله إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في كونه متصفا بصفاته الكريمة على ثبوت استناده إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله بنقل متواتر أو متظافر ـ وإن كان واجدا لذلك ـ بل الأمر بالعكس فاتصافه بصفاته الكريمة هو الحجة على الاستناد فليس كالكتب والرسائل المنسوبة إلى المصنفين والكتاب ، والأقاويل المأثورة عن العلماء وأصحاب الأنظار المتوقفة صحة استنادها إلى نقل قطعي وبلوغ متواتر أو مستفيض مثلا بل نفس ذاته هي الحجة على ثبوته.

وثانيا : أن ترتيب السور إنما هو من الصحابة في الجمع الأول والثاني ومن الدليل عليه ما تقدم في الروايات من وضع عثمان الأنفال وبراءة بين الأعراف ويونس وقد كانتا في الجمع الأول متأخرتين.

ومن الدليل عليه ما ورد من مغايرة ترتيب مصاحف سائر الصحابة للجمع الأول والثاني كليهما كما روي أن مصحف علي عليه‌السلام كان مرتبا على ترتيب النزول فكان أوله اقرأ ثم المدثر ثم نون ثم المزمل ثم تبت ثم التكوير وهكذا إلى آخر المكي والمدني نقله في الإتقان عن ابن فارس ، وفي تاريخ اليعقوبي ترتيب آخر لمصحفه عليه‌السلام.

١٢٦

ونقل عن ابن أشتة في المصاحف بإسناده عن أبي جعفر الكوفي ترتيب مصحف أبي وهو يغاير المصحف الدائر مغايرة شديدة ، وكذا عنه فيه بإسناده عن جرير بن عبد الحميد ترتيب مصحف عبد الله بن مسعود آخذا من الطوال ثم المئين ثم المثاني ثم المفصل وهو أيضا مغاير للمصحف الدائر.

وقد ذهب كثير منهم إلى أن ترتيب السور توقيفي وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الذي أمر بهذا الترتيب بإشارة من جبريل بأمر من الله سبحانه حتى أفرط بعضهم فادعى ثبوت ذلك بالتواتر وليت شعري أين هذا التواتر وقد تقدمت عمدة روايات الباب ولا أثر فيها من هذا المعنى ، وسيأتي استدلال بعضهم على ذلك بما ورد من نزول القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا جملة ثم منها على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تدريجا.

وثالثا : أن وقوع بعض الآيات القرآنية التي نزلت متفرقة موقعها الذي هي فيه الآن لم يخل عن مداخلة من الصحابة بالاجتهاد كما هو ظاهر روايات الجمع الأول وقد تقدمت.

وأما رواية عثمان بن أبي العاص عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من السورة ( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ ) الآية فلا تدل على أزيد من فعله صلى‌الله‌عليه‌وآله في بعض الآيات في الجملة لا بالجملة ، وعلى تقدير التسليم لا دلالة لما بأيدينا من الروايات المتقدمة على مطابقة ترتيب الصحابة ترتيبه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومجرد حسن الظن بهم لا يسمح للروايات بدلالة تدل بها على ذلك وإنما يفيد أنهم ما كانوا ليعمدوا إلى مخالفة ترتيبه صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما علموه لا فيما جهلوه. وفي روايات الجمع الأول المتقدمة أوضح الشواهد على أنهم ما كانوا على علم بمواضع جميع الآيات ولا بنفسها.

ويدل على ذلك الروايات المستفيضة التي وردت من طرق الشيعة وأهل السنة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين إنما كانوا يعلمون تمام السورة بنزول البسملة كما رواه أبو داود والحاكم والبيهقي والبزار من طريق سعيد بن جبير ـ على ما في الإتقان ، ـ عن ابن عباس قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يعرف فضل السورة ـ حتى تنزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم ـ زاد البزار : فإذا نزلت عرف أن السورة قد ختمت واستقبلت ـ أو ابتدأت سورة أخرى.

وأيضا عن الحاكم من وجه آخر عن سعيد عن ابن عباس قال : كان المسلمون لا يعلمون انقضاء السورة حتى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم فإذا نزلت علموا أن السورة

١٢٧

قد انقضت ، إسناده على شرط الشيخين.

وأيضا عنه من وجه آخر عن سعيد عن ابن عباس : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا جاءه جبريل ـ فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم علم أنها سورة ، إسناده صحيح.

أقول : وروي ما يقرب من ذلك في عدة روايات أخر وروي ذلك من طرق الشيعة عن الباقر عليه‌السلام.

والروايات ـ كما ترى ـ صريحة في دلالتها على أن الآيات كانت مرتبة عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بحسب ترتيب النزول فكانت المكيات في السورة المكية والمدنيات في سورة مدنية اللهم إلا أن يفرض سورة نزل بعضها بمكة وبعضها بالمدينة ، ولا يتحقق هذا الفرض إلا في سورة واحدة.

ولازم ذلك أن يكون ما نشاهده من اختلاف مواضع الآيات مستندا إلى اجتهاد من الصحابة.

توضيح ذلك أن هناك ما لا يحصى من روايات أسباب النزول يدل على كون آيات كثيرة في السور المدنية نازلة بمكة وبالعكس وعلى كون آيات من القرآن نازلة مثلا في أواخر عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهي واقعة في سور نازلة في أوائل الهجرة وقد نزلت بين الوقتين سور أخرى كثيرة ، وذلك كسورة البقرة التي نزلت في السنة الأولى من الهجرة وفيها آيات الربا وقد وردت الروايات على أنها من آخر ما نزلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى ورد عن عمر أنه قال : مات رسول الله ولم يبين لنا آيات الربا ، وفيها قوله تعالى : ( وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ) الآية البقرة : ٢٨١ ، وقد ورد أنها آخر ما نزل من القرآن على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فهذه الآيات النازلة مفرقة الموضوعة في سور لا تجانسها في المكية والمدنية موضوعة في غير موضعها بحسب ترتيب النزول وليس إلا عن اجتهاد من الصحابة.

ويؤيد ذلك ما في الإتقان ، عن ابن حجر : وقد ورد عن علي أنه جمع القرآن على ترتيب النزول ـ عقب موت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أخرجه ابن أبي داود وهو من مسلمات مداليل روايات الشيعة.

هذا ما يدل عليه ظاهر روايات الباب المتقدمة لكن الجمهور أصروا على أن

١٢٨

ترتيب الآيات توقيفي فآيات المصحف الدائر اليوم وهو المصحف العثماني مرتبة على ما رتبها عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بإشارة من جبريل ، وأولوا ظاهر الروايات بأن جمع الصحابة لم يكن جمع ترتيب وإنما كان جمعا لما كانوا يعلمونه ويحفظونه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من السور وآياتها المرتبة ، بين دفتين وفي مكان واحد.

وأنت خبير بأن كيفية الجمع الأول الذي تدل عليها الروايات تدفع هذه الدعوى دفعا صريحا.

وربما استدل عليه بما ادعاه بعضهم من الإجماع على ذلك فقد نقل السيوطي في الإتقان عن الزركشي دعوى الإجماع عليه وعن أبي جعفر بن الزبير نفي الخلاف فيه بين المسلمين ، وهو إجماع منقول لا يعتمد عليه بعد وجود الخلاف في أصل التحريف ودلالة ما تقدم من الروايات على خلافه.

وربما استدل عليه بالتواتر ويوجد ذلك في كلام كثير منهم ادعوا تواتر الترتيب الموجود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو عجيب وقد نقل في الإتقان ، بعد نقله ما رواه البخاري وغيره بعدة طرق عن أنس أنه قال : مات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يجمع القرآن غير أربعة.

أبو الدرداء ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد ، وفي رواية : ( أبي بن كعب ) بدل أبي الدرداء ـ عن المازري أنه قال : وقد تمسك بقول أنس هذا جماعة من الملاحدة ولا متمسك لهم فيه ـ فإنا لا نسلم حمله على ظاهره سلمنا ـ ولكن من أين لهم أن الواقع في نفس الأمر كذلك؟ سلمناه لكن لا يلزم من كون كل من الجم الغفير ـ لم يحفظه كله أن لا يكون حفظ مجموعة الجم الغفير ـ وليس من شرط التواتر أن يحفظ كل فرد جميعه ـ بل إذا حفظ الكل الكل ـ ولو على التوزيع كفى ، انتهى.

أما دعواه أن ظاهر كلام أنس غير مراد فهو مما لا يصغي إليه في الأبحاث اللفظية المبنية على ظاهر اللفظ إلا بقرينة من نفس كلام المتكلم أو ما ينوب منابه أما مجرد الدعوى والاستناد إلى قول آخرين فلا.

على أنه لو حمل كلام أنس على خلاف ظاهره كان من الواجب أن يحمل على أن هؤلاء الأربعة إنما جمعوا في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله معظم القرآن وأكثر سورة وآياته لا على

١٢٩

أنهم وغيرهم من الصحابة جمعوا جميع القرآن على ما في المصحف العثماني وحفظوا ترتيب سوره وآياته وضبطوا موضع كل واحدة واحدة منها عن آخرها فهذا زيد بن ثابت نفسه ـ وهو أحد الأربعة المذكورين في حديث أنس والمتصدي للجمع الأول والثاني كليهما ـ يصرح في رواياته أنه لم يحفظ جميع الآيات.

ونظيره ما في الإتقان ، عن ابن أشتة في المصاحف بسند صحيح عن محمد بن سيرين قال : مات أبو بكر ولم يجمع القرآن ـ وقتل عمر ولم يجمع القرآن.

وأما قوله : سلمناه ولكن من أين لهم أن الواقع في نفس الأمر كذلك فمقلوب على نفسه فمن أين لهذا القائل أن الواقع في نفس الأمر كما يدعيه وقد عرفت الشواهد على خلاف ما يدعيه؟

وأما قوله : إنه يكفي في تحقق التواتر أن يحفظ الكل كل القرآن على سبيل التوزيع فمغالطة واضحة لأنه إنما يفيد كون مجموع القرآن من حيث المجموع منقولا بالتواتر وأما كون كل واحدة واحدة من الآيات القرآنية محفوظة من حيث محلها وموضعها بالتواتر فلا وهو ظاهر.

ونقل في الإتقان ، عن البغوي أنه قال في شرح السنة : الصحابة جمعوا بين الدفتين القرآن ـ الذي أنزله الله على رسوله ـ من غير أن زادوا أو نقصوا منه شيئا ـ خوف ذهاب بعضه بذهاب حفظته ـ فكتبوه كما سمعوا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ من غير أن قدموا شيئا أو أخروه ـ أو وضعوا له ترتيبا لم يأخذوه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ.

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يلقن أصحابه ـ ويعلمهم ما نزل عليه من القرآن على الترتيب ـ الذي هو الآن في مصاحفنا بتوقيف جبريل إياه على ذلك ـ وإعلامه عند نزول كل آية ـ أن هذه الآية تكتب عقب آية كذا في سورة كذا ـ.

فثبت أن سعي الصحابة كان في جمعه في موضع واحد ـ لا في ترتيبه فإن القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ على هذا الترتيب ـ أنزله الله جملة إلى السماء الدنيا ـ ثم كان ينزله مفرقا عند الحاجة ـ وترتيب النزول غير ترتيب التلاوة انتهى.

ونقل عن ابن الحصار أنه قال : ترتيب السور ووضع الآيات مواضعها ـ إنما كان بالوحي كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : ضعوا آية كذا في موضع كذا ، وقد حصل اليقين

١٣٠

من النقل المتواتر بهذا الترتيب من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وإنما أجمع الصحابة على وضعه هكذا في المصحف انتهى : ونقل أيضا ما يقرب من ذلك عن جماعة غيرهم كالبيهقي والطيبي وابن حجر.

أما قولهم : إن الصحابة إنما كتبوا المصحف على الترتيب الذي أخذوه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من غير أن يخالفوه في شيء فمما لا يدل عليه شيء من الروايات المتقدمة ، وإنما المسلم من دلالتها أنهم إنما أثبتوا ما قامت عليه البينة من متن الآيات ولا إشارة في ذلك إلى كيفية ترتيب الآيات النازلة مفرقة وهو ظاهر نعم في رواية ابن عباس المتقدمة عن عثمان ما يشير إلى ذلك غير أن الذي فيه أنه كان صلى‌الله‌عليه‌وآله يأمر بعض كتاب الوحي بذلك وهو غير إعلامه جميع الصحابة ذلك على أن الرواية معارضة بروايات الجمع الأول وأخبار نزول بسم الله وغيرها.

وأما قولهم : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لقن الصحابة هذا الترتيب الموجود في مصاحفنا بتوقيف من جبريل ووحي سماوي فكأنه إشارة إلى حديث عثمان بن أبي العاص المتقدم في آية ( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ ) وقد عرفت مما تقدم أنه حديث واحد في خصوص موضع آية واحدة ، وأين ذلك من مواضع جميع الآيات المفرقة.

وأما قولهم : إن القرآن مكتوب على هذا الترتيب في اللوح المحفوظ أنزله الله إلى السماء الدنيا ثم أنزله الله مفرقا عند الحاجة إلخ ، فإشارة إلى ما روي مستفيضا من طرق الشيعة وأهل السنة من نزول القرآن جملة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ثم نزوله منها نجوما إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لكن الروايات ليس فيها أدنى دلالة على كون القرآن مكتوبا في اللوح المحفوظ منظما في السماء الدنيا على الترتيب الموجود في المصحف الذي عندنا وهو ظاهر.

على أنه سيأتي إن شاء الله الكلام في معنى كتابة القرآن في اللوح المحفوظ ونزوله إلى السماء الدنيا في ذيل ما يناسب ذلك من الآيات كأول سورتي الزخرف والدخان وسورة القدر.

وأما قولهم : إنه قد حصل اليقين بالنقل المتواتر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بهذا الترتيب الموجود في المصاحف فقد عرفت أنه دعوى خالية عن الدليل وأن هذا التواتر

١٣١

لا خبر عنه بالنسبة إلى كل آية آية كيف وقد تكاثرت الروايات أن ابن مسعود لم يكتب في مصحفه المعوذتين وكان يقول إنهما ليستا من القرآن وإنما نزل بهما جبريل تعويذا للحسنين ، وكان يحكهما عن المصاحف ، ولم ينقل عنه أنه رجع عن قوله فكيف خفي عليه هذا التواتر طول حياته بعد الجمع الأول.

الفصل ٧

يتعلق بالبحث السابق البحث في روايات الإنساء ـ وقد مرت إشارة إجمالية إليها ـ وهي عدة روايات وردت من طرق أهل السنة في نسخ القرآن وإنسائه حملوا عليها ما ورد من روايات التحريف سقوطا وتغييرا.

فمنها ما في الدر المنثور ، عن ابن أبي حاتم والحاكم في الكنى وابن عدي وابن عساكر عن ابن عباس قال : كان مما ينزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الوحي بالليل ـ وينساه بالنهار فأنزل الله : ( ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها ـ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها ).

وفيه ، عن أبي داود في ناسخه والبيهقي في الدلائل عن أبي أمامة : أن رهطا من الأنصار من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أخبروه ـ أن رجلا قام من جوف الليل يريد أن يفتتح سورة ـ كان قد وعاها فلم يقدر منها على شيء ـ إلا بسم الله الرحمن الرحيم ووقع ذلك لناس من أصحابه ـ فأصبحوا فسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن السورة ـ فسكت ساعة لم يرجع إليهم شيئا ثم قال : نسخت البارحة فنسخت من صدورهم ومن كل شيء كانت فيه.

أقول : والقصة مروية بعدة طرق في ألفاظ متقاربة مضمونا.

وفيه ، عن عبد الرزاق وسعيد بن منصور وأبي داود في ناسخه وابنه في المصاحف والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن سعد بن أبي وقاص : أنه قرأ : ( ما ننسخ من آية أو ننسأها ) فقيل له : إن سعيد بن المسيب يقرأ ( نُنْسِها ) فقال سعد : إن القرآن لم ينزل على المسيب ولا آل المسيب قال الله : ( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى ) ( وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ ).

أقول : يريد بالتمسك بالآيتين أن الله رفع النسيان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيتعين أن يقرأ ( ننسأها ) من النسيء بمعنى الترك والتأخير فيكون المراد بقوله : ( ما نَنْسَخْ مِنْ

١٣٢

آيَةٍ ) إزالة الآية عن العمل دون التلاوة كآية صدقة النجوى ، وبقوله : ( أو ننسأها ) ترك الآية ورفعها من عندهم بالمرة وإزالتها عن العمل والتلاوة كما روي تفسيرها بذلك عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم.

وفيه ، أخرج ابن الأنباري عن أبي ظبيان قال : قال لنا ابن عباس : أي القراءتين تعدون أول؟ قلنا : قراءة عبد الله وقراءتنا هي الأخيرة. فقال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يعرض عليه جبريل القرآن كل سنة مرة في شهر رمضان ـ وأنه عرضه عليه في آخر سنة مرتين ـ فشهد منه عبد الله ما نسخ ما بدل.

أقول : وهذا المعنى مروي بطرق أخرى عن ابن عباس وعبد الله بن مسعود نفسه وغيرهما من الصحابة والتابعين وهناك روايات أخر في الإنساء.

ومحصل ما استفيد منها أن النسخ قد يكون في الحكم كالآيات المنسوخة المثبتة في المصحف ، وقد يكون في التلاوة مع نسخ حكمها أو من غير نسخ حكمها وقد تقدم في تفسير قوله : ( ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ) البقرة : ١٠٦ وسيأتي في قوله : ( وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ ) النحل : ١٠١ أن الآيتين أجنبيتان عن الإنساء بمعنى نسخ التلاوة ، وتقدم أيضا في الفصول السابقة أن هذه الروايات مخالفة لصريح الكتاب فالوجه عطفها على روايات التحريف وطرح القبيلين جميعا.

( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥) ).

١٣٣

( بيان )

لما ذكر استهزاءهم بكتابه ونبيه وما اقترحوا عليه من الإتيان بالملائكة آية للرسالة عقبه بثلاث طوائف من الآيات وهي المصدرة بقوله : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ ) إلخ وقوله : ( وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً ) إلخ وقوله : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ ) إلخ.

فبين في أوليها أن هذا الاستهزاء دأب وسنة جارية للمجرمين وليسوا بمؤمنين ولو جاءتهم آية آية ، وفي الثانية أن هناك آيات سماوية وأرضية كافية لمن وفق للإيمان وفي الثالثة أن الاختلاف بالإيمان والكفر في نوع الإنسان وضلال أهل الضلال مما تعين لهم يوم أبدع الله خلق الإنسان ، فخلق آدم وجرى هنالك ما جرى من أمر الملائكة بالسجود وإباء إبليس عن ذلك.

قوله تعالى : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ ) إلى آخر الآيتين. الشيع جمع شيعة وهي الفرقة المتفقة على سنة أو مذهب يتبعونه قال تعالى : ( مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) الروم : ٣٢.

وقوله : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا ) أي رسلا وقد حذف للاستغناء عنه فإن العناية بأصل تحقق الإرسال من قبل من غير نظر إلى من أرسل بل بيان أن البشر الأولين كالآخرين جرت عادتهم على أن لا يحترموا الرسالة الإلهية ويستهزءوا بمن أتى بها ويمضوا على إجرامهم لتكون في ذلك تعزية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فلا يضيق صدره بما قابلوه به من الإنكار والاستهزاء كما سيعود إليه في آخر السورة بقوله : ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ ) الخ : الآية ـ ٩٧ من السورة.

والمعنى : طب نفسا فنحن نزلنا الذكر عليك ونحن نحفظه ولا يضيقن صدرك بما يقولون فهو دأب المجرمين من الأمم الإنسانية أقسم لقد أرسلنا من قبلك في فرق الأولين وشيعهم وحالهم هذه الحال ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزءون.

قوله تعالى : ( كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ) إلى آخر الآيتين. السلوك.

النفاذ والإنفاذ يقال : سلك الطريق أي نفذ فيه وسلك الخيط في الإبرة أي أنفذه فيها

١٣٤

وأدخله وذكروا أن سلك وأسلك بمعنى.

والضميران في ( نَسْلُكُهُ ) و ( بِهِ ) للذكر المتقدم ذكره وهو القرآن الكريم والمعنى أن حال رسالتك ودعوتك بالذكر المنزل إليك تشبه حال الرسالة من قبلك فكما أرسلنا من قبلك فقابلوها بالرد والاستهزاء كذلك ندخل هذا الذكر وننفذه في قلوب هؤلاء المجرمين ، ونبأ به : أنهم لا يؤمنون بالذكر وقد مضت طريقة الأولين وسنتهم في أنهم يستهزءون بالحق ولا يتبعونه فالآيتان قريبتا المعنى من قوله : ( فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ ).

وربما قيل : إن الضميرين للشرك أو الاستهزاء المفهوم من الآيات السابقة والباء في ( بِهِ ) للسببية ، والمعنى كذلك ننفذ الشرك أو الاستهزاء في قلوب المجرمين لا يؤمنون بسبب الشرك أو الاستهزاء إلخ.

وهو معنى بعيد ، والمتبادر إلى الذهن من لفظة ( لا يُؤْمِنُونَ بِهِ ) أن الباء للتعدية دون السببية.

وربما قيل : إن الضمير الأول للاستهزاء المفهوم من سابق الكلام والثاني للذكر المذكور سابقا ، والمعنى مثل ما سلكنا الاستهزاء في قلوب شيع الأولين نسلك الاستهزاء وننفذه في قلوب هؤلاء المجرمين لا يؤمنون بالذكر ( إلخ ).

ولا بأس به وإن كان يستلزم التفرقة بين الضميرين المتواليين لكن إباء قوله : ( لا يُؤْمِنُونَ بِهِ ) أن يرجع ضميره إلى الاستهزاء يكفي قرينة لذلك.

وكذا لا يرد على الوجهين ما أورد أن رجوع ضمير ( نَسْلُكُهُ ) إلى الاستهزاء يوجب كون المشركين ملجئين إلى الشرك مجبرين عليه.

وجه عدم الورود : أنه تعالى علق السلوك على المجرمين فيكون مفاده أنهم كانوا متلبسين بالأجرام قبل فعل السلوك بهم ثم فعل بهم ذلك فينطبق على الإضلال الإلهي مجازاة ولا مانع منه ، وإنما الممنوع هو الإضلال الابتدائي ولا دليل عليه في الآية بل الدليل على خلافه ، والآية من قبيل قوله تعالى : ( يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ ) البقرة : ٢٦. وقد تقدم تفصيل القول فيه.

وقد ظهر مما تقدم أن المراد بسنة الأولين السنة التي سنها الأولون لا السنة التي

١٣٥

سنها الله في الأولين فالسنة سنتهم دون سنة الله فيهم ـ كما ذكره بعض المفسرين ـ فهو الأنسب لمقام ذمهم وتعزيته صلى‌الله‌عليه‌وآله بذكر ردهم واستهزائهم لرسلهم.

قوله تعالى : ( وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا ) إلخ ، العروج في السماء الصعود إليها والتسكير الغشاوة.

والمراد بفتح باب من السماء عليهم إيجاد طريق يتيسر لهم به الدخول في العالم العلوي الذي هو مأوى الملائكة وليس كما يظن سقفا جرمانيا له باب ذو مصراعين يفتح ويغلق ، وقد قال تعالى : ( فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ ) القمر : ١١.

وقد اختار سبحانه من بين الخوارق التي يظن أنها ترفع عنهم الشبهة وتزيل عن نفوسهم الريب فتح باب من السماء وعروجهم فيه لأنه كان يعظم في أعينهم أكثر من غيره ، ولذلك لما اقترحوا عليه أمورا من الخوارق العظيمة ذكروا الرقي في السماء في آخر تلك الخوارق المذكورة على سبيل الترقي كما حكاه الله عنهم بقوله : ( وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً ـ إلى أن قال ـ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ ) إسراء : ٩٣ فالرقي في السماء والتصرف في أمورها كتنزيل كتاب مقرو منها أي نفوذ البشر في العالم العلوي وتمكنه فيه ومنه أعجب الخوارق عندهم.

على أن السماء مأوى الملائكة الكرام ومحل صدور الأحكام والأوامر الإلهية وفيها ألواح التقادير ومنها مجاري الأمور ومنبع الوحي وإليها صعود كتب الأعمال ، فعروج الإنسان فيها يوجب اطلاعه على مجاري الأمور وأسباب الخوارق وحقائق الوحي والنبوة والدعوة والسعادة والشقاوة وبالجملة يوجب إشرافه على كل حقيقة ، وخاصة إذا كان عروجا مستمرا لا مرة ودفعة كما يشير إليه قوله تعالى : ( فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ) حيث عبر بقوله : ( فَظَلُّوا ) ولم يقل : فعرجوا فيه.

فالفتح والعروج بهذا النعت يطلعهم على أصول هذه الدعوة الحقة وأعراقها لكنهم لما في قلوبهم من الفساد وفي نفوسهم من قذارة الريبة والشبهة المستحكمة يخطئون أبصارهم فيما يشاهدون بل يتهمون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه سحرهم فهم مسحورون من قبله.

فالمعنى : ولو فتحنا عليهم بابا من السماء ويسرنا لهم الدخول في عالمها فداموا

١٣٦

يعرجون فيه عروجا بعد عروج حتى يتكرر لهم مشاهدة ما فيه من أسرار الغيب وملكوت الأشياء لقالوا إنما غشيت أبصارنا فشاهدت أمورا لا حقيقة لها بل نحن قوم مسحورون.

( وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥) ).

( بيان )

لما ذكر سبحانه إعراضهم عن آية القرآن المعجزة واقتراحهم آية أخرى وهي الإتيان بالملائكة وأجاب عنه أنه ممتنع وملازم لفنائهم عدل إلى عد عدة من آيات السماء والأرض الدالة على التوحيد ليعتبروا بها إن كانوا يعقلون وتتم الحجة بها على المجرمين ، وقد ضمن سبحانه فيها طرفا عاليا من المعارف الحقيقية والأسرار الإلهية.

قوله تعالى : ( وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ ) إلى آخر الآيات

١٣٧

الثلاث البروج جمع برج وهو القصر سميت بها منازل الشمس والقمر من السماء بحسب الحس تشبيها لها بالقصور التي ينزلها الملوك.

والضمير في قوله : ( وَزَيَّنَّاها ) للسماء كما في قوله : ( وَحَفِظْناها ) وتزيينها للناظرين هو ما نشاهده في جوها من البهجة والجمال الذي يوله الألباب بنجومها الزاهرة وكواكبها اللامعة على اختلاف أقدارها وتنوع لمعاتها وقد كرر سبحانه ذكر هذا التزيين الكاشف عن مزيد عنايته به كقوله : ( وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ) حم السجدة : ١٢ وقوله : ( إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ ، لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ ) الصافات : ١٠.

واستراق السمع أخذ الخبر المسموع في خفية كمن يصغي خفية إلى حديث قوم يسرونه فيما بينهم ، واستراق السمع من الشياطين هو محاولتهم أن يطلعوا على بعض ما يحدث به الملائكة فيما بينهم كما يدل عليه ما تقدم آنفا من آيات سورة الصافات.

والشهاب هو الشعلة الخارجة من النار ويطلق على ما يشاهد في الجو من أجرام مضيئة كان الواحد منها كوكب ينقض دفعه من جانب إلى آخر فيسير سيرا سريعا ثم لا يلبث دون أن ينطفئ.

فظاهر معنى الآيات ( وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ ) ـ وهي جهة العلو ـ بروجا وقصورا هي منازل الشمس والقمر ( وَزَيَّنَّاها ) أي السماء للناظرين بزينة النجوم والكواكب ( وَحَفِظْناها ) أي السماء من كل شيطان رجيم أن ينفذ فيها فيطلع على ما تحتويه من الملكوت إلا من استرق السمع من الشياطين بالاقتراب منه ليسمع ما يحدث به الملائكة من أحاديث الغيب المتعلقة بمستقبل الحوادث وغيرها فإنه يتبعه شهاب مبين.

وسنتكلم إن شاء الله في الشهب ومعنى رمي الشياطين فيما سيأتي من تفسير سورة الصافات.

قوله تعالى : ( وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ) مد الأرض بسطها طولا وعرضا وبذلك صلحت للزرع والسكنى ولو أغشيت حبالا شاهقة مضرسة لفقدت كمال حياة الحيوان عليها.

١٣٨

والرواسي صفة محذوفة الموصوف والتقدير وألقينا فيها جبالا رواسي وهو جمع راسية بمعنى الثابتة إشارة إلى ما وقع في غير هذا الموضع أنها تمنع الأرض من الميدان كما قال : ( وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ) النحل : ١٥.

والموزون من الوزن وهو تقدير الأجسام من جهة ثقلها ثم عمم لكل تقدير لكل ما يمكن أن يتقدر بوجه كتقدير الطول بالشبر والذراع ونحو ذلك وتقدير الحجم وتقدير الحرارة والنور والقدرة وغيرها ، وفي كلامه تعالى : ( وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ ) الأنبياء : ٤٧ وهو توزين الأعمال ولا يتصف بثقل وخفة من نوع ما للأجسام الأرضية منهما.

وربما يكنى به عن كون الشيء بحيث لا يزيد ولا ينقص عما يقتضيه الطبع أو الحكمة كما يقال : كلامه موزون وقامته موزونة وأفعاله موزونة أي مستحسنة متناسبة الأجزاء لا تزيد ولا تنقص مما يقتضيه الطبع أو الحكمة.

وبالنظر إلى اختلاف اعتباراته المذكورة ذكر بعضهم أن المراد به إخراج كل ما يوزن من المعدنيات كالذهب والفضة وسائر الفلزات ، وقال بعضهم : إنه إنبات النباتات على ما لكل نوع منها من النظام البديع الموزون ، وقيل : إنه خلق كل أمر مقدر معلوم.

والذي يجب التنبه له التعبير بقوله : ( مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ) دون أن يقال : من كل نبات موزون فهو يشمل غير النبات مما يظهر وينمو في الأرض كما أنه يشمل النبات لمكان قوله : ( وَأَنْبَتْنا ) دون أن يقال : أخرجنا أو خلقنا وقد جيء بمن وظاهرها التبعيض فالمراد ـ والله أعلم ـ إنبات كل أمر موزون ذي ثقل مادي يمكن أن يزيد وينقص من الأجسام النباتية والأرضية ، ولا مانع على هذا من أخذ الموزون بكل من معنييه الحقيقي والكنائي.

والمعنى : والأرض بسطناها وطرحنا فيها جبالا ثابتة لتسكنها من الميد وأنبتنا فيها من كل شيء موزون ـ ثقيل واقع تحت الجاذبة أو متناسب ـ مقدارا تقتضيه الحكمة.

قوله تعالى : ( وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ ) المعايش جمع

١٣٩

معيشة وهي ما به يعيش الحيوان ويديم حياته من المأكول والمشروب وغيرهما ويأتي مصدرا كالعيش والمعاش.

وقوله : ( وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ ) معطوف على الضمير المجرور في ( لَكُمْ ) على ما ذهب إليه من النحاة الكوفيون ويونس والأخفش من جواز العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار ، وأما على قول غيرهم فربما يعطف على معايش والتقدير وجعلنا لكم من لستم له برازقين كالعبيد والحيوان الأهلي ، وربما جعل ( مَنْ ) مبتدأ محذوف الخبر والتقدير : ومن لستم له برازقين جعلنا له فيها معايش وهذا كله تكلف ظاهر.

وكيف كان ، المراد بمن العبيد والدواب ـ على ما قيل ـ أتي بلفظة من وهي لأولي العقل تغليبا هذا ، وليس من البعيد أن يكون المراد به كل ما عدا الإنسان من الحيوان والنبات وغيرهما فإنها تسأل الرزق كما يسأله العقلاء ومن دأبه سبحانه في كلامه أن يطلق الألفاظ المختصة بالعقلاء على غيرهم إذا أضيف إليها شيء من الآثار المختصة بهم كقوله تعالى في الأصنام : ( فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ ) الأنبياء : ٦٣ وقوله : ( فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي ) الشعراء : ٧٧ إلى غير ذلك من الآيات المتعرضة لحال الأصنام التي كانوا يعبدونها ولا يستقيم للمعبود إلا أن يكون عاقلا ، وكذا قوله : ( فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ) حم السجدة : ١١ وغير ذلك.

والمعنى : وجعلنا لكم معشر البشر في الأرض أشياء تعيشون بها مما تدام به الحياة ولغيركم من أرباب الحياة مثل ذلك.

قوله تعالى : ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) الخزائن جمع خزانة وهي مكان خزن المال وحفظه وادخاره ، والقدر بفتحتين أو فتح فسكون مبلغ الشيء وكميته المتعينة.

ولما كانت الآية واقعة في سياق الكلام في الرزق الذي يعيش به الإنسان والحيوان كان المراد بالشيء الموصوف في الآية النبات وما يتبعه من الحبوب والثمرات فالمراد بخزانته التي عند الله وهو ينزل بقدر معلوم المطر النازل من السماء الذي ينبت به النبات فيأتي بالحبوب والأثمار ويعيش بذلك الإنسان والحيوان هذا ملخص ما ذكره جمع

١٤٠