الميزان في تفسير القرآن - ج ٨

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٨

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨٧

بمنعدمين من أصلهم فإن أنفسهم وأرواحهم باقية محفوظة وإن تغيرت أبدانهم ، كما أن النبات يتغير ما على وجه الأرض منها ويبقى ما في أصله من الروح الحية على انعزال من النشوء والنماء ثم تعود إليه حياته الفعالة كذلك يخرج الله الموتى فما إحياء الموتى في الحشر الكلي يوم البعث إلا كإحياء الأرض الميتة في بعثه الجزئي العائد كل سنة ، وللكلام ذيل سيوافيك في محل آخر إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : « وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ » إلى آخر الآية. النكد القليل. والآية بالنظر إلى نفسها كالمثل العام المضروب لترتب الأعمال الصالحة والآثار الحسنة على الذوات الطيبة الكريمة كخلافها على خلافها كما تقدم في قوله : « كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ » لكنها بانضمامها إلى الآية السابقة تفيد أن الناس وإن اختلفوا في قبول الرحمة فالاختلاف من قبلهم والرحمة الإلهية عامة مطلقة.

بحث روائي

لم ينقل عن طبقة الصحابة بحث حقيقي عن مثل العرش والكرسي وسائر الحقائق القرآنية وحتى أصول المعارف كمسائل التوحيد وما يلحق بها بل كانوا لا يتعدون الظواهر الدينية ويقفون عليها ، وعلى ذلك جرى التابعون وقدماء المفسرين حتى نقل عن سفيان بن عيينة أنه قال « : كلما وصف الله من نفسه في كتابه ـ فتفسيره تلاوته والسكوت عليه ، وعن الإمام مالك أن رجلا قال له : يا أبا عبد الله ـ « اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ » ، كيف استوى؟ قال الراوي : فما رأيت مالكا ـ وجد من شيء كموجدته من مقالته ـ وعلاه الرحضاء يعني العرق وأطرق القوم. قال : فسري عن مالك فقال : الكيف غير معقول : والاستواء منه غير مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة ، وإني أخاف أن تكون ضالا ، وأمر به فأخرج.

وكأن قوله : الكيف غير معقول إلخ ، مأخوذ عما روي (١) عن أم سلمة أم المؤمنين »* في قوله تعالى : « الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى » قالت : الكيف غير معقول ، والاستواء

__________________

(١) رواه في الدر المنثور عن ابن مردويه واللالكائي في السنة عنها.

١٦١

غير مجهول ، والإقرار به إيمان ، والجحود به كفر.

فهذا نحو سلوكهم في ذلك لم يورث منهم شيء إلا ما يوجد في كلام الإمام علي بن أبي طالب والأئمة من ولده بعده عليه‌السلام ونحن نورد بعض ما عثرنا عليه في كلامهم.

ففي التوحيد ، بإسناده عن سلمان الفارسي فيما أجاب به علي عليه‌السلام الجاثليق : فقال علي عليه‌السلام : إن الملائكة تحمل العرش ، وليس العرش كما تظن كهيئة السرير ـ ولكنه شيء محدود مخلوق مدبر وربك مالكه ـ لا أنه عليه ككون الشيء على الشيء. الخبر.

وفي الكافي ، عن البرقي رفعه قال : سأل الجاثليق عليا عليه‌السلام فقال : أخبرني عن الله عز وجل يحمل العرش أو العرش يحمله؟ فقال عليه‌السلام : الله عز وجل حامل العرش ـ والسماوات والأرض وما فيهما وما بينهما ، وذلك قول الله عز وجل : « إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا ـ وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ ـ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً ».

قال : فأخبرني عن قوله : « وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ » فكيف ذاك ـ وقلت : إنه يحمل العرش والسماوات والأرض؟ فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : إن العرش خلقه الله تبارك وتعالى من أنوار أربعة : نور أحمر منه احمرت الحمرة ، ونور أخضر منه اخضرت الخضرة ، ونور أصفر منه اصفرت الصفرة ـ ونور أبيض منه ابيض البياض.

وهو العلم الذي حمله الله الحملة ، وذلك نور من نور عظمته ـ فبعظمته ونوره أبصر قلوب المؤمنين ، وبعظمته ونوره عاداه الجاهلون ، وبعظمته ونوره ابتغى من في السماوات والأرض ـ من جميع خلائقه إليه الوسيلة ـ بالأعمال المختلفة والأديان المتشتتة ـ فكل شيء محمول يحمله الله بنوره وعظمته وقدرته ـ لا يستطيع لنفسه ضرا ولا نفعا ـ ولا موتا ولا حياة ولا نشورا فكل شيء محمول ، والله تبارك وتعالى الممسك لهما أن تزولا ، والمحيط بهما من شيء ، وهو حياة كل شيء ونور كل شيء ـ سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا.

قال له : فأخبرني عن الله أين هو؟ فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : هو هاهنا وهاهنا وفوق وتحت ومحيط بنا ومعنا ، وهو قوله : « ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ ـ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ ـ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا » فالكرسي محيط بالسماوات والأرض ـ وما بينهما وما تحت الثرى ، وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى ، وذلك قوله : « وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ـ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ».

١٦٢

فالذين يحملون العرش هم العلماء الذين حملهم الله علمه ، وليس يخرج من هذه الأربعة شيء خلقه الله في ملكوته ، وهو الملكوت الذي أراه الله أصفياءه وأراه خليله فقال : « وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ـ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ » وكيف يحمل حملة العرش الله وبحياته حييت قلوبهم ، وبنوره اهتدوا إلى معرفته ، الخبر.

أقول : قوله أخبرني عن الله عز وجل يحمل العرش أو العرش يحمله إلخ ، ظاهر في أن الجاثليق أخذ الحمل بمعنى حمل الجسم للجسم ، وقوله عليه‌السلام : الله حامل العرش والسماوات والأرض إلخ ، أخذ للحمل بمعناه التحليلي وتفسير له بمعنى حمل وجود الشيء وهو قيام وجود الأشياء به تعالى قياما تبعيا محضا لا استقلاليا ، ومن المعلوم أن لازم هذا المعنى أن يكون الأشياء محمولة له تعالى لا حاملة.

ولذلك لما سمع الجاثليق ذلك سأله عليه‌السلام عن قوله تعالى : « وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ » فإن حمل وجود الشيء بالمعنى المتقدم يختص به تعالى لا يشاركه فيه غيره مع أن الآية تنسبه إلى غيره! ففسر عليه‌السلام الحمل ثانيا بحمل العلم وفسر العرش بالعلم.

غير أن ذلك حيث كان يوهم المناقضة بين التفسيرين زاد عليه‌السلام في توضيح ما ذكره من كون العرش هو العلم إن هذا العلم غير ما هو المتبادر إلى الأفهام العامية من العلم وهو العلم الحصولي الذي هو الصورة النفسانية بل هو نور عظمته وقدرته حضرت لهؤلاء الحملة بإذن الله وشوهدت لهم فسمي ذلك حملا ، وهو مع ذلك محمول له تعالى ولا منافاة كما أن وجود أفعالنا حاضرة عندنا محمولة لنا وهي مع ذلك حاضرة عند الله سبحانه محمولة له وهو المالك الذي ملكنا إياها.

فنور العظمة الإلهية وقدرته الذي ظهر به جميع الأشياء هو العرش الذي يحيط بما دونه وهو ملكه تعالى لكل شيء دون العرش وهو تعالى الحامل لهذا النور ثم الذين كشف الله لهم عن هذا النور يحملونه بإذن الله ، والله سبحانه هو الحامل للحامل والمحمول جميعا.

فالعرش في قوله : « ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ » ـ وإن شئت قلت : الاستواء على العرش هو الملك ، وفي قوله : « وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ » الآية هو العلم ، وهما جميعا واحد وهو المقام الذي يظهر به جميع الأشياء ويتمركز فيه إجمال جميع التدابير التفصيلية الجارية في نظام الوجود فهو مقام الملك الذي يصدر منه التدابير ، ومقام العلم الذي

١٦٣

يظهر به الأشياء.

وقوله عليه‌السلام : فبعظمته ونوره أبصر قلوب المؤمنين « إلخ » يريد أن هذا المقام هو المقام الذي ينشأ منه تدبير نظام السعادة الذي وقع فيه مجتمع المؤمنين وتسير عليه قافلتهم في مسيرهم إلى الله سبحانه ، وينشأ منه نظام الشقاء الذي ينبسط على جميع المعاندين أعداء الله الجاهلين بمقام ربهم بل المقام الذي ينشأ منه النظام العالمي العام الذي يعيش تحته كل ذي وجود ، ويسير به سائرهم للتقرب إليه بأعمالهم وسننهم سواء علموا بما هم فيه من ابتغاء الوسيلة إليه تعالى أو جهلوا.

وقوله عليه‌السلام : « وهو حياة كل شيء ونور كل شيء » كالتعليل المبين لقوله قبله فكل شيء محمول يحمله الله إلى آخر ما قال. ومحصله أنه تعالى هو الذي به يوجد كل شيء ، وهو الذي يدرك كل شيء فيظهر به طريقه الخاص به في مسير وجوده ظهور الطريق المظلم لسائره بواسطة النور فهي لا تملك لأنفسها شيئا بل الله سبحانه هو المالك لها الحامل لوجودها.

وقوله عليه‌السلام : هو هاهنا وهاهنا وفوق وتحت « إلخ » يريد أن الله سبحانه لما كان مقوما لوجود كل شيء حافظا وحاملا له لم يكن محل من المحال خاليا عنه ، ولا هو مختصا بمكان دون مكان ، وكان معنى كونه في مكان أو مع شيء ذي مكان أنه تعالى حافظ له وحامل لوجوده ومحيط به ، وهو وكذا غيره محفوظ بحفظه تعالى ومحمول ومحاط له.

وهذا يئول إلى علمه الفعلي بالأشياء ، ونعني به أن كل شيء حاضر عنده تعالى غير محجوب عنه ، ولذلك قال عليه‌السلام أولا : « فالكرسي محيط بالسماوات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى » فأشار إلى الإحاطة ثم عقبه بقوله : « وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى » فأشار إلى العلم فأنتج ذلك أن الكرسي ويعني به العرش مقام الإحاطة والتدبير والحفظ ، وأنه مقام العلم والحضور بعينه ، ثم طبقه على قوله تعالى : « وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ » الآية.

وقوله عليه‌السلام : « وليس يخرج عن هذه الأربعة شيء خلق الله في ملكوته » كأنه إشارة إلى الألوان الأربعة المذكورة في أول كلامه عليه‌السلام وسيجيء كلام فيها في أحاديث المعراج إن شاء الله.

١٦٤

وقوله عليه‌السلام « وهو الملكوت الذي أراه الله أصفياءه » فالعرش هو الملكوت غير أن الملكوت اثنان ملكوت أعلى وملكوت أسفل ، والعرش لكونه مقام الإجمال وباطن البابين من الغيب كما سيأتي ما يدل على ذلك من الرواية كان الأحرى به أن يكون الملكوت الأعلى.

وقوله عليه‌السلام : وكيف يحمل حملة العرش الله « إلخ » تأكيد وتثبيت لأول الكلام : أن العرش هو مقام حمل وجود الأشياء وتقويمه ، فحملة العرش محمولون له سبحانه لا حاملون كيف؟ ووجودهم وسير وجودهم يقوم به تعالى لا بأنفسهم ، ولاعتباره عليه‌السلام هذا المقام الوجودي علما عبر عن وجودهم وعن كمال وجودهم بالقلوب ، ونور الاهتداء إلى معرفة الله إذ قال : وبحياته حييت قلوبهم وبنوره اهتدوا إلى معرفته.

وفي التوحيد ، بإسناده عن حنان بن سدير قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن العرش والكرسي فقال : إن للعرش صفات كثيرة مختلفة ، له في كل سبب وضع في القرآن صفة على حدة ـ فقوله : « رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ » يقول : رب الملك العظيم ، وقوله : « الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى » يقول : على الملك احتوى ، وهذا علم الكيفوفية في الأشياء.

ثم العرش في الوصل مفرد (١) عن الكرسي ـ لأنهما بابان من أكبر أبواب الغيوب ـ وهما جميعا غيبان ، وهما في الغيب مقرونان ـ لأن الكرسي هو الباب الظاهر من الغيب ـ الذي منه مطلع البدع ومنها الأشياء كلها ، والعرش هو الباطن الذي يوجد فيه علم الكيف ـ والكون والقدر والحد والأين والمشية وصفة الإرادة ـ وعلم الألفاظ والحركات والترك وعلم العود والبدء.

فهما في العلم بابان مقرونان ـ لأن ملك العرش سوى ملك الكرسي ، وعلمه أغيب من علم الكرسي فمن ذلك قال : « رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ » أي صفته أعظم من صفة الكرسي ، وهما في ذلك مقرونان.

قلت : جعلت فداك فلم صار في الفضل جار الكرسي؟ قال عليه‌السلام : إنه صار جاره لأن علم الكيفوفية فيه ـ وفيه الظاهر من أبواب البداء وإنيتها ـ وحد رتقها وفتقها ـ فهذان جاران أحدهما حمل صاحبه في الصرف ، وبمثل صرف العلماء ، وليستدلوا على صدق دعواهما ـ لأنه يختص برحمته من يشاء وهو القوي العزيز.

__________________

(١) متفرد خ ل.

١٦٥

أقول : قوله عليه‌السلام : إن للعرش صفات كثيرة إلخ ، يؤيد ما ذكرناه سابقا أن الاستواء على العرش لبيان اجتماع أزمة التدابير العالمية عند الله ، ويؤيده ما في آخر الحديث من قوله : وبمثل صرف العلماء.

وقوله عليه‌السلام : « وهذا علم الكيفوفية في الأشياء » المراد به العلم بالعلل العالية والأسباب القصوى للموجودات فإن لفظ « كيف » عرفا كما يسأل به عن العرض المسمى اصطلاحا بالكيف كذلك يسأل به عن سبب الشيء ولمه ، يقال : كيف وجد كذا؟ وكيف فعل زيد كذا وهو لا يستطيع.

وقوله عليه‌السلام : ثم العرش في الوصل مفرد عن الكرسي « إلخ » مراده أن العرش والكرسي واحد من حيث إنهما مقام الغيب الذي يظهر منه الأشياء وينزل منه إلى هذا العالم لكن العرش في الصلة الكلامية متميز من الكرسي لأن هذا المقام في نفسه ينقسم إلى مقامين وينشعب إلى بابين لكنهما مقرونان غير متباينين : أحدهما الباب الظاهر الذي يلي هذا العالم ، والآخر الباب الباطن الذي يليه ثم بينه بقوله : لأن الكرسي هو الباب الظاهر « إلخ ».

قوله عليه‌السلام : « لأن الكرسي هو الباب الظاهر الذي منه مطلع البدع ومنها الأشياء كلها » أي طلوع الأمور البديعة على غير مثال سابق ، ومنها يتحقق الأشياء كلها لأن جميعها بديعة على غير مثال سابق ، وهي إنما تكون بديعة إذا كانت مما لا يتوقع تحققها من الوضع السابق الذي كان أنتج الأمور السابقة على هذا الحادث التي تذهب هي ويقوم هذا مقامها فيئول الأمر إلى البداء بإمحاء حكم سبب وإثبات حكم الآخر موضعه فجميع الوقائع الحادثة في هذا العالم المستندة إلى عمل الأسباب المتزاحمة والقوى المتضادة بدع حادثة وبداءات في الإرادة.

وفوق هذه الأسباب المتزاحمة والإرادات المتغايرة التي لا تزال تتنازع في الوجود سبب واحد وإرادة واحدة حاكمة لا يقع إلا ما يريده فهو الذي يحجب هذا السبب بذاك السبب ويغير حكم هذه الإرادة ويقيد إطلاق تأثير كل شيء بغيره كمثل الذي يريد قطع طريق لغاية كذا فيأخذ في طيه ، وبينما هو يطوي الطريق يقف أحيانا ليستريح زمانا ، فعله الوقوف ربما تنازع علة الطي والحركة وتوقفها عن العمل ، والإرادة تغير

١٦٦

الإرادة لكن هناك إرادة أخرى هي التي تحكم على الإرادتين جميعا وتنظم العمل على ما تميل إليه بتقديم هذه تارة وتلك أخرى والإرادتان أعني سببي الحركة والسكون وإن كانت كل منهما تعمل لنفسها وعلى حدتها وتنازع صاحبتها لكنهما جميعا متفقتان في طاعة الإرادة التي هي فوقهما ، ومتعاضدتان في إجراء ما يوجبه السبب الذي هو أعلى منهما وأسمى.

فالمقام الذي ينفصل به السببان المتنافيان وينشأ منه تنازعهما بمنزلة الكرسي ، والمقام الذي يظهر أن فيه متلائمين متآلفين بمنزلة العرش ، وظاهر أن الثاني أقدم من الأول ، وأنهما يختلفان بنوع من الإجمال والتفصيل ، والبطون والظهور.

وأحرى بالمقامين أن يسميا عرشا وكرسيا لأن فيهما خواص عرش الملك وكرسيه فإن الكرسي : الذي يظهر فيه أحكام الملك من جهة عماله وأيديه العمالة ، وكل منهم يعمل بحيال نفسه في نوع من أمور المملكة وشئونها وربما تنازعت الكراسي فيقدم حكم البعض على البعض ونسخ البعض حكم البعض ، لكنها جميعا تتوافق وتتحد في طاعة أحكام العرش وهو المختص بالملك نفسه فعنده الحكم المحفوظ عن تنازع الأسباب غير المنسوخ بنسخ العمال والأيدي ، وفي عرشه إجمال جميع التفاصيل وباطن ما يظهر من ناحية العمال والأيدي.

وبهذا البيان يتضح معنى قوله عليه‌السلام : لأن الكرسي هو الباب الظاهر « إلخ » فقوله « منه مطلع البدع » أي طلوع الأمور الكونية غير المسبوقة بمثل ، وقوله « ومنها الأشياء كلها » أي تفاصيل الخلقة ومفرداتها المختلفة المتشتتة.

وقوله : « والعرش هو الباب الباطن » قبال كون الكرسي هو الباب الظاهر ، والبطون والظهور فيهما باعتبار وقوع التفرق في الأحكام الصادرة وعدم وقوعه ، وقوله يوجد فيه « إلخ » أي جميع العلوم والصور التي تنتهي إلى إجمالها تفاصيل الأشياء.

وقوله : « علم الكيف » كأن المراد بالكيف خصوصية صدور الشيء عن أسبابه ، وقوله : « والكون » المراد به تمام وجوده كما أن المراد بالعود والبدء أول وجودات الأشياء ونهايتها وقوله : « والقدر والحد » المراد بهما واحد غير أن القدر حال مقدار الشيء بحسب نفسه ، والحد حال الشيء بحسب إضافته إلى غيره ومنعه أن يدخل حومة نفسه ويمازجه ، وقوله : « والأين » هو النسبة المكانية ، وقوله : « والمشية

١٦٧

وصفة الإرادة » هما واحد ويمكن أن يكون المراد بالمشية أصلها وبصفة الإرادة خصوصيتها.

وقوله : « وعلم الألفاظ والحركات والترك » علم الألفاظ هو العلم بكيفية انتشاء دلالة الألفاظ بارتباطها إلى الخارج بحسب الطبع فإن الدلالة الوضعية تنتهي بالآخرة إلى الطبع ، وعلم الحركات والترك ، العلم بالأعمال والتروك من حيث ارتباطها إلى الذوات ويمكن أن يكون المراد بمجموع قوله : « علم الألفاظ وعلم الحركات والترك » العلم بكيفية انتشاء اعتبارات الأوامر والنواهي من الأفعال والتروك ، وانتشاء اللغات من حقائقها المنتهية إلى منشإ واحد ، والترك هو السكون النسبي في مقابل الحركات.

وقوله : « لأن علم الكيفوفية فيه » الضمير للعرش ، وقوله : « وفيه الظاهر من أبواب البداء » الضمير للكرسي ، والبداء ظهور سبب على سبب آخر وإبطاله أثره ، وينطبق على جميع الأسباب المتغايرة الكونية من حيث تأثيرها.

وقوله عليه‌السلام : « فهذان جاران أحدهما حمل صاحبه في الصرف » المراد به على ما يؤيده البيان السابق أن العرش والكرسي جاران متناسبان بل حقيقة واحدة مختلفة بحسب مرتبتي الإجمال والتفصيل : وإنما نسب إلى أحدهما أنه حمل الآخر بحسب صرف الكلام وضرب المثل ، وبالأمثال تبين المعارف الدقيقة الغامضة للعلماء.

وقوله : « وليستدلوا على صدق دعواهما » أي دعوى العرش والكرسي أي وجعل هذا المثل ذريعة لأن يستدل العلماء بذلك على صدق المعارف الحقة الملقاة إليهم في كيفية انتشاء التدبير الجاري في العالم من مقامي الإجمال والتفصيل والباطن والظاهر ، فافهم ذلك.

وفي التوحيد ، بإسناده عن الصادق عليه‌السلام أنه سئل عن قوله تعالى : « وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ » الآية ، فقال : ما يقولون؟ قيل : إن العرش كان على الماء والرب فوقه! فقال : كذبوا ، من زعم هذا ـ فقد صير الله محمولا ووصفه بصفة المخلوقين ، ولزمه أن الشيء الذي يحمله هو أقوى منه. قال : إن الله حمل دينه وعلمه الماء ـ قبل أن تكون سماء أو أرض ـ أو جن أو إنس أو شمس أو قمر.

أقول : وهو كسابقه في الدلالة على أن العرش هو العلم ، والماء أصل الخلقة وكان العلم الفعلي متعلقا به قبل ظهور التفاصيل.

وفي الاحتجاج ، عن علي عليه‌السلام أنه سئل عن بعد ما بين الأرض والعرش. فقال :

١٦٨

قول العبد مخلصا : لا إله إلا الله.

أقول : وهو من لطائف كلامه عليه‌السلام أخذه من قوله تعالى : « إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ».

ووجهه أن العبد إذا نفى عن غيره تعالى الألوهية بإخلاص الألوهية والاستقلال له تعالى أوجب ذلك نسيان غيره ، والتوجه إلى مقام استناد كل شيء إليه تعالى ، وهذا هو مقام العرش على ما مر بيانه.

ونظيره في اللطافة قوله عليه‌السلام : قد سئل عن بعد ما بين الأرض والسماء : مد البصر ودعوة المظلوم.

وفي الفقيه ، والمجالس ، والعلل ، للصدوق : روي عن الصادق عليه‌السلام أنه سئل لم سمي الكعبة كعبة؟ قال : لأنها مربعة ـ فقيل له : ولم صارت مربعة؟ قال : لأنها بحذاء البيت المعمور وهو مربع. فقيل له : ولم صار البيت المعمور مربعا؟ قال : لأنه بحذاء العرش وهو مربع ، فقيل له : ولم صار العرش مربعا؟ قال : لأن الكلمات التي بني عليها الإسلام أربع : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر. الحديث.

أقول : وهذه الكلمات الأربع أولاها : تتضمن التنزيه والتقديس والثانية التشبيه والثناء ، والثالثة التوحيد الجامع بين التنزيه والتشبيه ، والرابعة : التوحيد الأعظم المختص بالإسلام ، وهو أن الله سبحانه أكبر من أن يوصف فإن الوصف تقييد وتحديد وهو تعالى أجل من أن يحده حد ويقيده قيد ، وقد تقدم نبذة من الكلام فيه في تفسير قوله تعالى : « لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ » الآية.

وبالجملة يرجع المعنى إلى تفسيره بالعلم على ما مر ، والروايات المختلفة في هذا المعنى كثيرة كما ورد أن آية الكرسي وآخر البقرة وسورة محمد من كنوز العرش وما ورد أن صلى‌الله‌عليه‌وآله نهر يخرج من ساق العرش ، وما ورد أن الأفق المبين قاع بين يدي العرش فيه أنهار تطرد فيه من القدحان عدد النجوم.

وفي تفسير القمي ، عن عبد الرحيم الأقصر عن الصادق عليه‌السلام قال : سألته عن « ن وَالْقَلَمِ » قال : إن الله خلق القلم من شجرة في الجنة ـ يقال لها : الخلد ، ثم قال لنهر في الجنة : كن مدادا فجمد النهر ، وكان أشد بياضا من الثلج وأحلى من الشهد. ثم قال للقلم : اكتب. قال : يا رب ما أكتب؟ قال : اكتب ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة

١٦٩

فكتب القلم في رق أشد بياضا من الفضة ـ وأصفى من الياقوت ـ ثم طواه فجعله في ركن العرش ـ ثم ختم على فم القلم فلم ينطق بعد ، ولا ينطق أبدا ـ فهو الكتاب المكنون الذي منه النسخ كلها ( الحديث ). وسيجيء تمامه في سورة ن إن شاء الله تعالى.

أقول : وفي معناها روايات أخر ، وفي بعضها لما استزاد الراوي بيانا وأصر عليه قال عليه‌السلام : القلم ملك واللوح ملك ، فبين بذلك أن ما وصفه تمثيل من قبيل تشبيه المعقول بالمحسوس لتفهيم الغرض.

وفي كتاب روضة الواعظين ، عن الصادق عن أبيه عن جده عليه‌السلام قال : في العرش تمثال ما خلق الله في البر والبحر. قال : وهذا تأويل قوله : « وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ ـ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ».

أقول : أي وجود صور الأشياء وتماثيلها في العرش ، هو الحقيقة التي يبتني عليها بيان الآية ، وقد تقدم توضيح معنى وجود صور الأشياء في العرش ، وفي معنى هذه الرواية ما ورد في تفسير دعاء « يا من أظهر الجميل ».

وفيه ، أيضا عن الصادق عن أبيه عن جده عليه‌السلام في حديث : وإن بين القائمة من قوائم العرش والقائمة الثانية ـ خفقان الطير المسرع مسير ألف عام ، والعرش يكسى كل يوم سبعين ألف لون من النور ـ لا يستطيع أن ينظر إليه خلق من خلق الله ، والأشياء كلها في العرش كحلقة في فلاة.

أقول : والجملة الأخيرة مما نقل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من طرق الشيعة وأهل السنة ، والذي ذكره عليه‌السلام بناء على ما تقدم تمثيل ، ونظائره كثيرة في رواياتهم عليه‌السلام.

ومن الدليل عليه أن ما وصف في الرواية من عظم العرش بأي حساب فرض يوجد من الدوائر التي ترسمها الأشعة النورية ما هي أعظم منه بكثير فليس التوصيف إلا لتقريب المعقول من الحس.

وفي العلل ، عن علل محمد بن سنان عن الرضا عليه‌السلام : علة الطواف بالبيت أن الله تبارك وتعالى ـ قال للملائكة « إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ـ قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ » ، فردوا على الله تبارك وتعالى هذا الجواب ـ فعلموا أنهم أذنبوا فندموا فلاذوا بالعرش واستغفروا ـ فأحب الله عز وجل أن يتعبد بمثل ذلك العباد ـ فوضع في السماء

١٧٠

الرابعة بيتا بحذاء العرش ـ يسمى « الضراح » ثم وضع في السماء الدنيا بيتا ـ يسمى « البيت المعمور » بحذاء الضراح ـ ثم وضع البيت بحذاء البيت المعمور ـ ثم أمر آدم فطاف به ـ فجرى في ولده إلى يوم القيامة. الحديث.

أقول : الحديث لا يخلو عن الغرابة من جهات ، وكيف كان فبناء على تفسير العرش بالعلم يكون معنى لواذ الملائكة بالعرش هو اعترافهم بالجهل وإرجاع العلم إليه سبحانه حيث قالوا : « سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ » وقد مر الكلام في هذه القصة في أوائل سورة البقرة. وفي الرواية ذكر الضراح والبيت المعمور في السماء ومعظم الروايات تذكر في السماء بيتا واحدا وهو البيت المعمور في السماء الرابعة ، وفيها إثبات الذنب للملائكة وهم معصومون بنص القرآن ، ولعل المراد من العلم بالذنب العلم بنوع من القصور.

وأما كون الكعبة بحذاء البيت المعمور فالظاهر أنه محاذاة معنوية لا حسية جسمانية ، ومن الشاهد عليه قوله « فوضع في السماء الرابعة بيتا بحذاء العرش » إذ المحصل من القرآن والحديث أن العرش والكرسي محيطان بالسماوات والأرض ، ولا يتحقق معنى المحاذاة بين المحيط والمحاط إذا كانت الإحاطة جسمانية.

وفي الخصال ، عن الصادق عليه‌السلام : أن حملة العرش أحدهم على صورة ابن آدم ـ يسترزق الله لولد آدم. والثاني على صورة الديك يسترزق الله للطير ، والثالث على صورة الأسد يسترزق الله للسباع ، والرابع على صورة الثور يسترزق الله للبهائم ، ونكس الثور رأسه منذ عبد بنو إسرائيل العجل ـ فإذا كان يوم القيامة صاروا ثمانية. الخبر.

أقول : والأخبار فيما يقرب من هذا المعنى كثيرة متظافرة ، وفي بعضها عد الأربع حملة للكرسي ، وهو الخبر الوحيد الذي يذكر للكرسي حملة ـ فيما عثرنا عليه ـ وقد أوردناها في تفسير آية الكرسي في سورة البقرة.

وفي حديث آخر : حملة العرش ثمانية : أربعة من الأولين وأربعة من الآخرين : فأما الأربعة من الأولين ـ فنوح وإبراهيم وموسى وعيسى ، وأما الأربعة من الآخرين : فمحمد وعلي والحسن والحسين عليه‌السلام.

أقول : بناء على تفسير العرش بالعلم لا ضير في أن تعد أربعة من الملائكة حملة

١٧١

له ثم تعد عدة من غيرهم حملة له.

والروايات في العرش كثيرة متفرقة في الأبواب ، وهي تؤيد ما مر من تفسيره بالعلم ، وما له ظهور ما في الجسمية منها ، مفسرة بما تقدم وأما كون العرش جسما في هيئة السرير موضوعا على السماء السابعة فمما لا يدل عليه حديث يعبأ بأمره بل من الروايات ما يكذبه كالرواية الأولى المتقدمة.

وفي تفسير القمي ، في قوله تعالى : « خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ » الآية ـ قال : قال عليه‌السلام : في ستة أوقات.

وفي تفسير البرهان : صاحب ثاقب المناقب أسنده إلى أبي هاشم الجعفري عن محمد بن صالح الأرمني قال : قلت لأبي محمد العسكري عليه‌السلام عرفني عن قول الله : « لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ » فقال : لله الأمر من قبل أن يأمر ـ ومن بعد أن يأمر ما يشاء ، فقلت في نفسي هذا تأويل قول الله : « أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ » فأقبل علي وقال : هو كما أسررت في نفسك : ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين.

أقول : معناه أن قوله : « أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ » يفيد إطلاق الملك قبل الصدور وبعده لا كمثلنا حيث نملك الأمر ـ فيما نملك ـ قبل الصدور فإذا صدر خرج عن ملكنا واختيارنا.

وفي الدر المنثور ، أخرج ابن جرير عن عبد العزيز الشامي عن أبيه وكانت له صحبة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من لم يحمد الله على ما عمل من عمل صالح وحمد نفسه ـ فقد كفر وحبط ما عمل ، ومن زعم أن الله جعل للعباد من الأمر شيئا ـ فقد كفر بما أنزل الله على أنبيائه لقوله : « أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ ».

أقول : المراد من الكفر بالعجب هو الكفر بالنعمة أو بكون الحسنات لله على ما يدل عليه القرآن ، والمراد بنفي كون شيء من الأمر للعباد نفي الجعل بنحو الاستقلال دون التبعي من الملك والأمر.

وفي الكافي ، بإسناده عن ميسر عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قلت قول الله عز وجل ـ « وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها » قال : فقال : يا ميسر إن الأرض كانت فاسدة ـ فأحياها الله عز وجل بنبيه ، ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها :

أقول : ورواه العياشي في تفسيره ، عن ميسر عن أبي عبد الله عليه‌السلام مرسلا.

١٧٢

وفي الدر المنثور ، أخرج أحمد والبخاري ومسلم والنسائي عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم ـ كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا ـ فكانت منها بقية فبلت الماء ـ فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكانت منها أجادب أمسكت الماء ـ فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا ، وأصاب منها طائفة أخرى ـ إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ ـ فذلك مثل من فقه في دين الله ـ ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ـ ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به.

« لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٦٠) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦١) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٢) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (٦٤) »

بيان

تعقيب لما تقدم من الدعوة إلى التوحيد والنهي عن الشرك بالله سبحانه والتكذيب لآياته بذكر قصة نوح عليه‌السلام وإرساله إلى قومه يدعوهم إلى توحيد الله وترك عبادة غيره وما واجهته به عامة قومه من الإنكار والإصرار على تكذيبه فأرسل الله إليهم الطوفان وأنجى نوحا والذين آمنوا معه ثم أهلك الباقين عن آخرهم. ثم عقب الله قصته بقصص عدة من رسله كهود وصالح وشعيب ولوط وموسى عليه‌السلام للغرض بعينه.

١٧٣

قوله تعالى : « لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ » إلى آخر الآية. بدأ الله سبحانه بقصته وهو أول رسول يذكر الله سبحانه تفصيل قصته في القرآن كما سيأتي تفصيل القول في قصته في سورة هود إن شاء الله تعالى.

واللام في قوله : « لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً » للقسم جيء بها للتأكيد لأن وجه الكلام إلى المشركين وهم ينكرون النبوة ، وقوله : « فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ » ناداهم بقوله : « يا قَوْمِ » فأضافهم إلى نفسه ليكون جريا على مقتضى النصح الذي سيخبرهم به عن نفسه ، ودعاهم أول ما دعاهم إلى توحيد الله تعالى فإن دعاهم إلى عبادته ، وأخبرهم بانتفاء كل إله غيره فيكون دعوة إلى عبادة الله وحده من غير أن يشرك به في عبادته غيره ، وهو التوحيد.

ثم أنذرهم بقوله : « إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ » وظاهره يوم القيامة فيكون في ذلك دعوة إلى أصلين من أصول الدين وهما التوحيد والمعاد ، وأما الأصل الثالث وهو النبوة فسيصرح به في قوله : « يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ » الآية.

على أن في نفس الدعوة وهي دعوة إلى نوع من العبادة لا يعرفونها وكذا الإنذار بما لم يكونوا يعلمونه وهو عذاب القيامة إشعارا بالرسالة من قبل من يدعو إليه ، ومن الشاهد على ذلك قوله في جوابهم : « أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ » فإنه يدل على تعجبهم من رسالته باستماع أول ما خاطبهم به من الدعوة وهو قوله : « يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ».

قوله تعالى : « قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ » الملأ هم أشراف القوم وخواصهم سموا به لأنهم يملئون القلوب هيبة والعيون جمالا وزينة ، وإنما رموا بالضلال المبين وأكدوه تأكيدا شديدا لأنهم لم يكونوا ليتوقعوا أن معترضا يعترض عليهم بالدعوة إلى رفض آلهتهم وتوجيه العبادة إلى الله سبحانه بالرسالة والإنذار فتعجبوا من ذلك فأكدوا ضلاله مدعين أن ذلك من بين الضلال تحقيقا. والرؤية هي الرؤية بحسب الفكر أعني الحكم.

قوله تعالى : « قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ » الآية. أجابهم بنفي الضلال عن نفسه والاستدراك بكونه رسولا من الله سبحانه ، وذكره بوصفه « رَبِّ الْعالَمِينَ » ليجمع له

١٧٤

الربوبية كلها قبال تقسيمهم إياها بين آلهتهم بتخصيص كل منها بشيء من شئونها وأبوابها كربوبية البحر وربوبية البر وربوبية الأرض وربوبية السماء وغير ذلك.

وقد جرد عليه‌السلام جوابه عن التأكيد للإشارة إلى ظهور رسالته وعدم ضلالته تجاه إصرارهم بذلك وتأكيد دعواهم.

قوله تعالى : « أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ » أخبرهم بأوصاف نفسه فبين أنه يبلغهم رسالات ربه ، وهذا شأن الرسالة ومقتضاها القريب الضروري ، وفي جمع الرسالة دلالة على كونها كثيرة وأن له مقاصد أمره ربه أن يبلغها إياهم وراء التوحيد والمعاد فإنه نبي رسول من أولي العزم صاحب كتاب وشريعة.

ثم ذكر أنه ينصح لهم وهو عظاته بالإنذار والتبشير ليقربهم من طاعة ربهم ويبعدهم عن الاستكبار والاستنكاف عن عبوديته كل ذلك بذكر ما عرفه الله من بدء الخلقة وعودها وسننه تعالى الجارية فيها ولذا ذكر ثالثا أنه يعلم من الله ما لا يعلمون كوقائع يوم القيامة من الثواب والعقاب وغير ذلك ، وما يستتبع الطاعة والمعصية من رضاه تعالى وسخطه ووجوه نعمه ونقمه.

ومن هنا يظهر أن الجمل الثلاث كل مسوق لغرض خاص أعني قوله : « أُبَلِّغُكُمْ » الآية و « أَنْصَحُ لَكُمْ » و « أَعْلَمُ » الآية وهي ثلاثة أوصاف متوالية لا كما قيل : إن الأوليان صفتان ، والثالثة جملة حالية عن فاعل « وَأَنْصَحُ لَكُمْ ».

قوله تعالى : « أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ » إلى آخر الآية. استفهام إنكاري ينكر تعجبهم من دعواه الرسالة ودعوته إياهم إلى الدين الحق والمراد بالذكر ما يذكر به الله وهو المعارف الحقة التي أوحيت إليه ، وقوله : « مِنْ رَبِّكُمْ » متعلق بمقدر أي ذكر كائن من ربكم.

وقوله : « لِيُنْذِرَكُمْ » و « لِتَتَّقُوا » و « لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ » متعلقات بقوله : « جاءَكُمْ » والمعنى لغرض أن ينذركم الرسول ، ولتتقوا أنتم ، ويؤدي ذلك إلى رجاء أن تشملكم الرحمة الإلهية فإن التقوى وإن كان يؤدي إلى النجاة لكنها ليست بعلة تامة ، وقد اشتمل ما حكي من إجمال كلامه عليه‌السلام من معارف عالية إلهية.

قوله تعالى : « فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ » الفلك السفينة يستعمل

١٧٥

واحدا وجمعا على ما ذكره الراغب ويذكر ويؤنث كما في الصحاح ، « وقوله : « قَوْماً عَمِينَ » موصوف وصفة. وعمين جمع عمي كخشن صفة مشبهة من عمي يعمى ، عمي كالأعمى إلا أن العمي يختص بعمى البصيرة والأعمى بعمى البصر ، كما قيل ، ومعنى الآية ظاهر.

« وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٦٥) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٦٦) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (٦٨) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩) قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧١) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (٧٢) »

بيان

قوله تعالى : « وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ » إلى آخر الآية.

١٧٦

الأخ وأصله أخو هو المشارك غيره في الولادة تكوينا لمن ولده وغيره أب أو أم أو هما معا أو بحسب شرع إلهي كالأخ الرضاعي أو سنة اجتماعية كالأخ بالدعاء على ما كان يراه أقوام فهذا أصله ، ثم أستعير لكل من ينتسب إلى قوم أو بلدة أو صنعة أو سجية ونحو ذلك يقال : أخو بني تميم وأخو يثرب وأخو الحياكة وأخو الكرم ، ومن هذا الباب قوله « وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً ».

والكلام في قوله : « قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ » كالكلام في نظير الخطاب من القصة السابقة. فإن قلت : لم حذف العاطف من قوله « قالَ يا قَوْمِ » ولم يقل : فقال كما في قصة نوح؟ قلت : هو على تقدير سؤال كأنه لما قال : « وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً » قيل : فما قال هود؟ فأجيب وقيل : قال يا قوم اعبدوا الله الآية. كذا قاله الزمخشري في الكشاف ،.

ولا يجري هذا الكلام في قصة نوح لأنه أول قصة أوردت ، وهذه القصة قصة بعد قصة يهيأ فيها ذهن المخاطب للسؤال بعد ما وعى إجمال القصة وعلم أن قصة الإرسال تتضمن دعوة وردا وقبولا فكان بالحري إذا سمع المخاطب قوله « وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً » أن يسأل فيقول : ما قال هود لقومه؟ وجوابه قال لهم ( إلخ ).

قوله تعالى : « قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ » إلى آخر الآية. لما كان في هذا الملإ من يؤمن بالله ويستر إيمانه كما سيأتي في القصة بخلاف الملإ من قوم نوح قال هاهنا في قصة هود : « قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ » وقال في قصة نوح : « قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ » كذا ذكره الزمخشري. وقوله تعالى حكاية عن قولهم : « إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ » أكدوا كلامهم مرة بعد مرة لأنهم سمعوا منه مقالا ما كانوا ليتوقعوا صدوره من أحد ، وقد أخذت آلهتهم موضعها من قلوبهم ، واستقرت سنة الوثنية بينهم استقرارا لا يجترئ معه أحد على أن يعترض عليها فتعجبوا من مقاله فردوه ردا عن تعجب ، فجبهوه أولا بأن فيه سفاهة وهو خفة العقل التي تؤدي إلى الخطإ في الآراء ، وثانيا بأنهم يظنون بظن قوي جدا أنه من الكاذبين ، وكأنهم يشيرون بالكاذبين إلى أنبيائهم لأن الوثنيين ما كانوا ليذعنوا بالنبوة وقد جاءهم أنبياء قبل هود كما يذكره

١٧٧

تعالى بقوله : « وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ » : هود : ٥٩.

قوله تعالى : « قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ » الكلام في الآية نظير الكلام في نظيره من قصة نوح غير أن عادا زادوا وقاحة على قوم نوح حيث إن أولئك رموا نوحا بالضلال في الرأي وهؤلاء رموا هودا بالسفاهة لكن هودا لم يترك ما به من وقار النبوة ، ولم ينس ما هو الواجب من أدب الدعوة الإلهية فأجابهم بقوله : « يا قَوْمِ » فأظهر عطوفته عليهم وحرصه على إنجائهم « لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ » فجرى على تجريد الكلام من كل تأكيد واكتفى بمجرد رد تهمتهم وإثبات ما كان يدعيه من الرسالة للدلالة على ظهوره.

قوله تعالى : « أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ » أي لا شأن لي بما أني رسول إلا تبليغ رسالات ربي خالصا من شوب ما تظنون بي من كوني كاذبا فلست بغاش لكم فيما أريد أن أحملكم عليه ، ولا خائن لما عندي من الحق بالتغيير ولا لما عندي من حقوقكم بالإضاعة ، فما أريده منكم من التدين بدين التوحيد هو الذي أراه حقا ، وهو الذي فيه نفعكم وخيركم ، فإنما وصف نفسه بالأمين محاذاة لقولهم : « وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ ».

قوله تعالى : « أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ » إلى آخر الآية. البصطة هي البسطة قلبت السين صادا لمجاورتها الطاء وهو من حروف الإطباق كالصراط والسراط والآلاء جمع إلى بفتح الهمزة وكسرها بمعنى النعمة كآناء جمع أنى وإنى.

ثم أنكر عليه‌السلام تعجبهم من رسالته إليهم نظير ما تقدم من نوح عليه‌السلام وذكرهم نعم الله عليهم ، وخص من بينها نعمتين ظاهرتين هما أن الله جعلهم خلفاء في الأرض بعد نوح ، وأن الله خصهم من بين الأقوام ببسطة الخلق وعظم الهيكل البدني المستلزم لزيادة الشدة والقوة ، ومن هنا يظهر أنهم كانوا ذوي حضارة وتقدم ، وصيت في البأس والقوة والقدرة. ثم أتبعهما بالإشارة إلى سائر النعم بقوله تعالى : « فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ».

قوله تعالى : « قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا » الآية. فيه تعلق منهم بتقليد الآباء ، وتعجيز هود مشوبا بنوع من الاستهزاء بما أنذرهم به

١٧٨

من العذاب.

قوله تعالى : « قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ » إلى آخر الآية. الرجس والرجز هو الأمر الذي إذا وقع على الشيء أوجب ابتعاده أو الابتعاد عنه ، ولذا يطلق على القاذورة لأن الإنسان يتنفر ويبتعد عنه ، وعلى العذاب لأن المعذب ـ اسم مفعول ـ يبتعد عمن يعذبه أو من الناس الآمنين من العذاب.

أجابهم بأن إصرارهم على عبادة الأوثان بتقليد آبائهم أوجب أن يحق عليهم البعد عن الله بالرجس والغضب ، ثم فرع عليه أن هددهم بما يستعجلون من العذاب ، وأخبرهم بنزوله عليهم لا محالة ، وكنى عن ذلك بأمرهم بالانتظار وإخبارهم بأنه مثلهم في انتظار نزول العذاب فقال : « فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ».

وأما قوله : « أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ » فهو رد لما استندوا إليه في ألوهية آلهتهم وهو أنهم وجدوا آباءهم على عبادتها ـ وهم أكمل منهم وممن في طبقتهم كهود وأعقل ـ فيجب عليهم أن يقلدوهم.

ومحصله أنكم وآباءكم سواء في أنكم جميعا أتيتم بأشياء ليس لكم على ما ادعيتم من صفتها وهي الألوهية من سلطان وهو البرهان والحجة القاطعة فلا يبقى لها من الألوهية إلا الأسماء التي سميتموها بها إذ قلتم : إله الخصب وإله الحرب وإله البحر وإله البر ، وليس لهذه الأسماء مصاديق إلا في أوهامكم ، فهل تجادلونني في الأسماء ، وللإنسان أن يسمي كل ما شاء بما شاء إذا لم يعتبر تحقق المعنى في الخارج.

وقد تكرر في القرآن الاستدلال على بطلان الوثنية بهذا البيان : « أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ » وهو من ألطف البيان وأرقه ، وأبلغ الحجة وأقطعها إذ لو لم يأت الإنسان لما يدعيه من دعوى بحجة برهانية لم يبق لما يدعيه من النعت إلا التسمية والتعبير ، ومن أبده الجهل أن يعتمد الإنسان على مثل هذا النعت الموهوم.

وهذا البيان يطرد ويجري بالتحليل في جميع الموارد التي يثق فيها الإنسان على غير الله سبحانه من الأسباب ، ويعطيها من الاستقلال ما يوجب تعلق قلبه بها وطاعته لها وتقربه منها فإن الله سبحانه عد في موارد من كلامه طاعة غيره والركون إلى من سواه عبادة له قال : « أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ

١٧٩

وَأَنِ اعْبُدُونِي » : يس : ٦١.

قوله تعالى : « فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا » إلى آخر الآية ، تنكير الرحمة للدلالة على النوع أي بنوع من الرحمة وهي الرحمة التي تختص بالمؤمنين من النصرة الموعودة لهم قال تعالى : « إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ » : المؤمن : ٥١ ، وقال : « وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ » : الروم : ٤٧.

وقوله : « وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا » الآية كناية عن إهلاكهم وقطع نسلهم فإن الدابر هو الذي يلي الشيء من خلفه فربما وصف به الأمر السابق على الشيء كأمس الدابر ، وربما وصف به اللاحق كدابر القوم وهو الذي في آخرهم فنسبه القطع إلى الدابر بعناية أن النسل اللاحق دابر متصل بالإنسان في سبب ممتد ، وإهلاك الإنسان كذلك كأنه قطع هذا السبب الموصول فيما بينه وبين نسله.

وسيأتي تفصيل البحث عن قصة هود عليه‌السلام في تفسير سورة هود إن شاء الله.

« وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٧٤) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٧٦)

١٨٠