الميزان في تفسير القرآن - ج ٨

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٨

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨٧

الواحد نصف الاثنين والأربعة زوج وأمثال ذلك.

فالإنسان هو الذي يوجد هذه الأفكار والأوهام في نفسه كما أن الشيطان هو الذي يلقيها إليه ويخطرها بباله من غير تزاحم ، ولو كان تسببه فيها نظير التسببات الدائرة فيما بيننا لمن ألقى إلينا خبرا أو حكما أو ما يشبه ذلك لكان إلقاؤه إلينا لا يجامع استقلالنا في التفكير ، ولانتفت نسبة الفعل الاختياري إلينا لكون العلم والترجيح والإرادة له لا لنا ، ولم يترتب على الفعل لوم ولا ذم ولا غيره ، وقد نسبه الشيطان نفسه إلى الإنسان فيما حكاه الله من قوله يوم القيامة : « وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ » : إبراهيم : ٢٢ ، فنسب الفعل والظلم واللوم إليهم وسلبها عن نفسه ، ونفى عن نفسه كل سلطان إلا السلطان على الدعوة والوعد الكاذب كما قال تعالى : « إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ » : الحجر : ٤٢ فنفى سبحانه سلطانه إلا في ظرف الاتباع ونظيره قوله تعالى : « قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ » : ق : ٢٧.

وبالجملة فإن تصرفه في إدراك الإنسان تصرف طولي لا ينافي قيامه بالإنسان وانتسابه إليه انتساب الفعل إلى فاعله لا عرضي ينافي ذلك.

فله أن يتصرف في الإدراك الإنساني بما يتعلق بالحياة الدنيا في جميع جهاتها بالغرور والتزيين فيضع الباطل مكان الحق ويظهره في صورته فلا يرتبط الإنسان بشيء إلا من وجهه الباطل الذي يغره ويصرفه عن الحق ، وهذا هو الاستقلال الذي يراه الإنسان لنفسه أولا ثم لسائر الأسباب التي يرتبط بها في حياته فيحجبه ذلك عن الحق ويلهوه عن الحياة الحقيقية كما تقدم استفادة ذلك من قوله المحكي : « فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ » : الأعراف : ١٦ ، وقوله : « رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ » : الحجر : ٣٩.

ويؤدي ذلك إلى الغفلة عن مقام الحق ، وهو الأصل الذي ينتهي ويحلل إليه كل ذنب قال تعالى : « وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها

٤١

وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ » : الأعراف : ١٧٩.

فاستقلال الإنسان بنفسه وغفلته عن ربه وجميع ما يتفرع عليه من سيئ الاعتقاد ورديء الأوهام والأفكار التي يرتضع عنها كل شرك وظلم إنما هي من تصرف الشيطان في عين أن الإنسان يخيل إليه أنه هو الموجد لها القائم بها لما يراه من استقلال نفسه فقد صبغ نفسه صبغة لا يأتيه اعتقاد ولا عمل إلا صبغه بها.

وهذا هو دخوله تحت ولاية الشيطان وتدبيره وتصرفه من غير أن يتنبه لشيء أو يشعر بشيء وراء نفسه قال تعالى : « إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ » : الأعراف : ٢٧.

وولاية الشيطان على الإنسان في المعاصي والمظالم على هذا النمط نظير ولاية الملائكة عليه في الطاعات والقربات ، قال تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا » : حم السجدة : ٣١ ، والله من ورائهم محيط وهو الولي لا ولي سواه قال تعالى : « ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ » : السجدة : ٤.

وهذا هو الاحتناك أي الإلجام الذي ذكره فيما حكاه الله تعالى عنه بقوله : « قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ » إلى قوله « لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً » : إسراء : ٦٤ ، أي لألجمنهم فأتسلط عليهم تسلط راكب الدابة الملجم لها عليها يطيعونني فيما آمرهم ويتوجهون إلى حيث أشير لهم إليه من غير أي عصيان وجماح.

ويظهر من الآيات أن له جندا يعينونه فيما يأمر به ويساعدونه على ما يريد وهو القبيل الذي ذكر في الآية السابقة : « إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ » وهؤلاء وإن بلغوا من كثرة العدد وتفنن العمل ما بلغوا فإنما صنعهم صنع نفس إبليس ووسوستهم نفس وسوسته كما يدل عليه قوله : « لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ » : الحجر : ٣٩ ،

٤٢

وغيره مما حكته الآيات نظير ما يأتي به أعوان الملائكة العظام من الأعمال فتنسب إلى رئيسهم المستعمل لهم في ما يريده ، قال تعالى في ملك الموت : « قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ » : السجدة : ١١ ، ثم قال : « حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ » : الأنعام ٦١ إلى غير ذلك.

وتدل الآية : « الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ » : الناس : ٦ على أن في جنده اختلافا من حيث كون بعضهم من الجنة وبعضهم من الإنس ويدل قوله : « أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ » : الكهف : ٥٠ ، أن له ذرية هم من أعوانه وجنوده لكن لم يفصل كيفية انتشاء ذريته منه.

كما أن هناك نوعا آخر من الاختلاف يدل عليه قوله : « وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ » في الآية المتقدمة ، وهو الاختلاف من جهة الشدة والضعف وسرعة العمل وبطئه فإن الفارق بين الخيل والرجل هو السرعة في اللحوق والإدراك وعدمها.

وهناك نوع آخر من الاختلاف في العمل ، وهو الاجتماع عليه والانفراد كما يدل عليه أيضا قوله تعالى : « وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ » : المؤمنون : ٩٨ ، ولعل قوله تعالى : « هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ » : الشعراء : ٢٢٣ من هذا الباب.

فملخص البحث : أن إبليس لعنه الله موجود مخلوق ذو شعور وإرادة يدعو إلى الشر ويسوق إلى المعصية كان في مرتبة مشتركة مع الملائكة غير متميز منهم إلا بعد خلق الإنسان وحينئذ تميز منهم ووقع في جانب الشر والفساد ، وإليه يستند نوعا من الاستناد انحراف الإنسان عن الصراط المستقيم وميله إلى جانب الشقاء والضلال ، ووقوعه في المعصية والباطل كما أن الملك موجود مخلوق ذو إدراك وإرادة إليه يستند نوعا من الاستناد اهتداء الإنسان إلى غاية السعادة ومنزل الكمال والقرب ، وأن لإبليس أعوانا من الجن والإنس وذرية مختلفي الأنواع يجرون بأمره إياهم أن يتصرفوا في جميع ما يرتبط به الإنسان من الدنيا وما فيها بإظهار الباطل في صورة الحق ، وتزيين القبيح في صورة الحسن الجميل.

٤٣

وهم يتصرفون في قلب الإنسان وفي بدنه وفي سائر شئون الحياة الدنيا من أموال وبنين وغير ذلك بتصرفات مختلفة اجتماعا وانفرادا ، وسرعة وبطءا ، وبلا واسطة ومع الواسطة والواسطة ربما كانت خيرا أو شرا وطاعة أو معصية.

ولا يشعر الإنسان في شيء من ذلك بهم ولا أعمالهم بل لا يشعر إلا بنفسه ولا يقع بصره إلا بعمله فلا أفعالهم مزاحمة لأعمال الإنسان ولا ذواتهم وأعيانهم في عرض وجود الإنسان غير أن الله سبحانه أخبرنا أن إبليس من الجن وأنهم مخلوقون من النار ، وكأن أول وجوده وآخره مختلفان.

بحث عقلي وقرآني

قال في روح المعاني ، : وقد ذكر الشهرستاني عن شارح الأناجيل الأربعة ـ صورة مناظرة جرت بين الملائكة وبين إبليس ـ بعد هذه الحادثة ، وقد ذكرت في التوراة ، وهي أن اللعين قال للملائكة : إني أسلم أن لي إلها هو خالقي وموجدي ـ لكن لي على حكمه أسئلة :

الأول : ما الحكمة في الخلق ـ لا سيما وقد كان عالما أن الكافر لا يستوجب عند خلقه إلا النار؟.

الثاني : ما الفائدة في التكليف ـ مع أنه لا يعود إليه منه نفع ولا ضرر ، وكل ما يعود إلى المكلفين فهو قادر على تحصيله لهم ـ من غير واسطة التكليف؟

الثالث : هب أنه كلفني بمعرفته وطاعته ـ فلما ذا كلفني بالسجود لآدم؟

الرابع : لما عصيته في ترك السجود ـ فلم لعنني وأوجب عقابي ـ مع أنه لا فائدة له ولا لغيره فيه ـ ولي فيه أعظم الضرر؟.

الخامس : أنه لما فعل ذلك لم سلطني على أولاده ـ ومكنني من إغوائهم وإضلالهم؟.

السادس : لما استمهلته المدة الطويلة في ذلك ـ فلم أمهلني ومعلوم أنه لو كان العالم خاليا من الشر ـ لكان ذلك خيرا؟.

٤٤

قال شارح الأناجيل : فأوحى الله تعالى إليه من سرادق العظمة والكبرياء : يا إبليس أنت ما عرفتني ، ولو عرفتني ـ لعلمت أنه لا اعتراض علي في شيء من أفعالي ـ فإني أنا الله لا إله إلا أنا لا أسأل عما أفعل ، ( انتهى ).

ثم قال الآلوسي : قال الإمام ـ الرازي ـ إنه لو اجتمع الأولون والآخرون من الخلائق وحكموا بتحسين العقل وتقبيحه لم يجدوا من هذه الشبهات مخلصا ، وكان الكل لازما.

ثم قال الآلوسي : ويعجبني ما يحكى أن سيف الدولة بن حمدان خرج يوما على جماعته فقال : قد عملت بيتا ما أحسب أن أحدا يعمل له ثانيا إلا أن كان أبا فراس وكان أبو فراس جالسا ، فقيل له : ما هو؟ فقال قولي.

لك جسمي تعله

فدمي لن تطله

فابتدر أبو فراس قائلا :

قال إن كنت مالكا

فلي الأمر كله

انتهى.

أقول : ما مر من البيان في أول الكلام السابق يصلح لدفع هذه الشبهات الستة عن آخرها ويكفي مئونتها من غير أن يحتاج إلى اجتماع الأولين والآخرين ثم لا ينفعهم اجتماعهم على ما ادعاه الإمام فليست بذاك الذي يحسب ، ولتوضيح الأمر نقول :

أما الشبهة الأولى : فالمراد بالحكمة ـ وهي جهة الخير والصلاح الذي يدعو الفاعل إلى الفعل في الخلق أما الحكمة في مطلق الخلق وهو ما سوى الله سبحانه من العالم ، وأما الحكمة في خلق الإنسان خاصة.

فإن كان سؤالا عن الحكمة في مطلق الخلق والإيجاد فمن المبرهن عليه أنه فاعل تام لمجموع ما سواه غير مفتقر في ذلك إلى متمم يتمم فاعليته ويصلح له ألوهيته فهو مبدأ لما سواه منبع لكل خير ورحمة بذاته ، واقتضاء المبدإ لما هو مبدأ له ضروري ، والسؤال عن الضروري لغو كما أن ملكة الجود تقتضي بذاتها أن ينتشر أثرها وتظهر بركاتها لا لاستدعاء أمر آخر وراء نفسها يوجب لها ظهور الأثر وإلا لم تكن ملكة ، فظهور أثرها

٤٥

ضروري لها وهو أن يتنعم بها كل مستحق على حسب استعداده واستحقاقه ، واختلاف المستحقين في النيل بحسب اختلاف استحقاقهم أمر عائد إليهم لا إلى الملكة التي هي مبدأ الخير.

وأما حديث الحكمة في الخلق والإيجاد بمعنى الغاية وجهة الخير المقصودة للفاعل في فعله فإنما يحكم العقل بوجوب الغاية الزائدة على الفاعل في الفاعل الناقص الذي يستكمل بفعله ويكتسب به تماما وكمالا ، وأما الفاعل الذي عنده كل خير وكمال فغايته نفس ذاته من غير حاجة إلى غاية زائدة كما عرفت في مثال ملكة الجود ، نعم يترتب على فعله فوائد ومنافع كثيرة لا تحصى ونعم إلهية لا تنقطع وهي غير مقصودة إلا ثانيا وبالعرض ، هذا في أصل الإيجاد.

وإن كان السؤال عن الحكمة في خلق الإنسان كما يشعر به قوله بعد : لا سيما وقد كان عالما أن الكافر لا يستوجب عند خلقه إلا النار فالحكمة بمعنى غاية الفاعل والفائدة العائدة إليه غير موجودة لما عرفت أنه تعالى غني بذاته لا يفتقر إلى شيء مما سواه حتى يتم أو يكمل به ، وأما الحكمة بمعنى الغاية الكمالية التي ينتمي إليها الفعل وتحرز فائدته فهو أن يخلق من المادة الأرضية الخسيسة تركيب خاص ينتهي بسلوكه في مسلك الكمال إلى جوهر علوي شريف كريم يفوق بكمال وجوده كل موجود سواه ، ويتقرب إلى ربه تقربا كماليا لا يناله شيء غيره فهذه غاية النوعية الإنسانية.

غير أن من المعلوم أن مركبا أرضيا مؤلفا من الأضداد واقعا في عالم التزاحم والتنافي محفوفا بعلل وأسباب موافقة ومخالفة لا ينجو منها بكله ، ولا يخلص من إفسادها بآثارها المنافية جميع أفراده فلا محالة لا يفوز بالسعادة المطلوبة منه إلا بعض أفراده ، ولا ينجح في سلوكه نحو الكمال إلا شطر من مصاديقه لا جميعها.

وليست هذه الخصيصة أعني فوز البعض بالكمال والسعادة وحرمان البعض مما يختص به الإنسان بل جميع الأنواع المتعلقة الوجود بالمادة الموجودة في هذه النشأة كأنواع الحيوان والنبات وجميع التركيبات المعدنية وغيرها كذلك فشيء من هذه الأنواع الموجودة ـ وهي ألوف وألوف ـ لا يخلو عن غاية نوعية هي كمال وجوده ،

٤٦

وهي مع ذلك لا تنال الكمال إلا بنوعيته ، وأما الأفراد والأشخاص فكثير منها تبطل دون البلوغ إلى الكمال ، وتفسد في طريق الاستكمال بعمل العلل والأسباب المخالفة لأنها محفوفة بها ولا بد لها من العمل فيها جريا على مقتضى عليتها وسببيتها.

ولو فرض شيء من هذه الأنواع غير متأثر من شيء من العوامل المخالفة كالنبات مثلا غير متأثر من حرارة وبرودة ونور وظلمة ورطوبة ويبوسة والسمومات والمواد الأرضية المنافية لتركيبه كان في هذا الفرض إبطال تركيبه الخاص أولا ، وإبطال العلل والأسباب ثانيا ، وفيه إبطال نظام الكون فافهم ذلك.

ولا ضير في بطلان مساعي بعض الأفراد أو التركيبات إذا أدى ذلك إلى فوز بعض آخر بالكمال والغاية الشريفة المقصودة التي هي كمال النوع وغايته فإن الخلقة المادية لا تسع أزيد من ذلك ، وصرف الكثير من المادة الخسيسة التي لا قيمة لها في تحصيل القليل من الجوهر الشريف العالي استرباح حقيقي بلا تبذير أو جزاف.

فالعلة الموجبة لوجود النوع الإنساني لا تريد بفعلها إلا الإنسان الكامل السائر إلى أوج السعادة في دنياه وآخرته إلا أن الإنسان لا يوجد إلا بتركيب مادي ، وهذا التركيب لا يوجد إلا إذا وقع تحت هذا النظام المادي المنبسط على هذه الأجزاء الموجودة في العالم المرتبطة بعضها ببعض المتفاعلة فيما بينها جميعا بتأثيراتها وتأثراتها المختلفة ، ولازم ذلك سقوط بعض أفراد الإنسان دون الوصول إلى كمال الإنسانية فعلة وجود الإنسان تريد السعادة الإنسانية أولا وبالذات ، وأما سقوط بعض الأفراد فإنما هو مقصود ثانيا وبالعرض ليس بالقصد الأولي.

فخلقه تعالى الإنسان حكمته بلوغ الإنسان إلى غايته الكمالية ، وأما علمه بأن كثيرين من أفراده يكونون كفارا مصيرهم إلى النار لا يوجب أن يختل مراده من خلقه النوع الإنساني ، ولا أنه يوجب أن يكون خلقه الإنسان الذي سيكون كافرا علة تامة لكفره أو لصيرورته إلى النار ، كيف؟ وعلة كفره التامة بعد وجوده علل وعوامل خارجية كثيرة جدا ، وآخرها اختياره الذي لا يدع الفعل ينتسب إلا إليه فالعلة التي أوجدت وجوده لم توجد إلا جزء من أجزائه علة كفره ، وأما تعلق القضاء الإلهي

٤٧

بكفره فإنما تعلق به عن طريق الاختيار لا بأن يبطل اختياره وإرادته ويضطر إلى قبول الكفر كسقوط الحجر المرمي إلى فوق نحو الأرض بعامل الثقل اضطرارا.

وأما الشبهة الثانية فقوله : « ما الفائدة في التكليف مع أنه لا يعود إليه منه نفع ولا ضرر؟ » مغالطة من باب إسراء حكم الفاعل الناقص الفقير إلى الفاعل التام الغني في ذاته فحكم العقل بوجوب رجوع فائدة من الفعل إلى الفاعل إنما هو في الفاعل الناقص المستكمل بفعله المنتفع به دون الفاعل المفروض غنيا في ذاته.

فلا حكم من العقل أن كل فاعل حتى ما هو غني في ذاته لا جهة نقص فيه يجب أن يكون له في فعله فائدة عائدة إليه ، ولا أن الموجود الذي هو غني في ذاته لا جهة نقص فيه حتى يستكمل بشيء فهو يمتنع صدور فعل عنه.

والتكليف وإن كان في نفسه أمرا وضعيا اعتباريا لا يجري في متنه الأحكام الحقيقية إلا أنه في المكلفين واسطة ترتبط بها الكمالات اللاحقة الحقيقية بسابقتها فهي وصلة بين حقيقتين :

توضيح ذلك ملخصا : أنا لسنا نشك عن المشاهدة المتكررة والبرهان أن ما بين أيدينا من الأنواع الموجودة التي نسميها بما فيها من النظام الجاري عالما ماديا واقعة تحت الحركة التي ترسم لكل منها بقاء بحسب حاله ، ووجودا ممتدا يبتدي من حالة النقص وينتهي إلى حالة الكمال ، وبين أجزاء هذا الامتداد الوجودي المسمى بالبقاء ارتباطا وجوديا حقيقيا يؤدي به كل سابق إلى لاحقه ، ويتوجه به النوع من منزل من هاتيك المنازل إلى ما يليه بل هو قصد من أول حين يشرع في الحركة آخر مرحلة من شأن حركته أن ينتهي إليه.

فالحبة من القمح من أول ما تنشق للنمو قاصدة نحو شجرة الحنطة الكاملة نشوءا وعليها سنابلها ، والنطفة من الحيوان متوجهة إلى فرد كامل من نوعه واجد لجميع كمالاته النوعية وهكذا ، وليس النوع الإنساني بمستثنى من هذه الكلية البتة فهو أيضا من أول ما يأخذ فرد منه في التكون عازم نحو غايته متوجه إلى مرتبة إنسان كامل واجد لحقيقة سعادته سواء بلغ في مسير حياته إلى ذلك المبلغ أم حالت دونه الموانع.

٤٨

والإنسان لما اضطر بحسب سنخ وجوده إلى أن يعيش عيشة اجتماعية ، والعيشة الاجتماعية إنما تتحقق تحت قوانين وسنن جارية بين أفراد المجتمع وهي عقائد وأحكام وضعية اعتبارية ـ التكاليف الدينية أو غير الدينية ـ تتكون بالعمل بها في الإنسان عقائد وأخلاق وملكات هي الملاك في سعادة الإنسان في دنياه وكذا في آخرته وهي لوازم الأعمال المسماة بالثواب والعقاب.

فالتكليف يستبطن سيرا تدريجيا للإنسان بحسب حالاته وملكاته النفسانية نحو كماله وسعادته يستكمل بطي هذا الطريق والعمل بما فيه طورا بعد طور حتى ينتهي إلى ما هو خير له وأبقى ، ويخيب مسعاه إن لم يعمل به كالفرد من سائر الأنواع الذي يسير نحو كماله فينتهي إليه إن ساعدته موافقة الأسباب ، ويفسد في مسيره نحو الكمال إن خذلته ومنعته.

فقول القائل « وما الفائدة في التكليف؟ » كقوله : ما الفائدة في تغذي النبات؟ أو ما الفائدة في تناسل الحيوان من غير نفع عائد؟.

وأما قوله : « وكل ما يعود إلى المكلفين فهو قادر على تحصيله لهم من غير واسطة التكليف » مغالطة أخرى لما عرفت أن التكليف في الإنسان أو أي موجود سواه يجري في حقه التكليف واقع في طريق السعادة متوسط بين كماله ونقصه في وجوده الذي إنما يتم ويكمل له بالتدريج ، فإن كان المراد بتحصيل ما يعود من التكليف إلى المكلفين من غير واسطة التكليف تعيين طريق آخر لهم بدلا من طريق التكليف ووضع ذاك الطريق موضع هذا الطريق وحال الطريقين في طريقيتهما واحد عاد السؤال في الثاني كالأول : لم عين هذا الطريق وهو قادر على تحصيل ما يعود منه إليهم بغيره؟ والجواب أن العلل والأسباب التي تجمعت على الإنسان مثلا على ما نجدها تقتضي أن يكون مستكملا بالعمل بتكاليف مصلحة لباطنه مطهرة لسره من طريق العادة.

وإن كان المراد بتحصيله من غير واسطة التكليف تحصيله لهم من غير واسطة أصلا وإفاضة جميع مراحل الكمال ومراتب السعادة لهم في أول وجودهم من غير تدريج

٤٩

بسلوك طريق فلازمه بطلان الحركات الوجودية وانتفاء المادة والقوة وجميع شئون الإمكان والموجود المخلوق الذي هذا شأنه مجرد في بدء وجوده تام كامل سعيد في أصل نشأته ، وليس هو الإنسان المخلوق من الأرض الناقص أولا المستكمل تدريجا ففي الفرض خلف.

وأما الشبهة الثالثة فقوله « هب أنه كلفني بمعرفته وطاعته فلما ذا كلفني بالسجود لآدم؟ » فجوابه ظاهر فإن هذا التكليف يتم بالائتمار به صفة العبودية لله سبحانه ، ويظهر بالتمرد عنه صفة الاستكبار ففيه على أي حال تكميل من الله واستكمال من إبليس إما في جانب السعادة وإما في جانب الشقاوة ، وقد اختار الثاني.

على أن في تكليفه وتكليف الملائكة بالسجدة تعيينا للخط الذي خط لآدم فإن الصراط المستقيم الذي قدر لآدم وذريته أن يسلكوه لا يتم أمره إلا بمسدد معين يدعو الإنسان إلى هداه وهو الملائكة ، وعدو مضل يدعوه إلى الانحراف عنه والغواية فيه وهو إبليس وجنوده كما عرفت فيما تقدم من الكلام.

وأما الشبهة الرابعة : فقوله « لما ذا لعنني وأوجب عقابي بعد المعصية ولا فائدة له فيه؟ إلخ. » جوابه أن اللعن والعقاب أعني ما يشتملان عليه من الحقيقة من لوازم الاستكبار على الله الذي هو الأصل المولد لكل معصية ، وليس الفعل الإلهي مما يجر إليه نفعا أو فائدة حتى يمتنع فيما لا نفع فيه يعود إليه كما تقدمت الإشارة إليه.

وليس قوله هذا إلا كقول من يقول فيمن استقى سما وشربه فهلك به : لم لم يجعله الله شفاء وليس له في إماتته به نفع وله فيه أعظم الضرر؟ هلا جعله رزقا طيبا للمسموم يرفع عطشه وينمو به بدنه؟ فهذا كله من الجهل بمواقع العلل والأسباب التي أثبتها الله في عالم الصنع والإيجاد فكل حادث من حوادث الكون يرتبط إلى علل وعوامل خاصة من غير تخلف واختلاف قانونا كليا.

فالمعصية إنما تستتبع العقاب على النفس المتقذرة بها إلا أن تتطهر بشفاعة أو توبة أو حسنة تستدعي المغفرة ، وإبطال العقاب من غير وجود شيء من أسبابه هدم لقانون العلية العام ، وفي انهدامه انهدام كل شيء.

٥٠

وأما الشبهة الخامسة : أعني قوله « إنه لما فعل ذلك لم سلطني على أولاده ومكنني من إغوائهم وإضلالهم؟ » فقد ظهر جوابه مما تقدم فإن الهدى والحق العملي والطاعة وأمثالها إنما تتحقق مع تحقق الضلال والباطل والمعصية وأمثالها ، والدعوة إلى الحق إنما تتم إذا كان هناك دعوة إلى باطل ، والصراط المستقيم إنما يكون صراطا لو كان هناك سبل غير مستقيمة تسلك بسالكها إلى غاية غير غايته.

فمن الضروري أن يكون هناك داع إلى الباطل يهدي إلى عذاب السعير ما دامت النشأة الإنسانية قائمة على ساقها ، والإنسانية محفوظة ببقائها النوعي بتعاقب أفرادها فوجود إبليس من خدم النوع الإنساني ، ولم يمكنه الله منهم ولا سلطه عليهم إلا بمقدار الدعوة كما صرح (١) به القرآن الكريم وحكاه (٢) عنه نفسه فيما يخاطب به الناس يوم القيامة.

وأما الشبهة السادسة : فأما قوله « لما استمهلته المدة الطويلة في ذلك فلم أمهلني؟ » فقد ظهر جوابه مما تقدم آنفا.

وأما قوله : « ومعلوم أن العالم لو كان خاليا من الشر لكان ذلك خيرا » فقد عرفت أن معنى كون العالم خاليا من الشر مأمونا من الفساد كونه مجردا غير مادي ، ولا معنى محصل لعالم مادي يوجد فيه الفعل من غير قوة والخير من غير شر والنفع من غير ضر والثبات من غير تغير والطاعة من غير معصية والثواب من غير عقاب.

وأما ما ذكره من جوابه تعالى عن شبهات إبليس بقوله : « يا إبليس أنت ما عرفتني ولو عرفتني لعلمت أنه لا اعتراض علي في شيء من أفعالي فإني أنا الله الذي لا إله إلا أنا لا أسأل عما أفعل » فجواب يوافق ما في التنزيل الكريم ، قال تعالى : « لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ » : الأنبياء : ٢٣.

وظاهر المنقول من قوله تعالى أنه جواب إجمالي عن شبهاته لعنه الله لا جواب تفصيلي عن كل واحد واحد ، ومحصله : أن هذه الشبهات جميعا سؤال واعتراض عليه

__________________

(١) قوله تعالى : « إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين » الحجر : ٤٢ وقوله : « يدعوهم إلى عذاب السعير » لقمان : ٢١.

(٢) قوله « وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم » إبراهيم : ٢٢.

٥١

تعالى : ولا يتوجه إليه اعتراض لأنه الله لا إله إلا هو لا يسأل عما يفعل.

وظاهر قوله تعالى أن قوله « لا يسأل » متفرع على قوله : « فإني » إلخ ، فمفاد الكلام أن الله تعالى لما كان بآنيته الثابتة بذاته الغنية لذاته هو الإله المبدئ المعيد الذي يبتدئ منه كل شيء وينتهي إليه كل شيء فلا يتعلق في فعل يفعله بسبب فاعلي آخر دونه ، ولا يحكم عليه سبب غائي آخر يبعثه نحو الفعل بل هو الفاعل فوق كل فاعل ، والغاية وراء كل غاية فكل فاعل يفعل بقوة فيه وإن القوة لله جميعا ، وكل غاية إنما تقصد وتطلب لكمال ما فيه وخير ما عنده وبيده الخير كله.

ويتفرع عليه أنه تعالى لا يسأل في فعله عن السبب فإن سبب الفعل إما فاعل وإما غاية وهو فاعل كل فاعل وغاية كل غاية ، وأما غيره تعالى فلما كان ما عنده من قوة الفعل موهوبا له من عند الله ، وما يكتسبه من جهة الخير والمصلحة بإفاضة منه تعالى بتسبيب الأسباب وتنظيم العوامل والشرائط فإنه مسئول عن فعله لم فعله؟ وأكثر ما يسأل عنه إنما هو الغاية وجهة الخير والمصلحة ، وخاصة في الأفعال التي يجري فيه الحسن والقبح والمدح والذم من الأفعال الاجتماعية في ظرف الاجتماع فإنها المتكئة على مصالحه ، فهذا بيان تام يتوافق فيه البرهان والوحي.

وأما المتكلمون فإنهم بما لهم من الاختلاف العميق في مسألة : أن أفعال الله هل تعلل بالأغراض؟ وما يرتبط بها من المسائل اختلفوا في تفسير أن الله لا يسأل عن فعله فالأشاعرة لتجويزهم الإرادة الجزافية واستناد الشرور والقبائح إليه تعالى ذكروا أن له أن يفعل ما يشاء من غير لزوم أن يشتمل فعله على غرض فتنطبق عليه مصلحة محسنة وليس للعقل أن يحكم عليه كما يحكم على غيره بوجوب اشتمال فعله على غرض وهو ترتب مصلحة محسنة على الفعل.

والمعتزلة يحيلون الفعل غير المشتمل على غرض وغاية لاستلزامه اللغو والجزاف المنفي عنه تعالى فيفسرون عدم كونه تعالى مسئولا في فعله بأنه حكيم والحكيم هو الذي يعطي كل ذي حق حقه فلا يفعل قبيحا ولا لغوا ولا جزافا ، والذي يسأل عن فعله هو من يمكن في حقه إتيان القبيح واللغو والجزاف فهو تعالى غير مسئول عما يفعل وهم يسألون.

٥٢

والبحث طويل الذيل وقد تعارك فيه ألوف الباحثين من الطائفتين ومن وافقهم من غيرهم قرونا متمادية ، ولا يسعنا تفصيل القول فيه على ما بنا من ضيق المجال غير أنا نشير إلى حقيقة أخرى يسفر به الحجاب عن وجه الحق في المقام.

لا ريب أن لنا علوما وتصديقات نركن إليها ، ولا ريب أنها على قسمين : القسم الأول : العلوم والتصديقات التي لا مساس لها طبعا بأعمالنا وإنما هي علوم تصديقية تكشف عن الواقع وتطابق الخارج سواء كنا موجودين عاملين أعمالنا الحيوية الفردية أو الاجتماعية أم لا كقولنا : الأربعة زوج ، والواحد نصف الاثنين ، والعالم موجود ، وإن هناك أرضا وشمسا وقمرا إلى غير ذلك ، وهي إما بديهية لا يدخلها شك. وإما نظرية تنتهي إلى البديهيات وتتبين بها.

والقسم الثاني : العلوم العملية والتصديقات الوضعية الاعتبارية التي نضعها للعمل في ظرف حياتنا ، والاستناد إليها في مستوى الاجتماع الإنساني فنستند إليها في إرادتنا ونعلل بها أفعالنا الاختيارية ، وليست مما يطابق الخارج بالذات كالقسم الأول وإن كنا نوقعها على الخارج إيقاعا بحسب الوضع والاعتبار لكن ذلك إنما هو بحسب الوضع لا بحسب الحقيقة والواقعية كالأحكام الدائرة في مجتمعاتنا من القوانين والسنن والشئون الاعتبارية كالولاية والرئاسة والسلطنة والملك وغيرها فإن الرئاسة التي نعتبرها لزيد مثلا في قولنا « زيد رئيس » وصف اعتباري ، وليس في الخارج بحذائه شيء غير زيد الإنسان وليس كوصف الطول أو السواد الذي نعتبرهما لزيد في قولنا « زيد طويل القامة ، أسود البشرة » وإنما اعتبرنا معنى الرئاسة حيث كونا مجتمعا من عدة أفراد لغرض من الأغراض الحيوية وسلمنا إدارة أمر هذا المجتمع إلى زيد ليضع كلا موضعه الذي يليق به ثم يستعمله فيما يريد فوجدنا نسبة زيد إلى المجتمع نسبة الرأس إلى الجسد فوصفناه بأنه رأس لينحفظ بذلك المقام الذي نصبناه فيه وينتفع بآثاره وفوائده.

فالاعتقاد بأن زيدا رأس ورئيس إنما هو في الوهم لا يتعداه إلى الخارج غير أنا نعتبره معنى خارجيا لمصلحة الاجتماع ، وعلى هذا القياس كل معنى دائر في المجتمع الإنساني معتبر في الحياة البشرية متعلق بالأعمال الإنسانية فإنها جميعا مما وضعه الإنسان وقلبها في قالب الاعتبار مراعاة لمصلحة الحياة لا يتعدى وهمه.

٥٣

فهذان قسمان من العلوم ، والفرق بين القسمين : أن القسم الأول مأخوذ من نفس الخارج يطابقه حقيقة ، وهو معنى كونه صدقا ويطابقه الخارج وهو معنى كونه حقا فالذي في الذهن هو بعينه الذي في الخارج وبالعكس : وأما القسم الثاني فإن موطنه هو الذهن من غير أن ينطبق على خارجه إلا أنا لمصلحة من المصالح الحيوية نعتبره ونتوهمه خارجيا منطبقا عليه دعوى وإن لم ينطبق حقيقته.

فكون زيد رئيسا لغرض الاجتماع ككونه أسدا بالتشبيه والاستعارة لغرض التخيل الشعري ، وتوصيفنا في مجتمعنا زيدا بأنه رأس في الخارج كتوصيف الشاعر زيدا بأنه أسد خارجي ، وعلى هذا القياس جميع المعاني الاعتبارية من تصور أو تصديق وهذه المعاني الاعتبارية وإن كانت من عمل الذهن من غير أن تكون مأخوذة من الخارج فتعتمد عليه بالانطباق إلا أنها معتمدة على الخارج من جهة أخرى وذلك أن نقص الإنسان مثلا وحاجته إلى كماله الوجودي ونيله غاية النوع الإنساني هو الذي اضطره إلى اعتباره هذه المعاني تصورا وتصديقا فإبقاء الوجود والمقاصد الحقيقية المادية أو الروحية التي يقصدها الإنسان ويبتغيها في حياته هي التي توجب له أن يعتبر هذه المعاني ثم يبني عليها أعماله فيحرز بها لنفسه ما يريده من السعادة.

ولذلك تختلف هذه الأحكام بحسب اختلاف المقاصد الاجتماعية فهناك أعمال وأمور كثيرة تستحسنها المجتمعات القطبية مثلا وهي بعينها مستقبحة في المجتمعات الاستوائية ، وكذلك الاختلافات الموجودة بين الشرقيين والغربيين وبين الحاضرين والبادين ، وربما يحسن عند العامة من أهل مجتمع واحد ما يقبح عند الخاصة ، وكذلك اختلاف النظر بين الغني والفقير ، وبين المولى والعبد ، وبين الرئيس والمرءوس ، وبين الكبير والصغير ، وبين الرجل والمرأة.

نعم هناك أمور اعتبارية وأحكام وضعية لا تختلف فيها المجتمعات وهي المعاني التي تعتمد على مقاصد حقيقية عامة لا تختلف فيها المجتمعات كوجوب الاجتماع نفسه ، وحسن العدل ، وقبح الظلم ، فقد تحصل أن للقسم الثاني من علومنا أيضا اعتمادا على الخارج وإن كان غير منطبق عليه مستقيما انطباق القسم الأول.

٥٤

إذا عرفت ذلك علمت أن علومنا وأحكامنا كائنة ما كانت معتمدة على فعله تعالى فإن الخارج الذي نماسه فننتزع ونأخذ منه أو نبني عليه علومنا هو عالم الصنع والإيجاد وهو فعله. وعلى هذا فيعود معنى قولنا مثلا : « الواحد نصف الاثنين بالضرورة » إلى أن الله سبحانه يفعل دائما الواحد والاثنين على هذه النسبة الضرورية ، وعلى هذا القياس ، ومعنى قولنا : « زيد رئيس يجب احترامه » أن الله سبحانه أوجد الإنسان إيجادا بعثه إلى هذه الدعوى والمزعمة ثم إلى العمل على طبقه ، وعلى هذا القياس كل ذلك على ما يليق بساحة قدسه عز شأنه.

وإذا علمت هذا دريت أن جميع ما بأيدينا من الأحكام العقلية سواء في ذلك العقل النظري الحاكم بالضرورة والإمكان ، والعقل العملي الحاكم بالحسن والقبح المعتمد على المصالح والمفاسد مأخوذة من مقام فعله تعالى معتمدة عليه.

فمن عظيم الجرم أن نحكم العقل عليه تعالى فنقيد إطلاق ذاته غير المتناهية فنحده بأحكامه المأخوذة من مقام التحديد والتقييد ، أو أن نقنن له فنحكم عليه بوجوب فعل كذا وحرمة فعل كذا وأنه يحسن منه كذا ويقبح منه كذا على ما يراه قوم فإن في تحكيم العقل النظري عليه تعالى حكما بمحدوديته والحد مساوق للمعلولية فإن الحد غير المحدود والشيء لا يحد نفسه بالضرورة ، وفي تحكيم العقل العملي عليه جعله ناقصا مستقبلا تحكم عليه القوانين والسنن الاعتبارية التي هي في الحقيقة دعاو وهمية كما عرفت في الإنسان فافهم ذلك.

ومن عظيم الجرم أيضا أن نعزل العقل عن تشخيص أفعاله تعالى في مرحلتي التكوين والتشريع أعني أحكام العقل النظرية والعملية.

أما في مرحلة النظر فكأن نستخرج القوانين الكلية النظرية من مشاهدة أفعاله ، ونسلك بها إلى إثبات وجوده حتى إذا فرغنا من ذلك رجعنا فأبطلنا أحكام العقل الضرورية معتلا بأن العقل أهون من أن يحيط بساحته أو ينال كنه ذاته ودرجات صفاته ، وأنه فاعل لا بذاته بل بإرادة فعلية ، والفعل والترك بالنسبة إليه على السوية وأنه لا غرض له في فعله ولا غاية ، وأن الخير والشر يستندان إليه جميعا ، ولو أبطلنا الأحكام العقلية في تشخيص خصوصيات أفعاله وسننه في خلقه فقد أبطلناها في الكشف

٥٥

عن أصل وجوده ، وأشكل من ذلك أنا نفينا بذلك مطابقة هذه الأحكام والقوانين المأخوذة من الخارج للمأخوذ منه ، والمنتزعة للمنتزع منه وهو عين السفسطة التي فيها بطلان العلم والخروج عن الفطرة الإنسانية إذ لو خالف شيء من أفعاله تعالى أو نعوته هذه الأحكام العقلية كان في ذلك عدم انطباق الحكم العقلي على الخارج المنتزع عنه ـ وهو فعله ـ ولو جاز الشك في صحة شيء من هذه الأحكام التي نجدها ضرورية كان الجميع مما يجوز فيه ذلك فينتفي العلم ، وهو السفسطة.

وأما في مرحلة العمل فليتذكر أن هذه الأحكام العملية والأمور الاعتبارية دعاو اعتقادية ومخترعات ذهنية وضعها الإنسان ليتوسل بها إلى مقاصده الكمالية وسعادة الحياة فما كان من الأعمال مطابقا لسعادة الحياة وصفها بالحسن ثم أمر بها وندب إليها ، وما كان منها على خلاف ذلك وصفها بالقبح والمساءة ثم نهى عنها وحذر منها ـ وحسن الفعل وقبحه موافقته لغرض الحياة وعدمها ـ والغايات التي تضطر الإنسان إلى جعل هذه الأوامر والنواهي وتقنين هذه الأحكام واعتبار الحسن والقبح في الأفعال هي المصالح المقتضية للجعل ففرض حكم تشريعي ولا حسن في العمل به ولا مصلحة تقتضيه كيفما فرض فرض متطارد الأطراف لا محصل له.

والذي شرعه الله سبحانه من الأحكام والشرائع متحد سنخا مع ما نشرعه فيما بيننا أنفسنا من الأحكام فوجوبه وحرمته وأمره ونهيه ووعده ووعيده مثلا من سنخ ما عندنا من الوجوب والحرمة والأمر والنهي والوعد والوعيد لا شك في ذلك ، وهي معان اعتبارية وعناوين ادعائية غير أن ساحته تعالى منزهة من أن تقوم به الدعوى التي هي من خطإ الذهن فهذه الدعاوي منه تعالى قائمة بظرف الاجتماع كالترجي والتمني منه تعالى القائمين بمورد المخاطبة لكن الأحكام المشرعة منه تعالى كالأحكام المشرعة منا متعلقة بالإنسان الاجتماعي السالك بها من النقص إلى الكمال ، والمتوسل بتطبيق العمل بها إلى سعادة الحياة الإنسانية فثبت أن لفعله تعالى التشريعي مصلحة وغرضا تشريعيا ، ولما أمر به أو نهى عنه حسنا وقبحا ثابتين بثبوت المصالح والمفاسد.

فقول القائل : إن أفعاله التشريعية لا تعلل بالأغراض كما لو قال قائل : إن ما مهده من الطريق لا غاية له ، ومن الضروري أن الطريق إنما يكون طريقا بغايته ،

٥٦

والوسط إنما يكون وسطا بطرفه ، وقول القائل : إنما الحسن ما أمر به الله والقبيح ما نهى عنه فلو أمر بما هو قبيح عقلا ضروريا كالظلم كان حسنا ، ولو نهى عن حسن بالضرورة العقلية كالعدل كان قبيحا كما لو قال قائل : إن الله لو سلك بالإنسان نحو الهلاك والفناء كان فيه حياته السعيدة ، ولو منعه عن سعادته الخالدة الحقيقية عادت السعادة شقاوة.

فالحق الذي لا محيص عنه في المرحلتين : أن العقل النظري مصيب فيما يشخصه ويقضي به من المعارف الحقيقية المتعلقة به تعالى فإنا إنما نثبت له تعالى ما نجده عندنا من صفة الكمال كالعلم والقدرة والحياة ، واستناد الموجودات إليه وسائر الصفات الفعلية العليا كالرحمة والمغفرة والرزق والإنعام والهداية وغير ذلك على ما يهدي إليه البرهان.

غير أن الذي نجده من الصفات الكمالية لا يخلو عن محدودية وهو تعالى أعظم من أن يحيط به حد ، والمفاهيم لا تخلو عنه لأن كل مفهوم مسلوب عن غيره منعزل عما سواه ، وهذا لا يلائم الإطلاق الذاتي فتوسل العقل إلى رفع هذه النقيصة بشيء من النعوت السلبية تنزيها ، وهو أنه تعالى أكبر من أن يوصف بوصف ، وأعظم من أن يحيط به تقييد وتحديد فمجموع التشبيه والتنزيه يقربنا إلى حقيقة الأمر ، وقد تقدم في ذيله قوله تعالى : « لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ » : المائدة : ٧٣ ، من غرر خطب أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ما يبين هذه المسألة بأوفى بيان ويبرهن عليها بأسطع برهان فراجعه إن شئت. هذا كله في العقل النظري.

وأما العقل العملي فقد عرفت أن أحكام هذا العقل جارية في أفعاله تعالى التشريعية غير أنه تعالى إنما شرع ما شرع واعتبر ما اعتبر لا لحاجة منه إليه بل ليتفضل به على الإنسان مثلا وهو ذو الفضل العظيم فيرتفع به حاجة الإنسان فله سبحانه في تشريعه غرض لكنه قائم بالإنسان الذي قامت به الحاجة لا به تعالى ، ولتشريعاته مصالح مقتضية لكن المنتفع بها هو الإنسان دونه كما تقدم.

وإذا كان كذلك كان للعقل أن يبحث في أطراف ما شرعه من الأحكام ويطلب الحصول على الحسن والقبح والمصلحة والمفسدة فيها لكن لا لأن يحكم عليه فيأمره وينهاه ويوجب ويحرم عليه كما يفعل ذلك بالإنسان إذ لا حاجة له تعالى إلى كمال مرجو

٥٧

حتى يتوجه إليه حكم موصل إليه بخلاف الإنسان بل لأنه تعالى شرع الشرائع وسن السنن ثم عاملنا معاملة العزيز المقتدر الذي نقوم له بالعبودية وترجع إليه حياتنا ومماتنا ورزقنا وتدبير أمورنا ودساتير أعمالنا وحساب أفعالنا والجزاء على حسناتنا وسيئاتنا فلا يوجه إلينا حكما إلا بحجة ، ولا يقبل منا معذرة إلا بحجة ، ولا يجزينا جزاء إلا بحجة كما قال : « لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ » : النساء : ١٦٥ ، وقال : « لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ » : الأنفال : ٤٢ إلى غير ذلك من احتجاجاته يوم القيامة على الإنس والجن ولازم ذلك أن يجري في أفعاله تعالى في نظر العقل العملي ما يجري في أفعال غيره بحسب السنن التي سنها.

وعلى ذلك جرى كلامه سبحانه قال : « إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً » : يونس : ٤٤ ، وقال : « إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ » : آل عمران : ٩ ، وقال : « وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ » : الدخان : ٣٨ ، وفي هذا المعنى الآيات الكثيرة التي نفى فيها عن نفسه الرذائل الاجتماعية.

وفي ما تقدم من معنى جريان حكم العقل النظري والعملي في ناحيته تعالى آيات كثيرة ففي القسم الأول كقوله تعالى : « الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ » : آل عمران : ٦٠ ولم يقل : الحق مع ربك لأن القضايا الحقة والأحكام الواقعية مأخوذة من فعله لا متبوعة له في عمله حتى يتأيد بها مثلنا ، وقوله : « وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ » : الرعد : ٤١ ، فله الحكم المطلق من غير أن يمنعه مانع عقلي أو غيره فإن الموانع والمعقبات إنما تتحقق بفعله وهي متأخرة عنه لا حاكمة أو مؤثرة فيه ، وقوله : « وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ » : الرعد ١٦ ، وقوله : « وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ » : يوسف : ٢١ ، وقوله : « إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ » : الطلاق : ٣ ، فهو القاهر الغالب البالغ الذي لا يقهره شيء ولا يغلب عن شيء ولا يحول بينه وبين أمره حائل يزاحمه ، وقوله : « أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ » : الأعراف : ٥٤ ، إلى غير ذلك من الآيات المطلقة التي ليس دونها مقيد.

نعم يجري في أفعاله الحكم العقلي لتشخيص الخصوصيات وكشف المجهولات لا لأن يكون متبوعا بل لأنه تابع لازم مأخوذ من سنته في فعله الذي هو نفس الواقع الخارج ، ويدل على ذلك جميع الآيات التي تحيل الناس إلى التعقل والتذكر والتفكر

٥٨

والتدبر ونحوها فلو لا أنها حجة فيما أفادته لم يكن لذلك وجه.

وفي القسم الثاني : نحو قوله : « اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ » : الأنفال : ٢٤ ، يدل على أن في العمل بالأحكام مصلحة الحياة السعيدة ، وقوله : « قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ » : الأعراف : ٢٨ ، وظاهره أن ما هو فحشاء في نفسه لا يأمر به الله لا أن الله لو أمر بها لم تكن فحشاء ، وقوله : « لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ » : لقمان : ١٣ ، وآيات كثيرة أخرى تعلل الأحكام المجعولة بمصالح موجودة فيها كالصلاة والصوم والصدقات والجهاد وغير ذلك لا حاجة إلى نقلها.

بحث روائي

في تفسير العياشي ، عن داود بن فرقد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إن الملائكة كانوا يحسبون أن إبليس منهم ـ وكان في علم الله أنه ليس منهم ـ فاستخرج الله ما في نفسه بالحمية فقال : « خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ».

وفي الدر المنثور ، أخرج أبو نعيم في الحلية والديلمي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : أول من قاس أمر الدين برأيه إبليس ، قال الله تعالى له :اسجد لآدم ، فقال : « أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ». قال جعفر : فمن قاس أمر الدين برأيه ـ قرنه الله تعالى يوم القيامة بإبليس لأنه اتبعه بالقياس.

وفي الكافي ، بإسناده عن عيسى بن عبد الله القرشي قال : دخل أبو حنيفة على أبي عبد الله عليه‌السلام فقال له : يا أبا حنيفة بلغني أنك تقيس. قال : نعم ، أنا أقيس. قال :لا تقس فإن أول من قاس إبليس ـ حين قال : « خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ».

وفي العيون ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : أن إبليس أول من كفر وأنشأ الكفر :

أقول : ورواه العياشي عن الصادق عليه‌السلام.

وفي الكافي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث : ، أن أول معصية ظهرت الأنانية من إبليس.

٥٩

أقول : وقد تقدم بيانه.

وفي تفسير القمي ، عن الصادق عليه‌السلام : الاستكبار هو أول معصية عصي الله بها.

أقول : قد ظهر مما تقدم من البيان أن مرجعه إلى الأنانية كما في الحديث المتقدم.

وفي النهج : من خطبة له عليه‌السلام في صفة خلق آدم : واستأدى الله سبحانه الملائكة وديعته لهم ، وعهد وصيته إليهم في الإذعان بالسجود له ـ والخشوع لتكرمه فقال سبحانه : اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس وجنوده ـ اعترتهم الحمية ، وغلبت عليهم الشقوة. الخطبة.

أقول : وفيها تعميم الأمر بالسجدة لجنود إبليس كما يعم نفسه ، وفيه تأييد ما تقدم أن آدم إنما جعل مثالا يمثل به الإنسانية من غير خصوصية في شخصه ، وإن مرجع القصة إلى التكوين.

وفي المجمع ، عن الباقر عليه‌السلام في معنى قوله : « ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ ـ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ » الآية « مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ » أهون عليهم الآخرة « وَمِنْ خَلْفِهِمْ » آمرهم بجمع الأموال ـ ومنعها عن الحقوق لتبقى لورثتهم « وَعَنْ أَيْمانِهِمْ » أفسد عليهم أمر دينهم ـ بتزيين الضلالة وتحسين الشبهة « وَعَنْ شَمائِلِهِمْ » بتحبيب اللذة ـ وتغليب الشهوات على قلوبهم.

وفي تفسير العياشي ، عن الصادق عليه‌السلام : والذي بعث محمدا للعفاريت والأبالسة على المؤمن ـ أكثر من الزنابير على اللحم.

وفي المعاني ، عن الرضا عليه‌السلام : أنه سمي إبليس لأنه أبلس من رحمة الله.

وفي تفسير القمي ، حدثني أبي رفعه قال : سئل الصادق عليه‌السلام عن جنة آدم ـ من جنان الدنيا كانت أم من جنان الآخرة؟ فقال : كانت من جنان الدنيا تطلع فيها الشمس والقمر ، ولو كانت من جنان الآخرة ما خرج منها أبدا.

قال : فلما أسكنه الله تعالى الجنة ـ وأباحها له إلا الشجرة ـ لأنه خلق خلقة لا تبقى إلا بالأمر والنهي ـ والغذاء واللباس والاكتنان والنكاح ، ولا يدرك ما ينفعه مما يضره إلا

٦٠