الميزان في تفسير القرآن - ج ٨

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٨

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨٧

ولقد أجاد فيما أفاد غير أن الآحاد من الروايات لا تكون حجة عندنا إلا إذا كانت محفوفة بالقرائن المفيدة للعلم أعني الوثوق التام الشخصي سواء كانت في أصول الدين أو التاريخ أو الفضائل أو غيرها إلا في الفقه فإن الوثوق النوعي كاف في حجية الرواية كل ذلك بعد عدم مخالفة الكتاب والتفصيل موكول إلى فن أصول الفقه.

وأما كون هذا التأذين فضيلة فلا ينبغي الارتياب فيه وليعتبر التأذين الأخروي بالتأذين الدنيوي فالتأذين هو إعلام الحكم من قبل صاحبه ليستقر على المحكومين فالمؤذن هو الرابطة يربط صاحب الحكم بالمحكومين بتقرير حكمه عليهم والرابطة في شرفها وخستها يتبع الطرفين ، ومن الواضح أن الطرف إذا كان هو الله عز اسمه كان في ذلك من الشرف والكرامة ما لا يعادله شيء كما في وساطة إبراهيم عن الله سبحانه في قوله : « وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ » : الحج : ٢٧ ، ووساطة علي عليه‌السلام في إبلاغ آيات البراءة : « وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ » الخ : براءة : ٣ ، هذا في الأذان والاعلام التشريعي الذي يستقر به حكم الحاكم على المحكومين به ، وأما الأذان غير التشريعي كما في أذان يوم القيامة أن لعنة الله على الظالمين ففيه استقرار البعد التام واللعن المطلق الدائم على الظالمين بعد إشهادهم حقية الوعد الإلهي الذي بلغهم منه تعالى من طريق أنبيائه ورسله ، وفيه تثبيت ما في ظهور حقائق الوعد والوعيد للظالمين من النتيجة العائدة إليهم فافهم ذلك ولا يهونن عليك أمر الحقائق ، ولا تساهل في البحث عنها إن كنت ذا قدم فيه.

وهذا هو الذي يشير إليه علي عليه‌السلام نفسه فيما مر من خطبته إذ قال : وأنا المؤذن في الدنيا والآخرة.

والرواية ـ كما تقدم ـ مروية بطرق متعددة من الشيعة عن علي والباقر والرضا عليه‌السلام من طرق أهل السنة ما رواه الحاكم بإسناده عن ابن الحنفية عن علي وبإسناده عن أبي صالح عن ابن عباس والرجل جيد الرواية ضابط في الحديث ينقل في التفاسير الروائية وغيرها رواياته في التفسير لكنهم لم يذكروا روايته هذه حتى مثل السيوطي الذي يستوفي في الدر المنثور ، ما رواه في التفسير ترك ذكر الحديث ، وما أدري ما هو السبب فيه؟.

وفي الدر المنثور ، أخرج أبو الشيخ وابن مردويه وابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يوضع الميزان يوم القيامة فيوزن الحسنات والسيئات ـ فمن

١٤١

رجحت حسناته على سيئاته مثقال صؤابة دخل الجنة ، ومن رجحت سيئاته على حسناته مثقال صؤابة دخل النار.

قيل : يا رسول الله فمن استوى حسناته وسيئاته؟ قال : أولئك أصحاب الأعراف ـ لم يدخلوها وهم يطمعون.

وفيه ، أخرج ابن جرير وابن المنذر عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن أصحاب الأعراف فقال : هم آخر من يفصل بينهم من العباد ـ فإذا فرغ رب العالمين من الفصل بين العباد قال : أنتم قوم أخرجتكم حسناتكم من النار ولم تدخلوا الجنة ـ فأنتم عتقائي فارعوا في الجنة حيث شئتم.

أقول : وروي القول بكون أهل الأعراف هم الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم عن ابن مسعود وحذيفة وابن عباس من الصحابة.

وفي الكافي ، بإسناده عن حمزة الطيار قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : الناس على ستة أصناف ـ إلى أن قال ـ قلت : وما أصحاب الأعراف؟ قال : قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم ـ فإن أدخلهم النار فبذنوبهم ، وإن أدخلهم الجنة فبرحمته ، الحديث.

وفيه ، بإسناده عن زرارة قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : ما تقول في أصحاب الأعراف؟ فقلت : ما هم إلا مؤمنون أو كافرون ـ إن دخلوا الجنة فهم مؤمنون ، وإن دخلوا النار فهم كافرون. فقال : والله ما هم بمؤمنين ولا كافرين ـ ولو كانوا مؤمنين لدخلوا الجنة كما دخلها المؤمنون ، ولو كانوا كافرين لدخلوا النار كما دخلها الكافرون ، ولكنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم ـ فقصرت بهم الأعمال ، وأنهم كما قال الله عز وجل.

فقلت : أمن أهل الجنة هم أم من أهل النار؟ فقال : اتركهم كما تركهم الله. قلت : أفأرجئهم؟ قال : نعم أرجئهم كما أرجأهم الله ـ إن شاء أدخلهم الجنة برحمته ، وإن شاء ساقهم إلى النار بذنوبهم ولم يظلمهم. فقلت : هل يدخل الجنة كافر؟ قال : لا. قلت : فهل يدخل النار إلا كافر؟ فقال : لا إلا أن يشاء الله. يا زرارة إني أقول : ما شاء الله ـ أما إن كبرت رجعت وتحللت عنك عقدك.

أقول : قوله عليه‌السلام : أما إن كبرت إلخ ، أي إن استعظمت قولي ولم تقبله خرجت عما كنت عليه من الحق وانحل ما عقدت عليه قلبك من التصديق.

١٤٢

والروايات ـ كما ترى ـ يفسر أصحاب الأعراف بمن استوت حسناتهم وسيئاتهم في الميزان ، وفي بعضها أن قوله تعالى : « لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ » إلخ ، من كلامهم وهذا لا ينطبق على آيات الأعراف البتة كما مر بيانه.

على أنك عرفت فيما تقدم من تفسير قوله تعالى : « وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ » الخ : الأعراف : ٨ ، أن الميزان الذي يذكره إما أن يثقل وهو رجحان الحسنات أو يخف وهو رجحان السيئات ، ولا معنى حينئذ لاستواء الحسنات والسيئات الذي هو ثقل الميزان وخفته معا! فلو فرض أن هناك من لا يشخص الميزان رجحان بعض أعماله على بعض مثلا كان ممن لا يقام له وزن يوم القيامة كالكافر الذي أحبطت أعماله ، والمستضعف الذي لم تتم عليه الحجة ولم يتعلق به التكليف.

نعم ربما يستفاد من الرواية الأخيرة أن المراد بالذين استوت حسناتهم وسيئاتهم هم المستضعفون المرجون لأمر الله إن يشأ يغفر لهم وإن يشأ يعذبهم. فالاستواء كناية عن عدم الرجحان ، ويندفع حينئذ إشكال الوزن لكن يبقى الإشكال من جهة الانطباق على ظاهر الآيات وفيها من صفات رجال الأعراف وأصحابه ما لا يتصف به إلا السابقون المقربون المتصدرون في حظيرة الكرامة والسعادة ، وهؤلاء المستضعفون إن صح عدهم من أهل السعادة فهم نازلون في أنزل منازلها.

وفي المجمع ، قال أبو عبد الله عليه‌السلام : الأعراف كثبان بين الجنة والنار ـ يوقف عليها كل نبي وكل خليفة ـ مع المذنبين من أهل زمانه ـ كما يقف صاحب الجيش مع الضعفاء من جنده ـ وقد سبق المحسنون إلى الجنة ـ فيقول ذلك الخليفة للمذنبين الواقفين معه : انظروا إلى إخوانكم المحسنين قد سبقوا ـ فيسلم عليهم المذنبون : وذلك قوله : « وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ » ثم أخبر سبحانه وتعالى : أنهم لم يدخلوها وهم يطمعون ـ يعني هؤلاء المذنبين لم يدخلوا الجنة ـ وهم يطمعون أن يدخلهم الله بشفاعة النبي والإمام ، وينظر هؤلاء المذنبون إلى أهل النار فيقولون ـ ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين.

ثم ينادي أصحاب الأعراف وهم الأنبياء والخلفاء ـ رجالا من أهل النار مقرعين لهم ـ ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون ـ أهؤلاء الذين أقسمتم يعني أهؤلاء المستضعفين ـ الذين كنتم تستضعفونهم وتحتقرونهم بفقرهم ـ وتستطيلون بدنياكم عليهم ـ ثم يقولون لهؤلاء

١٤٣

المستضعفين ـ عن أمر من الله بذلك لهم : ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون.

أقول : وروى القمي في تفسيره ، عن أبيه عن الحسن بن محبوب عن أبي أيوب عن مرثد عن أبي عبد الله عليه‌السلام ما يقرب منه.

وهذه الرواية ـ كما ترى ـ تذكر المستضعفين مكان من استوت حسناتهم وسيئاتهم صريحا ثم تذكر أن هناك جماعة من المستضعفين يطمعون في دخول الجنة ويتعوذون من دخول النار من غير أن تفسر بهم الرجال الذين ذكر الله تعالى أنهم على الأعراف يعرفون كلا بسيماهم ، ويسميهم أصحاب الأعراف. ويسهل حينئذ انطباق مضمونها على الآيات ، ولا يبقى من الإشكال إلا ظهور الآيات في أن المسلم على أهل الجنة هم أصحاب الأعراف والرجال الذين على الأعراف.

والظاهر أن في الروايات اختلالا وهو ناشئ عن سوء فهم بعض النقلة ثم النقل ولعل الذي بينه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو بعض الأئمة أن هناك جماعة من المستضعفين يدخلهم الله الجنة بشفاعة أو مشية ثم غيره النقل بالمعنى وأخرجه إلى الصورة التي تراها ، وهذا ظاهر كسائر الروايات الواردة عن ابن عباس وابن مسعود وحذيفة وغيرهم القائلة إن الرجال على الأعراف هم الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم مع ما فيها من الاختلاف في المتون وكذا رواية القمي عن الصادق عليه‌السلام فراجعها تعرف صدق ما ادعيناه.

وفي البصائر ، بإسناده عن جابر بن يزيد قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الأعراف ما هم؟ قال : هم أكرم الخلق على الله تبارك وتعالى.

أقول : السائل يأخذ الأعراف والرجال الذين عليه واحدا وعلى ذلك ورد الجواب منه عليه‌السلام فكأنه أخذ جمعا لعرف بمعنى العريف والعارف وفي هذا المعنى روايات كثيرة يأتي بعضها.

وفيه ، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ » قال : نحن أصحاب الأعراف ـ من عرفنا فمآله إلى الجنة ـ ومن أنكرنا فمآله إلى النار.

أقول : قوله من عرفنا ومن أنكرنا إن كان فعلا وفاعلا فهو ، وإن كان فعلا ومفعولا كان على وزان سائر الروايات من عرفهم وعرفوه ، ومن أنكرهم وأنكروه.

١٤٤

وفيه ، بإسناده عن الأصبغ بن نباتة قال : كنت عند أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال له رجل : « وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ » فقال له علي عليه‌السلام : نحن الأعراف نعرف أنصارنا بسيماهم ، ونحن الأعراف الذين لا يعرف الله إلا بسبيل معرفتنا ـ ونحن الأعراف نوقف يوم القيامة بين الجنة والنار ـ فلا يدخل الجنة إلا من عرفنا وعرفناه ، ولا يدخل النار إلا من أنكرنا وأنكرناه ـ وذلك قول الله عز وجل.

لو شاء لعرف الناس نفسه ـ حتى يعرفوا حده ويأتونه من بابه ، جعلنا أبوابه وصراطه وسبيله وبابه الذي يؤتى منه.

أقول : ورواه أيضا بإسناده عن مقرن عن أبي عبد الله عليه‌السلام والرجل السائل هو ابن الكواء ، وروى هذه القصة أيضا الكليني في الكافي ، عن مقرن قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : جاء ابن الكواء ، إلخ.

والظاهر أن المراد بالمعرفة والإنكار في الرواية المعرفة بالحب والبغض أي لا يدخل الجنة إلا من عرفنا بالولاية وعرفناه بالطاعة ، ولا يدخل النار إلا من أنكر ولايتنا وأنكرنا طاعته ، وهذا غير معرفتهم الجميع بأعيانهم ، وإلا أشكل انطباقه على قوله تعالى : « رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ » وقوله تعالى : « وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ » إلخ ، ولعل ذلك إنما نشأ من نقل بعض الرواة الرواية بالمعنى ، ويؤيد ما استظهرناه ما يأتي في الرواية التالية.

وفي المجمع ، روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده رفعه إلى الأصبغ بن نباتة قال : كنت جالسا عند علي عليه‌السلام ـ فأتاه ابن الكواء فسأله عن هذه الآية ـ فقال ويحك يا ابن الكواء ـ نحن نوقف يوم القيامة بين الجنة والنار ـ فمن نصرنا عرفناه بسيماه فأدخلناه الجنة ـ ومن أبغضنا عرفناه بسيماه فأدخلناه النار.

وفي تفسير العياشي ، عن هلقام عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : سألته عن قول الله : « وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ » ما يعني بقوله : « عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ »؟ » قال : ألستم تعرفون عليكم عرفاء على قبائلكم ـ ليعرفوا من فيها من صالح أو طالح؟ قلت : بلى. قال : فنحن أولئك الرجال الذين يعرفون كلا بسيماهم.

١٤٥

أقول : وهو مبني على أخذ الأعراف جمعا للعرف كأقطاب جمع قطب والعرف هو المعروف من الأمر ولعله مصدر بمعنى المفعول فمعنى « وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ » : وكل على أمورهم وأحوالهم المعروفة منهم رجال ، ولا ينافي ذلك ما تقدم أن الأعراف أعالي الحجاب وكذا ما تقدم في بعض الروايات أن الأعراف كثبان بين الجنة والنار فإن المعرفة التي هي مادة اللفظ حافظة لمعناه في مشتقاته وموارد استعمالها على أي حال.

واعلم أن الأخبار من طرق أئمة أهل البيت عليهم السلام في ما يقرب من هذه المعاني في الأعراف كثيرة جدا ، وفيما أوردناه للإشارة إلى أنواع مضامينها في تفسير الأعراف وأصحاب الأعراف كفاية.

وفي تفسير البرهان ، عن الثعلبي في تفسيره عن ابن عباس أنه قال: الأعراف موضع عال من الصراط ـ عليه العباس وحمزة وعلي بن أبي طالب ـ وجعفر ذو الجناحين ـ يعرفون شيعتهم ببياض الوجوه ـ ومبغضيهم بسواد الوجوه.

أقول : وقد تقدم في البيان السابق نقل الرواية عن مجمع البيان ، عن تفسير الثعلبي عن الضحاك عن ابن عباس.

وفي الدر المنثور ، أخرج الحارث بن أبي أسامة في مسنده وابن جرير وابن مردويه عن عبد الله بن مالك الهلالي عن أبيه : قال قائل : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما أصحاب الأعراف ـ قال : هم قوم خرجوا في سبيل الله بغير إذن آبائهم ـ فاستشهدوا فمنعتهم الشهادة أن يدخلوا النار ، ومنعتهم معصية آبائهم أن يدخلوا الجنة ـ فهم آخر من يدخل الجنة.

أقول : وهذا المعنى مروي بطرق أخرى عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة وابن عباس وقد تقدم الإشكال عليه بعدم الانطباق على ظاهر الآيات ، والأصول المسلمة تعطي أنه إن تعين الخروج وجوبا عينيا لم يؤثر فيه عدم إذن الوالدين ، وإن لم يتعين وبقي على الكفاية كان الخروج محرما ولم ينفعه القتل في المعركة إلا أن يكون مستضعفا من جهة الجهل بالحكم فيعود إلى القول بكون أصحاب الأعراف هم المستضعفين ويجري فيه البحث السابق.

« إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ

١٤٦

ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٥٤) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨) »

بيان

الآيات متصلة بما قبلها مرتبطة بها فإن الآيات السابقة كانت تبين وبال الشرك بالله والتكذيب بآياته وأن ذلك يسوق الإنسان إلى هلاك مؤبد وشقاء مخلد ، وهذه الآيات تعلل ذلك بأن رب الجميع واحد إليه تدبير الكل يجب عليهم أن يدعوه ويشكروا له وتؤكد توحيد رب العالمين من جهتين :

إحداهما : أنه تعالى هو الذي خلق السماوات والأرض جميعا ثم دبر أمرها بالنظام الأحسن الجاري فيها الرابط بينها جميعا فهو رب العالمين.

والثانية : أنه تعالى هو الذي يهيئ لهم الأرزاق بإخراج أنواع الثمرات التي يرتزقون بها بخلق ذلك بأعجب الطرق المتخذة لذلك وألطفها وهو الإمطار فهو ربهم لا رب سواه.

١٤٧

قوله تعالى : « إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ » سيأتي البحث في معنى السماء والأيام الستة التي خلقتا فيها في تفسير سورة حم السجدة إن شاء الله.

قوله تعالى : « ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ـ إلى قوله ـ بِأَمْرِهِ » ـ الاستواء ـ الاعتدال على الشيء والاستقرار عليه ، وربما استعمل بمعنى التساوي ، يقال : استوى زيد وعمرو أي تساويا قال تعالى : « لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ ».

و ـ العرش ـ ما يجلس عليه الملك وربما كني به عن مقام السلطنة ، قال الراغب في المفردات : العرش في الأصل شيء مسقف ، وجمعه عروش قال : « وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها » ومنه قيل : عرشت الكرم وعرشتها إذا جعلت له كهيئة سقف. قال : والعرش شبه هودج للمرأة تشبيها في الهيئة بعرش الكرم ، وعرشت البئر جعلت له عريشا ، وسمي مجلس السلطان عرشا اعتبارا بعلوه. قال : وعرش الله ما لا يعلمه البشر على الحقيقة إلا بالاسم ، وليس كما يذهب إليه أوهام العامة فإنه لو كان كذلك لكان حاملا له ـ تعالى عن ذلك ـ لا محمولا والله تعالى يقول : « إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ » ، وقال قوم : هو الفلك الأعلى والكرسي فلك الكواكب ، واستدل بما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما السماوات السبع والأرضون السبع في جنب الكرسي ـ إلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة ـ والكرسي عند العرش كذلك( انتهى ).

وقد استقرت العادة منذ القديم أن يختص العظماء من ولاة الناس وحكامهم ومصادر أمورهم من المجلس بما يختص بهم ويتميزون به عن غيرهم كالبساط والمتكإ حتى آل الأمر إلى إيجاد السرر والتخوت فاتخذ للملك ما يسمى عرشا وهو أعظم وأرفع وأخص بالملك ، والكرسي يعمه وغيره ، واستدعى التداول والتلازم أن يعرف الملك بالعرش كما كان العرش يعرف بالملك في أول الأمر فصار العرش حاملا لمعنى الملك ممثلا لمقام السلطنة إليه يرجع وينتهي ، وفيه تتوحد أزمة المملكة في تدبير أمورها وإدارة شئونها.

واعتبر لاستيضاح ذلك مملكة من الممالك قطنت فيها أمة من الأمم لعوامل طبيعية أو اقتصادية أو سياسية استقلوا بذلك في أمرهم وتميزوا من غيرهم فأوجدوا مجتمعا من المجتمعات الإنسانية واختلطوا وامتزجوا بالأعمال ونتائجها ثم اقتسموا في

١٤٨

التمتع بالنتائج فاختص كل بشيء منها على قدر زنته الاجتماعية.

كان من الواجب أن تحفظ هذه الوحدة والاتصال المتكون بالاجتماع بمن يقوم عليها فإن التجربة القطعية أوضحت للإنسان أن العوامل المختلفة والأعمال والإرادات المتشتتة إذا وجهت نحو غرض واحد وسيرت في مسير واحد لم تدم على نعت الاتحاد والملاءمة إلا أن تجمع أزمة الأمور المختلفة في زمام واحد وتوضع في يد من يحفظه ويديم حياته بالتدبير الحسن فتحيا به الجميع وإلا فسرعان ما تتلاشى وتتشتت.

ولذلك ترى أن المجتمع المترقي ينوع الأعمال الجزئية نوعا نوعا ثم يقدم زمام كل نوع إلى كرسي من الكراسي كالدوائر والمصالح الجزئية المحلية ، ثم ينوع أزمة الكراسي فيعطي كل نوع كرسيا فوق ذلك ، وعلى هذا القياس حتى ينتهي الأمر إلى زمام واحد يقدم إلى العرش ويهدى لصاحب العرش.

ومن عجيب أمر هذا الزمام وانبساطه وسعته في عين وحدته أن الأمر الواحد الصادر من هذا المقام يسير في منازل الكراسي التابعة له على كثرتها واختلاف مراتبها فيتشكل في كل منزل بشكل يلائمه ويعرف فيه ، ويتصور لصاحبه بصورة ينتفع بها ويأخذها ملاكا لعمله. يقول مصدر الأمر « ليجر الأمر » فتأخذه المصالح المالية تكليفا ماليا ومصالح السياسية تكليفا سياسيا ، ومصالح الجيش تكليفا دفاعيا وعلى هذا القياس كلما صعد أو نزل.

فجميع تفاصيل الأعمال والإرادات والأحكام المجراة فيها المنبسطة في المملكة وهي لا تحصى كثرة أو لا تتناهى لا تزال تتوحد وتجتمع في الكراسي حتى تنتهي إلى العرش فتتراكم عنده بعضها على بعض وتندمج وتتداخل وتتوحد حتى تصير واحدا هو في وحدته كل التفاصيل فيما دون العرش ، وإذا سار هذا الواحد إلى ما دونه لم يزل يتكثر ويتفصل حتى ينتهي إلى أعمال أشخاص المجتمع وإراداتهم.

هذا في النظام الوضعي الاعتبار الذي عندنا ، وهو لا محالة مأخوذ من نظام التكوين ، والباحث عن النظام الكوني يجد أن الأمر فيه على هذه الشاكلة ، فالحوادث الجزئية تنتهي إلى علل وأسباب جزئية ، وتنتهي هي إلى أسباب أخرى كلية حتى تنتهي الجميع إلى الله سبحانه غير أن الله سبحانه مع كل شيء وهو محيط بكل شيء ، وليس

١٤٩

كذلك الملك من ملوكنا لحقيقية ملكه تعالى واعتبارية ملك غيره.

ففي عالم الكون على اختلاف مراحل مرحلة تنتهي إليها جميع أزمة الحوادث الملقاة على كواهل الأسباب ، وأزمة الأسباب على اختلاف أشخاصها وأنواعها ، وترتب مراتبها هو المسمى عرشا كما سيجيء ، وفيه صور الأمور الكونية المدبرة بتدبير الله سبحانه كيفما شاء ، وعنده مفاتح الغيب.

فقوله تعالى : « ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ » كناية عن استيلائه على ملكه وقيامه بتدبير الأمر قياما ينبسط على كل ما دق وجل ، ويترشح منه تفاصيل النظام الكوني ينال به كل ذي بغية بغيته ، وتقضي لكل ذي حاجة حاجته ، ولذلك عقب حديث الاستواء في سورة يونس في مثل الآية بقوله : « يُدَبِّرُ الْأَمْرَ » إذ قال : « ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ » : يونس : ٣.

ثم فصل بقوله : « يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ » ويستره به « يَطْلُبُهُ » أي يطلب الليل النهار ليغشيه ويستره « حَثِيثاً » أي طلبا حثيثا سريعا ، وفيه إشعار بأن الظلمة هي الأصل ، والنهار الذي يحصل من إنارة الشمس ما يواجهها مما حولها ، عارض لليل الذي هو الظلمة المخروطية اللازمة لأقل من نصف كرة الأرض المقابل للجانب المواجه للشمس كان الليل يعقبه ويهجم عليه.

وقوله : « وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ » أي خلقهن والحال أنها مسخرات بأمره يجرين على ما يشاء ولما يشاء وقرئ الجميع بالرفع ، وعلى ذلك فالشمس مبتدأ والقمر والنجوم معطوفة عليها ، ومسخرات خبره ، والباء في قوله : « بِأَمْرِهِ » للسببية.

ومجموع قوله : « يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ » إلخ ، يجري مجرى التفسير لقوله : « ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ » على ما يعطيه السياق ، وهو الذي تعطيه أغلب الآيات القرآنية التي يذكر فيها العرش فإنها تذكر معه شيئا من التدبير أو ما يئول إليه بحسب المعنى.

قوله تعالى : « أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ » ـ الخلق ـ هو التقدير بضم شيء إلى شيء وإن استقر ثانيا في عرف الدين وأهله في معنى الإيجاد أو الإبداع على غير مثال سابق ، وأما ـ الأمر ـ فيستعمل في معنى الشأن وجمعه أمور ، ومصدرا بمعنى يقرب من بعث الإنسان غيره نحو ما يريده يقال أمرته بكذا أمرا ، وليس من البعيد

١٥٠

أن يكون هذا هو الأصل في معنى اللفظ ثم يستعمل الأمر اسم مصدر بمعنى نتيجة الأمر وهو النظم المستقر في جميع أفعال المأمور المنبسط على مظاهر حياته ، فينطبق في الإنسان على شأنه في الحياة ثم يتوسع فيه فيستعمل بمعنى الشأن في كل شيء فأمر كل شيء هو الشأن الذي يصلح له وجوده ، وينظم له تفاريق حركاته وسكناته وشتى أعماله وإراداته ، يقال : أمر العبد إلى مولاه ، أي هو يدبر حياته ومعاشه ، وأمر المال إلى مالكه ، وأمر الإنسان إلى ربه أي بيده تدبيره في مسير حياته.

ولا يرد عليه أن الأمر بمعنى الشأن يجمع على « أمور » وبمعنى يقابل النهي على « أوامر » وهو ينافي رجوع أحدهما إلى الآخر معنى! ، فإن أمثال هذه التفننات كثيرة في اللغة يعثر عليها المتتبع الناقد فالأمر كالمتوسط بين من يملكه وبين من يملك منه كالمولى والعبد ويضاف إلى كل منهما يقال : أمر العبد وأمر المولى ، قال تعالى : « وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ » : البقرة : ٢٧٥ ، وقال : « أَتى أَمْرُ اللهِ » : النحل : ١.

وقد فسر سبحانه أمره الذي يملكه من الأشياء بقوله : « إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ » : يس : ٨٣ ، فبين أن أمره الذي يملكه من كل شيء سواء كان ذاتا أو صفة أو فعلا وأثرا هو قول كن وكلمة الإيجاد وهو الوجود الذي يفيضه عليه فيوجد هو به ، فإذا قال لشيء : كن فكان ، فقد أفاض عليه ما وجد به من الوجود ، وهذا الوجود الموهوب له نسبة إلى الله سبحانه وهو بذاك الاعتبار أمره تعالى وكلمة « كن » الإلهية ، وله نسبة إلى الشيء الموجود ، وهو بذاك الاعتبار أمره الراجع إلى ربه ، وقد عبر عنه في الآية بقوله : « فَيَكُونُ ».

وقد ذكر تعالى لكل من النسبتين ـ وإن شئت فقل : للإيجاد المنسوب إليه تعالى وللوجود المنسوب إلى الشيء ـ نعوتا وأحكاما مختلفة سنبحث عنها إن شاء الله في محل يناسبه.

والحاصل : أن الأمر هو الإيجاد سواء تعلق بذات الشيء أو بنظام صفاته وأفعاله فأمر ذوات الأشياء إلى الله وأمر نظام وجودها إلى الله لأنها لا تملك لنفسها شيئا البتة ، والخلق هو الإيجاد عن تقدير وتأليف سواء كان ذلك بنحو ضم شيء إلى شيء كضم أجزاء النطفة بعضها إلى بعض وضم نطفة الذكور إلى نطفة الإناث ثم ضم الأجزاء الغذائية إليها في شرائط خاصة حتى يخلق بدن إنسان مثلا ، أم من غير أجزاء مؤلفة كتقدير ذات

١٥١

الشيء البسيط وضم ما له من درجة الوجود وحده وما له من الآثار والروابط التي له مع غيره ، فالأصول الأولية مقدرة مخلوقة كما أن المركبات مقدرة مخلوقة. قال الله تعالى : « وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً » : الفرقان : ٢ ، وقال : « الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى » : طه : ٥٠ ، وقال : « اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ » : الزمر : ٦٢ ، فعمم خلقه كل شيء.

فقد اعتبر في معنى الخلق تقدير جهات وجود الشيء وتنظيمها سواء كانت متمايزة منفصلا بعضها عن بعض أم لا بخلاف الأمر.

ولذا كان الخلق يقبل التدريج كما قال : « خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ » بخلاف الأمر قال تعالى : « وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ » : القمر : ٥٠ ، ولذلك أيضا نسب في كلامه إلى غيره الخلق كقوله : « وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها » : المائدة : ١١٠ ، وقال : « فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ » : المؤمنون : ١٤. وأما الأمر بهذا المعنى فلم ينسبه إلى غيره بل خصه بنفسه ، وجعله بينه وبين ما يريد حدوثه وكينونته كالروح الذي يحيا به الجسد.

انظر إلى قوله تعالى : « وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ » وقوله : « وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ » : الروم : ٤٦ ، وقوله : « يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ » : النحل : ٢ ، وقوله : « وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ » : الأنبياء : ٢٧ ، إلى غير ذلك من الآيات تجد أنه تعالى يجعل ظهور هذه الأشياء بسببية أمره أو بمصاحبة أمره ، فنلخص أن الخلق والأمر يرجعان بالآخرة إلى معنى واحد وإن كانا مختلفين بحسب الاعتبار.

فإذا انفرد كل من الخلق والأمر صح أن يتعلق بكل شيء ، كل بالعناية الخاصة به ، وإذا اجتمعا كان الخلق أحرى بأن يتعلق بالذوات لما أنها أوجدت بعد تقدير ذواتها وآثارها ، ويتعلق الأمر بآثارها والنظام الجاري فيها بالتفاعل العام بينها لما أن الآثار هي التي قدرت للذوات ولا وجه لتقدير المقدر فافهم ذلك.

ولذلك قال تعالى : « أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ » فأتى بالعطف المشعر بالمغايرة بوجه وكان المراد بالخلق ما يتعلق من الإيجاد بذوات الأشياء ، وبالأمر ما يتعلق بآثارها والأوضاع الحاصلة فيها والنظام الجاري بينها كما ميز بين الجهتين في أول الآية حيث قال : « خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ » وهذا هو إيجاد الذوات « ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ

١٥٢

يُدَبِّرُ الْأَمْرَ » وهو إيجاد النظام الأحسن بينها بإيقاع الأمر تلو الأمر والإتيان بالواحد منه بعد الواحد.

وما ربما يقال : إن العطف لا يقتضي المغايرة ، ولو اقتضى ذلك لدل في قوله : « مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ » : البقرة : ٩٨ على كون جبريل من غير جنس الملائكة! مدفوع بأن المراد مغايرة ما ولو اعتبارا لقبح قولنا جاءني زيد وزيد ورأيت عمرا وعمرا فلا محيص عن مغايرة ما ولو بحسب الاعتبار ، وجبريل مع كونه من جنس الملائكة يغايره غيره بما له من المقام المعلوم والقوة والمكانة عند ذي العرش.

وقوله تعالى : « تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ » أي كان ذا بركات ينزلها على مربوبيه من جميع من في العالمين فهو ربهم.

كلام في معنى العرش

للناس في معنى العرش بل في معنى قوله : « ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ » والآيات التي في هذا المساق مسالك مختلفة ، فأكثر السلف على أنها وما يشاكلها من الآيات من المتشابهات التي يجب أن يرجع علمها إلى الله سبحانه ، وهؤلاء يرون البحث عن الحقائق الدينية والتطلع إلى ما وراء ظواهر الكتاب والسنة بدعة ، والعقل يخطئهم في ذلك والكتاب والسنة لا يصدقانهم فآيات الكتاب تحرض كل التحريض على التدبر في آيات الله وبذل الجهد في تكميل معرفة الله ومعرفة آياته بالتذكر والتفكر والنظر فيها والاحتجاج بالحجج العقلية ، ومتفرقات السنة المتواترة معنى توافقها ، ولا معنى للأمر بالمقدمة والنهي عن النتيجة ، وهؤلاء هم الذين كانوا يحرمون البحث عن حقائق الكتاب والسنة ـ حتى البحث الكلامي الذي بناؤه على تسليم الظواهر الدينية ووضعها على ما تفيده بحسب الفهم العامي ثم الدفاع عنها بما تيسر من المقدمات المشهورة والمسلمة عند أهل الدين ـ ويعدونها بدعة فلنتركهم وشأنهم.

وأما طبقات الباحثين فقد اختلفوا في معناه على أقوال :

١ ـ حمل الكلمة على ظاهر معناها فالعرش عندهم مخلوق كهيئة السرير له قوائم وهو موضوع على السماء السابعة والله ـ تعالى عما يقول الظالمون ـ مستو عليه كاستواء

١٥٣

الملوك منا على عروشهم ، وأكثر هؤلاء على أن العرش والكرسي شيء واحد ، وهو الذي وصفناه.

وهؤلاء هم المشبهة من المسلمين ، والكتاب والسنة والعقل تخاصمهم في ذلك وتنزه رب العالمين أن يماثل شيئا من خلقه ويشبهه في ذات ، أو صفة ، أو فعل تعالى وتقدس.

٢ ـ أن العرش هو الفلك التاسع المحيط بالعالم الجسماني والمحدد للجهات والأطلس الخالي من الكواكب ، والراسم بحركته اليومية للزمان ، وفي جوفه مماسا به الكرسي وهو الفلك الثامن الذي فيه الثوابت ، وفي جوفه الأفلاك السبعة الكلية التي هي أفلاك السيارات السبع : زحل والمشتري والمريخ والشمس والزهرة وعطارد والقمر بالترتيب محيطا بعضها ببعض.

وهذه هي التي يفرضها علم الهيئة على مسلك بطليموس لتنظيم الحركات العلوية الظاهرة للحس طبقوا عليها ما يذكره القرآن من السماوات السبع والكرسي والعرش فما وجدوا من أحكامها المذكورة في الهيئة والطبيعيات لا يخالف الظواهر قبلوه ، وما وجدوه يخالف الظواهر الموجودة في الكتاب ردوه كقولهم : ليس للفلك المحدد وراء لا خلأ ولا ملأ ، وقولهم بدوام الحركات الفلكية ، واستحالة الخرق والالتيام عليها ، وكون كل فلك يماس بسطحه سطح غيره من غير وجود بعد بينها ولا سكنة فيها ، وكون أجسامها بسيطة متشابهة لا ثقب فيها ولا باب.

والظواهر من القرآن والحديث تثبت أن وراء العرش حجبا وسرادقات ، وأن له قوائم ، وأن له حملة ، وأن الله سيطوي السماء كطي السجل للكتب ، وأن في السماء سكنة من الملائكة ليس فيها موضع إهاب إلا وفيه ملك راكع أو ساجد يلجونه وينزلون منه ويصعدون إليه ، وأن للسماء أبوابا ، وأن الجنة فيها عند سدرة المنتهى التي ينتهي إليها أعمال العباد إلى غير ذلك مما ينافي بظاهره ما افترضه علماء الهيئة والطبيعيات سابقا ، والقائلون منا إن السماوات والكرسي والعرش هي ما افترضوه من الأفلاك التسعة الكلية يدفعون ذلك كله بمخالفة الظواهر.

ولم ينبههم هذا الاختلاف في الوصف على أن ما يصفه القرآن غير ما يفترضه أولئك لتوجيه الحركات العلوية حتى أوضحت الأبحاث الأخيرة العميقة في الهيئة والطبيعيات المؤيدة بالحس والتجربة بطلان الفرضيات السابقة من أصلها فاضطر هؤلاء

١٥٤

إلى فسخ تطبيقهم ورفع اليد عنه.

٣ ـ أن لا مصداق للعرش خارجا وإنما قوله تعالى : « ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ » و « الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى » كناية عن استيلائه تعالى على عالم الخلق ، وكثيرا ما يطلق الاستواء على الشيء على الاستيلاء عليه كما قيل :

قد استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق

أو أن الاستواء على العرش معناه الشروع في تدبير الأمور كما أن الملوك إذا أرادوا الشروع في إدارة أمور مملكتهم استووا على عروشهم وجلسوا عليه والشروع والأخذ في أمر وجميع ما ينبئ عن تغير الأحوال وتبدلها وإن كانت ممتنعة في حقه تعالى لتنزهه تعالى عن التغير والتبدل لكن شأنه تعالى يسمى شروعا وأخذا بالنظر إلى حدوث الأشياء بذواتها وأعيانها يومئذ فيسمى شأنه تعالى وهو الشمول بالرحمة إذا تعلق بها شروعا وأخذا بالتدبير نظير سائر الأفعال الحادثة المقيدة بالزمان المنسوبة إليه تعالى كقولنا خلق الله فلانا ، وأحيا فلانا ، وأمات فلانا ، ورزق فلانا ، ونحو ذلك.

وفيه : أن كون قوله : « ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ » جاريا مجرى الكناية بحسب اللفظ وإن كان حقا لكنه لا ينافي أن يكون هناك حقيقة موجودة تعتمد عليها هذه العناية اللفظية ، والسلطة والاستيلاء والملك والإمارة والسلطنة والرئاسة والولاية والسيادة وجميع ما يجري هذا المجرى فينا أمور وضعية اعتبارية ليس في الخارج منها إلا آثارها على ما سمعته منا كرارا في الأبحاث الاعتبارية السابقة ، والظواهر الدينية تشابه من حيث البيان ما عندنا من بيانات أمورنا وشئوننا الاعتبارية لكن الله سبحانه يبين لنا أن هذه البيانات وراءها حقائق واقعية ، وجهات خارجية ليست بوهمية اعتبارية.

فمعنى الملك والسلطنة والإحاطة والولاية وغيرها فيه سبحانه هو المعنى الذي نفهمه من كل هذه الألفاظ عندنا لكن المصاديق غير المصاديق فلها هناك مصاديق حقيقية خارجية على ما يليق بساحة قدسه تعالى وأما ما عندنا من مصاديق هذه المفاهيم فهي أوصاف ذهنية ادعائية وجهات وضعية اعتبارية لا تتعدى الوهم ، وإنما وضعناها وأخذنا بها للحصول على آثار حقيقية هي آثارها بحسب الدعوى فلا يسمى الرئيس رئيسا إلا لأن يتبع الذين نسميهم مرءوسين إراداته وعزائمه لا لأن الجماعة بدون حقيقة وهو

١٥٥

رأسهم حقيقة ، ولا نسمي جزء الهيئة المؤتلفة عضوا لأنه يد أو رجل أو كبد أو رئة حقيقة بل لأن يتصدى من الأمور المقصودة في هذا التشكيل والاجتماع ما يتصداه عضو من الأعضاء الموجودة في بدن الإنسان مثلا.

وهذا هو الذي يسميه الله تعالى لعبا ولهوا إذ يقول : « وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ » : العنكبوت : ٦٤ ، فالمقاصد الدنيوية من زينة ومال وأولاد وتقدم ورئاسة وحكومة وأمثالها ليست إلا عناوين وهمية لا تحقق لها إلا في الأوهام ، وليس الاشتغال بها لغير المقاصد الأخروية إلا اشتغالا بأمور وهمية وصور خيالية ، ولا المسابقة في تحصيلها إلا كمسابقة الأطفال في تحصيل التقدم في الملاعب التي يشتغلون بها ، وليس إلا تحصيل حالة خيالية ليس منها في خارجة عين ولا أثر.

وحاشا لله سبحانه أن يذم هذه الحياة الفانية الغارة ، ويسميها لعبا لما تشتمل عليه من الشئون الوهمية ثم يكون تعالى وتقدس أول اللاعبين!.

وبالجملة قوله تعالى : « ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ » في عين أنه تمثيل يبين به أن له إحاطة تدبيرية لملكه يدل على أن هناك مرحلة حقيقية هي المقام الذي يجتمع فيه جميع أزمة الأمور على كثرتها واختلافها ، ويدل عليه آيات أخر تذكر العرش وحده وينسبه إليه تعالى كقوله تعالى : « وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ » : التوبة : ١٢٩ ، وقوله : « الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ » : المؤمن : ٧ ، وقوله : « وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ » : الحاقة : ١٧ ، وقوله : « حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ » : الزمر : ٧٥.

فالآيات ـ كما ترى ـ تدل بظاهرها على أن العرش حقيقة من الحقائق العينية وأمر من الأمور الخارجية ، ولذلك نقول : إن للعرش في قوله : « ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ » مصداقا خارجيا ، ولم يوضع في الكلام لمجرد تتميم المثل كما نقوله في أمثال كثيرة مضروبة في القرآن فلا نقول في مثل آية النور مثلا : أن في الوجود زجاجة إلهية أو شجرة زيتونة إلهية أو زيتا إلهيا ، ونقول : إن في الوجود عرشا إلهيا أو لوحا وقلما إلهيين وكتابا مكتوبا فافهم ذلك.

وهذا العرش الذي يستفاد من مثل قوله : « ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ » أنه مقام في الوجود يجتمع فيه أزمة الحوادث والأمور كما يجتمع أزمة المملكة في عرش الملك على

١٥٦

التفصيل الذي تقدم في بيان الآية يدل على تحقق هذه الصفة له قوله تعالى : « ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ » : يونس : ٣ ، ففسر الاستواء على العرش بتدبير الأمر منه ، وعقبه بقوله : « ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ » والآية لما كانت في مقام وصف الربوبية والتدبير التكويني كان المراد بالشفاعة الشفاعة في أمر التكوين ، وهو السببية التي توجد في الأسباب التكوينية التي هي وسائط متخللة بين الحوادث والكائنات وبينه تعالى كالنار المتخللة بينه وبين الحرارة التي يخلقها ، والحرارة المتخللة بينه وبين التخلخل أو ذوبان الأجسام فنفي السببية عن كل شيء إلا من بعد إذنه لإفادة توحيد الربوبية التي يفيده صدر الآية : « إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ».

وفي قوله : « ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ » بيان حقيقة أخرى وهي رجوع التخلف في التدبير إلى التدبير بعينه بواسطة الإذن ، فإن الشفيع إنما يتوسط بين المشفوع له المحكوم بحكم ، المشفوع عنده ، ليغير بالشفاعة مجرى حكم سيجري لو لا الشفاعة فالشمس المضيئة بالمواجهة مثلا شفيعة متوسطة بين الله سبحانه وبين الأرض لاستنارتها بالنور ولو لا ذلك لكان مقتضى تقدير الأسباب العامة ونظمها أن تحيط بها الظلمة ثم الحائل من سقف أو أي حجاب آخر شفيع آخر يسأله تعالى أن لا يقع نور الشمس على الأرض باستقامة وهكذا.

فإذا كانت شفاعة الشفيع ـ وهو سبب مغير لما سبقه من الحكم ـ مستندة إلى إذنه تعالى كان معناه أن التدبير العام الجاري إنما هو من الله سبحانه ، وأن كل ما يتخذ من الوسائل لإبطال تدبيره وتغيير مجرى حكمه أعم مما يتخذه الأسباب التكوينية وما يتخذه الإنسان من التدابير للفرار عن حكم الأسباب الجارية الإلهية كل ذلك من التدبير الإلهي.

ولذلك نرى الأشياء الردية تعصي فلا تقبل الصور الشريفة والمواهب السامية ، لقصور استعدادها عن قبولها ، وهذا الرد منها بعينه قبول ، والامتناع من قبول التربية بعينه تربية أخرى إلهية والإنسان على ما به من الجهل يستعلي على ربه ويستنكف عن الخضوع لعظمته وهو بعينه انقياد لحكمه ، ويمكر به وهو بعينه ممكور به قال تعالى : « وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ » : الأنعام : ١٢٣ ، وقال تعالى : « وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ » : آل عمران : ٦٩ ، وقال تعالى : « وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ

١٥٧

وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ » : الشورى : ٣١.

فقوله : « ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ » يدل على أن شفاعة الشفاعة أو الأسباب المخالفة التي تحول بين التدبير الإلهي وبين مقتضياته داخلة من جهة أخرى وهي جهة الإذن في التدبير الإلهي فافهم ذلك.

فما مثل الأسباب والعوامل المتخالفة المتزاحمة في الوجود إلا كمثل كفتي الميزان تتعاركان بالارتفاع والانخفاض ، والثقل والخفة لكن اختلافهما بعينه اتفاق منهما في إعانة صاحب الميزان في تشخيص ما يريد تشخيصه من الوزن.

ويقرب من آية سورة يونس في الدلالة على شمول التدبير ونفي مدبر غيره تعالى قوله : « ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ » : السجدة : ٤ ، ويقرب من قوله : « ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ » في الإشارة إلى كون العرش مقاما تنتشئ فيه التدابير العامة وتصدر عنه الأوامر التكوينية قوله تعالى : « ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ » : البروج : ١٦ ، وهو ظاهر.

وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى : « وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ » : الزمر : ٧٥ ، فإن الملائكة هم الوسائط الحاملون لحكمه والمجرون لأمره العاملون بتدبيره فليكونوا حافين حول عرشه.

وكذا قوله تعالى : « الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا » : المؤمن : ٧ ، وفي الآية مضافا إلى ذكر احتفافهم بالعرش شيء آخر وهو أن هناك حملة يحملون العرش ، وهم لا محالة أشخاص يقوم بهم هذا المقام الرفيع والخلق العظيم الذي هو مركز التدابير الإلهية ومصدرها ، ويؤيد ذلك ما في آية أخرى وهي قوله : « وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ » : الحاقة : ١٧.

وإذ كان العرش هو المقام الذي يرجع إليه جميع أزمة التدابير الإلهية والأحكام الربوبية الجارية في العالم كما سمعت ، كان فيه صور جميع الوقائع بنحو الإجمال حاضرة عند الله معلومة له ، وإلى ذلك يشير قوله تعالى : « ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ » : الحديد : ٤ ، فقوله : « يَعْلَمُ ما يَلِجُ » إلخ ، يجري مجرى التفسير للاستواء

١٥٨

على العرش فالعرش مقام العلم كما أنه مقام التدبير العام الذي يسع كل شيء ، وكل شيء في جوفه.

ولذلك هو محفوظ بعد رجوع الخلق إليه تعالى لفصل القضاء كما في قوله : « وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ » وموجود مع هذا العالم المشهود كما يدل عليه آيات خلق السماوات والأرض ، وموجود قبل هذه الخلقة كما يدل عليه قوله : « وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ » : هود : ٧.

قوله تعالى : « ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً » إلى آخر الآيتين. التضرع هو التذلل من الضراعة وهي الضعف والذلة. والخفية هي الاستتار وليس من البعيد أن يكون كناية عن التذلل جيء به لتأكيد التضرع فإن المتذلل يكاد يختفي من الصغار والهوان.

الآية السابقة : « إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ » الآية تذكر بربوبيته وحده لا شريك له من جهة أنه هو الخالق وحده ، وإليه تدبير خلقه وحده ، فتعقيبها بهاتين الآيتين بمنزلة أخذ النتيجة من البيان ، وهي الدعوة إلى دعائه وعبوديته ، والحكم بأخذ دين يوافق ربوبيته تعالى وهي الربوبية من غير شريك في الخلق ولا في التدبير.

ولذلك دعا أولا إلى دين العبودية فقال : « ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها » فأمر أن يدعوه بالتضرع والتذلل وأن يكون ذلك خفته من غير المجاهرة البعيدة عن أدب العبودية الخارجة عن زيها ـ بناء على أن تكون الواو في « تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً » للجمع ـ أو أن يدعوه بالتضرع والابتهال الملازم عادة للجهر بوجه أو بالخفية إخفاتا فإن ذلك هو لازم العبودية ومن عدا ذلك فقد اعتدى عن طور العبودية وإن الله لا يحب المعتدين.

ومن الممكن أن يكون المراد بالتضرع والخفية : الجهر والسر وإنما وضع التضرع موضع الجهر لكون الجهر في الدعاء منافيا لأدب العبودية إلا أن يصاحب التضرع.

هذا فيما بينهم وبين الله ، وأما فيما بينهم وبين الناس فأن لا يفسدوا في الأرض بعد إصلاحها فليس حقيقة الدين فيما يرجع إلى حقوق الناس إلا أن يصلح شأنهم بارتفاع المظالم من بينهم ومعاملتهم بما يعينهم على التقوى ، ويقربهم من سعادة الحياة في الدنيا والآخرة.

ثم كرر الدعوة إليه وأعاد البعث إلى دعائه بالجمع بين الطريقين الذين لم يزل البشر

١٥٩

يعبد الرب أو الأرباب من أحدهما وهما طريق الخوف وطريق الرجاء فإن قوما كانوا يتخذون الأرباب خوفا فيعبدونهم ليسلموا من شرورهم ، وكان قوما يتخذون الأرباب طمعا فيعبدونهم لينالوا خيرهم وبركتهم لكن العبادة عن محض الخوف ربما ساق الإنسان إلى اليأس والقنوط فدعاه إلى ترك العبادة ، وقد شوهد ذلك كثيرا ، والعبادة عن محض الطمع ربما قاد إلى استرسال الوقاحة وزوال زي العبودية فدعاه إلى ترك العبادة ، وقد شوهد أيضا كثيرا فجمع سبحانه بينهما ودعا إلى الدعاء باستعمالهما معا فقال : « وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً » ليصلح كل من الصفتين ما يمكن أن تفسده الأخرى ، وفي ذلك وقوع في مجرى الناموس العام الجاري في العالم أعني ناموس الجذب والدفع.

وقد سمى الله سبحانه هذا الاعتدال في العبادة والتجنب عن إفساد الأرض بعد إصلاحها إحسانا وبشر المجيبين لدعوته بأنهم يكونون حينئذ محسنين فتقرب منهم رحمته إن رحمة الله قريب من المحسنين.

ولم يقل : رحمة الله قريبة ، قيل : لأن الرحمة مصدر يستوي فيه الوجهان ، وقيل : لأن المراد بالرحمة الإحسان ، وقيل : لأن قريب فعيل بمعنى المفعول فيستوي فيه المذكر والمؤنث ونظيره قوله تعالى : « لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ » : الشورى : ١٧.

قوله تعالى : « وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ » إلى آخر الآية وفي الآية بيان لربوبيته تعالى من جهة العود كما أن في قوله : « إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ » الآية بيانا لها من جهة البدء.

وقوله : « بُشْراً » وأصله البشر بضمتين جمع بشير كالنذر جمع نذير ، والمراد بالرحمة المطر ، وقوله : « بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ » أي قدام المطر ، وفيه استعارة تخييلية بتشبيه المطر بالإنسان الغائب الذي ينتظره أهله فيقدم وبين يديه بشير يبشر بقدومه.

والإقلال الحمل ، والسحاب والسحابة الغمام والغمامة كتمر وتمرة وكون السحاب ثقالا باعتبار حمله ثقل الماء ، وقوله « لِبَلَدٍ مَيِّتٍ » أي لأجل بلد ميت أو إلى بلد ميت والباقي ظاهر.

والآية تحتج بإحياء الأرض على جواز إحياء الموتى لأنهما من نوع واحد ، وحكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد وليس الأحياء الذين عرض لهم عارض الموت

١٦٠